حديث السنة عن القرآن (فضائل وأحكام وآداب)

خالدالطيب

شخصية هامة
حديث السنة عن القرآن (فضائل وأحكام وآداب)

الباب الأول : من فضائل القرآن



الفصل الأول : فضائل عامة













المعجزة الخالدة والآية الباقية

عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ: قَالَ النَّبِي e: " مَا مِنَ الأنْبِياءِ نَبِيٌّ إلا أُعْطِي مِنَ الآياتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ البَشَرُ وَكَانَ الذِي أُوتِيتهُ وَحْياً أوحاه الله إلي فَأرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعاً يَوْمَ القِيَامَةِ "
أخرجه البخاري ح ( 4981 ) ، مسلم ح (152)
شرح الحديث
أخبر النبي e في هذا الحديث أن كل نبي بعثه الله فإنه يُعطى من الدلائل والمعجزات ما يدل على صدق ما جاء به من الرسالة ، ويكون مِنْ شأن مَنْ يشاهدها من البشر ممن أراد الله له الهداية أن يؤمن به ويتبعه , ولكن معجزاتهم تنقرض بانقراضهم ، فلا يبقى منها بعدهم إلا الإخبار بها ، وأما الرسول e فقد فُضِّل وخُص بالمعجزة الخالدة، والآية الباقية وهي : القرآن العظيم والكتاب العزيز ، وليس المراد حصر دلائل نبوته ومعجزاته فيه ، فإنه e قد أُعطي من كل نوع من أنواع معجزات الأنبياء قبله، بل المراد أنه المعجزة العظمى التي أُخْتص بها دون غيره ، وكانت معجزة كل نبي تقع مناسبة لحال قومه، فأَيدَ الله موسىu بالعصا على صورة ما يصنع السحرة ، وذلك حين كان السحر فاشياً في قومه ، وأجرى الله على يد عيسى u إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وذلك لظهور الطب في زمانه فآتاهم بما لا تصل إليه قدراتهم ، ولما كان العرب الذين بُعث إليهم النبي e هم أفصح الخلق وأعلمهم بوجوه البيان جاءهم بالقرآن الذي تحداهم أن يأتوا بمثله، قال الله تعالى : ] قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [ (1) ثم تدرج معهم إلى عشر سور فقال سبحانه : ] أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [ (2) ثم تحداهم بأن يأتوا بسورة فقال سبحانه : ] أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [ (3)
واستمر هذا التحدي في العهد المدني، فقال سبحانه في سورة البقرة: ] وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [ (4) فلم يقدروا على ذلك ، وأخبر الله عن عجزهم وضعفهم عن معارضته ، وأنهم لا يفعلون ذلك في المستقبل ، فقال سبحانه ] فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ
 

وفي كتاب الله وجوه كثيرة من دلائل الإعجاز منها :-
1- حسن تأليفه وبديع نظمه ، وجمال أسلوبه فقد تُخِّيرت ألفاظه ونظمت في نسق عجيب يبلغ في الفصاحة أرقى درجاتها ، وأكمل مقاماتها ، وأوفى غايتها ، فأُحكمت ألفاظه ، وفُصلت معانيه قال سبحانه : ] الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [(1)
وقال سبحانه : ] وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً [ (2) أي صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأوامر والنواهي .
قال الراغب في وصف ألفاظ القرآن : " فألفاظ القرآن ، هي لب كلام العرب ، وزبدته وواسطته وكرائمه ، وعليها اعتماد الفقهاء والحكماء في أحكامهم وحكمهم ، وإليها مفزع حذاق الشعراء والبلغاء في نظمهم ونثرهم ، وما عداه وعدا الألفاظ المتفرعات عنها والمشتقات منها هو بالإضافة إليها كالقشور والنوى بالإضافة إلى أطايب الثمرة ، وكالحثالة والتبن بالإضافة إلى لُبُوب الحنطة " (3)
2- أسلوبه العجيب، وصورة نظمه الغريب المخالف لأساليب كلام أهل الفصاحة والبيان من العرب نظماً ونثراً حتى حارت فيه عقولهم، ولم يهتدوا إلى الإتيان بشيء مثله مع توافر دواعيهم على تحصيل ذلك وتقريعه لهم على العجز عنه (1)
وفي قصة إسلام أبي ذر t أنه بعث أخاه أُنيساً إلى مكة لينظر في أمر النبي e فقدم أُنيس مكة ثم رجع إلى أبي ذر فقال له: ما صنعت ؟ قَالَ: لَقِيتُ رَجُلًا بِمَكَّةَ عَلَى دِينِكَ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ قُلْتُ: فَمَا يَقُولُ النَّاسُ ؟ قَالَ: يَقُولُونَ شَاعِرٌ كَاهِنٌ سَاحِرٌ - وَكَانَ أُنَيْسٌ أَحَدَ الشُّعَرَاءِ - قَالَ أُنَيْسٌ: لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ فَمَا هُوَ بِقَوْلِهِمْ، وَلَقَدْ وَضَعْتُ قَوْلَهُ عَلَى أَقْرَاءِ الشِّعْرِ، فَمَا يَلْتَئِمُ عَلَى لِسَانِ أَحَدٍ بَعْدِي أَنَّهُ شِعْرٌ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَصَادِقٌ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ " (2)
ولما سمع الوليد بن المغيرة شيئاً من القرآن، وطلب قومه أن يقول في القرآن قال: وماذا أقول؟ فوالله ما منكم رجل أَعْلَمُ بالأشعار مني، ولا أعلم بِرَجَزه، ولا بقَصِيدهِ مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقول حلاوةً ، وإن عليه لَطَلاوةً ، وإنه لمثمرٌ أعلاه ، مغدقٌ أسفله ، وإنه لَيَعْلُو ولا يُعْلَى ، وإنه ليحطمُ ما تحته ..... " (3)
3- إخباره عن القرون الماضية، والأمم الغابرة، والشرائع السالفة، مما كان لا يُعْرف إلا القليل منه عند علماء أهل الكتاب، وهذه القصص والأخبار سيقت بأساليب بيانية وبلاغية بلغت أكمل درجات الفصاحة حتى كأن التالي والسامع مشاهدٌ لأحداثها، حاضرٌ وقائعها يتملاها بعينه، وقد أُبرز في مشاهدها وأحداثها مواضع العبرة والعظة .
ومن ذلك أن هذه القصص فيها الدلائل الظاهرة على إثبات الوحي والرسالة، قال الله سبحانه في أول سورة يوسف: ] إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ + نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ [ (1) ، وقال سبحانه في سورة القصص بعد ذكر قصة موسى e: ] وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ + وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ + وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [ (2)
وقال سبحانه في سورة آل عمران في أثناء قصة مريم: ] ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [ (1)
وقال سبحانه في سورة هود بعد قصة نوح e: ] تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا[ (2)
4- إخباره عن مغيبات، وحوادث مستقبلية فوجدت على الوجه الذي أخبر به القرآن ، كقوله تعالى : ] لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ[ (3) ، وقوله: ] غُلِبَتِ الرُّومُ + فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ [ (4) ، وقوله: ] هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ[ (5)
وقوله :] وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [ (1)
وقوله : ] إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ + وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً + فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً [ (2)
فحصل جميع ما أخبر به فدخل المسلمون المسجد الحرام، وغلبت الروم فارس في بضع سنين، ودخل الناس في دين الله أفواجاً فلم يبق في بلاد العرب كلها موضع لم يدخله الإسلام، واستخلف الله المؤمنين في الأرض، ومكن لهم دينهم، وملكهم إياها من أقصى المشارق إلى أقصى المغارب كما جاء في حديث ثوبان t أن رسول الله e قال: " إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا. وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا، وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ" (3)
5- تأثيره العظيم على النفوس وروعته التي تعتري القلوب، وقد شرح الله باستماعه قلوباً غافلة، ونفوساً معرضة، فقادها إلى الإيمان يقول جُبير بن مُطعم t : " سمعت رسول اللهe يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية ] أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ + أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ [ كاد قلبي يطير " (1) وفي رواية : وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي " (2) ، وجاء في قصة إسلام عمر بن الخطاب t: " فلما سمعت القرآن رَقَّ له قلبي، وبكيت، ودخلني الإسلام..... " (3)
وفي حديث أم سلمة في قصة هجرتهم إلى الحبشة واجتماعهم بالنجاشي أنه قال لجعفر بن أبي طالب: " هَلْ مَعَكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ عَنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ؟ ، قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ: نَعَمْ ، فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ: فَاقْرَأْهُ عَلَيَّ فَقَرَأَ عَلَيْهِ صَدْرًا مِنْ ] كهيعص [، قَالَتْ: فَبَكَى - وَاللَّهِ - النَّجَاشِيُّ حَتَّى أَخْضَلَ لِحْيَتَهُ، وَبَكَتْ أَسَاقِفَتُهُ حَتَّى أَخْضَلُوا مَصَاحِفَهُمْ حِينَ سَمِعُوا مَا تَلَا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ النَّجَاشِيُّ: إِنَّ هَذَا وَاللَّهِ وَالَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ ... " (4)
وذكر الله موقف الجن حين سمعوا القرآن، فقال سبحانه: ] وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ + قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ + يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ + وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [ (1)
وقال سبحانه: ] قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً +يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً [(2)
 

ووجوه الإعجاز في كتاب الله كثيرة متعددة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " وكون القرآن أنه معجزة، ليس هو من جهة فصاحته وبلاغته فقط، أو نظمه وأسلوبه فقط، ولا من جهة إخباره بالغيب فقط .... ، بل هو آية بينة معجزة من وجوه متعددة، من جهة اللفظ، ومن جهة النظم، ومن جهة البلاغة في دلالة اللفظ على المعنى، ومن جهة معانيه التي أمر بها، ومعانيه التي أخبر بها عن الله تعالى، وأسمائه وصفاته وملائكته وغير ذلك، ومن جهة معانيه التي أخبر بها عن الغيب الماضي والغيب المستقبل، ومن جهة ما أخبر به عن المعاد، ومن جهة ما بَيَّن فيه من الدلائل اليقينية، والأقيسة العقلية، التي هي الأمثال المضروبة كما قال تعالى: ] وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً [ ..... وكل ما ذكره الناس من الوجوه في إعجاز القرآن هو حجة على إعجازه, ولا يناقض ذلك بل كل قوم تنبهوا لما تنبهوا له " (1)
وقال في موضع آخر: " نفس نظم القرآن وأسلوبه عجيب بديع، ليس من جنس أساليب الكلام المعروفة .... ونفس فصاحة القرآن وبلاغته عجيب خارق للعادة ليس له نظير في كلام جميع الخلق، وبسط هذا وتفصيله طويل، يعرفه من له نظر وتدبر، ونفس ما أخبر به القرآن في باب توحيد الله وأسمائه وصفاته أمر عجيب خارق للعادة، لم يوجد مثل ذلك في كلام بشر لا نبي ولا غير نبي، وكذلك ما أخبر عن الملائكة والعرش والكرسي والجن، وخلق آدم وغير ذلك، ونفس ما أمر به القرآن من الدين والشرائع كذلك ... " (2)
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: " فالقرآن العظيم معجزة من وجوه كثيرة، من فصاحته وبلاغته ونظمه وتراكيبه وأساليبه، وما تضمنه من الإخبار بالغيوب الماضية والمستقبلية، وما اشتمل عليه من الأحكام المحكمة الجلية ... " (3)
وقوله e في الحديث: " فَأرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعاً يَوْمَ القِيَامَةِ" رتب النبي e ما رجاه من كثرة اتباعه يوم القيامة على وجود هذه المعجزة الخالدة وهو كتاب الله، وهذا من دلائل نبوته، فللقرآن تأثير عظيم في دخول الناس في دين الله أفواجاً منذ فجر الرسالة إلى أن يرث الله الأرض وما عليها .
يقول أحد الدعاة من الذين لهم جهود دعوية خارج البلاد الإسلامية: " وجدنا بالتجربة، ووجد بعض إخواننا بالدراسة العلمية أن أكثر ما يُدخِل الناس في دين الله هو قراءتهم لترجمة هذا الكتاب العزيز، ولو رحت أحدثكم عما سمعت أنا وحدي عن مشاعر الرضى والطمأنينة واليقين لبعض من هداهم الله تعالى بالإطلاع على ترجمة تنزيل رب العالمين لطال الحديث . لكنني سأكتفي ببعض ذلك عسى أن تكون فيه لنا ذكرى وزيادة إيمان ويقين، فهذا شاب هو الآن في صحبتنا يحدثنا أنه قرأ كتاباً لمؤلف غير مسلم عن الأديان في العالم، وكان مما كتبه عن الإسلام ترجمة لسورة الفاتحة . يقول الشاب: إنني كثيراً ما كنت أتأثر تأثراً فكرياً ببعض ما أقرأ لكنني حين قرأت ترجمة هذه السورة شعرت بالتأثير في قلبي، ذهب الشاب يبحث عن المسلمين فأسلم ثم انتقل من بلده إلى واشنطن ليلتحق بمعهد العلوم العربية والإسلامية ليدرس اللغة العربية وليتعلم دينه، ومن قبله فتاة قالت: إنها لأبوين لا اهتمام لهما بالدين لكنها عثرت في بيتها على كتاب ديني قديم أثار اهتمامها فبدأت تبحث عن الأديان، فكان مما قرأته شيئاً عن الإسلام . قالت - وهي تسكن في مدينة نائية أشبه بالقرية - إنها صحبت بعض زميلاتها في الذهاب إلى سوق خارج القرية لم تصحبهن إلا لتبحث عن ترجمة للقرآن الكريم، عثرت على طلبتها ثم بدأت تقرأ . تقول الفتاة إنها لم تتجاوز الآية الثانية من سورة البقرة ] ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [ حتى وضعت المصحف المترجم وشهدت بأنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . ثم ذهبت تسأل عن المسلمين ثم جاءت لواشنطن لإكمال دراستها بجامعة جورج واشنطن وهي محجبة حجاباً كاملاً، ومن قبلها شاب لأبوين كاثوليكيين كان يدرس الثانوية بمدرسة كاثوليكية، وكان مع ذلك يشهد دروساً دينية خاصة، لكن عقله لم يقبل أبداً القول بأن لله ولد، لذلك قرر أن يبحث عن دين آخر، فكَّر في اليهودية لكنه لم يقتنع بها، ثم دخل الجامعة وكان مما درسه مقرر في التاريخ شمل الشرق الأوسط وكان من ضمن ما ذكر لهم المحاضر من المراجع القرآن الكريم . يقول إنه لم يكن قبل ذلك يظن هنالك ديناً يزعم أنه سماوي إلا اليهودية والنصرانية ! ولم يكن يعرف شيئاً عن الإسلام ألبتة، لكنه حينما بدأ يقرأ في الترجمة اهتدى. " (1)
وهذا يُذكِّر علماء الإسلام ودعاته بالعناية بتبليغ كتاب الله، وإيضاح معانيه وشرح ما تضمنه من التبشير والإنذار، قال سبحانه وتعالى: ] وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [(1) وقال تعالى: ] قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [ (2)
قال الحافظ ابن رجب: " وقد كان النبيُّ e يدعو الخلق بالقرآن إلى الدخول في الإسلام الذي هو الصراط المستقيم، وبذلك استجاب له خواصُّ المؤمنين كأكابر المهاجرين والأنصار، ولهذا المعنى قال مالك: فُتحت المدينة بالقرآن . يعني: أن أهلها إنما دخلوا في الإسلام بسماع القرآن، كما بعث النبيُّ e مُصعب بن عمير قبل أن يُهاجر إلى المدينة، فدعا أهل المدينة إلى الإسلام بتلاوة القرآن عليهم، فأسلم كثيرُ منهم "(3)
إن كتاب الله سبحانه وتعالى هو ينابيع العلم، وكنوز المعرفة، ودواء القلوب، وكلما أحسن الإنسان تدبره وتأمله ظهر له دقائق من المعارف والعلوم والحكم .
يقول الشافعي رحمه الله: " والناس في العلم طبقات: موقفهم من العلم بقدر درجاتهم في العلم به - أي القرآن - فحق على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من علمه، والصبر على كل عارضٍ دون طلبه، وإخلاص النية لله في استدراك علمه: نصاً واستنباطاً، والرغبة إلي الله في العون عليه، فإنه لا يدرك خيرٌ إلا بعونه، فإن من أدرك علم أحكامه في كتابه نصاً واستدلالاً، ووفقه الله للقول والعمل بما عَلَم منه: فاز بالفضيلة في دينه ودنياه، وانتفت عنه الريب، ونوَّرت في قلبه الحكمة، واستوجب في الدين موضع الإمامة، فنسأل الله .... أن يرزقنا فهماً في كتابه، ثم سنة نبيه، فليست تنزل بأحدٍ من أهل دين الله نازلةٌ إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها " (1)
ويقول شيخ الإسلام: " قد فتح الله علي في السجن في هذه المرة من معاني القرآن بأشياء كان أكثر العلماء يتمنونها، وندمت على تضييع أكثر أوقاتي في غــير معاني القرآن، ولو بذل لي ملء هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة " (2)
 

