[font="]ليس أجمل لنفس العليل المدنف الذي تسعرت جوانحه في سموم الحب من ساعة تفجؤه ببشارة الوصل والرضى ، وتحمل إليه من محبوبه صوت الحنان والعطف فينتفض قلبه بذلك من مرارة اليأس وآلامه . إن فيها لحنا تعجز عن أداء مثله الأوتار ، وجمالا لا يشع مثله من منظر الخمائل والزهور ، وفيها نشوة لا ينبعث سرها من سائر أنواع الخمر .![/font][font="] [font="]إنها تلك الساعة التي طنت دقاتها في مسمع ممو وتاج الدين حينما عادت العجوز إليهما بمظهرها الأول حيث أهدتهما البشارة على أحسن وجه ، وبلغتهما رسالة الأميريتن بالنص . ولم تكن رسالة وبشرى فقط بل كانت بلسما لدائيهما ، وروحا جديدا سرت في جسميهما .[/font] [font="]وغمرت العاشقين لحظات من النشوة والفرح ، وطاف بهما من حديث العجوز أريج عطري بديع ، وتموجت في سمائهما من صداه أنغام سحرية سرت في مشاعرهما ، وأسكرت لبهما . ثم قام فنفح كل منهما طبيبته المبشرة ما استطاع من الهدايا والمال لقاء تلك البشرى التي زفتها إليهما .[/font] [font="]وهب الصديقان يسرعان إلى الأقارب والأصحاب يقصان عليهم لأول مرة قصة حبهما ، ويبلغانهم البشرى التي وصلتهما . فعمهم الابتهاج والفرح ، لا سيما عارف وجكو اللذين كانا في حيرة بالغة من أمر أخيهما تاج الدين وصديقه .[/font] [font="]وفي صباح اليوم التالي تألف منهم جمع من وجوه الجزيرة وأعيانها وعلى رأسهم شقيقا تاج الدين ، وانطلقوا متوجهين إلى قصر الامير زين الدين ليكلموه في الشأن ويلتمسوا منه قبول هذين الصديقين صهرين له . ولكنهم رأوا فيما بينهم أنه لا بد لكي يضمنوا إجابة الأمير لخطبة ممو أيضا أن يلتمسوا أولا يد الأميرة ستي لتاج الدين دون أن يذكروا شيئا عن صاحبه ، فإذا ما أجاب اتخذوا من ذلك فيما بعد وسيلة لالتماس يد الأميرة زين لممو ، وسيمهد ويهيئ لذلك ما سيحدث من احتكاك ممو بالقصر وتقربه إلى الأمير بسبب ما بينه وبين تاج الدين من المودة والعلاقة الشديدة.[/font] [font="]ودخل الوفد ديوان الأمير .. وأدوا أمامه مراسم التحية والإجلال .. وبعد أن استقر بهم المكان نهض عارف مستأذنا الأمير في الكلام ثم قال :[/font] [font="]- ’’ مولاي صاحب السلطان : إن لنا في عطفكم الذي امتد ظله مع امتداد سلطانكم الشامل ما يشجعنا على أن نعرض في رحابكم هذا الرجاء :[/font] [font="]لا ريب يا مولاي أن العزيز منا من شرفته بعنايتك ، ولا يفيده بعد ذلك أن تحاول الدنيا إذلاله ، والمهين من حرم من عطفك ، ولا تغنيه بعد ذلك أي قوة يركن إليها أو سلطان يعتز به .[/font] [font="]وإن تاج الدين يا مولاي وإن كان له في سلالته فخر الإمارة والمجد إلا أن شيئا من لك لا يقدمه إن لم يشرفه فخر النسبة إليك .. وهو اليوم يأمل من مولاه أن يتفضل عليه بفخر هذا النسب .. ملتمسا منه يد الأميرة ’’ ستي ‘‘ ولقد سعينا إلى رحابكم لعرض رجائه هذا مع عرض أملنا عليكم في قبول هذا الرجاء . فهو يا مولاي أخلص خادم يستأهل عطفكم ، ولعله أليق شاب بالتشرف بمصاهرتكم . ‘‘.[/font] [font="]ثم عاد عارف فجلس في مكانه . وتعلقت أنظار الجميع بشفتي الأمير ينتظرون جوابه . ولكن الأمير لم يطل تفكيره ، بل سرعان ما نظر إليهم قائلا :[/font] [font="]’’ الحق أنه ليس لدي ما يمنعني من الإجابة إلى ما تطلبون ، بل أنا سعيد بموافقتكم فيما أجمعتم على رؤيته لائقا وموافقا . فليتقدم إلينا من كان وكيلا عن تاج الدين في هذا . واطلبوا لنا القاضي الذي إليه إبرام العقود ، فقد قررنا عقد نكاح ستي على تاج الدين منذ الآن . ‘‘.[/font] [font="]فهب جكو من مكانه منكبا على يد الأمير يقبلها ويشكره بحرارة ولهفة وتابعه الجميع يشكرونه على تفضله وعطفه . بينما تابع الأمير حديثه قائلا :[/font] [font="]’’ لا ريب أن هذا الشاب قد أمضى أياما طويلة في خدمتنا ووقف حياته بإخلاص لنا . وإن من شروط الوفاء علينا أن نقدر فيه إخلاصه ، ونؤديه حق خدمته ، وأن نقوم بواجب هذا الوفاء له اليوم . ولا بورك لي في الإمارة والسلطان إن لم أعطه حقه كاملا غير منقوص ، وإن لم أجعل له في رحاب قصري هذا محفلا تزدان فيه الولائم والأفراح ليالي وأياما ‘‘ .[/font] [font="]ثم التفت فاستدعى رجال القصر قائلا :[/font] [font="]’’ عليكم أن تبادروا من الآن في إعداد العدة وتهيئة الوسائل والأسباب لإقامة الأفراح ومجالس الصفو والمرح . هيئوا لها كل ما طاب من أنواع الشراب ، وادعوا إليها كل أصحاب الطرب والغناء ، فلسنا نضمن من الحياة إلا هذه السويعات التي حولنا .لسنا ندري وليس أحد يدري أسوف نظل في مثل هذا الحين من الغد نملك حياتنا ، أم سيتخفطها منا القدرالمحتوم .[/font] [font="]هذه الحياة وبهجتها ، وهذا السلطان وأبهته ، وهذا الفلك الدائر من حولنا ، كل ذلك مظاهر لااطمئنان إليها ولا أمان لها ، هذه الأشكال التي يتضرب فيها النور الساطع بالظلمات القاتمة ، وهذه الصور التي تمتزج فيها النور الساطع بالظلمات القاتمة ، وهذه الصور التي تمتزج فيها مباهج الأفراح والأعراس بمآسي المآتم والأحزان ، كل ذلك يحذرنا من تفويت الفرص بعد حلولها وينبهنا إلى تدارك ساعات اللذه قبل غروبها . فالدهر لم يكن يوما ما يفرق في خداعه بين شيخ وأمير ، وسلطان وفقير ‘‘.[/font] [font="]ثم التفت إلى شقيقي تاج الدين ومن معهما ، وابتسم قائلا :[/font] [font="]’’ فلأكن واحدا منكم من أجل تاج الدين اليوم . ولتحسبوني من جملتكم في السعي إلى هذا الطلب ، والقيام في سبيل إرضائه ..‘‘[/font] [font="]
[/font][/font][font="][/font]
[font="][font="]وفي مساء اليوم التالي كان القصر قد أمسى قطعة من الفردوس ، مما كان يتألق فيه من مظاهر البهجة والزينة وتتراقص في كل أنحائه كل معالم المرح والترف ، كما غص كل نواحي القصر وأطرافه بمختلف الطبقات والأشكال من الناس . وأقيم في ردهته المتسعة خوان عظيم امتد به الطول والعرض امتدادا شاسعا ، وصفت من فوقه عشرات الطباق الفضية التي استدير بعضها على شكل نجوم ، وقوس بعضها الآخر على شكل أقمار ، وأقيم فوقها قباب من أغطيه فضية تتألق في هندسة ما تحتها وشكله ،وقد كمن تحت كل منها خروف مشوي لم تمس هيأته ولم يتغير شكله ، كما حشر بين ذلك مئات من أطباق الفاكهة والحلوى ومختلف ألوان الطعام و نثرت في سائر الأطراف كؤوس يترقرق فيها ألوان الشراب .[/font] [font="]ولم يكد العشاء يرتفع حتى بدأ الحفل من جديد ، واتخذ الناس أمكنتهم في الشرفة الواسعة التي تطل على حديقة القصر . وجيء بمختلف ألوان الشراب في أباريق مفضضة بديعة ، يديرها غلمان قد أفرغوا في أروع قالب من اللطافة والخفة والجمال . وأدير أرق أنواع العطور ، فانتشر شذاها في الحاضرين متهاديا مع نسيم الليل وأضوائه . ومع حفيف ذلك النسيم أخذت أصوات الغناء تنساب إلى الآذان في جو حالم خلاب بألحان الفرح والبهجة . فرادى حينا ، وحينا تنساب أصواتهم جميعا في مقامات وألحان سحرية تتردد أصؤها حلوة بديعة بين حفبف تلك النسمات العطرة التي تداعب القوم في سكون حالم .[/font] [font="]وفي تلك الأثناء أخذت أنظار الجميع ترتكز على مقعد في صدر المكان ، حيث كان يجلس فيه تاج الدين ، وقد بدا في عينيه بريق الأمل السعيد ، وتجلت في ملامح وجهه فرحة السعادة . وكان كل من يدقق في نظرته يدرك بسهولة أنه لا يكاد يرفع بصره عن ناحية بعينها في ذلك المجلس ، فإذا ما تبع بصره إلى تلك الناحية رأى هنالك ’’ ممو ‘‘ وقد جلس جلسة تدل على أنه منطو على نفسه انطواء تاما ،فهو لا يكاد يشعر بشيء مما حوله . ونظرة في عينيه الذابلتين ، وفي ملامح وجهه الذي أماله وأسنده على ظهر كفه في إطراقة طويلة - تدل على أن شيئا من سحر ذلك الجو وجمال تلك الأوتار والألحان لا يلامس نفسه ، اللهم إلا لمسة عابرة غير مبالية ، كأنما تقول له : ’’ لا أعرفك ... ولست من أجلك ..‘‘[/font] [font="]و بينما الناس في تلك الأثناء إذ سكت كل شيء .. وهب الناس جميعهم قياما .. فقد دخل الأمير في تلك الساعة . وقبل أن يصل إلى الصدر الذي كان يجلس تاج الدين في بعض مقاعده نهض هذا من مكانه مسرعا فقبل يده . فأخذ الأمير بيمينه ومضى به فأجلسه إلى جانبه بعد أن أشار إلى الحشد الكبير بتحية باسمة .[/font] [font="]ولم يكن يخفى على الأمير أن بين تاج الدين وممو ودا شديدا ومحبة صادقة ، فأخذ يجيل النظر في هدوء باحثا عنه إلى أن عثرت عيناه عليه ، ورآه ساهما مطرقا . فأدرك أنه ربما أوحشه أن يكون بعيدا عن صديقه في هذا الحفل الذي يقام من أجله ، فاستدعاه إليه ثم قال :[/font] [font="]’’ أنت صديق تاج الدين وصاحب وده . وليس ثم أقرب منك إليه وأليق بأن يكون ’’ حفيظه ‘‘* منذ الليلة إلى آخر أيام عرسه . فتعال واجلس إلى جانبه هنا .‘‘[/font] [font="]فانحنى ممو للأمير قائلا :’’ أمر مولاي .‘‘ ثم تراجع وجلس إلى جانب تاج الدين .[/font] [font="]وعاد الطرب والغناء ، وعادت الكؤوس تدور . وكانت ليلة رائعة أضفت على كل الحاضرين سعادة وأنسا . وامتدت تلك الليلة السعادة امتداد الليل ، حيث كانت نهايتها أول أساس في بناء عرس تاج الدين . وكان ذلك الأساس هو عقد نكاحه على الأميرة ’’ ستي ‘‘ .[/font][/font][font="]
[/font][font="]* حفيظ العريس هو ذاك الذي مكانه بجانبه ويمشي ورائه كأنما هو حارسه . وهي عادة من عادات الأكراد في أعراسهم . ويختار الحفيظ من أخلص أصحاب العريس وأقربهم إليه .
