سبعة اقفال

  • تاريخ البدء تاريخ البدء

المنسي

الاعضاء
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

سبعة اقفال 1


- قال محمد بن إسحاق:
كان صاحبي يسار قد نشأ في طاعة الله ، ، حتى عرف بين أقرانه بالراهب ، وسمَّاه بعضهم : (( حمامة المسجد )).
وكان كثير الصمت ، قليل الكلام ، ولكن حديثه ينفذ إلى القلب ، يسحر السامع ويأخذ بلبه ، ويستولي عليه .
ولقد علمت بتفاصيل القصة بعد حين وسأذكرها كلها من البداية إلى النهاية ، وهي والحق يقال ، لو اطَّلع عليها البشر ، لكانت عبرة لمن اعتبر .
وبداية القصة ،... أنه كان في بغداد فتاة تركية يتيمة اسمها حسناء امتهنت الغناء بعد وفاة والدها وكان يُعقد في بيتها مساء الثلاثاء من كل أسبوع ، مجلس للطرب والغناء ، وكان يحضره شباب من القوم ، منهم حكيم بن محمود ، وحسَّان بن معيقيب ، وحبيب بن مسعود ، وغيرهم وقد تأخر ذات يوم عن الحضور في الوقت المعين سعيد بن منصور , وعندما حضر بادره الجميع بقولهم : أين كنت ؟
فأجابهم وهو يتخفف من بعض ملابسه ، وعلامات التأثر بادية على وجهه : التقيت هذه الليلة بيسار ..
وسرت في نفوس القوم هزَّة خفية ، وساد المكان سكونٌ شامل ونظرت حسناء بعينيها اللوزيتين ، وقاربت ما بين حاجبيها ، وسألت : ومن يسار هذا ؟
فأجابها حبيب بن مسعود ، وكان على صلة قديمة بيسار : أنا أعرف القوم بحاله , وأخذ يحدثها بكل ما يعرف عنه ,عن عبادته وتواضعه وحسنه وأخلاقه وعذوبة منطقه .
وتنهَّد حسَّان بن معيقيب وقال : ذلك الرجل عرف الطريق إلى ربه ..
فأنصتت حسناء بكل اهتمام ، وأخذت بما سمعت ، وعزمت في قرارة نفسها على أن تحظى به ..
ومالت حسناء برأسها ، وسألت حبيب بن مسعود : هل هو متزوج ؟
واستطاع حكيم ، أن يدرك ما يدور في خلد حسناء ، فقال وهو يضحك : لا سبيل لك إلى يسار .
فالتفتت إليه متحدِّية وقالت : سوف ترى .. ورفعت حسناء يدها ، تتحسَّس القرط اللؤلئي الذي يزين أذنها ، ثم نادت الخادم ، فأقبل ، وقد أحضر لها رقعة ، كتبت عليها شيئًا وطوتها بعناية فائقة ، ولفَّتها في منديلها المعطَّر ، ثم التفتت إلى سعيد بن منصور وقالت : أين نجد يسارًا في هذه الساعة ؟
فأجابها وهو يشير بيده : رأيته متجهًا إلى بيت القاضي بعد صلاة العشاء .
وقبل أن يخرج الخادم صاح حبيب بن مسعود منفعلاً ، وأخذ يردد : إن دون الوصول إلى اليسار سبعة أبواب عليها سبعة أقفال من حديد .
وما هي إلا ساعة ، حتى عاد عربيد بوجهٍ بغير الوجه الذي ذهب به ، وناولها المنديل دون أن يتفوَّه بكلمة . فأخرجت الرقعة ، وألقت عليها نظرة خاطفة ، ثم قفزت بثوبها الأبيض الفضفاض ، وشعرها الكستنائي الطويل الناعم وهي تحمل الرقعة بيدها اليمنى وتقول : هذا هو القفل الأول قد انفتح .
