وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله"*15*

المنسي

الاعضاء
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم



وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله"

1_وضوح القرآن في ذاته وبخاصة في الكليات الاعتقادية.

2_أن المبلّغ والمقيم للحجة هم العلماء." (158).

قلت: وكلامه هذا يؤول إلى ردّ البلاغ إلى الفهم, وهذا غير جيّد, فلكل منهما حقيقة منفصلة عن الآخر, ولا يمكن الجمع بينهما بإطلاق وإن اجتمعا في بعض الصور, وعلماء الدعوة قد أدركوا ذلك وعللوا الاكتفاء بالبلاغ بعلتين: أولاهما؛ أن من الناس من تقوم عليه الحجة وهو لم يفهم بنص القرآن العزيز. الثانية؛ أن القول باشتراط الفهم يؤول إلى أن لا يكفّر إلا المعاند فقط وهو باطل بداهة.

لذلك فالصواب _والله أعلم_: أنه لا يشترط الفهم الذي يكشف جميع اللبس بل إذا بلغته الحجة إجمالاً مما يخاطب به العامة ممن يحسنها فقد قامت عليه, حتى وإن لم يفهم تفاصيلها كفهم أهل الاختصاص فضلاً عن أن يترجح لديه أنها حق "ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه" (الإسراء: 97).

قال الشيخ حمد بن معمر رحمه الله: "وليس المراد بقيام الحجة أن يفهمها الإنسان فهماً جلياً كما يفهمها من هداه الله ووفقه وانقاد لأمره" (159). أي يكفي أن يتصور المراد تصور العامة بدون تفصيلات أهل العلم.

ولعل التقسيم المناسب الذي يزيل اللبس بين الفهم البلاغ؛ هو أن نُصَنّف مراتب البلاغ إلى أربع مراتب على النحو التالي:

المرتبة الأولى: البلاغ المطلق, وإن لم تحصل حقيقة البلاغ بفهم المقصود وتصور المراد, كمن تُلي عليه القرآن وهو لا يفهم العربية, وهذه المرتبة لا تقوم بها الحجة الرسالية "لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل" (النساء: 165).

المرتبة الثانية: البلاغ الذي يفهمه عامّة الناس, فيُبلغَّ كليات الدين, ويتصورها تصور العامّة, وبهذا تقوم الحجة الرسالية, وقد يعبر عنها بالفهم _أي فهم العامة_ "لأنذركم به ومن بلغ" (الأنعام: 19).

المرتبة الثالثة: الفهم المفصّل, الذي يستغرق فيه المُبَلَّغ في تفاصيل الخطاب والبلاغ, وهذا شيء زائد عن الحد الأدنى الكافي للحجة الرسالية, والحجة قائمة عليه أكبر من الذي قبله.

المرتبة الرابعة: أن يترجح للمُبَلّغ وجه الحق من الباطل, ويقتنع بأصول الملة الإسلامية, وهذا ليس بلازم في إقامة الحجة, والقول باشتراطه مشاقة للقرآن العظيم. "فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون" (فاطر:8).

ولا شك أن كفر المعاند من أقبح الكفر "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً فانظر كيف كان عاقبة المفسدين" (النمل: 14).

قال ابن القيم: "إن قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص, فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان, وفي بقعة وناحية دون أخرى, كما أنها تقوم على شخص دون آخر, إما لعدم عقله وتميزه كالصغير والمجنون, وإما لعدم فهمه كالذي لا يفهم الخطاب ولم يحضر ترجمان يترجم له فهذا بمنزلة الأصم الذي لا يسمع شيئاً, ولا يتمكن من الفهم" (160). وقال شيخ الإسلام: "كل من عبد عبادة نهي عنها ولم يعلم النهي لكن هي من جنس المأمور به مثل أن صلى في أوقات النهي, وبلغه الأمر العام بالصلاة ولم يبلغه النهي...أثيب على ذلك...بخلاف ما لم يشرع جنسه مثل الشرك فإن هذا لا ثواب فيه, وإن كان لا يعاقب صاحبه إلا بعد بلوغ الرسالة, كما قال تعالى: "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً" (الإسراء: 15) لكنه وإن كان لا يعذب فإن هذا لا يثاب بل هذا كما قال تعالى: "وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً" (الفرقان: 23) قال ابن المبارك: هي الأعمال التي عملت لغير الله" (161). وهذه العبارة جارية على نمط بقية كلامه ومنسجمة مع منهجه رحمه الله, فالشرك الذي يعذر صاحبه عند الشيخ؛ إن كان أكبر ظاهر؛ فصاحبه معدود من أهل الفترة, أو ممن لم تبلغهم الحجة الرسالية ونحو ذلك, وإن كان خفياً أو أصغر فقد يقع لمن هو بين أظهر المسلمين, والله أعلم. ومن أمثلة القُرَبِ التي لم يشرع جنسها الاستغاثة بالموتى والعكوف على القبور ودعاء الجن والذبح لغير الله ونحو ذلك.