[font="]ونعود الآن مرة أخرى إلى رحاب قصر الأمير بعد أن مضت مدة على نكاح تاج الدين ، وانهمك خلالها في إعداد العدة وتهيئة اسباب العرس . وقد غصت ردهة الطابق العلوي منه بعشرات الوصيفات اللواتي أخذن في تهيئة شتى وسائل الزينة والتجميل للأميرة العروس وأختها ، وليضفين على فتنتها روح الأناقة ، ويزدن في سحرها روعة الصنعة .[/font][font="] [font="]وأقبلن إلى العروس يسرحن النظر أولا في شعرها ... شعر كستناوي في نعومة الحرير .. قد تموج من سائر أطرافه في غزارة منسابا إلى ما تحت المنكبين في بهاء وفتنة ... وتمايلت من أعلاه خصل ملتوية فوق الجبين في دلال ولطف ، بينما استدار سائره أمام الصدغين وحول الوجه في تجاعيد رائعة ذات سحر . تصميم إلهي بديع لا يستطيع أي مخلوق أن يلمس في روعته نقصا ليكمله ، أو خطأ ليعدل فيه .[/font] [font="]وانتقلت أبصارهن إلى العينين ... عينين واسعتين تنظران بسهام الفتك ، تحت حاجبين ينطلق منهما مثل ما ينطلق من كبد القوس وأهداب ناعسة سوداء في سواد الليل ... تسترخي على تلك المحاجر استرخاء شاعريا يفعل في الألباب ما تفعله الخمر . هذه الفتنة من الكحل الإلهي العجيب ، وهذا البريق الساحر المنبعث من هذه النظرات ، أي إثمد أو صبغ في الدنيا له أن يغير من ذلك ويبدل ؟![/font] [font="]ثم استدارت أنظارهن إلى القوام .. قوام مياد أفرغ في أروع قالب من التناسق والجمال ، وصمم في أدق تكوين إلهي معجز . فجاء منسجما من كل أجزائه وأطرافه ، يبعث بعضه الفتنة في بعض . فأي يد من أيدي التقليد والصنعة تزعم أنها ستزيد فيه روعة وإبداعا ؟[/font][/font][font="]
[/font][font="]ووقفت الوصيفات من حول ستي في جمود وذهول يمجدن خالق هذا الجمال ، وقد اعترفت حيرتهن بأن الجمال الذي صورته يد الخالق لا سبيل ليد المخلوق في تغييره .[/font][font="] [font="]ثم رأين أن ليس لهن إلا أن يتوجن ذلك الجمال بإكليل رصع بالدر وأثمن أنواع الماس . يضعنه فوق جبينها المشرق وبين أمواج ذلك الشعر الحريري الرجراج . أما قوامها فقد تركن فتنته تشع من خلف ثوب من القطيفة البيضاء ، سرت فيه نقوش رائعة من خيوط الذهب الخالص ، وقد التف من الاعلى على جسمها التفافا يبعث السحر . بينما اتسع من الأدنى اتساعا كبيرا ، وترك له ذيل طويل يتهادى من حولها على الأرض . أما نحرها وما دون ذلك إلى الصدر فقد ترك إشراقه باديا ليتألق فيه عقد من الماس تدلت من سائر أطرافه على النحر حبات اللؤلؤ النادر .[/font] [font="]وانصرفن بعد ذلك إلى ’’ زين ‘‘ ولكنها كانت أغنى من أختها عن التجميل المصطنع لقد كانت هي وحدها الآية التي دلت على أن للإبداع الإلهي أن يسو على فتنة ’’ ستي ‘‘ وجمالها فلم يكن الشأن في تزيينها يحتاج أكثر إلى مما قمن به بالنسبة لأختها ..[/font] [font="]ولم تمض سوى مدة قصيرة حتى انبعث من قصر الأمير موكب يتهادى من وراء صفين من الخيول المزينة ، موكب يزدان بأفخم مظاهرالجمال . عشرات من الوصيفات والجواري يتمايلن في أبدع أنواع الزينة والحلي ، تتوسطن غادتين لو أن الشمس الساطعة في السماء انقلبت إلى انثى من بنات حواء لما استطاعت أن تكون في سحرها وجمالها ! من ورائهن عشرات الغلمان الذين أفرغت عليهم كأس الزينة بأنواعها ، يحملون أطباقا متألقة ملئت بالحلوى والنفائس والتحف .[/font] [font="]وبدأ الموكب الرائع يعوم في يمٍّ متلاطم من الخلائق ، الذين تدفقت بهم الجزيرة من شتى نواحيها ، يتطلعون في ذهول إلى تينك الغادتين اللتين طالما سمعوا بهما ، وحرمهم القصر رؤيتهما . ومضى الموكب يمخر العباب ... ويتهادى في وسطه ، والأعين كلها شاخصة في مشرق تلك الفتنتين إلى أن رسا أمام قصر تاج الدين ... وهو قصر شيده على أبدع ما تخيله من طرز . رفع أعمدته وفرش أرضه وجدرانه بأفخر أنواع المرمر المتألق ، وجعل أبوابه ونوافذه من الصندل والأبنوس النادر ، ثم حلىَّ أطرافه وسقفه بنقوش دقيقة من ماءالذهب الخالص .[/font] [font="]وما إن دخلت العروس إلى الردهة الخارجية للقصر حتى رفعت فوق عرش فخم من الأبينوس كان ينتظرها هناك .[/font] [font="]وفي مثل طرفة العين اعتلى ذلك العرش فوق عشرات الأيدي والأكتاف . يتهادى وسط ذلك الخضم من الناس ، وبين صخب ممتزج من الزغاريد وأصوات الدفوف والمعازف وعبارات الدهشة والإعجاب ، حيث صدِّر أخيرا في بهو الطبقة [/font][/font]
[font="] العليا من القصر ، بينما كانت الجموع الحاشدة من المدعوين يجلسون في جناح آخر منه ، تطوف عليهم كؤوس الشراب ، وقعد إلى جانبه ’’ ممو ‘‘ وقد بدا في مثل أناقته ومظهره . وراحت جزيرة بوطان كلها تسهر في ثمل ومرح . وتتمايل في أحضان اللهو والطرب . وتوارت من وجه الدهر كآبته ، وأخذ يطل على الناس بخالص من مظهر الصفو والسعادة . كؤوس الراح تدور ، ورنات العيدان وصوت الغناء والدفوف يشق جو السماء ، ومئات الجواري والشباب يرقصون رقصات جماعية فتانة تتهادى معها القلوب والمشاعر . وظهرت في تلك الأثناء أطباق فضية فوق أكف رجال من حشم القصر قد فاض كل منها بأكوام من الذهب والفضة وكرائم التحف ونفائسها ، حيث أخذوا ينثرون تلك الأكوام من علو فوق تلك الجموع الحتشدة في سائر جهات القصر و أنحائه ، فتتفرق فيما بينهم في بريق كأنها النجوم تتهاوى عليهم في غزارة من السماء . وعم كرم الأميرجميع الناس . وأدخل الفرحة والبهجة إلى جميع القلوب . فكم من فقير في تلك الليلة استغنى ، وكم من عديم أيسر ، ولك تزل هذه الأفراح على هذا المونال قائمة لا تهدأ إلى سبع ليال كانت كلها مجمعا للصفو والمرح ، ومقدمة بين يدي ساعة العمر ... ساعة الوصل بين ستي وتاج الدين .[/font][font="] [font="]وفي ساعة السحر من الليلة السابعة ، والأفراح دائرة وقلوب الناس مستطيرة - كان قد بلغ الشوف بالعروسين أشده ، واستعرت نار الشوق في ضلوعهما ، وامتزج وهجه بندى ذلك السحر ونسيمه ، وأخذ كل مظاهر الأنس والبهجة من حولهما يلمس فؤاديهما لمسة كاوية . يلتف بها النسيم ، ويقام من حولها الخشيم ، لا بد أن تتوهج وتتلف ...[/font] [font="]هنالك ... وفي لحظة من تلك للحظات المتموجة في نسمات ذلك السحر - انفتح بابا تلقاء الأريكة التي كان يجلس عليها تاج الدين ظهرت ورائه مقصورة مزينة تميس في فتنة حالمة ... وقد فاح من أركانها أريج العطر ، وأقيم في سائر أطرافها شموع تشع بأضواء مختلفة الشكل تنتشر في جوها نورا ناعسا ذا جمال وسحر ، كما نظمتفي بعض جهاتها أطباق صغيرة مذهبة شُكل فيها ألوان الحلوى ووسائل التسلية . ثم ظهرت في أيدي جمع من ذوي العروسين شمعة باسقة ، في طول القامة . وقد وشيت أطرافها بأغصان من ماء الذهب ، وتوج أعلاها بإكليل من الزجاج المنقوش يشع من ورائه لسان من النور المتوهج .. حيث أقاموها في وسط تلك المقصورة تلقاء نظر تاج الدين ، لتقول له بلسان حالها :[/font] [font="]’’ أيها العاشق الذي أفقده الشوق صبره وقراره .. يبدو أنك مثلي فما أقاسيه من ألم واحتراق ..[/font] [font="]إذن فقم من مكانك هذا الذي سئمته إلى حيث تنتظرك عروسك ...[/font] [font="]قم فقد آن أن تذوق بعد هذا الذي عانيته - نعيم الوصال ...[/font] [font="]قم فإن شمعتك مثلك في الإنتظار .. تقاسي مثل ما تقاسيه جوانحك ...[/font] [font="]من نار الإصطبار ...[/font] [font="]حسبك مثلي ذوبا واحتراقا ... وكفاك مثلي دموعا وتسكابا ...[/font] [font="]إن ذلك النور الذي ضاع ورائه قلبك .. هو ذا أمامك اليوم ... فلترتم فيأذياله ، كما تفعل الفراشة الملتاعة .. إذ تنثر روحها على أذيال اللهب .[/font] [font="]أيها الساعي ... طالما أتعبت قدميك ابتغاء الوصول إلى هذا المطاف ..[/font] [font="]أيها السالك .. كم أظمأت كبدك قصدا إلى الطواف ...[/font] [font="]لقد قدر الله لك كل ذلك في سهولة ... وحققه من أجلك في يسر ...[/font] [font="]ها هي كعبتك .. قد سعت نحوك . وها هو ذا مطافك قد تدانى إليك ...[/font] [font="]أيها العاشق السعيد .. قم لتطوف وتلتزم .. وتقبل وتستلم ...[/font] [font="]أيها العاشق الظمآن .. قم ، فالكأس مترعة .. وخمرتك في الإنتظار ... ‘‘ .[/font] [font="]وأدرك تاج الدين من هذه الإشارة وملابساتها أن قد حانت ساعة الوصل ولاح فجره .. فنهض من مكانه في سكينة وهدوء ، وسار نحو المقصورة التي فتح بابها في انتظاره ، وإلى جانبه ممو صديق سروره وأحزانه ، يده في يده وقلبه مع قلبه ، وقد اشتمل على سيف في جنبه ، وهو شأن ’’ حفيظ ‘‘ العروس في العادة . وعند الباب وقف ممو منحازا ليودع خليله ويشير إليه بالدخول ، وكانت لحظات ... توارى من بعدها تاج الدين وراء الباب الذي ما لبث أن [/font][/font]
[font="]أغلق ، بينما ظل صاحبه واقفا في مكانه ذلك كأنه حاجب أمين .[/font][font="] [font="]ودخل تاج الدين إلى المقصورة ، ليجد عروسه جالسة من وراء تلك الشمعة التي حدثته بدموعها حديث الحب والوصال .. حيث تصافحت عيناهما في سكون حالم وتعانق قلباهما في ذهول طويل ، وتبدلت نار ضلوعهما شهدا وخمرا . وباركت لهما تلك الشموع التي تحترق كؤوسا مترعة من الرحيق .. وشهدت وحدها أجمل لحظات الدنيا لدى الأحبة ...[/font] [font="]وظل العروسان ثلاثة أيام في انشغال عن الدنيا وما فيها ، يرقدان في مهد الأحلام ، ويستيقظان على الأحلام ، غذاؤهما شهد الوصال ، وشرابهما كوثر الشفاه [/font][/font][font="]
[/font][font="]أما ممو فإنه لم يشأ - حتى بعد أن انفض الجمع ، وانصرف الجميع - أن يبارح مكنه من قصر صديقه ، إذ كان سعيدا بأنيتولاها لصديقه المحبوب ، تقضي - إذا أريد أن تكون في أسمى درجات الإخلاص - بأن يظل مكانه كأي حاجب مخلص إلى أن يخرج العروس في اليوم الثاني أو الذي يليه ، ليتلقاه ويكون أول من يهنئه من أصحابه [/font][font="]
