المعلم القائد ودورة في تحقيق الجودة

املي بالله

نائبة المدير العام
المعلم القائد ودوره في تحقيق الجودة المدرسية



لقد تغيرت حقيقة وضعية المعلم هذه الأيام، حيث فقد مكانته المهنية واستقلاليته أيضاً، ومكانته الاجتماعية، وذلك عندما فقد السيطرة على المحتوى الذي يدرسه، وأخذ يتحول عن الرسالة التربوية التثقيفية إلى مجال إدارة العملية التعليمية، وعندما قبل بأوصاف مثل الميسر والمنسق والمدير، والموزع والموصل. فدوره اقتصر على أداءات محددة له سلفاً، وبالتالي فقد حريته وقدرته على رؤية العالم من حوله، والنظر فيما يقوم به من أعمال وفي تدبر نتائجها.

ويحتدم النقاش بين أنصار الحداثة، وما بعد الحداثة فيما يتعلق بالمعلم، وكيف أن المعلم قد تحول من مثقف يناصر التغيير إلى خبير فني مهمته إصلاح سلوك التلاميذ وتعديله وفق قوانين معدة سلفاً تبرعت بصياغتها المدرسة السلوكية، في حين أن مدرسة ما بعد الحداثة ترى أن مهمة المعلم دفع التلاميذ إلى إثارة التساؤلات حول المعرفة وليس مجرد اكتسابها، وتشجيع التلاميذ على تكوين معرفة جديدة من حولهم.

فالمعلم الناجح هو المعلم الفعال الذي تتحدد فعاليته بمستوى أدائه في مختلف المواقف التي يتطلبها عمله، وهو القادر على فرز البدائل واختيار ما يجعل تدريسه ناجحاً، فالعملية التعليمية هنا تركز على المهارات بدل المحتوى، حيث أصبح الطالب يتحمل جزءاً لا بأس به من مسؤولية التعلم، كما أن المعلم –كناقل لمحتوى التعلم- عليه أن يستغل الحديث من التكنولوجيا ليعلم التلاميذ كيف يتعلمون.

فالنظرة الحديثة من العولمة للمعلم ترى أن دور المعلم ليس نقل المعرفة فحسب، وإنما تعليم الطلاب نقد المعرفة، والتشجيع على تفسيرها، وإقامة حوار مع أعلامها من أجل التوصل إلى نقاط تفيد الإنسانية عامة. ومعنى هذا أن التدبر والتفكير والتأويل هي المفاتيح الأساسية لدور المعلم في عصر العولمة. فالصورة التي يطرحها الفكر التربوي للمعلم هي صورة المعلم المتدبر التي تستمد ملامحها من المدرسة النقدية، والقادر على إعادة قراءة الواقع من حوله، وتقديم رؤية نقدية جديدة لمشكلاته وقضاياه المتغيرة، وهي المدخل الأساسي لتطوير التعليم إذا ما أردنا أن نصمد في مواجهة عصر العولمة وما بعد الحداثة.

واذا حولنا وضع اصبعنا على الجرح الدامي حين يبين أن التعليم يعاني كماً وكيفاً من مشاكل عديدة، نبين أن عملية الإصلاح التعليمي تبدأ من المعلم المتدبر القادر على كشف التناقض بين الخطاب السياسي والواقع. يستطرد نصار (2005) في الحديث عن المعلم حتى يصل إلى مصطلح التفكيك، فيبين أنه مصطلح صيغ في أواخر الستينيات، يعبر به عن طريقة لقراءة النص، تركز على معانيه المتعددة بدلاً من البحث عن معنى واحد صحيح له، أو عن رسالة واحدة يحملها، وبالتالي فإن القراءة التفكيكية تعمد الإصغاء إلى مجمل القوى المتصارعة للدلالات والإشارات التي يحملها النصّ من خلال التمركز بين التناقضات الداخلية وفي ثغرات النص وعتماته. ثم يظهر أن التفكيك يختلف عن التحليل أو القراءة العميقة للنّص، فهو لا يسعى إلى التحليل وإنما يحاول أن يكشف المسكوت عنه، ويعمل على إظهار كيف أن النص غارق في حالة من الشك وعدم التماسك والتناقض. وهذا المبدأ ينطبق على التربية ويصلح لإعداد المعلم في خطاب ما بعد الحداثة (104-105).

من هنا تولي دراسات التغيير والإصلاح التربوي أهمية قصوى للقيادة، في كافة مستوياتها، حيث تؤكد لما للمعلم المركز للموضوع من دور أساس في ممارسة الدور القيادي مع نظرائه من المعلمين، وهو الموجه الأول على مستوى القسم أو الموضوع الدراسي المحدد بما يخدم رؤية وأهداف المدرسة في تأسيس التعليم والتعلم، ويقلل من أسطورة القائد الواحد للتغيير والإصلاح والمتمثل في شخص فرد من أفراد التنظيم (سرجوباني، 2002(.

