نغم السماء
من الاعضاء المؤسسين
شرح حديث (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) متفق عليه.
هذا الحديث في بيان أنواع خلال من الإيمان من حفظ الكلام والكرم والبذل والإحسان إلى الخلق. وفيه مسائل.
الأولى: قوله صلى الله عليه وسلم (من كان يؤمن بالله واليوم والآخر) أسلوب مؤثر كان النبي صلى الله وسلم يستعمله في موعظته وترغيب أصحابه بالأعمال الصالحة والمعنى من كان مؤمنا بالله واليوم الآخر حقا وكمالا فليفعل كذا وكذا من كان مصدقا بوعد الله محتسبا للأجر مستشعرا للوقوف بين يدي الله يوم القيامة فليمتثل هذه الأعمال الجليلة والخصال الحسنة. وفيه دليل على أن هذه الأعمال التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم من خصال الإيمان منها ما يتعلق بحقوق الله كقول الخير ومنها ما يتعلق بحقوق العباد كإكرام الضيف وإكرام الجار.
الثانية: في الحديث دليل على أن حفظ اللسان من السيئات واستقامته على الخير علامة على استقامة إيمان العبد كما روي في المسند من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه). وقد ورد في الشرع التخريف والزجر من إطلاق الكلام على عواهنه وعدم التحرز من القول ففي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبن فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب) وعند أحمد (إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوي بها سبعين خريفا في النار). فإذا كان هذا الوعيد فيمن تكلم بغير بصيرة فكيف من تعمد الإثم في قوله والسوء في كلامه فأمره أعظم. وقال تعالى: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ). والمتلقيان ملكان موكلان بالعبد ملك عن يمينه يكتب الحسنات وملك عن شماله يكتب السيئات. وقد كان بعض السلف يتورعون عن التأوه والأنين حال المرض خشية أن يكتب.
الثالثة: قوله (فليقل خيرا أو ليصمت) فيه إرشاد للعبد بأن يسلك أحد أمرين في الكلام فإن كان الكلام خيرا تكلم به وإن لم يكن خيرا أمسك عنه إلا ما دعت الحاجة إليه. والحاصل أن الكلام ثلاثة أقسام:
1. كلام خير فيستحب للعبد التكلم به بل كلامه به أفضل من سكوته عنه كتلاوة القرآن والذكر والعلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله وغير ذلك مما أمر به الشرع ورغب فيه.
2. كلام شر فيشرع للعبد الإمساك عنه وسكوته عنه واجب كالغيبة والنميمة والكذب والإستهزاء وغير ذلك مما نهى عنه الشرع وحذر منه.
3. كلام مباح لا خير ولا شر فيشرع للعبد الإمساك عنه وعدم الكلام به وسكوته عنه أفضل من كلامه إلا ما دعت الحاجة إليه في معاشه ومصلحته ومصلحة من يعول.
وقد نهى السلف من فضول الكلام لأن فيه مضيعة للوقت بلا فائدة وذريعة إلى الوقوع في الحرام ويوجب قسوة القلب والغفلة عن ذكر الله. قال ابن مسعود: (إياكم وفضول الكلام حسب امرئ ما بلغ حاجته). وقال النخعي: (يهلك الناس في فضول المال والكلام). وقال عمر: (من كثر كلامه كثر سقطه ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به). والكلام بالخير أفضل من السكوت. قال أحد العلماء عند عمر بن عبد العزيز: الصامت على علم كالمتكلم على علم فقال عمر: (إني لأرجو أن يكون المتكلم على علم أفضلهما يوم القيامة حالا وذلك أن منفعته للناس وهذا صمته لنفسه). فقال له يا أمير المؤمنين فكيف بفتنة المنطق فبكى عمر عند ذلك بكاء شديدا.
