وصل نبأ الهزيمة إلى مكة بفلول المشركين ، فكبتهم الله وأخزاهم ، حتى نهوا عن النياحة على القتلى ، كيلا يشمت بهم المسلمون . وكان الأسود بن المطلب قتل له ثلاثة بنين . فكان يحب أن ينوح ، فسمع ليلاً صوت نائحة ، فظن الإذن ، وبعث غلامه ، فجاء وأخبر أنها تبكي بعير أضلته ، فلم يتمالك أن قال : أتبكي أن يضل لها بعير ويمنعها من النوم السهود فلا تبكي على بكر ولكن على بدر تقاصرت الجدود وذلك في أبيات ندب فيها أبناءه : أما أهل المدينة فقد أرسل أليهم رسول الله
بشيرين : عبدالله بن رواحة إلى العالية ، وزيد بن حارثة إلى السافلة . وكان اليهود قد أرجفوا في المدينة بدعيات كاذبة ، فلما وصل نبأ الفتح عمت الفرحة والسرور ، واهتزت المدينة تهليلاً وتكبيراً ، وتقدم رؤوس المسلمين إلى طريق بدر يهنئون رسول الله
إلى المدينة متوجاً بنصر الله ، ومعه الغنائم والساري ، فلما وصل قريباً من الصفراء نزل حكم الغنيمة ، فأخذ منها الخمس ، وقسمها سوياً بين الغزاة . فلما حل بالصفراء أمر بقتل النضر بن الحارث ، فضرب عنقه على بن أبي طالب . ولما حل بعرق الظبية أمر بقتل عقبة بن أبي معيط ، فقتله عاصم بن ثابت الأنصاري ، وقيل : علي بن أبي طالب . أما رؤوس المسلمين الذين خرجوا لتهنئيه فلقوه
بالروحاء ثم رافقوه يشيعونه إلى المدينة ، فدخل فيها مظفراً منصوراً قد خافه كل عدو . وأسلم بشر كثير وتظاهر عبد الله بن أبي وزملاؤه بالإسلام .
استشار في الأساري . فأشار أبو بكر بأخذ الفدية منهم ، وأشار عمر بقتلهم ، فقرر رسول الله
أخذ الفدية ، وكانت من أربعة آلاف إلى ثلاث آلاف درهم . ومن كان منهم يقرأ ويكتب فجعل فديته أن يعلم عشرة غلمان من المسلمين . وأحسن إلى بعض الأسارى فأطلقهم بغير فدية . وبعثت زينب بنت رسول الله
في فداء زوجها أبي العاص بمال فيه قلادة لها ، كانت عند خديجة فأدخلتها بها على أبي العاص ، فلما رآها رسول الله
رق لها رقة شديدة ، فاستأذن الصحابة في إطلاقه بغير فدية ، ففعلوا . فأطلقه بعد ان اشترط عليه أن يخلي سبيل زينب ، فخلاها فهاجرت إلى المدينة .
مريضة حين خرج لغزوة بدر . وكانت تحت عثمان بن عفان t فأمره أن يتخلف عليها ليمرضها ، وله أجر من حضر بدراً ونصيبه ، وخلف عليها أيضاً أسامة بن زيد ، فتوفيت قبل رجوعه
قال أسامة : أتانا الخبر – أي بشارة الفتح سوينا التراب على رقية بنت رسول الله
. ولما استقر رسول الله
بالمدينة واطمأن بها زوج عثمان بن عفان t ابنته الأخرى : أم كلثوم . فلذلك سمى عثمان t بذي النورين ، وقد بقيت معه حتى توفيت في شعبان سنة تسع من الهجرة ، ودفنت بالبقيع .
