الفصل الخامس
سمعت "داميتا" طرقا على الباب فتسارعت ضربات قلبها فى صدرها وأسرعت تفتحه .
كان "كلايتون" واقفا على العتبة أجمل مما يمكن أن تتصوره . كان يرتدى حلة سهرة سترتها لامعة ، تبرز لون بشرته التى لوحتها الشمس وشعره الأسود ، أوشكت الشابة على الاغماء . همست:
- مساء الخير .
قال وعيناه تلمعان من الإعجاب والسرور :
- لقد ارتديت الثوب الوردى .... من أجلى .
أحست "داميتا" وكأنها "سندريلا" التى تحولت – بملابسها بفعل مربيتها الساحرة – إلى أميرة . باختصار لقد أصبحت فجأة فاتنة .
أطفأ "كلايتون" مصباح السقف وأمسك بيدها وقادها إلى الصالون ، ثم سألها :
- ما رأيك لو تناولنا العشاء فى الشرفة ؟ إن منظر ميناء سيدنى ساحر
وافقته بصوت منفعل :
- جميل جدا . هل نجحت فى الاتصال بـ "ديمون" ؟
- نعم .... نعم ومن المحتمل أن يلحق بنا فى خليج "نصف القمر" .
فتح الباب الزجاجى العريض المطل على الشرفة ، التى بدت وكأنها منطقة طبيعية استوائية مصغرة ، حيث أقيمت المائدة وفوقها شمعات مشتعلة .
كان الميناء يشكل هلالا من الأنوار على طول الشاطئ . وكأنه عقد من اللؤلؤ معروض على قطيفة سوداء .كانت المياه تترجرج بأمواج فضية . تلعثمت "داميتا" وهى تقول :
- لا أذكر فى حياتى أننى رأيت منظرا بهذه الروعة .
- إن ذلك المبنى هناك فى الأمام والذى يشبه الفراشة ما هو إلا مبنى الأوبرا الشهير فى سيدنى . وهذا المساء ستقدم أوبرا "عطيل" .... هل تحبين أن ترى العرض ؟ربما لا ... لسوء الحظ الناس لا يتقبلون المسرح الغنائى .
- لقد رأيت أوبرا "مدام بترفلاى" وإذا كانت الموسيقى قد أعجبتنى فإن شخصية السيدة اىلراشة بدت لى غير واقعية فى ذلك الوقت .
- يقال : إنها كانت تعيش فى "ناجازاكى " بـ اليابان وانهم حتى الان يزورون قبرها ، ولابد أن أعترف بأنها كانت هائمة فى الهواء ولم تطأ قدماها الأرض . ولكن اليابانيات مختلفات ، إنهن يخلصن قلبا وجسدا للرجل الذى يحببنه .. إن الحب عندهن عمل مقدس . أعتقد أنك لم تصلى فى عاطفتك إلى هذا الحد ....
- فعلا .
جلست "داميتا" على المقعد الذى قدمه لها . كان لديها بالفعل إحساس بأن مجرد وجود "كلايتون" ينقلها إلى آفاق بعيدة من الحب الذى لا يقاوم .
- وأنت هل تحب الأوبرا يا "كلايتون" ؟
- نعم ولكن الايقاع فيها بطئ بالنسبة لذوقى . إننا لن نذهب لمشاهدة أوبرا "عطيل" هذا المساء . ولكن اطمئنى فسنجد ما يشغلنا .
أحذ "كلايتون" مكانه أمام المائدة وفتح زجاجة عصير التفاح التى وضعوها أمامه . صب العصير الفوار فى كأسها وكأسه حيث تصاعدت فقاعات وردية من بين مكعبات الثلج .
- حديثنى يا "داميتا" عن مدرستك الدينية .هل كانت الأخوات الراهبات لطيفات معك ؟
- نعم ومخلصات للغاية . ولم أحس بنقص أى شئ بجوارهن .
- حقا لقد كنت معتقدا انك تربيت على الحياة القاسية ؟!
- إن الاخوات الراهبات صارمات وقاسيات , ولكن لو تصرفنا التصرف المناسب والمطلوب فإنهن يظهرن نيلا جميلا نحونا . هل تظن ان " لولا " كانت ستطمئن على هناك لو علمت اننى اعانى ؟
- لا طبعا , هل كنت تشعرين بالوحدة احيانا ؟
- لا ليس حقا فقد كان عندى الاخوات الصالحات . و"لولا " كانت تأتى كثيرا كلما امكنها ذلك .
ثم هناك أيضا الطالبات المقيمات الاخريات ,ولكنهن لم يشكلن اهمية كل شئ اختلف الان .
- هل لك أصدقاء .
- نعم مثل الكل . ولكنى كنت مشغولة جدا منذ خروجى من الداخلية , فقد قضيت ثلاث سنوات فى دراسة الهندسة ثم هناك مشروعات التخرج التى كنت اعمل فيها فى اثناء العطلات والتى شغلت كل وقتى وهذا لم يتح لي الوقت الكافى للمحافظة على علاقاتي.