وعلت الدهشة وجه حبيب ، ولم يصدق سعيد بن منصور أذنيه ، وبقي حسَّان ينظر إليها دون أن ينطق ، أما حكيم ، فقد أخذ يصفق ويصيح , أما حسناء ، فقد استمرت كالفراشة الجميلة تدور في المكان ، وهي تحمل الرقعة بيدها وتقول : هذا هو القفل الأول قد انفتح .. انظروا .. وألقت الرقعة على المنضدة ، فتسابقت الأيدي للحصول عليها والاطِّلاع على ما فيها .. فكان حكيم أسرع القوم إليها ، فخطفها وأخذ يلوح بها وهو يضحك وينظر إلى حبيب بن مسعود ويقول :
-هذا هو صاحبك قد وقع , وقبل أن يقرأها ، وبخفة متناهية أدهشت الجميع ، خطفتها حسناء من يده ، وجذبت عربيدًا وذهبت إلى غرفة مجاورة . واستحثت حسناء الخادم وهي تقول :
-أخبرني يا عربيد .. أخبرني بكل ما رأيت , وكانت حسناء متلهِّفة لسماع حديثه ، فهزِّته قائلة :
- ماذا دهاك يا عربيد .. تكلم ؟
فأجاب بصوت هادئ عميق النبرات : يا سيدتي .. إن الوصول إلى القمر ، لأهون ألف مرة من الوصول إلى يسار ..
فأطرقت حسناء ، وتغير لونها ، وقالت بصوت هادئ خافت ودود : حدثني يا عربيد .. أخبرني بكل شيء .. بكل ما رأيت وسمعت . قال ، وقد انقاد إلى لهجتها : رأيت نازك الرومي ، خادم القاضي ، يهم بدخول الدار ، فاستوقفته ، وأخبرته بأني أريد أن أقابل يسارًا على انفراد . فأخذ بيدي إلى غرفة قريبة من الديوان .. وانتظرت حتى أقبل يسار . متوسط القامة ، أزهر اللون ، تجلله المهابة ، ويعلوه الوقار ،.. لقد تمنَّيت من كل قلبي لوعُدت أدراجي ، ولم أفاتحه .. وسكت عربيد ، وكأنه يريد أن يستحضر كل لحظة عاشها مع يسار .. واهتزت ذبالة القنديل على نسمة باردة ، تسللت من شق الباب .. وتحرك ظل حسناء على الجدار... كانت حسناء تصغي إليه باهتمام ، وقد سحرها بوصفه ، وملك عليها مشاعرها ومضت تستحثه : وماذا بعد .. تكلم يا عربيد .. ! ! !
قال : بدأني بالسلام .. ثم قال : ما اسمك ؟ قلت : عربيد .
فلم يعجبه هذا الاسم ، ونظر إليَّ ساعة ثم قال : بل أنت مريد .. أتدري من هو مريد ؟ ولما لم أجب ، مضى يقول : المريد هو صاحب الإرادة القوية المريد هو الذي يريد الوصول إلى الله ، بقلب سليم . اتق الله يا مريد واجتنب المعاصي .
وعاد عربيد إلى السكوت .. ولم يدر ما كان يعتمل في صدر حسناء التي استبدَّ بها الشوق إلى معرفة المزيد عن يسار حتى نَسِيَت نفسها ، ونَسِيَت الضيوف الذين كانوا ينتظرون عودتها ..وهزَّته حسناء . وقالت بصبرٍ نافد :
- تكلم . تكلم يا عربيد .. لا تسكت .
فنظر إليها وقال : مددت يدي بالرقعة ، بتردد ، وتخاذل ، وخجل .. فتناولها ، وألقى عليها نظرة .. فتغيَّر لونه ولكني أسرعت أقول له ، قبل أن أسمع منه ما يؤلمني : إنها تريد أن تتحدث إليك بمشكلتها يا سيدي .. إنها لا تريد أن يطَّلِع عليها غيرك .
فرفع رأسه ، وقد سُرِّيَ عنه بعض ما به وقال : لتكتب مشكلتها . ثم وقَّع بكلمة واحدة : اكتبيها . ألقى الرقعة ، وعاد من حيث أتى .
فصفقت حسناء بيدها ، ودارت حول نفسها طربًا وهي تقول : لقد وقع الطائر في الفخ .
فهزَّ عربيد رأسه وقال : ألم يقل لك حبيب بن مسعود ، إن دون الوصول إلى يسار سبعة أبواب عليها سبعة أقفال من حديد ؟!
فقهقهت حسناء ولقد لمع في فمها صفان مثل الحب الجمان ، ودفعت الخادم في صدره وهي تقول : إنني أملك المفتاح الأستاذ الذي تتساقط أمامه جميع الأقفال ..ثم أشارت بيدها إلى صدرها وقالت : أنا ..
