سورة التوبة

صفا النعمان

الادارة
طاقم الإدارة
سورة التوبة 1- لا تبدأ هذه السورة بالبسملة كما هو الشأن مع السور الأخرى؛ وذلك لأن البسملة أمانٌ، وهذه السورة تبدأ بما يرفع الأمان، إنها تبدأ بالبراءة من المشركين، وتشتمل على آيات القتال.
2- ﴿ وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ﴾ [التوبة: 3].
وفتْحُ همزة "أنَّ" على تقدير "بِأَنَّ"، ومَن كسرها، فعلى تقدير: قال: إنَّ الله بريءٌ...إلخ، ورفْعُ "وَرَسُولُهُ " قد يكون لأنه معطوف على موضع الابتداء في "أَنَّ اللَّهَ"، أو أنه معطوف على الفاعل المضمر "هو" في الصفة المشبهة: بريءٌ، والتقدير: أن الله بريءٌ هو من المشركين ورسولُه، أو أنه مبتدأ وخبره محذوف، وتقديره: ورسولُه بريءٌ، وذكر القرطبي أن الحَسَنَ وغيره قرأوا "رسولَه" بالنصب عطفًا على اسم الله عز وجل في اللفظ، وفي الشواذ (ورسولِه) بالخفض على القَسَم؛ أي: وحقِّ رسولِه، ورُوِيَتْ عن الحسن. (تفسير القرطبي 8/70).
و﴿ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ﴾؛ أي: يوم عرفة، أو يوم النحر على اختلاف، وأسند القرطبي إلى أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سأل الناس في يوم النحر: ((أيُّ يوم هذا؟)) فقالوا: يوم النحر، فقال: ((هذا يوم الحج الأكبر))؛ (تفسير القرطبي 8/10).
ونقل الطبري روايات بهذا المعنى (تفسير الطبري 14/118).
3- ﴿ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [التوبة: 7، 8].
أ- وردت "كَيْفَ" في المرة الأولى؛ للإشارة إلى أن المشركين لا ينبغي أن يكون لهم عهد، وهم حربٌ على الإسلام والمسلمين، ومع ذلك يُستَقَام لهم على العهد ما استقاموا هم؛ لأنه ليس من خُلُق المسلمين أن يغدروا أو ينكثوا، والبراءة التي وردت في الآية السابقة أُعلِنَت لهم، وتم إمهالهم؛ ليجدوا الوقت الذي يكفيهم لمراجعة مواقفهم، وتكررت "كَيْفَ" لتشير في المرة الثانية إلى أن خُلُق الكافرين لا يسمح لهم بالوفاء بالعهد، ولا بالثبات عليه، بل إنهم يتحينون من المسلمين غفلة ليبيدوهم.
ب- وقد حُذف الفعل بعد "كَيْفَ" في المرة الثانية لدلالة الفعل المذكور في المرة الأولى عليه.
ج‌- ﴿ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاً وَلَا ذِمَّةً ﴾ تكررت بكلماتها في قوله سبحانه ﴿ لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاً وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ ﴾ [التوبة: 10]، والإلُّ يعني: القرابة، والذِّمَّة تعني: العهد، ومَرَدُّ التكرار إلى التأكيد على أن عدم رعاية الإلِّ والذمة هو خصلة الكافر وطبيعته، أو أن المرة الأولى كانت للإشارة إلى أن الكافر لا يرعاهما في مجموع المسلمين، وفي المرة الثانية إلى عدم رعايته إياهما في المؤمن الواحد، أو لأن المرة الأولى وردت صفة لطائفة أشارت الآية إلى أن ﴿ أَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ وفي المرة الثانية لطائفة وصفهم بأنهم ﴿ هُمُ الْمُعْتَدُونَ ﴾، وقد ذكر النحاس أن المرة الأولى كانت في المشركين، والثانية كانت في اليهود.
(إعراب القرآن 360).
ح- ولا ينتج عن اختلاف طوائفهم اختلاف طبائعهم؛ فالطبيعة الغادرة فيهم هي هي، كيفما كانوا.
4- ﴿ أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [التوبة: 13].