وقال ابن القيم: " فليس شيء أنفع للعبد في معاشه، ومعاده، وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن، وإطالة التأمل فيه وجمع الفكر على معاني آياته؛ فإنها تُطلع العبد على معالم الخير والشر .... ، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتشيد بنيانه، وتوطد أركانه، وتريه صورة الدنيا والآخرة، والجنة والنار في قلبه، وتحضره بين الأمم، وتريه أيام الله فيهم، وتبصره مواقع العبر، ...... وتعطيه قوة في قلبه وحياةً وسعةً وانشراحاً وبهجةً وسروراً، فيصير في شأن والناس في شأن آخر .... فلا تزال معانيه تنهض بالعبد إلى ربه .... وتثبت قلبه عن الزيغ والميل عن الحق ... وتناديه كلما فترت عزماته وونى في سيره: تقدَّم الركب وفاتكَ الدليل ... وفي تأمل القرآن وتدبره أضعاف أضعاف ما ذكرنا من الحِكَم والفوائد . " (1)


 

الخشوع والبكاء عند سماعه وتلاوته
عَنْ عَبْدِ الله بن مَسعود t قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ الله e: " اقْرَأْ عَلَيَّ القرْآنَ " ، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولُ الله، أَقْرَأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ ؟، قَالَ: " إِنِّي أَشْتَهِي أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي "، قَالَ: فَقَرَأْتُ النِّسَاءَ حَتَّى إِذَاَ بَلَغْتُ قَوله: ] فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً [ رَفَعْتُ رَأْسِي فَرَأَيْتُ دُمُوعَهُ تَسِيلُ .
أخرجه البخاري ح (5050) ، ومسلم ح ( 800 ) والآية بسورة النساء آية : 41
شرح الحديث
- دل الحديث على استحباب أن يسمع الإنسان القرآن من غيره، فقد طلب النبي e من ابن مسعود t أن يقرأ عليه القرآن، وقال: " إِنِّي أَشْتَهِي أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي "
قال ابن بطال: " معنى استماعه القرآن من غيره - والله أعلم - ليكون عرض القرآن سنة، ويحتمل أن يكون كي يتدبره ويتفهمه، وذلك أن المستمع أقوى على التدبر، ونفسه أخلى وأنشط لذلك من نفس القاريء، لأنه في شغل بالقراءة، وأحكامها " (1)
- ودل على عظيم تأثره e حيث بكى عند سماع القرآن، ووصف ابن مسعود t دموعه e بأنها تسيل، وهو e أخشى العباد وأتقاهم لله.
قال ابن بطال: " وإنما بكى e عند هذا لأنه مثل لنفسه أهوال يوم القيامة، وشدة الحال الداعية له إلى شهادته لأمته بتصديقه والإيمان به، وسؤاله الشفاعة لهم ليريحهم من طول الموقف، وأهواله، وهذا أمر يحق له طول البكاء والحزن " (1)
وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على المتدبرين لكتابه، الخاشعين الباكين عند سماعه وتلاوته، والنبي e هو أحق من اتصف بهذا فقد كان خلقه القرآن ..... (2)
قال سبحانه: ] لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ + وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقّ[ (3) فوصف الله المؤمنين من أهل الكتاب أنهم عند سماعهم لما أُنزل إلى رسول الله e تفيض أعينهم بغزارة وكثرة من أجل ما عرفوا من الحق الذي جاء به النبي e ، فرقت له قلوبهم، وخشعت له نفوسهم، ثم حكى الله سبحانه وتعالى ما قالوا بعد سماعهم للحق فقال: ] يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ[ ، فتوجهوا إلى الله بالدعاء أن يجعلهم مع أمة محمد e التي آمنت به، وشهدت بصدقه، وأن ما جاء به حق من عند الله سبحانه، ثم بين الله سبحانه قوة إيمانهم وصدق عزيمتهم في اتباع الحق فقال سبحانه: ] وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ [
ثم بين الله سبحانه جزاءهم فقال: ] فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ [ ، لقد كان لسماعهم للقرآن تأثير عظيم على نفوسهم قادهم إلى الإيمان واتباع الحق، وصدق العزيمة في الثبات عليه، والطمع فيما أعده الله تبارك وتعالى لعباده المؤمنين .
- وقال الله سبحانه في موضع آخر في وصف الذين أوتوا العلم من قبله حين سماعهم للقرآن: ] وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً [ (1)
لقد أثنى الله سبحانه على علماء أهل الكتاب الذين آتاهم الله العلم قبل نزول هذا القرآن لأنهم عندما يُتلى عليهم يسقطون على وجوههم ساجدين لله سبحانه خضوعاً لله، وإيماناً بما جاء به من الحق، وتأثراً بآيات الله تبارك وتعالى حيث تبكي عيونهم، وتخشع قلوبهم، وتلين جلودهم .
وقال الله سبحانه في وصف الذين يخشون ربهم عند سماعهم لآيات الله: ] اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ[ (1)
فالله سبحانه نزل – بفضله ورحمته – هذا الكتاب الذي وصفه سبحانه بأنه أحسن الحديث كتاباً متشابها أي: بعضه يشبه بعضاً في فصاحته وبلاغته ونظمه، وإعجازه، وهو مثاني: تثني وتكرر فيه القصص والمواعظ والأمثال والأحكام والوعد والوعيد، كما تثني وتكرر قرأته فلا يمل على كثرة التكرار، ويؤثر في قلوب الذين يخشون ربهم، فتقشعر منه جلودهم من الخشية والخوف ] ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [ لما يرجون ويؤملون من رحمته ولطفه
 

قال قتادة : " هذا نعت أولياء الله، نعتهم الله عز وجل بأن تقشعر جلودهم، وتبكى أعينهم، وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله، لم ينعتهم بذهاب عقولهم، والغشيان عليهم، إنما هذا في أهل البدع وهذا من الشيطان " (2)
واستبطأ الله قلوب المؤمنين فعاتبهم بقوله: ] أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ[(1)
قال ابن مسعود t: " مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلَامِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبَنَا اللَّهُ بِهَذه الآية: ] أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [إِلَّا أَرْبَعُ سِنِينَ " (2)
وقال سبحانه منكراً على المشركين استماعهم القرآن وإعراضهم عنه، وعدم خشوعهم وبكائهم كما هو شأن المؤمنين الموقنين: ] أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ + وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ + وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ [ (3)
ولما ذكر الله سبحانه في سورة مريم أخبار بعض أنبيائه ورسله، جاء في ختام الحديث عنهم قوله سبحانه: ] أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً[(4)
فبين سبحانه أن من صفات هؤلاء الأنبياء الذين اصطفاهم الله واختارهم لحمل رسالته، أنهم إذا تليت عليهم آياته المتضمنة لتعظيمه وتمجيده ودلائل توحيده، خروا سجداً وبكياً .
قال الحافظ ابن كثير: " قوله تعالى: ] إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً [ أي إذا سمعوا آيات الله المتضمنة حججه ودلائله وبراهينه سجدوا لربهم خضوعاً واستكانةً وشكراً على ما هم فيه من النعم ... فلهذا أجمع العلماء على شرعية السجود هاهنا اقتداءً بهم، واتباعاً لمنوالهم ...... " (1) .
إن البكاء عند سماع القرآن من هدي النبي e، وهدي أصحابه y، ومن تبعهم من سلف هذه الأمة الأبرار .
- ففي حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي e قال في مرضه الذي تُوفي فيه: " مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ " قَالَتْ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ وَإِنَّهُ مَتَى يَقُمْ مَقَامَكَ لَا يُسْمِعْ النَّاسَ ....، وفي رواية قالت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لَا يَمْلِكُ دَمْعَهُ"(2)
- وفي حديث عائشة حين ذكرت خروج أبي بكر إلى أرض الحبشة، ثم رجوعه، ودخوله في جوار ابن الدَّغنة، قالت: ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَيَتْقَذِفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ، وَأَبْنَاؤُهُمْ، وَهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً لَا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ .... (1)
- ولما قدم أهل اليمن في زمان أبي بكر فسمعوا القرآن جعلوا يبكون فقال أبو بكر: " هكذا كنا ثم قست القلوب " (2)
- وعن عبد الله بن شداد أنه قال: " سمعت نشيج عمر، وأنا في أخر الصف، وهو يقرأ سورة يوسف: ] إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ[(3) " (4)
- وعن سالم بن عبد الله أن ابن عمر – رضي الله عنهما - قرأ: ] وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ[ الآية (5) فدمعت عيناه (6)
- وعن عبد الله بن عبيدة قال: " رأت صفية زوج النبي e قوماً قرأوا سجدة، فسجدوا، فنادتهم: هذا السجود والدعاء فأين البكاء ؟ " (7)
- وعن الأعمش قال: " كان أبو صالح يؤمنا فكان لا يجيز القراءة من الرقة ... " (1)
- وعن عبد الله بن رباح عن صفوان بن محرز أنه كان إذا قرأ هذه الآية بكى حتى أرى قصص زوره سيندق ] وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ[ (2) " (3)
- وعن إبراهيم التيمي قال: " لقد أدركت ستين من أصحاب عبد الله في مسجدنا هذا أصغرهم الحارث بن سويد، وسمعته يقرأ: ] إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا...... [ حتى بلغ ] فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [ قال: فبكى ثم قال: إن هذا الإحصاء شديد ." (4)
- وقال عبد الله بن مسعود t: " ينبغي لحامل القرآن أن يُعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخلطون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكياً محزوناً حليماً حكيماً...." (5)
- وعن أبي موسى الأشعري t أنه بَعَثَ إِلَى قُرَّاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ ثَلَاثُ مِائَةِ رَجُلٍ قَدْ قَرَءُوا الْقُرْآنَ، فَقَالَ: أَنْتُمْ خِيَارُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَقُرَّاؤُهُمْ فَاتْلُوهُ، وَلَا يَطُولَنَّ عَلَيْكُمْ الْأَمَدُ فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ كَمَا قَسَتْ قُلُوبُ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ..... " (1
 