- سأدعوك من هذه الساعة .. ( مُريد ) .
- واستمر القوم في حديثٍ وضحك وانشراح حتى أصبح الصباح ، وارتفع صوت المؤذن من المسجد القريب يدعو .. حي على الفلاح
- فتنهَّد حبيب بن مسعود وقال : هذه ليلة من عمرنا خسرناها .
- وخرج القوم فردًا فردًا ، وكان خروجهم بعد صلاة الفجر بقليل ، وسلك كل منهم طريقًا غير الذي سلكه صاحبه .
- قال محمد بن إسحاق : خرج يسار من بيته الذي يحاذي النهر لأداء صلاة الفجر
- وبعد صلاة الفجر جلس الشيخ يتحدث .. عن يوسف الصديق ، الفتى الذي ضرب مثلاً أعلى في الصبر عن المرأة المغرمة العاشقة الوَلْهى . وأخذ يصف ثباته وعِفَّته ، وخشيته لله ، ومراقبته له ، وتعبُّده وتصوُّنه ..
- كان يتكلم بأسلوب القرآن الواضح البليغ ، وبعرضه التصويري البديع . .. وكل مستمع له يشعر أنه يوسف نفسه .
- كان يسار يتردد بين حين وآخر على سوق العطَّارين ، وإلى هذا السوق تُجلب أجود أنواع العطور في الدنيا ، ويؤمَّه الرجال والنساء من شتى الأجناس . ولا شيء يستهوي النساء ، وخاصة الأعجميات ، كهذا السوق .. وهو أول ما يستهوي الوفود القادمة من بلاد الروم والترك وفارس والهند ، ومن بلاد الحبشة .. وبلاد أخرى بعيدة لم نسمع بها ..
- وسوق العطَّارين .. يمتاز بالأناقة والنظافة والجمال ، فيه الدكاكين الصغيرة المتناسقة ، التي زينت واجهاتها وعني بمظهرها .. والمصابيح الملونة ، وقوارير العطر ، وشدات الورد .
- وكان يسار يتردد على دكان العطَّار أبي علي الأصفهاني ، ومنه يشتري العطر الذي يستعمله .. وهو يقول : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحب الطيب .
- وبعد مضي أسبوعين على محاولة حسناء ، وفي عصر الأربعاء من نهار مشمس جميل ، أقبل يسار على أبي علي الأصفهاني ، وكان هذا قصيرًا سمينًا ، قد أعفى لحيته وخضبها ، وكان لا يكف عن الحديث عن العطور التي يبيعها وأنواعها وجودتها ..
- وما هي إلا هَنَيْهة ، حتى أقبلت حسناء ، والخادم مريد يسير إلى جانبها ووقفت على دكان أبي علي العطَّار ، وراحت تسأله عما لديه من العطور ، دون أن تلتفت إلى يسار .. أما مريد فإنه ألقى التحية عليه ، ووقف ينتظر .
- واحتفل العطَّار بها ، وأخذ يعرض عليها نماذج كثيرة ، وهي ترفضها بإشارة من يدها ، ولم يبد على يسار أي اهتمام بحسناء ، ولكنه انتبه بعد ذلك عندما سمع العطَّار يقول وهو يعرض عليها نوعًا من العطر : إنه أجود أنواع العطور يا سيدتي ، إن يسارًا يستعمله .
- أليس كذلك يا سيدي ؟ ولم يجب يسار ، ولم يرفع إليها نظره .
- أما حسناء ، فقد التفتت إليه ، وألقت عليه نظرة سريعة ، ثم عادت تخاطب العطَّار ، وقد غيرت من أسلوبها وحركاتها وقالت : لقد ذكرت لي مرة أن لديك نوعًا من العطر الصيني ..
- فهزَّ العطار رأسه وقال بأسف : لقد نفذ يا سيدي .. لم يبق منه شيء .. أتدرين يا سيدتي .. إنه يستخرج من زهرة تنبت على الهضاب الزرقاء في بلاد الصين ، .. إنها .. وانتبه العطَّار .. إن حسناء لم تكن تنظر إليه ، ولا تستمع لحديثه ، كانت تنظر خِلْسة إلى يسار .. إلى الفتى الذي ضاق بحديث العطار ، والذي سمعه منه مرات ومرات .. هذا هو الفتى الذي حدَّثها عنه حبيب بن مسعود ، إنه لم يتجاوز في وصفه ، بل لم يبلغ في وصفه ..
