دروس التاريخ السنة الأولى متوسط الفن في العصور الوسطى منهاج الجزائر

املي بالله

نائبة المدير العام
الفن في العصور الوسطى

ظل مفهوم العصور الوسطى لفترة طويلة من الزمن من خلال دراسة التاريخ والتشكيلات الاقتصادية الاجتماعية، وكذلك نتاجات الأدب والفنون العائدة لهذه الفترة، يتناول حصراً دول غربي أوربا. إلا أن العلم الحديث لا يذهب إلى الأخذ بهذا النهج الذي يفضي إلى النظر لهذه الحقبة بوصفها ظاهرة منعزلة عن السياق التاريخي العام في تطور المجتمع الإقطاعي، وذلك على الرغم من جملة الخصوصيات التي طبعت هذه المنطقة وسيرورتها التاريخية وحيويتها التي تبدت في اكتمال الأشكال الاجتماعية ووضوحها، ممّا انعكس على بنيانها الفكري والثقافي على نحو جلي ومميز، وكذلك الربط المشترك مع وسط أوربا واسكندنافيا في وحدة العقيدة الدينية وتقارب الأساليب الفنية.

عمل أنصار النهج السابق على تقسيم العصور الوسطى إلى ثلاث مراحل، وتبيان الحدود الفاصلة بينها. تبدأ المرحلة الأولى من أواخر القرن الخامس لتمتد إلى أواسط القرن العاشر، وتتميز بالصراع الحاد والتعارض العميق بين منطلقات الفن الإغريقي الروماني وبين مرتكزات الوندالية (الهمجية) Vandali، ومن ثم الاستقرار على حلول هجينة زاوجت بينهما. أما المرحلة الثانية فشهدت انتشار وثبات أسلوب عام عرف بالرومي (الرومانسكي)، بينما تشمل المرحلة الثالثة القوطية، وتمتد من النصف الثاني من القرن الثاني عشر إلى مطلع القرن الخامس عشر الذي انجلى عن ولادات نوعية جديدة في الثقافة الأوربية الغربية، مما آذن بطي الصفحة الأخيرة في أطوار العصور الوسطى.


العذراء بين قديسين أيقونة دير سانت كاترين في جبل سينا (القرن السابع)


تشكلت الملامح الأولى لفنون العصور الوسطى في خضم الأزمة التي نجمت عن انهيار العالم القديم، وتفكك نظام الرق والعبودية، وهيمنة الإقطاعية وما تبعها من تراجع للمنهج التشكيلي الكلاسيكي، وتغير طبيعة النمذجة في الثقافة الفنية ووظيفة الفن الاجتماعية من جهة، وولادة أشكال وأجناس فنية تلبي الاحتياجات الجمالية والعقائدية للدولة والمؤسسات الدينية من جهة أخرى، وكذلك الأحداث التاريخية التي شهدتها هذه الحقبة من هجرات واسعة للشعوب نتيجة الفتوحات العسكرية المختلفة، والظواهر الجديدة التي تجسدت في الانتشار الواسع للثقافة والفنون، بعد أن كانت وقفاً على المراكز المدنيَّة والحواضر، إضافة إلى نشوء مدارس محلية وتشكل أسس الثقافة القومية، وازدهار الفن الشعبي الذي تكشَّف عن مخيلة خصبة وفطرة مسالمة، تجلتا رائعاً في ثراء الأشكال الزخرفية ورقي الفنون التطبيقية، مما أعطى زخماً مهماً لظهور الفن النصبي المعتمد على تراكيب جمعية.

توجهت الفنون إلى عامة أفراد الشعب بعد أن نال الفلاح القن الذي حل محل العبد المحروم من المواطنة وممارسة أوجه الحياة الروحية والاجتماعية حقوقاً جديدة تمثلت في الاعتراف به عضواً في النسيج الاجتماعي، وشهدت هذه المرحلة تغييراً نوعياً في وعي الجماهير، وانتشاراً واسعاً للمذاهب والتيارات الفكرية التي نَفَذت إلى قطاعات عريضة من الجماعات.