- وعن مسعر قال: سمعت عبد الأعلى التيمي يقول: " من أوتي من العلم ما لا يبكيه خليق أن لا يكون أوتي علماً ينفعه، لأن الله نعت العلماء، ثم قرأ: ] إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ...إلى قوله يَبْكُونَ[ (2) " (3)
- وعن أبي رجاء قال: " كان هذا المكان من ابن عباس - مجرى الدموع - مثل الشراك البالي من الدموع ". (4)
وهذه النصوص تُذَكِّر المؤمن أحوال الذين هداهم الله واجتباهم وأنعم عليهم، فكانوا عند تلاوة آياته خاشعين باكين منيبين، امتلأت قلوبهم خشيةً وتعظيماً لربهم، انصتوا عند استماعه بقلوب حاضرة، وأسماع شاهدة، وأحسنوا تدبره، واستحضروا معانيه، وتفكروا في آيات الله في الأفاق والأنفس، وقدروا فضل الله عليهم ومنته بتمكينهم من تلاوة كتابه، ووحيه المبارك، وقد قال سبحانه مخاطباً نبيه:] وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [(1)
وقال تعالى : ] وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [ (2) ، وقال: ] وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً [ (3)
وكان خشوعهم وبكاؤهم بحسن أدب، وصدق إنابة، وبعد عن التكلف، والتصنع بخلاف حال أهل البدع والضلال الذين يتصايحون عند سماع القرآن، ويتكلفون ما ليس فيهم، ويتصنعون الصعق والغشيان .
- عن عبد الله بن عروة بن الزبير، قال: " قلت لجدتي أسماء كيف كان يصنع أصحاب رسول الله e إذا قرأوا القرآن ؟ قالت: كانوا كما نعتهم الله عز وجل: تدمع أعينهم، وتقشعر جلودهم، قلت: فإن ناساً ههنا إذا سمعوا ذلك تأخذهم غَشْية ؟، فقالت: أعوذ بالله من الشيطان". (4)
- وقال قتادة في قوله تعالى: ] تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ .. [ قال: " هذا نعت أولياء الله تعالى، نعتهم الله فقال: تقشعر جلودهم وتبكي أعينهم، وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله تعالى، ولم ينعتهم الله تعالى بذهاب عقولهم، والغشيان عليهم، إنما هذا في أهل البدع، وإنما هو من الشيطان ...." (1)

 
اغتباط صاحب القرآن
عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضي الله عَنْهُمَا - عَنْ النَّبِي e قَالَ: " لا حَسَدَ إِلا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتاهُ الله القُرآن، فَهُو يَقُوم بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتاهُ الله مَالاً، فَهُو يُنفِقُهُ آناءَ اللَّيْلِ وآنَاءَ النَّهَارِ " أخرجه البخاري ح (5025) ، ومسلم ح (815)
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله e: " لا حَسَدَ إلا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتاهُ الله مَالاً، فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الحقِّ، وَرَجُلٌ آتاهُ الله حِكْمَةً، فَهُو يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا "
أخرجه البخاري ح (73) ، ومسلم ح (816)
شرح الحديثين
دل الحديثان على أن صاحب القرآن في غبطة ومنزلة رفيعة، ودرجة عالية، فينبغي أن يتذكر هذه النعمة الكبرى، والمنة العظمى، وقد نبَّه الإمام البخاري إلى هذا حيث بوب بقوله: " باب اغتباط صاحب القرآن " (1)، وبوب في كتاب العلم بقوله: " باب الاغتباط في العلم والحكمة"(2)
وإذا كان صاحب القرآن في هذا المقام الرفيع، والمنزلة العالية، فإنه لا غبطة أعظم ولا أفضل من غبطته، وعبر في الحديث بالحسد .
وأصل الحسد: تمنى زوال النعمة عن المنعم عليه. وهذا مذموم قال سبحانه: ] أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [ (1) ويطلق بمعنى الغبطة كما في هذا الحديث وهو: أن تتمنى أن يكون لك من النعمة والخير مثل ما لغيرك من غير أن تزول عنه (2)
والحرص على هذا يسمى منافسة ومنه قوله سبحانه: ] وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [(3) ويسمى مسابقة قال سبحانه: ] فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [ (4)
وذلك أن حقيقة السبق أن يتقدم على غيره في المطلوب. (5)
والخصلة الثانية التي ينبغي أن يغبط عليها المتصف بها هي الإنفاق في وجوه الخير: " وَرَجُلٍ آتاهُ الله مَالاً، فَهُو يُنفِقُهُ آناءَ اللَّيْلِ وآنَاءَ النَّهَارِ " وفي الحديث الآخر: " رَجُلٍ آتاهُ الله مَالاً، فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الحقِّ "
قال الحافظ ابن حجر: " وَعُبِّر بالتسليط لدلالته على قهر النفس المجبولة على الشح، وَعُبِّر بهلكته ليدل على أنه لا يبتغي معه شيئاً، وكَمَّلَه بقوله: " في الحقِّ " أي في الطاعات ليزيل عنه إيهام الإسراف المذموم، وقوله في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: " رَجُلٍ آتاهُ الله القُرآن، فَهُو يَقُوم بِهِ... " والقيام أعم من التلاوة فيدخل في ذلك تلاوته وتعلمه، والعمل به، والحكم والفتوى بمقتضاه، ولذلك جاء في حديث ابن مسعود t: وَرَجُلٍ آتاهُ الله حِكْمَةً، فَهُو يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا " فلا تخالف بين لفظي الحديثين والله أعلم .(1)
وعُبَّر بلفظ التلاوة في حديث أبي هريرة t حيث جاء فيه: " لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ، فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ " (2) فيمكن أن يؤخذ منه أن التلاوة المقرونة بالعمل يتحقق بها هذا الفضل والمنزلة الرفيعة .
قال الحافظ ابن كثير: " فذكر النعمة القاصرة وهي تلاوة القرآن آناء الليل والنهار، والنعمة المتعدية، وهي إنفاق المال بالليل والنهار كما قال تعالى: ] إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ [ (3) " (4)
وأخرج الإمام أحمد من حديث يزيد بن الأخنس السلمي t : " رَجُلٌ أَعْطَاهُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ – الْقُرْآنَ، فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَيَتَّبِعُ مَا فِيهِ .... " (5)
لقد تضمن هذان الحديثان الحث على تحصيل الخصلتين الكريمتين وهما: تلاوة كتاب الله آناء الليل والنهار والعمل به، والإنفاق آناء الليل والنهار في وجوه الخير، ومن فضل الله تبارك وتعالى أن من غبط صاحبهما وتمنى أن يكون مثلهما وهو صادق النية، مخلص في أمنيته فإن فضل الله يشمله ورحمته تعمه .
أخرج البخاري من حديث أبي هريرة t أن رسول الله e قال: " لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ، فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، فَسَمِعَهُ جَارٌ لَهُ فَقَالَ: لَيْتَنِي أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ فُلَانٌ فَعَمِلْتُ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُهْلِكُهُ فِي الْحَقِّ. فَقَالَ رَجُلٌ: لَيْتَنِي أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ فُلَانٌ، فَعَمِلْتُ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ ". (1)
وأخرج الإمام أحمد من حديث أَبِي كَبْشَةَ الْأَنْمَارِيِّ t أن النبي e قال: " إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدٌ رَزَقَهُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - مَالًا وَعِلْمًا، فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ للهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ حَقَّهُ. قَالَ: فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٌ رَزَقَهُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا، قَالَ: فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مَالٌ عَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ، قَالَ: فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ . قَالَ: وَعَبْدٌ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - ، وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقَّهُ، فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ. قَالَ: وَعَبْدٌ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مَالٌ لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ، قَالَ: هِيَ نِيَّتُهُ فَوِزْرُهُمَا فِيهِ سَوَاءٌ "(1)
وأخرج الإمام أحمد أيضاً من حديث يزيد بن الأخنس t أن رسول الله e قال: " لا تَنَافُسَ بَيْنَكُمْ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ أَعْطَاهُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - الْقُرْآنَ، فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَيَتَّبِعُ مَا فِيهِ، فَيَقُولُ رَجُلٌ: لَوْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْطَانِي مِثْلَ مَا أَعْطَى فُلَانًا، فَأَقُومَ بِهِ كَمَا يَقُومُ بِهِ، وَرَجُلٌ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَالًا، فَهُوَ يُنْفِقُ وَيَتَصَدَّقُ، فَيَقُولُ رَجُلٌ: لَوْ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَانِي مِثْلَ مَا أَعْطَى فُلَانًا، فَأَتَصَدَّقَ بِهِ " (2)


 

الجهر بقراءته والتغني به
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله e يَقُولُ: " مَا أَذِنَ اللهُ لِشَيْءٍ، مَا أَذِنَ لِنَبيٍّ حَسَنَ الصَّوْتِ يَتَغَنّى بِالقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ . "
أخرجه البخاري (5024) ، ومسلم ح (792)
شرح الحديث
أفاد الحديث استحباب التغني بالقرآن، وهو تحسين الصوت به، والترجيع بقراءته .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: " ومعناه أن الله تعالى ما استمع لشيء كاستماعه لقراءة نبي يجهر بقراءته ويحسنها، وذلك أنه يجتمع في قراءة الأنبياء طيب الصوت لكمال خلقهم، وتمام الخشية، وهو الغاية في ذلك، وهو سبحانه وتعالى يسمع أصوات العباد كلهم برهم وفاجرهم كما قالت عائشة - رضي الله عنها -: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ"(1) ، ولكن استماعه لقراءة عباده المؤمنين أعظم كما قال تعالى: ] وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ... [ (2) الآية. ثم استماعه لقراءة أنبيائه أبلغ كما دل عليه هذا الحديث العظيم، ومنهم من فسر الأذن ههنا بالأمر والأول أولى لقوله: " مَا أَذِنَ اللهُ لِشَيْءٍ، مَا أَذِنَ لِنَبيٍّ حَسَنَ الصَّوْتِ يَتَغَنّى بِالقُرْآنِ " أي يجهر به، والأذن: الاستماع لدلالة السياق عليه، وكما قال تعالى: ] إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ + وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ[ (1) أي استمعت لربها، وَحُقَّت: أي وحق لها أن تستمع أمره وتطيعه، فالأذن ههنا هو الاستماع، ولهذا جاء في حديث رواه ابن ماجه بسند جيد عن فضالة بن عبيد قال: قال رسول الله e:" لَلَّهُ أَشَدُّ أَذَنًا إِلَى الرَّجُلِ الْحَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ مِنْ صَاحِبِ الْقَيْنَةِ إِلَى قَيْنَتِهِ " (2) " (3)
إن قارئ كتاب الله مدعو إلى بذل غاية الاجتهاد في تحسين الصوت بالقرآن وتحبيره، ففي حديث سعد t قال سمعت رسول الله e يقول:" لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ " (4)، وفي حديث البراء t قال سمعت رسول الله e يقول: " زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ " (5)
وكان النبي e أحسن الناس صوتاً، ففي الصحيحين من حديث البراء t قال: " سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ: ] وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ [ فِي الْعِشَاءِ، وَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ صَوْتًا مِنْهُ أَوْ قِرَاءَةً " (6)
وفيهما من حديث جبير بن مطعم t قال: " سمعت رسول الله e يقرأ في المغرب بـ ] الطور[ ، فما سمعت أحداً أحسن صوتاً أو قراءة منه " . وفي بعض رواياته: " فلما سمعته قرأ: ] أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [، كاد قلبي يطير، وفي رواية :" خلت فؤادي ينصدع"(1)
وفي حديث عبد الله بن مغفل t قال: " قرأ رسول الله e يوم فتح مكة سورة الفتح، وهو على ناقته قراءة لينة يقرأ وهو يرجِّع "، وفي رواية: " فما سمعت قراءة أحسن منها يرجِّع. " (2)
واستمع النبي e إلى قراءة أبي موسى t وأثنى على قرأته فقال له: " يا أبا موسى، لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود " (3)
وفي رواية لمسلم: " لو رأيتني وأنا أستمع قراءتك البارحة " (4)
وأخرجه أبو يعلى بزيادة فيه أن أبا موسى t قال: " أما إني لو علمت بمكانك لحبرته لك تحبيراً"(5)
قال الحافظ ابن كثير: " فدل على جواز تعاطي ذلك وتكلفه، وقد كان أبو موسى t كما قال عليه الصلاة والسلام قد أعطي صوتاً حسناً مع خشية تامة، ورقة أهل اليمن، فدل على أن هذا من الأمور الشرعية"(1)
وروى أبو عبيد عن أبي سلمة t قال: كان عمر t إذا رأى أبا موسى قال: " ذكرنا ربنا يا أبا موسى فيقرأ عنده " (2)
وعن ابن سعد من حديث أنس t: أن أبا موسى t قام ليلة يصلي فسمع أزواج النبي e صوته - وكان حلو الصوت - فقمن يستمعن فلما أصبح قيل له، فقال: " لو علمت لحبرته لهن تحبيراً " (3)
وهذه الأحاديث تدل على استحباب استماع القرآن من ذي الصوت الحسن لما له من أثر في رقة القلب، وجريان الدمع، وحسن التدبر، وكان عمر t يقدم الشاب الحسن الصوت، لحسن صوته بين يدي القوم .(4)
وأخرج ابن ماجه بسنده عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: أبطأت على رسول الله e ليلة بعد العشاء، ثم جئت، فقال: " أين كنت؟ " قلت: كنت أسمع قراءة رجل من أصحابك لم أسمع مثل قراءته وصوته من أحد، قالت: فقام فقمت معه حتى استمع له، ثم التفت إلي فقال: " هذا سالم مولى أبي حذيفة، الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل هذا.... " (1)
إن قارئ كتاب الله تبارك وتعالى مطلوب منه تحسين الصوت، وتطيبه بقدر المستطاع، فإن لم يكن حسن الصوت فليحسنه ما استطاع، فقد سئل ابن أبي مليكة فقيل له: " أرأيت إذا لم يكن حسن الصوت ؟ قال: يحسنه ما استطاع " (2)، وليكن حسن الصوت مصحوباً بخشوع القلب وانكساره وخضوعه وحسن التدبر والتأمل لما يقرؤه .
أخرج أبو عبيد بسنده عن طاووس قال: " أحسن الناس صوتاً بالقرآن أخشاهم لله تعالى"(3)
وإذا رزق العبد حسن الصوت بالقرآن؛ فعليه أن يتذكر هذه النعمة، ويقوم بحقها، ويخلص لله فيها، يقول الإمام الآجري: " ينبغي لمن رزقه الله حسن الصوت بالقرآن أن يعلم أن الله قد خَصَّهُ بخير عظيم، فليعرف قدر ما خَصَّه الله به، وليقرأ لله لا للمخلوقين، وليحذر من الميل إلى أن يُستمع منه ليحظى به عند السامعين رغبة في الدنيا والميل إلى حسن الثناء والجاه من أبناء الدنيا.... ، فمن مالت نفسه إلى ما نهيته عنه خفت أن يكون حسن صوته فتنة عليه، وإنما ينفعه حسن صوته إذا خشي الله - عز وجل - في السر والعلانية، وكان مراده أن يُستمع منه القرآن لينتبه أهل الغفلة عن غفلتهم، فيرغبوا فيما رغبهم الله عز وجل، وينتهوا عما نهاهم، فمن كانت هذه صفته انتفع بحسن صوته وانتفع به الناس " (1)
ولتكن قراءة القارئ جارية على سنن العرب في نطقها وكلامها، مراعية الأداء المتلقى عن النبي e وأصحابه، بعيدة عن التكلف .
قال النووي - رحمه الله -: " أجمع العلماء على استحباب تحسين الصوت بالقرآن ما لم يخرج عن حد القراءة بالتمطيط، فإن خرج حتى زاد حرفاً أو أخفاه حرم ... " (2)
وقال الحافظ ابن كثير: " والغرض أن المطلوب شرعاً إنما هو التحسين بالصوت الباعث على تدبر القرآن، وتفهمه والخشوع والخضوع والانقياد للطاعة .... ، فأما الأصوات بالنغمات المحدثة المركبة على الأوزان والأوضاع الملهية والقانون الموسيقائي، فالقرآن يُنزه عن هذا ويجل ويعظم أن يُسلك في أدائه هذا المذهب " (3)
قال الحافظ ابن القيم: " التطريب والتغني على وجهين: أحدهما: ما اقتضته الطبيعة، وسمحت به من غير تكلف، ولا تمرين، ولا تعليم بل إذا خلا وطبعه واسترسلت طبيعته جاءت بذلك التطريب والتلحين فذلك جائز، وإن أعان طبيعته بفضل تزيين وتحسين ... فهذا هو الذي كان السلف يفعلونه ويستمعونه، وهو التغني المحمود، وهو الذي يتأثر به التالي والسامع ......، الوجه الثاني: ما كان من ذلك صناعة من الصنائع، وليس في الطبع السماحة به، بل لا يحصل إلا بتكلف وتصنع وتمرن كما يتعلم أصوات الغناء بأنواع الألحان البسيطة والمركبة على إيقاعات مخصوصة، وأوزان مخترعة، لا تحصل إلا بالتعلم والتكلف ..... فهذه هي التي كرهها السلف وعابوها وذموها ومنعوا القراءة بها، وأنكروا على من قرأ بها …. " (1)

