ذكرنا أن أبا سفيان كان قد تواعد في أحد على حرب في العام القادم ، فلما دخل شهر شعبان سنة 4هـ ، خرج رسول الله
إلى بدر حسب الموعد ، وأقام بها ثمانية أيام ينتظر أبا سفيان ، وكان معه ألف وخمسمائة مقاتل ، وعشرة أفراس ، وأعطى اللواء على بن أبي طالب ، واستخلف على المدينة عبدالله بن رواحة . أما أبا سفيان فإنه خرج في ألفي مقاتل ، وخمسين فرساً ، حتى انتهى إلى مر الظهران ، ونزل على مجنة – ماء مشهور في تلك الناحية – وكان قد أخذه الرعب منذ خروجه ، فقال لأصحابه : لا يصلحكم إلا عام خصب ترعون فيه الشجر ، وتشربون فيه اللبن ، وهذا عام جدب ، وإني راجع فارجعوا ، فرجعوا ولم يبدوا أي معارضة . وقد باع المسلمون أيام إقامتهم ببدر ما كان معهم من أموال التجارة ، وربحوا درهمين بدرهم ، ثم رجعوا وقد هابهم كل عدو ، وساد الأمن في كل جانب ، حتى مضى أكثر من سنة ولم يجترئ الأعداء على أن يحركوا ساكناً ، واستطاع رسول الله
بفضل هذا الأمن أن يتفرغ لتأمن أقصى الحدود ، حتى خرج لتأديب قطاع الطرق إلى دومة الجندل في ربيع الأول سنة 5هـ فبسط الأمن والسلام في كل جانب .
والمسلمون يتفرغون لنشر دينهم ، وإصلاح أحوالهم ، بعد أن ساد الهدوء بفضل ما اتخذه رسول الله
من الخطط الحكيمة ، فلم يحصل بعد غزوة بني النضير أي مواجهة تذكر ، لفترة تجاوز سنة ونصف سنة ، ولكن تلك هي اليهود – الذين سماهم المسيح عليه السلام : حيات وأولاد الأفاعي – لم يرقهم أن يستريح المسلمون ، فهم بعد ما استقروا بخيبر ، واطمأنوا بها أخذوا يدبرون المؤامرات ، ويتحركون وراء الستار ، حتى نجحوا في جلب جيش عرمرم من قبائل العرب ضد أهل المدينة . يقول أهل السير : إن عشرين رجلاً من سادتهم وزعمائهم خرجوا إلى قريش ، يحرضونهم على غزو المدينة ، ووعدوهم بالنصر ، فأجابت لهم قريش ، ثم ذهبوا إلى غطفان ، فأجابوا ، ثم طافوا في القبائل فأجاب عدد منها ، ثم حركوا هؤلاء القوم جميعاً تحت خطة منسقة حتى يصل الجميع إلى أطراف المدينة في زمن واحد .
وبلغ خبر تجمعهم وتحركهم إلى المدينة ، فاستشار رسول الله
أصحابه ، فأشار سلمان الفارسي t بحفر الخندق ، فاستحسنوه واتفقوا عليه . وحيث إن المدينة تحيط به اللابات أي الحرات – وهي الحجارة السود – من الشرق والغرب والجنوب ، ولا تصلح لدخول العساكر إلا جهة الشمال فإن رسول الله
اختار في تلك الجهة أضيق مكان بين الحرة الغربية والشرقية – وهو نحو ميل – فوصل الحرتين بحفر الخندق في هذا المكان ، وبدأ هذا الخندق في جهة المغرب من شمال جبل سلع ، ووصله في الشرق برأس ممتد من حجارة الحرة الشرقية عند أطم الشيخين . وقد وكل إلى كل عشرة رجال أن يحفروا أربعين ذراعاً ، واشترك معهم رسول الله
في حفر الخندق ونقل التراب ، وكانوا يرتجزون فيجيب ، ويرتجز فيجيبون ، وقد كابدوا أثناء حفره أنواعاً من المشقة ، ولا سيما شدة البرد ، وشدة الجوع ، وكان يؤتي لهم بملء كف من الشعير ، فيصنع بدسم يفوح منها الريح ، فيأكلونه ، وهو يصعب مروره على الحلق ، وشكوا إلى رسول الله
الجوع ، وأروه على بطونهم حجراً حجراً كانوا قد ربطوه ، فأراهم على بطنه حجرين . وقد وقعت أثناء الحفر بعض الآيات ، رأى جابر شدة الجوع في رسول الله
فلم يصبر ، فذبح بهيمة له ، وطحنت امرأته صاعاً من شعير ، ثم دعا رسول الله
سراً ، في نفر من أصحابه ، فقام رسول الله
بجميع أهل الخندق ، وهم ألف ، فأكلوا وشبعوا وما زالت البرمة تغط ، والعجين يخبز ، وذهبت أخت النعمان بن بشير بحفنة من تمر لأبية وخاله فبدده رسول الله
فوق ثوب ، ودعا أهل الخندق ، فأكلوا ورجعوا ، والتمر يسقط من أطراف الثوب . وعرضت لجابر وأصحابه أثناء الحفر كدية شديدة ، فنزل رسول الله
وضربها بالمعول ، فعادت كثيباً أهيل ، أي رملاً لا يتمسك ، وعرضت لبراء وأصحابه صخرة ، فنزل رسول الله
فقال – بسم الله ثم ضرب ضربة بالمعول فقطع قطعة ، وخرج منها ضوء ، فقال : الله أكبر ، أعطيت مفاتيح الشام ، وإني لأنظر إلى قصورها الحمراء الساعة ، ثم ضرب الثانية وبشر بفتح فارس ، ثم الثالثة وبشر بفتح اليمن ، وانقطعت الصخرة .