ساء المشركين ومن معهم ما أكرم الله به المسلمين من النصر والفتح ، فأخذوا يدبرون مكائد يضرون بها المسلمين ، وينتقمون منهم ، ولكن الله رد كيدهم في نحورهم وأيد المؤمنين بفضله . تحشد بنو سليم لغزو المدينة بعد أسبوع من رجوع المسلمين من غزوة بدر ، أوفي المحرم سنة 3هـ . فداهمهم المسلمون في منازلهم ، وأصابوا غنائم ، ورجعوا إلى المدينة سالمين . ثم تآمر عمير بن وهب الجمحي وصفوان بن أمية على اغتيال النبي
وجاء عمير لذلك إلى المدينة ، فألقى عليه القبض وأخبره النبي
كان كعب من أثرياء اليهود وشعرائهم ومن أشد أعداء المسلمين فكان يهجو رسول الله
وأصحابه ، ويشبب بنسائهم . ويمدح أعداءهم ويحرضهم عليهم . ونزل بعد بدر على قريش ، فأغراهم على حرب المسلمين . وأنشد لهم في ذلك أبياتاً ، وقال : وأنتم أهدى منهم سبيلاً ، ولم يعتبر بما حل ببني قينقاع . فقال رسول الله
من لكعب بن الأشراف ؟ فانتدب له محمد بن مسلمة وعباد بن بشر وأبو نائلة والحارث بن أوس وأبو عبس بن جبر . وأميرهم محمد بن مسلمة . وقد استأذن النبي
أن يقول شيئاً . ثم أتى كعباً وقال : إن هذا الرجل – إشارة إلى النبي
قد سألنا صدقة ، وإنه قد عنانا ، أي أوقعنا في المشقة والعناء . فاستبشر كعب وقال : والله لتملنه . فا ستقرضه محمد بن مسلمة طعاماً أو تمراً ، واتفق معه على أنه يرهنه السلاح . وجاءه أبو نائلة فتحاور معه بمثل حوار محمد بن مسلمة ، وقال : إن معي أصحاباً على مثل رأيي أريد أن آتيك بهم فتبيعهم وتحسن إليهم فقبل ذلك منه . وفي الليلة الرابعة عشرة من شهر ربيع الأول سنة 3هـ جاءه المذكورون ومعهم السلاح ، فنادوه فقام لينزل ، وكان في حصنه ، وكان حديث عهد بعرس ، فقالت له زوجته : أين تخرج هذه الساعة ؟ أسمع صوتاً كأنه يقطر منه الدم . فلم يبال بقولها ، ولما نزل ورأى السلاح لم يستنكر ، لما سبق بينهم وبينه من العهد . وأخذوا يمشون ليتنزهوا ، ومدح أبو نائلة رائحة عطره ، واستأذنه ليشم رأسه . فأذن له في زهو وخيلاء ، فشمه وأدخل فيه يده وأشم أصحابه ، ثم استأذنه ثانياً وفعل مثل ما فعل ، ثم ثالثاً أيضاً ، فلما استمكن من رأسه في المرة الثالثة قال : دونكم عدو الله فاختلفت عليه الأسياف دون جدوى . فوضع ابن مسلمة معولاً في ثنته ، وتحامل عليه حتى بلغ العانة ، فصاح صيحة أفزعت من حوله ، وسقط قتيلاً . وأوقدت النيران على الحصون ، لكن رجع المسلمون بسلام . وقد خمدت نار الفتنة التي طالما أقلقت المسلمين ، وكمنت أفاعي اليهود في أجحارهم لفترة من الزمان .
وفي جمادى الآخرة سنة 3هـ أرسلت قريش عيراً لهم إلى الشام عن طريق العراق ، لتخترق نجداً إلى الشام ،ولا تمر بقرب المدينة ، وكان يقودها صفوان بن أمية ، وعلم بذلك رسول الله
فأرسل زيد بن حارثة في مائة راكب ، فدهمها زيد وهي تنزل على ماء في نجد يسمى بقردة ، فاستولى على العير بكل ما فيها ، وفر رجال العير بأجمعهم ، وأسر الدليل فرات بن حيان فأسلم – وقدرت الغنيمة بمائة ألف ، وكانت أوجع ضربة تلقتها قريش بعد غزوة بدر .
