أولادنا .. في الغربة

img_1314405049_428.gif



مسؤوليةٌ عُظْمَى


وقد أوجب الإسلام على الآباء والأمهات ضرورة الإهتمام الدائم بالأولاد وحسن تربيتهم على العموم، وتزداد الأهمية القصوى بالتربية والتأديب والحفاظ عليهم في بلاد الغربة كي ينشأوا على هدى الإسلام وأحكامه بدلاً من أن تغيرهم الأيام شيئاً فشيئاً حتى يتحولوا عن الإسلام ذاته في الجيل الثاني إن لم يكن في الجيل الأول بعد الاغتراب.
والأمانة ثقيلة، وأرض الواقع حافلةٌ بالأمثلة الواقعيَّة التي يراها أهل الغربة في مجتمعاتهم التي يعيشون فيها من ضياع الأولاد والبنات وانجرافهم مع هذه المجتمعات في تقليدٍ أعمى بلا تعقِّلٍ، وذلك لأن الوالديْن قد قطعا الروابط التي تربط الأولاد بجذورهم، فلم يعد لهم ارتباط بدينهم، ولا لغتهم الأصيلة، ولا بوطنهم الأم، فانحدرت القيم وضاعت الأخلاق.

القدوةُ السَّيئَةُ
وأصبحت الصورة العامة للناشئ المسلم في بلاد الإغتراب –إلا من رحم الله – أنه فاقد القدوة الحسنة في المنزل، فيرى أباه وأمه وإخوته الكبار على جملةٍ من المخالفات الشرعية قولاً وعملاً، فيتأثر بهذه المخالفات ويقلدها، ويظنها حقاً، وما عداها باطلاً، ثم يُفاجَأ الوالدان بأن شخصية هذا الناشئ قد تبلورت على خلاف ما كانا يرجوان له من خيرٍ، رغم أنهما السبب في ذلك. إن حال هذا الوالد وهذه الأم كما قال القائل:
مشى الطاووسُ يوماً باعوجاجٍ فقلّد شكلَ مشيتِهِ بنوهُ
فقال:علام تختالون؟ قـــــــالوا: بدأتَ به ونحنُ مقلدوهُ
فخالفْ سيرَك المعوجَّ واعدلْ فإنـا إنْ عـدلتَ مـعدلـوهُ
أما تــدري أبــانــا كلُّ فــرعٍ يجاري بالخطا من أدبوه؟
وينشــأُ ناشئُ الفتيــانِ منــا على ما كان عوَّدهُ أبوهُ


نعم.. يظهر أثر القدوة في نفس الولد والبنت في زمن الصغر، ويظهر ذلك بانطباعه على نقش الذاكرة ويظل معيناً دائماً لا ينضب في نفس الناشئ حتى يكبر.
ولا شك أنه من صور الإجحاف والظلم للنبت الصغير تركه في العراء بلا تعهد ولا رعاية، حيث ينشغل الوالد والوالدة تماماً عن الفتاة والصبي، فلا مشاركة وجدانية، ولا علاقة حميمة، ولا متابعة للأخلاق والسلوك ولا تقويم ولا تهذيب ، إنما يعملون كل جهدهم في حصول الأولاد على أكبر قدرٍ من الرفاهية في المسكن والمأكل والملبس وشتى المطالب المادية، وهذا شيء مطلوبٌ وحيوي، ولكنه لا يكفي وحده في بناء ناشئة الإسلام في بلاد الغربة على الخصوص.

ومع انشغال الوالدين تبدو بوارق الخطر؛ إذ تتدخل عوامل خارجية هدّامة تعمل عمل السُّمِّ في نفسية الناشئ كالإعلام المرئي والمقروء المجرد عن أي حياءٍ والاختلاط الإباحي في كل مكان، وأثر الصديقات والأصدقاء، وتبرز من جراء ذلك ثمراتٌ كأنها رؤوس الشياطين، لعل أهمها ضياع معنى الشرف والطهارة وإهدار منظومة القيم والمثل الإسلامية وانحراف المزاج الشخصي بالركون – أحياناً – إلى الشذوذ والمخدرات وبقية الثمرات المرة، وكلها من سخائم المجتمع الغربي، وكل ذلك من وراء إهمال الوالديْن للأولاد، ونحن نؤكد باسم الإسلام على هذه المسؤولية ، فعن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال : سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: { كلكم راعٍ ومسؤولٌ عن رعيته؛ فالإمام راعٍ ومسؤولٌ عن رعيته، والرجل في أهله راعٍ ومسؤولٌ عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعيةٌ ومسؤولةٌ عن رعيتها، والخادم في مال سيده راعٍ ومسؤولٌ عن رعيته. فكلكم راعٍ ومسؤولٌ عن رعيته} (البخارى2751 بسند صحيح).
أرأيت – يا أخي– كيف أنك مسؤولٌ أمام الله تعالى عن أولادك؟ فأنت لهم كالراعي الذي يحدو لهم مواطن الخير ويدخلهم فيها، ويحذرهم من مواطن التهلكة والضرر عملاً بقول الله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ }(التحريم: من الآية6) ، فليس كل المهم أن ينجو المؤمن من العذاب وحده، بل عليه أيضاً أن يحرص على الفرار من النار بكل أهله، والأولاد أهم أهله وقرابته.