أحدثت العقائد الدينية (الإسلامية، المسيحية، البوذية) انعطافاً كبيراً في مسيرة الفكر الإنساني والأخلاق والمنظومات القيمية، إلا أن السجالات الفلسفية في أوربا وتطور العلوم في الشرق العربي الإسلامي، وكذلك الصراع بين التيارات الدينية في الهند والصين كشفت عن جوانب جديدة في النظرة إلى العالم والوجود وعمقت في مستويات وعيهما، فعوضاً عن الموقف السائد الذي رأى العالم كلاً متكاملاً يسوده الانسجام حلت مقاربات بديلة تنزع نحو استيعاب الواقع وتمثله في حيثياته المعقدة، وفقد الإنسان مكانته المركزية فغدا في النتاجات الفنية منزوياً مستكيناً، وأدت التجاذبات بين الروحي أو المادي إلى غياب الصفاء الذهني والتوازن الداخلي؛ وهما السمتان اللتان ميزتا النماذج الفنية في العصر الكلاسيكي الإغريقي، فجاءت الشخصيات تعتورها مشاعر القلق والاستغراق الداخلي تارة، أو الخشوع والتأمل والحلم تارة أخرى. وأضحت في عمومها عرضة لحالات متباينة من الوداعة التي تنم على الرضى والسلم الداخلي أو الانفعالات الحادة التي تفصح عن شروخ وانكسارات عميقة في النفس.

إن شمولية النظرة الجديدة للعالم كانت مدعوة لتأكيد عظمة الوحدة والكل المطلق، ووجدت تجسيداً لها في التكوينات المستقرة القائمة على مبدأ التناظر وفي الصروح والمجمعات المعمارية والمعابد الضخمة؛ فشيّدت الكنائس وفق مخطط يبرز فضاؤها الداخلي رحابةَ الكون، وذلك بالتوصل إلى حلول فراغية ناجعة وتوظيف الأعمدة والأقواس والعقود على نحو يجعل الفضاء ينساب بحيوية وإيقاعات رشيقة.



الملاك ميخائيل أيقونة من المينا والحجارة الكريمة

(نهاية القرن الحادي عشر وبداية القرن الثاني عشر، كنز القديس مرقس)


تعد فنون القرون الوسطى دينية من حيث الشكل، اعتمدت اعتماداً واسعاً الرموز والكنايات، وعمدت إلى تغييب الأشكال وماديتها وأصولها الحسية نتيجة رسوخ الاعتقاد بأن كل عناصر الوجود الدنيوي ما هي إلا انعكاس واهٍ لما هو سماوي، مما قاد إلى ازدراء الواقع ومجافاته، ومن ثَمَّ إلى تعطيل التقاليد الغنية الموروثة التي قطعت شوطاً بعيداً في صوغ أشكال تحاكي الواقع، تأتت بعد دراسة معمقة للطبيعة وقوانينها، وطال الأمر في بعض الأحيان تحريم التشبيه والتشخيص، وقيام خلاف حاد إبان العهد البيزنطي (منذ مطلع القرن التاسع) حول مشروعية استخدام الأشكال التشخيصية وتوظيفها لإيصال مضامين دينية، سمّي هذا النزاع بحرب الأيقونات (عصر تحطيم الأيقونات)؛ فاقتصرت زينة الكنائس على الرموز الدينية والزخارف والنقوش على الجدران. لكن على الرغم مما تقدم، ومع وجود بعض مظاهر الفن المدني؛ بقي الفن التشكيلي وسيلة تعبيرية مهمة اعتمدتها الكنيسة في نشر تعاليمها؛ فقد نفّذ الفنانون أعمالهم بتكليف من المراجع الدينية وبإشرافها المباشر، ويمكن القول إن الفن في هذه المرحلة كان دينياً صرفاً غايته إبراز الجوانب الروحانية وشحن المشاهد بمشاعر التقوى، وإبراز الحالة الطقوسية، حتى إن بعضهم عد الأيقونة والتصاوير الجدارية كتاباً للأميين.