[/font][font="]وهكذا اتخذ ممو مكانه في ناحية من فناء صرح تاج الدين الذي كان عبارة عن حديقة غناء تحيط به من سائر جهاته وحملته دواعي إخلاصه على أن يلازم المكان طوال تلك الأيام الثلاثة ، فلم يكن يبارحه إلا بعد منتصف الليل ، أو إلى شأن ضروري له ، ثم لا يلبث أن يعود مسرعا إلى مكانه في انتظار خروج صديقه ليهنئه بحبه الذي سعد به .[/font][font="] [font="]والحق أن شعور ممو في تلك الفترة لا سيما بقية الليلة الأولى عندما انفضت حشود الناس ، وطوى بساط ذلك الأنس والصخب ، ولم يبق سواه واقفا عند ذلك القصر وسط سكون الليل - كان شعورا ثائرا ألهب شوق فؤاده ، وأحاطه بمعنى الوحشة والغربة ، وأيقظ آلامه التي بين ضلوعه، وأثار حبه العنيف الذي كان من غير شك أشد من حب تاج الدين . فإذا علمت أيضا بأنه كان قد لمح مليكة قلبه في تلك الليلة والليالي التي قبلها ولمحته أكثر من مرة ، ورأتها عيناه وهي غارقة إلى جانب أختها في أبهى زينة وحلي - أدركت أن شعوره إذ ذاك جديرا بأن يحدث أثرا جبارا في نفسه ، ومن بعيد أن يتحمله مهما آتاه الله وأمده به من جلد وصبر .[/font] [font="]غير أن بردا من الآمال المنعشة كانت تسري إذ ذاك في مشاعره ، فتخفف مقدارا من الآلام والثورة في نفسه وتجعل فكره ينشغل بنشوتها عن الإنتباه إلى تلك اللواعج الشديدة .[/font] [font="]فلقد كان لا يفتأ - وهو يجوب كالحارس في أطراف القصر وبين حدائقه - يفكر في الك الملاطفة التي أبداها الأمير نحوه تلك الليلة والليالي التي قبلها ، وقد أخذ يتراءى له من ذلك أكثر من دليل على أن آماله قد راحت تزدهر .[/font] [font="]إذ هل يمكن أن يعتبر شيء من ذلك التقدير الذي أبداه لما بينه وبين تاج الدين منعلاقة الود والخلة ، أو اختياره له خاصة أن يكون قرينه وحفيظه إلى جانبه في عرسه ، أو تلك الملامح الخاصة المفاجئة التي ظهرت في عنايته وعطفه عندما امره بأن يقعد إلى جانب تاج الدين ويتتزيى بمثل زيه وحلته ، هل يمكن أن يكون شيء من ذلك إلا أكبر برهان قاطع على أنه لن يمانع أبدا من أن يسعد هو الآخر ب’’ زين ‘‘ وعلى أن يتزوجه بها ، ويقيم لهما مثل هذا الحفل الرائع عند أول إشارة أو رجاء ؟!....[/font] [font="]بل من يدري ؟ فقد يكون الأمير لاحظ طرفا من هذا الحب المتمرد في فؤاده وأدركته رقة ورحمة لحرمانه من هذا الحفل البهيج الذي ينفرد فيه صديقه بالسعادة والهناء ، فأراد أن يشعره بالأمل ، ويدخل إلى قلبه البشرى ، فجعل من تصرفه هذا ألطف إشارة إلى ذلك .[/font] [font="]وأخذت هذه الآمال الجميلة تجعله يشرع في تصوير حياة سعادته وبناء أحلام حبه . وراح يفكر كيف أنه سيحاول تشييد صرح جميل كصرح صديقه ، وسيجعله يزدان بأبهى أثاث ويحيطه بفتنة خضراء كهذه الحديقة . بل لقد حدثته نفسه بأنه لا بد من أن يشرع في التفكير لتدبير كل هذا من الآن فما أضيق الوقت إذا تقدم إلى الأمير بعد أيام لخطبة حبيبة فؤاده ، وعاجله الأمير في كل شيء كما عاجل تاج الدين ، وما أشد على نفسه الصبر بعد ذلك في انتظار تهييء الجهاز وتدبير الأسباب .[/font] [font="]والخلاصة أن حلة ممو النفسية في تلك الأيام الثلاثة التي كانت أول عهد فراقه عن تاج الدين ، والتي قطعها منفردا في [/font][/font]
[font="]فناء قصره ينتظر خروجه ورؤيته - كانت أشبه ما تكون بقوس قزح من ألوان مختلفة من المشاعر والأحاسيس ، لا يمكن أن يسمو إلى تصوريها أي بيان . فلقد امتزج الحب القاسي العنيف بأد لهيب من الشوق وخالطهما الأمل المزدهر في أجمل صوره وأصدق إشراقه ، ثم انبثت كل ذلك مجتما في سائر مشاعره ، وراح يخلق له من بين ضرام الواجد أحلاما سعيدة ، ونشوة عطرة ، وابتهاجا بفرحة صديقه ووصوله إلى مبتغاه .[/font][font="]
[font="]وفي صبيحة اليوم الثالث خرج تاج الدين ... وكان أول ما دعاه إلى الخروج هو تذكره لممو . فلقد طالت غيبته عنه ، واشتاق إلى أن يراه ويطمأن على حالته مع قلبه الجريح .[/font] [font="]خرج من القصر .. وأخذ يسير في الحديقة متجها نحو باباها الخارجي قاصدا دار ممو دون أن يعلم أنه لا يزال واقفا هناك ، ولم ينتبه إلى وجوده إلا بعد أن لمحه على البعد وأسرع يجري إليه ..[/font] [font="]وهناك امتزج الصديقان في عناق طويل ، ونظر تاج الدين إلى وجه صديقه ، فأدرك أن هناك آلاما ولواعج في نفسه ، قد حاول طيها وجمعها في زاوية صغيرة من قلبه لكي يتسع للابتهاج التام بفرحة أخيه ... فتنحى به جانبا من الحديقة وأخذ بكفه قائلا :[/font] [font="]’’ أقسم لك يا صديقي أنني لو وجدت أي سبيل لتقديم سعادتك على سعادتي ولو ظهر لي أي طريق يمكنني أن أفتدي فيها هنائي وحبي بلحظة واحدة من حبك وسعادتك لما توانيت عن ذلك . ولكنك تعلم أن هذه هي السبيل الوحيدة لوصول كلينا إلى آمالنا التي علق القضاء قلبينا بها . وثق أنني لن أستسيغ طعم سعادتي التي تهنئني بها إلا بعد أن يسعدني التوفيق في إيصالك إلى مناك وآمال حبك .‘‘[/font] [font="]وهكذا ظل الصديقان برهة من الوقت يتبادلان التهنئة والمصابرة . هذا يهنئه من كل قلبه ويشعره بفرحة فؤاده من أجل سعادته ، وذاك يواسيه ويحمله على الصبر ، ويبشره بقرب وصاله هوأيضا .[/font]
[font="]الصديق ...؟؟؟؟ ألا ما أثمن الصديق الذي يتسع قلبه المحروم للابتهاج بسعادتك ، ويقيم وراء صدره المكلوم عرسا يوم فرحك .[/font] [font="]هذا الصديق الذي منحتك الدنيا مثله فإفده بسائر مظاهرها ومن فيها ، فإنما هو سراج من أجلك في الظلماء ، وهو أمل لقلبك عند اليأس .[/font][/font]
[font="]الكون كله منذ فجر الحياة مسرح للصور المتضاد والمظاهر المتناقضة . فهذا الليل والنهار ، والنور والظلام ، هذه الشمس المتوهجة والظلال الوارفة ، هذا الهجر والوصال ، والمآتم والأعراس ، هذه المآسي والأفراح ، وهذا البؤس والنعيم ، هذه الورود الناعمة بين أشواكها الدامية - كل ذلك نماذج لمشهد هذا الكون المتناقض أبدعه الله كذلك ليوجد في كل من الخير والشر معناه ، وليستبين كل منهما بالآخر ويتميز كل عنصر بنقيضه ثم لكي تشيع في الكون روح الحركة والكفاح ولترتبط هذة الخلائق بنظام السعي والتعاون .[/font][font="] [font="]ويأبى هذا السنن في الكون إلا أن يجري في قصتنا أيضا ، فيجمع فيها عنصري الخير والشر ويمزج فرحة السعادة بدموع البؤس ... وعنصر الشر في هذه القصة هو حاجب خاص لديوان الأمير ، أما اسمه ’’ بكر ‘‘ وأما اسم أبيه فلم يكن يعرف من هو حتى يعرف اسمه . كانت لهذا الحاجب نفس تنطوي على أشد ألوان الخبث والمكر . وكأنما غذيت روحه بحب الفتنة فهو يتعشق الولوج فيها حيثما لاح له بابها . ولم يكن في مظهره قصيرا وقميئا فقط ، بل كان إلى ذلك أجرد الشكل باهت السحنة ذا عينيت تشعان بمزيج من الحقد والكراهية والحسد .[/font] [font="]وكثيرا ما كان يقترح تاج الدين للأمير أن لو استغنى عن هذا الماكر الخبيث واستبدل به آخر يكون أليق بالقصر ، وأشرف منه خلقا وأصلا . وكان يقول له عنه فيما يقول :[/font] [font="]’’ ... إن الحاجب يا مولاي وإن كان لا يرجى منهم فوق ما يرجى من أن الكلاب فيها طبيعة الإخلاص والوفاء أما هذا فإنه لا يعنيه شيء سمى أن يكون وغدا خبيثا ...‘‘[/font] [font="]فكان الأمير يهز رأسه لكلامه ، ثم يبتسم إليه قائلا :[/font] [font="]’’ إن حياتنا يا تاج الدين تضطرنا إلى سفيه من هذا النوع ... فإن لنا خارج هذا القصر شؤونا ومصالح ... ولنا أيضا هناك مشكلات ذات عقد ... قد نحتاج إلى متاعب كثيرة في حلها لو لم نحو من حولنا سفهاء من هذا القبيل . وإن كل هؤلاء الحجاب والحراس الذين تراهم من حول قصور الأمراء والحكام ، لا يراد منهم أن يكونوا حجابا بمقدار ما يراد منهم أن يكونوا أداة بارعة لتسيير شؤونهم وحل معضلاتهم . أما أنه غير ذي نسب وأصل ، فلن يضير شيء من ذلك في مصالحنا ما دامت تقضى ، وأما أنه ذو فتنة و خبث فإن شيئا من خبثه وفتنته لن يتطاول إلينا بمكروه أو ضرر .‘‘[/font] [font="]وهكذا أصر الأمير على استبقائه ، ولك يستطع تاج الدين أن يقنعه بوجود ما يدعو إلى طرده والاستبدال به .[/font] [font="]ومضت الأيام لك يَخْفَ فيها على بكر أن تاج الدين يكنُّ له كراهية وبغضا ، فطوى في قرارة نفسه أمرا ، وراح يضع بين عينيه خيوطا لفتنة يثيرها على رأس تاج الدين ... ومضى يتحين لذلك الفرص السانحة ، إلى أن كانت ذات أمسية ....[/font] [font="]كان الأمير إذ ذاك جالسا على انفراد في جانب من حديقة قصره ، وليس من أحد حوله إلا حاجبه بكر الذي كان منهمكا على مقربة منه في تقليم بعض الأغصان اليابسة من أشجار الحديقة وتنسيقها .[/font] [font="]ولاحت لبكر فرصة سانحة عندما سأله الأمير : ’’ أجاء تاج الدين في ذلك اليوم إلى القصر أم لا ؟ ‘‘ ... فقد أجابه قائلا :[/font] [font="]’’ إن تاج الدين يا مولاي لم يمر بالقصر منذ أربعة أيام .‘‘[/font] [font="]وسكت هنيهة ، ثم عاد فقال :[/font] [font="]’’ كأني أرى يا مولاي أن تاج الدين لم يعد يفرغ للتردد على الديوان كسابق عهده ‘‘ ![/font] [font="]فسأله الأمير :[/font] [font="]’’ وما الذي أصبح يشغله ؟ ‘‘ [/font] [font="]’’ لا أدري ، قد يكون مجرد أنه لم يجد داعيا لأن يتردد كثيرا ...‘‘ ثم انتهز فرصة تفكير بدت ملامحه على وجه الأمير ودنا إليه قائلا :[/font] [font="]’’ الواقع يا مولاي أنه لم يكن يمكن أحد من الناس أن يصدق بأن الأميرة ستي يمكن أن تقدم رخيصة بهذا الشكل لمثل تاج الدين في حين أن جميع أمراء كردستان وسلاطينها كانوا يتمنون هذا الشرف لقاء جميع ما تمتد أيديهم من مجد [/font][/font]