وأقبلت قريش ومن تبعهم في أربعة آلاف ، ومعهم ثلاثمائة فرس ، وألف بعير ، يرأسهم أبو سفيان ، ويحمل لواءهم عثمان بن طلحة بن أبي طلحة العبدري، فنزلوا بمجتمع الأسيال من رومة بين الجرف وزغابة . وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد في ستة آلاف ، فنزلوا بذنب نقمي إلى جانب أحد ، وكان قدوم هذا الجيش العرمرم إلى أسوار المدينة بلاء شديداً ومخيفاً جداً ، كما قال الله – تعالى :]إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا{10} هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً[ فثبت الله المؤمنين ، كما قال ] وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً [ ( 33: 22) ، أما المنافقون والذين في قلوبهم مرض فقالوا : ] مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً [ واستخلف رسول الله
– على المدينة ابن أم مكتوم ، وجعل النساء والذرارى في الآطام ، ثم خرج في ثلاثة آلاف من المسلمين ، فجعلوا ظهورهم إلى جبل سلع وتحصنوا به ، والخندق بينهم وبين الكفار . وبعد أن استقر المشركون وتهيأوا تقدموا نحو المدينة ، فلما اقتربوا من المسلمين فوجئوا بخندق عريض يحول بينهم وبين المسلمين ، فبهتوا ، وقال أبو سفيان : تلك مكيدة ما عرفتها العرب ، فأخذوا يدورون حوله في طيش وغضب ، يطلبون نقطة يعبرون منها ، والمسلمون يرشقونهم بالنبل ، حتى لا يقتربوا منه ، فيتمكنوا من الاقتحام ، أو من إهالة التراب وبناء الطريق عليه . واضطر المشركون إلى فرض الحصار على المدينة ، بينما لم يكونوا مستعدين له ، إذ لم يكن ذلك في حسابهم عند الخروج ، فأخذوا يخرجون في النهار يحاولون عبور الخندق ، والمسلمون يجابهون لهم على طول الخط ، يناضلون ويرامون بالحجارة ، وقد كثف المشركون جهودهم مراراً ، وأداموها طول النهار ، واضطر المسلمون إلى الاستمرار في الدفاع ، حتى فاتت منهم ومن رسول الله ]
[ الصلوات ، ولم يتمكنوا من أدائها إلا بعد غروب الشمس ، أو قريباً من ذلك ، ولم تكن صلاة الخوف قد شرعت حينذاك . وفي أحد الأيام خرج نفر من فوارس المشركين فيهم عمرو بن عبد ود ، وعكرمة بن أبي جهل ، وضرار بن الخطاب ، وغيرهم ، فقصدوا مكاناً ضيقاً من الخندق ، واقتحموه ، وجالت بهم خيلهم في الساحة التي بين الخندق وجبل سلع ، فخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين ، فحال بينهم وبين المكان الذي اقتحموا منه الخندق ، فدعا عمرو بن عبد ود إلى المبارزة ، وكان جريئاً فاتكا ، فأغضبه علي حتى نزل من الفرس ، فتجاولا و تصاولا حتى قتله علي ، وانهزم الباقون وقد ملأهم الرعب ، حتى ترك عكرمة رمحه ، وسقط نوفل بن عبدالله في الخندق فقتله المسلمون . وأصيب أثناء المراماة عدد قليل من الطرفين ، وبلغ عدد قتلى المشركين عشرة ، وقتلى المسلمين ستة . وأصيب سعد بن معاذ بسهم قطع أكحله ، فدعا الله أن يبقيه إن كان قد بقى من حرب قريش شئ ، وإلا فيجعل موته في هذا الجرح ، ثم قال : في دعائه : " ولا تمتني حتى تقر عيني من قريظة "
وقد سبق ذكره – فجاء حيي بن أخطب سيد بني النضير ، أثناء هذه الغزوة ، إلى كعب بن أسد سيد بني قريظة فحسن له الغدر ، وأغراه على نقض العهد ، فنقض كعب العهد ، وقام إلى جانب قريش والمشركين . وكانت قريظة في جنوب المدينة ، والمسلمون في شمالها ، ولم يكن من يحول بين قريظة وبين نساء المسلمين وذراريهم ، فكان الخطر عليهم شديداً ، وبلغ الخبر رسول اللهr فأرسل مسلمة بن أسلم في مائتين وزيد بن حارثة في ثلاثمائة لحراسة ذراري المسلمين ، وأرسل سعد بن معاذ وسعد بن عبادة في رجال من الأنصار يستجلون له الخبر ، فوجدوا اليهود على أخبث ما يكونون ، فقد جاهروا بالسب والعداوة ، ونالوا من رسول الله
، وقالوا : من رسول الله ؟ لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد ، فرجعوا وقالوا لرسول الله
عضل وقارة : " يعني أن قريظة على غدر كغدر عضل وقارة بأصحاب الرجيع " وتفطن الناس ، فاشتد خوفهم كما قال الله تعالى ] إِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا{10} هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً [ . ونجم النفاق حتى قال بعضهم : كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر ، وأحدنا لا يأمل على نفسه أن يذهب إلى الغائط ، وقال آخرون : ] يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا [ ، وأراد فريق منهم الفرار فاستأذنوا النبي
وقالوا محتالين : ] إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ [ ، وما هي بعورة . قلق رسول الله
حين بلغه غدرهم ، فتقنع بالثوب واضطجع ، ومكث هكذا طويلاً ، ثم نهض وقال : الله أكبر ، وبشر المسلمين بالفتح والنصر . وأراد أن يرسل إلى عيينة بن حصن ليصالحه على ثلث ثمار المدينة ، وينسحب هو بغطفان ، فأبى ذلك سيدا الأنصار : سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ، وقالا : كنا نحن وهؤلاء على الشرك ، ولم يطمعوا أن يأكلوا منها ثمرة ، فحين أكرمنا الله بالإسلام ، وأعزنا بك نعطيهم أموالنا ؟ والله لا نعطيهم إلا السيف ، فصوب رأيهما .