- وتنحنح العطَّار وهو يرفع يده يعدل عمامته .. وقال : انتظري لحظه .. ثم خرج من دكانه وهو يقول : سأجلبه لك من جاري.
- وهمَّ يسار بالانصراف ، فلم يكن يرغب في البقاء طويلاً في مثل هذا السوق ، ولم يكن يلبث إلا بمقدار ما يتناول حاجته من العطر ثم يعود سريعًا ..
- فالتفتت إليه حسناء وقالت بصوت ناعم : إنني متأسفة يا سيدي .
- والتفت إليها ، ولم يكن قد وقع عليها نظره حتى هذه الساعة ، فلما التقت العينان ، أسبلت جفونها في خفر العذارى ، وقالت بصوت هامس : إنني متأسفة يا سيدي .. لم أستطع أن أكتب مشكلتي .. ليتك تسمعها . فغض بصره ، وقد تذكر الرقعة التي حملها إليه مريد ، وقال : تكلَّمي .
- قالت .. وبصوت كأنين الوتر الحزين : الآن يا سيدي ؟
- قال ، ودون أن يلتفت إليها ، أو يرفع نظره مرة أخرى : نعم .
- قالت .. وهي تحاول أن تجره للحديث : هنا في السوق ؟
- قال : نعم .
- وعاد العطَّار وهو يمسح جبينه من العرق ، وقال معتذرًا :
- - لم يبق لديه شيء يا سيدتي .
- وتنهَّدت حسناء وقالت : سأعود مرة أخرى .
- ثم انصرف بعد أن ألقت على يسار نظرة ، جعلته يطرق خجلاً .
- وعندما عاد تلك الليلة ، بعد صلاة العشاء ، خيل إليه كأنه يسمع همسة ، أو لحنًا ، أو صوتًا أليفًا ..! وبعد أن استلقى على فراشه ، تذكر أين سمع ذلك الهمس ، أو اللحن .. سمعه عصر اليوم ، عند دكان العطَّار ، سمعه من حسناء التي ذكرت أن لديها مشكلة تريد أن تعرضها عليه . .. واستحضر صورتها الجميلة وهي تدخل ، وصورتها وهي تنظر إليه.. إنه لم ير في حياته فتاة في مثل جمالها ، بروعتها ، بفتنتها .. لقد وقفت على دكان أبي على الأصفهاني ، وكلمته ، يا لعذوبة صوتها وروعة نغمتها ..
- وأسرع يسار فصرف هذه الخواطر ، وشعر أنها دخيلة عليه ، تذكر حديث الشيخ ، ويوسف الصديق ، وخيَّل إليه كأنه يسمع الشيخ يحذره. وتدحرجت دمعة كبيرة على خده ، وتبعتها دموع ، حتى بلَّلت الوسادة ، ثم راح في نوم هادئ عميق
.
- كان من عادة يسار عندما يعود إلى البيت بعد صلاة الفجر والاستماع إلى حديث الشيخ ، أن يقضي فترة مـن الوقـت في قراءة جـزء كامـل من القرآن الكريم ، ثم عددٍ من الأدعية المأثورة عن النبي
سبعة اقفال
وبعدها يأخذ قسطًا من الراحة بانتظار طعام الفطور ، حتى إذا حان موعده ، تناول فطوره مع أمه ، التي تبدو موفورة النشاط ، ضاحكة متفائلة ، لا تكل عن الحركة .. وأخته الصغيرة سناء ، التي يحاكي وجهها استدارة البدر ..
-أما أبوه فكان يخرج من البيت قبل أن يعود يسار من المسجد ثم يتبعه يسار بعد تناول الفطور ، فيساعده في عقد الصفقات ومراجعة الحسابات ومتابعة الديون .
- وعندما ارتفعت الشمس في ذلك الصباح الدافئ ، خرج يسار في طريقه إلى السوق ، ولمَّا سار في بعض الطرق ، وقعت عيناه عليها .. التقى بها وجهًا لوجه .. كانت تسير إلى جانب خادمها مريد ، وكانت تبدو عليها الحشمة والوقار ، فلم تلتفت يمينًا أو شمالاً ، ولكنها عندما رأته ألقت عليه نظرة غريبة ، لم يستطع يسار تفسيرها ، فيها الجرأة والحزن والحياء ، وما لم يعرفه من معان أخر .