[font="] ومال ‘‘.[/font][font="] [font="]فأجابه الأمير وقد بدا عليه التقزز من كلامه:[/font] [font="]’’ ومن يكون هؤلاء الذين يحسبون ويظنون ..؟ بل من يكون أولئك الأمراء والسلاطين أمام كل من تاج الدين وشقيقيه ..؟ إن كل واحد من هؤلاء الأشقاء الأبطل يساوي عندنا في يوم واحد من أيام الحرب الكريهة جميع ذلك الركام من الأموال والسلاطين ‘‘.[/font] [font="]فلما سمع بكر هذه اللهجة من الأمير أيقن أن ذلك الإسلوب لن يفيده فيما يريد . فغير مجرى الحديث وقال وهو يتشاغل بما بين يديه :[/font] [font="]’’ لا شك أنه يجمل بالسادة أن يشجعوا غلكمانهم على المزيد من الاستقامة والخدمة عن طريق إكرامهم وإشراكهم في مجالس صفوهم وأنسهم ، ولكن بشرط أن لا ينسيهم الأنس حقيقتهم ولا يسكرهم عن أداء واجباتهم ، وأن تظل انحناآتهم للأوامر في ساعات الصفو والمرح ، موجودة بنفسها عند الشدائد وفي ساعة الكر والفر .[/font] [font="]غير أنني أخشى يا مولاي أن يكون بعض هذا التفضل منصرفا إلى غير أهله فتكون نتيجته الكفران والطغيان . إن البخيل يا مولاي لا تليق بين يديه النعمة والثراء ، والحقير لا يلائمه ...‘‘[/font] [font="]وهنا قاطعه الأمير بحدة شديدة قائلا :[/font] [font="]’’ صه أيها لاقذر ، فما الحقير غيرك . إنني أعلم من هو تاج الدين في حبه وإخلاصه ، وأعلم ما يجب عليَّ فعله ، فلا تتماد فيما ليس من شأنك ‘‘ ...[/font] [font="]فتصاغر بكر حول نفسه ، وتمتم قائلا :[/font] [font="]’’ لقد كنت أظن فيه هذا الإخلاص ...لولا أني اطلعت منه على أمر لعل مولاي الأمير لم يطلع عليه ..‘‘[/font] [font="]فقال له الأمير في اشمئزاز :[/font] [font="]’’ وما هو هذا الذي اطلعت عليه ؟ ‘‘[/font] [font="]- ’’ لقد أصبح يا مولاي منذ أوليتموه شرف هذا القرب يستقل بالتصرف في كثير من شؤون القصر الخاصة ... ولقد كان أول ما أذهلني من تصرفاته في ذلك هو أن راح يقدم الأميرة ’’ زين ‘‘ إلى صديقه ممو ، ويده بتزويجها منه ...!‘‘[/font] [font="]وما إن سمع الأمير هذا الكلام حتى أخ الذهول منه كل مأخذ ، وهب من مكانه يدير عينيه فيما حوله من الفضاء قائلا :[/font] [font="]’’ ماذا ؟ تاج الدين ... يتصرف في مثل هذا الشأن دون أن أعلم ..؟ تاج الدين يقوم بتزويج شقيقتي لمن يريد . دون أن يستشيرني على الأقل ؟ أم يبدو والله قد أسرفت في العطف عليه حتى لم تبق في نفسه أية رهبة مني ولا خوف ‘‘.[/font] [font="]فدنا منه بكر قائلا :[/font] [font="]’’ أليس يدري مولاي من هو تاج الدين ..؟ إنه ذلك المعتز بنفسه ، المغرور برأسه حتى قبل أن يحظى من مولاي بهذا العطف ... فكيف وقد نُفح غروره اليوم ؟ وإن أشد ما أخشاه والله يا مولاي أن يكون هذا الرجل يهدف من وراء استبداده الطائش إلى غرس نفوذه ونفوذ ذويه في رحاب القصر عن طريق المناسبة والمصاهرة ، ليعلم بعد ذلك الإمارة لنفسه ، ويسلسلها من لدن آبائه وأجداده ..‘‘ [/font] [font="]وعاد الأمير فجلس في مكانه وهو يقول :[/font] [font="]’’ لقد كان لي عزم والله على أن أجعل زينا من نصيب ممو ، وأن أقيم أفراحهما عما قريب . ولكن ها أنذا أقسم اليوم بفخر أجدادي فوق هذه الأرض ألا أدع ذلك يكون ، ولو جرت في سبيله سيول من الدماء حولي . فليتقدم إليّ إن شاء كل من ضجر من حمل رأسه ليتوسط أو يستعمل نفوذه في ذلك .‘‘[/font] [font="]وهكذا أقام الأمير ، بفتنة حاجبه الخبيث ، أصلب حاجز بينه وبين كل من كانوا يريدون أن يتوسطوا إليه في تزويج ’’ زين ‘‘ لصديق تاج الدين ، وهدم آخر ساف من الأمل في إقامة فرح هذين الحبيبين ، ولكن دون أن يعلم ممو أو تاج الدين أو أي واحد من أصدقائهما هذه الوشاية التي تسببت في ذلك .. وهذا الدور الخبيث الذي لعبه بكر للوصول باأمير إلى تلك القسوة في الموضوع . غاية الأمر أنه كان يصد إليه كل من كان يفاتحه في هذا الشأن ، أو يحاول الرجاء أو
[/font][/font]
[font="]التوسل إليه لتزويج ممو من شقيقته زين وكان آخر ما قاله في مجلس ضم تاج الدين وشقيقيه وجمعا كبيرا من أصدقائهم ، يحاولون فيه استرضاءه بشتى الوسائل ، هو أن قال :[/font][font="] [font="]’’ ... تأكدوا جميعا أنه قد يمكن أن تظل زين طوال حياتها عزبة في القصر ، ولكن لا يمكن أبدا أن أجعلها يوما ما من نصيب ممو ولا داعي أيضا إلى أن تعرفوا سببا لذلك أكثر من أنني هكذا أردت . ولا داعي أيضا إلى أن تعيدوا بعد اليوم إلى سمعي هذا الحديث ، إلا إذا رأيتم داعيا إلى إثارة شر أنتم اليوم في غنى عنه ..‘‘[/font] [font="]ولقد كاد تاج الدين أن يعلن للأمير إذ ذاك أنهم ليسوا في غنى عن هذا الشر ما دام هو وحده الثمن لما تقدموا إليه برجاء تحقيقه ، لولا أنه كان ذا أمل في تطورات المستقبل التي قد تسهل الموضوع ، ولولا أنه كان يرجو استرضاء الأمير يوما ما عن طريق السياسة واللين عوضا عن الثورة والشدة .[/font][/font]
[font="]الأيام تمر على ستي وتاج الدين صافية مشرقة ، والدهر يبتسم لهما بألوان من الصفو والسرور ، ويمد من حولهما حياتهما الجديدة ظلالا وارفة من النعيم ، ويقدم كؤوسا مترعة من السعادة التي أنستهما أيام اللوعة والفراق .[/font][font="] [font="]والحبيبان الآخران لا يزالان في لظى من نار صبرهما وحرمانهما . يقضي كل منهما الليالي والأيام في صومعة انفراده لا يبصر من حوله أي مؤنس ولا ينتهي إلى سمعه صوت أي راحم .[/font] [font="]والهموم إذا لم تجد صاحبا يخفف من آلامها ، والزفرات إن لم تصادف مواسيا يبرد من حرها ، فأنى لصاحب هذه الهموم والزفرات أن يتحمل ؟ وأنى للتجمل والهدوء أن يجد وسيلة إلى القلب ؟ لا بد للأفراح لكي تصبح مشرقة ، ولا بد للأحزان لكي تكون متحملة من صاحب وشريك فيهما . وإلا فما أحرى بالهموم التي تحيط بها الوحشة والنفراد أن تصبح سببا للهياج والجنون .[/font] [font="]كان تاج الدين فيما مضى أليف ممو لدى سروره وأحزانه فكان خير طبيب ومواس لقلبه كلما هاج به الشوق . وكانت ستي أيضا هي وحدها مأوى الآلام والأفراح لأختها زين ، فمدامعها لا تنسكب إلا بين أحضانها ، وسرورها لا يتم إلا إلى جانبها .[/font] [font="]أما اليوم فقد مضى هذان الاثنان إلى سبيل سعادتهما ، وانشغل كل منهما بالفرحة بالآخر ... وبقي ممو لوحدته الموحشة ، يشكو فلا يجد من حوله من يتوجع إله ، ويتأوه فلا يرى أمامه من يواسيه . كما بقيت زين أيضا منطوية على آلامها دون أن يدرك أحد ما بها ، فهي دائما مختلية في غرفتها ، تسكب مدامعها بين ظلمات الوحشة والنفراد ، تتأوه آنا من وحشتها في ذلك القصر ، وتبكي آنا آخر حظها التعس المشؤوم .[/font] [font="]ومضى على زين من عرس أختها أربعون يوما ... وهي تقاسي آلاما ولواعج تحرق ضلوعها ، ولا تكشف إلى أحد من المخلوقات سرها .[/font] [font="]أربعون يوما ... كانت زين في خلالها شاردة اللب ، قد اتخذت من غرفتها محربا للبكاء والزفرات ، طعامها كله غصه ، وشرابها مزيج بالدموع .[/font] [font="]أربعون يوما ... بدت من ورائها تلك الغادة التي طالما سحر جمالها وأسكر ، وقد ذبل منها ذلك الجمال وتهدل ، وعاد كأنه البدر إذ يسري بعد تألقه نحو الرقة والذوبان .[/font] [font="]ولم يعد يخفي على إحدى فتيات القصر وجواريه ما انتهى إليه حالها . فكن يعجبن من أمرها ، ويرثين لشأنها . ولم تكن تشك إحداهن في أنها تقاسي هذه الآلام لفراق أختها التي تحبها حبا شديدا .. فكانت كثيرا ما تنتهز إحداهن المناسبات لتخفف عنها وطأة هذه الذكرى لشقيقتها ، ولكن دون أي جدوى .[/font] [font="]وفي ذات يوم تجمعن كلهن ، وذهبن إليها في غرفتها التي تظل مختلية فيها ، وجلسن من حولها يواسينها ويقلن لها في رقة وعطف :[/font] [font="]’’ كم لك أيتها الأميرة الصغيرة تسكبين هذه الدموع في غزارة وألم ؟! وإلى متى تعيشين مع هذه الأحزان وتتوسدين هذا الهم ؟! [/font] [font="]إن أختك وإن تكن فارقتك غير أنها انطلقت سعيدة مبتهجة بشريك حياتها . فبأي سبب تتقلب هي هناك في سعادتها وأنسها ، وأنت ههنا تجلسين بين الدموع والأجزان ؟[/font][/font][font="]
[/font][font="]حسبك يا مولاتي ... حسبك هذا الجزع الذي لا داعي إليه . قومي .. فاقتلعي من قلبك هذه الهموم والآلام ، وأزيحي عن مفاتنك قتام هذه الأحزان . جففي لحظيك من هذه الدموع ليعود إليهما سحرهما ، وأزيلي عن وجهك ضباب هذه الوحشة ليرجع إليه إشراقه ... اغسلي عن هذا القدح الرقراق من آثار الدموع ليمتلىء كما كان بياوقت الرحيق ، فقد آن أن تعود السكرة إلى الرؤوس وتطوف النشوة بالقلوب . دعي هذه الغرفة التي جعلت منها بزفراتك جحيما ، ولينبعث كم هذه القوام رشاقته وسط أبهاء القصر وقيعانة فقد طالت عليه فترة الكمود . مزقي عن الورود حجاب هذا الإنقباض ليتجلى بهاؤها . دعي هذه الجدائل تنفرد متهادية على كتفيك في دلال ، وائذني للسوالف من حول صدغيك والخصل الملتوية من فوق جبينك أن تهتز بهما نسمات الإغراء . أعيدي إلى رونق هذا النحر عقده ، وليتدل على الجانبين من [/font]
