سـSARAـاره
من الاعضاء المؤسسين
قصة اسير فلسطيني مع المخدر ..لذوي القلوب القوية
مع بداية دخولي للنقب و مع غروب شمس اليوم الأول في عمق الصحراء و مع حلول الليل
بدأ الألم يضرب أعماقي… لأول مرَّة أواجه ألماً من هذا النوع في حياتي … مغص شديد
في البطن و كأنه نصال حادّ ينغرس أسفل بطني … شعر الشباب بألمي فتوجّهوا إلى
الجنود لاستدعاء الممرِّض … بعد ساعتين من الإلحاح و الصراخ حضر الممرض … ألقى
بنظرات حاقدة عن بُعد … أرجع البصر على حقيبته … أعطى الشباب حبتين أكامول
ثم انصرف … و لكن دون جدوى ...
ليلة اليوم الثالث هاجمني الألم و المغص الشديد بكل ضراوة … لم تُفلح الاستغاثات
و لم تجد أي أُذن صاغية و لم ينم الشباب في الخيمة معي و وقفوا على باب الخيمة
يصرخون و يُنادون و يلتمسون من يُساعد في استدعاء الممرّض أو طبيب المعتقل …
كان الجواب الجاهز : غداً صباحاً … لا يوجد طبيب اليوم … لا توجد قوة كافية لهذه المهمة …
كان الهوس الأمني يفرض عليهم قوّة كبيرة كي تتمكّن من سحب الأسير المريض من الخيمة
إلى عيادة المعتقل .
في الصباح قرَّر الشباب إخراجي إلى العيادة مهما كلَّف الثمن … حملوني إلى باب الخيمة
و أجلسوني على كرسي و شرعوا بالمناداة و الصراخ كي نشعرهم بأن الأمر خطير و أن
الحالة طارئة و لا بدّ من الاستجابة الفوريّة … أنا من جانبي و عندما حضر الجندي المناوب
حملت في يدي كمية من حبّات الدواء و هدّدت ببلعها دفعة واحدة و أشعرته بتحمّل المسئولية
إن حصل لي أي مكروه … و تحت وابلٍ من التهديد و الوعيد حضرت مجموعة من الجنود بكامل
عتادها العسكري … شرّطوا أن أسير وحدي دون حمّالة أو أي مساعدة … وافقت على هذا
رغم صعوبة الأمر و سرت برفقتهم كمن يُساق إلى الموت و لكنه موت لا بدّ منه … لم تحتمل
قدماي السير طويلاً … زاغت عيناي فوقعت على الأرض … على الفور جاء الممرّض فوضع
إبرة المغذي في يدي … نسي فك الحبل المطاطي الذي يشد على اليد كي يبرز الشريان
و يسهّل عملية إدخال الإبرة … نسيه فتجمّع الدم و الدواء تحت الجلد .
بعد عناءٍ طويل و سفر شاق وصلنا العيادة … لم يكن فيها طبيب فانتظرت ساعتين و الألم
يضرب بطني بكلّ نصاله … أخيراً و بعد وقت مرّ و كأنه دهر وصل الطبيب فقرّر تحويلي
إلى المشفى … كبّلوني من يدي و رجلي ثم سرت معهم إلى سيارة "البوسطة" حيث
سافرت بي إلى مشفى "سروكا" .
بداية كان الاستقبال رائعاً … مشفى محترم فيه خدمات طبية جيدة … هكذا خُيل لي حيث
نظافة المكان و حُسن الإدارة و النظام و ترتيب ظاهر و فن راقِ ظاهر للعيان … الهدوء
و الرتابة و روعة الاستقبال … كنت بطل الفيلم حيث إن حولي خمسة جنود مرافقين كالظلّ
و أسلحتهم مشرّعة نحوي … و عيون روّاد المشفى تُرسل نظراتها بالتعجب و الاستغراب …
الكلّ ينظر إلي و أنا لا أنظر إلا إلى ألمي الذي يزداد شدّة و عنفواناً .
