قصه رباطة جأشك

لن أحب بعدهـإ ..


طالما أحببتها ولا زلت أحبها ولن أتوقف عن حبها..

هذا ما تبادر إلى ذهني وأنا أجالس البحر على صخرة من صخور الشاطئ،

كنت أحتاج إلى من يحدثني من يزيل همومي من يبعد هذه الضغوط التي سكنت قلبي من زمان..

كثيرا ما كنا نلتقي في موسم جني الزيتون حيث تجتمع عائلات القرية في تلك المنطقة المعزولة

ومن حظي أن أشجارنا كانت بجوار أشجارهم، لذا كنت حريصا أن لا أغيب أبدا عن العمل

كنت أسترق النظر إليها كلما أتيحت لي الفرصة، أحاول أن أسمعها إذا تكلمت

أطير فرحا حينما ترسل ناحيتي نظرة خجولة تجعلها تتلعثم

- هل تنظر إلي؟ هكذا كانت تسألني حتى تحول ما أحست به من إحراج إليّ

فأخجل وترتعش يدي وأقول يسابقني لساني:

- لا.. لقد.. أقصد.. فتضحك ثم تنصرف.

كبر إعجابي بها مثلما كبر صمتي وكتماني للأمر

وأظن أن نفس الشيء حدث معها..

كنت أركب خيالي كل ليلة قبل النوم وكذلك كانت تفعل

وكنا نلتقي تارة على القمر، وتارة على الجزيرة المهجورة

ركضنا معا في حقول اسكتلندا، وتسلقنا قمم الهمالايا

ورقصنا معا على ماء بحيرة فيكتوريا لمّا تجمدت

وعبرنا جسور سراييفو

وعلى الأعشاب الندية في براري البوسنة والهرسك

أقبل قدميها.. أخلع حذاءها بكل لطف.. وأقبل أصابع قدميها واحدا وحدا

أستشعر نعومة قدميها وأنا أمرغهما على وجهي

كل هذا في خيالي..

فقد كان كل شيء ممكنا في عالمنا الذي كنا نتواعد فيه كل ليلة

حتى أننا عدنا في الزمن إلى حقب غابرة وعايشنا أبطال الأساطير

وتعلمنا الحب من قيس وليلى ومن روميو وجوليات وعشنا التمرد المجنون مع كل عاشق وعاشقة.

بلغت مشاعري اتجاهها مبلغا لا يطاق ولا يحتمل، حينما أبصرها وتبصرني

ورغم قصر اللمحة، كنت أحس أن ما رأيته في خيالي حدث حقيقة

وكنت أحس أنها تعلم بكل شيء من تلك الأحاديث النفسية، وأظن أنها أحست مثلي كذلك.

- لا أعلم ماذا أنتظر لخطبة فتاتي؟

كنت أسأل نفسي كل حين..

غابت حبيبتي لأيام عن القرية ولم تغب عن خيالي فهي ساكنة بين أضلعي

وفي يوم استفحت فيه ببشارة قبولي في مدرسة ضباط الشرطة قررت أن أخبر والديّ بأمرها

قررت أن أرسل أمي لتخبرها بالأمر وكنت موقنا أن الجميع كان ينتظر ذلك

فالحب الصادق ورغم كونه مكتوما فهو ينزل راحة وطمـأنينة في النفوس التي حولنا.

*******************

بدت أمي كأنها كانت تنتظر خبري هذا، لذلك أسرعت إلى منزل حبيبتي قبل أن تخبر والدي الذي كان في الحقل

كنت أنتظر عودتها على أحر من الجمر، أحسست أن الزمن أبطأ من سرعته

أن عقارب الساعة توقفت، عجزت عن ركوب خيالي لأواعدها في مكان جميل هنا أو هناك

وحتى لو ركبته لم أكن لأجدها فنبضات قلبي المتسارعة منعتني من الاسترخاء والتخيل.

عادت أمي وكأن وجهها أغشي قطعا من الليل مظلما، فعرفت أن هناك خطبا ما..

- اسمع بني، سأجد لك فتاة أخــرى، لا تقلق وانس (هدى) فلقد اختارت رجلا آخر.

تحدثت أمي بهذه الطريقة حتى تثير غريزة الحقد في نفسي فأكره حبيبتي ولو للحظات.

ابتسمت في صمت أحاول أن أحبس دموعي وقلت:

- لا يهم، لا عليك... الدنيا فرص ونحن..

ولم أستطع الإكمال فدخلت غرفتي بسرعة وأغلقت الباب على نفسي..

ركبت خيالي ورحت أبحث عنها في داخلي حتى ألتمس لها عذرا

حتى أرى الظروف التي دفعتها لاختيار رجل غيري

الظروف وكلام الناس وضحكهم عن الحب العذري وحصارهم للفتاة



وسخريتهم من رغباتها وتأخري في طلب يدها كفيل بأن يجعلها تنتحر بين أحضان آخر..