قوله سبحانه ﴿ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ شرطٌ مجازي؛ أي: غير خاضع في دلالته ومعناه لأسلوب الشرط النحوي الذي يتوقف فيه تحقيق الفعل الثاني على إنجاز الأول؛ كقولك مثلاً: إن تدْرُس تنجَحْ، فالنجاح يتوقف حصوله على القيام بالفعل الأول الذي هو "تَدْرُس"، ويُفهَم من هذا الأسلوب عكسُه غيرُ المنطوق به؛ أي: لا تنجحُ إن لم تدرُسْ، ولا يستقيم هذا المعنى مع البناء الشرطي في آيات كثيرة في القرآن الكريم، ومنها هذه الآية الشريفة؛ إذ ليس المراد اخَشَوُا اللهَ إن كنتم مؤمنين، وإن لم تكونوا مؤمنين فلا تخْشَوْه. فالتركيب هنا شرطي، ولكنه شرط مجازي، وليس نحويًّا، ويحمل معنى الموافقة والإقرار؛ أي حيث إنكم مؤمنون فإن الله تعالى أحق أن تخشوه.
5- ﴿ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 14، 15].
والفعل: ﴿ يُعَذِّبْهُمُ ﴾ مجزوم لأنه جواب طلب، والأفعال الأخرى: ﴿ وَيُخْزِهِمْ ﴾ ﴿ وَيَنْصُرْكُمْ ﴾، ﴿ وَيَشْفِ ﴾، ﴿ وَيُذْهِبْ ﴾" كلها مجزومة بالعطف على جواب الطلب، غير أن الفعل ﴿ وَيَتُوبُ ﴾ لم يُجْرَ مجرى تلك الأفعال، فلم يقل: وَيُتَبْ، بل جاء مرفوعًا على الاستئناف، وذكر الزمخشري أنَّ جَعْلَ ﴿ يَتُوبُ ﴾ ابتداءَ كلام، فيه إخبارٌ بأنَّ "بعض أهل مكة يتوب عن كفره...، فقد أسلم ناس منهم، وحسن إسلامهم"؛ (الكشاف 2/244).
وقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ يتماشى مع هذا الاستدلال، ولو جَزَمَ "يتوب" لَتَعَلَّقَتْ توبة الله بالقتال، فلو لم يكن هناك قتال، لَمَا كانت هناك توبة، ولكانت التوبة نتيجةً لمقاتلة المسلمين لهم، لا لأنهم أسلموا، ولِعِلْمِ الله السابق بأن بين المقاتَلِينَ الكافرين مَن سيتوب الله عليه، ويدخلُ الإسلامَ فيما بعدُ، اختُتِمَت الآية الكريمة بالعلم والحكمة ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ .
6- ﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ﴾ [التوبة: 18].
و "عَسَى" من الله تعالى واجبة (إعراب القرآن 362)، وجيء بها لقطع الأمل عن المشركين في أن يُجازَوا على ارتيادهم المسجد وهم كافرون.
7- ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 28].
علَّق الإغناء بمشيئته سبحانه؛ ليكون ذلك الإغناء لناس دون ناس، وزمان دون آخَرَ، لا أن يكون لجميع أهل الحرم دونما استثناءٍ.
8- ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [التوبة: 32].
وهذه استعارة؛ إذ جُعِل ما أنزل الله تعالى كالنور الذي ظن الكافرون أن في مقدورهم إطفاءَهُ، والمراد بأفواههم، التي هي جمع "فوه"؛ أي: الفم، ما يصدر عنها من الكلام والدعاية والافتئات على الدين، وغير ذلك مما كانوا يَبُثُّونه لصرف الناس عن سبيل الله، ولكن الآية الكريمة بشَّرَت المؤمنين بنصر عقيدتهم، وأغاظت الكافرين بأنهم لا يقدرون أن يحجبوا الشعاع الساطع للإسلام مهما فعلوا، فهم أهون من أن يحجبوا نور الحق.
9- ﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ﴾ [التوبة: 36].
واشتمال هذه الأشهر على الأربعة الحرم؛ يعني: أن المعتبَر هو الأشهر القمرية دون الشمسية، على الرغم من تغيُّر أزمنتها من عام إلى آخر، وإن هذا الاعتبار يكون - والله أعلم - فيما يتعلق بالكون، وما جرى أو يجري له، وبالإنسان وتأثيراتها عليه منذ تخلُّقِه وتقرير عمره، والتغيرات البيولوجية ومدتها التي تحصل في حياته وصولاً إلى وفاته، وبالعبادات، كالتي تكون في رمضان وذي الحجة، وفي الأشهر القمرية ميزة تفتقر إليها الأشهر الشمسية، وهي أن القمرية تُدرَك بالعين وملاحظة القمر، بينما لا بد في الشمسية من معرفة بدايتها ووسطها وآخرها، بجدول حسابي خاص، و﴿ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ﴾؛ أي: الشرع والنظام المستقيم الذي وضعه الله تعالى للناس منذ الأزل، وأي تغيير فيه يكون تَحْريفًا لشرعه وسُنَنِه.