بينما كانت قريش تستعد للانتقام من المسلمين بما أصيبت به في غزوة بدر إذا بهم يتلقون ضربة أخرى في القردة ، فازدادوا بها غضباً على غضب ، فأسرعوا في الاستعداد وفتحوا باب التطوع ، وحشدوا الأحابيش وخصصوا الشعراء للإغراء والتحريض ، حتى تجهز جيش قوامه ثلاثة آلاف مقاتل ، في ثلاثة آلاف بعير ومائتي فرس ، وسبعمائة درع ، ومعه عدد من النسوة للتحريض وبث روح البسالة والحماس ، وكان قائده العام أبا سفيان ، وحامل لوائه أبطال بني عبد الدار . تحرك هذا الجيش في غيظه وغضبه حتى بلغ إلى ضواحي المدينة ، وألقى رحله في ميدان فسيح على شفير وادي قناة قريباً من جبل عينين وأحد ، وذلك يوم الجمعة السادس من شهر شوال سنة 3هـ ونقل الخبر إلى رسول الله
قبل نزول الجيش بنحو أسبوع ، فشكل دوريات عسكرية تحسباً للطوارئ ، وحفظاً للمدينة ، فلما وصل الجيش استشار المسلمين حول خطة الدفاع . وكان رأيه
أن يتحصن المسلمون بالمدينة ، فيقاتل الرجال على أفواه الأزقة ، والنساء من فوق البيوت ، ووافقه رأس المنافقين عبدالله بن أبي ، وكأنه قصد الجلوس في البيت دون أن يتهم بالتخلف . ولكن تحمس الشباب ، وألحوا على المجالدة بالسيوف في مكان مكشوف ، فقبل رأيهم ، وقسم الجيش إلى ثلاث كتائب . كتيبة للمهاجرين ، وحمل لواءها مصعب بن عمير ، وأخرى للأوس ، وحمل لواءها أسيد بن حضير ، وثالثة للخزرج ، وحمل لواءها الحباب بن المنذر . واتجه بعد صلاة العصر إلى جبل أحد فلما بلغ موضع الشيخين استعرض الجيش فرد الصغار ، وأجاز رافع بن خديج على صغره ، لأنه كان ماهراً في رمي السهام . فقال سمرة بن جندب أنا أقوى منه . أنا أصرعه ، فأمرهما بالمصارعة ، فصرع سمرة رافعاً فأجازه أيضاً . وفي موضع الشيخين صلى المغرب والعشاء ، ثم بات هناك . وعين خمسين رجلاً لحراسة المعسكر ، فلما كان آخر الليل ارتحل قبل الفجر فصلاها بالشوط ، وهناك تمرد عبدالله بن أبي فرجع مع ثلاثمائة من أصحابة ، وسرى لأجل ذلك الضعف والاضطراب في بني سلمة وبني حارثة ، وكادتا ترجعان ، ولكن ثبتهما الله . وكان أولاً مجموع عدد المسلمين ألفاً فبقي سبعمائة . وتقدم رسول الله
نحو جبل أحد من طريق قصير يترك العدو في جانب الغرب ، حتى نزل بالشعب عند منفذ الوادي ، جاعلاً ظهره إلى هضاب أحد ، وبذلك صار العدو حائلاً بين المسلمين وبين المدينة . وهناك عبأ الجيش ، وعين خمسين رجلاً من الرماة على جبل عينين – وهو الذي يعرف بجبل الرماة – بقيادة عبدالله بن جبير الأنصاري ، وأمرهم أن يدفعوا الخيل ، ويحموا ظهور المسلمين . وأكد لهم أن لا يتركوا مكانهم حتى يأتي أمره ، سواء انتصر المسلمون أو انهزموا . وعبأ المشركون جيشهم ، وتقدموا إلى ساحة القتال ، تحرضهم نسوتهم ، وهن يتجولون في الصفوف ، ويضر بن بالدفوف ويثرن الأبطال ، وينشدن الأبيات : إن تقبلوا نعانق ونفرش النمارق أو تدبروا نفارق فراق غير وامق ويذكرن أصحاب اللواء بواجبهم قائلات : ويها بني عبد الدار ويها حماة الأدبار ضرباً بكل بتار
وتقارب الجيشان فطلع طلحة بن أبي طلحة العبدري حامل لواء المشركين وأشجع فرسان قريش ، ودعا إلى المبارزة وهو على بعير ، فتقدم إليه الزبير بن العوام t ووثب وثبة الليث حتى صار معه على جمله ، ثم أخذه واقتحم به الأرض ، وذبحه بسيفه ، فكبر النبي