خاصة إذا كان وحيد والديه فاحش الثراء له في كل ناحية سكن فاره، خاصة إذا وعد أبا الفتاة المسكين

بأنه سيشترك معه لافتتاح مزرعة كبيرة ثم ملبنة ومجبنة ثم... ثم...

***********

مــر الوقت وأنا أحاول نسيانها سفها، وما استفدت من محاولتي إلا زيادة في الحرص على التدريب والإخلاص في العمل...

ورغم البعد، ورغم أنها زوجة لرجل آخر، ورغم أنني ضابط متزن إلا أنني لم أكف عن تقصي أخبارها

إلا أنني لم أستطع منع خيالي من البحث عنها كل ليلة، لم أستطع محو صورتها من مخيلتي..


تخصصت في مكافحة المخدرات وقدر الله لي أن أمتحن مع الفرقة التي كنت ضابطا عليها في أول سنة لي في العمل

وأي امتحان كان، لم أكن أتخيل أن تجار المخدرات بتلك الوحشية

قمنا بمطاردة سيارة هامر كانت تسير بسرعة جنونية على الطريق السريع بعدما معلومات تفيد

بأنها محملة بالغبرة البيضاء (الهيروين).

تحول الأمر إلى اشتباك بالأسلحة النارية وانتهى ببعض الإصابات في صفوفنا وبالقضاء على من كان في سيارة الهامر..

وقعت على الجثث العفنة أتفقد الوجوه الخاطئة برجلي وفجأة...

- اللعنة.. إنه هو.. هل صار تاجر مخدرات؟؟؟

كاد قلبي أن يقع من بين ضلوعي ما إن قلبت رأسا شائب الشعر برجلي...

لقد كان عمي سليمان أبو حبيبتي هدى، ماذا يفعل؟ كيف وصل إلى هذه الحال؟

- مَن مِن هؤلاء الثلاثة المخنثين هو زوج حبيبتي؟

كنت أتفقد جثثهم وألسنة اللهب تحرق أحشائي وذكرياتي...

عملت وحدة أخرى بسرعة وقاموا بمداهمة منازل تجار المخدرات القتلى وأماكن عملهم..

كنت شبه مصدوم، خاصة بعدما أدركت أنني قمت بإزهاق هذه الروح الخبيثة لأب حبيبتي الزكية.

كنت حاضرا بجثتي هناك تماما مثل تلك الجثث الملقاة على الأرض، أما فكري فلقد حلق بعيدا

يحاول أن يجدها، تلك المخلوقة البريئة، ذلك الملاك الذي أحببته..

لم أستطع أن أميز ما يقال في أجهزة الاتصال، ولم أسمع ما حدث في مزرعة عمي سليمان

ولا مسكن حبيبتي .. لم أشعر بنفسي إلا وأنــــــــا في غرفة التحقيق مع أحد الزملاء:

- لقد عثرنا على هذه المرأة في مسكن كذا..

كدت أن أفقد وعيي ما إن رأيتها، كانت في حال يرثى لها

لقد أصبحت مجرد صورة في ذاكرة امرأة، لقد فقدت جلّ وزنها وهي ترتعش

تحول لونها إلى أصفر، كأنها تحتضر...

- الظاهر أنها مدمنة.. انظر هي الآن تحتاج إلى جرعتها المعتادة..

كان زميلي يتحدث عن المرأة وأنا في عالم آخر غارق في دوامة مظلمة..

إنها حبيبتي هدى، إنه يتحدث عن صاحبة هذا الجسد التي ترك روحها عندي وقلبها عندي

وفكرها عندي وطموحها عندي وحياتها عندي وما أخذت معها إلى زوجها إلا جسدا خاويا

في فستان أبيض كأنــــــــــه كفن يسوق صاحبه إلى المقبرة.

قررت مساعدتها، ألحقتها بمركز لشفاء المدمين وأنا أنتظر أن تشفى

وأن يلتحق ذلك الجسد المضنى بذكرياته التي لا زلت أحتفظ به

أنتظر أن تعود ابتسامتها، براءتها، لونها، عشقها وكل ما فيها

وها أنا على الشاطئ أجالس البحر على صخرة وأقول:

- طالما أحببتها ولا زلت أحبها ولن أكف عن حبها

إذا أحببت بصدق فلا تهتم بالتفاصيل أكثر حافظ فقط على رباطة جأشك

ليستمر الحب وتستمر الحياة وتشعر أنك قمت بالصواب..


تحيإتي لسسمؤٍكمم .
 
الوسوم
جأشك رباطة قصه
عودة
أعلى