قادوني حيث عيادة الطبيب … ألقوا بي على سرير الفحص … كشف عن بطني
وضع يديه بصورة عصبية … كان كمن يلمس جيفة … التقزّز و الامتعاض رسم نفسه
على وجهه بكلّ وضوح … عاد إلى طاولته و أخذ يكتب … سألته بالإنجليزية … تجاهل سؤالي …
سألت ثانية و ثالثة و رابعة… أجاب باقتضاب شديد … الزائدة الدودية ، تحتاج إلى عملية فوراً …
طلبت استشارة طبيبي … الاتصال التلفوني … رفضوا بشكلٍ قاطع … طلبت أن يتصل
هو كي يطلّع من طبيبي على ملفي الطبّي و يعرف بعض الأمور التي لا بدّ من معرفتها
المسبقة عن أحوالي الطبية … رفض و أظهر الضجر و الغضب .
طلبت فك قيودي طالما أني سأرتبط بقيود المخدّر و قوانين غرفة العمليات عدا عن وجود
طاقم حراسة بكامل عتاده … خمسة من الجنود المدجّجين يُحيطونني برعايتهم الأمنية و
أسلحتهم الوديعة !
أدخلوني غرفة لتحضيري للعملية بعد ساعتين أو ثلاثة … رأيت امرأة تخرج من غرفة
العمليات وجهها مستبشر و علامات الراحة بادية في عينيها … تفاءلت و انشرح صدري
و لكني سرعان ما اجتاحتني الهواجس و الظنون السوداء … كيف يجتمع الطب و الدواء
مع هذا السلاح و هذه الأحقاد … هدّأت نفسي و حاولت تطمينها … العلاج لا يخضع لمعادلات
الصراع ثم إن أصحاب المهن الطبية يقسمون يمين المهنة … لطفك يا رب .
دخل طبيب بوجه عابس متجّهم … تناولَني بنظراته و كأنه يصفعني بها … سألته ملاطفاً …
لم تلامس ملاطفاتي أذنه … أمعن في تجاهلي … سألت : هل التخدير موضعي أم كلّي … لم يُجب .
نقلوني إلى غرفة العمليات … وجدت نفس الطبيب … سحنة روسية واضحة من مرتزقة
تلك البلاد النائية … بدأ العمل بربط رجليَّ في طاولة العملية … طلبت فك قيودي …
الرؤوس تتحرك بالرفض … تقدّم أحد الجنود لفكّها فرفض الطبيب … عجباً الطبيب يأخذ
دور الأمن و جندي القهر و القمع … استمر في تربيطي بكل شدّة و إحكام … و أنا أتساءل :
لماذا كلّ هذا إذا كنت سأدخل بعد قليل في رباط التخدير و الغياب التام عن كل هذه الأشكال ؟ …
ثم انتقل إلى يدي المكبلتين … ألصقهما بجسدي و لفّّّهما به بأربطته الطويلة .
كنت أوّل مرَّة أدخل فيها عملية … فتساءلت : لماذا كل هذا التربيط ؟ ردّ عليّ بالمسبّات
التي لم أفقه معناها على وجه التحديد … كان يسب بالروسية و العبرية الركيكة …
حاولت تلطيف الأجواء كي أرى على وجهه ابتسامة علّها تخفِّف قليلاً من هذا الإرهاب
النفسي الذي فرضوه عليّ … ردّ على ملاطفاتي بالغضب العارم و المزيد من المسبّات …
أيقنت أن في جعبة هذا الطبيب شراً مستطيراً … توقّعت أموراً كثيرة و لكني لم أتوقع
ما حدث بالفعل … لا يخطر ما فعله على قلب بشر و لا قلب ذئب من ذئاب الصحاري الضارية .
انتقل إلى فمي .. سحب لساني بقسوة بالغة .. ألصقه بسقف حلقي ثم وضع
حديدة تحت لساني … ضرب بكمّامة على أنفي مع ضغط شديد مما أدّى إلى جرحه …
لم يبقَ لي من حركة أو فعل أو قول إلا حركة عيني ذات اليمين و ذات الشمال .
شعرت بمعجون الحلاقة ثم بالممرضات و هنّ يحلقن لي … خط بالقلم أسفل بطني
و أنا أنتظر لحظة التخدير كي أغيب عن هذه المناظر القاتلة … أُصبّر نفسي و أقول الآن
و بعد لحظات أغيب عن هذا الوجود الصارم … لحظاتي معهم تمرّ ببطء شديد و كأنها سنوات
مديدة لا نهاية لها .