وكبر المسلمون . ثم انفجر القتال في كل نقطة وحاول خالد بن الوليد – وهو على فرسان المشركين –ثلاث مرات ليبلغ إلى ظهور المسلمين ، ولكن رشقه الرماة بسهامهم حتى ردوه . وركز المسلمون هجومهم على حملة لواء المشركين حتى قتلوهم عن آخرهم وكانوا أحد عشر مقاتلاً ، فبقى اللواء ساقطاً ، وشدد المسلمون هجومهم على بقية النقاط حتى هدوا الصفوف هدا وحسوا المشركين حساً ، وأبلى أبو دجانة وحمزة – رضي الله عنهما – في ذلك بلاءً حسناً . وأثناء هذا التقدم والانتصار قتل حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله t قتله وحشي بن حرب ، وكان عبداً حبشياً ماهراً في قذف الحربة ، وقد وعده مولاه جبير بن مطعم بالعتق إذا قتل حمزة ، لأن حمزة هو الذي قتل عمه طعيمة بن عدي في بدر ، فاختبأ وحشي وراء صخرة يرصد حمزة ، وبينما حمزة يضرب رأس سباع بن عرفطة – رجل من المشركين – صوب وحشي إليه الحربة ، وقذفها ، وهو على غرة ، فوقعت في أحشائه ، وخرجت من بين رجليه فسقط ولم يستطع النهوض حتى قضى نحبه t ووقعت الهزيمة بالمشركين حتى لاذوا بالفرار ، وفرت النسوة المحرضات ، وتبعهم المسلمون يضعون فيهم السلاح ، ويأخذون الغنائم ، وحينئذ أخطأ الرماة ، فنزل منهم أربعون رجلاً ليصيبوا من الغنيمة ، على رغم ما كان لهم من الأمر المؤكد بالبقاء في أماكنهم . وانتهز خالد بن الوليد هذه الفرصة ، فانقض على العشرة الباقية بجبل الرماة حتى قتلهم ، واستدار هذا الجبل حتى وصل إلى ظهور المسلمين وبدأ بتطويقهم ، وصاح فرسانه صحية عرفها المشركون فانقلبوا ، ورفعت لواءها إحدى نسائهم فالتفوا حوله وثبتوا ، وبذلك وقع المسلمون بين شقي الرحى .
ولما رأى المسلمون بداية عملية التطويق تشتتوا وارتبكوا ، ولم يصلوا إلى موقف موحد . فمنهم من فر إلى الجنوب حتى بلغ المدينة المنورة ، ومنهم من فر إلى شعب أحد ولاذ بالمعسكر . ومنهم من قصد رسول الله
وأسرع إليه ، فدافع عنه كما تقدم . وبقي معظم المسلمين في دائرة التطويق ، ثابتين في أمكانهم ، يدفعون المطوقين ويقاتلونهم ، وحيث لم يكن بينهم من يقودهم بنظام فقد حصل في صفوفهم خبط وإرباك : رجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم ، حتى قتل اليمان والد حذيفة بأيدي المسلمين أنفسهم . فلما سمعوا خبر مقتل النبي
طار صواب طائفة منهم ، وخارت عزائمهم ، واستكانوا ، حتى تركوا القتال . وتشجع آخرون وقالوا : موتوا على ما مات عليه رسول الله
. وبينما هم كذلك إذ رأى كعب بن مالك رسول الله
وهو يشق الطريق إليهم ، فعرفة بعينيه ، إذ كان وجهه تحت حلق المغفر والبيضة ، فنادى كعب بصوت عال : يا معشر المسلمين !! أبشروا ، هذا رسول الله
فبدأ المسلمون يرجعون إليه ، حتى تجمع حوله ثلاثون رجلاً من أصحابه ، فشق بهم الطريق بين قريش ، ونجح في إنقاذ جيشه المطوق ، وسحبه إلى شعب الجبل . وقد حاول المشركون عرقلة هذا الانسحاب ، ولكنهم فشلوا تماماً ، وقتل منهم اثنان أثناء هذه المحاولة . وبهذه الخطة الحكيمة نجا المسلمون ، ولكن بعد دفعوا الثمن غالياً لما ارتكبه الرماة من الخطأ ومخالفة أمر رسول الله
وبعدما خرج المسلمون من دائرة التطويق ، ونجحوا في التمكن من الشعب حصل بينهم وبين المشركين بعض المناوشات الخفيفة الفردية ، ولم يجترئ المشركون على التقدم والمواجهة العامة ، وإنما بقوا في الساحة قليلاً ، مثلوا خلاله القتلى فقطعوا آذانهم وأنوفهم وفروجهم ، وبقروا بطونهم ، وبقرت هند بنت عتبه عن بطن حمزة حتى أخرجت كبده ، ولاكتها ، فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها ، واتخذت من الآذان والأنوف قلائد وخلاخيل . وجاء أبي بن خلف متغطرساً إلى الشعب يزعم أنه يقتل رسول الله
، فطعنه رسول الله