ولله في خلقه شئون ، فقد جاء أثناء هذه الظروف القاسية نعيم بن مسعود الأشجعي ، وهو من غطفان ، وكان صديقاً لقريش واليهود ، فقال : يا رسول الله إني قد أسلمت ، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي ، فمرني بما شئت ، فقال : أنت رجل واحد ، وماذا عسى أن تفعل ، ولكن خذل عنا ما استطعت ، فإن الحرب خدعة . فذهب نعيم إلى قريظة ، فلما رأوه أكرموه ، فقال : تعرفون ودي لكم ، وخاصة ما بيني وبينكم ، وإني محدثكم حديثاً فاكتموه عني ، قالوا : نعم ، قال : قد رأيتم ما وقع لبني قينقاع ، والنضير ، وقد ظاهرتم قريشاً وغطفان ، وهم ليسوا مثلكم ، فالبلد بلدكم ، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم ، لا تقدرون أن تتحولوا منه إلى غيره ، وأما بلدهم وأموالهم ونساؤهم فبعيدة ، فهم إن أصابوا فرصة انتهزوها وإلا لحقوا ببلادهم ، وتركوكم ومحمداً ينتقم منكم كيف يشاء ، قالوا : فما العمل ؟ قال : لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن . قالوا : لقد أشرت بالرأي . ثم توجه نعيم إلى قريش واجتمع برؤسائهم ، وقال : تعلمون ودي لكم ونصحي إليكم ، قالوا : نعم . قال : فإني محدثكم حديثاً فاكتموه عني ، قالوا : نفعل ، قال : فإن يهود قد ندموا على نقضهم عهد محمد ، وخافوا أن ترجعوا وتتركوهم معه ، فراسلوه أنهم يأخذون منكم رهائن ، ويدفعونها إليه ، ثم يوالونه عليكم ، فرضي بذلك ، فاحذروهم ، وإن سألوكم رهائن فلا تعطوهم ، ثم ذهب إلى غطفان فقال لهم مثل ذلك . وبهذا التدبير الحكيم تشككت النفوس وتشققت ، وأرسل أبو سفيان وفداً إلى قريظة يدعوهم إلى القتال غداً ، فقالوا ، إن اليوم يوم السبت ، ولم يصبنا ما أصابنا إلا من التعدي فيه ، ثم إنا لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهائن منكم ، لكي لا تتركونا وتذهبوا إلى بلادكم ، فقالت قريش وغطفان : صدقكم والله نعيم ، وأرسلت قريش إلى اليهود تقول لهم : لا نرهنكم أحداً ، واخرجوا للقتال . فقالوا صدقكم والله نعيم . فخارت عزائم الفريقين وتخاذلوا . أما المسلمون فكانوا يدعون :" اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا " ، وابتهل رسول الله
إلى ربه – عز وجل : " اللهم منزل الكتاب ، سريع الحساب ، اهزم الأحزاب ، اللهم اهزمهم وزلزلهم " .. فأرسل الله عليهم ريحا وجنوداً من الملائكة ، فزلزلوهم وقذفوا في قلوبهم الرعب ، وكفأت الريح قدورهم ، وقلعت خيامهم ، وضربهم البرد القارس حتى لم يقر لهم قرار ، وبدءوا يتهيأون للرحيل . وأرسل رسول الله
حذيفة t إليهم ، ليأتي بخبرهم ، فذهب ودخل بينهم ، ثم رجع ، ولم يجد مس البرد ، بل كأنه كان في حمام – الذي يغتسلون فيه الماء الحميم أي الحار – فلما رجع أخبر برحيل القوم ونام . فلما أصبح المسلمون رأوا ساحة القتال من جهة الكفار ليس فيها داع ولا مجيب ، فقد ] ورَدَّ الله الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى الله الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ الله قَوِيّاً عَزِيزاً [ .. كانت بداية هذه الغزوة في شوال سنة 5هـ ، ونهايتها بعد نحو شهر في ذي القعدة ، وكانت أكبر محاولة قام بها أعداء الإسلام لضرب المدينة ، وللقضاء عليها ، وعلى الإسلام والمسلمين ، ولكن الله خيبهم ، ورد كيدهم في نحورهم ، وكان فشلهم بمجموع هذه القوات يعني أن الطوائف الصغيرة والمتفرقة أولى أن لا تجترئ على التوجه إلى المدينة ، وقد أخبر بذلك النبي r فقال :الآن نغزوهم ، لا يغزونا ، نحن نسير إليهم .
من الخندق ونزع السلاح والثياب ، وبينما هو يغتسل في بيت أم سلمة جاءه جبريل – عليه السلام – وأمره بالنهوض إلى بني قريظة ، وقال : إني سائر أمامك أزلزل بهم حصونهم ، وأقذف في قلوبهم الرعب ، ثم سار في موكبه من الملائكة أما رسول الله
فأعلن في الناس : من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا ببني قريظة ، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم ، وأعطى الراية لعلي بن أبي طالب ، وقدمه في جماعة إليهم ، فلما رأوه سبوا الرسول
وقالوا قبيحاً ، وبادر المسلمون في الخروج ، وأدركت بعضهم العصر في الطريق فمنهم من صلى ، ومنهم من أخر حتى وصل إلى بني قريظة ، وخرج رسول الله
في موكب المهاجرين والأنصار حتى نزل على بئر من آبارهم اسمها : " أنا " . وألقى الله في قلوبهم الرعب ، فتحصنوا في حصونهم ، ولم يجترءوا على القتال ، وحاصرهم المسلمون بشدة ، فلما طال عليهم الحصار أرادوا أن يستشيروا بعض حلفائهم من المسلمين ، فطلبوا من رسول الله
أن يرسل إليهم أبا لبابة ليستشروه ، فأرسله ، فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش النساء والصبيان يبكون في وجهه ، فرق لهم ، وقالوا : أترى أن ننزل على حكم محمد ؟ قال : نعم . وأشار بيده إلى حلقه ، يريد أنه الذبح ، ثم تنبه أنه بإشارته هذه خان الله ورسوله ، فمضى على وجهه حتى أتى المسجد النبوي ، وربط نفسه بسارية من سواريه ، وحلف أن لا يحله إلا رسول الله
بيده ، فلما بلغ رسول الله
خبره قال : أما إنه لو جاءني لا ستغفرت له . أما إذا فعل ما فعل فنتركه حتى يقضي الله فيه . ومع طول الحصار انهارت معنويات بني قريظة ، حتى نزلوا بعد خمس وعشرين ليلة على حكم رسول الله
، فاعتقل الرجال ، وجعل النساء والذراري بمعزل عنهم في ناحية ، وطلب حلفاؤهم الأوس أن يحسن إليهم ، كما فعل ببني قينقاع حلفاء الخزرج ، فقال : ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم ؟ قالوا : بلى . قال : فذاك إلى سعد بن معاذ . قالوا : قد رضينا . وكان سعد في المدينة للجرح الذي أصابه أثناء غزوة الخندق ، فجاءوا به راكباً على حمار ، فلما قرب من رسول الله