والحجة الرسالية إنما يقيمها العلماء قال الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن: "....إنما يشترط فهم المراد للمتكلم والمقصود من المخاطب لا أنه الحق.....وقال الله في كتابه: "لأنذركم به ومن بلغ" (الأنعام: 19) ومن الذي يبلّغ وينقل نصوص الكتاب والسنة غير أهل العلم ورثة الرسل؟" (162).

وقال الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله: "ويقيم الحجة عالم يعلم كيف يقيم الحجة ويزيل الشبهة, ولهذا يقول العلماء: الحجة الرسالية, أي التي يقيمها الرسل أو ورثة الرسل ممن يحسن إقامة الحجة" (163).


"شَعِيرَةُ الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ, وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ"

عدّ بعض أهل العلم هذه الشعيرة الجليلة الركن السادس للإسلام, وهي الفريضة الغائبة بين كثير من الناس, وهي من فروع الجهاد في سبيل الله. وإن المؤمن ليوجل قلبه ويخاف كلما سمع آية المائدة: "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة" (الأنفال: 25) وهو يرى الشرك والبدع والربا والمظالم والتغريب والمجاهرة بالمعاصي. وأهل الإيمان نعتهم ربهم في القرآن بأنهم: "يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" (التوبة: 71) بينما وصف أهل النفاق بأنهم: " يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" (التوبة: 67).

قال سفيان الثوري رحمه الله: "إذا أمرت بالمعروف شددت ظهر أخيك, وإذا نهيت عن المنكر أرغمت أنف المنافق". وكان بعض السلف إذا رأى منكراً ولم يطق تغييره بال الدم من الغضب لله والحزن مما رأى. وفي الصحيحين من حديث زينب رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم, إذا كَثُرَ الخَبَث". ومما أُثر عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله قوله: "كان يُقال: إن الله لا يعذب العامة بذنب الخاصَّة ولكن إذا عُمِل المنكر جهاراً استحقوا العقوبة كلهم" ووجود المصلحين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر في الأمة سبب حفظ لها بإذن الله تعالى, قال تعالى: "وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ" (هود: 117) ولم يقل صالحون. وفي قصة أصحاب السبت في سورة الأعراف ذكر الله نجاة الذين نَهَوا عن المنكر, وذكر عذاب أهل الذنب, وسكت عن الساكتين, وهذا في غاية التخويف من السكوت على المنكرات.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأمور الكبار والمهام العظيمة للأمة, وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه عند أحمد وأبي داود والترمذي يقول عليه الصلاة والسلام: "لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم, فلم ينتهوا فجالسوهم وآكلوهم وشاربوهم, فلما رأى الله ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم ببعض, ثم لعنهم على لسان أنبيائهم داود وعيسى بن مريم "ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ" (البقرة:61) وفي لفظ آخر: "إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أن الرجل كان يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تفعل من المعاصي ثم يلقاه في الغد فلا يمنعه ما رآه منه أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما رأى الله ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم على بعض ثم لعنهم". فعلينا أن نحذر من أن يصيبنا ما أصاب أولئك.

ومن قام بالمعروف والنهي عن المنكر مكَّنه الله في الأرض ونصره, قال سبحانه وتعالى: "وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز . الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ" (الحـج: 40-41).