 

الأمر بتعاهده واستذكاره

عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضي الله عَنْهُمَا -: أَنَّ رَسُولُ الله e قَالَ: " إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ القُرْآنِ كَمَثَلِ صَاحِب الإبِلِ المُعَقَّلَةِ، إِنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتَ، وَإِذَا قَامَ صَاحِبُ القُرْآنِ فَقَرَأَهُ باللِّيْلِ والنَّهَارِ ذَكَرَهُ، وَإِذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ نَسِيَهُ "
أخرجه البخاري ح (5031) ، ومسلم ح ( 789)
وَعَنْ عَبِْد الله t قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله e: " بِئْسَمَا لأحَدِهِمْ أَنْ يَقُولُ نَسِيتُ آيَة كَيْتَ وَكَيْتَ ، بَلْ هُوَ نُسِّيَ ، اسْتَذْكِرُوا القُرْآنَ فَلَهُو أَشَدُّ تَفَصِّياً مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنَ النَّعَمِ بِعُقُلِهَا"
أخرجه البخاري ح (5032) ، ومسلم ح (790)
وَعَنْ أبِي مُوسَى t عَنِ النَّبِيِّ e قَالَ: " تَعَاهَدُوا هَذَا القُرْآنَ فَوَالَّّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ، لَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتاً مِنَ الإبِلِ فِي عُقُلِهَا "
أخرجه البخاري ح (5033) ، ومسلم ح (791)
شرح الأحاديث
تضمنت هذه الأحاديث الحث والترغيب في كثرة تلاوة القرآن ودوام دراسته وتعاهده واستذكاره، فإن الذي يداوم على ذلك يذل له لسانه، ويسهل عليه قرأته، فإذا هجره ثقلت عليه القراءة وشقت عليه وعرضه حافظه للنسيان، وهذا تفريط شديد وتهاون كبير .
قال الضحاك بن مزاحم: " ما من أحد تعلم القرآن فنسيه إلا بذنب يحدثه، لأن الله تعالى يقول: ] وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [(1)، وإن نسيان القرآن من أعظم المصائب" (2)
وشبه النبي e صاحب القرآن الذي ألف تلاوته وداوم عليها بصاحب الإبل المعقلة، والمعقلة: المشدودة بالعقال وهو الحبل الذي يشد في ركبة البعير، فشبه الاستمرار في تعاهد القرآن ودراسته بربط البعير الذي يخشى منه الشرود، فإذا كان التعاهد موجوداً فالحفظ موجود، كما أن البعير ما دام مشدوداً بالعقال فهو محفوظ .
وَخَصَّ الإبل بالذكر لأنها أشد الحيوان الإنسي نفوراً، وفي تحصيلها بعد استمكان نفورها صعوبة، بل إن النبي e وصف تفلت القرآن من الصدور بأنه أشد من تفلت الإبل في عقلها، ففي حديث ابن مسعود t : " فَلَهُو أَشَدُّ تَفَصِّياً مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنَ النَّعَمِ بِعُقُلِهَا "، وفي حديث أبي موسى t : " أَشَدُّ تَفَلُّتاً مِنَ الإبِلِ فِي عُقُلِهَا "
فمعنى ذلك أن الإبل في عقلها تطلب التفلت والتخلص من رباطها فمتى لم يتعاهدها صاحبها تفلتت، فكذلك صاحب القرآن إن لم يتعهده تَفَلَتْ بل هو أشد من ذلك .
وقوله: " أَشَدُّ تَفَصِّياً " التفصي: التخلص، يقال: تفصى فلان من البلية إذا تخلص منها، ومنه تفصى النوى من الثمرة إذا تخلص منها.......
قال ابن بطال:" هذا الحديث يوافق الآيتين: قوله تعالى: ] إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً [، وقوله تعالى: ] وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ [، فمن أقبل عليه بالمحافظة والتعاهد يسر له، ومن أعرض عنه تَفَلَتْ منه " (1)
وقوله في حديث ابن مسعود t: " بِئْسَمَا لأحَدِهِمْ أَنْ يَقُولُ نَسِيتُ آيَة كَيْتَ وَكَيْتَ، بَلْ هُوَ نُسِّيَ " وكلمة نُسِّي رويت: بالتخفيف بفتح النون وتخفيف السين، ورويت بالتثقيل بضم النون وتثقيل السين .
قال الحافظ ابن حجر: " والتثقيل هو الذي وقع في جميع الروايات في البخاري، وكذا في أكثر الروايات في غيره، ويؤيده ما وقع في رواية أبي عبيد في الغريب بعد قوله: " كَيْتَ وَكَيْتَ ليس هو نَسِيَ ولكن نُسِّيَ.... " (2)
قال القرطبي: " التثقيل معناه أنه عوقب بوقوع النسيان عليه لتفريطه في معاهدته، واستذكاره، وعلى التخفيف فيكون معناه تركه غير ملتفت إليه، ولا مُعْتَني به ... كما قال تعالى: ] نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ... [ ، أي تركهم في العذاب أو تركهم من الرحمة " (1)
وقال: " إن نسيان القرآن إنما يكون لترك تعاهده وللغفلة عنه كما أن حفظه إنما يثبت بتكراره والصلاة به كما قال في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما-: " وَإِذَا قَامَ صَاحِبُ القُرْآنِ فَقَرَأَهُ باللِّيْلِ والنَّهَارِ ذَكَرَهُ، وَإِذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ نَسِيَهُ " فإذا قال الإنسان: نسيت آية كيت وكيت فقد شهد على نفسه بالتفريط وترك معاهدته له، وعلى هذا فمتعلق الذم ترك ما أمر به من استذكار القرآن وتعاهده، والنسيان علامة ترك ذلك، فعلق الذم عليه، ولا يقال: حفظ جميع القرآن ليس واجباً على الأعيان فكيف يُذم من تغافل عن حفظه ... لأنا نقول من جمع القرآن فقد علت رتبته ومرتبته، وشرف في نفسه وقومه شرفا ًعظيماً، وكيف لا يكون ذلك ؟، ومن حفظ القرآن فكأنما أدرجت النبوة بين كتفيه، وقد صار ممن يقال فيه: هو من أهل الله وخاصته، وإذا كان كذلك فمن المناسب تغليظ العقوبة على من أخل بمرتبته الدينية ، ومؤاخذته بما لا يؤاخذ به غيره..."(2)
وإذا حصل النسيان عن غير تفريط ولا إهمال فإن الإنسان لا يؤاخذ على ذلك، وقد جاء في حديث عائشة رضي لله عنها قالت: سمع رسول الله e رجلاً يقرأ في سورة بالليل فقال: " رَحِمَهُ اللَّهُ لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً أَسْقَطْتُهَا فِي سُورَةِ كَذَا وَكَذَا " (1)
قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله-: " وفي هذا الحديث دليل على أن حصول النسيان للشخص ليس بنقص له إذا كان بعد الاجتهاد والحرص... " (2)
وقال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: " فمن نشأ نسيانه عن اشتغاله بأمر ديني كالجهاد لم يمتنع عليه قول ذلك لأن النسيان لم ينشأ عن إهمال ديني، وعلى ذلك يحمل ما ورد من ذلك عن النبي e من نسبة النسيان إلى نفسه، ومن نشأ نسيانه عن اشتغاله بأمر دنيوي - ولا سيما إن كان محظوراً - امتنع عليه لتعاطيه أسباب النسيان .... " (3)
وكان من هدي النبي e وأصحابه y ومن تبعهم من سلف هذه الأمة في تعاهد القرآن واستذكاره العناية بأمرين هما:
1- تحزيب القرآن، وذلك بتخصيص قدر من القرآن وتعاهد قراءته في كل يوم وليلة .
- فعن عبد الرحمن بن عبد القاري قال: سمعت عمر بن الخطاب t يقول قال رسول الله e: " مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ، أَوْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ، فَقَرَأَهُ فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الظُّهْرِ كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنْ اللَّيْلِ " (1)
- وفي حديث أوس بن حذيفة t أن النبي e كان يأتي وفد ثقيف لما قدموا عليه فيحدثهم، وأنه أبطأ عليهم ليلة فقالوا: لَقَدْ أَبْطَأْتَ عَنَّا اللَّيْلَةَ؟ قال: " إِنَّهُ طَرَأَ عَلَيَّ جُزْئِي مِنْ الْقُرْآنِ فَكَرِهْتُ أَنْ أَجِيءَ حَتَّى أُتِمَّهُ " قَالَ أَوْسٌ: فسَأَلْتُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ e كَيْفَ يُحَزِّبُونَ الْقُرْآنَ ؟ قَالُوا: ثَلَاثٌ وَخَمْسٌ وَسَبْعٌ وَتِسْعٌ وَإِحْدَى عَشْرَةَ وَثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَحِزْبُ الْمُفَصَّلِ وَحْدَهُ " (2)
وهذا التحزيب الوارد في هذا الحديث موافق لأمر النبي e لعبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - أن يقرأ القرآن في سبع ولا يزيد على ذلك، فقد قال له النبيe حين بلغه اجتهاده في العبادة: " وَاقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ" قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: " فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ عِشْرِينَ " ، قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: " فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ عَشْرٍ "، قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: " فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ سَبْعٍ وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ " (1)
قال البخاري: " وقال بعضهم: في ثلاث أو في سبع وأكثرهم على سبع " (2)
وورد­ آثار عديدة عن الصحابة y تدل على تعاهدهم ومحافظتهم لحزبهم من القرآن:
فعن عبد الرحمن بن عبد القاري يقول : " استأذنت على عمر بالهاجرة ، فحبسني طويلاً ، ثم أذن لي، وقال : إني كنت في قضاء وردي"(3)
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: " إني لأقرأ حزبي أو عامة حزبي وأنا مضجعة على فراشي" (4)
وعن خيثمة عن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما- قال: " انتهيت إليه وهو ينظر في المصحف، قال: قلت: أي شيء تقرأ في المصحف ؟ قال: حزبي الذي أقوم به الليلة " (5)
وعن موسى بن علي قال: سمعت أبي قال: أمسكت على فضالة بن عبيد القرآن حتى فرغ منه" (1)
وبالجملة فقد كانوا يكثرون من تلاوة القرآن ودراسته وتدبره، ويجدون في ذلك حلاوة وطمأنينة وأُنس ....
قال عثمان بن عفان t : " لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام الله عز وجل " (2)
وقال الحسن البصري: " تفقدوا الحلاوة في ثلاث: الصلاة والقرآن والدعاء، فإن وجدتموها فاحفظوا واحمدوا الله على ذلك، وإن لم تجدوها فاعلموا أن أبواب الخير عليكم مغلقة" (3)
ولخص النووي - رحمه الله - ما ورد من آثار عن السلف في قدر ما يختمون فيه القرآن فقال: " كان السلف y لهم عادات مختلفة في قدر ما يختمون فيه ، فروى ابن أبي داود عن بعض السلف y أنهم كانوا يختمون في كل شهرين ختمة واحدة، وعن بعضهم في كل شهر ختمة، وعن بعضهم في كل عشر ليال ختمة، وعن بعضهم في كل ثمان ليال وعن الأكثرين في كل سبع ليال..... ، والاختيار أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فمن كان يظهر له بدقيق الفكر لطائف ومعارف فليقتصر على قدر ما يحصل له كمال فهم ما يقرؤه، وكذا من كان مشغولاً بنشر العلم أو غيره من مهمات الدين ومصالح المسلمين العامة، فليقتصر على قدر لا يحصل بسببه إخلال بما هو مرصد له، وإن لم يكن من هؤلاء المذكورين فليستكثر ما أمكنه من غير خروج إلى حد الملل والهذرمة " (1)
2- الأمر الثاني المعين على تعاهد القرآن: قيام الليل .
وقد كان من هدي النبي e إطالة الصلاة بالليل وتطويل القراءة .
- فعن أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - كَيْفَ كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ e فِي رَمَضَانَ ؟، قَالَتْ: " مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ e يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ، وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا .... " (2)
- وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ – رضي الله عنها - عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ e فِي تَطَوُّعِهِ ؟ ، فَقَالَتْ:" كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ تِسْعَ رَكَعَاتٍ فِيهِنَّ الْوِتْرُ، وَكَانَ يُصَلِّي لَيْلًا طَوِيلًا قَائِمًا، وَلَيْلًا طَوِيلًا قَاعِدًا، وَكَانَ إِذَا قَرَأَ وَهُوَ قَائِمٌ رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ قَائِمٌ، وَإِذَا قَرَأَ قَاعِدًا رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ قَاعِدٌ وَكَانَ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّى رَكْعَتَيْن" (3)
- وعنها أن رسول الله e " كَانَ يُصَلِّي جَالِسًا، فَيَقْرَأُ وَهُوَ جَالِسٌ، فَإِذَا بَقِيَ مِنْ قِرَاءَتِهِ قَدْرُ مَا يَكُونُ ثَلَاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً، قَامَ فَقَرَأَ وَهُوَ قَائِمٌ، ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ يَفْعَلُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذَلِكَ " (1)
- وعن حذيفة t قال: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ e ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ، ثُمَّ مَضَى، فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ، فَمَضَى، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ بِهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا، يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا، إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ، ثُمَّ رَكَعَ فَجَعَلَ يَقُولُ: " سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ "، فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ، ثُمَّ قَالَ: " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ "، ثُمَّ قَامَ طَوِيلًا قَرِيبًا مِمَّا رَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ فَقَالَ: " سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى "، فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيبًا مِنْ قِيَامِهِ . (2)
- وعن عبد الله t قال : " صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ e فَأَطَالَ حَتَّى هَمَمْتُ بِأَمْرِ سَوْءٍ، قَالَ: قِيلَ وَمَا هَمَمْتَ بِهِ ؟ قَالَ: هَمَمْتُ أَنْ أَجْلِسَ وَأَدَعَهُ " (3)
واقتدى الصحابة y بنبيهم e فكانوا يحافظون على قيام الليل .
- فعن أبي موسى t قال : قال رسول الله e : " إِنِّي لَأَعْرِفُ أَصْوَاتَ رُفْقَةِ الْأَشْعَرِيِّينَ بِالْقُرْآنِ، حِينَ يَدْخُلُونَ بِاللَّيْلِ، وَأَعْرِفُ مَنَازِلَهُمْ مِنْ أَصْوَاتِهِمْ بِالْقُرْآنِ بِاللَّيْلِ، وَإِنْ كُنْتُ لَمْ أَرَ مَنَازِلَهُمْ حِينَ نَزَلُوا بِالنَّهَارِ..... " (1)
- وأخرج أبو عبيد بإسناده أن رجلاً سأل عبد الرحمن بن عثمان التيمي عن صلاة طلحة بن عبيد الله t فقال: إن شئت أخبرتك عن صلاة عثمان t ؟ فقال: نعم، قال: قلت لأغلبن الليلة النفر على الحجر - يريد المقام – قال: فلما قمت إذا برجل مقنع يزحمني، فنظرت فإذا عثمان بن عفان t فتأخرت عنه فصلى، فإذا هو يسجد سجود القرآن حتى إذا قلت: هذا هو أذان الفجر أوتر بركعة لم يصل غيرها.(2)
- ثم روى عن ابن سرين قال: " قالت نائلة بنت الفرافصة حين دخلوا على عثمان ليقتلوه: أن تقتلوه أو تدعوه، فقد كان يُحيي الليلة بركعة يجمع فيها القرآن . " (3)
والآثار المروية عن الصحابة y، ومن تبعهم من سلف هذه الأمة في قيام الليل كثيرة، يطول المقام بذكرها .
يقول أبو الأحوص: " إن كان الرجل ليطرق الفسطاط قال فيجد لهم دويا كدوي النحل، فما بال هؤلاء يأمنون ما كان أولئك يخافون " (1)
وما جاء عن عثمان بن عفان t، من قراءة القرآن في ليلة لم يكن النبي e يفعله ولعل عثمان t اغتنم فضل المكان - كما سيأتي - .
قالت عائشة - رضي الله عنها -: " ولا أعلم نبي الله e قرأ القرآن كله في ليلة، ولا صلى ليلة إلى الصبح ....." (2)
وورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث، ففي حديث عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- أن النبيe قال : " لَا يَفْقَهُ مَنْ قَرَأَهُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ" (3)
- وعن عبد الله بن مسعود t قال: " اقرءوا القرآن في سبع ، ولا تقرؤه في أقل من ثلاث"(4)، وأنكر t على رجل قال: إني قرأت المفصل في ركعة، فقال: " أهذاً كهذا الشعر ؟ إن أقواماً يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع " (5)
ولهذا فقد كره غير واحد من السلف قراءة القرآن في أقل من ثلاث، وهو اختيار الإمام أحمد، وأبي عبيد، وإسحاق، وغيرهم، ومن ترخص منهم في قراءة القرآن في أقل من ثلاث فمحمول على أنه لم يبلغه النهي، أو أنهم كانوا يفهمون، ويتفكرون فيما يقرءونه مع قراءتهم له في أقل من ثلاث . (1)
ومن أهل العلم من حمل النهي على المداومة على ذلك.
قال الحافظ ابن رجب: " وإنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك، فأما في الأوقات المفضلة كشهر رمضان خصوصاً الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر ، أو في الأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها، فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتناماً للزمان والمكان ، وهو قول أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة ، وعليه يدل عمل غيرهم..." (2)