أما المضامين فلم تنحصر وحسب في التعاطي مع الأفكار الدينية، ففي الديانات ثمة معتقدات لها علاقة مباشرة بالحياة وبمُثُل الشعوب وتطلعاتها، فالحكايات والخيال الشعبي والنبرة الشاعرية أضفت حسناً وجمالاً على نماذج العصور الوسطى وسويتها الفنية العالية، مثل موضوعات الأمومة برقتها الآسرة، والبطولة وصلابة الروح، والشقاء وشدة المعاناة من دون الإخلال بالإحساس الباطني بالنُّبْل والسمو الروحي. ولم يقتصر سعي الفنانين في بعض الأحيان على الافتتان بجمال الطبيعة والتغني بها بل تناولوا جوانب الشر والبشاعة، كما في الفن القوطي.

الدفن، منممة من مخطوطة مقامات الحريري للواسطي (باريس، المكتبة الوطنية)


إن ثقافة العصور الوسطى غنية ومتعددة كثيراً، فتطور النظام الإقطاعي أدى إلى نشوء مراكز ثقافية انتشرت في مختلف الأرجاء كان لها علاقات وتأثيرات متبادلة، وبلغت فنون دول عديدة في أوربا وآسيا وشمالي إفريقيا شأواً عالياً (كالدولة العربية الإسلامية، الهند، الصين) فقد شهدت الصين على سبيل المثال ازدهاراً عظيماً ترك أثره البالغ في جوانب الحياة جميعها مما أسهم في تطور المناظر الطبيعية والطبيعة الصامتة البروتورية في زمن كان الزهد في الحياة السِّمةَ الحاضرة في الفن البيزنطي، وحفل الفن الهندي آنذاك بالتصورات الحسية عن العالم، وبمستوى كبير من الإحساس بعفوية الطبيعة ونزقها، وكذلك كان شأن المنمنمات الشرقية ذات الجمال الخلاب التي عكست مباهج الحياة بشاعرية راقية.