الرابعة: يستحب للعبد أن يكثر من الكلام بالمعروف وأن لا يفوت مجلسا أو ساعة من ذكر الله وما كان في معناه من مدارسة العلم وبيان الحق والنصيحة. فإن كل مجلس وحال لا يذكر فيه العبد اسم الله ولا يرشد الخلق إليه إلا كان خسارة له في الدنيا وحسرة وندامة في الآخرة وعقوبة له على تفريطه. فقد أخرج الإمام أحمد من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار وكان لهم حسرة). وروى النسائي من حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من قوم يجلسون مجلسا لا يذكرون الله فيه إلا كانت عليهم حسرة يوم القيامة وإن دخلوا الجنة). وقال مجاهد: (ما جلس قوم مجلسا فتفرقوا قبل أن يذكروا الله إلا تفرقوا من أنتن من ريح الجيفة وكان مجلسهم يشهد عليهم بغفلتهم وما جلس قوم مجلسا فذكروا الله قبل أن يتفرقوا إلا تفرقوا عن أطيب من ريح المسك وكان مجلسهم يشهد لهم بذكرهم). وقال بعض السلف: (يعرض على ابن آدم يوم القيامة ساعات عمره فكل ساعة لم يذكر الله فيها تتقطع نفسه عليها حسرات).
الخامسة: إلتزام الصمت مطلقا واعتقاد أنه قربة وطاعة لله في جميع الأحوال أو بعضها عمل محدث ليس له أصل في الشرع وهو من عمل أهل الجاهلية وليس في الشرع ما يدل على أن الصمت لذاته مقصود شرعا وإنما يشرع الصمت ويستحب ويمدح فاعله إذا كان سكوتا عن الباطل أو استماعا للذكر والخطبة ونحو ذلك من الأحوال الخاصة التي تدل على أن الصمت وسيلة لغيره فإن ترتب عليه خير كان محمودا في الشرع وإن ترتب عليه شر كان مذموما في الشرع وليس هو عبادة بذاته. فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك كما أخرج أبوداود في سننه من حديث علي مرفوعا: (لا صمات يوم إلى الليل). وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لإمرأة حجت مصمتة: (إن هذا لا يحل هذا من عمل الجاهلية). وروي عن علي بن الحسين أنه قال: (صوم الصمت حرام).
السادسة: وفيه إن الإحسان إلى الجار من خصال الإيمان التي أمر بها الشرع ورغب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد روى الشيخان عن عائشة وابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه). وكل معروف من القول والفعل داخل في الإحسان وله صور كثيرة: من ذلك السؤال عن حاله وزيارته وتفقد أحواله ومواساته عند فقره وعيادته في مرضه وتشييع جنازته وإجابة دعوته ونصيحته وإعانته على قضاء حاجته ومشاركته في أفراحه وأحزانه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يشبع المؤمن دون جاره) رواه أحمد. وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: (أوصاني خليلي إذا طبخت مرقا فأكثر ماءه ثم انظر إلى أهل بيت جيرانك فأصبهم منها بمعروف). وفي المسند عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه ذبح شاة فقال هل أهديتم منها لجارنا اليهودي ثلاث مرات ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه). ومن أعظم إكرام الجار احتمال الأذى منه والصبر على سوء خلقه وقلة معروفه. فينبغي على العبد أن يكون من أهل الإحسان ويتعاهد جيرانه بالمعروف ولا يكون بخيلا مناعا للخير شحيحا بماله ووقته وخلقه على الجيران. ومما يؤسف له في زماننا قلة الإحسان بين الجيران وضعف العلاقة بينهم وكثرة الجفاء فيما بينهم بل ربما وصل الحال إلى أن الرجل لا يعرف جاره ولا يطلع على أحواله. فإلى الله المشتكى.