قال : قوموا إلى سيدكم ، فقالوا إليه ، وأحاطوا به من جانبيه ، يقولون : يا سعد ! أحسن في مواليك ، وهو ساكت لا يجيب ، فلما أكثروا عليه قال : لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم . فلما سمعوا ذلك رجع بعضهم إلى المدينة ونعى إليهم القوم . ولما نزل سعد ، وأخبر بنزول قريظة على حكمه ، حكم فيهم أن يقتل الرجال ، وتسبى الذرية ، وتقسم الأموال ، فقال رسول الله
: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات . وقد كان هذا الحكم أيضاً طبقاً لشريعة اليهود ، بل أرف ق وأرحم من حكم شريعتهم وعلى إثر هذا القضاء الذي قضى به سعد بن معاذ أتى ببني قريظة إلى المدينة ، فحبسوا في دار بنت الحارث امرأة من بني النجار ، وحفرت لهم خنادق في سوق المدينة ، ثم ذهب بهم إلى هذه الخنادق أرسالاً أرسالاً ، وضربت أعناقهم فيها ، وكانوا أربعمائة ، وقيل : ما بين الستمائة إلى السبعمائة . وقتل معهم حيى بن أخطب سيد بني النضير ، وكان من زعماء اليهود العشرين الذين حرضوا قريشاً وغطفان على غزوة الأحزاب ، ثم كان قد جاء إلى قريظة ، وأغراهم على نقض العهد ، حتى غدروا بالمسلمين في أحرج ساعة من حياتهم ، وكانوا قد اشترطوا عليه أن يكون معهم ، يصيبه ما يصيبهم ، فكان معهم في حصونهم أثناء الحصار والاستسلام حتى القتل . وقد أسلم نفر من بني قريظة قبل النزول فلم يتعرض لهم ، واستوهب بعضهم فتركوا وأسلموا . وقتلت امرأة من نسائهم ، لأنها كانت قد طرحت الرحى على خلاد بن سويد فقتلته ، وجمع السلاح والأموال فكانت ألفاً وخمسمائة سيف ، وثلاثمائة درع ، وألفى رمح ، وخمسمائة ترس وحجفة ، وأثاثاً كثيراً ، وآنية وجمالاً وشياهاً ، فخمس كل ذلك مع النخل والسبي ، فأعطى للراجل سهماً وللفارس ثلاثة أسهم ، سهماً لنفسه وسهمين لفرسه . وأرسلت السبايا إلى نجد فابتيع بها السلاح ، واصطفى النبي e منها ريحانة بنت زيد بن عمرو بن خناقة ، فيقال : إنه تسرى بها ، ويقال : أعتقها وتزوجها ، فتوفيت بعد حجة الوداع . ولما تم أمر قريظة أجيبت دعوة سعد بن معاذ ، وكان في خيمة في المسجد النبوي ، ليعوده النبي e من قريب ، فمرت عليه شاة فانتقض جرحه ، وانفجر من لبته ، فسال الدم الغزير حتى توفي لأجله ، وحملت جنازته الملائكة مع المسلمين ، واهتز لموته عرش الرحمن . ومضى على أبي لبابة ست ليال تأتيه امرأته فتحله للصلاة ، ثم يعود فيربط نفسه بالجذع ، ثم نزلت توبته في بيت أم سلمة t فبشرته بها ، فثار الناس ليطلقوه فأبى حتى يطلقه رسول الله e ففعل حين مر به لصلاة الصبح . وقد قام المسلمون بعد غزوة بني قريظة بعدة أعمال عسكرية أهمها ما يأتي :
هو تاجر أهل الحجاز ، ورئيس يهود خيبر ، وأحد كبار المحركين والمؤلبين للأحزاب على أهل المدينة ، فلما تفرغ المسلمون من الأحزاب وقريظة انتدب لقتله خمسة من رجال الخزرج ، ليحوزوا شرفاً مثل شرف الأوس حين قتلوا كعب ابن الأشراف . ووصل هؤلاء إلى حصنه في جهة خيبر حين غربت الشمس ، فقال قائدهم عبدالله بن عتيك : مكانكم ، فإني منطلق ومتلطف للبواب ، لعلي أدخل ، فأقبل حتى دنا من الباب ، ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجته ، فهتف به البواب : يا عبدالله ! إن كنت تريد أن تدخل فادخل فإني أريد أن أغلق الباب . فدخل عبد الله بن عتيك ، وكمن حتى نام الناس ، فأخذ المفاتيح ، وفتح الباب ليسهل له الهروب عند الحاجة ، ثم توجه إلى بيت أبي رافع ، فكان كلما فتح باباً أغلقه من داخل حتى لو علم به الناس لا يصلون إليه حتى يقتل أبا رافع ، فلما انتهى إلى بيته فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله ، لا يدري أين هو ، فناداه : يا أبا رافع ! قال : من هذا ؟ فأهوى نحو الصوت وضربه ضربة بالسيف ، وهو دهش ، فما أغنت شيئا ، فخرج ثم جاء مغيراً صوته ، كأنه يغيثه ، وقال : ما هذا الصوت يا أبا رافع ؟ فقال لأمك الويل ، إن رجلاً في البيت ضربني بالسيف ، فعمد إليه وضربه ضربة أثخنته ، ولم يقتله ، فوضع السيف في بطنه وتحامل عليه حتى أخذ في ظهره ، ثم خرج يفتح الأبواب باباً باباُ ، والليل مقمر ، وبصره ضعيف ، فظن أنه وصل إلى الأرض ، فقدم رجله فوقع من السلم ، فأصيبت رجله فعصبها بعمامته ، واختفى عند الباب ، فلما صاح الديك قام رجل على سور الحصن وقال : أنعى أبا رافع تاجر أهل الحجاز ، فعرف أنه مات ، فأتى أصحابه ، ورجعوا ، فلما انتهوا إلى رسول الله e حدثوه ، ومسح رسول الله e رجله فكأنه لم يشتكها قط .
كان ثمامة من أشد الناس كراهية لرسول الله e ولدينه الإسلام ، حتى خرج متنكراً في المحرم سنة 6هـ يريد اغتيال النبي e بأمر مسيلمة الكذاب ، وكان النبي e قد أرسل محمد بن مسلمة في ثلاثين راكباً لتأديب بني بكر بن كلاب في ناحية ضرية بعد على بعد سبع ليال من المدينة في طريق البصرة ، فلما كانوا راجعين وجدوا ثمامة في الطريق فأسروه ، وجاءوا به إلى المدينة ، وربطوه بسارية من سواري المسجد ، فمر به النبي e فقال : ماذا عندك يا ثمامة ؟ قال عندي خير يا محمد ! إن تقتل تقتل ذا دم ، وإن تنعم تنعم على شاكر ، وإن كنت تريد المال فسل ، تعط منه ما شئت فتركه ، ثم مر به اليوم الثاني ، ودار نفس الحديث ، ثم اليوم الثالث كذلك ، فقال : أطلقوا ثمامة ، فأطلقوه ، فاغتسل وأسلم ، وقال : والله ما كان على ظهر الأرض من وجه أبغض إلى من وجهك ، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلى ، ووالله ما كان على وجه الأرض من دين أبغض إلى من دينك ، فقد أصبح دينك أحب الأديان إلى . وفي العودة ذهب ثمامة إلى مكة معتمراً فلامته قريش على إسلامه ، فقال : والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله
فلما انصرف منع بيع الحنطة لأهل مكة فجهدوا حتى كتبوا إلى النبي e يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى يسمح ببيع الطعام لهم ، ففعل e .