[font="] ليل هذا الشعر قرطاه .[/font][font="] [font="]هذه الدنيا وزينتها ... هذه الطبيعة وبهجتها .. هذه الأيام من العمر التي تطل عليك بثغر ملؤه البهجة والسعادة .. لا تدعي كل ذلك يفوتك وأنت مطرقة.. لا تسكري نفسك عنها بكؤوس الدمع والأحزان .[/font] [font="]الحياة جميلة يا مولاتي ، وأنت أجمل منها . والدنيا من حولك مشرقة ، وإشراقك أتم منها . فانهضي ... وافرحي .. وابتسمي .. ليتم في الحياة الجمال .. ويتكامل للدنيا الإشراق ..‘‘[/font] [font="]وهنا سكتت الفتيات وقطعن حديثهن . فقد أخذ يتغلب على كلامهن نشيج صدرها ، واختلطت أصواتهن في صوت بكائها ، وراحت تجيب حديثهن بوابل من الدموع لم تسكب مثله إلى ذلك اليوم .[/font] [font="]ولا بدع ، فالشوق نار في الفؤاد لا تزيده النصيحة إلا اتقادا ، وهو سر مستكن في الجوانح لا يفيده العتب واللوم إلا افتضاح . لا سيما إن كان هذا الناصح لا يدري سر الحزن والألم فيمن ينصحه ، فهو يلقي على سمعه كلاما بعيدا عن دنيا قلبه وآلامه ، لا ريب أن ذلك ا يزيد في نفسه إلا شعور بالغربة وإحساسا بالوحشة والآلام .[/font] [font="]ووجمت الفتيات في حزن وأسف ... وتعلقت أنظارهن بشفتي زين ينتظرن منها أية كلمةتشير بها إلى سبب كل هذه الحرقة والعذاب . ولكن عبرات عينيها ، ونشيج صدرها ، لم يكن شيء من ذلك يدع لها فرصة لأي حديث .[/font] [font="]ثم نهضن جميعا في ندم شديد مما أقدمت عليه ... وتسللن من غرفتها الواحدة تلو الأخرى في هدوء ، وقد ارتسمت على ملامحن مظاهر الدهشة والإنكسار .[/font] [font="]وأغلق باب غرفتها بعد أن خرجت آخر واحدة منهن ... فرفعت وجهها تحدق النظر فيما أخذ يحيط بها من رهبة الوحشة والانفراد ، وأخذت تتراءى من حولها أطياف تلك الفتيات ، وقد انقلب كل واحد منها إلى أشباح متجسدة من الهموم والغموم .. وأحست من قرارة قلبها المحطم أن هؤلاء هم وحدهم أصدقاؤها الذين ألفوها وألفتهم ، وخالطوا كل حبة من قلبها ونفسها . فراحت تتأمل من حولها تلك الأشباح ، وأخذت تحدثها قائلة :[/font] [font="]’’ مرحبا بكم أيها الأصدقاء .. أيها الأصدقاء للنفوس البائسة والندامى للقلوب المكلومة .. أيها الشركاء في سرِّ ما رواء الجوانح المعذبة ، وأطياف الوسن لعيون الخواطر الحزينة ... يا كوؤس الراح للحلوق المريرة ، ومظهر البهجة أمام العيون القريحة ...[/font] [font="]العشاق جميعهم قد وصلو إلى محاريب آلامهم ، والسالكون كلهم قد انتهوا إلى مباهج أنسهم وسعادتهم . وها هو ذا قلبي المهجور ساكن فيما بينكم خال من اجلكم ، لا يجوب أحد غيركم في أركانه .[/font] [font="]لكم اليوم أن ترتعوا فيه كما تشاؤون وان تتصرفوا به كما تريدون ، وأن تتجازوا ذلك إلى كل جهة من مشاعري وطرف من جوارحي . عيناي ... سأتخذ منكم شعاع رقادهما ، شفتاي ... سأملأ منكم كؤوس خمرها ، أفكاري ... سأجعل إليكم في أيامي السود ، وما أشد شوقي إلى الأنس بكم في ليالي الظلماء .‘‘[/font] [font="]ثم يلوح لعينيها بين أشباح تلك الهموم خيال ’’ ستي ‘‘ وكأنها جالسة إليها ، تتواسيان وتتشاكيان كما كانتا في أيامهما السابقة ، فتتألق عيناها نحو ذلك الوهم ، وتمضي إليه لتعانقه قائلة :[/font] [font="]’’ أختاه ... يا روح زين ونور بصرها ، يا جليسة أفراحي وهمي ، وشريكة سر قلبي ، يا عيش احزان نفسي وجناح المسرة لروحي . لله هذا الدهر الذي جمع نفسينا في طبيعة واحدة ، ثم فرق بيننا في الحظ والسعادة ؟ ما أعظم شكري لله على أن آتاك الحظ الذي تريدين ، وأسعدك بالطالع الذي كنت تحلمين . فليبتسم لك الدهر ، فإن في ابتسامته عزاء لهمي . ولتسعدك الحياة ، ففي إسعادها تهوين لشقائي .[/font] [font="]أما حظي ، فمهما اشتد سواده الذي به فلن يتجاوز القسمة التي يجب أن أرضى بها وأسكن إليها . كانت قسمتي في الأزل هذه الهموم التي تحيط من حولي ، والبؤس الذي يقيم في نفسي . ذلك هو المقدر المسطور .. صفو الحياة وأفراحها من أجلك ، وحزنها وآلامها لقلبي . لك تاج الدين الذي أعطاك الدنيا فيه أفراحها ، ولي ممو الذي قدمته إليَّ في همومها وشقائها . فللّه مني ما شاء من قبول بحكمه ورضى بقسمته .‘‘[/font] [font="]أما الليل فكانت في معظم أوقاتها تأبى أيضا إلا أن تسهر مختلية في غرفتها . وكثيرا ما كان يحلو لها أن تجلس إلى جانب شمعة من الشموع المتقدة في أنحائها ، تتأمل احتراقها ، وقطراتها التي تجري كالدمع من جهاتها ، وسيرها نحو
[/font][/font]
[font="]الذوبان والنتهاء . فتشعر في أسى ولوعة ليمة قد غدت شمعة أخرى بين هذه الشموع ، تسير مثلها نحو الاضمحلال و الانطفاء . ثم تثبت نظرها مطرقة في تلك الشمعة وتحدثها قائلة :[/font][font="] [font="]’’ أيتها الأخت القائمة حيالي ، المحترقة بمثل ناري . لك أن تغتبطي وتحمدي الأقدار على ما بين آلامي وآلامك من فوق مثل ما بين مشرق الشمس ومغربها . نارك إنما تعلو ظاهرا منك فقط ، وناري يتأجج لهيبها من أعماق قلبي وباطني . نارك إنما تمس منك خيط هذا اللسان ، ثم لا تتجازه ، وناري يسري لظاها وراء جميع مسالك روحي ، ويقيم لهيبها حربا في كل جوانحي وجسمي .[/font] [font="]هو في أعلاك نور يشع من حولك بهجة وضياء . وهو في باطني دكنة تملأ ما حولي ظلمات وقتاما .[/font] [font="]هو في لسانك سحر من البلاغة والتعبير والبيان ، وهو في جوانحي وبين ضلوعي آلام كاوية تفقدني النطق والكلام .[/font] [font="]ثم أين أنت من أجيج ناري وزفرات نفسي إذ ترقدين منذ لمعة الفجر إلى المساء ، زفرات كاوية ... ولظى مستعر .. وأجيج متقد .. لا يكاد شيء من ذلك يريح نفسي ساعة من ليل أو نهار ، ليس من فم يطفئه ، أو نسمة تخمده .‘‘[/font] [font="]وتلمح أثناء اطراقتها في ذلك الليل فراشات تطوف حول تلك الشموع ، فتنظر إليها بعينين زائغتين بالدمع قائلة :[/font] [font="]’’ أيها الطائر الهارب من عش الفراق ، والبلبل المولع بأزاهير اللهب ، أيها الحجة الصائبة على المدعي الكاذب ، والباذل روحه رخيصة في شجاعة وشوق .[/font] [font="]قل لي ، ألا يدركك الملال ساعة من هذا الدوران ، ألا تشعر بتعب من هذا السعي المرتعش الدائب حول هذا المطاف ؟[/font][/font][font="]
[/font][font="]ولكن أسفا .. أسفا أن يقارن المتجه نحو الموت برزانة وجأش بذاك الذي يسعى إليه في ضجر مرتعش .[/font][font="] [font="]كان عليك أن تعلم أن هذا الهلع في السعي مظهر للجزع المعيب ، وأن ارتعاشك الدائب طيش لا ينبغي ، وأن تعجلك للفناء قبل أن ينضج منك الجسم بشوقه إنما هو تخلص من الصبر وآلامه .[/font] [font="]هلا قعدت تصبر مثلي ، إلى أن يذوب الجسم في بوتقة الحشا ، وتتلاشى المادة في ضرام الروح ؟ إذا لبدلت منك هذه الحقيقة الأرضية بروح القدس والخلود ، ولعادت روحا صافية في كأس شفافة من النور . وإذا أمكنك أن تعانق هذا اللهب من دون احتراق وأن تتقلب في جنباته من غير اكتواء .‘‘[/font] [font="]وهكذا كانت تمر حياة زين ... خلوات مع الأشباح والأطياف وحديث مع الخيالات والأوهام ، يطوف كل ذلك بها ، ثم يستقر في ذهنها وقلبها وكل مشاعرها شيء واحد ... هو اسم ممو ... هو حظها المنكوب الذي أبعداعن أليف روحها ، وأخرجها من أفراح الدنيا ونعيمها .[/font][/font][font="][/font]
[font="]أما ’’ ممو ‘‘ فقد كان عديم الصبر والقرار حتى عندما كان صفيه لا يزال إلى جانبه ، يشركه في ألمه ووجده ، فكيف به اليوم ، وقد افتقد من جانبه الصديق ، وغاب عن قلبه الأمل ، ولك يبق إلا خيال ’’ زين ‘‘ يشع محياها في ذهنه من خلف ضباب اليأس الأليم القاتل ..!![/font][font="] [font="]لقد كانت فترة وجيزة من الأيام ... سرعان ما إختفى فيها ذلك الشاب الرائع ، المعتز بقوته وشخصه ، المعجب ببطولته وبأسه وظهر من ورائها إنسان آخر ذو ملامح ذابلة . ينظر ما حوله بعينين شاردتين ، كأن فيه عتها أو جنونا ، يهيم على وجهه بياض نهاره وسواد ليله ، متنقلا بين الآكام والتلال ، يذرع مرة شواطئ دجلة جيئة وذهابا ، ويتسلق أخرى ذرى الجبال صعودا ونزولا . لا يقر له مكان في أي جهة ، ولا يكاد يستأنس بأي انسان .[/font] [font="]إنه ممو بعينه .. ذلك العاشق الذي صدمه اليأس في قلبه صدمة واحدة بعد أن شبت الآمال في نفسه ، وكادت تزدهر .[/font] [font="]وهو بعينه أيضا صفي تاج الدين .. إنه اليوم يراه فلا يكاد يتبينه ، ويجلس إليه ، فلا يرفع رأسه عن إطراقته ، ولا يكلمه بغير آهاته وزفراته .[/font] [font="]وهو بعينه ذاك الذي كان سكرتيرا في ديوان الأمير .. إنه اليوم يدخل الديوان ، ويرى الأمير أمامه ، فلا يكاد يستطيع أن يخفي نشيجه .[/font] [font="]ولكنه مع ذلك ظل يكتم سر دائه عن كل مخلوق ، إلا صفيه تاج الدين الذي لم يعد يملك أي وسيلة في محاولة إسعاده .[/font] [font="]أما حينما يهيج به الوجد ويضيق به الكتمان فقد كان يأخذ سمته إلى خلوات الشطآن ، أو في بعض سفوح الجبال ، حيث يبعث هناك ما شاء من زفراته وأناته ، ويسكب كل ما في عينيه من دموع ويتخذ من الرياح السارية من حوله ، والمياه الجارية من أمامه جلساء يشكو إليهم همه ويشرح لهم ناره ...[/font] [font="]كان يمضي ساعات على شاطئ دجلة ، جالسا إليه في حديث طويل ، يسكبه على صفحته الرقراقة ، قائلا :[/font] [font="]’’ أيها المتدفق كدمعي ، الهائج مثل نار شوقي .[/font] [font="]ما لي لا أراك في ساعة من ليل أو نهار إلا هائجا زخارا ، لا يقر لك قرار ، ولا يهدأ منك البال ؟![/font] [font="]أم يبدو أنك تعاني مثلي ويلات هذا العشق وجنونه ، وينطوي سرك على حبيب أفقدك القرار والهدوء فهي الذكرى تثير في طيات جوانحك هذه الثورة الدائبة ؟[/font][/font][font="]
[/font][font="]ولكن من يكون معشوقك غير هذه الجزيرة الخضراء التي تظل دائرا من حولها ؟ ففيم الهياج إذا ؟ وهي نائمة بين ذراعيك منازلها مستقرة في قلبك ، يمناك ملتفة منها حول الخصر ، وشمالك مبسوطة فوق عقد النحر .[/font][font="] [font="]كل هذا ، ثم لا تشعر بالنعمة ووجوب شكرها ! ... تظل ترغي وتزبد . هياجك يعلو إلى عنان السماء ، وأُوراك ينبعث صداه إلى ديار بغداد ! ألا قل لي ، ما الذي تبغيه بعد كل ما أنت فيه ؟ وأي أمل ضاع منك ، حتى تظل حول نفسك من أجله ؟[/font][/font][font="]