بحربة في ترقوته ، في فرجة بين الدرع والبيضة ، فتدحرج عن فرسه مراراً ، ورجع إلى قريش وهو يخور خوار الثور ، فلما بلغ سرف – قريباً من مكة – مات لأجله . ثم جاء رجال من المشركين يقودهم أبو سفيان وخالد بن الوليد ، وعلوا في بعض جوانب الجبل ، فقاتلهم عمر بن الخطاب ورهط من المهاجرين حتى أهبطوهم من الجبل ، وتفيد بعض الروايات أن سعد بن أبي وقاص t قتل ثلاثة منهم . وبلغ عدد قتلى المشركين اثنين وعشرين وقيل : سبعة وثلاثين ، أما المسلمون فقد قتل منهم سبعون : 41 من الخزرج ، و24 من الأوس ، و 4 من المهاجرين ، وواحد من اليهود ، وقيل غير ذلك وبعد المحاولة الأخيرة الفاشلة من أبي سفيان وخالد بن الوليد أخذ المشركون يستعدون للعودة إلى مكة . أما رسول الله
فإنه لما تمكن من الشعب واطمأن فيه ، جاءه علي t بماء من المهراس – ما هو ماء بأحد – ليشرب منه النبي
، فوجد له ريحاً فلم يشرب منه ، بل غسل به الوجه ، وصبه على الرأس ، فأخذ الدم ينزف من الجرح ، ولا ينقطع ، فأحرقت فاطمة –رضي الله عنها – قطعة من حصير ، وألصقته ، فاستمسك الدم ، وجاء محمد بن مسلمة بماء سائع فشرب منه ، ودعا له بخير ، وصلى الظهر قاعداً ، وصلى المسلمون معه قعوداً . وجاءت نسوة من المهاجرين والأنصار ، فيهن عائشة ، وأم أيمن ، وأم سليم ، وأم سليط ، فكن يملأن القرب بالماء ، ويسقين الجرحى ، رضي الله عنهن أجمعين .
ولما استعد المشركون للرجوع تماماً اشرف أبو سفيان على الجبل ، ونادى : أفيكم محمد؟ فلم يجيبوه ، فقال : أفيكم ابن أبي قحافة ؟ فلم يجيبوه ، فقال : أفيكم عمر بن الخطاب ؟ فلم يجيبوه ، وكان النبي
هو الذي نهاهم عن الإجابة ، فقال أبو سفيان : أما هؤلاء فقد كفيتموهم ، فلم يملك عمر نفسه أن قال : يا عدو الله ! إن الذين ذكرتهم أحياء ، وقد أبقى الله ما يسوءك . فقال ؟أبو سفيان : قد كان فيكم مثله ، لم آمر بها ولم تسؤني ، ثم قال : اعل هبل ، فعلمهم النبي
الجواب ، فأجابوه : الله أعلى وأجل . ثم قال أبو سفيان : لنا العزى ولا عزى لكم . فعلمهم النبي
الجواب فأجابوه : الله مولانا ولا مولى لكم . ثم قال أبو سفيان : أنعمت فعال ، يوم بيوم بدر ، والحرب سجال . فقال عمر t : لا سواء . قتلانا في الجنة ، وقتلاكم في النار . قال أبو سفيان : إنكم لتزعمون ذلك ، لقد خبنا إذن وخسرنا . ثم دعاه أبو سفيان وقال : أنشدك الله يا عمر ! أقتلنا محمداً ؟ قال عمر t : لا . وإنه ليستمع كلامك الآن . قال : أنت أصدق عندي من ابن قمئة ، وأبر . ثم نادى أبو سفيان : إن موعدكم بدر العام القابل . فأمر رسوا الله
رجوع المشركين وقيام المسلمين بتفقد الجرحى ودفن الشهداء :
ثم رجع أبو سفيان إلى جيشه ، وأخذ الجيش في الارتحال ، وقد ركب الإبل وجعل الخيل بالجنب ، وكان هذا دليل قصدهم لمكة ، وكان من فضل الله على المسلمين ، إذ لم يكن بين المشركين وبين المدينة من يمنعهم عن الدخول فيها ، ولكن صرفهم الله الذي يحول بين المرء وقلبه . فنزل المسلمون إلى ساحة القتال يتفقدون الجرحى والقتلى ، وقد نقل بعضهم بعض الشهداء إلى المدينة ، فأمر رسول الله
بردهم إلى مضاجعهم ، ودفنهم في ثيابهم ، بغير غسل ولا صلاة ، وقد دفن الاثنين والثلاثة في قبر واحد ، وربما جمع بين الرجلين في ثوب واحد ، وجعل بينهما الإذخر ، وقدم في اللحد من كان أكثر حفظاً للقرآن ، وقال : أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة . ووجدوا نعش حنظلة بن أبي عامر في ناحية فوق الأرض ، يقطر منه الماء ، فقال النبي
: إن الملائكة تغسله ، وكان من قصته أنه كان حديث عهد بعرس ، وكان معها إذ سمع المنادي ينادي للحرب ، فتركها ، وخرج إلى ساحة القتال ، وقاتل حتى قتل ، وهو جنب ، فغسلته الملائكة ، فسمى غسيل الملائكة . وكفن حمزة في برد إن غطى رأسه بدت رجلاه ، وإن غطى رجلاه بدا رأسه ، فجعلوا على رجليه الإذخر ، وكذلك مصعب بن عمير .
