الرضاعة السليمة

من مظاهر عبقرية الإمام الصادق ( عليه السلام ) رأيه في الرضاعة السليمة , وتوجيهه الأمهات إلى إرضاع الطفل وهو راقد إلى الناحية اليسرى من أمه . وطوال قرون ممتدة ظلت الحكمة من هذه النصيحة خافية على الكثيرين , الذين كانوا يعتبرونها تدخلا في ما لا يعنيه , وتزيدا لا لزوم له وعندما سُئل الإمام محمد بن إدريس الشافعي , الذي ولد بعد وفاة الصادق ( عليه السلام ) بعامين ( أي في سنة 150 للهجرة في مدينة غزة وتوفي في القاهرة في عام 199 هـ ) عن رضاعة الطفل , وهل الأسلم أن يرضع الطفل وهو راقد إلى الجانب الأيمن من أمه أو إلى جانبها الأيسر , رد قائلا : لا فرق بين الأيمن والأيسر , وللأم أن ترضع طفلها كما تشاء وبالأسلوب الذي يشعره بالراحة .
ورأى البعض أن الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) قد خالف ما جرت عليه الأمهات من وضع الطفل في الناحية اليمنى عند إرضاعه , وأن من الأكرم للأم وللطفل أن يكون في ناحية الميمنة عند الرضاع .
وهكذا خفيت الحكمة من هذه النظرية في الشرق وفي الغرب , حتى في عصر النهضة والتجديد , ولم يقع أحد على الفوائد المرتجاة من تطبيقها عمليا عند الرضاعة .
وفي القرن الثامن عشر الميلادي وهو عصر النهضة والتجديد أنشئت جامعة كورنيل في ولاية نيويورك ( والتي يعزى الفضل في تأسيسها إلى عزرا كورنيل الذي عانى في صغره عناء شديدا من مشكلات الرضاعة ومتاعبها ) ومن هنا اعتزم أن يلحق بالجامعة مستشفى , وأن يلحق بالمستشفى معهدا لدراسة مشكلات الرضاعة والطفولة .
ولما استكملت الجامعة مرافقها , بدأ هذا المعهد في دراسة كل ما يتعلق بالطفولة والرضاعة , حتى أصبح من أهم المؤسسات العلمية المتخصصة في شئون الطفل في العالم .
وقل أن تجد موضوعا يتعلق بالطفل أو بالرضاعة إلا وقد وفاه هذا المعهد دراسة وبحثا وخرج فيه بأسلم النتائج العلمية . وقد يندهش المرء إذا عرف أن هذا المعهد عني كذلك بدراسة اللوحات الزيتية التي رسمها كبار الفنانين للأطفال والتي تقتنيها المتاحف الرئيسية , ولوحظ أن معظم هذه الصور كانت تمثل الأم حاملة طفلها من الناحية اليسرى . ذلك أن عدد الصور التي درست كان 466 صورة , تبين أن 373 صورة منها تمثل أمهات يحضن أطفالهن إلى الناحية اليسرى , في حين أن 93 صورة كان الطفل فيها محمولا من الناحية اليمنى , أي أن 80 % من الصور الموجودة في المتاحف , والتي تمثل الأمومة , قد أظهرت الطفل محمولا من الناحية اليسرى .
وفي ولاية نيويورك عدد من مراكز الولادة ورعاية الطفل التابعة لمؤسسة كورنيل الجامعية للأطفال , وكلها توافي المعهد العلمي للجامعة بالتقارير والملفات الطبية الخاصة بالأطفال والأمهات لدراستها .
ويؤخذ من التقارير التي أرسلت إلى المعهد العلمي في فترة غير قصيرة أن الطفل في أيامه الأولى يكون أهدأ وأقل بكاء لو نام إلى الجانب الأيسر لأمه , أما إن نام إلى الناحية اليمنى , فهو يستيقظ في فترات قصيرة متقطعة وينخرط في البكاء .
ويلاحظ أن هذه الدراسة تتناول الأطفال البيض والسود دون تفرقة , وقد برهنت في جميع الحالات على أن الطفل , سواء أكان أبيض أو أسود أو هنديا أحمر , يجد مزيدا من الراحة والهدوء إذا رقد إلى الجانب الأيسر لأمه .