10- ﴿ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ [التوبة: 37].
والنسيء يعني التأخير، والزيادة في هذا الكفر هي أنْ أضافوا إلى العقيدة الباطلة تغييرًا في أحكام الله، فأحلوا ما كان محرَّمًا، وحرَّموا ما كان محلَّلاً في هذه الشهور؛ تبعًا لما كانت تقتضيه أهواؤهم.
11- ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾ [التوبة: 38].
أي: اثَّاقلتم إلى نعيم الأرض، وإلى الإقامة بالأرض (إعراب القرآن 367). وتعكس الكلمة أي ﴿ اثََّاقَلْتُمْ ﴾ بَجَرْسها شدةَ الارتباط بالأرض، وعدم الرغبة في مفارقتها، كالذي يُرَاد إيقافه، وهو بقوة معاكِسَة يتشبَّثُ بالأرض، وفي هذه الآية عتاب للمؤمنين الذين مالوا إلى التخلف في غزوة تبوك، حين طابت الثمار والظلال في شدة الحر، وجمارة القيظ؛ (تفسير ابن كثير 2/309)، و﴿ مِنَ الْآَخِرَةِ ﴾؛ أي: بدلاً من الآخرة.
12- ﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 40].
وأسند الإخراج إلى الكافرين، وهم لم يُخرجوه، ولكن حينما هَمُّوا به ألْجَؤوه إلى أن يخرج بنفسه، فكأنهم أخرجوه، فنسب الفعل إليهم، ورتَّب الحكم فيه عليهم؛ (تفسير القرطبي 8/135، الكشاف 2/263).
و﴿ ثَانِيَ اثْنَيْنِ ﴾ ؛ أي: أحدَ اثنين، وهذه الآية تخاطب المؤمنين أنهم إن لم ينصروا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن الله تعالى سينصره كما نصره من قبلُ يومَ كان في حسابات الناس في أضعف حالة؛ إذ لم يكن معه غيرُ صاحبه أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وحسابات الناس هذه هي التي كانت وراء جَزَعِ أبي بكر؛ مخافةَ أن يتعرض الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى أذًى، فقال: لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدميه لأبصر بهما، أما النبي عليه الصلاة والسلام، فقد كان مطمئن القلب، وعالِمًا أن الله تعالى ناصرُهُ، ولهذا قال: ((ما ظنُّكَ باثنيْنِ اللهُ ثالثُهُما؟))؛ (صحيح البخاري حديث رقم 4663، صحيح مسلم حديث رقم 2381).
﴿ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ﴾، ولا أحسب أن الضميرين في "﴿ عَلَيْهِ ﴾، ﴿ وَأَيَّدَهُ ﴾" يعودان إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنْ ذَكَرَ ذلك بعض العلماء، كابن كثير في تفسيره (2/310)؛ لأن ذلك يعني أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن ساكنًا، ومع ذلك كان يُطَمْئِنُ صاحبه، ولا يتناسب هذا في هذا المقام، بل الأَدْعى إلى القبول أن يكون الضمير في ﴿ عَلَيْهِ ﴾ مشيرًا إلى أبي بكر رضي الله عنه، فقد كان هو المفتقر إلى السكينة، وأن يكون الضمير في ﴿ أَيَّدَهُ ﴾ عائدًا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يقل الباري عز وجل: ﴿ وأيدهما ﴾؛ لأن تأييد النبي حاملِ الرسالة صلى الله عليه وآله وسلم هو الأصلُ، فإذا تحقق بُنيَ عليه تأييدُ أتباعه. ﴿ وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ﴾ ؛ أي: صيَّر أمرهم إلى سُفْل، ووردت كلمة ﴿ جَعَلَ ﴾ لذلك، فقد كان أمْرُهم على حالٍ، وآلَ إلى سواها، وأما كلمة الله تعالى، فإنها غير منتقلة من حال إلى حال، بل هي العليا على وجه الدوام مذ كانت، ولهذا فإن الواو في "وَكَلِمَةُ اللَّهِ "غير عاطفة، وإنما استئنافية، و "كَلِمَةُ" مرفوعة على الابتداء.