السابعة: الجيران في الحقوق ثلاثة كما روي في مسند البزار مرفوعا ولا يصح: (الجيران ثلاثة جار له حق واحد وهو أدنى الجيران حقا وجار له حقان وجار له ثلاثة حقوق وهو أفضل الجيران حقا. فأما الذي له حق واحد فجار مشرك لا رحم له حق الجوار وأما الجار الذي له حقان فجار مسلم له حق الإسلام وحق الجوار وأما الذي له ثلاثة حقوق فجار مسلم ذو رحم له حق الإسلام وحق الجوار وحق الرحم). وقد حد بعض العلماء الجوار الذي يتعلق به الإحسان فقالت طائفة من السلف حد الجوار أربعون دارا. وروي في السنة تعيينه بذلك ولا يصح ففي مراسيل الزهري أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو جارا له فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه أن ينادي: (ألا إن أربعين دار جار). وقد فسره الزهري بأربعين بيتا من كل جانب. والصحيح أنه لا تحديد في الجوار لأنه لم يرد في السنة حديث صحيح يعين ذلك بل هو عام قد أطلقه الشرع والمرجع في تعيين الجار القريب الذي له حق خاص العرف فما تعارف عليه أهل البلد في الجوار كان حد معتبرا كالمحلة والحي والطريق ونحوه. وكلما قرب الجار إلى البيت كان حقه أعظم وقدم على غيره في المعروف كما روت عائشة رضي الله عنها قالت قلت يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي قال: (إلى أقربهما بابا) رواه البخاري.
الثامنة: من الإحسان إلى الجار كف الأذى عنه مما يؤذيه ويوقعه في الضرر أو الحرج. فكل قول أو فعل مؤذ حسا أو عرفا وجب على المؤمن الكف عنه وقد نهى الشرع عن ذلك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه) رواه البخاري. وفي صحيح مسلم: (لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه). والمسلم منهي عن إيذاء أخيه المسلم في جميع الأحوال ولكن يتأكد النهي ويعظم الجرم في إيذاء الجار لعظم حقه كما روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه سئل أي الذنب أعظم قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك قيل ثم أي قال أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك قبل ثم أي قال أن تزني حليلة جارك) متفق عليه. وإيذاء الجار سبب موجب لدخول النار فقد روي في مسند أحمد من حديث أبي هريرة قال قيل يا رسول الله: إن فلانة تصلي الليل وتصوم النهار وفي لسانها شيء تؤذي جيرانها سليطة. قال: (لا خير فيها هي في النار). وإيذاء الجار له صور كثيرة: من إتلاف ماله والتعدي على عرضه والتجسس على أسراره والإطلاع على حرماته ومضايقته في مرافقه وإزعاجه برفع الصوت والإضرار بأولاده ونشر عيوبه واختلاق الإفك والشائعات عنه وتخبيب زوجته وإفساد أهله عليه وغير ذلك مما يتضرر به. وأذى الجار عظيم لا يمكن التحرز منه غالبا أو إزالته وربما حمل المتضرر على التحول من داره ولذلك شدد الشارع فيه. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ من جار السوء.
التاسعة: وفيه الأمر بإكرام الضيف . قال ابن عبد البر: (أجمع العلماء على مدح مكرم الضيف والثناء عليه بذلك وحمده وأن الضيافة من سنن المرسلين وأن إبراهيم أول من ضيف الضيف). وقد تظافرت النصوص على ذلك ففي الصحيحين عن أبي شريح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته قالوا وما جائزته قال يوم وليلة قال والضيافة ثلاثة أيام وما كان بعد ذلك فهو صدقة). وخرج أحمد من حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه قالها ثلاثا قالوا وما كرامة الضيف يا رسول الله قال ثلاثة أيام فما جلس بعد ذلك فهو صدقة). فقد دلت النصوص على وجوب الضيافة يوم وليلة واليوم الثاني والثالث سنة نافلة حق مشروع للضيف وما زاد على الثلاثة أيام فصدقة من الصدقات. والصحيح أن الضيافة واجبة للمسلم أما الكافر فلا تجب لأن هذا من حق المسلم على أخيه كالنصيحة والسلام وإجابة الدعوة. وإذا نزل الضيف على قوم ولم يكرموه جاز له المطالبة بحقه وإن استطاع أن يأخذ حقه من غير مفسدة أبيح له ذلك. وفي الصحيحين عن عقبة بن عامر قال قلنا يا رسول الله إنك تبعثنا فننزل بقوم فما ترى فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم). واختلف الفقهاء هل الضيافة واجبة على أهل البادية والحاضرة أم خاصة على أهل البادية. وقال مالك: ليس على أهل الحضر ضيافة. وقال سحنون إنما الضيافة على أهل البادية وأما أهل الحضر فالفندق ينزل فيه المسافر.