بنو لحيان هم الذين كانوا قتلوا المسلمين بالرجيع ، وكانوا متوغلين في الحجاز إلى حدود عسفان . فأخر رسول الله e أمرهم ، حتى إذا تخاذلت الأحزاب واطمأن من الأعداء استعمل على المدينة ابن أم مكتوم ، وخرج إليهم في الربيع الأولسنة 6هـ ، في مائتين من الصحابة ومعهم عشرون فرساً ، وأسرع السير إليهم حتى بلغ بطن غران ، واد بين أمج وعسفان ، حيث كان مصاب أصحابه ، فترحم عليهم ، ودعا لهم ، وأقام في ذلك المكان يومين ، أما بنو لحيان ففروا في رءوس الجبال ، فلم يجد منهم أحداً ، وأرسل عشرة فوارس إلى عسفان لتسمع بهم قريش فيداخلهم الرعب ، فذهبوا إلى كراع الغميم ، ثم رجع رسول الله e إلى المدينة بعد أن غاب عنها أربع عشرة ليلة .
سرية العيص وإسلام أبي العاص زوج زينب بنت رسول الله :
في جمادي الأولى سنة 6هـ أرسل رسول الله e زيد بن حارثة إلى العيص ، في مائة وسبعين راكباً ، يعترضون عيراً لقريش قادمة من الشام ، كان يرأسها أبو عاص بن الربيع زوج زينب بنت رسول الله e ، فأخذها المسلمون ، وأخذوا ما فيها ، وأسروا رجالها ، وأفلت أبو العاص فجاء على المدينة ، واستجار بزينب ، وسألها أن تطلب من رسول الله e أن يرد عليه أموال العير ففعلت ، ورد عليه كل شئ ، الصغير والكبير والقليل والكثير . وكان أبو العاص من رجال مكة المعدودين تجارة ومالاً وأمانة ، فرجع إلى مكة ، وأدى الأمانات إلى أهلها ، ثم أسلم وهاجر ، فرد عليه رسول الله e زينب بالنكاح الأول ، وذلك بعد ثلاث سنوات ونيف ، ولم تكن آية تحريم المسلمات على الكفار نزلت إلى ذلك الوقت ، فكان النكاح باقياً على حاله . هذا ، وقد أرسل رسول الله e عدة سرايا خلال هذه الفترة ، وكان لها أثر بالغ في كبح جماح العدو ، وإخماد شره ، واستتباب الأمن وبسط السلام إلى أماكن بعيدة ، ثم نقل إليه e ما أدى إلى قيامه بغزوة بني المصطلق .
بنو المصطلق فرع من قبيلة خزاعة ، وكانت عامة بطون خزاعة ممالئين لرسول الله e ناصحين له ، ولكن كان هذا الفرع منها ممالئاً لقريش ، وقد نقل إلى رسول الله e أنهم يستعدون لقتاله ، فبعث بريدة بن الحصيب لتحقيق هذا الخبر ، فتأكد لديه صحته ، فاستعمل على المدينة زيد بن حارثة ، وقيل : غيره ، وأسرع في الخروج إليهم ، ليباغتهم بالهجوم ، ومعه سبعمائة من الصحابة ، وكان بنو المصطلق نازلين على ماء يسمى بالمريسيع من ناحية قديد إلى الساحل ، فأغار عليهم وهم غارون ، فقتل بعضهم ، وسبى ذراريهم ، وأخذ أموالهم ، وذلك لليلتين من شعبان سنة 6هـ ، وقيل : 5هـ ، وكان في السبي جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار رئيس بني المصطلق ، فلما قدم e المدينة أعتقها وتزوجها بعد أن أسلمت ، فأعتق المسلمون مائة أهل بيت من بني المصطلق قد أسلموا ، وقالوا : أصهار رسول الله e فكانت أعظم النساء بركة على قومها . تلك هي غزوة بني المصطلق بإيجاز ، ليس فيها ما يستغرب ، لكن وقعت خلالها حادثتان مؤلمتان استغلهما المنافقون لإثارة الفتن والاضطراب في المجتمع الإسلامي ، وحتى في البيت النبوي
لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل : وسبب ذلك أن رجلاً من خلفاء المهاجرين وآخر من خلفاء الأنصار ازدحما على ماء المريسيع ، فضرب المهاجري الأنصاري ، فقال الأنصاري : يا للأنصار ، وقال المهاجري : يا للمهاجرين ، واجتمع ناس من الطرفين ، فبادرهم رسول الله e وقال :" أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ؟ دعوها فإنها منتنة " فعاد الناس إلى رشدهم ورجعوا . وكانت جماعة من المنافقين قد خرجت في هذه الغزوة ، ولم تخرج من قبل ، ومعهم رئيسهم عبدالله لن أبي ، فلما بلغه الخبر استشاط غضباً ، وقال : أو قد فعلوها ، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا ، والله ما عُدنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال الأول : سمن كلبك يأكلك ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، أراد بالأعز نفسه ، وبالأذل رسول الله e العياذ بالله – وأخذ يدبر لذلك الفتن ، حتى قال لرفقائه : هذا ما فعلتم بأنفسكم ، أحللتموهم بلادكم ، وقاسمتموهم أموالكم ، أما والله لو أمسكتم عنهم لتحولوا إلى غير داركم . وكان معهم حينما قال ما قال شاب مؤمن قوي الإيمان : زيد بن أرقم لم يصبر على هذا الهراء حتى أبلغ الخبر رسول الله e ، فدعا e ابن أبي ، وسأله عن ذلك ، فحلف أنه لم يقل شيئاً مما بلغه ، فأنزل الله سورة المنافقين ، وفضحه إلى يوم الدين . وكان ابن هذا المنافق – واسمه أيضاً عبدالله – مؤمناً خالصاً ، فوقف على نقب المدينة مستلاً سيفه ، وقال لأبيه رأس المنافقين : والله لا يجوز من ههنا حتى يأذن لك رسول الله e ، فإنه العزيز وأنت الذليل ، وبلغ ذلك رسول الله e فأرسل إليه أن يأذن له ، فخلى سبيله وبهذه الحكمة انتهت هذه الفتنة .