13- ﴿ انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [التوبة: 41].
و نصْبُ ﴿ خِفَافًا وَثِقَالاً ﴾ على الحال، وهو أمر بالخروج في سبيل الله، سواءٌ كانت العدة قليلةً؛ أي: خفيفة، أم كثيرة؛ أي: ثقيلة، ويبدو - والله أعلم - أن العبرة بالنفير، وأن القليل إلى جنب القليل يُصيِّرُهما كثيرًا، وأن المرء إذا أحجم لقلة مُؤْنَته، فإنه يُفوِّتُ تكثير السواد الذي هو من العوامل المعنوية في المعركة.
14- ﴿ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ * لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ * وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ [التوبة: 43 - 47].
أ- عتاب له صلى الله عليه وآله وسلم، ويقول الله تعالى له: هلاَّ تركْتَهُم لتعلم من هو الصادقُ في طاعتك ممن هو كاذب؟ وإنك لو تركتهم ولم تأذن لهم، لما التحقوا بك؛ لأنهم كانوا مصرين على القعود (تفسير ابن كثير 2/312).
ب- الاستئذان في ساعات الشدة دليل على ارتياب القلب، ولو كان المستَأْذنون صادقي الاتِّبَاع، لَهانَ عليهم كل عذر، خاصة أن أنباء الخطر كانت مقلقة، ولكنهم كانوا كاذبين، وآثروا سلامتهم فضلاً عن رغبتهم في اقتلاع جذور المسلمين، كما أنهم لو كانوا صادقين لكان في مشاركتهم تكثير لعدد المقاتلين، حتى وإن كانوا يحاربون بالحجارة؛ لقد سقط المستأذنون في الاختبار.
ج- ﴿ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ﴾؛ أي قدَرًا، وربما كان القائل هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه هو الذي كان يقبل الاستئذان، أو يرفضه، وينبئ هذا التركيب أن النبي عليه الصلاة والسلام أحزنه سلوك هؤلاء، ولهذا فإن الله تعالى واساه بأنْ بيَّنَ له أنَّ قُعُودهم كان خيرًا للمسلمين، لأنهم ﴿ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ ﴾، فوجودهم ينطوي على الضرر التعبوي الذي يفتُّ في عُضُدِ المقاتلين المسلمين الذين كان من بينهم ﴿ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ﴾ أي للمنافقين.
ب- و﴿ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ﴾؛ أي: أناس كانوا يتسَمَّعون أخباركم، ويتتبعونها، وينقلونها إلى أولئك المنافقين، أو أنَّ من بين المقاتلين مَن كان عُرْضة للتأثر بأسباب البلبلة التي كان أولئك المنافقون يُحْدِثونها لو التحقوا بصفوف المقاتلين المسلمين.
15- ﴿ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾ [التوبة: 53].
ولفظ ﴿ أَنْفِقُوا ﴾ أمر، ولكنَّ المعنى خبرٌ في صيغة شرطية متخيَّلة؛ أي: إن أنفقتم طوعًا أو كرهًا، فلن يُقبلَ منكم الإنفاقُ، وذكر لهم السبب ﴿ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾ من قبل أن يسألوا عن سبب عدم تقَبُّل إنفاقهم!
16- ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 60، 61].
الفقير في اللغة من لا يملك إلا أقلَّ القوت، وليس له من الموارد ما يكفيه، ويكفي عياله، والمسكين هو الأشد منه حاجةً، فالصدقات لهذين الصنفين من الفقراء، وقد جمع القرآن الكريم والحديث الشريف صفة فيهما، وهي عدم السؤال، وكأن الذي يسأل يخرج عن حَدَّيْهِما، فقد قال الله تعالى في وصف الفقراء ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 273]، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ليس المسكين الذي يطوف على الناس تردُّه اللقمة واللقمتان، والتَّمْرةُ والتمرتان، ولكنَّ المسكين الذي لا يَجِدُ غِنًى يُغنيه، ولا يُفطَنُ به فيُتصدَّقَ عليه، ولا يقوم فيسألَ الناس))؛ (صحيح البخاري حديث رقم 1479).
17- ﴿ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [التوبة: 62].
ذكر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال "أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ" بالضمير المفرَد، ولم يقل "يرضوهما"؛ لأن رضاهما واحد.
18- ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 72].