إن العمارة النصبية أحد أهم إنجازات هذه العصور، فهي لم تعكس بعض جوانب الوعي الديني وحسب، بل جسدت قدرات الإنسان المبدع والعمل الجماعي الخلاق، فالعمائر التي تعود إلى العهود البيزنطية والرومية والقوطية، إضافة إلى المساجد والقصور العربية الإسلامية والمعابد والصروح المعمارية في الهند والصين؛ تمثل درراً نفيسة في التراث الإنساني الكلاسيكي. غلبت على الأسس الجمالية والفكرية لفنون العصور الوسطى النزعةُ الروحانيةُ الافتراضية التي قادت إلى قيام نظام فني مقنن يعتمد الشرطية الاصطلاحية في تصوير الواقع ومقاربته، وله أصوله الصارمة في أغلب الأحيان، وهو ما عُرِفَ بالإيقونوغرافيا iconographie، وقد عمد هذا النهج إلى تغييب الإحساس المادي بالأشياء ومجافاة صورتها وهويتها، فصار الزمان والمكان مرهونين بالتصور اللاهوتي عن الوجود والكون، فالزمن معروف يشمل بدء الخليقة إلى يوم النشور (الدينونة)، والمكان يهيم بتقدير إلهي، وانتفت الإضاءة الواقعية (طبيعية أو من مصدر اصطناعي زائل)، وأخذ الظل والنور في الصور منحى يؤكد إنارة نمطية شرطية، كنايةً عن النور الإلهي الغامر والوحيد وديمومته الأزلية، أو هو ذاك القبس الساطع من باطن الأشياء والمخلوقات. أما المكان فأضحى حيزاً مسطحاً بفعل اللجوء إلى المنظور الأمامي، وإغفال المنظور الخلفي، وكذلك نتيجة ضغط المساقط الفراغية للوصول إلى (العمق الضحل) حيث تمتلك العناصر وعلاقاتها المتبادلة في الفراغ طابعاً إيهامياً يؤكد السطح الجبهي، وحلّ نتيجة ذلك اللاتناسب محل التناسب أما اللون فصار صريحاً ومعمماً، انْتُزِعَ من محيطه وأُلحق بوسط محايد، فوهنت علاقته بهويته الأصل، فهو يمتلك حالياً في نظام الإيقونوغرافيا دلالات رمزية وسيماء (اللون البني ـ مثلاً ـ يشير إلى غموض السر الإلهي) وقد حمل أحياناً مقاصد مختلفة ومتباينة: فإذا كان اللون الأحمر على سبيل المثال يرمز إلى الشمس، النار، الصيف؛ فإن له دلالة أخرى كأن يرد متوهجاً ومشرقاً في سياق يكون فيه اللونان الأسود والأبيض كامدين، حينئذ يفهم كإشارة إلى مقدم عمانوئيل المسيح (الله معنا). أما إذا خبت الألوان السماوية وراح اللون الأحمر يهيمن على الهالة اللونية فذلك يعني سقوط الخطايا المقترفة وانبعاث كل ما هو ملون بدم الذبيحة الإلهية. إن هذه الوظيفة الرمزية المتعلقة باللون جعلته ينهض بفعل غير معهود، وغيّرت جذرياً من علاقته بالتكوين وأهميته في الحلول التصويرية، الأمر الذي أرغم المصور في إطار هذه المعطيات المفروضة على المناورة وخرق التناسب بما يقتضي التكوين، أي في إطالة عنصر ما أو تقليصه بغية إخضاعه في الحدود المقبولة (وهذا ما يميز أيضاً التصويرين الفارسي والياباني). ويلفت الانتباه الاستخدامُ الواسع للون الذهبي الذي يرمز إلى الجلالة والقداسة إلى ملكوت السموات، أو يرد صورة للضوء عامة (له معانٍ متعددة وتفسيرات أخرى)، مما عزز قبول الحيز الفراغي المسطح في الصور، إضافة إلى الحضور الواضح للونين الأسود والأبيض اللذين قاما بوظيفة الخطوط المحيطة بالشكل وفي رسم التفصيلات وثنايا الأقمشة.



ترقين كتاب كلْز (دبلن، كلية ترينيتي)


شغلت الفسيفساء إضافة إلى الأيقونة حيزاً مهماً في التصوير، ولاسيما في المرحلة البيزنطية، فقد استخدمت في رصف الأرضيات، أو عَلَتِ الجدران مثل الفسيفساء في كنيسة القديس فيتالي Vitali في رافين Ravenne (نحو 548م) التي تمثل الامبراطور جوستنيان وزوجه تيودورا، وتميزت بمساحتها اللونية الصريحة وتناغم الخطوط الراسمة وسلاستها والصور الضوئية المعممة (السيلوليت) silhouette، وتبدو الفسيفساء في كنيسة القيامة في إيزانيك (القرن السابع) بتلقائيتها المحببة ورهافة الإحساس المفعم بالحياة، وفي دير دافن بالقرب من أثينا (القرن الحادي عشر) تزهو بفخامتها الرصينة ورزانتها.

تجدر الإشارة إلى أن الصور الجدارية في الكنائس انضوت ضمن منظومة متساوية شملت الفسيفساء والفريسك (التصوير الجداري) والصور الجصية الجافة التي اعتلت الجدران والعقود، وتوزعت وفق أنساق مدروسة تخضع لمخطط المعبد، وتدخل في وسط فني موحد مع الزجاج المعشق في النوافذ والأيقونات الموزعة على حامل الأيقونات eikonostasis.

غلب على التكوينات سمة التناظر، فأسبغ عليها الاستقرار والإحاطة بالمكان، وأسهمت في ذلك أيضاً الشبكة المبنية على تناوب الأشكال الهندسية بإيقاعات رتيبة، مما منح المكان صورة معممة ومجردة، واستبعد الفراغ قدر الإمكان. ونجم عن اتباع هذه الطريقة في مجال المنمنمات حضور النزعة التزيينية ووفرة الزخارف في تزويق المخطوطات مثل (سفر الأخبار ـ نسخة باريس، القرن العاشر المكتبة الوطنية بباريس).

