النحو علم العربية

املي بالله

نائبة المدير العام
النحو علم العربية :

أطلق علماء اللغة على دراسة بنية اللغة من جوانبها الصوتية والصرفية والنحوية في التراث العربي اسمين اثنين ، هما النحو ، وعلم العربية ، ويرجع مصطلح النحو إلى القرن الثاني الهجري ، وظل مستخدما لوصف هذا المجال من مجالات البحث إلى يومنا هذا . لقد ُصنف كتاب سيبويه بأنه كتاب في النحو ، ووصفه أبو الطيب اللغوي (ت 351هـ) بأنه "قرآن النحو " كما وصف سيبويه بأنه " أعلم الناس بالنحو بعد الخليل " ( 1) ، ويضم النحو بهذا المعنى مجموعة من الدراسات التي تصنف في علم اللغة الحديث في إطار الأصوات وبناء الكلمة وبناء الجملة . إن سيبويه صاحب أقدم كتاب وصل إلينا في النحو العربي - لم يقسم كتابه إلى موضوعات كبرى متميزة ، وإنما اكتفى بحشد الأبواب الكثيرة متتابعة. لقد بدأ كتابه بقضية الإعراب والنقل منها إلى عدد من القضايا الخاصة ببناء الجملة ، وعندما تحول بعد ذلك إلى الأبواب الخاصة بالأبنية الصرفية وجد لزاما عليه أن يفسر بعض الأبنية في ضوء البحث الصوتي فجاءت الأبواب الخاصة بالأصوات في آخر كتابه. لم يضع سيبويه مصطلحات تميز في وضوح قطاعات الأصوات وبناء الكلمة وبناء الجملة ، فكل هذا يدخل عنده في مجال واحد هو مجال النحو.

وظل الباحثون في القرون الأولى للهجرة يستخدمون مصطلح النحو في أكثر الأحوال بهذا المعنى العام . يضم النحو في تعريف ابن جني (ت 391هـ) المجالات التالية : الإعراب ، التثنية ، الجمع ، التحقير ، التكسير ، الإضافة ، النسب ، التركيب ، وغير ذلك ( [1] ) . فالنحو يضم عند ابن جنى هذه الدراسات التي تصنف الآن في إطار بناء الكلمة إلى جانب ما يتعلق ببناء الجملة. ويتناول علم النحو عند أبي حيان الأندلسي " معرفة الأحكام للكلم العربية من جهة إفرادها ومن جهة تركيبها" ( [2] ) ، أي أنه يبحث بنية الكلمة المفردة وعلاقات الكلمات في الجملة .

وظل كثير من النحويين يعدون النحو شاملا لكل هذه الدراسات ، فالنحو عندهم يتناول كل ما يتعلق بالكلمة والجملة . لقد ألف ابن الحاجب (ت646هـ) كتاب " الكافية" في النحو ويتناول فيه القضايا الخاصة الإعراب وبناء الجملة بينما خصص لبناء الكلمة كتاباً آخر هو " الشافية" ولكنه على الرغم من هذا التقسيم ظل ابن الحاجب يعد " التصريف " قسماً من النحو لا قسيماً له ( [3] ) .

وهناك مؤلفون آخرون استخدموا كلمة النحو بمدلول أضيق ، فقصـــــــروا

استخدام هذه الكلمة على البحث في بناء الجملة ، وبهذا المعنى المستقر للمصطلح في القرون المتأخرة للحضارة العربية الإسلامية ( [4] ) . وهناك مصطلح آخر وصف به البحث في بنية اللغة ، وهو مصطلح " العربية" أو " علم العربية " . لقد وصل إلينا المصطلحات في مؤلفات القرن الرابع الهجري، فابن النديم وابن فارس يستخدمان مصطلح العربية بمعنى النحو. فعندما نوقشت قضية أولية التأليف في النحو نجد عندهما العبارة التالية : "أول من وضع العربية ( [5] ) ... " وظل استخدام هذين المصطلحين في كتب المشارقة في القرون التالية يمثل ظاهرة فردية محددة ، على نحو ما نجد في مؤلفات ابن الأنباري (ت 577 هـ) ، ولكن المغاربة والأندلسيين كانوا يفضلون وصف ذلك التخصص بأنه " علم العربية ".

لقد ذكر أبو البركات بن الأنباري مصطلح العربية في مواضع كثيرة بمعنى النحو كما جاء هذا المصطلح في تراجم كثير من العلماء ، فعند يونس بن حبيب يلتقي " طلبة العربية وفصحاء الاعراب " ( [6] ) . والزبيدي " أخذ علم العربية من أبي عمرو بن العلاء وعبد الله بن اسحق الحضرمي والخليل بن أحمد " ( [7] ) . كما وصف ابن الأنباري كتابه الإنصاف بأنه " أول كتاب صنف في علم العربية " ( [8] ) حول القضايا الخلافية ، وسمي ابن الأنباري أحد كتبه في النحو " أسرار العربية ". ولكن استخدام مصطلحي العربية وعلم العربية بمعنى النحو يعد ظاهرة محدودة الانتشار عند المشارقة مثل ابن الأنباري.