والرضوان مما وعد الله سبحانه عباده المؤمنين، ولكن قوله تعالى: ﴿ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾ منقطع عن العطف فلم يُنصَبْ ﴿ رِضْوَانٌ ﴾ كما نُصِبَت ﴿ جَنَّاتٍ ﴾ و﴿ مَسَاكِنَ ﴾ ؛ ليُعلَمَ بذلك تفضيلُ الله تعالى رضوانَهُ عن المؤمنين على سائر ما قسم لهم من فضله وأعطاهم من كرامته (تفسير الطبري 6/233)، ﴿ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ ﴾؛ أي: شيءٌ من الرضوان أكبر من كل ذلك النعيم الذي أعده الله تعالى لعباده، فكيف إذًا برضاه الكامل؟ ولأن الرضوان يعمُّ أهل الجنة كلهم جاز أن يكون ﴿ رِضْوَانٌ ﴾ مبتدأً مع أنه نكرة. الذي سوغ الابتداء به وصفه بقوله "من الله".
19- ﴿ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ﴾ [التوبة: 81].
﴿ لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ﴾ جملة مستقلة، وتعقيبٌ على ما قال المخلَّفون، وعلى ما أُمِر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقوله لهم، ويمكن أن يُفهَم منه أيضًا أنه تحويل للكلام من المخاطب إلى الغائب بسبب اشتماله على عدم الفقه. ولو قال "لو كنتم تفقهون" أي: لا تفقهون أو لا تعلمون، لربما ظن الذين في قلوبهم مرض أن الخطاب موجَّهٌ إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا المعنى السلبي، فكان في تحويل الخطاب إلى الغيبة إخراجٌ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من صفة عدم العلم.
20- ﴿ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [التوبة: 82].
وهذا خبر في صيغة أمر، وقال النحاس: إنه أمر فيه معنى التهديد (إعراب القرآن 378)، والمعنى أنهم يضحكون قليلاً ويبكون كثيرًا، وفي الضحك القليل كناية عن التمتع بالحياة الدنيا تمتعًا محدودًا؛ لأنهم يموتون مهما عاشوا، وفي البكاء الكثير كناية عن سوء المآل في الآخرة التي لا نهاية لها.
21- ﴿ وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ﴾ [التوبة: 92].
قوله ﴿ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ ﴾ أبلغ من: يفيض دمعها؛ لأن العين جُعلت كأنها كلها دمعٌ فائض؛ (الكشاف 2/291) فهي تخرج من محجرها؛ لأنها صارت جزءًا من الدمع، بينما "يفيض دمعها" تُبقي العين في موضعها، وتجعل الدمع شيئا خارجًا من العين.
والحُزْن والحَزَن لغتان، وهما خلاف السرور، وروى ابن منظور عن أبي عمرو أن الحاء تُضمُّ إذا كان "الحزن" مرفوعًا أو مكسورًا، وتُفتح إذا كان منصوبًا؛ (لسان العرب مادة حزن)، بل الأرض الصلبة الشديدة يقال لها "حَزْنٌ وتُلقي هذه الشدة بظلها على المعنى فيكون الحزَن للدلالة على الأسى الشديد الذي يكاد يقتلع القلب من موضعه، كقوله تعالى ﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ [فاطر: 34].
وهو الغمُّ الشديد، بينما الحُزن يشير إلى الأسى الاعتيادي الذي يشعر به الإنسان كقوله تعالى على لسان يعقوب عليه السلام: ﴿ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ﴾ [يوسف: 84]، ذلك أن هذه الحادثة أذكت حزنه القديم الذي كان يتعايش معه، والذي صار يألفه بمرور الوقت، حتى صار كذلك الْحُزنِ الذي يشعر به الانسان تجاه مَن مات من أعِزَّائه، ومِنْ ثم فإن أولئك الذين لم يجدوا ما ينفقون كان حزنهم شديدًا على فوات الفرصة، وإنَّ تلك الشدة كانت متوافقةً مع شعورهم أن دموعهم لا تشفي غليلهم، بل إن عيونهم تكاد تخرج من محاجرها من حرقة البكاء.
22- ﴿ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: 104].
وورود "هُوَ" للتأكيد، وتخصيص الله سبحانه وتعالى بقبول التوبة، وأخْذِ الصدقات إن كانت صادرة عن صدق نية وإخلاص، ومدار التخصيص أنْ ليس لغيره سبحانه شيء من ذلك نبيًّا كان أو ملَكًا (الكشاف 2/297، تفسير القرطبي 8/232).