 

فضل حملة القرآن

عَنْ أبِي مُوسَى الأشْعَرِيِّ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله e: " مَثَلُ المُؤْمِنِ الذِي يَقْرَأُ القَرْآنَ كَمَثَل الأُتْرُجَّةِ رِيحُها طَيَّبٌ وَطَعْمُهَا طَيَّبٌ، وَمَثَلُ المُؤمِنِ الذِي لا يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثَل التَّمْرَةِ لا رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا حُلْوٌ، وَمَثَلُ المُنَافِقِ الذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثَل الرَّيحانَةَ رِيحُها طَيَّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌ، وَمَثَلَ المُنَافِقِ الذِي لا يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثَل الحنْظَلَةِ, لَيْسَ لَهَا رِيحٌ وَطَعْمُهَا مُرٌ "
أخرجه البخاري ح (5427) ، ومسلم ح (797)
شرح الحديث
في هذا الحديث يبين النبي e فضل قراءة القرآن وتفاوت حظوظ الناس في هذه القراءة ويقسم النبي e الناس إلى أربعة أصناف، ويضرب لكل صنف مثلاً يُجلي أمره ، ويوضح حقيقته .
فالصنف الأول: " المُؤْمِنِ الذِي يَقْرَأُ القَرْآنَ كَمَثَل الأُتْرُجَّةِ رِيحُها طَيَّبٌ وَطَعْمُهَا طَيَّبٌ "
وهذا الصنف هو خير الأصناف وأفضلها، مؤمن جمع إلى إيمانه قراءة القرآن وتلاوته، وهي تلاوة مقرونة بالعمل والاستجابة لله ورسوله، ولهذا فقد جاء في رواية عند البخاري: " المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به " وقد شبه النبي e هذا الصنف بالأترجة: ريحها طيب وطعمها طيب .
والأُتْرُجَّة : - بضم فسكون فضم ، فجيم مشددة - نوع من الفاكهة .
قال الحافظ: " قيل خَص صفة الإيمان بالطعم ، وصفة التلاوة بالريح لأن الإيمان ألزم للمؤمن من القرآن إذ يمكن حصول الإيمان بدون القراءة، وكذلك الطعم ألزم للجوهر من الريح فقد يذهب ريح الجوهر ويبقى طعمه، ثم قيل: الحكمة في تخصيص الأترجة بالتمثيل دون غيرها من الفاكهة التي تجمع طيب الطعم والريح كالتفاحة ، لأنه يتداوى بقشرها ، وهو مفرح بالخاصية، ويستخرج من حبها دهن له منافع، وقيل إن الجن لا تقرب البيت الذي فيه الأترجة، فناسب أن يمثل به القرآن الذي لا تقربه الشياطين ، وغلاف حبه أبيض فيناسب قلب المؤمن وفيها أيضاً من المزايا كبر جرمها، وحسن منظرها، وتفريح لونها، ولين ملمسها، وفي أكلها مع الالتذاذ طيب نكهة ودباغ معدة ، وجودة هضم، ولها منافع أخرى ... " (1)
قال الحافظ ابن القيم - بعد أن ذكر منافع الأترج وخصائصه - : " وحقيق بشيء هذه منافعه أن يُشبه به خلاصة الوجود، وهو المؤمن الذي يقرأ القرآن، وكان بعض السلف يحب النظر إليه لما في منظره من التفريح" (1)
ثم ذكر النبي e الصنف الثاني فقال: " وَمَثَلُ المُؤمِنِ الذِي لا يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثَل التَّمْرَةِ لا رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا حُلْوٌ "
وهذا الصنف أدنى منزلةٍ وأقل رتبةٍ من الصنف الأول، فالمؤمن الذي لا يقرأ القرآن تحققت له فضيلة الإيمان، وفاته تلاوة القرآن التي تظهر على اللسان وتخرج من الفم فهي بمثابة الريح الطيبة التي تفوح من الفم فشبه بالتمرة التي تتصف بحلاوة الطعم، ولكنها تفتقد الرائحة الذكية الطيبة .
ثم قال عليه الصلاة والسلام عن الصنف الثالث: " وَمَثَلُ المُنَافِقِ الذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثَل الرَّيحانَةَ رِيحُها طَيَّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌ " وفي رواية: " مثل الفاجر الذي يقرأ القرآن "
والريحانة: نبات طيب الرائحة، مر المذاق، فما يخرج من فم المنافق من كلمات القرآن العظيم فهي ذاكية الرائحة، وأما الناطق بها فخبيث المعدن، سيئ الطوية فهو مثل الريحانة الموصوفة بالمرارة.
قال ابن بطال: " قراءة الفاجر والمنافق لا ترتفع إلى الله ولا تزكو عنده، وإنما يزكو عنده ويرتفع إليه من الأعمال ما أريد به وجهه، وكان عن نية وقربة إليه تعالى، ألا ترى أنه شبه الفاجر الذي يقرأ القرآن بالريحانة، ريحها طيب، وطعمها مر حين لم ينتفع ببركة القرآن، ولم يفز بحلاوة أجره، فلم يجاوز الطيب حلوقهم من موضع الصوت ....... وهؤلاء هم الذين يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية " (1)
قال الحسن البصري: " قراء القرآن على ثلاثة أصناف: صنف اتخذوه بضاعة يأكلون به، وصنف أقاموا حروفه، وضيعوا حدوده، واستطالوا به على أهل بلادهم .... كثير هذا الضرب من حملة القرآن لا كثرهم الله، وصنف عمدوا إلى دواء القرآن فوضعوه على داء قلوبهم، واستشعروا الخوف وارتدوا الحزن، فأولئك يسقي الله بهم الغيث، وينصر بهم على الأعداء، والله لهذا الضرب من حملة القرآن أعز من الكبريت الأحمر " (2)
ثم قال عليه الصلاة والسلام عن الصنف الرابع : " وَمَثَلَ المُنَافِقِ الذِي لا يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثَل الحنْظَلَةِ , لَيْسَ لَهَا رِيحٌ وَطَعْمُهَا مُرٌ "
والحنْظَلَة: نبات معروف شديد المرارة، ولا ريح له، فشبه به هذا الصنف الرابع الذي أصيب بسوء المظهر والمخبر، وفساد الجوهر والشكل.
وهذا الحديث يدل على فضل القرآن الكريم وفضيلة حامليه، المؤمنين به العاملين بما جاء فيه حيث شبههم النبي e بالأترجة التي فُضلت على سائر الفواكه .