وحديث ذلك أن النبي eنزل في عودته من تلك الغزوة منزلاً حين دنا من المدينة ، ثم آذن بالرحيل ليلاً ، وكانت معه عائشة – رضى الله عنها ، فخرجت لحاجتها ، فلما رجعت التمست صدرها فرأت أنها فقدت عقدها ، فرجعت تلتمسه في الموضع الذي فقدته فيه حتى وجدته ، وارتحل الجيش ، وحملوا هودجها على بعيرها ظناً منهم أنها فيه ، ولم ينكروا خفة الهودج لكونهم جماعة ، ولكونها خفيفة ، ورجعت عائشة إلى منازلهم فلم تجد أحداً ، فقعدت هناك على أنهم سيفقدونها فيرجعون في طلبها إلى هذا المكان ، فغلبت عيناها حتى نامت . وكان أحد الصحابة – وهو صفوان بن المعطل السلمي t قد بات من وراء الجيش ، وكان كثير النوم فلم يستيقظ إلا مؤخراً ، فسلك سبيل الجيش ، فلما رأى سواد إنسان نائم ، فلما قرب منه عرف أنها عائشة ، لأنه كان رآها قبل الحجاب ، فقال : أنا لله وإنا إليه راجعون ، زوجة رسول الله e ؟ لم يقل كلمة غير ذلك ، واستيقظت عائشة – رضى الله عنها – بسماع صوته ، فخمرت وجهها بجلبابها ، وقرب صفوان راحلته ، وأناخها فركبت ، وأمسك هو زمام الناقة يمشي أمامها ، حتى وصل إلى الجيش ، وهم نازلون في نحر الظهيرة . ولما رأى ذلك عدو الله ابن أبي وجد متنفساً من كرب النفاق والحقد ، فاتهمها بالفجور إفكاً وزوراً ، واخذ يستحكي ذلك ، ويستوشيه ، ويجمعه ويفرقه ، ويشيعه ويذيعه ، وكان أصحابه يتقربون به إليه ، فلما قدموا المدينة أفاضوا فيه ، حتى انخدع عدد من المؤمنين . ومرضت عائشة – رضى الله عنها – حين قدمت المدينة ، وطال مرضها نحو شهر ، فكانت المدينة تموج بقول أهل الإفك ، وهي لا تعلم شيئاً ، وإنما كان يريبها أنها لم تكن ترى اللطف الذي كانت تراه من رسول الله e حين تشكتي ، فكان e يدخل عليها فيسلم ويقول : كيف تيكم ؟ ثم يرجع ولا يجلس عندها . وكان eطوال هذه الفترة ساكتاً لا يتكلم ، فلما استلبث الوحي طويلاً استشار أصحابه ، فأشار علي بن أبي طالب بفراقها تلويحاً ، وأشار أسامه وغيره بإمساكها ، وأنها كالتبر الخالص ، فقام e على المنبر واستعذر من رجل بلغ أذاه في أهله – وكانت الإشارة إلى عبدالله ابن أبي – فأظهر سيد الأوس رغبته في قتله ، فأخذت الحمية سيد الخزرج ، لأن ابن أبي كان منهم ، فتثاور الحيان حتى خفضهم رسول الله e . وخرجت عائشة رضى الله عنها ذلك اليوم لحاجتها ليلاً ، وقد نقهت من المرض ، ومعها أم مسطح ، فعثرت في مرطها ، فدعت على ابنها مسطح ، فاستنكرت ذلك عائشة ، فأخبرتها الخبر ، وأن ابنها ممن يقول بقولهم ، فرجعت عائشة فاستأذنت رسول الله eوأتت أبويها ، فلما تأكد لديها الخبر جعلت تبكي وتبكي حتى بكت ليلتين ويوماً ، لم تكتحل أثناءها بنوم ، ولم يرقأ لها دمع ، حتى ظنت وظن أبواها أن البكاء فالق كبدها .
وجاءها رسول الله e صباح الليلة الثانية فجلس وتشهد وقال : أما بعد يا عائشة ! فإنه بلغني عنك كذا كذا ، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه . وحينئذ قلص دمعها ، وقالت لكل من أبويها أن يجيبا ، فلم يدريا ما يقولان ، فقالت : والله لقد علمت لقد سمعت بهذا الحديث حتى استقر في أنفسكم ، وصدقتم به ، فلئن قلت لكم أني برئية – والله يعلم أني بريئة – لا تصدقونني ، ولئن اعترفت لكم بأمر – والله يعلم أني منه بريئة – لتصدقوني ، فوالله لا أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف : ] فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [ . ثم تحولت واضطجعت ، ونزل الوحي ساعته ، فسرى عن رسول الله e ، وهو يضحك ، فكانت أول كلمة تكلم بها أن قال :" يا عائشة ! أما الله فقد برأك " . فقالت لها أمها : قومي إليه ، فقالت : والله لا أقوم إليه ، ولا أحمد إلا الله . والذي أنزله الله – تعالى – في براءتها عشر آيات في سورة النور بداية من قوله تعالى : ] إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ [ . إلى آخر الآية العشرين : ثم خرج رسول الله e إلى الناس فخطبهم ، وتلا عليهم ما أنزل الله من براءتها ، فلما نزل أمر برجلين وأمرأة من المؤمنين الخالصين فجلدوا ، كل واحد ثمانين جلدة ، وهم : حسان بن ثابت ، ومسطح بن أثاثه ، وحمنة بنت جحش ، زلت أقدامهم فأفاضوا في الإفك ، وأما رأس المنافقين الذي تولى كبره ، ورفقته ، فلم يعاقبوا في هذه الحياة الدنيا ، ولكنهم سيقفون بين يدي الله يوم الدين ، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .
أري رسول الله e في المنام ، وهو في المدينة، أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين ، فأخبر بذلك المسلمين ، وأخبر أنه يريد العمرة ، واستنفر الأعراب الذين حوله ، فأبطأوا ، وظنوا أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً ، وتخلصوا قائلين : شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا . وخرج رسول الله e يوم الاثنين غرة ذي القعدة سنة 6هـ ، في ألف وأربعمائة من المهاجرين والأنصار، وساق معه الهدي ، ليعلم الناس أنه لم يخرج محارباً بل معتمراً . فلما بلغ ذا الحليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم بالعمرة . ثم سار حتى بلغ عسفان ، فجاءه عينه ، وأخبره أن قريشاً مجمعون على القتال ، وصد المسلمين عن البيت الحرام ، وكانت قريش قد نزلوا بذي طوى ، وأرسلوا خالد بن الوليد في مائتي فارس إلى كراع الغميم ، قريباً من عسفان ، وليسد الطريق النافذ إلى مكة ، وجمعوا الأحابيش ليعينوهم ، فاستشار رسول الله e هل يهاجم على أهالي المجتمعين من الأحابيش ليعينوهم ، فاستشار رسول الله
هل يهاجم على أهالي المجتمعين من الأحابيش ، أو يقصد البيت ، فمن صده يقاتله ؟ فقال أبو بكر t : جئنا معتمرين ، ولا مقاتلين ، فمن حال بيننا وبين البيت قاتلناه ، فقبل النبي e هذا الرأي . ورأى خالد المسلمين في الصلاة الظهر ، وهم يركعون ويسجدون فقال : لقد كانوا على غرة ، لو كنا حملنا عليهم ، ثم قرر أن يهجم أثناء صلاة العصر ، فأنزل الله صلاة الخوف بين الظهر والعصر ، ففاتته الفرصة . وأخذ رسول الله e طريقاً آخر غير طريقهم ، فسلك ذات اليمين من أسفل مكة ، حتى بلغ ثنية المرار مهبط الحديبية ، فلما بلغها بركت ناقته ، فزجروها فلم تقم فقالوا : خلأت القصواء ، فقال : ما خلأت القصواء ، وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل ، ثم قال : والله لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ، ثم زجرها فوثبت ، فتقدم حتى نزل بالحديبية . وجاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة – وكانوا ناصحين لرسول الله e فأخبره أن قريشاً مستعدون لقتاله وصده عن البيت الحرام ، فأخبره رسول الله e أنه ما جاء إلا للعمرة ، وما جاء للقتال ، وأنه مستعد للهدنة والصلح ، ولكن إن أبت قريش إلا القتال فإنه يقاتلهم حتى تقطع عنقه ، أو ينفذ الله أمره .