قال سفيان الثوري: "ينبغي للآمر الناهي أن يكون رفيقاً فيما يأمر به، رفيقاً فيما ينهى عنه، عدلاً فيما يأمر به، عدلاً فيما ينهى عنه، عالماً بما يأمر به، عالماً بما ينهى عنه ".‏ فقبل الأمر والنهي يكون العلم بالحكم وبواقع الحال, وفي أثناء الأمر والنهي يستصحب الرفق واللين, وبعد الأمر والنهي يستعين بالصبر والصلاة, وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين, والله تعالى لما نوّه بالآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر قال في ذكر كلام لقمان ووصاياه لابنه: "يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور" (لقمان: 17) وكفى بهذه الآية عزاءً لكل آمرٍ وناهٍ.

قال الأمام ابن باز رحمه الله تعالى في كلمة بعنوان (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر): "وقد أوضح الله جل وعلا في كتابه العظيم منزلته في الإسلام، وبيّن سبحانه أن منزلته عظيمة، حتى إنه سبحانه في بعض الآيات قدمه على الإيمان، الذي هو أصل الدين وأساس الإسلام، كما في قوله تعالى: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ" (آل عمران:110) ولا نعلم السر في هذا التقديم، إلا عظم شأن هذا الواجب، وما يترتب عليه من المصالح العظيمة العامة، ولا سيّما في هذا العصر، فإن حاجة المسلمين وضرورتهم إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شديدة؛ لظهور المعاصي، وانتشار الشرك والبدع في غالب المعمورة.....والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، ومع ذلك قدمه في هذه الآية على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فقال سبحانه: "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" (التوبة:71) فقدم هنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على إقام الصلاة، مع أن الصلاة عمود الإسلام، وهي أعظم الأركان بعد الشهادتين، فلأي معنى قدم هذا الواجب؟

لا شك أنه قُدم لعظم الحاجة إليه وشدة الضرورة إلى القيام به. ولأن بتحقيقه تصلح الأمة، ويكثر فيها الخير وتظهر فيها الفضائل وتختفي منها الرذائل، ويتعاون أفرادها على الخير، ويتناصحون ويجاهدون في سبيل الله، ويأتون كل خير ويذرون كل شر.

وبإضاعته والغفلة عنه تكون الكوارث العظيمة، والشرور الكثيرة، وتفترق الأمة، وتقسو القلوب أو تموت، وتظهر الرذائل وتنتشر، وتختفي الفضائل ويهضم الحق، ويظهر صوت الباطل، وهذا أمر واقع في كل مكان وكل دولة وكل بلد وكل قرية لا يؤمر فيها بالمعروف ولا ينهى فيها عن المنكر، فإنه تنتشر فيها الرذائل وتظهر فيها المنكرات ويسود فيها الفساد، ولا حول ولا قوة إلا بالله....أما الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لأغراض أخرى؛ كرياء وسمعة، أو حظ عاجل أو أسباب أخرى، أو يتخلفون عن فعل المعروف، ويرتكبون المنكر، فهؤلاء من أخبث الناس، ومن أسوئهم عاقبة.

وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يؤتي بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه -أي أمعاؤه- فيدور في النار كما يدور الحمار بالرحى فيجتمع عليه أهل النار فيقولون مالك يا فلان؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ قال فيقول لهم بلى, ولكني كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه".

هذه حال من خالف قوله فعله -نعوذ بالله- تسعر به النار، ويفضح على رؤوس الأشهاد، يتفرج عليه أهل النار، ويتعجبون كيف يلقى في النار. هذا ويدور في النار كما يدور الحمار بالرحى، وتندلق أقتاب بطنه، يسحبها، لماذا؟ لأنه كان يأمر بالمعروف ولا يأتيه، وينهى عن المنكر ويأتيه....وورد في الحديث أيضاً عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "يقول الله عز وجل: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أستجيب لكم وقبل أن تسألوني فلا أعطيكم وقبل أن تستنصروني فلا أنصركم" وفي لفظ آخر من حديث حذيفة يقول عليه الصلاة والسلام: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم" رواه الإمام أحمد.




 
[بارك الله فيك على الموضوع القيم والمميز

وفي انتظار جديدك الأروع والمميز

لك مني أجمل التحيات
 
وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله"*15*
 
الوسوم
وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله15
عودة
أعلى