تميز النحت بالانفعال الحاد، ولاسيما في الفن القوطي، وتلاشى تدريجياً التحجيم الفراغي الذي يتعامل مع الواجهات كافة (فيلسوف من أفسس Ephèse القرن الخامس، متحف الفنون، ڤيينا)، واشتمل في بعض الأحيان على المشاهدات الحياتية والأشكال الأسلوبية. أما التقاليد القديمة التي تعود إلى الفن الإغريقي الروماني فبقيت ماثلة في نتاجات الفنون التطبيقية المنفذة بخامات مختلفة ومتنوعة من الحجر والعاج والمعدن والميناء والنسيج والسجاد الجداري. حافظت العمارة في البدء على التقاليد القديمة إلى حد كبير، وبدءاً من منتصف القرن الخامس أخذت تترسخ تقاليد جديدة في تخطيط المدن على شكل شعاعي ونصف قطري (القسطنطينية)، وظهرت في القرن السادس في شبه جزيرة البلقان مدن مرتفعة منيعة قسمت إلى أحياء توزعتها عمائر متعددة الأدوار، وشمل مظهرها الخارجي أروقة تقوم على الأعمدة بينما غلب على المدن السورية طابع مختلف تبعاً لطبيعة المكان. وشيدت في تلك الآونة قلاع كانت منظومة دفاعية متطورة شملت الأسوار الحصينة والأبراج والخنادق، وأفضى البحث عن الشكل المثالي للعمارة الدينية المركبة ـ مثل كنيسة سمعان العمودي في شمالي سورية التي تمثل البازليك Basilique على نحو جليّ ـ إلى طراز آخر يجمع بانسجام البازليك المخطط على شكل صليب والهيكل المقبب مثل كاتدرائية القديسة آياصوفيا في القسطنطينية (منتصف القرن السادس).


شجرة جسيه Jessé: زجاجية القديس دني (1140-1144)


توجت القوطية التي استمدت تسميتها من إحدى القبائل الجرمانية فنون العصور الوسطى في غربي أوربا ووسطها وكذلك شرقيها جزئياً. وظهرت هذه التسمية إبان عصر النهضة كازدراء لفنون العصور الوسطى و(همجيتها)، لكن عندما أطلق في مطلع القرن التاسع عشر مصطلح الأسلوب الرومي (الرومانسكي) على المرحلة الممتدة بين القرنين العاشر والثاني عشر عمل على تحديد أطوار القوطية بالمراحل: المبكرة، الناضجة، المتأخرة، وتناولت البلاد الموالية للكنيسة الكاثوليكية وقيام نظام إقطاعي كنسي أنتج إيديولوجية وثقافة تميزت بخصوصيتها الشديدة. وغلب على الفنون طقوسية المعاني والمضامين الدينية. وتأطر نمط التفكير بالرموز والكنايات، واللغة الشرطية، وورثت عن الأسلوب الرومي الاهتمام الكبير بالعمارة، وإفراد دور الصدارة لها في المنظومات الغنية، وهكذا شغلت الكاتدرائية مكانة خاصة لأنها أرقى مثالٍ مركبًٍ يجمع العمارة والنحت والتصوير (الزجاج المعشق في الأغلب). ولم تأخذ في حلولها الفضائية بالمقياس البشري فجاءت أبراجها وسقوفها على نحو شاهق مما ترك لدى المصلّين تأثيراً عاطفياً قوياً إضافة إلى المنحوتات الخاضعة لإيقاعات العمارة وحركيتها، وألق الزجاج المعشق بألوانه الزاهية.


