[FONT="]وفي هذا المقال نستكمل بفضل الله تعالى ما كنا قد شرعنا فيه من طرح الأسئلة التي تدور في ذهن الكثيرين حول الدعاء ومعها الإجابات الشافية ، فنقول وبالله التوفيق [/FONT]
[FONT="]هل إظهار الدعاء أفضل أو إخفاؤه؟[/FONT]
[FONT="]يقول الله تعالى: ( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَة ) (الأعراف : 55) فيه الأمر بإخفاء الدعاء قال الحسن فى هذه الآية ذكر هذا الأثر الجصاص فى أحكام القرآن 4/208 علمكم كيف تدعون ربكم وقال لعبد صالح رضى دعاءه: ( إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً) (مريم:3) وروى مبارك عن الحسن قال: "كانوا يجتهدون فى الدعاء ولا يُسمع إلا همساً " أخرجه ابن أبى شيبة فى مصنفه برقم (8461) وروى أبو موسى الأشعرى قال : " كنا عند النبى صلى الله عليه وسلم فسمعهم يرفعون أصواتهم فقال : " يا أيها الناس إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً " أخرجه البخارى فى صحيحه برقم (2830) قال أبو بكر رضي الله عنه : فى هذه الآية وما ذكرنا من الآثار دليلٌ على أن إخفاء الدعاء أفضل من إظهاره؛ لأن الخفية هى السر، وقال بعض أهل العلم: إنما كان إخفاء الدعاء أفضل لأنه لا يشوبه رياء وأما التضرع فإنه قد قيل: إنه الميل فى الجهات، يقال يضرع الرجل ضرعاً إذا مال بأصبعيه يمينً وشمالاً خوفاً وذلاً، قال: ومنه ضرع الشاة لأن اللبن يميل إليه، والمضارعة المشابهة؛ لأنها تميل إلى شبهه نحو المقاربة وقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم : أنه " كان يدعو ويشير بالسبابة " ينظر المعجم الكبير للطبرانى 7/313 برقم (7232) وقال ابن عباس رضى الله عنهما : "لقد رئى النبى صلى الله عليه وسلم عشية عرفة رافعاً يديه حتى إنه ليرى ما تحت إبطيه" وقال أنس رضي الله عنه: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستسقى فمد يديه حتى رأيت بياض إبطيه " أخرجه البخارى برقم (984) وفيما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم من رفع اليدين فى الدعاء والإشارة بالسبابة دليل على صحة تأويل من تأول التضرع على تحويل الأصبع يميناً وشمالاً.[/FONT]
[FONT="]من هم الثلاثة الذين يدعون الله ولا يستجيب لهم؟[/FONT]
[FONT="]روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الثلاثة الذين يدعون الله تعالى فلا تستجيب لهم: عن أبى موسى عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاثة يدعون الله تعالى فلا يستجاب لهم: "رجلٌ أعطى ماله سفيهاً وقد قال الله عز وجل: ( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ) ورجل داين بدين ولم يشهد أخرجه الطبرى فى تفسيره 3/586 لكنه موقوف فى هذه الرواية على أبى موسى، ورجل له امرأة سيئة الخلق فلا يطلقها " قال أبو جعفر فاحتملنا هذا الحديث عن عمرو بن حكام وإن كانوا يقولون فى روايته ما يقولونه فيها إذا كان معاذ بن معاذ العنبرى قد حدث به عن شعبة كما حدث به هو عنه ثم تأملنا معنى هذا الحديث فوجدنا الله سبحانه وتعالى قد علَّم عباده أشياء يستدفعون بها أضدادها فكان من ذلك تحذيره لهم أن لا يدفعوا إلى السفهاء أموالهم رحمة لهم وطلباً منه لبقاء نعمه عليهم، وعلمهم أن يشهدوا فى مدايناتهم ليكون ذلك حفظاً لأموال الطالبين منهم ولأديان المطلوبين منهم، وعلمهم الطلاق