والمسلمون من دفن الشهداء ، والدعاء لهم ، رجعوا إلى المدينة ، وقد خرجت نسوة قتل أقاربهن ، فلقين رسول الله
في الطريق ، فعزاهن ودعا لهن ، وجاءت امرأة من بني دينار قتل زوجها وأخوها وأبوها ، فلما نعوا لها سألت عن رسول الله
فقالوا لها : إنه بحمد الله كما تحبين ، فقالت : أرونيه ، فأشاروا لها ، فلما رأته قالت : كل مصيبة بعدك جلل : أي صغيرة . وبات المسلمون في حالة الطوارئ ، يحرسون المدينة ، ويحرسون رسول الله
، وهم منهكون من الجرح والتعب ، والحزن والألم ، ورأى رسول الله
أنه لابد من متابعة حركات العدو حتى يناجزه في الميدان لو حاول العودة إلى المدينة .
فلما أصبح نادى في المسلمين أن يخرجوا للقاء العدو ، ولا يخرج إلا من شهد القتال بأحد ، فقالوا : سمعاً وطاعة ، وساروا حتى بلغوا حمراء الأسد على بعد ثمانية أميال من المدينة ، وعسكروا هناك . أما المشركون فكانوا نازلين بالروحاء ، على بعد ستة وثلاثين ميلاً من المدينة ، يفكرون ويتشاورون في العودة إليها ، ويأسفون على ما فاتهم من الفرصة الصالحة . وكان معبد بن أبي معبد الخزاعي من المناصحين لرسول الله
، فجاءه بحمراء الأسد ، وعزاه على ما أصابه في أحد ، فأمره رسول الله أن يلحق أبا سفيان ويخذله ، فلحقهم بالروحاء ، وقد أجمعوا ليعودوا إلى المدينة ، فخوفهم أشد التخويف ، قال : إن محمداً خرج في جمع لم أر مثله قط ، يتحرقون عليكم تحرقاً ، فيهم من الحنق عليكم شئ لم أر مثله قط ، ولا أرى أن ترتحلوا حتى يطلع أول الجيش من وراء هذه الأكمة . فلما سمعوا هذا خارت عزائمهم ، وانهارت معنوياتهم ، واكتفى أبو سفيان بحرب أعصاب دعائية ، إذ كلف من يقول للمسلمين :} إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ { ، حتى لا يطارده المسلمون ، وعجل الارتحال إلى مكة . أما المسلمون فلم يؤثر فيهم هذا الإنذار ، بل :} ... زَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الْوَكِيلُ{ وبقوا في حمراء الأسد إلى يوم الأربعاء ، ثم رجعوا إلى المدينة :} فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ الله وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ { .
كان لما أصاب المسلمين بأحد أثر سئ على سمعتهم ، إذ تجرأ الأعداء ، وكاشفوهم بالنزال ، ووقعت عدة أحداث لم يكن بعضها في صالح المسلمين ، ونكتفي هنا بذكر الأهم منها فقط .
