كوليرا

  • تاريخ البدء

MAHMOUD YASSIN

الاعضاء
شب الولدان ـ سعيد وإبراهيم ـ ارتفعا عن الأرض قليلا بين أذرع أبويهما‏,‏ في تلك السنة كان وباء الكوليرا قد انتشر في القطر المصري كله‏..‏ سن منجله وقطف رقاب الفلاحين‏..

كان يسري في القري كقطار هارب‏,‏ يحصد أرواح الآلاف من الرجال‏,‏ والنساء‏,‏ والأولاد‏,‏ والبنات‏,‏ والشيوخ‏,‏ والعجائز‏.‏
ما الذي أصاب القرية فجأة؟
لا أحد يستطيع أن يوقف زحف الموت‏,‏ كأن الملك قد نفخه في السحب المعبأة بالأسود‏,‏ فصارت تقبض روح كل من تمر من فوقه‏,‏ دون أن تفرق بين أحد‏.‏
امتلأت أكوام الجير الحي بالأجساد الميتة‏,‏ انتشرت سحب الدخان الذي يتصاعد من تلك الأكوام‏,‏ بيوت القرية وشوارعها‏,‏ ضجت بالحزن والخوف‏,‏ تسلل الرعب إلي الناس‏,‏ الكل يخطو الخطوة بحذر‏,‏ يقف بعدها لفترة يتحسس الرهبة تحت قدميه‏.‏
‏***‏
في تلك الأثناء وقفت تماضر أمام بيتها‏,‏ تتطلع هنا وهناك‏,‏ تبحث عن زوجها وابنيها‏,‏ حين رأتهم قادمين من ناحية البحيرة‏,‏ أغلقت باب البيت‏,‏ هرولت تجاههم وهي تحمل مؤونة علي ظهرها‏.‏
وصلت إليهم‏,‏ والخوف‏,‏ والجزع‏,‏ والدموع‏,‏ والصراخ‏,‏ والألم‏,‏ والنحيب‏,‏ كل ذلك يصاحبها‏,‏ يلون وجهها‏,‏ احتضنت ولديها‏,‏ قالت‏:‏
ــ سوف نذهب إلي تانيس‏,‏ إلي أن يرحل ذلك الوباء عن قريتنا‏.‏
ــ ولماذا نذهب بعيدا؟‏,‏ الموت آت في أي مكان‏..‏ وقد مر أسبوعان والحمد لله مازلنا أحياء‏.‏
ــ دخل الوباء إلي بيت أبي‏..‏ ماتت أمي‏..‏ لن أنتظر حتي يأخذ الموت مني ولدي‏.‏
ــ متي حدث ذلك؟
ــ منذ ساعة تقريبا‏.‏
ووجهه ممتلئ بالأسي‏.‏ قال‏:‏
ــ لله الملك من قبل ومن بعد‏.‏
ــ هيا أسرع واسبقنا‏,‏ جهز لنا المركب‏,‏ لنذهب إلي البحيرة ونحتمي بها‏.‏
‏***‏
هرول وسبقهم‏,‏ أعد المركب‏,‏ أنزلهم به بسرعة‏,‏ انطلق هاربا من كائنات الكوليرا المرعبة‏..‏ بدا في ضربه ماء البحيرة كمن يضرب شيئا كريها بغل‏,‏ كأنه يري ذلك الفيروس اللعين‏,‏ الذي قضي علي نصف أهل القرية في أسبوعين فقط‏..‏ وتماضر تحتضن ولديها‏,‏ تئن أنينا مكتوما‏,‏ مع ضربة كل مجداف‏,‏ تزأر وتخيف الكوليرا‏..‏ شعرت في لحظة أنها تراها وجها لوجه‏,‏ فملأت يديها من الماء وقذفته‏,‏ فبلل الرذاذ وجه زوجها الذي بصق بقوة‏..‏ فتخاذلت الكوليرا‏..‏ وهدأ الخوف حين وصلوا إلي تانيس‏.‏
‏***‏
بعيدا عن القرية‏,‏ نسوا ما هربوا منه لفترة‏,‏ لولا ذلك الدخان الكثيف‏,‏ المتصاعد من مرجل الموت العملاق‏,‏ يلفت انتباههم وهو يلف القرية بوشاح أسود‏,‏ يملأ العيون‏,‏ يلونها بالرعب الذي ظل ملازما للناجين من الموت في مسيرة حياتهم‏,‏ التي هربوا بها من ذلك الفيروس المرعب‏.‏
‏***‏
ثعابين خرافية تدلت من جحيم الكون‏,‏ فتحت أفواهها‏,‏ بخت الرعب في قلوب البشر‏,‏ الواقفين في حالة عجز تام‏,‏ حيال ما حدث لهم‏..‏ راقدين استسلاما‏,‏ أمام رحمة الإله‏..‏
أبرقت السماء وأرعدت‏,‏ امتلأت الدنيا بأصوات الفزع‏,‏ بعد ذلك أسالت السحب الماء علي الناس‏,‏ أمطرت أياما متواصلة بدون انقطاع‏.‏
جرف المطر الكوليرا‏,‏ أنزلها في أسفل سافلين‏..‏ خرجت الشمس قوية‏,‏ استردت الناس عافيتها‏,‏ تحت أشعتها الدافئة‏,‏ أجلت بطونهم وطهرتهم‏..‏ بمرور الوقت منحتهم القوة والحياة من جديد‏..‏