ويتأسس دور مركز الموضوع التعليمي على صنع التماسك بين كل من أهداف المدرسة ليرسم سياستها على مستوى الموضوع المحدد، ويوجه كل من عملية التخطيط والتنفيذ ويتابع مدى النجاح القائم في هذا الباب، ويحدد وسائل القياس والتقويم وسبل النهوض، بما يتماشى مع مبدأ المساءلة الدائمة لمدى العمل وفق المعايير المشتركة وتحقيق الغايات المرجوة؛ ومن الأدوار القيادية المنوطة به، توحيد المجموعة حول الرؤية والأهداف والإسهام في بناء الثقافة التنظيمية المؤسسة والداعمة والدافعة لتحقيق هذه الأهداف، بحيث يفوّض المعلمين ببعض وسائل السلطة الممنوحة له ويساعدهم في استخدام هذه السلطة بما يخدم الرؤية والأهداف المدرسية، ومن أهم ما يعتمد عليه التفويض هو الثقة، فبدون توفر الثقة لا يتوفق القائد في قيادته ودفعه الآخرين لتحقيق الانجازات.



اذاً يقوم الدور الأساس للمركز على تحديد الأهداف على مستوى الموضوع بما يتماشى مع الرؤية والأهداف المدرسية، يوحّد الطاقات، ويصنع التماسك، ويستثير القدرات من خلال تنمية الثقة والالتفاف حول غايات جماعية في مستوى الموضوع، والقيادة في هذا المستوى هي القدرة على إرساء قواعد العمل الجماعي، وبناء المعرفة الجماعية والشراكية، وتشير أبحاث أجراها هوبكنز وزملائه (Hopkins et al, 1996:177) والتي تدعم مبدأ الشراكة في العمل، وتؤكد أنه كلما زادت الشراكة والجماعية في العمل تضاعفت النتائج، وان المدارس التقدمية هي التي استطاعت بناء قاعدة متينة للعمل الجماعي وتوحيد الجهود في سبيل الأهداف المشتركة، القاعدة التي تدعم التمهّن، والمشاركة، والدعم المتبادل والمساعدة الدائمة في حل المشاكل.



كافة المعلمون قادة تربويون

تتأسس قيادة المعلم على مدى توزيع الصلاحيات والقوة في مستوى التنظيم المدرسي، ومدى الانتقال من القيادة الهرمية الفوقية إلى القيادة الجماعية، بحيث تتوزع الصلاحيات وتمنح صلاحية التعليم والتعلم والقياس والتقويم إلى المعلمين في ظل شرط المساءلة الدائمة، ولكي تتعمق قيادة المعلم من الضرورة بمكان أن تشحن بكل من الثقة والدعم، بحيث أن هناك علاقة مباشرة بين مدى تعميق الأهداف المشتركة والشراكة بين المعلمين والتفافهم حول الأهداف المدرسية وبين تحقيق الجودة والنجاح، الشراكة التي تشكل الجذور لتوحيد الطاقات البشرية نحو تحقيق الغايات، وتتوحد هذه الطاقات بفعل الثقة والقيم التنظيمية والتماسك نحو الغايات من جهة، وتوسيع دائرة الحرية في العمل على مستوى الوحدة الصفية.



ومضاعفة قيادة المعلم تعتمد على القيم، والأهداف المشتركة والقدرة على انتهاج الأفعال، فالنتائج تبرر المقدمات والسيرورات، ولقد أطلق باحث التربية ادموندز (Edmonds, 1970) مقولته: كافة الطلاب يستطيعون التعلم وبعد ثلاثون عاماً تلته مقولة بارث (Barth, 2000) والمؤسسة على قاعدة من الأبحاث أجراها: كل المعلمون يستطيعون القيادة ونحن نضيف أن على كل المعلمون القيادة، فالمدارس التي تتأسس على الاعتقاد ان كافة الطلاب يتعلمون، إذا كافة المعلمين فيها يقودون لما فيه مصلحة المدرسة التقدمية وتحقيقاً لأهدافها المنبعثة بفعل التوجه التربوي والقيم والأخلاق الضميرية، وتدعيم قيادة المعلم يتأتى من خلال تطبيع مهنيته بما يتماشى مع أولويات المدرسة وأهدافها، والقيادة نحو التماسك وبناء أهليات مهنية للتعليم والتعلّم بين المعلمين أنفسهم، بما يقود إلى تقدم المستوى المدرسي والصفي نحو الجودة والنجاعة (Harris, 2000, 2002a, 2002b)،



ويتأسس النجاح في قيادة الجودة على كل من عمليتي التعليم والتعلّم والمشروط على المستوى المدرسي والصفي بمدى دفع ودعم الإصلاح والجودة، وبعض هذه الشروط هي هوية المدرسة، وشروطها الداخلية، ورؤيتها وأهدافها وأولوياتها، وتسيير مواردها بما يدعم أولوياتها، وإذا كان المبنى الداخلي للمدرسة يدعم كل من التمهّن والتطور والتغيير، فالمعلم وحده لا يصنع التغيير إذا لم تتوفر في الفضاء المدرسي شروط لصنع التغيير والجودة، وهي مما أسلفناه، من وضوح الرؤية والأهداف، وتحديد الأولويات وصنع التماسك والأهليات التنظيمية والمساءلة الدائمة لمدى النجاح في الوصول وتحقيق الأهداف المرجوة.