يا إلهي إنه يحمل المشرط … هل نسي تخديري … حاولت الصراخ فلم أفلح …
شدّدت على جسمي فلم يتحرّك شيء … لقد أحكم رباطي و لم يترك لي أيّ مجال …
لا حول لي و لا قوّة … لوَّح بالمشرط في الهواء ثم هوى به على بطني … نفر الدم بغزارة …
شعرت بصدمة عصبية تنتابني … قلبي بلغ حنجرتي … تسارعت ضرباته … اهتزّ كياني بعد
أن ضرب الألم خاصرتي … شعرت بتوقف القلب و ذهول العقل … أيقنت بالموت … تشهّدت
على روحي و رحت أعدّ نفسي للقاء ربّي … و كأنهم لا يُريدون لي هذا اللقاء و الراحة من
هذه الوجوه … جاءوا بجهاز صاعقٍ صعقوا به قلبي … عُدت إلى وعيي و شعرت بهم
و هم يُدخلون بربيشاً إلى المريء بكل قسوةٍ و فظاظة و آخر إلى حيث القصبة الهوائية …
شعرت باختناق شديد و كأني بدون رئتين .
غبت عن وعيي ثانية بعد أن أحسست بالدماء و هي تنزلق تحت ظهري … سمعت الطبيب
و هو يسب و يلعن … سمعت الممرضات و هنّ يطلبن منه شيئاً من الرحمة … هكذا كان يبدو
عليهنّ و لكن كان يُسارع بمسبّاته … يتمعّر وجهه بالحقد و الانتقام و يزداد ضراوة …
يردّد كلمة مخرِّب بالعبرية بين الحين و الآخر … أفقت مرّة أخرى بعد صعقة قلبية جديدة
فوجدته يضع مقابض حديدية يشدّ بها اللّحم … الدماء تفور و العرق يتفصّد عن جبيني بغزارة …
شعرت بيد ممرضة و هي تمسح عرقي … شممت رائحة جلد محروق و كأنه كان يُكوى بالنار …
لم يستخدم الإبرة و الخيط و لكنه لحام بالنار … صدمت للمرّة الثالثة … توقف القلب لا أدري كم
من الوقت بقي متوقفاً و لكني شعرت بالصعقة الكهربائية الجديدة .
بقيت معركة الألم على أشدِّها … جيّش معه أعتى أنواع الأسلحة يُقابل من لا سلاح له سوى
الدعاء و الابتهال إلى الله … ساعتان في هذه العملية الإجرامية و كأنها ألف سنة … أدركت
فيها كيف أن هول يوم القيامة يجعله كألف سنة مما يعدّ الناس .
أخيراً نظّفت الممرضات الجرح و وضعن شريطاً لاصقاً عليه ثم سحبوني إلى حيث الغرفة الأولى
و المرأة التي عملت العملية قبلي … أين وجهها الذي لا يبدو عليه أثر و وجهي الذي
صبغته كل ألوان العذاب … الألم يُشعل أعصابي و يدقّ أسافينه في بطني … و الحرس من
حولي يتبادلون الضحك و النكات الخليعة … لجأت إلى الصراخ بعد أن فكّوا الأربطة و نزعوا
قطعة الحديد من فمّي … صراخ و نشيج حاد خرج عن إرادتي … و كأني أزعجت آذانهم الشامتة …
جاءوا بالممرضة … سألتها ما يسكن آلامي فسارعت بإبرة رحت بعدها بسبات عميق …
أفقت منتصف الليل على آلامٍ حادّة تطرق أبوابي صرخت صرخت حتى جاءت الممرضة ثانية
و أفرغت إبرة مرّة أخرى .
صبيحة اليوم التالي جاء الجنود بصحبة طبيب … طلبوا مني الوقوف … قلت لهم أنا لا
أستطيع الوقوف … يجب أن تقوم … يجب أن تعود إلى سجنك الآن …
- حسناً أحضروا حمّالة … أنا أريد العودة … لا أريد رؤية وجوهكم لحظة واحدة .