والأطفال في الشوارع يغنون ويرقصون‏:‏
طلعت الشمس والنور في عينيها‏..‏
هات لنا هدية‏..‏
هلت الشمس وفتحت لنا عينيها‏..‏
هات لنا هدية‏..‏
‏***‏
اكتست الحقول بثوب أبيض ناصع‏,‏ والفلاحون يخرجون في الصباح الباكر‏,‏ خلفهم أولادهم وزوجاتهم‏..‏ يصطفون في صفوف عريضة‏,‏ يبدأون في جني القطن‏,‏ والأغنيات تتردد من أرض لأرض‏,‏ تخرج من أفواههم منتظمة‏,‏ تنتقل من أذن لأذن‏..‏ في فترات متباعدة‏,‏ ينادون علي الماء‏,‏ فتستعد البنات اللاتي يملأن الجرار بالماء العذب‏,‏ يتمخطون بطول الصفوف‏,‏ يروين العطشي‏,‏ يتبادلن الضحكات مع جناة القطن‏,‏ فيزلن بمرحهن تعب العمل‏,‏ يلطفن بحضورهن حرارة الشمس‏,‏ يجلسن بعد ذلك‏,‏ ليجففن ملابسهن الزاهية‏,‏ التي ابتلت بالماء‏.‏
في الظهر‏,‏ يجلس الجميع في مجموعات صغيرة‏,‏ يتناولون الطعام‏,‏ يضجعون علي جوانبهم وظهورهم لفترة‏..‏ بعدها يبدأون في العمل من جديد‏,‏ وغناؤهم يدفعهم ويحفزهم أكثر‏,‏ علي إنهاء موسم الجني بأقصي سرعة‏,‏ ففي نهاية الموسم سوف يحصلون علي المال اللازم لمعيشتهم‏,‏ لزواج الأبناء والبنات‏,‏ وسوف تتم المشاريع المشتركة التي رتبوا لها في موسم الزراعة والإعداد لجني القطن‏.‏
‏***‏
حياتهم تمر في سلاسة ويسر‏,‏ رغم قلة العائد‏,‏ لكنهم كانوا يقهرون ما يعوقهم عن الحياة‏,‏ بعشقهم لعملهم وأرضهم‏,‏ رغم أنهم من صغار ملاك الأراضي‏,‏ حصلوا عليها من الاصلاح الزراعي‏,‏ الذي حولهم من فلاحين أجراء إلي ملاك‏..‏
ذلك العشق للعمل تشربوه منذ ولدوا‏,‏ جعل الواحد منهم يقضي أطول وقت ممكن في عمله وأرضه وهو سعيد مبتهج‏,‏ بالمرور فيها والجلوس علي ترابها‏,‏ والدوران حول جسورها وحدودها‏..‏
بلبول وسعيد يغنيان وهما يحرثان أرضها‏,‏ يرويانها ليلا‏,‏ يجنيان محاصيلها‏,‏ في أوقات لا تصلح أبدا للخروج من البيت‏..‏ كانهمار المطر فجأة أو هبوب الريح والعواصف أو ظلام الليل‏,‏ الذي لا وجه له أو من تلك الأمور مجتمعة حين يسوء الطقس‏,‏ يقذف بها دفعة واحدة في وجوه الفلاحين‏.‏
‏***‏
وقف بلبول في تانيس‏,‏ راح ينظر إلي حوائطه سقفه‏,‏ ممراته‏,‏ وهو في نشوة‏,‏ وضع أصابعه ببطء علي الجدار‏,‏ مرر بصماته علي النقوش والرسومات‏..‏ بدا كمن يلمس ذهبا‏..‏ التمعت عيناه‏..‏ قال لزوجته بصوت خفيض‏,‏ مقتربا منها‏:‏
ــ هذا ما خلفه الأجداد لنا‏..‏
وتساءل بأسي‏:‏
ــ فماذا سنترك لأولادنا؟
ــ ربنا يحفظك لنا‏,‏ ويطيل في عمرك‏.‏
داعب صغيريه‏,‏ أخذهما في صدره‏,‏ أمسك أيديهما‏,‏ قربهما من الحوائط‏,‏ علمهما أن يتعاملا معها مثلما يفعل‏..‏ تردد في ذهنه سؤال ألح عليه‏:‏
ــ إلي متي تظل الذكري هي كل إنجازنا؟
قال لزوجته‏:‏
ــ أود أن أعلم الولدين النحت‏,‏ كي يصنعا لنا مثل هذا‏.‏
ضحكت ضحكة عالية‏,‏ قالت‏:‏
ــ اتركهما يتعلمان الزراعة ليساعداك في عملك‏.‏
قال‏:‏
ــ لا‏..‏
تعرفين أنني أتمني من كل قلبي أن يتعلما‏,‏ لن أبخل عليهما بشئ‏.‏
أضاف‏:‏
ــ أود أن يصبحا موضوع فخر لنا‏,‏ يعليا من شأننا في الحياة والممات‏.‏
أشار بيده وعينيه‏,‏ وقال‏:‏
ــ مثل هذا البيت تماما‏.‏
‏-------------------------------------‏
 
التعديل الأخير:
كوليرا
 
الوسوم
كوليرا
عودة
أعلى