الذى يستعملونه عند حاجتهم إليه فكان من ترك منهم ما علمه الله تعالى إياه حتى وقع فى ضد ما يريد مخالفاً لما أمره الله عز وجل به فلم يجب دعاءه لخلافه إياه، وكان من سوى من ذكرنا فى هذا الحديث ممن ليس بعاصٍ لربه مرجواً له إجابةُ الدعوة فيما يدعوه وهم الذين دخلوا فى قوله عز وجل: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) وحذرهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم من الاستعجال فى ذلك : أى فى إجابة الدعاء.[/FONT]
[FONT="]ما الفرق بين قاعدة ما هو مكروه من الدعاء وقاعدة ما ليس بمكروه؟[/FONT]
[FONT="]اعلم أن الأصل فى الدعاء هو الندب والاستحباب إلا أنه يكون مكروها أحياناً وحراماً أحياناً أخرى على حسب ما ينطق فيه ولذلك أسباب خمسة:[/FONT]
[FONT="]السبب الأول: الأماكن: كالدعاء فى الكنائس والحمامات ومواضع النجاسات والقاذورات ومواضع اللهو واللعب والمعاصى والمخالفات كالحانات ونحوها، وكذلك الأسواق التى يغلب فيها وقوع العقود الفاسدة والأيمان الحانثة فجميع ذلك يُكرهُ الدعاء فيه من أجل أن القربَ إلى الله تعالى ينبغى أن يكون على أحسن الهيئات فى أحسن البقاع والأزمان، ويدل على اعتبار هذا المعنى نهيه صلى الله عليه وسلم "عن الصلاة فى المزبلة والمجزرة وقارعة الطريق" أخرجه الترمذى فى سننه برقم (346) وضعفه الألبانى فإن أعجزه الخلوص من ذلك حصل له الدعاء مع فوات رتبة الدعاء كالصلاة فى البقاع المكروهة.[/FONT]
[FONT="]السبب الثانى: للكراهة الهيئات: كالدعاء مع الناس وفرط الشبع ومدافعة الأخبثين أو ملابسة النجاسات والقاذورات أو قضاء حاجة الإنسان ونحو ذلك من الهيئات التى لا تناسب التقرب إلى ذى الجلال، فإن فعل صح مع فوات رتبة الكمال.[/FONT]
[FONT="]السبب الثالث: الكراهة: لكونه سبباً لتوقع فساد القلوب وحصول الكبر والخيلاء كما كره مالك وجماعة من العلماء رحمهم الله لأئمة المساجد والجماعات الدعاء عقيب الصلوات المكتوبات جهراً للحاضرين فيجتمع لهذا الإمام التقدم فى الصلاة وشرف كونه نصب نفسه واسطة بين الله تعالى وعباده فى تحصيل مصالحهم على يده بالدعاء، ويوشك أن تَعْظُمَ نفسه عنده فيفسد قلبه ويعصى ربه فى هذه الحالة أكثر مما يطيعه ويروى أن بعض الأئمة استأذن عمر بن الخطاب رضى الله عنه فى أن يدعو لقومه بعد الصلوات بدعوات فقال: لا، إنى أخشى أن تشمخ نفسى حتى تصل إلى الثريا، إشارةً إلى ما ذكرناه ويجرى هذا المجرى كل من نصب نفسه للدعاء لغيره وخشى على نفسه الكبر بسبب ذلك فالأحسن له الترك حتى تحصل له السلامة.[/FONT]
[FONT="]السبب الرابع: كون متعلقهُ مكروهاً فيُكرهُ كراهة الوسائل لا كراهة المقاصد: كالدعاء بالإعانة على اكتساب الرزق بالحجامة ونزو الدواب والعمل فى الحمامات وغير ذلك من الحرف الدنيات مع قدرته على الاكتساب بغيرها، وكذلك القول فى الدعاء بكل ما نص العلماء على كراهته يكره كراهة الوسائل.[/FONT]