، وذكروا له أن فيهم إسلاماً ، وطلبوا منه يبعث إليهم من يعلمهم الدين ، ويقرئهم القرآن ، فبعث عشرة من أصحابه أمر عليهم عاصم بن ثابت ، فلما كانوا بالرجيع غدروا بهم ، واستصرخوا عليهم بني لحيان من هذيل ، فلحقهم قريب من مائة رام ، وأحاطوا بهم وهم في مكان مرتفع ، فأعطوهم العهد إن نزلوا أن لا يقتلوهم ، فأبى عاصم النزول ، وقاتل مع أصحابه ، فقتل منهم سبعة ، وبقي ثلاثة ، فأعطاهم الكفار العهد مرة أخرى ، فنزلوا ، فغدروا بهم ، وربطوهم ، فقال أحد الثلاثة ، هذا أول الغدر ، وأبى يصحبهم فقتلوه ، وانطلقوا بالاثنين الآخرين إلى مكة ، وهما خبيب بن عدي ، وزيد بن الدثنة ، فباعوهما ، وكان خبيب قد قتل الحارث بن عامر بن نوفل يوم بدر ، فاشترته بنته أو أخوه ، وسجنوه فترة ثم خرجوا به إلى التنعيم ليقتلوه ، فصلى ركعتين ، ثم دعا عليهم ، ثم قال فيما قال : ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع فقال له أبو سفيان : أيسرك أن محمداً عندنا نضرب عنقه ، وإنك لفي أهلك ؟ فقال : والله ما يسرني أني في أهلي ، وأن محمداً في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكه تؤذيه ، ثم قتله عقبة بن الحارث بن عامر بأبيه . وأما زيد بن الدثنة فكان قتل أمية بن محرث يوم بدر ، فابتاعه ابنه صفوان بن أمية ، وقتله بأبيه ، وقد نسب إليه ما تقدم من قول أبي سفيان ورد خبيب عليه . وبعثت قريش ليؤتى بجزء من جسد عاصم ، فبعث الله المزنابير فحمته منهم ، وكان عاصم قد عهد الله أن لا يمسه مشرك ، ولا يمس هو مشركاً في حياته ، فحفظه الله بعد وفاته .
وفي نفس أيام حادثة الرجيع حدثت مأساة أخرى أشد منها ، وملخصها أن أبا براء عامر بن مالك ، المدعو بملاعب الأسنة ، قدم على رسول الله
المدينة ، فدعاه رسول الله
إلى الإسلام ، فلم يسلم ، ولم يبعد ، ولكنه أبدى رجاءه أن أهل نجد يجيبونه إلى الإسلام إذا بعث إليهم الدعاة ، وقال : أنا جار لهم ، فبعث إليهم رسول الله
سبعين داعياً من قراء الصحابة ، فنزلوا على بئر معونة ، وذهب حرام بن ملحان بكتاب رسول الله
إلى عدو الله عامر بن الطفيل ، فلم ينظر فيه ، وأمر رجلاً فطعنه من خلفه حتى أنفذ الرمح ، فقال حرام : الله أكبر ، فزت ورب الكعبة . واستنفر عدو الله بني عامر فلم يجيبوه ، لجوار أبي براء ، فاستنفر بني سليم ، فأجابته بطون منها : رعل وذكوان وعصية ، فأحاطوا بالصحابة ، وقتلوهم عن آخرهم ، ولم ينج إلا كعب بن زيد ، وعمرو بن أمية الضمري ، فأما كعب بن زيد فكان جريحاً ، وظنوه قتيلاً ، فارتث من بين القتلى ، فعاش حتى قتل يوم الخندق ، وأما عمرو بن أمية الضمري ، فكان من المنذر بن عقبة في المسرح ، فلما رأيا الطير تحوم على الموقعة عرفا الحادث ، فنزل بن عقبة في المسرح ، فلما رأيا الطير تحوم على الموقعة عرفا الحادث ، فنزل المنذر ، وقاتل حتى قتل ، وأسر عمرو بن أمية ، فأخبر عنه عامر بن الطفيل أنه من مضر ، فجز ناصيته ، وأعتقه عن رقبة كانت على أمه . ورجع عمرو بن أمية إلى المدينة ، فلما كان بالقرقرة من الطريق وجد رجلين من بني كلاب ، ظنهما من العدو فقتلهما ، وكان لهما عهد من رسول الله
فلما قدم المدينة وأخبر رسول الله
قال : قتلت قتيلين لأدينهما . وقد حزن رسول الله
حزناً شديداً على ما حدث بالرجيع وببئر معونة ، وكان الحادثان في شهر واحد – شهر صفر سنة 4هـ ويقال : إن خبر الحادثين وصل إليه
في ليلة واحدة ، فدعا على هؤلاء القتلة ثلاثين صباحاً في صلاة الفجر ، حتى أنزل الله عنهم : أبلغوا عنا قومنا : أنا لقينا ربنا ، فرضي عنا ، ورضينا عنه . فترك القنوت .
