خمس وعشرون دورة حول الشمس

smile

شخصية هامة
يوم مولدي ...جبران خليل جبران

في مثل هذا اليوم ولدتني امي

في مثل هذا اليوم منذ خمس وعشرون سنة وضعتني السكينة بين أيدي هذا الوجود المملوء بالصراخ والنزاع والعراك ..

ها قد سرت خمسا وعشرين مرة حول الشمس ولا أدري كم مرة سار القمر حولي ,
لكنني لم أدرك بعد اسرار النور ولا عرفت خفايا الظلام ..

قد سرت خمسا وعشرين مرة مع الارض والقمر والشمس والكواكب حول الناموس الكلي الاعلى ,
ولكن هو ذا نفسي تهمس الان اسماء ذلك الناموس مثلما ترجع الكهوف صدى امواج البحر , فهي كائنة بكيانه ولا تعلم ماهيته وتترنم بأغاني مده وجزره ولا تستطيع أدراكه

منذ خمس وعشرين سنة خطتني يد الزمان كلمة في كتاب هذا العالم الغريب الهائل . وهاءنذا كلمة مبهمة ملتبسة المعاني ترمز تارة الى لا شيء وطورا الى اشياء كثيرة ...

ان التأملات والافكار والتذكرات تتزاحم على نفسي في مثل هذا اليوم من كل سنة ,
وتوقف امامي مواكب الايام الغابرة وتريني اشباح الليالي الماضية .. ثم تبددها كما تبدد الرياح بقايا الغيوم فوق خط الشفق , فتضمحل في زوايا غرفتي اضمحلال اناشيد السواقي في الاودية البعيدة الخالية..

في مثل هذا اليوم تجيء الارواح التي رسمت روحي متراكضة نحوي من جميع اطراف العالم , وتحيط بي مرتلة اغاني الذكرى المحزنة , ثم تتراجع على مهل وتختفي وراء المرئيات كأنها اسراب من الطير هبطت على بيدر مهجور فلم تجد بذورا تلتقطها فرفرت هنيهة ثم طارت سابحة الى مكان آخر


في مثل هذا الوم تنتصب امامي معاني ايامي الغابرة كأنها مرآة ضئيلة انظر فيها طويلا فلا أرى سوى أوجه السنين الشاحبة كأوجه الاموات وملامح الآمال والأحلام والأماني المتجعدة كملامح الشيوخ ..

ثم أغمض عيني وأنظر ثانية في تلك المرآة فلا أرى غير وجهي .

ثم أحدق ألى وجهي فلا لاأرى فيه غير الكآبة .. ثم استنطق الكآبة فأجدها خرساء لا تتكلم .. ولو تكلمت الكآبة لكانت اكثر حلاوة من الغبطة ..

في الخمس والعسرين سنة الغابرة قد احببت كثيرا ..

وكثيرا ما احببت ما يكرهه الناس وكرهت ما يستحسنونه والذي احببته في صباي ما زلت احبه الان ..
والذي احبه الان سأظل احبه الى نهاية الحياة فالمحبة هي كل ما أستطيع ان احصل عليه ولا يقدر احد ان يفقدني اياها ...
أَحْبَبْتُ الحرّيَّة أكثرَ من كلِّ شيء لأنَّني وجدتُهَا فتاة

قد أضناها الانفراد، وأَنْحَلَهَا الاعتزال... حتى صارت

خيالاً شَفَّافًا يَمُرُّ بين المنازِلِ،

ويَقِفُ في منعَطَفَاتِ الشَّوارع،

وينادي عابِرِي الطريق... فلا يسمعون ولا يلتفتون.

في الخمسِ والعشرين سنة أحببتُ السعادة... لكنني

لم أجدها... ولما انفَرَدْتُ بطلبها سمعت نفسي تهمس في أذني قائلة:

السعادة صَبِيَّةٌ تولَدُ وتحيا في أعماق القلب ولن

تجيء إليه من محيطه. ولمَّا فَتَحْتُ قلبي لكي أرى السعادة

وجدت هناك مرآتها وسريرها وملابسها، لكنني لم أجدها.

وقد أحببت الناس. أحببتهم كثيرًا.

والناس في شرعي ثلاثة:

واحد يلعن الحياة،

وواحد يباركها،

وواحد يتأمل بها.

فقد أحببت الأول لتعاسته، والثاني لسماحته، والثالث لمداركه...

واليوم... أقف بجانب نافذتي،... ثم أنظر مُتَأَمِّلاً بما وراءَ المدينة، فأرى

البرِّيَّةَ بكلِّ ما فيها من الجمال الرهيب...

ثم أنظر متأمِّلاً بما وراءَ البحر فأرى الفضاءَ غيرَ المُتَنَاهِي

بكلّ ما فيه من العوالِمِ السَّابِحة،

والكواكبِ اللاَّمِعَة،

والشموسِ والأقمارِ والسيَّاراتِ والثَّوابِتِ وما بينها

من الدوافِعِ والجواذِبِ المتسالمة المتنازعة، المتولَّدة، المتحوِّلة،

المُتَمَاسِكَة بِناموسٍ لا حدَّ له ولا مدى...

أنظُرُ وأتأمَّل بجميعِ هذه الأشياء... فأنسى الخمس

والعشرين... ويظهر لي كِيَانِي ومحيطي بكلِّ ما أخفاه

وأعلَنَهُ كَذَرَّةٍ من تنهُّدَةِ طفلٍ ترتجف في خلاء أَزَليِّ

الأعماق، سرمديِّ العُلُوّ، أبديّ الحدود. لكني أشعر

بكيانِ هذه الذرة، هذه النفس، هذه الذات التي أدعوها

أنا... وبصوتٍ مُتَصَاعِدٍ من قُدْسِ أقْدَاسِهَا تصرخ:

سلام أيتها الحياة.

سلام أيتها اليقظة.

سلام أيتها الرؤيا.

سلام أيها النهار الغامِرُ بنورِكَ ظلمَةَ الأرض.

سلام أيها الليل المظهِّر بظلمتِكَ أنوارَ السماء.

سلام أيتها الفصول.

سلام أيها الربيع المُعِيدُ شَبِيبَةَ الأرض.

سلام أيها الصيف المذيعُ مجدَ الشمس.

سلام أيها الخريف الواهبُ ثمارَ الأتعاب وإلَّةَ الأعمال.

سلام أيها الشتاء المُرجعُ بثوراتك عزمَ الطبيعة.

سلام أيتها الأعوام الناشِرَة ما أخفته الأعوام.

سلام أيتها الأجيال المُصلِحَة ما أفسدته الأجيال.

سلام أيها الزمن السائرُ بنا نحو الكمال.

سلام أيها الروح الضابطُ أعنَّةَ الحياة.

والمحجوبُ عنا بِنِقَابِ الشَّمْس .









 
في مثل هذا اليوم تجيء الارواح التي رسمت روحي متراكضة نحوي من جميع اطراف العالم , وتحيط بي مرتلة اغاني الذكرى المحزنة , ثم تتراجع على مهل وتختفي .....................


يسلموووووووو
سماايل
كلمات تستحق التفكير والوقوف والتأمل

سلمت يداكِ
 
موضوع رائع

تحياتى دوماً وابداً بالنجاح الدائم
 
الوسوم
الشمس حول خمس دورة وعشرون
عودة
أعلى