[FONT="]السبب الخامس: للكراهة عدم تعيينه قربة بل يطلق على سبيل العادة والاستراحة فى الكلام وتحسين اللفظ من الذى يلابسه كما يجرى ذلك على ألسنة السماسرة فى الأسواق عند افتتاح النداء على السلع كقولهم الصلاة والسلام على خير الأنام، وقد أشار بعض العلماء إلى تحريمه وقال: كل ما يشرع قربة لله تعالى لا يجوز أن يقع إلا قربة له على وجه التعظيم والإجلال لا على وجه التلاعب، فإن قلت قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول نحواً من هذا الدعاء، ومنصبه صلى الله عليه وسلم منزه عن المكروهات بل يجب اتباعه فى أقواله وأفعاله وأقل الأحوال أن يكون مباحاً فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضى الله عنها: " تربت يداك ومن أين يكون الشبه " أخرجه أبو داود فى سننه برقم (237) وصححه الألبانى لما تعجبتْ مما لم تعلم من كون المرأة تنزل المنى كما ينزل الرجل، ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم ما أراد إذايتها بالدعاء، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم " عليك بذات الدين تربت يداك " أخرجه البخارى فى صحيحه برقم (4802) ليس من الإرشاد ما يقتضى قصد الإضرار بالدعاء فقد استعمل الدعاء لا على وجه الطلب والتقرب وهو عين ما نحن فيه، قلت لفظ الدعاء إذا غلب استعماله فى العرف فى غير الدعاء انتسخ منه حكم الدعاء ولا ينصرف بعد ذلك إلى الدعاء إلا بالقصد والنية، فإذا استعمله مستعمل فى غير الدعاء فقد استعمله فيما هو موضوع له عرفاً ولا حرج فى ذلك وإنما الكلام فى الألفاظ التى تنصرف بصراحتها للدعاء وتستعمل فى غيره.[/FONT]
[FONT="]ما حكم الاعتداء فى الدعاء؟[/FONT]
[FONT="]يكره الاعتداء فى الدعاء لما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : [/FONT]
[FONT="]- عن مولى لسعد عن سعد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إنه سيكون قوم يعتدون فى الدعاء" أخرجه أبو داود فى سننه برقم (1480) وقال الألبانى: حسن صحيح.[/FONT]
[FONT="]- وعن أبى نعامة أن " عبدالله بن مغفل سمع ابنه يقول : اللهم إنى أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة أن أدخلها فقال: أى بُنىَّ، سل الله الجنة وُعذْ به من النار فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سيكون قوم يعتدون فى الدعاء" سبق تخريجه[/FONT]
[FONT="]هل يجوز للمظلوم أن يدعو على ظالمه؟ [/FONT]
[FONT="]للمظلوم أن يدعو على ظالمه ولكنه إذا صبر كان خيراً له.[/FONT]
[FONT="]قال يحيى بن نعيم : لما خرج أبو عبد الله أحمد بن حنبل إلى المعتصم يوم ضُرِبَ قال له العون الموكل به: ادع على ظالمك قال: ليس بصابر من دعا على ظالمه يعنى الإمام أحمد أن المظلوم إذا دعا على من ظلمه فقد انتصر لنفسه كما رواه الترمذى عن عائشة رضى الله عنها مرفوعاً " من دعا على من ظلمه فقد انتصر" قال الترمذى حديثٌ لا نعرفه إلا من حديث أبى حمزة وهو ميمون الأعور، ضعفوه لا سيما فيما رواه عن إبراهيم النخعى وإذا انتصر فقد استوفى حقه وفاته الدرجة العليا.[/FONT]
[FONT="]قال تعالى: ( وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إلى قوله: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (الشورى : 40-43).[/FONT]
[FONT="]ما حكم الدعاء على الظالم؟ [/FONT]