أما في المغرب والأندلس فهناك نصوص كثيرة توضح تفضيلهم لمصطلح "العربية" ، ففي القرن الرابع الهجري ذكر الزبيدي (ت 379هـ) في تراجمه لكثير من علماء الأندلس المغرب مصطلح " العربية" بمعنى النحو. فإذا كان المشارقة قد كتبوا عن " النحو " و " اللغة " ، فإن الزبيدي ذكر في مواضع كثيرة " العربية " و " اللغة " ( [9] ) . و " العربية " أو " علم العربية" عند الزبيدي مصطلحان دارا كثيراً في مؤلفاته بمعنى النحو ( [10] ) . وليس استخدام مصطلحي " العربية " و "علم العربية " عند الزبيدي سمة فردية خاصة ، فالمصطلحان وردا في كتب مغربية وأندلسية كثيرة ( [11] ) ، كما وردا في تراجم أندلسية تناقلتها كتب الطبقات ( [12] ) . وهناك مواضع كثيرة عند ابن خلدون توضح أن المغاربة والأندلسيين كانوا قد اعتادوا حتى عصره التعبير عن النحو بمصطلح " العربية " أو " علم العربية ". لقد وصف ابن خلدون كتاب سيبويه بأنه في علم العربية وأن ألفية ابن مالك في العربية أيضا ( [13] ) . واذا كان ابن خالويه ( ت 270هـ) وهو أحد علماء المشرق قد استخدم عبارة " أهل صناعة النحو " ، فإن ابن خلدون وهو مغربي قد ذكر في نفس المعنى عبارة : " أهل صناعة العربية " ( [14] ) . وقد أطلق ابن خلدون على القواعد النحوية مصطلحين مترادفين هما : " قوانين العربية " و " القوانين النحوية" ( [15] ) . ومن هذا كله يتضح أن المغاربة والأندلسيين كانوا يستخدمون مصطلح العربية في الوقت الذي كان فيه المشارقة يميلون إلى مصطلح النحو.

ظل النحو عند المشارقة أو علم العربية عند المغاربة يضم الدراسات الخاصة ببنية اللغة من جوانبها المختلفة . وعندما ألف المازني (ت 249هـ) كتابه "التصريف " لم يكن البحث في بناء الكملة إلا جزءاً من النحو بالمعنى الشامل . لم يضع سيبويه اصطلاحا مستقلا للعلم الذي يبحث بناء الكلمة ، ويبدو أن المازني من أوائل من خصصوا للأبنية الصرفية كتبا مستقلة ، وكتابه "التصريف" أقدم كتاب مستقل كامل وصل إلينا في الأبنية الصرفية وقد حدد ابن جنى (ت 391هـ) مجال البحث في التصريف بأنه معرفة " أصول كلام العرب من الزوائد الداخلة عليه " وأن التصريف هو الأساس الذي تقوم عليه معرفة الاشتقاق ( [16] ) ، ولم يكن التصريف عند ابن جني إلا جزءا من النحو . وألف ابن عصفور الأندلسي (ت 669هـ) في بنية الكلمة كتابه "الممتع في التصريف" ، والتصريف عنده جزء من البحث في " علم العربية" ( [17] ) . وصرح الاستراباذي (ت 681هـ) بأن التصريف جزء من أجزاء النحو بلا خلاف من أهل الصناعة ( [18] ) .

أما مصطلح " الصرف" الذي استقر في الاستخدام المدرسي بعد ذلك فهو اصطلاح متأخر نسبيا . فالسكاكي ( ت 617هـ) استخدم مصطلح الصرف في حديثه عن الأحكام الخاصة ببنية الكلمة ( [19] ) ، وبهذا المعنى ذكر طاشكبري زاده علم الصرف ( [20] ) . ويلاحظ عند هؤلاء المؤلفين المتأخرين أن الصرف عندهم ليس جزءا من النحو ، بل هو قسيم النحو . وهكذا استقر مجال علم النحو عندهم باعتبار أنه دراسة الإعراب وبناء الجملة في مقابل الصرف الذي يتناول بنية الكلمة.