وقد أنفقت جامعة كورنيل وقتا طويلا في بحث هذا الموضوع إلى أن تم اكتشاف الأشعة التي يسرت على الأطباء رؤية الجنين في رحم أمه وتصويره , وتعرف باسم ( هولوجرافي ) وقد تبين من استخدام جهاز ( هولوجرافي ) أن ضربات قلب الأم تحدث أمواجا تنتشر في جسمها وتصل إلى سمع الطفل . وبعد أن عرف الأطباء هذه الحقيقة , رغبوا في معرفة الآثار التي تظهر في الطفل عند توقف ضربات قلب الأم , ولاسيما لأن توقف نبض قلب الأم كان معناه الموت للأم وللطفل معا , ومن ثم أجرى الأطباء تجارب على الحيوانات المرضعة , فتبين لهم أن إيقاف نبضات قلب الحيوان الحامل ينعكس على جنينه على الفور , وهي نتيجة تحققت من التجارب التي أجريت على فصائل شتى من الحيوانات , وقطع الأطباء بأن توقف قلب الأم يؤثر تأثيرا مباشرا في الجنين , وبوفاة الأم , يموت الجنين بدوره , لأن الجنين يتغذى من الشريان الأورطي المتصل بقلب الأم ويتأثر بنبضات قلبها , ولو توقف هذا النبض لانقطع الغذاء عن الجنين ولمات في بطن أمه .
وقد استنتج الأطباء من هذه التجارب أن الجنين لا يعتاد سماع ضربات قلب أمه وحسب , بل إن حياته ترتبط أيضا بهذه الضربات وبالدفء الذي تشيعه , فإن توقفت الضربات انقطع الغذاء عن الجنين ومات .
ولأن الطفل قد اعتاد على سماع ضربات قلب أمه منذ ما كان جنينا في الرحم , فهو يرتبط بأمه ويتعلق بها ويشعر بهدوء وراحة بالقرب من نبضات قلبها , وهذا هو السر في أن حمل الطفل من ناحية الأم اليسرى يجعله أكثر اطمئنانا وهدوءا , وهو يفتقر إليه الجانب الأيمن للأم .
ولولا جهود المعهد العلمي الجامعي الذي أسسته جامعة كورنيل في دراسة أوضاع الطفل ومشكلاته الصحية والنفسية وأسباب الرعاية السليمة التي تتاح له في أيامه الأولى , لما عرفنا أهمية النظرية التي ساقها الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) في هذا المقام , ومؤداها أن الرضاعة السليمة تقتضي من الأم توسيد طفلها إلى جانبها الأيسر لا الأيمن .
وقد ارتأى مركز الولادة ورعاية الطفل التابع لجامعة كورنيل تجهيز جميع فروعه ووحداته بجهاز يوضع في غرفة الأطفال الحديثي العهد بالولادة , ومهمته بث صوت شبيه بنبضات قلب الأم , وزودت أسرة الأطفال بجهاز مهمته نقل صوت هذه الضربات إليهم .
ومعروف أن قلب الشخص البالغ السليم يدق عادة مرة في الدقيقة , ومن التجارب التي أجريت على الأطفال زيادة عدد نبضات القلب إلى 120نبضة في الدقيقة , فكان من أثر ذلك انزعاج الأطفال وارتفاع عقائرهم بالبكاء , فإن أعيدت النبضات إلى وضعها الطبيعي , وهو 72 دقة في الدقيقة , كف الأطفال عن البكاء . وقد جربت هذه التجربة وأعيدت في مراكز الرضاعة مرات كثيرة , فكانت نتيجتها واحدة .
وهناك تجربة أخرى أجريت على الأطفال الرضع , فقد وضعت مجموعة منهم في غرفة بها جهاز يقلد ضربات قلب الأم بحيث يسمعه الأطفال , ووضعت مجموعة أخرى في غرفة يخيم عليها الهدوء , وليس فيها جهاز كهذا . فاتضح للأطباء إن الأطفال الذين تضمهم المجموعة الأولى , وهم الذين يسمعون صوت النبضات , يزيد وزنهم بسرعة تفوق سرعة الوزن لدى أطفال المجموعة الثانية .
وقد قام الدكتور ( لي سولك ) وهو طبيب متخصص في طب الأطفال في معهد كورنيل الجامعي بجولة حول العالم لدراسة التقاليد التي تجري عليها الشعوب والأمم في إرضاع الطفل ورعاية الطفولة , وكتب في تقريره يقول إنه رأى في مناطق شتى من العالم أمهات يحتضن أطفالهن في الجانب الأيسر , وذلك أثناء نهوضهن بأعمالهن أو عند عبور الطرق .
كما لاحظ أن معظم الأمهات اللائي يحضن أطفالهن من الناحية اليمنى هن عسراءات ( أي يستخدمن من أيديهن اليسرى ) .
وما قاله الدكتور ( لي سولك ) في تقريره إنه سأل عددا من الأمهات عن سبب حملهن لأطفالهن من الناحية اليسرى وإرضاعهن لهم في هذا الوضع , فلم تستطع الأمهات تعليل ذلك ولا خطر ببال إحداهن أن تقول للدكتور سولك بأن الطفل يأنس بسماع صوت القلب عندما تحمله أمه من الناحية اليسرى , وهو الصوت الذي ألفه منذ أن كان جنينا في الرحم .
 
الوسوم
الرضاعة السليمة
عودة
أعلى