[FONT="]ومن دعى عليه ظلماً له أن يدعو على ظالمه بمثل ما دعا به عليه نحو: أخزاك الله أو لعنك الله أو يشتمه بغير فرية، نحو يا كلب ياخنزير، فله أن يقول له مثل ذلك لقوله تعالى: ( وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) فعلم أنه لا سبيل إلا على الظالم للناس الباغى عليهم وإذا كان له أن يستعين بالمخلوق من وكيل وولى أمرٍ وغيرهما فاستعانته بخالقه أولى بالجواز، قال الإمام أحمد: الدعاء قصاص ومن دعا على ظالمه فما صبر يريد بذلك أن الداعى منتصر والانتصار وإن كان جائزاً لكن قال تعالى: ( وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُور) "وقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضى الله عنها لما دعت على السارق: " لا تسبخى" أخرجه أبو داود فى سننه برقم (4909) وضعفه الألبانى أى لا تخففى عنه، ثم ذكر قصة أبى بكر الأخيرة التى رواها أبو داود قال: وإذا دعا عليه بما آلمه بقدر ألم ظلمه فهذا عدل.[/FONT]
[FONT="]وإن اعتدى فى الدعاء كمن يدعو بالكفر على من ظلمه أو شتمه أو أخذ ماله فذلك سرف محرم[/FONT]
[FONT="]ومن هذا الباب قول موسى عليه السلام: ( رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) (يونس :88) وذكر ابن الجوزى عن بعضهم أن دعاء موسى عليه السلام بإذن قال : وهو قول صحيح لأنه سبب للانتقام، وذكر فى مجلس الوزير ابن هبيرة مثله فاتفق الوزير والعلماء على شئ وخالفهم فقيه مالكى فقال الوزير: أحمار أنت؟ الكل يخالفونك وأنت مُصِرٌّ، ثم قال الوزير: ليقل لى كما قلت له فما أنا إلا كأحدكم فضج المجلس بالبكاء.[/FONT]
[FONT="]وسنورد أمثلة لدعاء المظلومين على الظالمين في مقالٍ قادمٍ بمشيئة الله تعالى. [/FONT]
[FONT="]هل يجوز الدعاء على غير الظالم؟[/FONT]
[FONT="]لا يجوز الدعاء على غير الظالم؛ لأن الله سبحانه وتعالى وإن كان عالماً بأحوال العباد جملة وتفصيلاً وأن هذا الدعاء إضرار بغير مستحق.[/FONT]
[FONT="]والمدعو عليه لا يخلو إما أن يكون قد اقترف ذنوباً أو اكتسب سيئات من غير جهة الداعى وهذا هو الغالب، وإما أن يكون نقيا من الذنوب وطاهراً من جميع العيوب فيجوز على أن يستجيب الله تعالى هذا الدعاء ويجعله سبباً للانتقام من هذا المدعو عليه بذنوبه السابقة.[/FONT]
[FONT="]ويجوز أن يستجيب الله هذا الدعاء ليجعله سبباً لرفع درجات هذا العبد صبر أم لا، وسبباً لوقوع الصبر من الصابر فيحصل له الجزيل من الثواب، ويكون الداعى على كلا الوجهين ظالماً بدعائه الذى أنفذه الله تعالى فى المدعو عليه؛ لأنه سعى فى إضرارٍ غير مستحق وكل المساعى الضارة بغير استحقاق حرام فيعاقبه الله تعالى على دعائه بغير حق، ونظيرُ ذلك أن الله تعالى قد يُنفذُ فى عبده المؤمن سهم العدو والكافر وسيف القاتل له ظلما كما يسلط عليه السباع والهوام وإن لم يصدر منه فى حقها ما يوجب ذلك إما مؤاخذة له بذنوبه أو رفعاً لدرجاته فكما أن صاحب السيف والرمح ظالم وينفذ الله سيفه ورمحه فى المظلوم ويعاقبه على ظلمه كذلك صاحب الدعاء ظالم بدعائه، وينفذ الله دعاءه فى المظلوم، ويعاقبه على ظلمه أيضاً والكل عدل من الله تعالى.[/FONT]
[FONT="]ما حكم رفع البصر إلى السماء فى الدعاء؟[/FONT]
[FONT="]لا يكره رفع للبصر إلى السماء فى الدعاء فى غير الصلاة فإن رفع البصر فيها مكروهٌ وقيل: محرمٌ وهو قول مالك، وعند الشافعى لا يستحب.[/FONT]
[FONT="]وإذا لم يخلص الداعى الدعاء ولم يجتنب الحرام تَبْعُدُ إجابته إلا مضطراً أو مظلوماً، ويستحب للمصلى أن يدعو بعد السلام بما أوصى به النبى صلى الله عليه وسلم معاذاً رضى الله عنه أن يقوله دبر كل صلاة: " اللهم أعنى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك " أخرجه أبو داود برقم (1522)، ولا يفرد المنفرد ضمير الدعاء؛ لأنه يدعو لنفسه وللمؤمنين .[/FONT]
