القواعد الفقهية وجمع الكلمة

القطه

الاعضاء
خلف لنا السلف الصالح كنوزاً علمية عظيمة مثَّلتْ مَنهجاً راسخاً، ومن تلك الكنوز: القواعد والأصول العلمية والدعوية والاجتماعية... وغيرها، تلك التي اختصرت المراحل والسنين والجهود، بل المؤلَّفات.
فالذي يخوض في القواعد الفقهية - مثلاً - يشـعر بالعبقـرية والملَكَـة الذهنية التي وصل إليها الأوائل، ويعرف مدى الفهم الواسع والإدراك الثَّاقب لتفاصيل الشريعة، وكيف استطاعوا أن يختصروا مجلدات من الأحكام في عدة قواعد، والقاعدةَ في كلمات بعضها لا يتجاوز حجم أصغر جملة فى اللغة العربية.
فتأمَّل إلى هذه القاعدة الكلية - مثلاً - التي هي من القواعد الفقهية الخمس الكبرى: (المَشَقَّةُ تَجْلبُ التَّيسِير). يقول عنها الفقهاء: (تَدور عليها جميع الأحكام الشَّرعية عند حصول المشقة الشديدة وقيام الضرورة الـمُلِحَّة)[1]. والقواعد بشكل عام لم تقتصر على أحكام الشعائر التعبدية، بل شملت مجملَ الأحكام الشرعية، وأغلبَ الحاجات الدنيوية؛ لذا نجد فيها قواعد دعوية أصولية، منهجية، تُنير الطريق أمام الدعاة وتُوضح كثيراً من الأمور في السير الصحيح.
ومِن أشهر هذه القواعد التي تَمس العمل الدعوي مباشرة: قواعد الموازنات بين المصالح والمفاسد، مثل قاعدة: (درء المفاسد مُقدَّم على جَلْب المصالح)، وقاعدة: (إذا تعارضت مصلحتان تُقدَّم الأعلى، وإذا تعارضت مفسدتان تُرتكَب الأدنى).
وهذا الفقه (فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد) تزداد الحاجة إليه كلما زاد الغموض في معرفة العلاقة بين المصالح والمفاسد، أو بين المصالح وبعضها، وكذلك المفاسد وبعضها، (وتزداد الحاجة إليه أيضاً كلما ساءت الظروف والأحوال التي تَمُرُّ بها الأمة؛ حيث تكثر الخِيارات الصعبة، وتضيق سبل الحلول المطروحة، وتصبح التضحية ببعض الخير، وارتكاب بعض الشر أمراً لا مَفَرَّ مِنهُ)[2].
ولذلك تُعتَبَر قواعد المصالح والمفاسد من أروع إبداعات علماء المسلمين؛ إذ إن (المصالح المحضة قليلة، والمفاسد المحضة قليلة، والأكثر منها اشتمل على المصالح والمفاسد ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «حُفَّت الجنة بالمكاره، وحفَّت النار بالشهوات»)[3]؛ لذلك (إذا اجتمعت مصالح ومفاسد فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد فعلنا ذلك امتثالاً لأمر الله - تعالى - فيهما لقوله - سبحانه وتعالى -: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 61].
وإن تعذَّر الدرء والتحصيل؛ فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة درأنا المفسدة، ولا نبالي بفوات المصلحة؛ فإنَّ الله - تعالى - قال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْـخَمْرِ وَالْـمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} [البقرة: 912]. حرَّمهما لأنَّ مفسدتهما أكبر من نفعهما، وإن كانت المصلحة أعظم من المفسدة حصَّلنا المصلحة مع التزام المفسدة)[4].
وشباب الصحوة والعاملون عموماً في الساحة الدعوية، بحاجة إلى فقه هذه القواعد في مثل هذه المرحلة الحَرِجة من عُمُرِ الأمة؛ فمَا أحوجنا إلى معرفة متى تُقدَّم مصلحة على أخرى، فتُترك مصلحة معتبَرة شرعاً بدون تحرُّج أو تأثُّم، وكذا معرفة متى تُرتكَب مفسدة أدنى بدون حرج أو تَخوُّف من إثم أو ذنب.
ويَبـدو أنَّ هـذا الفقـه لـم يأخـذ حقـه لا تنظيـراً ولا تطبيقــاً في أبجـديات الجمـاعات الإسلامية، ويدلُّك علـى ذلك الأثر الظاهر في التصرفات والمواقف الفردية والجماعية غير المبنِيَّة على تأصيل وتقعيد عند تعارض المصالح والمفاسد، وهو ما نتج عنه تربيةٌ غير ناضجةٍ أثمرت نتائجَ غيرَ يانعة، مثل: السطحية، والعاطفة، وردِّ الفعل، والاندفاع، والتناقض أحياناً، والشطح، والغلو في بعض المواقف، والتساهل في بعضها الآخر، ولعل الجَمْهَرة والانشغال بكثرة الزحام فيما يبدو، شَغَلتْ المربين عن أن يُعطوا هذه القواعد حقها.