- ولا حتى القليل من الوقت ؟
- ليس معنى هذا اننى ممن يكرهون البشر .
- حسنا ... لنستفد من فرصة وجودنا ما دام الحظ قد اسعدنى وبجواري امرأة مشغولة جدا ...
- لماذا كل هذه الاسئلة ؟
- اننى اريد ان اعرف ادق تفاصيل حياتك حتى أعوض الوقت الضائع بطريقة ما .
كان الليل جميلا مثل فراء مغناطيسي .. إن هذا الرجل له جمال متشكك وهو مسترخ امامها . والريف والشموع ونعومة تلك اللحظات . كل ذلك جعل قلبها يعيش فى عيد . قالت له :
- جاء الدور على لأسألك يا " كلايتون "
- ما الذى تأملين ان تعرفيه ؟ اخشى ان تصابى بخيبة الامل . لقد عشت حياة كئيبة .
- إن الصحف تدعى العكس .
- إن الزهور وجمالها يجتذبنى . وقد قلت لك ذلك من قبل . انا احب اشياء عديدة . الرياضة والمسرح والمتاحف والحفلات الموسيقية والناس عندما اعرفهم . ثم اننى اتمتع بعملى ... انا شخص ليس معقدا .. لماذا تضحكين ؟
- لأنك لا تعرف نفسك على الاطلاق . منذ ان تعرف عليك اقتنعت بأنك تعد من بين الرجال الاكثر تعقيدا الذين قابلتهم فى حياتى .
- هل تظنين ذلك حقا ؟
ابتسم ابتسامة صبيانية وقال :
- إننى سعيد جدا لأننى كنت اعتقد انك ستعتبريننى شخصا مبتذلا وعاديا اذا ما قورنت بـ " ديمون " ... انا فى نظر الاخرين الواحة التى يلجئون اليها بعد العاصفة الرملية .
نظرت اليه " داميتا " بعينين مستديرتين . ذلك الرجل الذى تعتبره شخصا موثوقا به . انها لا تهتم إذن بأنه ساحر مثل " ديمون " ذلك المغوى الذى يبدو عليه مظهر الطائش . اذا ما قارنته بـ " كلايتون " فإنها تعتبر الاخير مثل النار التى تدفئ المسافر التائه .
- كم هو رائع ان يعرف المرء اين يستريح بعد العاصفة يا " كلايتون "
- إن المغامرين يفضلون تذكر العاصفة اكثر من الواحة التى تستقبلهم وتعتنى بهم .
ذكرتها هذه الكلمات بنظرة الثقة التى ألقتها عليه تلك الشقراء التى رأتها عنده عندما اقتحمت عليه خلوته . انه رقيق جدا نحو الناس وهم يحترمونه جدا .
- هل أنت حانق على المحيطين بك ؟
- إننى معتاد رؤيتهم يتشتتون ومع ذلك أحب ان تعتبرينى فاتنا , هل تعتقدين انه يمكنك ان تصلى لهذه الدرجة ؟
- لست مضطرة الى بذل جهد كبير فى هذا الشأن . دع لى الوقت الكافى حتى يختفى كل ضيق وبعدها سأصل لهذه الدرجة ... درجة اعتبارك فاتنا .
ابتسم لها " كلايتون " ابتسامة مشوبة بالخيبة .
- لا شئ .. إن المرء دائما لا يجد الوقت الكافى . هذا كل ما هنالك .
انفتح باب الجناح على موظف يدفع نحوهما عربة محملة بأطباق مغطاة بمكبات على شكل أجراس فضية . عندما رأه " كلايتون " يصل أحس بمزيد من الاسترخاء . وكان وصوله قد رفع عن كاهله حملا ثقيلا .. طبعا حمل الاعتراف . هل لديه إذن سر ؟ تردد هذا السؤال على بالها .
- لقد فكرت انك ربما تحبين ان تتذوقى بعض ا لأطباق الاسترالية المميزة يا " داميتا "
- دعنى أخمن حبة قمح وفتلة صوف وشربة ماء .
قهقه " كلايتون " :
- هل يمكن ان تتصورى نوع الصلصة التى توضع على هذا الخليط ؟ لا ان لدينا سلطة المحار وفخذ خروف بالأناناس وكريمة سأدع لك اكتشاف اسرارها .
- أوه ... ان هذا يبدد عسر الهضم .
ولكن كل هذا كان مجرد كلام لأن " داميتا " وان كانت تتلذذ فإن ذهنها كان فى مكان اخر .