[FONT="]هل إظهار الدعاء أفضل أو إخفاؤه؟[/FONT]
[FONT="]يقول الله تعالى: ( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَة ) (الأعراف : 55) فيه الأمر بإخفاء الدعاء قال الحسن فى هذه الآية ذكر هذا الأثر الجصاص فى أحكام القرآن 4/208 علمكم كيف تدعون ربكم وقال لعبد صالح رضى دعاءه: ( إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً) (مريم:3) وروى مبارك عن الحسن قال: "كانوا يجتهدون فى الدعاء ولا يُسمع إلا همساً " أخرجه ابن أبى شيبة فى مصنفه برقم (8461) وروى أبو موسى الأشعرى قال : " كنا عند النبى صلى الله عليه وسلم فسمعهم يرفعون أصواتهم فقال : " يا أيها الناس إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً " أخرجه البخارى فى صحيحه برقم (2830) قال أبو بكر رضي الله عنه : فى هذه الآية وما ذكرنا من الآثار دليلٌ على أن إخفاء الدعاء أفضل من إظهاره؛ لأن الخفية هى السر، وقال بعض أهل العلم: إنما كان إخفاء الدعاء أفضل لأنه لا يشوبه رياء وأما التضرع فإنه قد قيل: إنه الميل فى الجهات، يقال يضرع الرجل ضرعاً إذا مال بأصبعيه يمينً وشمالاً خوفاً وذلاً، قال: ومنه ضرع الشاة لأن اللبن يميل إليه، والمضارعة المشابهة؛ لأنها تميل إلى شبهه نحو المقاربة وقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم : أنه " كان يدعو ويشير بالسبابة " ينظر المعجم الكبير للطبرانى 7/313 برقم (7232) وقال ابن عباس رضى الله عنهما : "لقد رئى النبى صلى الله عليه وسلم عشية عرفة رافعاً يديه حتى إنه ليرى ما تحت إبطيه" وقال أنس رضي الله عنه: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستسقى فمد يديه حتى رأيت بياض إبطيه " أخرجه البخارى برقم (984) وفيما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم من رفع اليدين فى الدعاء والإشارة بالسبابة دليل على صحة تأويل من تأول التضرع على تحويل الأصبع يميناً وشمالاً.[/FONT]
[FONT="]من هم الثلاثة الذين يدعون الله ولا يستجيب لهم؟[/FONT]
[FONT="]روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الثلاثة الذين يدعون الله تعالى فلا تستجيب لهم: عن أبى موسى عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاثة يدعون الله تعالى فلا يستجاب لهم: "رجلٌ أعطى ماله سفيهاً وقد قال الله عز وجل: ( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ) ورجل داين بدين ولم يشهد أخرجه الطبرى فى تفسيره 3/586 لكنه موقوف فى هذه الرواية على أبى موسى، ورجل له امرأة سيئة الخلق فلا يطلقها " قال أبو جعفر فاحتملنا هذا الحديث عن عمرو بن حكام وإن كانوا يقولون فى روايته ما يقولونه فيها إذا كان معاذ بن معاذ العنبرى قد حدث به عن شعبة كما حدث به هو عنه ثم تأملنا معنى هذا الحديث فوجدنا الله سبحانه وتعالى قد علَّم عباده أشياء يستدفعون بها أضدادها فكان من ذلك تحذيره لهم أن لا يدفعوا إلى السفهاء أموالهم رحمة لهم وطلباً منه لبقاء نعمه عليهم، وعلمهم أن يشهدوا فى مدايناتهم ليكون ذلك حفظاً لأموال الطالبين منهم ولأديان المطلوبين منهم، وعلمهم الطلاق الذى يستعملونه عند حاجتهم إليه فكان من ترك منهم ما علمه الله تعالى إياه حتى وقع فى ضد ما يريد مخالفاً لما أمره الله عز وجل به فلم يجب دعاءه لخلافه إياه، وكان من سوى من ذكرنا فى هذا الحديث ممن ليس بعاصٍ لربه مرجواً له إجابةُ الدعوة فيما يدعوه وهم الذين دخلوا فى قوله عز وجل: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) وحذرهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم من الاستعجال فى ذلك : أى فى إجابة الدعاء.[/FONT]