-------------------------------------------------------------

1 ) مراتب النحويين لأبي الطيب اللغوي - ص 65.
( [1] ) الخصائص لابن جنى 1-34 ، وتعريف ابن جنى للنحو : " النحو هو سمت كلام العرب في تصرفه من إعراب وغيره كالتثنية والجمع والتحقير والتكسير والإضافة والنسب والتركيب وغير ذلك ليلحق مَنْ ليس مِنْ أهل اللغة العربية بأهلها في الفصاحة.
( [2] ) البحر المحيط لأبي حيان 1/5-6 . وانظر كتاب : أبو حيان النحوي لخديجة الحديثي ، ص 313.
( [3] ) انظر : شرح الشافية للاستراباذي ( ط. محيي الدين ، 1975 ، تعريف النحو عند الأشموني " " العلم المستخرج للمقاييس المستنبطة من استقراء كلام العرب الموصلة إلى معرفة أحكام أجزائه التي ائتلف منها ، أنظر : شرح الأشموني على الألفية 1/5 ، ط النهضة بالقاهرة 1955 ، ولكن مضمون البحث النحوي كما يتضح من الألفية عبارة عن أحكام الجملة والكلمة ، وقد ذكر التهانوي التعريف التالي للنحو : " علم يعرف به كيفية التركيب العربي صحة وسقاما وكيفية ما يتعلق بالألفاظ من حيث وقوعها فيه " ، ( انظر : كشاف اصطلاحات الفنون ، مؤلف 1158هـ ، 1/23).
( [4] ) قارن أيضا تعريفات النحو عند أبي حيان النحوي في الإدراك ط استانبول 1309هـ ص 66، والبحر المحيط 1/5-6 ، وعند ابن خلدون في المقدمة 1254.
( [5] ) (نزهة الالباء ص 47). انظر الصاحبي في فقه اللغة لابن فارس (ط بيروت) ص 38، 66، والفهرست لابن النديم (ط فلوجيل ) ص 39 ، ونفس العبارة في نزهة الألباء (ط القاهرة د.ت) ص 4.
( [6] ) نزهة الالباء ص 47.
( [7] ) نزهة الالباء ص 205.
( [8] ) انظر مقدمة كتاب " الإنصاف في مسائل الخلاف " (ط القاهرة 61) ، ص 5 .
( [9] ) انظر العبارات التالية للزبيدي في "طبقات النحويين واللغويين " حيث نجد التقابل بين "(علم) العربية " بمعنى النحو و " (علم) اللغة " بمعنى بحث المفردات :
- " كان يستفتي في الكلمة من اللغة والمسألة من العربية ، ص 281.
- " كان من أهل العلم بالعربية واللغة " ، ص 287.
- " جلب إلى الأندلس علماً كثيراً من الشعر والغريب والعربية والأخبار ، ص 289.
- " كان أستاذاً في علم العربية واللغة ، ص 294.
- " من أهل العلم بالعربية والحفظ للغة " ص 209 ، وكذلك ص 312.
- " كان مؤدبا عالما بالعربية ، وكان يميل إلى مذهب الكوفيين " ، ص 323.
- " كان بصيراً بالعربية حاذقا فيها ، وكان قد طالع كتاب سيبويه ونظر فيه " ، ص 321.
وهناك مواضع كثيرة مماثلة أخرى.
( [10] ) وصل إلينا كتاب نحوي للزبيدي في مخطوطين اثنين :
الأول - مخطوط مكتبة الجامع المقدس بصنعاء 71 نحو عنوانه فيها : " الواضح في علم العربية" ، ومنه مصورة في دار الكتب بالقاهرة . والثاني - مخطوط الاسكوريال 2/197 وعنوانه فيها: " الواضح في النحو " ( انظر : لحن العامة للزبيدي ، مقدمة : عبد العزيز مطر8).
( [11] ) ووصف ابن عصفور ( ت 669) التصريف بأنه من " علم العربية " ( انظر : الممتع 1/27) باعتبار أن علم العربية يضم كل ما يتعلق ببناء الجملة وبناء الكلمة.
( [12] ) وردت كلمة " العربية " في تراجم أندلسية نقلها السيوطي في بغية الوعاة 1/7 ، 1/8 ، 1/9.
( [13] ) مقدمة ابن خلدون 1231.
( [14] ) قارن : الحجة في القراءات السبع ص 38 ، مقدمة ابن خلدون 1231، 1278.
( [15] ) مقدمة ابن خلدون 1248.
( [16] ) انظر المنصف شرح التصريف 1/2.
( [17] ) الممتع 1/27.
( [18] ) شرح الشافية ( تحقيق : محيي الدين ، القاهرة 1939) 1/6.
( [19] ) مفتاح العلوم للسكاكي ص 3 ، وأحمد مطلوب : البلاغة عند السكاكي (بغداد 1964) ص 65.
( [20] ) مفتاح السعادة 1/99.
 
عودة
أعلى