و بعد جدال عقيم تركوني و شأني أتخبّط في آلامي .
- خذ هذه حتى يذهب الألم و تستطيع العودة إلى سجنك .
- أنا لا أستطيع القيام … ليتني أستطيع .
أخيراً قلت لهم أحضروا كرسياً متحرّكاً عندها سأعود معكم .
بعد العصر تدافعني الجنود فيما بينهم و أخرجوني من المشفى عنوة … أجرّ آلامي و كأن أرجلي
قاطرة تجرّ عربات كثيرة محملةٍ بالآلام الثقيلة … أتمايل بين وخزات الألم و وخزات ضحكاتهم
الساخرة و أمخر عباب القهر و أقسى أنواع التنكيل .
على باب المشفى وجدت دورية عادية … خاب ظني في سيارة إسعاف تقلّني إلى سجني
و بين ثلة من الذئاب جلست في حضن آلامي أصطلي نارها … كانت تشتدّ و تضرب كل وخزاتها
عندما تمرّ دوريتهم على مطلب أو أيّ شيء يهزّ أركانها فتتساقط معها آلامي على أعصابي
الخائرة ..
وصلت المعتقل بعد هذه الرحلة الشنيعة … طفقت أقصُّ على إخواني و كأنني من الكتاب ذوي
الخيال الخصب … هل هي هلوسات مريض أو أضغاث أحلام أو شطحات هائم …
لُذت إلى طبيب معتقل فقصصت عليه القصص طمأنني بأنني لست واهماً و لا حالماً
و إنما هي تفاصيل عملية جراحية حقيقية للزائدة الدودية ، كل ما هناك أنهم أجروها
بلا تخدير … بدل تخديري خدّروا ضمير الإنسان الذي لا وجود له في أفئدتهم … كانت
أفئدة خاوية من أية بقايا لأي شكل من أشكال الضمير .
ما زلت أشعر بالقشعريرة و الهيجان و العصبي كلما رأيت وجه ذلك الطبيب و وجوه
الزبانية و الشياطين التي عجزت عن فعلها كلّ شياطين الأرض و على مرّ الأزمان"
مع بداية دخولي للنقب و مع غروب شمس اليوم الأول في عمق الصحراء و مع حلول الليل
بدأ الألم يضرب أعماقي… لأول مرَّة أواجه ألماً من هذا النوع في حياتي … مغص شديد
في البطن و كأنه نصال حادّ ينغرس أسفل بطني … شعر الشباب بألمي فتوجّهوا إلى
الجنود لاستدعاء الممرِّض … بعد ساعتين من الإلحاح و الصراخ حضر الممرض … ألقى
بنظرات حاقدة عن بُعد … أرجع البصر على حقيبته … أعطى الشباب حبتين أكامول
ثم انصرف … و لكن دون جدوى ...
ليلة اليوم الثالث هاجمني الألم و المغص الشديد بكل ضراوة … لم تُفلح الاستغاثات
و لم تجد أي أُذن صاغية و لم ينم الشباب في الخيمة معي و وقفوا على باب الخيمة
يصرخون و يُنادون و يلتمسون من يُساعد في استدعاء الممرّض أو طبيب المعتقل …
كان الجواب الجاهز : غداً صباحاً … لا يوجد طبيب اليوم … لا توجد قوة كافية لهذه المهمة …
كان الهوس الأمني يفرض عليهم قوّة كبيرة كي تتمكّن من سحب الأسير المريض من الخيمة
إلى عيادة المعتقل .