[/font][font="]لقد كان أولى أن يكون نحيبك هذا في حلقي ، وهياجك في نفسي ، ولقد كنت أجدر منك بأن تعلو إلى السماء زفراتي ، وأن ينبعث حول هذا البلد أوار قلبي .[/font][font="] [font="]فأنا الذي أظل متحاملا بقلبي على خنجر قد غرس فيه نصله . تراءى لعيني منه ، إذ كان بعيدا ، بريق ماء عذب ، ثم استقر منه في فؤادي سم زعاف ليس له دواء له اليوم ![/font] [font="]هو يا دجلة قلب مجدب ، أحرقه وهج اليأس ، فما ضر لو نظرت إليه مرة أو مررت عليه في تطوافك حول هذا البساط الأخضر الموشى بالورود وأزهار النرجس والبنفسج ؟ فربما كان أخضرّ فيه أيضا غصن ، أو هفت بين سمومه نسمة باردة .‘‘[/font] [font="]ثم يلتفت إلى الرياح التي تظل هافة من حوله ، فيتخذ منها رسولا إلى مليك قلبه ، ويروح يلقنها رسالته إليه قائلا :[/font] [font="]’’ أيها النسيم الساري في رقة الروح ، المفتوح أمامه باب كل عزيز وممنوع . هل لك أن تلتفت إلى رجاء يعرضه عليك هذا المقيد الحبوس ؟ إن كان كذلك ، فامض أيها النسيم في اتجاه هذا المشرق ، فسترى فيه شدة الروعة والجمال ، ومحراب سعادتي وأنسي . فإذا ما وصلت فقف بالأعتاب أولا لتقبلها . ثم ادن إلى مليك ذلك الجمال ، ولكن في تواضع [/font][/font]
[font="] ولطف ، لكي تؤدي بين يديه الثناء اللائق وتقوم له بالتعظيم الملائم . ثم تراجع خطوات إلى الوراء لتعرض عليه رسالة الروح المستعرة .. قل له إنها من مدعوك الذي دمه مداد قلمه ، وجسمه المتقد صفحة كتابته .[/font][font="] [font="]فإذا ما رأيت رقة بدت ملامحها على وجهه فقل له في أدب ولطف : إنه يا مولاي بائس مسكين .. عاش فترة في حلم قصير من عطفك ، ثم سرعان ما تبدد الحلم وضاع العطف ، وغدا يتخبط في دياجير البؤس والشقاء . إنه ليس يدري والله أي ذنب ارتكبه ، اللهم إلا قلبا يعرف أنه كان يخفق بين جنبيه ، وهو اليوم هارب منه قد افتقده منذ أمد طويل . ربما كان وهو يخفق بين جوانحه صاحب هوس وهوى يميل إليه ، وربما كان قد اقترف إذ ذاك إثما أو جنى ذنبا ، كأي واحد من هؤلاء الذين خلق معهم النقص والسهو والنسيان . نعم ، للمالك يا مولاي أن لا يتجاوز عن عصيان عبده ، وأن يتصرف كما يشاء في عقابه . ولكن هل من البعيد أيضا أن يتغمده بعطفه ، وأن تدركه الرحمة له فيدينه إلى ظل حماه ولطفه ..؟[/font][/font][font="]
[/font][font="]ثم لا تنس أيها الصبا أن تعود إليّ بغبار من تراب ذلك المكان . عد إليّ ولو بقليل منه ، فإن ذراته رائحة قلبي وبلسم دائي .‘‘[/font][font="] [font="]أمّا أشد ما يكون تألما واحتراقا ، فذلك عندما يُرى منطويا على نفسه مطرقا في غيبوبة عن كل ما حوله من مظاهر الدنيا وصور الطبيعة وأفراد الناس .[/font] [font="]إنه في تلك الساعة يكون في مشادة دامية مع قلبه . قلبه الذي أدبر عنه مرة واحدة ولم يعد يتعرف إليه . إنه يظل يخاطبه في توجع شديد قائلا :[/font] [font="]-’’ أيها الخائن الغدار ... قل لي .. هل تتذكر ..؟[/font][/font][font="]
[/font][font="]هل تذكر العهود والمواثيق والأيمان ، التي كنت يوما ما تسوقها إليّ جملة واحدة لتؤكد بها مبلغ وفائك وإخلاصك ؟ هل تذكر إذ كنت تقرر لي في شدة وعزم ، بأنك صادق معي في كل أمر ، وأنك مرتبط بي في كل آن ووقت .[/font][font="] [font="]هل تذكر إذ كنت تفتخر أمامي ، مدعيا بملء شدقك أنك ذو بأس عظيم وتحمل شديد في سبيلي ومن أجلي ؟[/font][/font][font="]
[/font][font="]هل تذكر إذ كنت تقعد لتطلعني على مدى غرامك العجيب بي . ذلك الغرام الذي يستحيل أن يشغلك عنه أي شاغل أو يصرفك عنه أي صارف ؟[/font][font="]
[/font][font="]هل تذكر إذ كنت تتصنع الكبرياء والصلف على الناس كلهم من أجلي ، وتشعرني بامتهانك لكل من على هذه الأرض في سبيلي ؟[/font][font="]
[/font][font="]أسفا .. أسفا إذ أطرت كل ذلك اليوم بنفخة من عدرك ، ونسيته مرة واحدة لأول هوى في نفسك ، وتركتني إلى حيث لا أجد سبيلا للحاق بك والوصول إليك .[/font][font="] [font="]ألا قل لي بأي حق أيها الطائر الأهوج الصغير تنطلق إلى حيث تشاء تاركا ورائك هذه الروح المعذبة في محبسها من هذا الجسد ؟[/font][/font][font="]
[/font][font="]هذه الروح التي خلقت معها توأمين ، وعشتما معا خير قرينين ، تمد وجودك دائما بسر من فيضها ، وتبث فيك الاشراق من نورها .حسبك طيشا أيها القلب . وكفاك ابتعادا وتوغلا في المجاهل منفردا عن قبس روحك وسراجها . فإن الطريق ، ويحيك ، مظلمة . والهدف أمامك بعيد .[/font][font="] [font="]إنها ، ويحك ، روحك ! روحك التي هي جزء منك إنها أجدر وأولى بحبك من أي روح أخرى تسعى ورائها . إن كان مقصدك الجمال ، فما أكثر ما أولتك هذه الروح من جمالها وإن كان النور والاشراق ، فمن ذا الذي يغذيك بأكثر من نورها وإشراقها .[/font] [font="]أيها القلب عد . عد لا تخدعنك مفاتن الغرور والأصداغ ولا تصدقن شيئا من ابتسامات الثغور والشفاه ، ولا يأخذنك سحر العيون النجل ، أو يجذبنك إشراق الوجوه بين ظلمة الشعور الملتوية . فكل هذا الذي يتألق في عينيك نوره إنما هو نرا وجمر ، سرعان ما يتوقد عليك لهيبا ، وتهلك في لظاه .[/font] [font="]وإلا ، فإن مثلك ألف بلبل ، يقضي كل ساعات العمر بين الخمائل والورود في نحيب وآلام .. ثم لا يكون نصيبه منها إلا كما يكون نصيب الفراشة من اللهب . لظى وضنى واكتواء .. ثم هو بعد ذلك قطعة أديم يابسة ملقاة في مهب تلك [/font][/font]
[font="] الورود والأغصان .[/font][font="] [font="]أيها القلب أنت معرض نفسك لمجال الهوى والملذات ، مقصدك الوصول إلى صفوها والاستمتاع بنعيمها . ولكني قد عرفت لك مما قاله لي الطبيب الحاذق لهذا الداء أن شفاءك إنما هو الاحتماء عن مطارح الشهوات ، ومبتغاك كامن وراء أشواك الرياضة والحرمان . لقد حدثني هذا الطبيب بأن الداء هو بعينه ذاك الرحيق العذب الذي تهفو وراءه نفسك ، والدواء ليس إلا ذلك العلقم الذي تشتكي منه وتعافه .[/font] [font="]أيها القلب ، كيف أكلمك ، وعمّ أحدثك وماذا أقول ؟ لا أراك إلا مدبرا عني ، لاهيا عن حديثي وصوتي ، كأنك لم تكن يوما تعرف صاحب هذا الصوت والرجاء .‘‘[/font] [font="]وهنا لا تلبث أن تتضرم هذه الكلمات نارا على القلب المسكين ، ويتصاعد من سويدائه إلى أعلى الرأس فيح كأنما هو الدخان واليحموم ، وسرعان ما يتلبد هذا الفيح مثل سحاب مركوم في يوم ممطر . ثم ما هو إلا أن ينهمر بسيل من الدموع الحارة متدفقة من العينين ! هنالك يروح ’’ ممو ‘‘ مستسلما لتلك الدموع في نشوة وذهول ، ويظل مستروحا بلهيبها ، منتعشا بتدفقها ، بعد أن كادت تخنقه غصة تلك الكلمات في حلقه ، إلى أن تجف من العين ، وتنعصر منه الحشاشة والكبد ، حيث يعود ثانية إلى الحرب بين روحه وقلبه ، ويختنق مرة أخرى بالأحاسيس القاسية ، ويظل يعاني من غصتها إلى أن ترحمه حشاشته بفيض آخر من الدموع . وهكذا تظل القصة تتكرر وتعود .[/font] [font="]بكى ممو حتى تقرحت عيناه .. ولم يزل يتوجع ويتحرق حتى كادت أن تنطفئ جذوة حياته . ولم يزل ينهار منه القوى وتخور فيه العزيمة ويصفر منه الشكل إلى أن طرحته الحمى في مكان ما على شاطئ دجلة وحيدا إلا من بعض أصدقائه المخلصين الذين كانوا يعودونه ويواسونه بين كل فترة وأخرى .[/font] [font="]أما داره في المدينة فقد تركها حتى قبل أن يطرحه المرض ، فقد كان يحاول جاهدا أن لا يعلم أحد من الناس سريرة قلبه إلا من كان من خاصة أصحابه كتاج الدين ، خشية أن يبلغ الأمير ذلك فيزداد إلى قسوته ضرام الحمية ، ويذهب خياله إلى أبعد من الواقع بكثير[/font][/font]
[font="]كان ذلك في يوم شمسه مشرقة وسماؤه صافية ، قد ازدانت فيه الطبيعة بأبهى حلة وأبدع وشي ، تلاقت فيه بهجة الزمان بابتسام الخمائل والورود الرياض تتألق بسندس أخضر وتخفق بنسمات فواحة بالعبير ، والربا أكاليل زمردية فوق جبين الطبيعة نثرت في أطرافها يد الخلاق أبدع ألوان الزهر ، والجبال الشم قد نسجت حول قممها الخضر آيات خالدة من الجمال والجلال تتطلع إلى عظمة ذلك الجبار الذي أرساها وأقامها ، والأودية غاصة بأشجار باسقة ، ينبعث من تلافيف أغصانها غناء مختلف البلابل والأطيار ، وعيون المياه تنساب بين كل ذلك في إشراق وبريق ، كأنها وشي من الحلى المتألق في أطراف غانية [/font][font="]
[/font][font="]وكان قد أطلق منادى الأمير قبل ذلك يعلن في شتى أطراف الجزيرة عزم الأمير على الخروج إلى الصيد في ذلك اليوم ، وأن على كل صاحب قوس أو نبل ، أو ساعد وعزيمة أن يكون في ركاب الأمير في تلك المباراة التي سيتولى الإشراف عليها والمشاركة فيها [/font][font="]
[/font][font="]وفي صبح اليوم الموعود تدفق كل أعيان الجزيرة ووجوهها وذوي البأس والمراس فيها . وفي مقدمتهم الأمير وحاشيته إلى خارج المدينة ، وقد تنكب الجميع أقواسهم وصحبوا كل لوازم الصيد وأسبابه ، وتبعهم من ورائهم معظم أهل الجزيرة من صغير وكبير ونساء ورجال ، ليستمتعوا بمشاهدة تلك المباراة الرائعة التي ستكون تحت إشراف الأمير ...[/font][font="] [font="]وسرعان ما انتشر الجميع بين تلك الأودية والآكام ، وغابوا متفرقين في شعاف الجبال ، كل يبحث عما يستطيع أن يفاخر به غيره في المساء . فربما كان نصيب هذا أسداً كاسراً أو نمراً عاتياً ، يعرض فيه على الناس مقدار شجاعته وإقدامه . وربما كان نصيب ذاك غزلاناً بديعة ، يثبت لهم بها خفته وبراعته . وربما جاء آخر بأشكال نادرة من الطيور والحيوانات . وربما ظهرفيهم من تلقف من كل صنف ونوع ، فراح يهز بينهم سنانه وقوسه ، ويلوح لهم بساعده القوية ، وقد يأتي من ورائهم من خانه الحظ ولم ينل أي نصيب .[/font] [font="]ويمضي الأمير إذ ذاك موزعا بينهم إعجابه وتقديره ، وموليا كلا من المكافأة والقرب ما يستحق .[/font][/font]