- وأبعدها عن خاطره ، وخاصة عندما احتواه السوق ، وانشغل مع أبيه في أمور التجارة .
- ودهش عندما صادفها في اليوم الثاني أيضًا .. دهش يسار عندما سمع صوتًا كتغريد البلابل . فالتفت .. فإذا .. هي .. هي .. حسناء .. بكل ما فيها من فتنة وجاذبية وسحر أخَّاذ .. وذهبت بعد أن مسَّت قلبه بكسرة من عينها اليسرى .. فغضَّ بصره في الحال ، وراح يستغفر الله في سرِّه .. ثم مضى في طريقه .
- وأخذ في اليوم الثالث يستعجل أمه في إعداد الفطور ، وفي كل مرة يخرج إلى ساحة الدار ينظر إلى الشمس .. أين وصلت ! وانتبه إلى صوت أخته الصغيرة التي كانت تركض وسألته وهي تركض دون أن تنتظر الجواب : هل لديك موعد مع أحد ؟
- وشعر كأن الصغيرة أيقظته ، فأخذ يلوم نفسه ، ويستغفر الله في سره ، ويحاول أن ينفض ما علق بقلبه من غبار ..
- وتعمَّد يسار أن يتأخر أكثر من أي يوم .. ولاحظت أمه أنه بينما كان يحثها على إعداد الفطور بسرعة ، إذا به يسكت فيتركها تعده على مهل .
- كانت البيوت تقف على جانبي الطريق متصلة ببعضها ، إلا فتحات قليلة تؤدي إلى النهر ومضى يسار في الطريق ، وكان مرتاح القلب مسرورًا ؛ لأنه انتبه إلى نفسه ، فعالجها وغسل قلبه من صورة حسناء وصوتها و.. وكان معظم المارة يسلِّمون عليه ، ويسلِّم عليهم ، والتقى في طريقه بالعم عثمان .. وكان هذا شيخًا تجاوز المائة من العمر ، قضى ما يزيد على الثمانين من عمره يعمل في البحر .. تاجرًا وبحارًا وربانًا .. حتى لقب بحق ، بأبي البحر .
- وقف العم عثمان يسأل يسارًا عن حاله وعن والده ووالدته وعن أخته الصغيرة .. ثم مضى يحدثه دون مقدمات عن إحدى رحلاته إلى بلاد الصين ، وبينما كان يسار في انسجام تام مع العم عثمان ، وهو يستمع إلى قصته إذ سمع صوتًا كاللحن الشارد يقول : إنه لا يريدنا .. والتفت بحركة لا إرادية سريعة .. ورآها ، في ابتسامة مليحة ووجه متورِّد وعينين فيهما الكثير من العتاب .. ثم حوَّلت نظرها إلى الخادم بعد أن ألقت بشواظها على قلب الفتى يسار ..
- ما الذي جاء بها في هذه الساعة ؟ ألم يتأخر في الخروج من البيت حتى ارتفعت الشمس .. هل تأخرت هي أيضًا .. كيف حدث هذا ؟
- ومضى ذلك اليوم ، وعندما عاد يسار في المساء ، وبلغ المكان الذي كان يتحدث به مع العم عثمان ، تذكر تلك القصة ، وتذكر حسناء .. فخفق قلبه .. وتلفت حوله .. وشعر كأنه يسمع صوتها العذب يردد بدلال وإغراء : إنه لا يريدنا .. وتطلع إلى النهر الذي خيَّم عليه الظلام ، وكانت الريح ساكنة .. وبقي واقفًا لحظات تهجم عليه خواطر شتى .. كيف هجمت هذه الفتاة على قلبه ؟! كيف تسلَّلت إليه ؟ لقد أصاب قلبه ما كدَّر صفاءه ، لقد تلوث قلبه .. إنه لم يعد ذلك الفتى الطاهر النقي الثوب .. إن قلب العابد يجب أن يخلو من الصور .. لا يدع فيه مكانًا لمثل هذه الفتاة .. كيف سمح لها أن تلوث بساط قلبه بأقدامها ؟! كيف سمح لها .. إنه لولاه لما طمعت فيه .. ولكن لا .. سيذهب غدًا .. وسيحدث الشيخ بكل ما حدث ، فعنده الدواء .. ولم لا يحدثه ؟
- إنه لا يفضي لأبيه .. ولا لأي إنسان قريب بما يفضي به للشيخ ، إنه يشعر بأن الشيخ منه بمنزلة الأب والأخ الكبير والصديق .. بل أكثر من ذلك كله .. إنه المربي ..