و ﴿ أَلَمْ يَعْلَمُوا ﴾؛ أي: المتخلفون الذين لم يتوبوا، ثم أُعلِموا بتوبة الله تعالى بجملتين توكيديتين: ﴿ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ ﴾ و﴿ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ ﴾ ، والخبر في أولاهما جملة فعلية، وفي الثانية جملة اسمية، وفي هذا إشعار للناس بأن الله تعالى متصف بصفة التوبة والرحمة على وجه الدوام والثبوت من جهة، وعلى وجه التجديد والتكرير من جهة أخرى على عباده المقبلين عليه صادقين، وديمومة الصفة محكية في الجملة الخبرية الاسمية، وتجديدها مكنون في الجملة الخبرية الفعلية، ومع أن من حق ثبات الصفة ودوامها أن يكون متقدمًا في الآية فإن الجزء الدال على التجديد هو الذي تقدَّم، ومرَدُّ ذلك إلى أن في الآية استفهامًا للمتخلفين إن كانوا لا يعلمون أنهم لو أقبلوا على الله تعالى بالتوبة فإنه يتوب عليهم؛ أي: إذا تابوا تاب الله عليهم، جريًا على قوله تعالى في سورة الرعد ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11]، ولو تقدمت الجملة الاسمية "وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" لكان معناه أن الله تعالى يتوب على عباده ويرحمهم سواء تابوا هم، أم لم يتوبوا، بينما توبة الله تعالى ورحمته منوطتان بتوجُّه العبد، وصدق نيته، وإخلاص أَوْبَتِه.
23- ﴿ لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ﴾ [التوبة: 108].
و﴿ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا ﴾؛ أي يغتسلوا، وقد سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأنصارَ في قباء عما كانوا يعملون فاستوجبوا ثناء الله تعالى عليهم، فقالوا إنهم يستجمرون ويغتسلون؛ (تفسير ابن كثير 2/336-337)، و﴿ الْمُطَّهِّرِينَ ﴾؛ أي: المتطهرين، قُلبت تاؤه طاءً، وأُدغمت في الطاء الثانية، وقد يكون المطَّهِّرُ أبلغَ من المتطهر، ذلك أن المتطهر يعني المتنَظِّف من النجاسات المادية، وأما المطَّهِّر، فهو المتنظف من النجاسات المادية والمعنوية معًا، ولهذا فإن الآية التالية ﴿ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ ﴾ [التوبة: 109] - وهو استفهام بمعنى التقرير- متعلقةٌ بهذا التطهير المعنوي الذي يصل بين الآيات.
والصلة بين لفظَي "المتطهرين" و﴿ الْمُطَّهِّرِينَ ﴾ هي أن المغتسلين إنما يتحَرَّوْن التنظف والتنزه عن النجاسات وصولاً إلى عبادة كاملة، لا نقْصَ في أركانها وشروطها، بمعنى أن التطَهُّر المادي الذي كان يقوم به الأنصار، كان من أجْلِ الطُهْر المعنوي، ولهذا أثنى الباري عز وجل عليهم، وجعلهم أهلاً لمحبته.
24- ﴿ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 114].
وذكر النَّحَّاس أن الموعدة عند العلماء كانت من أبي إبراهيم لإبراهيم عليه السلام، وَعَدَهُ أن يُسْلِمَ، وأن يُظْهِر إسلامه، فاستغفر له، ثم عندما لم يفِ بوعده؛ أي: لم يُسْلِم، أو لم يعلِنْ إسلامه، أعلن البراءة منه (إعراب القرآن 385)، وربما كان تبيُّنُ كُفْرِهِ أنه مات كافرًا.
ولكنَّ القرآن الكريم أورد الوعد في سورة مريم على نحوٍ آخَرَ، وهو أن إبراهيم وعد أباه الاستغفارَ بعد أن هدده أبوه، وليس في سياق الآيات التي احتوت هذا المعنى ما يدل على إسلام الأب، أو وعده بذلك ﴿ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا ﴾ [مريم: 46، 47].
ويبدو - والله أعلم - أن الموْعِدَة كانت من إبراهيم بِرًّا بالرجل الذي كان أباه، أو كان في مقام أبيه، ولكنه عندما رأى أنه مُصِرٌّ على كفره، وَأَيِسَ من إيمانه، أو مات وهو كافرٌ،
 
الوسوم
التوبة سورة
عودة
أعلى