مَتى تبْدَأُ التَّرْبِيَةُ؟

هناك بعض الآباء والأمهات يهملون أولادهم حتى ينفرط عقدهم، ويفلت زمامهم إلى سنٍ بعيدة عن زمن التعلم والتأدب بعدما تتميع منهم الشخصية ويتشبعون بمعاني الاستهتار وعدم الانضباط، وذلك من جراء فهم خاطئٍ لمعنى الحنان والرحمة بالصغار.
وفي الأثر: [ لاعب ولدك سبعاً وأدبه سبعاً وصاحبه سبعاً ثم اترك حبله على غاربه ]. ففي هذا الأثر الحكيم بيان لثلاثة مراحل من عمر الولد، ولكل مرحلة ما يناسبها من التعامل:

أ – المرحلة الأولى:
وتبدأ بعد الولادة إلى سن السابعة، وفيها ينزل الوالدان- بطبيعة الحال – إلى مستوى خيال الطفل وتصوراته، ويلعبان معه إيناساً لنفسه، ودفعاً للأزمات النفسية الناجمة عن سوء التعامل معه أو اتخاذ العنف والخشونة منهجاً وسبيلاً.

ب – المرحلة الثانية:
ومع سن السابعة يحين أوان التأديب التربويِّ المتاح بكل وسيلةٍ ممكنةٍ ومقبولةٍ - شرعاً - إما بالوعظ أو التعليم أو الثواب أو العقاب، وسائر طرائق التأديب والتقويم؛ لأن الناشئ في هذه المرحلة يقبل كل ما يعرض عليه ثم يسير على هداه، والتأديب في تلك السن أمرٌ نهائيٌّ راسخٌ في نفسية الولد أو الفتاة، لا يتغير ولا يتأتى له النسيان مهما مرت الأيام والليالي بل والسنوات.
نلمح ذلك من حديث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: { مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع } (أبو داوود 495).


فبناء على هذا الأساس التربوي النبوي الحكيم تبدأ المرحلة الثانية – كما سلف – في طورها الطبيعي الفطري الذي يمكن أن يلم الناشئة من خلاله مهارات الأدب والفهم والاستعداد للتقويم بعد ذلك.
فإذا أهمل الناشئ لأكثر من ذلك دون رعاية أو تأديب فإن أثر التربية يكون معدوما، قال الله تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } (النور: 58 – 59) ، ونجد في هذا النص القرآني الحكيم أن التأديب يجب أن يبدأ مبكراً من قبل أن يبلغ الأطفال الحلم ، وذلك من خلال إلقاء الأمر عليهم بوجوب الاستئذان في أوقاتٍ محدودةٍ، وهذا التأديب الأولي يعد تدريباً واستعداداً للمرحلة التي تلي مرحلة الطفولة حيث المسؤولية الكاملة.
وفي مرحلة الطفولة يقبل الصبي والفتاة ما يعرض لهما من الآداب والتوجيهات، يقول عمر بن أبي سلمة – رضي الله عنه – : كنت غلاماً في حجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم – وكانت يدي تطيش في الصحفة فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: { يا غلام، سمّ الله، وكلْ بيمينك، وكلْ مما يليك }. فما زالت تلك طعمتي بعد. (البخاري576 بسند صحيح) .



لهذا نرجو الاستفادة من النصوص السابقة في توطين الأدب نفس الصبي والفتاة، وهما في سن الصبا قبل أن يشتد العود، ويصبح تغيير الحال من المحال، والتعليم في الصغر – كما قيل – كالنقش على الحجر.

ج – المرحلة الثالثة:
وبعد سن البلوغ أو نحو الرابعة عشرة من عمر الغلام أو الفتاة تبدأ مرحلة المصاحبة، ولعل المقصود بها أحد أمرين أو كلاهما معاً:
الأول: المصاحبة بمعنى التلازم وعدم الإغفال أو الترك؛ لأن الصبي أو الفتاة قد دخلا في سن المراهقة الخطير، فلا بد له من عينٍ تحرسه، وموجهٍ يوجهه دائماً إلى الصواب، ويحذره من المخاطر.
الثاني: بمعنى الصداقة والألفة والصراحة وعدم التكتم للمشاكل والهروب منها في محاولة لحلها متى ما وُجدت.
وكلا الأمرين من قيام الصداقة بين الوالدين والولد أو التلازم وعدم الإغفال، كلا الأمرين مطلوبٌ بإلحاح.

الشابُّ تخطّى مرحلة التربية
قد لا يدرك الكثيرون أنه لا يوجد شيء اسمه تربية الشباب؛ لأن الشاب قد وصل إلى ما يقارب مرحلة النضوج الجسدي، وظن أنه بلغ الكمال في كل شيء.
وقد يحاول الوالدان سلوك طرائق التهذيب للأبناء بعد ولوج مرحلة الشباب، ومن المتوقع أن تبوء هذه المحاولات بالفشل الذريع؛ لأن أوان التربية قد فات.
يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب – رضي الله عنه :
حرّضْ بنيك على الآدابِ في الصغر ِ كيما تقرَّ بهم عيناك في الكبرِ
وإنما مثلُ الآدابِ تجمعُها في عنفوانِ الصبا كالنقشِ في الحجر


فالشاب لا يُربّى ولا يُؤدّب ولكن يُوجّه برفق وحكمة.
 
الوسوم
أولادنا الغربة في
عودة
أعلى