مناهج التيسير المعاصرة

القطه

الاعضاء
تمثل المناقشات الدائرة حول ما يسمى بتيسير الفتوى أحد المعالم الخاصة بالمشهد الفقهي في هذه الفترة، وقد تجاوزت المناقشات القضية نفسها إلى جعل (التيسير) مذهباً أو منهجاً يوصف به بعض المعاصرين على سبيل الذم.

والحقيقة أننا إذا نظرنا للتيسير على مستوى النظرية وغضضنا النظر عن آثاره على أفراد الفتاوى والمسائل، واكتفينا بذلك؛ سنجد نقاطاً تستحق الوقوف معها ربما تؤثر على أسلوب التعامل مع هذه المسألة.

فالتيسير لم يرد في لسان الشرع بالذم، بل ورد الأمر به أمراً عاماً في قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: (يسروا ولا تعسروا) صحيح البخاري (3038)، صحيح مسلم ( 1733).

ووصف به الدين كله: (إن دين الله يسر، ولن يشاد الدين أحدٌ إلا غلبه). البخاري (39)، مسلم (2816) .

ووصف به نهج الصحابة رضي الله عنهم. قال عمر بن إسحاق: لما أدركت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ممن سبقني منهم، فما رأيت قوماً أيسر سيرة، ولا أقل تشديداً منهم). الدارمي (1/51) وفي المقابل جاء ذم التشدد في نصوص كثيرة.

ومنهج التيسير (أو الترخص والتساهل وهو اللفظ المستعمل للدلالة على المعنى عند المتقدمين) منهج سلفي اختاره بعض الصحابة وعرفوا به كما اشتهر عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقد قابله منهج عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، والحامل لكل منهما على مذهبه هو فهمه وطريقة استدلاله، بما ثبت عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ولا يخفى وصية الرشيد للإمام مالك لما عهد إليه بوضع كتاب في الفقه، أن يتجنب ترخصات هذا وتشديدات هذا.

قال ابن القيم عنهما: (أحدهما يميل إلى التشديد، والآخر إلى الترخص، وذلك في غير مسألة، وعبد الله بن عمر كان يأخذ من التشديدات بأشياء لا يوافقه عليها الصحابة، فكان يغسل داخل عينيه في الوضوء حتى عمي من ذلك، وكان إذا مسح رأسه أفرد أذنيه بماء جديد، وكان يمنع من دخول الحمام، وكان إذا دخله اغتسل منه، وابن عباس كان يدخل الحمام. وكان ابن عمر يتيمم بضربتين ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين، وكان ابن عباس يخالفه.

ويقول: التيمم ضربة للوجه والكفين، وكان ابن عمر يتوضأ من قبلة امرأته ويفتي بذلك، وكان إذا قبل أولاده تمضمض ثم صلى، وكان ابن عباس يقول: ما أبالي قبلتها أو شممت ريحاناً، وكان يأمر من ذكر أن عليه صلاة وهو في أخرى أن يتمها، ثم يصلي الصلاة التي ذكرها ثم يعيد الصلاة التي كان فيها.. والمقصود أن عبد الله بن عمر كان يسلك طريق التشديد والاحتياط). (زاد المعاد 2/47). فمناهج الصحابة ثلاثة:

التوسط عليه الغالب، والميل للترخص، والميل للتشدد، وهذه المناهج أو الاتجاهات لا يمكن أن نقول إنها نتيجة أعمال نفس القواعد في الاستدلال والنظر، وأن الرخص لدى من ترخص إنما هو بالنظر لآحاد الفتاوى والمسائل، لأنه لو كانا لحال كذلك لوقع عند المترخص تشدد ولو في بعض المسائل، وهذا يدل على أن الترخص لديه كان منهجاً.

كما يوجد عند الفقهاء الخلاف في القواعد الأصولية المؤيدة لأحد هذه المناهج كالأصل في الأشياء الحل أو الحرمة، والأصل في الشروط والعقود المنع أو الإباحة ونحو ذلك.

ويقرر الشاطبي وجود هذه الاتجاهات الفقهية الثلاث فيقول: (الميل إلى الرخص في الفتيا بإطلاق مضاد للمشي على التوسط، كما أن الميل إلى التشديد مضاءلة ، وربما فهم بعض الناس أن ترك الترخص تشديد فلا يجعل بينهما وسطاً وهذا غلط، والوسط هم معظم الشريعة وأم الكتاب). الموافقات (4/259).

وهذا ما يدفعنا لأن نقول إن منهج الترخص (أو التيسير) منهج اجتهادي مقبول في دائرة الاجتهاد السائغ الدائر بين الأجر والأجرين ووجوده لابد منه، كسائر أنواع الخلاف. " إذ وقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لابد منه، لتفاوت إرادتهم وإفهامهم وقوى إدراكهم، ولكن المذموم بغي بعضهم على بعض وعدوانه، وإلا فإذا كان الاختلاف على وجه لا يؤدي إلى التباين والتحزب وكل من المختلفين قصده طاعة الله ورسوله لم يضر ذلك الاختلاف، فإنه أمر لابد منه في النشأة الإنسانية ". ابن القيم.

وإذا نظرنا فيما يوصف بأنه منهج التيسير المعاصر يمكن أن نجده وصفاً لأصحاب ثلاثة طرق، الأولى: الآخذون في كل خلاف بالأيسر مطلقاً، والثانية: مثلهم لكن بقيد عدم مخالفة روح الشريعة، والثالثة: الأخذ من الأقوال بما هو أقرب إلى العرف أو عادة أهل العصر إما كلهم أو طائفة منهم كالأقليات.