 

نزول السكينة والملائكة عند قراءته
عَنْ البَرَاءِ t قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الكَهْفِ وَعِنْدهُ فَرَسٌ مَربُوط بِشَطَنَيْنِ فَتَغَشَّتْهُ سَحَابَةٌ ، فَجَعَلَتْ تَدُورُ وَتَدْنو وَجَعَلَ فَرَسُهُ يَنْفِرُ مِنَهَا ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى النَّبِيَّ e فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَال : " تِلْك السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ لِلْقُرْآنِ . " أخرجه البخاري ح (5011) ، ومسلم ح (795)
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ t : أَنَّ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ بَيْنَمَا هُوَ لَيْلَةً يَقْرَأُ فِي مِرْبدِهِ إِذْ جَالَتْ فَرَسُهُ فَقْرَأَ ، ثُمَّ جَالَتْ أُخْرَى فَقَرَأَ ، ثُمَّ جَالَتَ أَيْضاً فَقَال أُسَيْدٌ: فَخَشِيتُ أَنْ تَطَأَ يَحْيَى فَقمْتُ إِلَيْهَا ، فِإذَا مِثْلُ الظُّلَّةِ فَوْقَ رَأْسِي فِيَها أَمْثَالُ السُّرُجِ عَرَجَتْ فَي الجوِّ حَتَّى مَا أَرَاَهَا ، قَالَ فَغَدَوْتُ عَلَى رَسُولُ الله e فَقُلْتُ: يَا رَسُولُ الله بَيْنَمَا أَنَا البَارِحَةَ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ أَقْرَأُ فِي مِرْبدِي إِذْ جَالَتْ فَرَسِي فَقَال رَسُولُ الله e: " اقْرَأْ ابْنَ حُضَيْرٍ " قَالَ: فَقَرَأْتُ ثُمَّ جَالَتْ أَيْضاً ، فَقَالَ رَسُولُ الله e: " اقْرَأْ ابْنَ حُضَيْرٍِ " قَالَ: فَقَرَأْتُ ثُمَّ جَالَتْ أَيْضاً فَقَالَ رَسُولُ الله e: " اقْرَأْ ابْنَ حُضَيْرٍ "، قَالَ: فَانْصَرفْتُ وَكَانَ يَحْيَى قَرِيباً مِنْهَا فَخِشيتُ أَنْ تَطَأَهُ فَرَأَيْتُ مِثْلَ الظُّلَّةِ، فِيها أَمْثَالُ السُّرُجِ ، عَرَجَتْ فِي الجوَّ حَتَّى مَا أَرَاهَا فَقَال رَسُولُ الله e: " تِلْكَ المَلائِكَةُ كَانَتْ تَسْتَمِعُ لَكَ ، وَلَوْ قَرَأْتَ لأصْبَحَتْ يَرَاهَا النَّاسُ مَا تَسْتَتِرُ مِنْهُمْ "
أخرجه البخاري ح ( 5018) ، ومسلم ح (796)
شرح الحديثين
أفاد هذان الحديثان فضل قراءة القرآن، وأنها سبب لتنزل السكينة وحضور الملائكة، وقد بوب البخاري على حديث أسيد بقوله: " باب نزول السكينة والملائكة عند قراءة القرآن " (1)
وهذا الذي حصل لأُسيد بن حضير t وقع نظيره لثابت بن قيس، فأخرج أبو عبيد بسنده عن جرير بن حازم عن عمه جرير بن يزيد أن أشياخ أهل المدينة حدثوه أن رسول الله e قيل له: ألم تر ثابت بن قيس بن شماس ؟لم تزل داره البارحة تزهر بمصابيح، قال:" فلعله قرأ سورة البقرة "، قال : فسئل ثابت، فقال: قرأت سورة البقرة . " (2)
وأخرج الإمام مسلم من حديث أبي هريرة t : " مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ"(3)
وفي الصحيحين عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله e: " يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ، رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي ؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ" (1)
- وقوله في حديث البراء t : " بَشَطَنَيْنِ " جمع شطن بفتح المعجمة وهو الحبل .
- وقوله " تِلْك السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ لِلْقُرْآنِ " هكذا جاء في حديث البراء t، وفي حديث أبي سعيد t : " تلك الملائكة كانت تستمع لك "
قال ابن بطال: " فمرة أخبر e عن نزول السكينة، ومرة أخرى عن نزول الملائكة فدل على أن السكينة كانت في تلك الظلة, وأنها تنزل أبداً مع الملائكة - والله أعلم - ، ولذلك ترجم البخاري " باب نزول السكينة والملائكة عند القراءة " " (2)
وقد تعددت أقوال العلماء في تفسير السكينة فقيل: " مأخوذة من السكون وهو الوقار والطمأنينة، وعن وهب بن منبه: "هي روح من الله " ، وعن الضحاك بن مزاحم: " هي الرحمة " ، وعنه: " هي سكون القلب" (3)
وفي حديث البراء t أبهم اسم الرجل فقيل: هو أُسيد بن حضير t كما في حديث أبي سعيد الخدري t، لكن جاء في حديث أُسيد بن حضير t عند البخاري من حديثه نفسه أنه كان يقرأ سورة البقرة وهنا في حديث البراء أنه كان يقرأ سورة الكهف قال الحافظ: " وهذا ظاهره التعدد" (1)
- وقوله " بَيْنَمَا هُوَ لَيْلَةً يَقْرَأُ فِي مِرْبدِهِ ": هو المكان الذي يجمع فيه التمر ليجف .
- قوله: " إِذْ جَالَتْ فَرَسُهُ " : اضطربت
- قوله: " فَخَشِيتُ أَنْ تَطَأَ يَحْيَى " يعني ابنه .
- وقوله: " فَرَأَيْتُ مِثْلَ الظُّلَّةِ ، فِيها أَمْثَالُ السُّرُجِ، عَرَجَتْ فِي الجوَّ حَتَّى مَا أَرَاهَا " الظلة: السحابة فوق الرأس مأخوذة من الظل، والجو: ما بين السماء والأرض، والسُّرُّج: جمع سراج شبَّه الأنوار التي رأى في السحابة بها . (2)
- وقوله: " اقْرأ ابْنَ حُضَيْرٍ.... " أي كان ينبغي أن تستمر على قراءتك، وليس أمراً له بالقراءة في حال مخاطبته، ولذا أجاب أسيد بقوله:" خَشِيتُ أَنْ تَطَأَ يَحْيَى " (3)
- وقوله: " تِلْكَ المَلائِكَةُ كَانَتْ تَسْتَمِعُ لَكَ "، وفي حديث أسيد عند البخاري:" تلك الملائكة دنت لصوتك " وفي رواية ابن كعب: " وكان أسيد حسن الصوت " وفي رواية ابن أبي ليلى: " أما إنك لو مضيت لرأيت الأعاجيب " (1)
ومن خلال ما سبق يتبين أن استماع الملائكة لقراءة أُسيد بن حضير كان استطابة لقراءته لحسن صوته، وحضور قلبه وخشوعه وإخلاصه، ولذا فإن ما حصل لأسيد يعتبر من مناقبه وفضائله t ويؤخذ من الحديث أن التشاغل بشيء من أمور الدنيا ولو كان من المباح يفوت الخير الكثير فكيف لو كان بغير الأمر المباح . (2)


 

الترغيب بتعلمه وتعليمه
عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍt قَالَ : خَرَجَ إلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ e وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ فَقَالَ : أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إلَى بَطْحَانَ أَوْ الْعَقِيقِ فَيَأْتِيَ مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ فِي غَيْرِ إثْمٍ وَلَا قَطِيعَةِ رَحِمٍ ؟, قُلْنَا , بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ , كُلُّنَا نُحِبُّ ذَلِكَ , قَالَ : أَفَلَا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إلَى الْمَسْجِدِ فَيَعْلَمُ أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلَاثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنْ الْإِبِلِ"
أخرجه مسلم ح (803)
شرح الحديث
في هذا الحديث يرغب النبي e أصحابه بتعلم كتاب الله والإقبال عليه، ويهيأ أذهانهم ويشوقها لهذا الترغيب ويستثير هممهم بطرح هذا السؤال : " أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إلَى بَطْحَانَ أَوْ الْعَقِيقِ " ( وهما واديان من أودية المدينة ) فَيَأْتِيَ مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ فِي غَيْرِ إثْمٍ وَلَا قَطِيعَةِ رَحِمٍ؟ "
والكوماوان: تثنية كوماء وهي الناقة العظيمة السَّنام كأنه كوم وفي حديث أبي هريرة t: " ثلاث خلفات سمان ... " (1) وخص النبي e الإبل لأنها أنفس الأموال عند العرب، ويجيب الصحابة النبي e بقولهم:" نحب ذلك " ثم يبين لهم النبي e ما هو خير لهم من ذلك فيقول: " أَفَلَا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إلَى الْمَسْجِدِ فَيَعْلَمُ أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلَاثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنْ الْإِبِلِ "
والنبي e قرب إلى أذهان الصحابة فضل تعلم كتاب الله، وما يترتب على ذلك من الثواب بذكر الإبل، وإلا فإن أقل جزء من ثواب القرآن وتعليمه خير من الدنيا وما فيها .
وكان ابن مسعود t يمر بالآية فيقول للرجل: " خذها فوالله لهي خير مما على الأرض من شيء"(1)
إن تعلم كتاب الله وتلاوته من أعظم القربات وأجل الطاعات وأفضل العبادات، وقد أثنى الله سبحانه على التالين لكتابه ، العاملين به فقال سبحانه: ] إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ + لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ { (2)
قال قتادة: كان مطرف - رحمه الله - إذا قرأ هذه الآية يقول: هذه آية القراء . (3).
وقد تلقى الرعيل الأول هذا التوجيه النبوي بالامتثال، وحسن الاستجابة، فأقبلوا على تعلم القرآن وتدارسه .
يقول أنس t وهو يصف طائفة من الصحابة يقال لهم القراء: جَاءَ نَاسٌ إِلَى النَّبِيِّ e فَقَالُوا أَنْ ابْعَثْ مَعَنَا رِجَالًا يُعَلِّمُونَا الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُمْ الْقُرَّاءُ فِيهِمْ خَالِي حَرَامٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَتَدَارَسُونَ بِاللَّيْلِ يَتَعَلَّمُونَ، وَكَانُوا بِالنَّهَارِ يَجِيئُونَ بِالْمَاءِ فَيَضَعُونَهُ فِي الْمَسْجِدِ وَيَحْتَطِبُونَ فَيَبِيعُونَهُ وَيَشْتَرُونَ بِهِ الطَّعَامَ " (1)
وتعلم الصحابة y القرآن وتفقهوا فيه وفق منهج قويم، ومسلك رشيد، يقول أبو عبد الرحمن السلمي: " حدثنا من كان يقرئنا من أصحاب رسول الله e أنهم كانوا يقترئون من رسول الله e عشر آيات، ولا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العمل والعلم فانا علمنا العمل والعلم . " (2)
وعن أبي العالية قال: " تعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات، فإن رسول الله e كان يأخذه خمساً خمساً." (3)
وعن أبي عبد الرحمن السلمي عن عبد الله بن مسعود t قال: " كنا إذا تعلمنا من النبي e عشر آيات لم نتعلم من العشر التي نزلت بعدها حتى نعلم ما فيه " (1)
فهذا المنهج النبوي في تعليم القرآن يرتكز على أمرين:
1- التدرج في تعلم كتاب الله وذلك بأخذ خمس آيات أو عشر آيات - على اختلاف الرواية -، فيكون أخذ القرآن شيئاً فشيئاً. عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال : " لقد عشنا برهةً من دهرنا، وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد e، فيتعلم حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها، وما ينبغي أن يقف عنده منها، ثم لقد رأيت رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته، لا يدري ما آمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه، فينثره نثر الدقل " (2)
2- العمل بما تضمنته الآيات فحصلوا على العلم والعمل وهذا النهج أشار إليه الله سبحانه وتعالى حيث أخبر عن الحكمة في نزول القرآن مفرقاً ومنجماً فقال سبحانه: ] وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً [(1) وقال:] وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً [ (2)
وكان اتباع هذا المنهج له أثر عظيم في فهم الصحابة y لكتاب الله وإدراك معانيه وأسراره، وبرز فيهم علماء في تفسير كتاب الله عز وجل أمثال: الخلفاء الراشدين وابن مسعود وأبي الدرداء وعائشة وابن عباس وغيرهم .
عن أبي الطفيل عامر بن واثلة الليثي t قال: " شهدت علياً يخطب وهو يقول: سلوني ، فوالله لا تسألوني عن شيء يكون إلى يوم القيامة إلا حدثتكم به، وسلوني عن كتاب الله، فوالله ما منه آية إلا وأنا أعلم بليل نزلت أم بنهار ، أم بسهل نزلت أم بجبل " (3)
ويقول ابن مسعود t: " وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، مَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ سُورَةٌ إِلَّا أَنَا أَعْلَمُ حَيْثُ نَزَلَتْ، وَمَا مِنْ آيَةٍ إِلَّا أَنَا أَعْلَمُ فِيمَا أُنْزِلَتْ، وَلَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا هُوَ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي، تَبْلُغُهُ الْإِبِلُ لَرَكِبْتُ إِلَيْهِ " (4)
وقال أبو الدرداء t: " لو أعيتني آية من كتاب الله عز وجل فلم أجد أحداًً يفتحها علي إلا رجلاً ببرْك الغماد لرحلت إليه "، قال: وهو أقصى حَجَر باليمن (1)
وعن أبي وائل شقيق بن سلمة t قال: " خطبنا ابن عباس وهو على الموسم، فافتتح سورة البقرة، فجعل يقرأ ويفسر، فجعلت أقول: ما رأيت ولا سمعت كلام رجل مثله، لو سمعته فارس والروم لأسلمت " (2)
وعن عروة بن الزبير t قال: " لقد صحبت عائشة فما رأيت أحداً قط كان أعلم بآية أنزلت ولا بفريضة ولا بسنة ولا بشعر ولا أروى له ولا بيوم من أيام العرب ولا بنسب ولا بقضاء ولا بطب منها .... " (3)
قال مسروق: " ما نسأل أصحاب محمد عن شيء إلا وعلمه في القرآن ولكن علمنا قصر عنه"(4)
وقال شيخ الإسلام: " وللصحابة فهم في القرآن يخفى على أكثر المتأخرين ... وقد قال الإمام أحمد: إنه ما من مسألة إلا وقد تكلم فيها الصحابة أو في نظيرها فإنه لما فتحت البلاد وانتشر الإسلام حدثت جميع أجناس الأعمال ، فتكلموا فيها بالكتاب والسنة...... " (1)
وحين نتأمل بعض المواقف والمناسبات فإنه يتجلى عمق علمهم بكتاب الله ووقوفهم عند آياته .
- ففي حديث أبي هريرة t قال: لما أنزلت ]مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ[(2)، بلغت من المسلمين مبلغاً شديداً ، فقال رسول الله e: " قَارِبُوا وَسَدِّدُوا، فَفِي كُلِّ مَا يُصَابُ بِهِ الْمُسْلِمُ كَفَّارَةٌ حَتَّى النَّكْبَةِ يُنْكَبُهَا، أَوْ الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا " (3)
- وفي حديث ابن مسعود t: " قال لما نزلت ] الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ[ (4) شق ذلك على أصحاب رسول الله e وقالوا: أينا لم يظلم نفسه ؟ فقال رسول الله e : " ليس هو كما تظنون، إنما هو كما قال لقمان لابنه: ] يا بني لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [(5)"(6)
- وفي حديث أبي هريرة t قال: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ e ] لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ.. [(1) الآية، قَالَ: فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ e ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ e ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ، فَقَالُوا: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ كُلِّفْنَا مِنْ الْأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْجِهَادَ وَالصَّدَقَة،َ وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الْآيَةُ، وَلَا نُطِيقُهَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e: " أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ بَلْ قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ "، فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ ذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي إِثْرِهَا: ] آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ..[(2) الآية."(3)
فهذه أمثلة يسيرة تدل على ما كان عليه الصحابة y من وقوفهم عند آيات القرآن، وعمق فهمه، وقراءتهم القرآن للعمل، وذلك أنهم عندما رأوا أن هذه الآيات لا يستطيعون أن يعملوا بها ولا يطيقون الاضطلاع بما دلت عليه رجعوا للنبي e فأزال ما أشكل عليهم وجاء التخفيف من الله لما شق عليهم ، وكان أصحاب رسول الله e يعرفون مواطن الشدة في القرآن والتي فيها امتحان لصدقهم وتقواهم وإخلاصهم.
قال أبو موسى الشعري t : " كُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً كُنَّا نُشَبِّهُهَا فِي الطُّولِ وَالشِّدَّةِ بِبَرَاءَةَ " (1)
وقال حذيفة t : يقولون سورة التوبة وهي سورة العذاب يعني براءة.(2)
وتذوق الصحابة y حلاوة القرآن، وتلذذوا بآياته، وانتفعوا بهداياته:
- ففي حديث ابن عباس أن رسول الله e كَانَ مِمَّا يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: " مَنْ رَأَى مِنْكُمْ رُؤْيَا فَلْيَقُصَّهَا عَلَيَّ فَأَعْبُرَهَا لَهُ " ، قَالَ فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَرَى اللَّيْلَةَ فِي الْمَنَامِ ظُلَّةً تَنْطِفُ السَّمْنَ وَالْعَسَلَ فَأَرَى النَّاسَ يَتَكَفَّفُونَ مِنْهَا بِأَيْدِيهِمْ فَالْمُسْتَكْثِرُ وَالْمُسْتَقِلُّ، وَأَرَى سَبَبًا وَاصِلًا مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ فَأَرَاكَ أَخَذْتَ بِهِ فَعَلَوْتَ، ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ مِنْ بَعْدِكَ فَعَلَا، ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَعَلَا، ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَانْقَطَعَ بِهِ ثُمَّ وُصِلَ لَهُ فَعَلَا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَاللَّهِ لَتَدَعَنِّي فَلَأَعْبُرَنَّهَا ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : اعْبُرْهَا ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمَّا الظُّلَّةُ فَظُلَّةُ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا الَّذِي يَنْطِفُ مِنْ السَّمْنِ وَالْعَسَلِ فَالْقُرْآنُ حَلَاوَتُهُ وَلِينُهُ، وَأَمَّا مَا يَتَكَفَّفُ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ فَالْمُسْتَكْثِرُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْمُسْتَقِلُّ .... " الحديث (3)