تآمر بنو النضير مؤامرة أخبث من عضل وقارة ، ومن الغادرين بأصحاب بئر معونة . فقد طلبوا من رسول الله
أن يجتمع بهم في موضع يسمعون منه القرآن والإسلام ، ويناقشونه ، ويؤمنون به إن اقتنعوا ، فتم الاتفاق على ذلك ، وقرر هؤلاء الأشرار فيما بينهم أن يأتي كل رجل منهم بخنجر تحت ثيابه ، فيغتالون النبي
بغتة وعلى غرة . فوصل الخبر إلى رسول الله
فقرر إجلاءهم . وقيل : لما رجع عمرو بن أمية الضمري t ، وأخبر بقتل رجلين من بني كلاب ، ذهب النبي
إلى بني النضير في نفر من الصحابة ، ليعينوه في ديتها حسب الميثاق ، فقالوا نفعل يا أبا القاسم ، اجلس ههنا ، حتى نقضى حاجتك ، فجلس على جنب جدار ينتظر ، وخلا بعضهم ببعض ، وركبهم الشيطان ، فقالوا : أيكم يأخذ هذه الرحى ويصعد فيلقها على رأسه ؟ فانبعث أشقاهم عمرو بن جحاش ، ونزل جبريل يخبر النبي
بما أرادوا ، فقام مسرعاً وتوجه إلى المدينة ، ثم لحقه أصحابه ، فأخبرهم بالمؤامرة وقرر إجلاءهم . ثم بعث إليهم محمد بن مسلمة يقول لهم : اخرجوا من المدينة ، ولا تساكنوني بها ، وقد أجلتكم عشراً ، فمن وجد بعده يضرب عنقه ، فتجهزوا أياماً للرحيل ، ثم أرسل رئيس المنافقين عبدالله بن أبي : أن اثبتوا ولا تخرجوا ، فأن معي ألفين يدخلون معكم حصونكم ، ويموتون دونكم : ] لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ [ وينصركم قريظة وغطفان ، فشعروا بالقوة وامتنعوا ، وقالوا لرسول الله
: إنا لا نخرج ، فاصنع ما بدا لك . فكبر رسول
وكبر أصحابه ، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم ، وأعطى اللواء عليا ، وسار إليهم ، حتى فرض عليهم الحصار ، فالتجأوا إلى حصونهم ، وأخذوا يرمون المسلمين بالنبل والحجارة ، وكانت نخيلهم وبساتينهم عوناً لهم ، فأمر النبي
بقطعها وتحريقها ، فانهارت عزائمهم ، وألقى الله الرعب في قلوبهم ، فاستسلموا بعد ست ليال ، وقيل : بعد خمس عشرة ليلة ، على أنهم يخرجون من المدينة ، واعتزلتهم قريظة ، وخانهم رأس المنافقين وحلفاؤهم : ] كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ [ وسمح لهم رسول الله
بأن يحملوا معهم ما يشاؤون من الأمتعة والأموال إلا السلاح ، فحملوا ما استطاعوا ، حتى قلعوا من بيوتهم الأبواب والشبابيك ، والأوتاد وجذوع السقف ، وحملوها فيما حملوا ، وهذا الذي قال الله عنه : ] يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [ ونزل أكثرهم وأكابرهم بخيبر ، ونزلت طائفة منهم بالشام . وقسم رسول الله r أرضهم وديارهم بين المهاجرين الأولين خاصة ، وأعطى أبا دجانة وسهل بن حنيف من الأنصار لفقرهما ، وكان ينفق منها على أهله نفقة سنة ، ويجعل ما بقى في سلاح والخيول عدة في سبيل الله ، وقد وجد عندهم من السلاح خمسين درعاً ، وخمسين بيضة ، وثلاثمائة وأربعين سيفاً .
هذا الموقع يستخدم ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز ) للمساعدة في تخصيص المحتوى وتخصيص تجربتك والحفاظ على تسجيل دخولك إذا قمت بالتسجيل.
من خلال الاستمرار في استخدام هذا الموقع، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.