في الصباح قرَّر الشباب إخراجي إلى العيادة مهما كلَّف الثمن … حملوني إلى باب الخيمة
و أجلسوني على كرسي و شرعوا بالمناداة و الصراخ كي نشعرهم بأن الأمر خطير و أن
الحالة طارئة و لا بدّ من الاستجابة الفوريّة … أنا من جانبي و عندما حضر الجندي المناوب
حملت في يدي كمية من حبّات الدواء و هدّدت ببلعها دفعة واحدة و أشعرته بتحمّل المسئولية
إن حصل لي أي مكروه … و تحت وابلٍ من التهديد و الوعيد حضرت مجموعة من الجنود بكامل
عتادها العسكري … شرّطوا أن أسير وحدي دون حمّالة أو أي مساعدة … وافقت على هذا
رغم صعوبة الأمر و سرت برفقتهم كمن يُساق إلى الموت و لكنه موت لا بدّ منه … لم تحتمل
قدماي السير طويلاً … زاغت عيناي فوقعت على الأرض … على الفور جاء الممرّض فوضع
إبرة المغذي في يدي … نسي فك الحبل المطاطي الذي يشد على اليد كي يبرز الشريان
و يسهّل عملية إدخال الإبرة … نسيه فتجمّع الدم و الدواء تحت الجلد .
بعد عناءٍ طويل و سفر شاق وصلنا العيادة … لم يكن فيها طبيب فانتظرت ساعتين و الألم
يضرب بطني بكلّ نصاله … أخيراً و بعد وقت مرّ و كأنه دهر وصل الطبيب فقرّر تحويلي
إلى المشفى … كبّلوني من يدي و رجلي ثم سرت معهم إلى سيارة "البوسطة" حيث
سافرت بي إلى مشفى "سروكا" .
بداية كان الاستقبال رائعاً … مشفى محترم فيه خدمات طبية جيدة … هكذا خُيل لي حيث
نظافة المكان و حُسن الإدارة و النظام و ترتيب ظاهر و فن راقِ ظاهر للعيان … الهدوء
و الرتابة و روعة الاستقبال … كنت بطل الفيلم حيث إن حولي خمسة جنود مرافقين كالظلّ
و أسلحتهم مشرّعة نحوي … و عيون روّاد المشفى تُرسل نظراتها بالتعجب و الاستغراب …
الكلّ ينظر إلي و أنا لا أنظر إلا إلى ألمي الذي يزداد شدّة و عنفواناً .
قادوني حيث عيادة الطبيب … ألقوا بي على سرير الفحص … كشف عن بطني
وضع يديه بصورة عصبية … كان كمن يلمس جيفة … التقزّز و الامتعاض رسم نفسه
على وجهه بكلّ وضوح … عاد إلى طاولته و أخذ يكتب … سألته بالإنجليزية … تجاهل سؤالي …
سألت ثانية و ثالثة و رابعة… أجاب باقتضاب شديد … الزائدة الدودية ، تحتاج إلى عملية فوراً …
طلبت استشارة طبيبي … الاتصال التلفوني … رفضوا بشكلٍ قاطع … طلبت أن يتصل
هو كي يطلّع من طبيبي على ملفي الطبّي و يعرف بعض الأمور التي لا بدّ من معرفتها
المسبقة عن أحوالي الطبية … رفض و أظهر الضجر و الغضب .
طلبت فك قيودي طالما أني سأرتبط بقيود المخدّر و قوانين غرفة العمليات عدا عن وجود
طاقم حراسة بكامل عتاده … خمسة من الجنود المدجّجين يُحيطونني برعايتهم الأمنية و
أسلحتهم الوديعة !
أدخلوني غرفة لتحضيري للعملية بعد ساعتين أو ثلاثة … رأيت امرأة تخرج من غرفة
العمليات وجهها مستبشر و علامات الراحة بادية في عينيها … تفاءلت و انشرح صدري
و لكني سرعان ما اجتاحتني الهواجس و الظنون السوداء … كيف يجتمع الطب و الدواء
مع هذا السلاح و هذه الأحقاد … هدّأت نفسي و حاولت تطمينها … العلاج لا يخضع لمعادلات
الصراع ثم إن أصحاب المهن الطبية يقسمون يمين المهنة … لطفك يا رب .
دخل طبيب بوجه عابس متجّهم … تناولَني بنظراته و كأنه يصفعني بها … سألته ملاطفاً …
لم تلامس ملاطفاتي أذنه … أمعن في تجاهلي … سألت : هل التخدير موضعي أم كلّي … لم يُجب .