ولما رجع بديل أبلغ ذلك قريشاً ، فأرسلوا مكرز بن حفص ، فقال له رسول الله e مثل ما قال لبديل ، فأرسلوا سيد الأحابيش : الحليس بن عكرمة ، فلما أشرف على المسلمين قال لهم رسول الله e : هذا من قوم يعظمون الهدي فابعثوه ، ففعلوا واستقبلوه يلبون ، فلما رأى الحليس ذلك قال : سبحان الله ، ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت ، أتحج لخم وجذام وحمير ، ويمنع عن البيت ابن عبد المطلب ؟ هلكت قريش ورب البيت ، إن القوم أتوا معتمرين ، فلما سمعت قريش منه ذلك قالوا : اجلس إنما أنت أعرابي ، ولا علم لك بالمكايد . ثم أرسلوا عروة بن مسعود الثقفي ، فجاء وكلم ، فقال له رسول الله e مثل ما قال لبديل . فقال : أي محمد ! أرأيت لو استأصلت قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك ؟ وإن تكن الأخرى ، أي الهزيمة بك ، فإني أرى حولك أوباشاً من الناس جديرون أن يتركوك ويفروا ، فقال له ابو بكر : امصص بظر اللات . أنحن نفر عنه ! فلم يستطع أن يرد على أبي بكر ، لإحسان أبي بكر إليه من قبل . وكان عروة يأخذ لحية النبي e حين يكلم ، فكان المغيرة بن شعبة يضرب يده بنعل السيف ويقول : أخر يدك عن لحية رسول الله e فقال له عروة : أي غدر ! ألست أسعى في غدرتك . وكان المغيرة ابن أخي عروة ، وكان قتل قوماً وأخذ أموالهم ، ثم جاء فأسلم . فلم يقبل منه رسول الله e إلا الإسلام ، وكان عروة يسعى في ذلك . فأشار بغدرته إلى هذة القضية . ورأى عروة تعظيم الصحابة للنبي e ، فلما رجع قال لقريش : أي قوم ! لقد وفدت على الملوك : على كسرى وقيصر والنجاشي ، والله ما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً ، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها وجهة وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه . وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له ، وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها . وخلال المفاوضات تسلل في الليل طائفة من شباب قريش الطائشين : سبعون أو ثمانون ، فهبطوا من جبل التنعيم إلى معسكر المسلمين ، وأرادوا بذلك القضاء على محاولات الصلح ، ولكن المسلمين ألقوا عليهم القبض ، ثم أطلقهم النبي e وعفا عنهم ، فكان له أثره على إلقاء الرعب في قلوبهم قريش ، وميلهم إلى الصلح ، وفي ذلك أنزل الله تعالى : ] وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مكة مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ [ . ( 48/ 24) أري رسول الله e في المنام ، وهو في المدينة، أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين ، فأخبر بذلك المسلمين ، وأخبر أنه يريد العمرة ، واستنفر الأعراب الذين حوله ، فأبطأوا ، وظنوا أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً ، وتخلصوا قائلين : شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا . وخرج رسول الله e يوم الاثنين غرة ذي القعدة سنة 6هـ ، في ألف وأربعمائة من المهاجرين والأنصار، وساق معه الهدي ، ليعلم الناس أنه لم يخرج محارباً بل معتمراً . فلما بلغ ذا الحليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم بالعمرة . ثم سار حتى بلغ عسفان ، فجاءه عينه ، وأخبره أن قريشاً مجمعون على القتال ، وصد المسلمين عن البيت الحرام ، وكانت قريش قد نزلوا بذي طوى ، وأرسلوا خالد بن الوليد في مائتي فارس إلى كراع الغميم ، قريباً من عسفان ، وليسد الطريق النافذ إلى مكة ، وجمعوا الأحابيش ليعينوهم ، فاستشار رسول الله e هل يهاجم على أهالي المجتمعين من الأحابيش ليعينوهم ، فاستشار رسول الله
هل يهاجم على أهالي المجتمعين من الأحابيش ، أو يقصد البيت ، فمن صده يقاتله ؟ فقال أبو بكر t : جئنا معتمرين ، ولا مقاتلين ، فمن حال بيننا وبين البيت قاتلناه ، فقبل النبي e هذا الرأي . ورأى خالد المسلمين في الصلاة الظهر ، وهم يركعون ويسجدون فقال : لقد كانوا على غرة ، لو كنا حملنا عليهم ، ثم قرر أن يهجم أثناء صلاة العصر ، فأنزل الله صلاة الخوف بين الظهر والعصر ، ففاتته الفرصة . وأخذ رسول الله e طريقاً آخر غير طريقهم ، فسلك ذات اليمين من أسفل مكة ، حتى بلغ ثنية المرار مهبط الحديبية ، فلما بلغها بركت ناقته ، فزجروها فلم تقم فقالوا : خلأت القصواء ، فقال : ما خلأت القصواء ، وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل ، ثم قال : والله لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ، ثم زجرها فوثبت ، فتقدم حتى نزل بالحديبية . وجاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة – وكانوا ناصحين لرسول الله e فأخبره أن قريشاً مستعدون لقتاله وصده عن البيت الحرام ، فأخبره رسول الله e أنه ما جاء إلا للعمرة ، وما جاء للقتال ، وأنه مستعد للهدنة والصلح ، ولكن إن أبت قريش إلا القتال فإنه يقاتلهم حتى تقطع عنقه ، أو ينفذ الله أمره .