[font="]ولندع الآن أولئك الذين تفرقوا في تلك الشعاب منهمكين في شأنهم .. ولنعد أدراجنا إلى داخل العمران الذي أصبح خاويا من الناس ، ولنأخذ سمتنا إلى القصر .. فسنجد على البعد شبح فتاة واقفة في إحدى نوافذه في جمود وإطراق . ومع دنو خطواتنا من القصر نتبين أن هذه الفتاة إنما هي ’’ زين ‘‘ . هي تلك الغادة التي كانت في يوم ما تظل ترقص جنبات القصر بظرفها وخفتها ومرحها . ها هي اليوم ، تقف على هذه النافذة في ذبول وإطراق ، وقد اثّاقل بها الهم والكرب ، ونال منها الشحوب والضنى ، مسندة رأسها إلى قبضة كفها ، تتأمل بعين كبار الفلاسفة والحكماء هذا الوجوم المخيم على القصر ومعظم ما وراءه من الأزقة والميادين . إنها تقرأ في ذلك المظهر الطارئ من السكون والوجوم معنى الفناء والانتهاء الذي ينتظر كل إنسان من وراء ساعات لهوه ومرحه ، وتتبين فيه نموذجا عن حالة قلبها المقفر ، الذي طالما ظل مزدهرا بآمال بديعة محفوفة بالأحلام الجميلة ، ثم في مثل طرفة العين احترقت كل تلك الآمال وعصف الدهر برمادها ، وتبددت الأحلام الجميلة ، وأيقظها الزمان على غصة البؤس والحرمان .[/font][font="] [font="]ولاحت تحت عينيها - وهي في تلك الأثناء - حديقة القصر وهي كبيرة شاسعة الأطراف تفنن الأمير في تشكيلها وإبداعها . جمع فيها كل أشجار الفاكهة وغيرها . ونسق فيما بين ذلك كل أصناف الورود وألوان الأزاهير التي ولدتها الطبيعة فوق أي رابية من الروابي ، أو على أي شاطئ من الشطآن . تنساب فيما بينها جداول رقراقة تبعث فيما حولها تتمة مظهر الرونق والإبداع .[/font] [font="]لاحت لها تلك الحديقة خالية .. هادئة ، لا يجوس خلالها أي إنسان ، ولا يرى من بين أغصانها أي مستأنس أو مستمع ، إلا فراشات تجوب بين تلك الورود ، وطيورا يسمع صوتها من بين أوراق الأغصان . فحدثها خاطرها - وقد راقها سكون تلك الحديقة ووافق هواها - بأن تنتهز فرصة وجود بقية طوق في جسمها وحركة في أطرافها ، فتخرج من محبسها في هذا القصر لتمشي قليلا وسط تلك الحديقة علّها تجد بين نسماتها بردا من الراحة والانتعاش .[/font] [font="]واستجابت زين لهذا الخاطر في نفسها ، فنزلت من القصر متجهة نحو الحديقة في تحامل وإعياء شديدين ، وقد ارتدت ثوبا بسيطا من الحريرالأبيض الرقيق ، وشدت خصرها من فوقه بمنطقة سوداء منمنمة بنقوش متفرقة من خيوط الفضة ، أما شعرها فقد جمعته تحت شارة سوداء من القطيفة السميكة في مثل هيئة طربوش قصير يمتد في طرفيه خيطان من الفضة ، وقد أمالت طرفه على جبينها بينما ظل الطرف الآخر مرتفعا عن الصدغ وقد بدا من تحته شعرها الفاحم المسترسل .[/font] [font="]ودخلت الحديقة ، وراحت تمشي بين جنباتها ، وهي تقلب نظرها في الطيور التي ترفرف بين أغصانها قائلة :[/font] [font="]’’ أيتها الأطيار السعيدة : كان لي بينكم في هذا الروض طائر مسكين ، أسود الحظ ، منكوب الطالع ، وقد غاب عنه منذ دهر وحلق في الجو منطلقا ولم يعد ! أفليس منكم من يدري في أي روض استوطن ، وعلى أي غصن أقام عشّه ؟... وهل فيكم من يحدثني عنه ، أهو حي لا يزال يخفق بجناحيه ، ويغرد فوق أغصانه أم نكبه الدهر مثلي فطرحه وأضناه ..؟؟‘‘[/font] [font="]ثم انتهى بها السير عند شجرة وارفة الظلال . فارتمت عندها ، واستندت إلى جذعها ، وراحت تتأمل ما حولها من الأزاهير والورود المختلفة الشكل . ثم ثبتت عيناها على وردة صفراء ، وقد تميزت ، عن سائر ما حولها من الورود بصفرتها الفاقعة ، فأثار ذلك اللون حسرتها وأيقظ آلامها ... وسرعان ما تخيلتها بائسة أخرى مثلها ، قد اصطبغت بتلك الصفرة مما قاسته في هذا الروض من الوحدة والوحشة ، ليس من يرحمها ، ولا من يرق لها ، فراحت تخاطبها في رقة وحنان :[/font] [font="]’’ أيتها الوردة الصفراء ، إن اصفرارك هذا والله قد أحزنني .حدثيني ، أهو لون بؤسك أنت أيضا أيتها المسكينة أم هو التوجع والرحمة لأمثالي من البائسات ؟ أم هي البلابل . قد انشغلت جميعها بورودها الحمراء ، فبقيت وحيدة ليس حولك أي مؤنس أو قرين ؟[/font][/font][font="]
[/font][font="]آآآه ... إنها قصتي ذاتها أيتها المسكينة .! إن لي أختا من أمثال تلك الورود المزدهرة الحمراء ، كان لي عندليب طالما توسلت إليه في إسعادي أنا أيضا به ، ولكنه أبى ، وأبعدني عنه ، وسقاني في بعده ذل البؤس والهوان .‘‘[/font][font="]
[font="]وكأنما شائت الأقدار رحمة لهذين الحبيبين البائسين في ذلك اليوم الذي انصرفت كل الناس فيه من دونهما إلى اللهو والمرح فقررت أن ترأف بهما في ظل هذا الهدوء . .. فراحت تلقي في تلك الساعة في روع ذلك العاشق المرتمي منذ حين على فراش المرض ، رغبة ملحة في الحركة .. في السير .. السير إلى أيّ جهة ...![/font][font="] [font="]فأخذ يتقلب ممو فترة في فراشه ، وهو لا يدري أي سبب لهذا الباعث المفاجئ في نفسه . ثم أزاح عن نفسه الغطاء وأخذ يجاهد جسمه المتعب في القيام من الفراش الذي ظل حينا من الدهر ملتصقا بجنبه .[/font] [font="]ثم نهض فارتدى عبائته الرقيقة ، فوق الحلة البسيطة التي كان يلبسها .. وأخذ يمشي ..[/font] [font="]أخذ يمشي في الطريق التي تمتد أمام عينيه ، دون أن يحدد لنفسه أي اتجاه ، ولم يزل سائرا في تحامل وجهد إلى أن وجد نفسه بين أسواق المدينة الخالية . فأدرك من الهدوء السائد في معظم جهاتها أن الناس قد خرجوا وراء الأمير وصحبه في رحلته إلى الصيد للنزهة . ولاحت لعينيه خضرة زاهية في بعض نواحي المدينة فهفت نفسه إلى أن يتوجه نحوها ، ويتمم سيره إليها ، دون أن ينتبه إلى تلك الخضرة ماذا تكون ، وفي أي مكان تقع .[/font] [font="]وبعد قليل كان ممو يقف في جهد وإعياء أمام حديقة الأمير زين الدين ، ينظر من وراء سورها إلى جوها الرائع ، ويتأمل هدوئها الكامل ، وخلو جنباتها عما سوى الطيور . ووجد في نفسه بعد ذلك النصب الشديد الذي لاقاه شوقا قويا إلى أن يستريح قليلا في فيئ شجرة من أشجارها . فمضى متجا نحو بابها المؤدي إلى الداخل ، وقد كاد يسقط من الإعياء .[/font] [font="]ولم تكن سوى دقائق حتى لاح لعيني زين - وهي لا تزال في مكانها عند ساق الشجرة - شبح ممو على البعد ، قادما من بين الأغصان ..! وكانت المفاجأة شديدة على نفسها ... وكانت الفرحة أكبر من قلبها .. فما إن أخذت تحدق النظر فيه لتتأكد أهو خيال من خيالات أوهامها ، أم معجزة حققها الله لها ، حتى غرب عنها الإحساس وطمت عليها الدهشة ، ووقعت مغمى عليها ببين تلك الحشائش والأشجار .[/font] [font="]أما ممو فإنه أخذ يسير مستروحا ظلال تلك الخميلة البديعة التي طالت غيبته عنها دون أن يدرك شيئا مما حوله . وكان أول ما انتبهت إليه عيناه في سيره تلك البلابل التي لا تفتأ تتنقل بين أغصان الورود في تغريد لا ينقطع . فراح يتأمل فينة وهو يقول :[/font] [font="]-’’ فيم كل هذا الهلع أيها الطائر الصغير ؟ إن وردتي التي شغفت بها أزهى من ورودك جمالا ، والحظ الذي نكبت به أشد من حظك سوادا ومع ذلك فها أنا أذوب وجدا ولا يسمع مني أي نحيب أو صوت .[/font] [font="]أيها الطائر ، لقد كان جديرا بك أن تتألم وتتوجع لو أن رياض الدنيا ليس في جميعها إلا وردة واحدة ، كما هو الشأن معي أما وإنه ليس من هذه الأزهار في أي روضة من الرياض أو إلى جانب أي غدير من الغدران ، أو في أي سفح من سفوح هذه الجبال ، فليس التعلق بها موجبا لأي قلق أو شوق إلى هذا الحد .[/font] [font="]ولكن قي لي ماذا يصنع وبم يتأسى ذلك الطائر الذي تولّله بوردة لم تجد الدنيا بمثلها ! ثم حرمه الدهر من قربها ، وأبعده حتى عن روضها ، وتركه وحيدا في قفص الوحشة والأحزان ؟ ‘‘.[/font] [font="]وهكذا ظلت أفكار ممو وهو يمشي في وسط الحديقة منصرفة إلى مثل هذه الأحاديث مع كل ما يبصره من حوله من الأطيار والورود والأعصان ، إلى أن وجد نفسه فجأة أمام جثة فتاتة ممتدة فوق تلك الحشائش ، ولم يكد ينتبه إليها ، ويمعن النظر ليتبينها حتى دارت الأرض من حول رأسه دورة بددت كل ذرات شعوره ، وألقته في يم من الغشية والنسيان ، وهوى صريعا على مقربة من جثة زين .[/font] [font="]وشيئا فشيئا أخذت زين تستفيق من غشيتها لترى ممو الذي أبصرته يمشي في الحديقة منذ قليل ملقى إلى جانبها . فعادت إليها الدهشة والذهول . وأخذت تحدق النظر في كل ما حولها .. في جدول الماء الذي ينساب أمامها ، في الورود التي إلى جانبها ، في ممو وهيأته ، كأنما تتسائل أهي في حلم من الأحلام أم إنها حقيقة واقعة صحيحة ..؟[/font][/font][font="]
[/font][font="]ثم استعادت كامل رشدها .. وأيقنت أنها نعمة ورحمة من الأقدار التي أرادت أن تسعدها في هذا اليوم .. ودنت لأول مرة بعد يوم مهرجان الربيع إلى حبيبها الملقى إلى جانبها ، فاخذت تلحظه بعينيها الفاتنتين ، وقد عاد إليهما إشعاعهما بعد أن اختفى عنهما حينا من الدهر . ثم رفقعت رأسه بيمينها في رفق ، ومدت ركبتها من تحته ، وأسندته إليها ، [/font]