 

فتأمل تعبير أبي بكر t للظلة التي تنطف السمن والعسل ... بالقرآن حلاوته ولينه وهذا فيه تعبير صادق لتأثير القرآن في قلوبهم وتذوقهم لحلاوته ، وتفاوت مراتبهم في ذلك .
- وكان ابن مسعود t يقول: " إذا وقعت في آل حم وقعت في روضات دمثات أتأنق فيهن " (1)
لقد ألفوا كتاب الله عز وجل فكان ربيع قلوبهم، وشفاء صدورهم وجلاء أحزانهم وهمومهم، وهداهم الله به سبل السلام، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، فحيوا به ومعه، وتخلقوا بأخلاقه وتأدبوا بآدابه، وقد توالت توجيهاتهم وإرشاداتهم للأمة بالتمسك به والإقبال على تعلمه وتعليمه وتلاوته والعمل به، ولعل من المناسب أن أورد شيئاً من المأثور عنهم:
- كتب عمر t كتاباً جاء فيه: " وتعلموا كتاب الله فإنه ينابيع العلم، وربيع القلب. " (2)
- وخطب أبو بكر t خطبة وكان مما قال: " وهذا كتاب الله فيكم لا تفنى عجائبه، ولا يطفأ نوره، فصدقوا قوله، وانتصحوا كتابه، واستبصروا فيه ليوم الظلمة ... " (3)
- وقال عبد الله بن مسعود t:" إنما هذه القلوب أوعية، فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بغيره." (1)
- وقال أبو أمامة: " اقرأوا القرآن، فإن الله لا يعذب قلباً وعى القرآن."(2)
- وكان حذيفة t يدخل المسجد فيقف على الحلق فيقول: " يا معشر القراء اسلكوا الطريق فلئن سلكتموه لقد سبقتم سبقاً بعيداً، ولئن أخذتم يميناً وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيداً. " (3)
- وقال أبو موسى t: " إن هذا القرآن كائن لكم أجراً، وكائن لكم ذكراً، وكائن لكم وزراً، فاتبعوا القرآن ولا يتبعكم فإنه من يتبع القرآن يهبط به على رياض الجنة، ومن يتبعه القرآن يزخ في قفاه فيقذفه في جهنم " (4)
- وقال عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -: " من قرأ القرآن فكأنما استدرجت النبوة بين جنبيه إلا أنه لا يوحى إليه . " (5)
- وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: " من قرأ القرآن واتبع ما فيه هداه الله من الضلالة، ووقاه يوم القيامة سوء الحساب، وذلك بأن الله يقول: ] فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [ (1) " (2)
- وقال ابن مسعود t: " من أراد العلم فليقرأ القرآن فإن فيه علم الأولين والأخرين " (3)
- وقال أُبيّ t: " كتاب الله ما استبان منه فاعمل به، وما اشتبه عليك فآمن به وكله إلى عالمه"(4)
- وقال خباب بن الأرت t: " إن استطعت أن تقرب إلى الله فإنك لا تقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه. " (5)
- وعن أبي قلابة: أن ناساً من أهل الكوفة أتوا أبا الدرداء t فقالوا: إن إخواناً من أهل الكوفة يقرؤنك السلام ويأمرونك أن توصيهم قال: فأقرؤهم السلام ومروهم فليعطوا القرآن بخزائمهم فإنه يحملهم على القصد والسهولة ويجنبهم الجور والحزونة . " (6)
- وعن عامر بن مطر قال: كنت مع حذيفة t فقال: " كيف أنت يا عامر بن مطر إذا أخذ الناس طريقاً، والقرآن طريقاً مع أيهما تكون ؟ فقلت: مع القرآن أحيا معه وأموت، قال: فأنت إذاً . (1)
- وقال رجل لابن مسعود t: علمني كلمات جوامع نوافع . قال: " تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتزول مع القرآن حيث زال . " (2)
- وقال سلمان لزيد بن صوحان: " كيف أنت إذا اقتتل القرآن والسلطان ؟ قال: إذاً أكون مع القرآن، قال: نعم الزيد إذا أنت " (3)
- وعن الأعمش قال: مر أعرابي بعبد الله بن مسعود وهو يُقريء قوماً القرآن أو قال: وعنده قوم يتعلمون القرآن، فقال: " ما يصنع هؤلاء؟ فقال ابن مسعود: يقتسمون ميراث محمد e. " (4)
- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: " عليكم بالقرآن فتعلموه وعلموه أبنائكم فإنكم عنه تسألون، وبه تجزون، وكفى به واعظاً لمن عقل . " (5)
- وجاء رجل إلى عبد الله بن مسعود t فقال: أوصني فقال: " إذا سمعت الله تبارك وتعالى يقول: ] يا أيها الذين آمنوا [ فأَرْعها سمعك، فإنه خير يَأمر به أو شر يَنهى عنه . " (1)
- وعن ابن مسعود قال: " إذا أردتم العلم فأثيروا القرآن، فإن فيه خبر الأولين والأخريين.."(2)
- وعن ابن عمرو - رضي الله عنهما - قال: من جمع القرآن فقد حمل أمراً عظيماً، وقد استدرج النبوة بين جنبيه إلا أنه لا يوحى إليه، ولا ينبغي لصاحب القرآن أن يجهل فيمن يجهل، وفي جوفه كلام الله عز وجل . " (3)
- وعن ابن مسعود t: " إن هذا القرآن مأدوبة الله فخذوا منه ما استطعتم فإني لا أعلم شيئاً أصغر من بيت ليس فيه من كتاب الله شيء، وإن القلب الذي ليس فيه من كتاب الله شيء خرب كخراب البيت الذي لا ساكن له . " (4)
- وعن أبي هريرة t: " أنه كان يقول: إن البيت ليتسع على أهله، وتحضره الملائكة، وتهجره الشياطين، ويكثر خيره أن يقرأ فيه القرآن، وإن البيت ليضيق على أهله وتهجره الملائكة وتحضره الشياطين ويقل خيره أن لا يقرأ فيه القرآن . " (1)
فهذه الآثار المباركة نطقت بها ألسنة صادقة، وفاضت من قلوب واعية مخلصة أيدها الله سبحانه بروح منه، وتفضل عليها بتدبر وحيه المبارك، وكتابه الهادي إلى الصراط المستقيم، ومحضوا النصيحة للأمة فتوالت هذه التوجيهات والإرشادات للتمسك به والإقبال على تعلمه وتعليمه، فحري بالمسلم أن يحسن تدبرها ويستنير بها .

 