العاشرة: يحق للضيف الإقامة عند من استضافه ثلاثة أيام وإن كان غنيا لكن لا يحل له أن يقيم عنده حتى يوقعه في الحرج سواء كان هذا في الثلاثة أيام أو فيما زاد عليها فإذا علم عجزه وفقره أو أنه يضيفه من قوته وقوت عياله وأن أهله يتأذون بذلك لم يجز له استضافته حينئذ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا يحل له أن يقيم عنده حتى يحرجه) متفق عليه. ولا شك أن الضيافة تجب وتستحب للموسر أما العاجز فلا. وكذلك لا ينبغي له أن يقيم عنده فوق ثلاث فيحرجه ويضيق عليه بل ينبغي للضيف مراعاة أحوال المضيف. وقد كان ابن عمر إذا أقام ثلاثة أيام أمر نافع أن ينفق من ماله وامتنع من الأكل من مال من نزل به. ويحق للمضيف أن يأمر الضيف بالتحول عن بيته بعد ثلاثة أيام كما فعل ذلك الإمام أحمد. لكن إذا كان المضيف يأنس ببقاء الضيف ويرغب به وعنده سعة من المال فلا حرج على الضيف في البقاء عنده لأن بقاءه لا يحرج من نزل به بل يدخل السرور عليه. ومما يؤسف أن بعض الأضياف يثقل على المستضيف في الإقامة ولا يراعي أحواله وآداب الشريعة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) متفق عليه.
هذا الحديث في بيان أنواع خلال من الإيمان من حفظ الكلام والكرم والبذل والإحسان إلى الخلق. وفيه مسائل.
الأولى: قوله صلى الله عليه وسلم (من كان يؤمن بالله واليوم والآخر) أسلوب مؤثر كان النبي صلى الله وسلم يستعمله في موعظته وترغيب أصحابه بالأعمال الصالحة والمعنى من كان مؤمنا بالله واليوم الآخر حقا وكمالا فليفعل كذا وكذا من كان مصدقا بوعد الله محتسبا للأجر مستشعرا للوقوف بين يدي الله يوم القيامة فليمتثل هذه الأعمال الجليلة والخصال الحسنة. وفيه دليل على أن هذه الأعمال التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم من خصال الإيمان منها ما يتعلق بحقوق الله كقول الخير ومنها ما يتعلق بحقوق العباد كإكرام الضيف وإكرام الجار.
الثانية: في الحديث دليل على أن حفظ اللسان من السيئات واستقامته على الخير علامة على استقامة إيمان العبد كما روي في المسند من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه). وقد ورد في الشرع التخريف والزجر من إطلاق الكلام على عواهنه وعدم التحرز من القول ففي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبن فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب) وعند أحمد (إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوي بها سبعين خريفا في النار). فإذا كان هذا الوعيد فيمن تكلم بغير بصيرة فكيف من تعمد الإثم في قوله والسوء في كلامه فأمره أعظم. وقال تعالى: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ). والمتلقيان ملكان موكلان بالعبد ملك عن يمينه يكتب الحسنات وملك عن شماله يكتب السيئات. وقد كان بعض السلف يتورعون عن التأوه والأنين حال المرض خشية أن يكتب.