- مع الخيط الأول من الفجر ، استيقظ يسار على صوت المؤذن ، وكان صوته نديًا ، رقيقًا ، فيه الهدوء والسكينة والجلال .. وظل يستمع إليه بكل حواسه ، دون أن يغادر فراشه ، وشعر لكلمات الأذان بمعان جديدة قوية مؤثرة .. فالصلاة دائمًا مقرونة بالفلاح .. فكيف يفلح من لا يصلي ؟!
- حتى إذا انتهى الأذان ، انتفض قائمًا ، وأسرع فتوضأ ، ثم ارتدى ملابسه وغادر البيت ..
- وبعد صلاة الفجر ، تحلَّق المصلون حول الشيخ يستمعون إلى حديثه .
- كانت كلمات الشيخ تسطع في النفس كما تسطع النجوم في السماء ، وتتصل بالروح تمد لها بسبب إلى التقوى ، وهي بعد ذلك أشبه بالماء الزلال عصرته العيون ، فخرج خالصًا سائغًا شرابه ، يرف بندى الحياة ..
- وضرب مثلاً للسائرين إلى الله ، كجماعة أرادوا الصعود إلى جبل ، فمنهم من تخلَّف من أول الطريق ، وقد هاله ارتفاع الجبل ، فانهارت عزيمته . ومنهم من أدركه التعب وهو لم يبلغ ربع المسافة . ومنهم من وصل إلى نصفه ، لكنه عثر فتدحرج .. فقد يقوم هذا المتدحرج ليعاود تسلق الجبل .. وقد تقعد به الهمة فيبقى في مكانه الذي انتهى إليه , والسعيد السعيد من استطاع أن يبلغ القمة .
- كان الشيخ يتحدث والجماعة المحيطة به تصغي إليه إصغاء تامًا وقد أخذ بعضهم يكتب على لوح أحضره معه ، حديث الشيخ لكي لا ينساه .. وكان بعضهم يتنهد بحرارة وهو يقارن حاله بما يسمع .
- وتنهد يسار وهو يتصور حاله .. إنه لا يدري أي مسافة قطع فاعترضته هذه الفتاة .. وسدت عليه الطريق ، فهو يعمل جاهدًا على تنحيتها عن طريقه ، والسير إلى الأمام .. !!
- ولم يشعر إلا والجماعة ينهضون ، لقد انتهى الشيخ من حديثه اليوم ، فأين كان سارحًا وشدَّ الشيخ على يد يسار .. وغض هذا بصره تحاميًا لعيني الشيخ .. وخشي أن يقرأ الشيخ ما فيه نفسه .. ولم يحدث الشيخ يما يريد .
- وعاد إلى البيت وهو ينقل الخطوات بتثاقل ، وكان الجو باردًا والرياح بدأت تشتد ، وبرزت طلائع سحب في السماء ، وقد تكشَّفت الدنيا ، وزال الظلام .. وأخذت الريح تضرب بعض أوراق الأشجار اليابسة المتساقطة على الأرض فتسوقها أمامها ..
- ولم يلتفت إلى النهر الهائج ، ولا إلى صف البيوت على الجانبين ، ولا إلى الذين يغادرون بيوتهم طلبًا للرزق ..
- لم يلتفت إلى هذا كله .. لقد كان يلوم نفسه .. يؤنبها .. وشعر يسار بالدموع تنزل على خديه .. ألا يستطيع أن يقف في وجه الفتاة ؟ وصل إلى البيت .. ولم ينتبه يسار عندما كان جالسًا على مائدة الفطور ، لم ينتبه إلى أخته سناء التي كانت تنظر إليه كعصفورة وجلة .. إلى شروده وسهومه .. لم ينتبه إليها وهي تقول : هل أنت مريض ؟
- فحوَّل وجهه وهو يغالب ابتسامة حزينة وقال : لا .. ولمَّا ألحت عليه .. قال وقد ضاق بإلحاحها : نعم .. قلبي .
- فنهضت.. وقالت : سآتيك بالدواء الذي تستعمله أمي .. وأمسكها من يدها وهو يقول : إنه فقط.. أصابه بعض الغبار . وترك يدها ومد يده إلى طعام الإفطاروهو يقول : بسم الله ...