وعلاقة القواعد المذكورة بقضية جِمْع الكلمة ومبدأ التعاون على البر والتقوى واضحة؛ حيث إن فقه تقديم مصلحة عامة على مصلحة خاصة، ومصلحة الأمة على مصلحة الجماعة، ودرء مفسـدة تضـر بالجمـاعة أَوْلَى من درء مفسـدة تضـر بالفـرد، وارتكـاب مفسـدة التنـازل للآخـر - هذا إن كانت مفسدةً - أخفُّ من مفسدة الفُرقة والشقاق... وهكذا.
فقواعد الموازنات لو أنها قواعد حية فاعلة أُشبِِعتْ بها أفهام شباب الصحوة من قِبَل قادتها، لوجدت أن مجال التكامل والتعاون بين الجمـاعات هو المجال الفسـيح لتطبيقهـا وإحيائهـا؛ فالجماعات الإسلامية – عموماً – تحتاج إلى مثل هذه القواعـد في دعـوتها وحركاتها نحو تغيير المجتمع؛ فجدير بها أن تُعطيها أهمية تليق بها ولا يُكتفَى بما يُقدَّم عنها - مع قِلَّته - في الأبحاث الجامعية والمقالات والمؤلَّفات، بل لا بد أن تكون منهجاً تربوياً يُنزَّل على الواقع، ويخفِّف الفوضى الفكرية التي تعمل على إشغال العقل المسلم بسطحياتٍ وتوافهَ؛ حتى لا يتفرَّغ للنَّظر في عواقب الأمور ومآلات الأحداث.
إنني أتمنى أن أسمع يوماً عن مؤتمرٍ إسلامي فكري عالمي تتبناه جماعة أو مؤسسة؛ يَهْدف إلى تقعيد القواعد، وإبراز دورها وأهميتها، وتسهيل التعامل معها بتنزيلها على واقع اليوم، كما نزَّلها السابقون على واقعهم ووقائعهم.
ولعلَّ التمثيل باليسير مِن واقعنا يُؤكد شيئاً من أهمية ذلك؛ فمثلاً عندما يقــف فصيل من فصائل الجماعات الإسلامية ضد فصيلٍ آخر يُمَارس العمليــة الانتخابيــة ويشارك فيهــا، أو يقف بعيداً عنه بلزوم الصمت في أقل الأحوال؛ لأنه يَنظر إلى مفاسدها، وهو الذي يُشارك في تنافسٍ عَلمانيٍّ وحربٍ شعواء ضد الإسلام والمسلمين، لا يستحي العَلمانيون فيها أن يتفوَّهُوا بأقبح كلام عن الإسلام والمسلمين، ويكفي أنهم يعلنون - حالاً أو مقالاً - أن خصمــهم هــو الإســلام أيّاً كان شكــله أو لونه... ألا يَحتاج هذا الموقف من المعارِض أو المنعزل إلى تقعيدٍ وتأصيلٍ على ضوء تلك القواعد؟ .
وفي المقابل عندما يقلل جناح من أجنحة العمل الإسلامي، من أهمية العملية التربوية للأمة ونشر العلم الشرعي، ومن تأصيل المنهج العلمي وتنقيته مما تراكم عبر السنين؛ مما شَوَّهَ صورته، وهو يرى واقع الأمة ويشعر بما أصابها من أثر جَهلها بِدِينها، وأثَر الانحرافات الفقهية والعقدية التي شوَّهت جمال الدين، وكيف أخَّرَت الأمة قُروناً (فكرياً وروحياً وسياسياً)، عندما يقف هذا الجناح هذا الموقف وهو يَعُدُّ هذا العمل ترفاً وتَضييعاً للوقت، وإهداراً للجهد، ألا يحتاج هذا إلى وقفة جادة لتصحيح هذا الموقف على ضوء القواعد النيِّرة المذكورة سلفاً؟ .
وبالجملة، فإنه عندما يُقلل طرفٌ من جُهد طرفٍ آخر ينبغي أن يُبنى هذا الموقـف على أصـول أصيلـة وقواعـــد حَكِيمـــة، لا على الـمُنافسة والـمُشَاحَّة.
وإن العمل الذي يقوم على قواعد وأصول شرعية يقرِّب وُجهات النَّظر ويقلل - ولا شك - الاختلاف، ويُقيم عملاً سليماً، أو قريباً من السلامة والكمال، وَلْنَقترب أكثر من الموضوعية، فنقول: المطلوب في هذا الأمر آليات تُساعد على فقه هذه القواعد وتفهيمها، بتدريسها ونِشْرها وإشاعتها وتوضيحها وإبراز ما يُذكِّر بها؛ فيُوَجَّه الباحثون والمحققون والأصوليون إلى ذلك، وتُنشر الأبحاث، وتُقام الندوات واللقاءات، وتُدرَّس الموادُّ العلمية المؤلَّفة فيها... وهكذا.
ختاماً: ما هذه إلا إشارات للتذكير، وكلمات على الطريق؛ وإلا فالموضوع يحتاج إلى متخصصين. ويتوجب على أهل الحل والعقد في قيادات العمل الإسلامي ألَّا يَدَعوا باباً يجمع الكلمة ويقلل الافتراق إلا فتحوه وولجوه.
وفَّق ربنا المولى الجميع إلى خيري الدنيا والآخرة.
ــــــــــ
[1] القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه، أ.د.محمد بكر إسماعيل، دار المنان.
[2] فصول في التفكير الموضوعي، د. عبد الكريم بكار،(168).
[3] قواعد الأحكام في مصالح الأنام، العز بن عبد السلام، (1/14).
[4] المصدر السابق: (1/ 68).



 
الوسوم
الفقهية القواعد الكلمة وجمع
عودة
أعلى