تمثال


عكس تطور القوطية تغيرات عميقة أثرت في مجتمع العصور الوسطى وبنيته منذ بدايات تكوّن الدولة المركزية؛ كازدهار المدن وبروز النزعة المدنية والقوى الممثلة بالتجار والحرفيين، وكذلك حلقات فرسان البلاط. إن تطور الوعي الاجتماعي والتقدم التقني أضعفا من هيمنة الفكر الغيبي الدوغمائي dogmatique وفسحا في المجال أمام إمكانية وعي الواقع وتمثله جمالياً؛ فظهرت أنماط معمارية جديدة، وشهد تخطيط المدن والمساكن تطوراً ملحوظاً، وشيدت جسور مكينة. وأحاط بالمدن أسوار منيعة مع أبراج، وازدانت بوابات العبور بزينة فخمة، بينما تحولت قصور الملوك والإقطاعيين تدريجياً إلى حصون معقدة ضمت أحياناً مباني للعبادة، وتوسط المدينة غالباً قصر عظيم أو كنيسة طغت عما جاورها من دور، وأضحت مركزاً لحياة المدينة وشؤونها العامة.

أدت الهيكلية المعقدة في الكنيسة القوطية التي جاءت إنجازاً للمعارف الهندسية إلى تجاوز الطراز الرومي المصمت، وتخفيف الجدران والأكتاف، وخلق وحدة حركية في فضائها الداخلي، مما زاد في إثراء التركيب الفني وفي جعله أكثر تعقيداً، فتوسعت بذلك منظومات الموضوعات التي عكست تصورات ذاك العصر عن الوجود. وكان النحت من أهم الفنون قاطبة فاستحوز على مضامين فكرية وفنية غنية، فجاء في أنساق تشكيلية متطورة، فعوضاً عن تقوقع التماثيل الرومية وجمادها حلت مكانها شخوص ذات طابع حركي، يلتف بعضها صوب بعض وصوب المشاهد. وتبدَّى الاهتمام بأشكال الطبيعة الواقعية، وبجمال جسد الإنسان ومشاعره الداخلية، وظهرت صياغات مستجدة لموضوعات الأمومة، والمعاناة والقلق الناجم عن الحيرة فيما يخصّ النوازع الأخلاقية، وصلابة النفس البشرية في الذود عن المثل والقيم العليا، ويلفت الانتباه تجاور الغنائية والمأساوية مع السمة الروحانية الجليلة، إضافة إلى نبرة من السخرية الاجتماعية، والمبالغة في الخيال، والطابع الفولكلوري، ولاسيما في المشاهدات الحياتية الحادة. وشهد هذا العصر ازدهار منمنمات الكتب والفن التطبيقي نتيجة تطور مستوى الضائع وتجهيزات الورشات.
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
تشكلت الملامح الأولى للقوطية في شمالي فرنسا في أواسط القرن الثاني عشر وبلغت أوج تطورها في النصف الأول من القرن الثالث عشر (كاتدرائية السيدة العذراء Notre -Dame de Paris بباريس، 1163ـ 1257)، وكوَّنت التماثيل المتوزعة في المعابد منظومة رمزية متكاملة يمتزج بها شخصيات ومشاهد من الكتاب المقدس ومن أبرزها تلك المنحوتات التي تعلو واجهات كاتدرائيات (شارتر، ريمس، اميون، ستراسبورغ)، وشاعت في المرحلة المتأخرة تماثيل الهيكل من الخشب المذهب، واتسمت بتعبيراتها الحادة، وفي مشاهد آلام السيد المسيح والقديسين خاصة.

بلغت القوطية أوج نهضتها في ألمانيا في منتصف القرن الثالث عشر (كاتدرائية ناومبورغ). فعلى الرغم من أن بواكير هذا الأسلوب سبقت مثيلاتها في الدول الأخرى، إلا أن الهزات السياسية الداخلية أدت إلى تأخير انتشاره، بينما جمعت في إيطاليا في القرنين الثالث عشر والرابع عشر بعضاً من عناصر القوطية مع الطراز الرومي، فتألقت في كلٍّ منها السقيفات القوطية الإبرية المدببة والزينات المعمارية، مع سكونية العمارة الرومية المصمتة ووضوح النسب (كنيسة سيينا).
 
الوسوم
الأولى التاريخ الجزائر السنة العصور الفن الوسطى دروس في متوسط منهاج
عودة
أعلى