نقلوني إلى غرفة العمليات … وجدت نفس الطبيب … سحنة روسية واضحة من مرتزقة
تلك البلاد النائية … بدأ العمل بربط رجليَّ في طاولة العملية … طلبت فك قيودي …
الرؤوس تتحرك بالرفض … تقدّم أحد الجنود لفكّها فرفض الطبيب … عجباً الطبيب يأخذ
دور الأمن و جندي القهر و القمع … استمر في تربيطي بكل شدّة و إحكام … و أنا أتساءل :
لماذا كلّ هذا إذا كنت سأدخل بعد قليل في رباط التخدير و الغياب التام عن كل هذه الأشكال ؟ …
ثم انتقل إلى يدي المكبلتين … ألصقهما بجسدي و لفّّّهما به بأربطته الطويلة .
كنت أوّل مرَّة أدخل فيها عملية … فتساءلت : لماذا كل هذا التربيط ؟ ردّ عليّ بالمسبّات
التي لم أفقه معناها على وجه التحديد … كان يسب بالروسية و العبرية الركيكة …
حاولت تلطيف الأجواء كي أرى على وجهه ابتسامة علّها تخفِّف قليلاً من هذا الإرهاب
النفسي الذي فرضوه عليّ … ردّ على ملاطفاتي بالغضب العارم و المزيد من المسبّات …
أيقنت أن في جعبة هذا الطبيب شراً مستطيراً … توقّعت أموراً كثيرة و لكني لم أتوقع
ما حدث بالفعل … لا يخطر ما فعله على قلب بشر و لا قلب ذئب من ذئاب الصحاري الضارية .
انتقل إلى فمي .. سحب لساني بقسوة بالغة .. ألصقه بسقف حلقي ثم وضع
حديدة تحت لساني … ضرب بكمّامة على أنفي مع ضغط شديد مما أدّى إلى جرحه …
لم يبقَ لي من حركة أو فعل أو قول إلا حركة عيني ذات اليمين و ذات الشمال .
شعرت بمعجون الحلاقة ثم بالممرضات و هنّ يحلقن لي … خط بالقلم أسفل بطني
و أنا أنتظر لحظة التخدير كي أغيب عن هذه المناظر القاتلة … أُصبّر نفسي و أقول الآن
و بعد لحظات أغيب عن هذا الوجود الصارم … لحظاتي معهم تمرّ ببطء شديد و كأنها سنوات
مديدة لا نهاية لها .
يا إلهي إنه يحمل المشرط … هل نسي تخديري … حاولت الصراخ فلم أفلح …
شدّدت على جسمي فلم يتحرّك شيء … لقد أحكم رباطي و لم يترك لي أيّ مجال …
لا حول لي و لا قوّة … لوَّح بالمشرط في الهواء ثم هوى به على بطني … نفر الدم بغزارة …
شعرت بصدمة عصبية تنتابني … قلبي بلغ حنجرتي … تسارعت ضرباته … اهتزّ كياني بعد
أن ضرب الألم خاصرتي … شعرت بتوقف القلب و ذهول العقل … أيقنت بالموت … تشهّدت
على روحي و رحت أعدّ نفسي للقاء ربّي … و كأنهم لا يُريدون لي هذا اللقاء و الراحة من
هذه الوجوه … جاءوا بجهاز صاعقٍ صعقوا به قلبي … عُدت إلى وعيي و شعرت بهم
و هم يُدخلون بربيشاً إلى المريء بكل قسوةٍ و فظاظة و آخر إلى حيث القصبة الهوائية …
شعرت باختناق شديد و كأني بدون رئتين .
غبت عن وعيي ثانية بعد أن أحسست بالدماء و هي تنزلق تحت ظهري … سمعت الطبيب
و هو يسب و يلعن … سمعت الممرضات و هنّ يطلبن منه شيئاً من الرحمة … هكذا كان يبدو
عليهنّ و لكن كان يُسارع بمسبّاته … يتمعّر وجهه بالحقد و الانتقام و يزداد ضراوة …
يردّد كلمة مخرِّب بالعبرية بين الحين و الآخر … أفقت مرّة أخرى بعد صعقة قلبية جديدة
فوجدته يضع مقابض حديدية يشدّ بها اللّحم … الدماء تفور و العرق يتفصّد عن جبيني بغزارة …
شعرت بيد ممرضة و هي تمسح عرقي … شممت رائحة جلد محروق و كأنه كان يُكوى بالنار …
لم يستخدم الإبرة و الخيط و لكنه لحام بالنار … صدمت للمرّة الثالثة … توقف القلب لا أدري كم
من الوقت بقي متوقفاً و لكني شعرت بالصعقة الكهربائية الجديدة .