قص عليها " كلايتون " حكايات غريبة حتى ان وجهها اشتعل فضولا كلما تقدم اليل واحست انها اخف من الريشة . انها ستنفذ فى الحال لو طلب منها ان تلقى بنفسها من فوق الدرابزين وستشعر بمنتهى السعادة . صاح وقد اسعدته سعادتها :
- كم هى جميلة تلك الابتسامة !
- انه بسبب اعتدال مزاج يا " كلايتون " اننى لا استطيع ان اقاوم ذلك الذى لم يحدث لي منذ زمن بعيد .
قال لها بطريقة غامضة :
- لأننا توغلنا فى الحديقة السرية .
- هل هى حديقة فاخرة مثل تلك التى تحيط بنا ؟
اوه يا " كلايتون " إننى منجذبة اليه وكأننى مخدرة او منومة مغناطيسيا .
- أسف لأننى مضطر الى مخالفتك . إن الامر لا يتعلق على الاطلاق بالمغناطيسية وانما الجو الاسترالي . اعترفى على الاقل بأن هذا الجو شديد التأثر .
- إننى لا اطلب سوى ان اطير على جناحى السعادة .
- وما شعورك الان نحو الحب والزواج ؟
- انا اسفة لاننى صددتك فى تلك الليلة .
- لا تحملى هما فأنا الإهم دوافعك وانشغال بالك ثم إننى كنت متعجلا فى محاولة انتزاع اعتراف منك بانك تحبيننى مثلما احبك . اننى فى حياتى لم ارغب امرأة كما ارغبك الان بشرط ان تكونى مستعدة لمبادلتى نفس المشاعر . اذا كنت تحبيننى فقوليها الان والا فقولى بصراحة ., انك لا تريدننى يا " داميتا " فى الحال ودون تردد .. هيا اخبرينى .. هل تريدننى ام لا ؟
كيف يتوقع منها ان تستطيع الكلام وهى التى وصلت الى حالة فقد القدرة على التفكير ؟ ولكنه رأى فى عينيها السعادة العميقة , انها تحس برضاء تام لأنها استطاعت ان تؤثر فيه الى هذه الدرجة التى افقدته توازنه الى حد انه لم يعد يفكر فى شئ اخر سواها .
لقد ملأ فراغ حياتها بحضوره القوى وكل شئ غير محسوس اصبح شديد الحساسية . نعم ... لقد دخلت الحديقة السرية صاحت :
- نعم ... أريدك ... إنه شعور رائع .
لقد تفتحت حولها جميع زهور الحديقة السريرة ونشرت عبيرها الفواح .. إنها الان فى الفردوس . وقد عادت الى الحياة التى تساوي مئات الحيوات التى عاشتها . إن قبولها هذا الرجل الساحر هو الاستسلام للقوة والبهجة ولنور الكون . إنها تتقبل حياتها الجديدة بذراعين مفتوحين . لم يعد الكلام مفيدا , بل كان على كل منهما أن ينهل اكبر قدر من السعادة من عينى الاخر .
بدأت تحس بالتعب والرغبة فى النوم ولاحظ هو ذلك فصحبها إلى حجرتها حيث وسدها الفراش . قالت له بصوت ثقيل :
- " كلايتون " !
همس بصوت غير مسموع :
- نامى !
دار على عقبيه ثم وقف ليسألها :
- هل يمكننى ان افعل لك شيئا ؟
- هل سارت الامور كما تحب يا " كلايتون " ؟
- كما أحب انا , نعم نعم ... ولكن عليك ان تنامى فى سلام يا " داميتا " , وسنتقابل فى الصالون فى الساعة التاسعة من صباح الغد . خرج واغلق باب حجرتها عليها .
شدد " كلايتون " قبضته على الدرابزين حتى إن الخشب بدأ يتحرك ويهتز . كان يشعر بالالم . وكم هو جميل ان يتعذب . قال فى نفسه : إنه لا يستحق العذاب , أخذ يتأمل انوار الميناء البعيدة دون ان يلحظها , فقد كان شاردا يفكر فى عالم اخر , إنه يلوم نفسه لأنه كان انانيا الى درجة رهيبة , بل ظن أنه أجبر " داميتا " على الاعتراف رغما عنها , ولكنه كان مضطرا لأنه فى حياته لم يرغب شيئا مثلما أراد ان ينال حبها , كان عليه ان يتعامل مع تلك الفتاة الرقيقة الهشة , بما تحتاج اليه من رقة , ولكنه عاملها بوحشية . لماذ أصر وبإلحاح على ان تعترف له بحبها ؟ وكان عليه ان يتركها حتى تعترف من نفسها بذلك او لا تعترف إن كانت لا تحبه . لقد استغل سحر الأمسية والمناظر الرائعة ليجعلها تفصح عن شئ ربما لم ترغب فى أن تفصح عنه .
ومع ذلك فإن اعترافها اعطاه حرارة وانتعاشا ملأ رئتيه بالدفء . ربما كان الغد أسهل ... نعم ربما .
( نهاية الفصل الخامس )