[font="]وراحت تحاول في رقة ولطف إيقاظه من غمرته . وبعد فترة من الوقت تفتحت عيناه .[/font][font="] [font="]فتح عينيه .. فرأى رأسه فوق ركبة حبيبته زين ... ورأى أجمل وجه في الدنيا يطل عليه بثغر باسم وعين دامعة ورأى يمينها ممتدة فوق صدره الخفاق في حنو .[/font] [font="]ورفع رأسه .. وأخذ يجيل النظر فيها .. وفي نفسه .. وفي سائر ما حوله .. دون أن يدور لسان أحدهما بكلمة . هذا أسكتته الدهشة .. وتلك عقد لسانها الحياء .. ثم أمعن ممو في وجه ’’ زين ‘‘ قائلا :[/font] [font="]’’ ماذا ..؟ ألست أنت زين ..؟ ألست أنت قلبي .. قلبي الذي فقدته من بين جنبي ؟ ولكن .. أتراني في منام رائع .. أم نحن في الحياة الأخرى ..؟ في جنان الخلد !! ‘‘ [/font] [font="]فقالت له زين وقد أخذت كفه في كفها ، كيما يؤوب إليه رشده :[/font] [font="]’’ بل أنا زين بحقيقتها يا حبيبي . ونحن هنا في الحديقة ، حديقة قصرنا ألست تذكر .‘‘[/font] [font="]وأخذ انتباه ممو يتكامل بعد أن انتهى إلى سمعه صوت زين الرقيق العذب ، وآمن بالحقيقة .. وعلم أنها الساعة التي طالما استرحم الزمان بدموعه أن يحقق لحظة منها ، وعاد ينظر إلى زين من جديد . وأخذ يسرح النظر في عينيها الساجيتين اللتين تنظران إليه بفتنة مبتسمة مستسلمة كأنما تقول :’’ إن هاتين العينين من أجلك ...‘‘ وفي ثغرها الرقراق البديع ، وفي ملامح وجهها التي تشع بكل ما في روحها من جمال ولطف ، وفي شعرها الفاحم المسترسل حول وجهها من تحت الشارة المائلة على جبينها .[/font] [font="]وسكت ... ثم قال لها في نشوة حالمة : ’’ أنت والله جميلة جدا ورائعة يا زين ‘‘ .. فأجابته : ’’ أنت كل جمالي وسحري وروعتي يا ممو . فها أنت ترى كيف فقدت كل ذلك مذ فقدتك فلا تبحث فيّ اليوم عن شيء من ذلك الجمال الذي أسكرك منذ أول ما التقينا ...‘‘[/font] [font="]فدنا منها قائلا :[/font] [font="]’’ لا يا زين . إنك اليوم والله لأجمل مما كنت من قبل . وها أنا ذا ألمح بين أيات هذا الجمال سطورا جديدة لم تكن . عيناك ... إن فيهما أسمى مما يقال عنه الفتنة والسحر . فيهما معنى رائع ، احتارت في معرفته روحي ، فكيف يستطيع التعبير عنه لساني ..؟ ثغرك ... إن خمره اليوم لتبدو أشد إسكارا ، وابتسامته أكثر فتنة وجمالا . أما هذا الذبول المتهدل على ملامحك فليس إلا آية جديدة بين آيات هذا الجمال الساحر ، ولست أجده في استرخائه ملامح وجهك البديع كالأهداب الناعسة ، إذ تسترخي على العينين الفاتنيتين ...‘‘[/font] [font="]وقطع حديثة فجأة .. كأنما أسكتته وخزة أليمة شعر بها في نفسه ، ثم أطرق يقول في هدوء محدثا نفسه :[/font] [font="]’’ ولكن مالي ومال الحديث عن الجمال الذي لم أصل إليه ولن أملك منه شيئا ، ما لي وأنا المسكين الذي قضت عليه الأقدار بالحرمان ، أتطاول بهذا الكلام إلى البدر الذي لست أهلا للصعود إليه ؟ لي أن أتوسد البيداء التي أتيت منها ، أما هذا الروض فإن له أهله الذين سيجلسون فيه ويستمتعون به ..‘‘[/font] [font="]ثم قطعت غصة البكاء حديثه ، وراح يجهش في بكاء حار أليم ! وامتد لهيب دموعه إلى قلب زين فأخذت بكف ممو تبلله بدموعها قائلة :[/font] [font="]’’ أقسم يا ممو بالدموع التي أحييت بها الليالي السود ، وبالزفرات التي أذبت فيها بهائي الذي أعجبت به ، وبالخلوات التي لم يكن يترائى لي فيها سوى رسمك ، أنني لن أعوّض عنك إلا بوحشة القبر ، ولن يعانقني من بعدك إلا شبح الموت ، وسأكون وقفا من أجلك ، فإما أن يكون وصالنا في هذه الدنيا ، وإما في الحياة الآخرة ...‘‘[/font] [font="]ثم أنهما خشيا أن تلمحهما عين أو تسمع حديثهما أذن في ذلك المكان . فقاما ، واتجها إلى قاعة الحديقة التي كانت مقامة في وسطها . وهناك جلسا يتواسيان .. ويشرحان الهموم والأحزان .. ويتشاكيان من فتنة الدهر وأهله .. وراح بهما ذلك الحديث واللقاء في نشوة حالمة أسكرتهما عن الدنيا وما فيها .[/font][/font]
[font="]انتهت الشمس إلى مغيبها ، وعادت فلول الناس الذين كانوا غائبين في الرياض إلى بيوتهم ، ودبت الحياة في المدينة ثانية بعد الوجوم الطويل ، والحبيبان السعيدان لا يزالان في مجلسهما ذاك ، منتشيين بخمر اللقاء ، وغاب عن فكرهما معنى الزمن وحدوده فلا يشعر أحدهما منه بشيء .[/font] [font="] [font="]وعاد الأمير وصحبه من الصيد .. وجاءوا يؤمون الحديقة ليطلقوا في أنحائها ما صادوه من الغزلان والخشاف ونحو ذلك ... وامتلأت الحديقة بالناس .. وثارت الأصواتوالضجة في كل جهاتها ، والحبيبان لا يزالان في غشية تامة عن كل ما يطوف حولهما .[/font][/font] [font="] [font="]وأحس الأمير وهو واقف مع صحبه فيإحدى جهات الحديقة بالتعب يسري في مفاصله ، وشعر بالحاجة إلى أن يستريح مع صحبه قليلا فتوجهوا حميعا وفيهم تاج الدين وشقيقاه وبكر إلى القاعة .. القاعة التي لا يزال ممو وزين يتبادلان فيغبش ظلامهما حديث الحب في ذهول عن كل شيء . ولم يستيقظا من نشوتهما تلك إلا حينما داهمتهما الأشباح .. وأغلقت أمام عينيهما فضاء باب القاعة ...![/font][/font] [font="] [font="]هنالك انتبه كل منهما إلى ما حوله .. وأسقط في أيديهما ...[/font][/font] [font="] [font="]وهنالك .. لم يكن من زين إلا أن اندست تحت عباءة ممو وتضائلت خلفه . بينما دخل الأمير الفاعة ، ومن خلفه جماعته ، ليجدوا شبحا منزويا في ركن من أركانها وسط ذلك الغبش من الظلام ...! فصرخ الأمير فيه قائلا :[/font][/font] [font="] [font="]’’ من هذا القابع هنا ، وسط هذه الظلمة ، من غير أي رخصة أو استئذان ...؟‘‘[/font][/font] [font="] [font="]فاستجمع ممو جرأته ، ثم قال ، دون أن يتحرك من مكانه :[/font][/font] [font="] [font="]’’ أنا ممو يا مولاي الأمير ... لم يكن يخفى على مولاي أنني كنت أعاني إلى هذا اليوم مرضا شديدا أقعدني فيالفراش ، مما منعني عناللحوق بركب مولاي إلى الصيد . غير أنه أدركتني في هذه الأمسية وحشة الإنفراد ، فغادرت الفراش لأمشي قليلا .. ووجدتني أمام هذه الحديقة .. فاشتهيت الراحة فيها بضع دقائق ..‘‘[/font][/font] [font="] [font="]فقال له الأمير ، وهو يتوجه إلى الركن الأعلى في المكان ليجلس فيه :[/font][/font] [font="] [font="]’’ حسنا . وكيف حالك اليوم ...؟ وهلا أسرجت لنفسك ...؟؟ ‘‘ [/font][/font] [font="] [font="]فقال : ’’ لو وجدت في نفسي الطاقة إلى ذلك لقمت بواجب التحية .. ونهضت من مكاني لقدوم مولاي .. ولكن أرجو أن يعذرني ويعفو عن تقصيري ..‘‘[/font][/font] [font="] [font="]وأسرج المكان وجلس القوم .. وأخذ تاج الدين يلحظ ممو من مكانه في المجلس ، ويقرأ في وجهه وفي هيأة جلوسه وجمودها دلائل ارتباك لم ينتبه غيره إليها ، إذ كان هو الوحيد الذي يدري سر قلبه وآلام نفسه ، وساوره القلق .. وتطلعت نفسه إلى نعرفة السر الحقيقي لجلوس ممو هنا ... في هذا الوقت ... بهذا الشكل !! فانتهز فرصة طلب الأمير كأسا من الماء بينما راحت عيناه تسألانه عن حكايته وسره .. فلم يكن من ممو إلا أن مد يده في هدوء إلى داخل العبائة ، وأخرج له طرفا من ضفيرة زين يريه إياها ..[/font][/font] [font="] [font="]فرفع تاج الدين رأسه وقد أذهله الأمر .. وأدرك أن خليله بين يدي كارثة قريبة .. ما من ريب فيأنها ستأتي على حياته . وأخذ حاول السيطرة والضغط على أعصابه ليتصنع الهدوء اللازم ، بينما راح عقله يبحث في ثورة لاهبة عن أي وسيلة لإنقاذ حياة صديقه من فاجعة محققة .[/font][/font] [font="] [font="]ولاحت لذهنه الفكرة ... فكرو واحدة لم يجد أمامه سواها فتظاهر في لباقة بالحاجة إلى الإختفاء قليلا في بعض جهات القصر . وما هو إلا أن انثنى خلف باب القاعة حتى أسلم ساقيه إلى الريح متجها نحو داره ..![/font][/font] [font="] [font="]ودخل الدار لاهثا ، وعلى ملامح وجهه ثورة كالجنون . فاستقبلته زوجته في رعب شديد ودهشة قائلة :[/font][/font] [font="] [font="]’’ ماذا . ..ماذا حدث هل هناك أي عدو ؟! ‘‘[/font][/font] [font="] [font="]فأجابها بصوت خافت كي لا يسمعه أحد وهو يسرع إلى الداخل :[/font][/font] [font="] [font="]’’ عليك أن تسرعي بإنقاذ طفلك وما خف حمله من هنا . أما أنا فيجب أن أبادر إلى إحراق هذا القصر ..! ‘‘[/font][/font] [font="] [font="]ثم تابع حديثه وهو في عجلة مضطربة نحو مكان الوقود قائلا :[/font][/font] [font="] [/font]
[font="] [/font]
[font="]’’ إن ممو و زين واقعان تحت ورطة عظيمة ، في انتظار كارثة محققة توشك أن تقع بهما . ولا بد أن أسرع في مسابقة هذه الكارثة لأقضي عليها قبل أن تقضي هي عليهما ..‘‘[/font][font="] [font="]ثم راح يشعل النار في أثاث ذلك القصر الرائع وجنباته بسرعة ثائرة وهو يقول :[/font] [font="]’’ لقد ظل الناس يطفئون النار بالماء ، ولكن ها أنا اليوم سأطفى النار بالنار ...‘‘[/font] [font="]وفي مثل غمضة عين انطلقت ألسنة اللهب تتصاعد من نوافذ ذلك الصرح الذي شيده تاج الدين على أحسن ما تخيلته أحلام حبه جمالا وبذخا وإتقانا ، وأخذت النيران تسري في ذلك الأبنوس المنقوش والأثاث الرائع ، في سبيل إنقاذ صديقه .. والوفاء له ..![/font] [font="]وانطلق تاج الدين يستنجد .. وراح الخبر يسري في كل مكان .. وسرعان ما وصل النبأ إلى الأمير وصحبه وهم في مجلسهم ذلك .. فهبوا جميعا في اندفاع وذهول يسرعون إلى النجدة والإطفاء .. بينما تباطأ ممو في مجلسه إلى أن خلت القاعة تماما .. وهناك تنفس الصعداء والتفت إلى زين قائلا :[/font] [font="]’’ أرأيت كيف ضحى تاج الدين بقصره من أجل إنقاذنا ؟! والآن وداعا يا زين .. فعلي أن أدرك القوم لإطفاء هذه النار ، أما أنت فينبغي أن تسرعي الآن وتعودي إلى القصر ...‘‘[/font][/font]
هذا الموقع يستخدم ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز ) للمساعدة في تخصيص المحتوى وتخصيص تجربتك والحفاظ على تسجيل دخولك إذا قمت بالتسجيل.
من خلال الاستمرار في استخدام هذا الموقع، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.