وحينئذ قرر رسول الله e إرسال رسول إلى قريش يؤكد لهم أنه ما جاء إلا للعمرة ، فأرسل عثمان بن عفان t ، وأمره أيضاً أن يأتي المستضعفين من المؤمنين والمؤمنات بمكة ، فيبشرهم بقرب الفتح ، وأن الله مظهر دينه ، حتى لا يستخفي في مكة أحد بالإيمان . ودخل عثمان y في مكة في جوار أبان بن سعيد الأموي ، فبلغ الرسالة وعرضوا عليه أن يطوف بالبيت ، فأبى أن يطوف ورسول الله e ممنوع . وحبست قريش عثمان t ولعلهم أرادوا أن يتشاوروا فيما بينهم ، ثم يرسلوه مع الجواب – وشاع بين المسلمين أنه قتل . وقتل الرسول يعني الإعلان عن الحرب ، فلما سمع رسول الله e ذلك قال : لا نبرح حتى نناجز القوم ، ودعا الناس وهو تحت شجرة ، أن يبايعوه على القتال ، فثار الناس إليه ، وبايعوه – بحماس – على الموت ، وعلى أن لا يفروا ، وأخذ رسول الله e إحدى يديه بالأخرى ، وقال : هذه عن عثمان ، ولما انتهت البيعة جاء عثمان t . وأنزل الله في فضل هذه البيعة ] لَقَدْ رَضِيَ الله عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [ ( 48 : 18 ) . ومن هنا سميت هذه البيعة ببيعة الرضوان .
وسمعت قريش بهذه البيعة فداخلهم رعب عظيم ، وأسرعوا بإرسال سهيل بن عمرو لعقد الصلح ، فجاء وتكلم طويلاً حتى قبل منه رسول الله e الشروط الآتية : 1- أن رسول قريش eيرجع مع المسلمين هذا العام ، ولا يدخل مكة ويدخلها العام القابل . فيقيم بها ثلاثة أيام ، ولا يكون معه من السلاح إلا بالسيف في القراب . 2- توضع الحرب بين الفريقين عشر سنين . 3- من أراد أن يدخل في عهد محمد e دخل فيه ، ومن أراد أن يدخل في عهد قريش دخل فيه . 4- من التجأ من قريش على المسلمين يرده المسلمون إلى قريش ، ومن التجأ من المسلمين إلى قريش لا ترده قريش إلى المسلمين . ثم دعا علياً وأملى عليه أن يكتب بسم الله الرحمن الرحيم . فقال سهيل : ما ندري ما الرحمن . اكتب : باسمك اللهم . فأمره رسول الله e أن يكتب ذلك ، ثم أملى : هذا ما صالح عليه محمد رسول الله . فقال سهيل : لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ، ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : محمد بن عبدالله . فقال : أني رسول الله وإن كذبتموني . وأمر علياً أن يمحو ذلك ، ويكتب محمد بن عبدالله ، فامتنع علي عن المحو ، فمحاه e بيده الشريفة ، وكتبت نسختان ، نسخة لقريش ، ونسخة للمسلمين .
وبينما الكتاب يكتب جاء أبو جندل – وهو ابن سهيل بن عمرو ممثل قريش في هذا الصلح – وهو يحجل في قيوده ، فطلب سهيل رده ، فقال النبي e إنا لم نقض الكتاب بعد ، فقال : إذن لا أقاضيك ، فقال e :" فأجزه لي " قال : لا . وضرب سهيل أبا جندل ، وصاح أبو جندل : يا معشر المسلمين ! أرد إلى المشركين يفتنوني في ديني ؟ فقال e اصبر واحتسب ، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً " ، وأغرى عمر بن الخطاب أبا جندل ليقتل أباه سهيلاً فلم يفعل .
ولما فرغ رسول الله e من قضية الكتاب قال للمسلمين : قوموا فانحروا ، فما قام أحد . حتى قالها ثلاث مرات فما قام أحد ، فدخل على أم سلمة وذكر لها ذلك ، فأشارت أن يقوم هو فينحر بدنه ويحلق رأسه ، ولا يكلم أحداً ، ففعل ، وقد نحر جملاً لأبي جهل كان في أنفه برة من فضة ، ليغيظ به المشركين ، فلما رأى الناس قاموا فنحروا وحلقوا ، وكاد بعضهم يقتل بعضاً غماً ، وقد نحروا الإبل عن سبعة والبقرة عن سبعة .
وكان حزن المسلمين لسببين : الأول رجوعهم بغير عمرة ، والثاني عدم المساواة بين الطرفين . فالمسلمون يردون من جاء إليهم ، وقريش لا يردون ، فطمأنهم رسول الله e عن الأول بأنهم سوف يعتمرون العام القادم ، فالرؤيا صادقة ، وفي هذا الجزء من الصلح مراعاة لمشاعر الفريقين ، وطمأنهم عن الثاني بأن من ذهب منا إليهم فقد أبعده الله ، ومن جاءنا منهم فسيجعل الله له فرجاً ومخرجاً . وكان قوله eهذا مبنياً على نظره البعيد ، فإن جماعة من المسلمين لما تزل في الحبشة ، ولم يكن ينطبق عليهم هذا العهد ، فكان يمكن اللجوء إليهم للمحبوسين في مكة ، ولكن ظاهر العهد كان في صالح قريش ، فلما يزل له أثر شديد في أعماق مشاعر المسلمين ، حتى جاء عمر بن الخطاب ، وقال : يا رسول الله ! ألسنا على حق وهم على باطل ؟ قال : بلى . قال . أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟ قال : بلى . قال : ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم ؟ قال : يا ابن الخطاب ! إني رسول الله e . ولست أعصيه . وهو ناصري ولن يضيعني أبداً . ثم انطلق عمر متغيظاً إلى أبي بكر فقال له ما قال لرسول الله e ، وأجابه أبو بكر بما أجاب به رسول الله e . ثم قال لعمر : فاستمسك بغرزه حتى تموت ، فوالله إنه لعلى الحق . ثم أنزل الله – تعالى : ] إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً [ الآيات . فأرسل رسول الله eإلى عمر ، فأقرأه إياها فقال : يا رسول الله ! أو فتح هو ؟ قال : نعم فطابت نفسه ، ورجع . ثم ندم عمر على ما فرط منه ، فعمل لأجله أعمالاً : لم يزل يتصدق ويصوم ويصلي ويعتق حتى رجا الخير .
هذا الموقع يستخدم ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز ) للمساعدة في تخصيص المحتوى وتخصيص تجربتك والحفاظ على تسجيل دخولك إذا قمت بالتسجيل.
من خلال الاستمرار في استخدام هذا الموقع، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.