- لم يكن أمام يسار إلا أن يغير طريق ذهابه إلى محل أبيه ، لكي يتجنب رؤية حسناء ، سيسلك طريقا آخر ، وإن كان طويلاً ، ولم يتعود على سلوكه من قبل .
- ومضى يسار ، وحمد الله على السلامة ، فقد مر اليوم الأول والثاني والثالث دون أن يراها . ولكن صورتها لم تغادر خياله .. وصوتها يهمس في أذنه ، ونظرتها .. وفي كل يوم يزداد شوقًا وتلهفًا .. والمكان الذي احتلته في قلبه بدأ يتسع . ولكنه كان يقاوم ويحاول أن يأسو جراح قلبه .
- و في مساء اليوم الرابع ، ذهب يسار بعد صلاة العشاء ، إلى بيت القاضي وقد تأخر ذلك المساء في بيت القاضي ، فلما خرج ، كانت السماء قد ادلهمت بالغيوم ، وأخذت ترسل رذاذًا ، فأسرع يسار إلى منزله ، خشية أن يدركه المطر . وقبل أن يصل إلى البيت بخطوات ، برز من زاوية مظلمة ، رجل متوسط القامة ، وقال بصوت هادئ : هل تسمح يا سيدي ؟
- ونظر إليه يسار ، وتبين ملامحه ، إنه خادم حسناء .. مريد .. وعاد هذا يقول مرة أخرى : إن سيدتي مريضة .. وهي تود أن تراك .
- لقد ظن أنه تخلص منها نهائيًا ، وظن أنها لن تعترض طريقه . ولكن هاهو خادمها يأتي ليذكِّره بها ، ليجذبه إليها .
- قال يسار : ويحك يا رجل . وما شأني بمرضها ؟ وسكت قليلاً ثم أضاف : ادع لها طبيبًا .
- فأجاب الخادم بلهجة صادقة : لم أجد الطبيب في بيته يا سيدي . فأرسلتني أدعوك .
- ولما نظر إليه يسار متعجبًا ومستغربًا ، أضاف الخادم يقول : ربما تريد أن تسرَّ لك بأمر يا سيدي , إنها يا سيدي في حالة يرثى لها .. إنك لو رأيتها يا سيدي ، لرق لها قلبك .. من يدري .. ربما لا تعيش إلى الغد .!
- ومسَّت قلبه العبارة الأخيرة ، فهتف مأخوذًا : لا تعيش إلى الغد ؟
- وهزَّ الخادم رأسه وهو يؤكد : الأعمار بيد الله يا سيدي . ربما تريد أن تبوح لك بسر ..
- ودق قلب يسار وهو يحرك شفتيه : سر ؟
- ولم يشعر يسار إلا كما يشعر السابح الذي ألقي في اليم ، فنال منه الجهد والتعب ، وأخذت الأمواج تتقاذفه إلى حيث تشتهي ولا يشتهي ..!!
- كانت الفوانيس تبدو باسمة مستسلمة مسرورة بما ترسل السماء من رذاذ ، وكان بعضها يبدو خائفًا وجلاً قد انخنس نوره مترقبًا لما قد تأتي به بعد ذلك ، ولاسيما في هذا الموسم من آخر الشتاء .
- عندما فتح الخادم باب الغرفة التي ترقد فيها الفتاة ، طارت إلى أنف يسار رائحة المسك ، وبدت الغرفة في تأثيث فاخر ، وفي صدرها سرير قرطبي ، يتدلى فوقه سراجان, وقد تمددت حسناء على ذلك السرير القرطبي وارتاح شعرها الكستنائي الطويل الناعم على ترائبها .
- كانت حسناء تئن وتتأوه ، وتتلوى من الألم . ولم يصدق يسار أول الأمر ، وقد تسمرت قدماه في أول الغرفة ، وظن أنه قد خدع ! ولكن تردده لم يطل .. فقد التفتت إليه بعينيها المتضرعتين ، فخفق فؤاده وانجذب إليها كالمسحور ، حتى إذا صار قريبًا منها قال بصوت اجتهد أن يكون خافتًا كأنه من دنيا الأحلام
 

مواضيع ذات صلة

الوسوم الوسوم
اقفال سبعة
عودة
أعلى