الثالثة: قوله (فليقل خيرا أو ليصمت) فيه إرشاد للعبد بأن يسلك أحد أمرين في الكلام فإن كان الكلام خيرا تكلم به وإن لم يكن خيرا أمسك عنه إلا ما دعت الحاجة إليه. والحاصل أن الكلام ثلاثة أقسام:
1. كلام خير فيستحب للعبد التكلم به بل كلامه به أفضل من سكوته عنه كتلاوة القرآن والذكر والعلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله وغير ذلك مما أمر به الشرع ورغب فيه.
2. كلام شر فيشرع للعبد الإمساك عنه وسكوته عنه واجب كالغيبة والنميمة والكذب والإستهزاء وغير ذلك مما نهى عنه الشرع وحذر منه.
3. كلام مباح لا خير ولا شر فيشرع للعبد الإمساك عنه وعدم الكلام به وسكوته عنه أفضل من كلامه إلا ما دعت الحاجة إليه في معاشه ومصلحته ومصلحة من يعول.
وقد نهى السلف من فضول الكلام لأن فيه مضيعة للوقت بلا فائدة وذريعة إلى الوقوع في الحرام ويوجب قسوة القلب والغفلة عن ذكر الله. قال ابن مسعود: (إياكم وفضول الكلام حسب امرئ ما بلغ حاجته). وقال النخعي: (يهلك الناس في فضول المال والكلام). وقال عمر: (من كثر كلامه كثر سقطه ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به). والكلام بالخير أفضل من السكوت. قال أحد العلماء عند عمر بن عبد العزيز: الصامت على علم كالمتكلم على علم فقال عمر: (إني لأرجو أن يكون المتكلم على علم أفضلهما يوم القيامة حالا وذلك أن منفعته للناس وهذا صمته لنفسه). فقال له يا أمير المؤمنين فكيف بفتنة المنطق فبكى عمر عند ذلك بكاء شديدا.
الرابعة: يستحب للعبد أن يكثر من الكلام بالمعروف وأن لا يفوت مجلسا أو ساعة من ذكر الله وما كان في معناه من مدارسة العلم وبيان الحق والنصيحة. فإن كل مجلس وحال لا يذكر فيه العبد اسم الله ولا يرشد الخلق إليه إلا كان خسارة له في الدنيا وحسرة وندامة في الآخرة وعقوبة له على تفريطه. فقد أخرج الإمام أحمد من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار وكان لهم حسرة). وروى النسائي من حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من قوم يجلسون مجلسا لا يذكرون الله فيه إلا كانت عليهم حسرة يوم القيامة وإن دخلوا الجنة). وقال مجاهد: (ما جلس قوم مجلسا فتفرقوا قبل أن يذكروا الله إلا تفرقوا من أنتن من ريح الجيفة وكان مجلسهم يشهد عليهم بغفلتهم وما جلس قوم مجلسا فذكروا الله قبل أن يتفرقوا إلا تفرقوا عن أطيب من ريح المسك وكان مجلسهم يشهد لهم بذكرهم). وقال بعض السلف: (يعرض على ابن آدم يوم القيامة ساعات عمره فكل ساعة لم يذكر الله فيها تتقطع نفسه عليها حسرات).
الخامسة: إلتزام الصمت مطلقا واعتقاد أنه قربة وطاعة لله في جميع الأحوال أو بعضها عمل محدث ليس له أصل في الشرع وهو من عمل أهل الجاهلية وليس في الشرع ما يدل على أن الصمت لذاته مقصود شرعا وإنما يشرع الصمت ويستحب ويمدح فاعله إذا كان سكوتا عن الباطل أو استماعا للذكر والخطبة ونحو ذلك من الأحوال الخاصة التي تدل على أن الصمت وسيلة لغيره فإن ترتب عليه خير كان محمودا في الشرع وإن ترتب عليه شر كان مذموما في الشرع وليس هو عبادة بذاته. فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك كما أخرج أبوداود في سننه من حديث علي مرفوعا: (لا صمات يوم إلى الليل). وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لإمرأة حجت مصمتة: (إن هذا لا يحل هذا من عمل الجاهلية). وروي عن علي بن الحسين أنه قال: (صوم الصمت حرام).