بقيت معركة الألم على أشدِّها … جيّش معه أعتى أنواع الأسلحة يُقابل من لا سلاح له سوى
الدعاء و الابتهال إلى الله … ساعتان في هذه العملية الإجرامية و كأنها ألف سنة … أدركت
فيها كيف أن هول يوم القيامة يجعله كألف سنة مما يعدّ الناس .
أخيراً نظّفت الممرضات الجرح و وضعن شريطاً لاصقاً عليه ثم سحبوني إلى حيث الغرفة الأولى
و المرأة التي عملت العملية قبلي … أين وجهها الذي لا يبدو عليه أثر و وجهي الذي
صبغته كل ألوان العذاب … الألم يُشعل أعصابي و يدقّ أسافينه في بطني … و الحرس من
حولي يتبادلون الضحك و النكات الخليعة … لجأت إلى الصراخ بعد أن فكّوا الأربطة و نزعوا
قطعة الحديد من فمّي … صراخ و نشيج حاد خرج عن إرادتي … و كأني أزعجت آذانهم الشامتة …
جاءوا بالممرضة … سألتها ما يسكن آلامي فسارعت بإبرة رحت بعدها بسبات عميق …
أفقت منتصف الليل على آلامٍ حادّة تطرق أبوابي صرخت صرخت حتى جاءت الممرضة ثانية
و أفرغت إبرة مرّة أخرى .
صبيحة اليوم التالي جاء الجنود بصحبة طبيب … طلبوا مني الوقوف … قلت لهم أنا لا
أستطيع الوقوف … يجب أن تقوم … يجب أن تعود إلى سجنك الآن …
- حسناً أحضروا حمّالة … أنا أريد العودة … لا أريد رؤية وجوهكم لحظة واحدة .
و بعد جدال عقيم تركوني و شأني أتخبّط في آلامي .
- خذ هذه حتى يذهب الألم و تستطيع العودة إلى سجنك .
- أنا لا أستطيع القيام … ليتني أستطيع .
أخيراً قلت لهم أحضروا كرسياً متحرّكاً عندها سأعود معكم .
بعد العصر تدافعني الجنود فيما بينهم و أخرجوني من المشفى عنوة … أجرّ آلامي و كأن أرجلي
قاطرة تجرّ عربات كثيرة محملةٍ بالآلام الثقيلة … أتمايل بين وخزات الألم و وخزات ضحكاتهم
الساخرة و أمخر عباب القهر و أقسى أنواع التنكيل .
على باب المشفى وجدت دورية عادية … خاب ظني في سيارة إسعاف تقلّني إلى سجني
و بين ثلة من الذئاب جلست في حضن آلامي أصطلي نارها … كانت تشتدّ و تضرب كل وخزاتها
عندما تمرّ دوريتهم على مطلب أو أيّ شيء يهزّ أركانها فتتساقط معها آلامي على أعصابي
الخائرة ..
وصلت المعتقل بعد هذه الرحلة الشنيعة … طفقت أقصُّ على إخواني و كأنني من الكتاب ذوي
الخيال الخصب … هل هي هلوسات مريض أو أضغاث أحلام أو شطحات هائم …
لُذت إلى طبيب معتقل فقصصت عليه القصص طمأنني بأنني لست واهماً و لا حالماً
و إنما هي تفاصيل عملية جراحية حقيقية للزائدة الدودية ، كل ما هناك أنهم أجروها
بلا تخدير … بدل تخديري خدّروا ضمير الإنسان الذي لا وجود له في أفئدتهم … كانت
أفئدة خاوية من أية بقايا لأي شكل من أشكال الضمير .
ما زلت أشعر بالقشعريرة و الهيجان و العصبي كلما رأيت وجه ذلك الطبيب و وجوه
الزبانية و الشياطين التي عجزت عن فعلها كلّ شياطين الأرض و على مرّ الأزمان"