[FONT="]ما الفرق بين قاعدة ما هو مكروه من الدعاء وقاعدة ما ليس بمكروه؟[/FONT]
[FONT="]اعلم أن الأصل فى الدعاء هو الندب والاستحباب إلا أنه يكون مكروها أحياناً وحراماً أحياناً أخرى على حسب ما ينطق فيه ولذلك أسباب خمسة:[/FONT]
[FONT="]السبب الأول: الأماكن: كالدعاء فى الكنائس والحمامات ومواضع النجاسات والقاذورات ومواضع اللهو واللعب والمعاصى والمخالفات كالحانات ونحوها، وكذلك الأسواق التى يغلب فيها وقوع العقود الفاسدة والأيمان الحانثة فجميع ذلك يُكرهُ الدعاء فيه من أجل أن القربَ إلى الله تعالى ينبغى أن يكون على أحسن الهيئات فى أحسن البقاع والأزمان، ويدل على اعتبار هذا المعنى نهيه صلى الله عليه وسلم "عن الصلاة فى المزبلة والمجزرة وقارعة الطريق" أخرجه الترمذى فى سننه برقم (346) وضعفه الألبانى فإن أعجزه الخلوص من ذلك حصل له الدعاء مع فوات رتبة الدعاء كالصلاة فى البقاع المكروهة.[/FONT]
[FONT="]السبب الثانى: للكراهة الهيئات: كالدعاء مع الناس وفرط الشبع ومدافعة الأخبثين أو ملابسة النجاسات والقاذورات أو قضاء حاجة الإنسان ونحو ذلك من الهيئات التى لا تناسب التقرب إلى ذى الجلال، فإن فعل صح مع فوات رتبة الكمال.[/FONT]
[FONT="]السبب الثالث: الكراهة: لكونه سبباً لتوقع فساد القلوب وحصول الكبر والخيلاء كما كره مالك وجماعة من العلماء رحمهم الله لأئمة المساجد والجماعات الدعاء عقيب الصلوات المكتوبات جهراً للحاضرين فيجتمع لهذا الإمام التقدم فى الصلاة وشرف كونه نصب نفسه واسطة بين الله تعالى وعباده فى تحصيل مصالحهم على يده بالدعاء، ويوشك أن تَعْظُمَ نفسه عنده فيفسد قلبه ويعصى ربه فى هذه الحالة أكثر مما يطيعه ويروى أن بعض الأئمة استأذن عمر بن الخطاب رضى الله عنه فى أن يدعو لقومه بعد الصلوات بدعوات فقال: لا، إنى أخشى أن تشمخ نفسى حتى تصل إلى الثريا، إشارةً إلى ما ذكرناه ويجرى هذا المجرى كل من نصب نفسه للدعاء لغيره وخشى على نفسه الكبر بسبب ذلك فالأحسن له الترك حتى تحصل له السلامة.[/FONT]
[FONT="]السبب الرابع: كون متعلقهُ مكروهاً فيُكرهُ كراهة الوسائل لا كراهة المقاصد: كالدعاء بالإعانة على اكتساب الرزق بالحجامة ونزو الدواب والعمل فى الحمامات وغير ذلك من الحرف الدنيات مع قدرته على الاكتساب بغيرها، وكذلك القول فى الدعاء بكل ما نص العلماء على كراهته يكره كراهة الوسائل.[/FONT]
[FONT="]السبب الخامس: للكراهة عدم تعيينه قربة بل يطلق على سبيل العادة والاستراحة فى الكلام وتحسين اللفظ من الذى يلابسه كما يجرى ذلك على ألسنة السماسرة فى الأسواق عند افتتاح النداء على السلع كقولهم الصلاة والسلام على خير الأنام، وقد أشار بعض العلماء إلى تحريمه وقال: كل ما يشرع قربة لله تعالى لا يجوز أن يقع إلا قربة له على وجه التعظيم والإجلال لا على وجه التلاعب، فإن قلت قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول نحواً من هذا الدعاء، ومنصبه صلى الله عليه وسلم منزه عن المكروهات بل يجب اتباعه فى أقواله وأفعاله وأقل الأحوال أن يكون مباحاً فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضى الله عنها: " تربت يداك ومن أين يكون الشبه " أخرجه أبو داود فى سننه برقم (237) وصححه الألبانى لما تعجبتْ مما لم تعلم من كون المرأة تنزل المنى كما ينزل الرجل، ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم ما أراد إذايتها بالدعاء، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم " عليك بذات الدين تربت يداك " أخرجه البخارى فى صحيحه برقم (4802) ليس من الإرشاد ما يقتضى قصد الإضرار بالدعاء فقد استعمل الدعاء لا على وجه الطلب والتقرب وهو عين ما نحن فيه، قلت لفظ الدعاء إذا غلب استعماله فى العرف فى غير الدعاء انتسخ منه حكم الدعاء ولا ينصرف بعد ذلك إلى الدعاء إلا بالقصد والنية، فإذا استعمله مستعمل فى غير الدعاء فقد استعمله فيما هو موضوع له عرفاً ولا حرج فى ذلك وإنما الكلام فى الألفاظ التى تنصرف بصراحتها للدعاء وتستعمل فى غيره.[/FONT]
[FONT="]ما حكم الاعتداء فى الدعاء؟[/FONT]
[FONT="]يكره الاعتداء فى الدعاء لما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : [/FONT]
[FONT="]- عن مولى لسعد عن سعد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إنه سيكون قوم يعتدون فى الدعاء" أخرجه أبو داود فى سننه برقم (1480) وقال الألبانى: حسن صحيح.[/FONT]
[FONT="]- وعن أبى نعامة أن " عبدالله بن مغفل سمع ابنه يقول : اللهم إنى أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة أن أدخلها فقال: أى بُنىَّ، سل الله الجنة وُعذْ به من النار فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سيكون قوم يعتدون فى الدعاء" سبق تخريجه[/FONT]
[FONT="]هل يجوز للمظلوم أن يدعو على ظالمه؟ [/FONT]
[FONT="]للمظلوم أن يدعو على ظالمه ولكنه إذا صبر كان خيراً له.[/FONT]
[FONT="]قال يحيى بن نعيم : لما خرج أبو عبد الله أحمد بن حنبل إلى المعتصم يوم ضُرِبَ قال له العون الموكل به: ادع على ظالمك قال: ليس بصابر من دعا على ظالمه يعنى الإمام أحمد أن المظلوم إذا دعا على من ظلمه فقد انتصر لنفسه كما رواه الترمذى عن عائشة رضى الله عنها مرفوعاً " من دعا على من ظلمه فقد انتصر" قال الترمذى حديثٌ لا نعرفه إلا من حديث أبى حمزة وهو ميمون الأعور، ضعفوه لا سيما فيما رواه عن إبراهيم النخعى وإذا انتصر فقد استوفى حقه وفاته الدرجة العليا.[/FONT]
[FONT="]قال تعالى: ( وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إلى قوله: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (الشورى : 40-43).[/FONT]
[FONT="]ما حكم الدعاء على الظالم؟ [/FONT]
[FONT="]ومن دعى عليه ظلماً له أن يدعو على ظالمه بمثل ما دعا به عليه نحو: أخزاك الله أو لعنك الله أو يشتمه بغير فرية، نحو يا كلب ياخنزير، فله أن يقول له مثل ذلك لقوله تعالى: ( وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) فعلم أنه لا سبيل إلا على الظالم للناس الباغى عليهم وإذا كان له أن يستعين بالمخلوق من وكيل وولى أمرٍ وغيرهما فاستعانته بخالقه أولى بالجواز، قال الإمام أحمد: الدعاء قصاص ومن دعا على ظالمه فما صبر يريد بذلك أن الداعى منتصر والانتصار وإن كان جائزاً لكن قال تعالى: ( وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُور) "وقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضى الله عنها لما دعت على السارق: " لا تسبخى" أخرجه أبو داود فى سننه برقم (4909) وضعفه الألبانى أى لا تخففى عنه، ثم ذكر قصة أبى بكر الأخيرة التى رواها أبو داود قال: وإذا دعا عليه بما آلمه بقدر ألم ظلمه فهذا عدل.[/FONT]