القرآن ذكر الأمة وعزها وشرفها

عَنْ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدَ الحارِثِ لَقَي عُمَرَ بِِعُسْفَانَ، وَكَانَ عُمَرَ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى مَكَّةَ فَقَالَ: مَنْ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى الْوَادِي ؟ فَقَالَ: ابْنَ أَبْزَى قَالَ: وَمَنْ ابْنُ أَبْزَى ؟ قَالَ: مَوْلًى مِنْ مَوَالِينَا قَالَ : اسْتَخْلَفْت عَلَيْهِمْ مَوْلًى ؟ , قَالَ إنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وعَالِمٌ بِالفَرَائِضِ َقَالَ عُمَرُ: أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ e قَالَ: إنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ "
أخرجه مسلم ح (817)
شرح الحديث
في هذا الحديث يخبر النبي e أن الله سبحانه يرفع بهذا الكتاب أي: يُشرِّف ويكرم في الدنيا والآخرة بهذا الكتاب وهو القرآن من أقبل على تعلمه وتعليمه والعمل به، ويضع: أي يحط ويصغر شأن من أعرض عنه وهجره، ومصداق ما جاء في هذا الحديث قول الله سبحانه:] يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ.... [ (1) ، وقال سبحانه عن القرآن: ] بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [ (2)
فأخبر سبحانه بالرفعة وعلو المنزلة لأهل العلم، ووصف الله تبارك وتعالى الذين حفظوا هذا القرآن وتدبروه وعملوا به بالعلم على سبيل المدح لهم والثناء عليهم، وإعلاء شأنهم .
وقال سبحانه في حق من أعرض عن ذكره: ] وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [ (1)
وجاء في حديث أبي موسى t أن النبي e قال: " إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِيَ اللَّهُ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ، فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا مِنْهَا، وَسَقَوْا وَرَعَوْا، وَأَصَابَ طَائِفَةً مِنْهَا أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً فَذَلِكَ، مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَنَفَعَهُ بِمَا بَعَثَنِيَ اللَّهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ " (2)
فضرب النبيe لما جاء به من الكتاب والحكمة مثلاً بالغيث العام الذي يأتي الناس في حال حاجتهم إليه، وكذا كان حال الناس قبل مبعثه e، فكما أن الغيث يحيي البلد الميت فكذا علوم الدين تحيي القلب الميت، ثم شبه السامعين له بالأرض المختلفة التي ينزل بها الغيث، فمنهم العالم العامل المعلم، فهو بمنزلة الأرض الطيبة شربت فانتفعت في نفسها، وأنبتت فنفعت غيرها، ومنهم الجامع للعلم المستغرق لزمانه فيه غير أنه لم يعمل بنوافله أو لم يتفقه فيما جمع، لكنه أدَّاه لغيره، فهو بمنزلة الأرض التي يستقر فيها الماء فينتفع الناس بذلك الماء، وهذا المشار إليه بقوله: " نَضَّرَ اللهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتي فأَدَّاهَا كَما سَمِعَهَا " (1) ، ومنهم من يسمع العلم فلا يحفظه ولا يعمل به ولا ينقله لغيره فهو بمنزلة الأرض السبخة أو الملساء التي لا تقبل الماء أو تفسده على غيرها، وإنما جمع في المثل بين الطائفتين الأوليين المحمودتين لاشتراكهما في الانتفاع بهما، وأفرد الطائفة الثالثة المذمومة لعدم النفع بها والله أعلم . (2)
وأخبر الله سبحانه عن عظيم امتنانه وسابغ نعمته على هذه الأمة الأمية حيث أنزل عليها هذا الكتاب المجيد فقال سبحانه: ] لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ [ (1) ، وقال عز وجل:] فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ + وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ [ (2)
فبين سبحانه أن هذا الكتاب هو رفعة لهذه الأمة، وشرف لها فهو بلغتهم ولسانهم وهو المعجزة الخالدة، والآية الباقية على مر الدهور، وتوالي القرون، رفع الله به ذكر العرب ومنزلتهم ومكانتهم حين تمسكوا به فقادوا به البشرية قروناً طويلة . فسعدوا وسعدت معهم تلك الشعوب بهداياته وتشريعاته وأحكامه، فلما تأخر العرب عن حمله وتبليغه للناس وتخلوا عن أحكامه وتشريعاته، وأعرضوا عن دعوته للأخذ بأسباب القوة والتمكين انحط قدرهم وضعفت مكانتهم وصاروا في ذيل القافلة، وصدق النبي e حيث يقول في هذا الحديث: " إنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ "
لقد رفع الله ذكر من تمسك بهذا الكتاب واتبع ما جاء فيه، فهذا نبي هذه الأمة e الذي كان خلقه القرآن حقق الله له الرفعة التي وعد بها في قوله: ] وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [ (1) فمئات الملايين من الشفاه تصلي وتسلم عليه منذ قرابة ألف وأربع مائة عام وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وتذكره ذكر المحب المشتاق آناء الليل وأطراف النهار، وفئام من المؤمنين على مر الدهور والأعصار تتمنى رؤيته ومشاهدته ولو كلفها الأهل والأموال وهم جديرون بقول النبي e: " مِنْ أَشَدِّ أُمَّتِي لِي حُبًّا نَاسٌ يَكُونُونَ بَعْدِي يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ " (2)
وقال عليه الصلاة والسلام مخاطباً أصحابه: " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ فِي يَدِهِ لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أَحَدِكُمْ يَوْمٌ وَلَا يَرَانِي ثُمَّ لَأَنْ يَرَانِي أَحَبُّ إِلَيْهِ مَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ مَعَهُمْ " (3)
وحقق الله الرفعة والمنزلة لأصحاب النبي e فجعل لهم لسان صدق في الآخرين ومكنهم في الأرض واستخلفهم فيها كما وعد سبحانه في قوله: ] وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً..... [ (1)
ووعد الله لا يتخلف فكل من أقبل على كتاب الله وتمسك به فإن الله يرفعه في الدنيا والآخرة
قال الشافعي: " من قرأ القرآن عظمت قيمته، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن تفقه نبل قدره، ومن تعلم العربية رق طبعه، ومن تعلم الحساب جزل رأيه، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه " (2)
وقد كان النبيe يخص قراء القرآن وحملته بالتوقير والاجلال:
- ففي حديث أبي مسعود عن النبيe قال: " يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ .... " (3)
- وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن سالماً كان يؤم المهاجرين والأنصار في مسجد قباء ، وفيهم عمر وأبو سلمة y" (4)
- وفي حديث جابر أن رسول الله e كان يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يَقُولُ: " أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ ؟ " ، فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ .... " (5)
قال الحافظ: " وفيه فضيلة ظاهرة لقارئ القرآن، ويلحق به أهل الفقه والزهد وسائر وجوه الفضل " (1)
وفي صحيح مسلم أن أبا موسى الأشعري t بَعَثَ إِلَى قُرَّاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ ثَلَاثُ مِائَةِ رَجُلٍ قَدْ قَرَءُوا الْقُرْآنَ، فَقَالَ: أَنْتُمْ خِيَارُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَقُرَّاؤُهُمْ فَاتْلُوهُ وَلَا يَطُولَنَّ عَلَيْكُمْ الْأَمَدُ فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ كَمَا قَسَتْ قُلُوبُ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَإِنَّا كُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً كُنَّا نُشَبِّهُهَا فِي الطُّولِ وَالشِّدَّةِ بِبَرَاءَةَ فَأُنْسِيتُهَا غَيْرَ أَنِّي قَدْ حَفِظْتُ مِنْهَا: لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى وَادِيًا ثَالِثًا، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَكُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً كُنَّا نُشَبِّهُهَا بِإِحْدَى الْمُسَبِّحَاتِ فَأُنْسِيتُهَا غَيْرَ أَنِّي حَفِظْتُ مِنْهَا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ فَتُكْتَبُ شَهَادَةً فِي أَعْنَاقِكُمْ فَتُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ " (2)
وكان النبي e وهو يودع الأمة إلى الرفيق الأعلى يذكرها بهذا القرآن ويوصيها .
فعن طلحة بن مصرف قال: " سألت ابن أبي أوفى t هَلْ أَوْصَى رَسُولُ اللَّهِ e ؟ فَقَالَ لَا، قُلْتُ: فَلِمَ كُتِبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْوَصِيَّةُ، أَوْ فَلِمَ أُمِرُوا بِالْوَصِيَّةِ ؟، قَالَ: أَوْصَى بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وفي رواية: قُلْتُ: كَيْفَ كُتِبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْوَصِيَّةُ؟ " (3)
وترجم عليه البخاري بقوله: " باب الوصاة بكتاب الله عز وجل " (1)
قال الحافظ: " والمراد بالوصية بكتاب الله حفظه حساً ومعنى، فيكرم ويصان .... ويتبع ما فيه فيعمل بأوامره ويجتنب نواهيه ويداوم تلاوته وتعلمه وتعليمه ونحو ذلك . (2)
وعن زيد بن أرقم t قال: قَامَ رَسُولُ اللهِ e يَوْمًا فِينَا خَطِيبًا بِمَاءٍ يُدْعَى خُمًّا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَوَعَظَ وَذَكَّرَ، ثُمَّ قَالَ: " أَمَّا بَعْدُ أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ، وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ: أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ، فَخُذُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ " فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَرَغَّبَ فِيهِ ثُمَّ قَالَ: " وَأَهْلُ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي ..."، وفي رواية: " كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ حَبْلُ اللَّهِ مَنْ اتَّبَعَهُ كَانَ عَلَى الْهُدَى وَمَنْ تَرَكَهُ كَانَ عَلَى ضَلَالَةٍ...." (3)
قال أبو العباس ثعلب: " سماهما رسول الله e ثقلين لأن الأخذ بهما والعمل بهما ثقيل، والعرب تقول لكل شيء نفيس: ثقيل " (4)
قال القرطبي: " فكأنه e إنما سمى كتاب الله وأهل بيته: ثقلين لنفاستهما وعظم حرمتهما وصعوبة القيام بحقهما " (1)
وحث النبي e على بذل النصيحة لكتاب الله ففي حديث تميم الداري t أن النبيe قال: " الدِّينُ النَّصِيحَةُ "، قُلْنَا: لِمَنْ ؟ قَالَ: " لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ " (2) والنصيحة لكتاب الله تشمل: الإيمان به وتعظيمه وتنزيهه, وتلاوته حق تلاوته، والوقوف مع أوامره ونواهيه، وتفهم علومه وأمثاله، وتدبر آياته، والدعاء إليه، وذب تحريف الغالين وطعن الملحدين عنه . (3)


 
الأمر بقراءة القرآن ما ائتلفت عليه القلوب
عن جندب بن عبد اللهt عن النبي e قال: " اقْرَؤُا القُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ قُلُوبُكُم ، فِإذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا عنه "
أخرجه البخاري ح ( 5060) ، ومسلم ح ( 2667)
شرح الحديث
أرشد النبي e أمته في هذا الحديث إلى تلاوة كتاب الله وتدارسه إذا كانت القلوب مجتمعة مؤتلفة على تلاوته ، متفكرة متدبرة لمعانيه واستخراج أحكامه فإذا أفضى الأمر إلى الوقوع في الاختلاف والتنازع فأمر النبيe بالقيام والتفرق.
قال القرطبي: " مقصود هذا الحديث الأمر بالاستمرار في قراءة القرآن وفي تدبره، والزجر عن كل شيء يقطع عن ذلك، والخلاف فيه في حالة القراءة قاطع عن ذلك في أي شيء كان من حروفه أو معانيه، والقلب إذا وقع فيه شيء لا يمكن رده على الفور، فأمرهم بالقيام إلى أن تزول تشويشات القلب ويستفاد هذا من قوله: " اقْرَؤُا القُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ قُلُوبُكُم "، فإن القراءة باللسان والتدبر بالقلب، فأمر باستدامة القراءة مدة دوام تدبر القلب، فإذا وقع الخلاف في تلك الحال انصرف اللسان عن القراءة، والقلب عن التدبر .... " (1)
والاختلاف المأمور بالقيام عند وجوده يندرج تحته صور عديدة يحتملها هذا الحديث منها:
1- الاختلاف الذي يؤدي إلى التشاجر والشحناء والمراء والجدل المذموم، فيحصل نقيض ما دعا إليه القرآن من الاعتصام والائتلاف ونبذ التفرق والاختلاف واتباع الهوى .
عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال : هَجَّرْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ e يوماً قَالَ: فَسَمِعَ أَصْوَاتَ رَجُلَيْنِ اخْتَلَفَا فِي آيَةٍ، فَخَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ e ، يُعْرَفُ فِي وَجْهِهِ الْغَضَبُ فَقَالَ: " إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِاخْتِلَافِهِمْ فِي الْكِتَابِ " (1)
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: " لا تضربوا القرآن بعضه ببعض ، فإن ذلك يوقع الشك في القلوب " (2)
وعن إبراهيم التيمي قال: " خلا عمر ذات يوم فجعل يحدث نفسه: كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد وقبلتها واحدة ؟ فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين إنا أنزل علينا القرآن، فقرأناه وعلمنا فيما نزل، وإنه سيكون بعدنا أقوام يقرؤون القرآن ولا يدرون فيما نزل، فيكون لهم فيه رأي، فإذا كان لهم فيه رأي اختلفوا، فإذا اختلفوا اقتتلوا، قال: فزبره عمر وانتهره، فانصرف ابن عباس، ونظر عمر فيما قال فعرفه، فأرسل إليه فقال: أعد عليّ ما قلت فأعاد عليه فعرف عمر قوله وأعجبه " (1)
ويؤخذ من كلام ابن عباس - رضي الله عنهما- أن من أسباب الاختلاف في القرآن الجهل بمعانيه وفيما أُنزل، ويترتب على هذا تنزيل الآيات على غير محلها وفهمها على غير وجهها، وتأويلها على غير المراد منها كما حصل للخوارج حيث قال فيهم ابن عمر - رضي الله عنهما -: " إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين " (2)
وورد عن عمر t أنه حين كُتب له من العراق أن رجالاً قد جمعوا كتاب الله تعالى، فكتب إليهم: أن يفرض لهم في الديوان، فكثر من يطلب القرآن، فكُتب إليه بعد عام أنه قد جمع القرآن سبعمائة رجل، فقال عمر: إني أخشى أن يسرعوا في القرآن قبل أن يتفقهوا في الدين، فكتب ألا يعطيهم شيئاً، قال مالك: معناه: مخافة أن يتأولوه غير تأويله(3)
وقال ابن قتيبة - رحمه الله -: " إن القرآن نزل بألفاظ العرب ومعانيها، ومذاهبها في الإيجاز والاختصار، والإطالة للتوكيد، والإشارة إلي الشيء، وإغماض بعض المعاني، حتى لا يظهر عليه إلا اللقن، وإظهار بعضها وضرب الأمثال لما خفي، ولو كان القرآن كله ظاهراً مكشوفاً حتى يستوي في معرفته العالم والجاهل لبطل التفاضل بين الناس وسقطت المحنة وماتت الخواطر." (1)
2- الاختلاف في معان لا يسوغ فيها الاجتهاد مثل الخوض في متشابه القرآن .
فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: تلا رسول الله e: ] هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ [ (2) ، قالت: قال رسول الله e : " إِذَا رَأَيْتُمْ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ " (3)
وقال أُبي t: " كتاب الله ما استبان منه فاعمل به، وما اشتبه عليك فآمن به وكله إلى عالمه"(4)
3- الاختلاف في القراءة وكيفية الأداء والمنازعة في ذلك، والمراء فيه .
كما جاء في حديث ابن مسعود t أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ آيَةً سَمِعَ النَّبِيَّ e قرأ خِلَافَهَا، قال: فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ e فَقَالَ: " كِلَاكُمَا مُحْسِنٌ فَاقْرَآ " أَكْبَرُ عِلْمِي قَالَ: " فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ اخْتَلَفُوا فَأُهْلِكُوا " (1)
قال الحافظ: " وفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي " فَأُهْلِكُوا " بِضَمِّ أَوَّله, وَعِنْد اِبْن حِبَّان وَالْحَاكِم مِنْ طَرِيق زِرّ بْن حُبَيْش عَنْ اِبْن مَسْعُود فِي هَذِهِ الْقِصَّة " فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ الِاخْتِلَاف "(2)
ومن المعلوم أنه قد وسع على الأمة في أول الأمر أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف .
ففي حديث عمر t قال: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَؤُهَا وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ e أَقْرَأَنِيهَا ....... الحديث، وفيه أن رسول الله e قال: " إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ " (3)
ولما رأى حذيفة t في خلافة عثمان t أن الاختلاف في القراءة كاد أن يؤدي إلى الفتنة بين قراء الأمصار طلب من عثمان t أن يتدارك الأمر قبل أن يستفحل ويحصل الاختلاف كما وقع لأهل الكتاب ، فجمع عثمان t الناس على مصحف واحد ، كما أخرج البخاري من حديث أنس: " أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ، وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّأْمِ فِي فَتْحِ إِرْمِينِيَةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ فَقَالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمَانَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَدْرِكْ هَذِهِ الْأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الْكِتَابِ اخْتِلَافَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي الْمَصَاحِفِ ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ، فَأَرْسَلَتْ بِهَا حَفْصَةُ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، فَنَسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ، وَقَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلَاثَةِ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ ، فَفَعَلُوا حَتَّى إِذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ، وَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِمَّا نَسَخُوا، وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنْ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَنْ يُحْرَقَ ... " (1)


يتبع
الفصل الثاني: من فضائل بعض السور والآيات


 
الوسوم
منتديات. شبكة. العربية. العامة
عودة
أعلى