وهذه الاتجاهات والطرق الموسومة بما ذكر، ستجد أن لكل منها ما يعضده ليكون منهجاً شرعياً (أعني داخلاً في دائرة الاختلاف المقبول).

فالأول: منهج معروف وهو الأخذ بالأخف، أو بأيسر ما قيل، ويقابله منهج الأخذ بالأثقل، كما أن التخيير منهج معروف مذكور في أمهات الأصول.

ومن أخذ به رجحه بموافقته لمبادئ الشريعة الدالة على اليسر ورفع الحرج. قال في البحر المحيط (6/30): (الأخذ بالأخف سواء بين المذاهب أو الاحتمالات المتعارضة أدلتها). وفي المسودة (2/858): (إذا استفتى عالمين فأفتاه أحدهما بالإباحة والآخر بالحظر فله أن يأخذ بقول أيهما شاء، ولا يلزمه الأخذ بالحظر، هذا ظاهر كلام أحمد في رواية الحسين بن بشار لما سأله عن مسألة في الطلاق، فقال : إن فعل كذا حنث، قال: فقلت إن أفتاني إنسان أن لا حنث؟ قال : تعرف حلقة المدنيين؟ قلت: فإن أفتوني حل؟ قال: نعم).

وفي الأحكام للآمدي (4/263) لما ذكر المرجحات: (أن يكون حكم أحدهما أخف، فقد قيل: الأخف أولى؛ لأن الشريعة مبناها على التخفيف). وهو الذي رجحه في المحصول (6/214).

والثاني: كالأول مع القيد المذكور المحتاط فيه، يقال فيه ما سبق.

والثالث: له شواهد من الشرع، ومن عمل الفقهاء، فإن التكاليف اختلفت بين مكة والمدينة، باعتبار تغير الأحوال، ومعلوم ما قرره ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم من عدم مشروعية مخالفة المشركين لمن كان مقيماً عندهم، بخلاف ما لو كان بين المسلمين.

ويقول عبد الرحمن بن سعدي: (يلاحظ في هذه الأوقات: التسهيل ومجاراة الأحوال إذا لم تخالف نصاً شرعياً؛ لأن أكثر الناس لا يستفتون ، ولا يبالون، وكثير ممن يستفتي إذا أفتي بخلاف رغبته وهواه تركه ولم يلتزمه، فالتسهيل عند تكافؤ الأقوال يخفف الشر ويوجب أن يتماسك الناس بعض التماسك لضعف الإيمان وعدم الرغبة في الخير).

ومثل الشيخ رحمه الله لا يمكن أن ينبز بالرضوخ للواقع، مع أن الرضوخ للواقع ليس عيباً أو مذمة، بل هو دور مطلوب من الفقيه، إذ هو الذي يقدر وقوع الضرورات وحصول الحاجات، وثبوت الموانع، وتأكد المفاسد، فيرضخ لهذا ويفتي بناء عليها، ولذا فإطلاق الرضوخ للواقع على وجه المذمة لا يسوغ.

وقد اختار جمهور الفقهاء جواز الأخذ بالقول المرجوح عند وجود الحاجة.

قال ابن عاشور: (قد يقع الإغضاء عن خلل يسير، وقد اختار جمهور الفقهاء جواز الأخذ بالقول المرجوح عند وجود الحاجة. قال ابن عاشور: (قد يقع الإغضاء عن خلل يسير ترجيحاً لمصلحة تقرير العقود كالبيوع الفاسدة إذا طرأ عليها بعض المفوتات المقررة في الفقه، وقد كان مفتي غرناطة يفتي بتقرير المعاملات التي جره فيها عون الناس على وجه غير صحيح في مذهب مالك، إذا كان لها وجه ولو ضعيفاً من أقوال العلماء).

ويقول الشاطبي عن المرأة لو تزوجت بدون ولي - في حديثه عن درء أعظم المفسدتين: (فالنكاح المختلف فيه قد يراعى فيه الخلاف فلا تقع فيه الفرقة إذا عثر عليه بعد الدخول مراعاة لما يقترن بالدخول من الأمور التي ترجح جانب التصحيح).

ويقول السبكي: (إذا قصد المفتي الأخذ بالقول المرجوح مصلحة دينية جاز). ومعلوم ما أفتى به ابن تيمية من ترك الإمام ما هو أفضل عنده كالقنوت مراعاة لمصلحة التأليف واجتماع الكلمة. وقال في المراقي:

وقدم الضعيف إن جرى عمل به من أجل سبب قد اتصل

والمقصود أن كل منهج من طرائق التيسير المعاصر إذا نظرنا إليه بتجرد وجدنا له وجهاً شرعياً، ولم نجده مردوداً بإطلاق، وإن كانت أفراد المسائل المفتى بها قد لا نقبلها فالمنهج نفسه – وإن لم يكن راجحاً بإطلاق داخل في الاجتهاد السائغ. وأما أفراد المسائل والفتاوى فتعامل كسائر المسائل بغض النظر عن طريقة أو منهج القائل بها.

وقد سبق لي أن كتبت بعض القواعد والفوائد في تيسير الفتوى. والله الموفق.
 

مواضيع ذات صلة

الوسوم
التيسير المعاصرة مناهج
عودة
أعلى