[FONT="]وإن اعتدى فى الدعاء كمن يدعو بالكفر على من ظلمه أو شتمه أو أخذ ماله فذلك سرف محرم[/FONT]
[FONT="]ومن هذا الباب قول موسى عليه السلام: ( رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) (يونس :88) وذكر ابن الجوزى عن بعضهم أن دعاء موسى عليه السلام بإذن قال : وهو قول صحيح لأنه سبب للانتقام، وذكر فى مجلس الوزير ابن هبيرة مثله فاتفق الوزير والعلماء على شئ وخالفهم فقيه مالكى فقال الوزير: أحمار أنت؟ الكل يخالفونك وأنت مُصِرٌّ، ثم قال الوزير: ليقل لى كما قلت له فما أنا إلا كأحدكم فضج المجلس بالبكاء.[/FONT]
[FONT="]وسنورد أمثلة لدعاء المظلومين على الظالمين في مقالٍ قادمٍ بمشيئة الله تعالى. [/FONT]
[FONT="]هل يجوز الدعاء على غير الظالم؟[/FONT]
[FONT="]لا يجوز الدعاء على غير الظالم؛ لأن الله سبحانه وتعالى وإن كان عالماً بأحوال العباد جملة وتفصيلاً وأن هذا الدعاء إضرار بغير مستحق.[/FONT]
[FONT="]والمدعو عليه لا يخلو إما أن يكون قد اقترف ذنوباً أو اكتسب سيئات من غير جهة الداعى وهذا هو الغالب، وإما أن يكون نقيا من الذنوب وطاهراً من جميع العيوب فيجوز على أن يستجيب الله تعالى هذا الدعاء ويجعله سبباً للانتقام من هذا المدعو عليه بذنوبه السابقة.[/FONT]
[FONT="]ويجوز أن يستجيب الله هذا الدعاء ليجعله سبباً لرفع درجات هذا العبد صبر أم لا، وسبباً لوقوع الصبر من الصابر فيحصل له الجزيل من الثواب، ويكون الداعى على كلا الوجهين ظالماً بدعائه الذى أنفذه الله تعالى فى المدعو عليه؛ لأنه سعى فى إضرارٍ غير مستحق وكل المساعى الضارة بغير استحقاق حرام فيعاقبه الله تعالى على دعائه بغير حق، ونظيرُ ذلك أن الله تعالى قد يُنفذُ فى عبده المؤمن سهم العدو والكافر وسيف القاتل له ظلما كما يسلط عليه السباع والهوام وإن لم يصدر منه فى حقها ما يوجب ذلك إما مؤاخذة له بذنوبه أو رفعاً لدرجاته فكما أن صاحب السيف والرمح ظالم وينفذ الله سيفه ورمحه فى المظلوم ويعاقبه على ظلمه كذلك صاحب الدعاء ظالم بدعائه، وينفذ الله دعاءه فى المظلوم، ويعاقبه على ظلمه أيضاً والكل عدل من الله تعالى.[/FONT]
[FONT="]ما حكم رفع البصر إلى السماء فى الدعاء؟[/FONT]
[FONT="]لا يكره رفع للبصر إلى السماء فى الدعاء فى غير الصلاة فإن رفع البصر فيها مكروهٌ وقيل: محرمٌ وهو قول مالك، وعند الشافعى لا يستحب.[/FONT]
[FONT="]وإذا لم يخلص الداعى الدعاء ولم يجتنب الحرام تَبْعُدُ إجابته إلا مضطراً أو مظلوماً، ويستحب للمصلى أن يدعو بعد السلام بما أوصى به النبى صلى الله عليه وسلم معاذاً رضى الله عنه أن يقوله دبر كل صلاة: " اللهم أعنى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك " أخرجه أبو داود برقم (1522)، ولا يفرد المنفرد ضمير الدعاء؛ لأنه يدعو لنفسه وللمؤمنين .[/FONT]