السادسة: وفيه إن الإحسان إلى الجار من خصال الإيمان التي أمر بها الشرع ورغب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد روى الشيخان عن عائشة وابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه). وكل معروف من القول والفعل داخل في الإحسان وله صور كثيرة: من ذلك السؤال عن حاله وزيارته وتفقد أحواله ومواساته عند فقره وعيادته في مرضه وتشييع جنازته وإجابة دعوته ونصيحته وإعانته على قضاء حاجته ومشاركته في أفراحه وأحزانه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يشبع المؤمن دون جاره) رواه أحمد. وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: (أوصاني خليلي إذا طبخت مرقا فأكثر ماءه ثم انظر إلى أهل بيت جيرانك فأصبهم منها بمعروف). وفي المسند عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه ذبح شاة فقال هل أهديتم منها لجارنا اليهودي ثلاث مرات ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه). ومن أعظم إكرام الجار احتمال الأذى منه والصبر على سوء خلقه وقلة معروفه. فينبغي على العبد أن يكون من أهل الإحسان ويتعاهد جيرانه بالمعروف ولا يكون بخيلا مناعا للخير شحيحا بماله ووقته وخلقه على الجيران. ومما يؤسف له في زماننا قلة الإحسان بين الجيران وضعف العلاقة بينهم وكثرة الجفاء فيما بينهم بل ربما وصل الحال إلى أن الرجل لا يعرف جاره ولا يطلع على أحواله. فإلى الله المشتكى.
السابعة: الجيران في الحقوق ثلاثة كما روي في مسند البزار مرفوعا ولا يصح: (الجيران ثلاثة جار له حق واحد وهو أدنى الجيران حقا وجار له حقان وجار له ثلاثة حقوق وهو أفضل الجيران حقا. فأما الذي له حق واحد فجار مشرك لا رحم له حق الجوار وأما الجار الذي له حقان فجار مسلم له حق الإسلام وحق الجوار وأما الذي له ثلاثة حقوق فجار مسلم ذو رحم له حق الإسلام وحق الجوار وحق الرحم). وقد حد بعض العلماء الجوار الذي يتعلق به الإحسان فقالت طائفة من السلف حد الجوار أربعون دارا. وروي في السنة تعيينه بذلك ولا يصح ففي مراسيل الزهري أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو جارا له فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه أن ينادي: (ألا إن أربعين دار جار). وقد فسره الزهري بأربعين بيتا من كل جانب. والصحيح أنه لا تحديد في الجوار لأنه لم يرد في السنة حديث صحيح يعين ذلك بل هو عام قد أطلقه الشرع والمرجع في تعيين الجار القريب الذي له حق خاص العرف فما تعارف عليه أهل البلد في الجوار كان حد معتبرا كالمحلة والحي والطريق ونحوه. وكلما قرب الجار إلى البيت كان حقه أعظم وقدم على غيره في المعروف كما روت عائشة رضي الله عنها قالت قلت يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي قال: (إلى أقربهما بابا) رواه البخاري.
الثامنة: من الإحسان إلى الجار كف الأذى عنه مما يؤذيه ويوقعه في الضرر أو الحرج. فكل قول أو فعل مؤذ حسا أو عرفا وجب على المؤمن الكف عنه وقد نهى الشرع عن ذلك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه) رواه البخاري. وفي صحيح مسلم: (لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه). والمسلم منهي عن إيذاء أخيه المسلم في جميع الأحوال ولكن يتأكد النهي ويعظم الجرم في إيذاء الجار لعظم حقه كما روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه سئل أي الذنب أعظم قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك قيل ثم أي قال أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك قبل ثم أي قال أن تزني حليلة جارك) متفق عليه. وإيذاء الجار سبب موجب لدخول النار فقد روي في مسند أحمد من حديث أبي هريرة قال قيل يا رسول الله: إن فلانة تصلي الليل وتصوم النهار وفي لسانها شيء تؤذي جيرانها سليطة. قال: (لا خير فيها هي في النار). وإيذاء الجار له صور كثيرة: من إتلاف ماله والتعدي على عرضه والتجسس على أسراره والإطلاع على حرماته ومضايقته في مرافقه وإزعاجه برفع الصوت والإضرار بأولاده ونشر عيوبه واختلاق الإفك والشائعات عنه وتخبيب زوجته وإفساد أهله عليه وغير ذلك مما يتضرر به. وأذى الجار عظيم لا يمكن التحرز منه غالبا أو إزالته وربما حمل المتضرر على التحول من داره ولذلك شدد الشارع فيه. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ من جار السوء.