والمعلم القائد هو مثال في سلوكه وردود فعله ويشكل المرجعية للمبادرة والتقليد الخفي من قبل الطلاب والنظراء، فدعمه الدائم لطلابه وشحنه لقدراتهم، وتنميته واعترافه بتميزهم ينمي لديهم الإبداع، والتغيير بذاته يرافقه الضغط والتخوف لدى البعض، عليه فان الدعم الاجتماعي والعاطفي والنفسي حاجة لدى بعض المعلمين، ونشير هنا إلى أربعة أبعاد لدور المعلم في قيادة الجودة المدرسية وهي:

• البعد الأول لدور المعلم القيادي- يشكل الطريقة التي يترجم فيها المعلمين مبادئ الإصلاح المدرسي إلى آليات عمل وسلوكيات تعليمية في مستوى حجرة الصف، وصنع التماسك بين مبادئ المدرسة والنشاطات الصفية هو مهمة يتفرد فيها المعلم، وتحسم مدى انتمائه وانخراطه في تحقيق أهداف المدرسة وأولوياتها.

• البعد الثاني لدور المعلم القيادي- يتأسس على التفويض ومنح السلطة للمعلمين في قيادة التغيير، أو ملكية خاصة على بعض الإصلاحات والمبادرات. وهو ما تنميه القيادة الجماعية للمعلمين والمسؤولية المشتركة نحو النهوض بالمدرسة، والعمل مع الزملاء لتحقيق سبل النهوض بالمدرسة، يتحقق من خلال الانتماء من جهة وقيادة الآخرين وصنع التماسك لتوحيد الطاقات نحو الأهداف المشتركة.

• البعد الثالث لدور المعلم القيادي- يشكل المعلم دور الوسيط في قيادة الجودة المدرسية والتأسيس لها، وهو المترجم لأولوياتها وأهدافها في سلوكه ونشاطه ولغته، ويعمل على تكريس الطاقات البشرية منها والمادية الخارجية كسبل لتحقيق الغايات المشتركة.

• البعد الرابع لدور المعلم القيادي- وهو الأهم على حد اعتقادنا وبما تدعمه الأبحاث التربوية(*)، التأسيس لعلاقات وطيدة من النظراء من المعلمون بهدف تنمية التفكير والتعلّم والبحث المشترك لتحقيق الجودة المدرسية.



مما تقدم نروح إلى نتيجة مفادها، أن التنمية والتطور المهني للمعلم، يزيد من نجاح المعلم الفرد وينعكس على نظرائه في شرط العمل الجماعي والمشاركة المهنية في التخطيط والتنفيذ والتقييم، بما يحتم تحقيق الجودة في التعليم والتعلّم، والمدرسة التي تعمل على بناء عمالة مهنيين وطاقم يتماثل أما المسؤوليات المنوطة به، وعلى المستوى العام، تعميق المتابعة، وتقييم الأداء، وتحديد ووضوح الأهداف بما يلتقي مع المستوى الأولي من الدعم للتوجيه، والتدريب والتنمية من قبل المعلمين القادة لزملائهم ذات الحاجة إلى المعرفة التطبيقية لنجاح التعليم والتعلّم، وتعميق الشراكة والعمل الجماعي والالتفاف حول الأهداف المشتركة، مهام لا بد لها من قادة معلمين للنهوض بها.

خلاصة

مما تقدم نرى تتبعنا لمدى الأهمية والقوة التنظيمية الكامنة في بناء لغة الحوار والشراكة بين كل من الطلاب والمعلمين، وتعزيز التعدد والتماثل، وخلق القيادات التنظيمية وتعظيم أدوراها والمهام الملقاة على عاتقها، بما يدفعها إلى التحرك الهادف، كما وأشرنا إلى أهمية بناء الهوية المدرسية لما لها من دلالات ثقافية وتنظيمية، وهو ما يتأتى من خلال تنمية معايير موحدة وانتهاج المساءلة الدائمة في مستوى المدرسة والصف المدرسي، وهو ما يزيد من الالتفاف الجمعي حول الأهداف والغايات المنبثقة عن إرادة وفعل التغيير وتنمية الجودة فك من التعليم والتعليم.
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
عودة
أعلى