التاسعة: وفيه الأمر بإكرام الضيف . قال ابن عبد البر: (أجمع العلماء على مدح مكرم الضيف والثناء عليه بذلك وحمده وأن الضيافة من سنن المرسلين وأن إبراهيم أول من ضيف الضيف). وقد تظافرت النصوص على ذلك ففي الصحيحين عن أبي شريح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته قالوا وما جائزته قال يوم وليلة قال والضيافة ثلاثة أيام وما كان بعد ذلك فهو صدقة). وخرج أحمد من حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه قالها ثلاثا قالوا وما كرامة الضيف يا رسول الله قال ثلاثة أيام فما جلس بعد ذلك فهو صدقة). فقد دلت النصوص على وجوب الضيافة يوم وليلة واليوم الثاني والثالث سنة نافلة حق مشروع للضيف وما زاد على الثلاثة أيام فصدقة من الصدقات. والصحيح أن الضيافة واجبة للمسلم أما الكافر فلا تجب لأن هذا من حق المسلم على أخيه كالنصيحة والسلام وإجابة الدعوة. وإذا نزل الضيف على قوم ولم يكرموه جاز له المطالبة بحقه وإن استطاع أن يأخذ حقه من غير مفسدة أبيح له ذلك. وفي الصحيحين عن عقبة بن عامر قال قلنا يا رسول الله إنك تبعثنا فننزل بقوم فما ترى فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم). واختلف الفقهاء هل الضيافة واجبة على أهل البادية والحاضرة أم خاصة على أهل البادية. وقال مالك: ليس على أهل الحضر ضيافة. وقال سحنون إنما الضيافة على أهل البادية وأما أهل الحضر فالفندق ينزل فيه المسافر.
العاشرة: يحق للضيف الإقامة عند من استضافه ثلاثة أيام وإن كان غنيا لكن لا يحل له أن يقيم عنده حتى يوقعه في الحرج سواء كان هذا في الثلاثة أيام أو فيما زاد عليها فإذا علم عجزه وفقره أو أنه يضيفه من قوته وقوت عياله وأن أهله يتأذون بذلك لم يجز له استضافته حينئذ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا يحل له أن يقيم عنده حتى يحرجه) متفق عليه. ولا شك أن الضيافة تجب وتستحب للموسر أما العاجز فلا. وكذلك لا ينبغي له أن يقيم عنده فوق ثلاث فيحرجه ويضيق عليه بل ينبغي للضيف مراعاة أحوال المضيف. وقد كان ابن عمر إذا أقام ثلاثة أيام أمر نافع أن ينفق من ماله وامتنع من الأكل من مال من نزل به. ويحق للمضيف أن يأمر الضيف بالتحول عن بيته بعد ثلاثة أيام كما فعل ذلك الإمام أحمد. لكن إذا كان المضيف يأنس ببقاء الضيف ويرغب به وعنده سعة من المال فلا حرج على الضيف في البقاء عنده لأن بقاءه لا يحرج من نزل به بل يدخل السرور عليه. ومما يؤسف أن بعض الأضياف يثقل على المستضيف في الإقامة ولا يراعي أحواله وآداب الشريعة.