وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله"*14*

المنسي

الاعضاء
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم



وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله"

دعا المصطفى دهراً بمكة لم يجب وقد لان منه جانب وخطاب
فلما دعا والسيف صلت بكفه له أسلموا واستسلموا وأنابوا
والخلاصة: أن الشريعة الكاملة جاءت باللين في محله، والشدة في محلها، فلا يجوز للمسلم أن يتجاهل ذلك، ولا يجوز أيضاً أن يوضع اللين في محل الشدة، ولا الشدة في محل اللين، ولا ينبغي أيضاً أن ينسب إلى الشريعة أنها جاءت باللين فقط، ولا أنها جاءت بالشدة فقط، بل هي شريعة حكيمة كاملة صالحة لكل زمان ومكان، ولإصلاح جميع الأمة. ولذلك جاءت بالأمرين معاً، واتسمت بالعدل والحكمة والسماحة فهي شريعة سمحة في أحكامها وعدم تكليفها ما لا يطاق، ولأنها تبدأ في دعوتها باللين والحكمة والرفق، فإذا لم يؤثر ذلك وتجاوز الإنسان حده وطغى وبغى أخذته بالقوة والشدة وعاملته بما يردعه ويعرفه سوء عمله(131).


"مَسْأَلَةُ العُذْرِ بِالْجَهْلِ فِي أُمُورِ الشِّرْكِ الأَكْبَرِ"
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "من بلغه القرآن فهو له نذير" (132). وروى ابن جرير الطبري بسنده عن محمد بن كعب قال: "من بلغه القرآن فقد أبلغه محمد صلى الله عليه وسلم" (133).

وقال الإمام الشافعي رحمه الله: "لو عُذر الجاهل لأجل جهله, كان العلم خيراً من الجهل!". وقال القرافي رحمه الله: : "واعلم ان الجهل نوعان:

الأول؛ نوع تسامح صاحب الشرع عنه, فعفا عن مرتكبه, وضابطه؛ أن كل ما يتعذر الاحتراز عنه عادة فهو معفو عنه. الثاني؛ جهل لم يتسامح صاحب الشرع عنه, فلم يعف عن مرتكبه....وهذا النوع يضطرد في أصول الدين وأصول الفقه وبعض أنواع الفروع" (134). وبنحوه قال الحافظ ابن رجب (135).

"وليس كل شبهة ولا تأويل يعذر صاحبها, فمن تأول أن تعظيم الرب يقتضي عدم الدخول عليه إلا بالوسائط والشفعاء كحال الملوك فهو مشرك ولا يعذر بتأويله لأنه من قبيل مالم يسوّغه الشرع, وإن زعم أن قصده تعظيم الرب تعالى فهو في زعمه لم يقصد الاستهانة بجناب الربوبية " (136).

أما عن عذر من اشتبهت عليه الأمور الدقيقة من الدين, فقد قال شيخ الإسلام في معرض كلامه عن الرازي والآمدي: "...لكن لم يعرف هؤلاء حقيقة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم, وحصل اضطراب في المعقول به, فحصل نقص في معرفة السمع والعقل, وإن كان هذا النقص هو منتهى قدرة صاحبه لا يقدر على إزالته, فالعجز يكون عذراً للإنسان في أن الله لا يعذبه إذا اجتهد الاجتهاد التام, هذا على قول السلف والأئمة في أن من اتقى الله ما استطاع إذا عجز عن معرفة بعض الحق لم يعذب به" (137). وقال أيضاً: "الوعيد المطلق في الوحي مشروط بتحقق الشروط وانتفاء الموانع" (138). فالعذر بالجهل عند شيخ الإسلام لمن كان في بلاد الإسلام إنما هو في المسائل الخفية؛ كمسألة القول بخلق القرآن (139).

وقد يجتمع في الشخص الواحد إيمان وكفر أصغر, وتوحيد وشرك أصغر, وأعني مطلق الإيمان لا الأيمان المطلق, لأنه لا يكمل مع وجود الكفر الأصغر, كذلك التوحيد مع الشرك الأصغر. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "وهذا من أعظم أصول أهل السنة, وخالفهم فيه غيرهم من أهل البدع؛ كالخوارج والمعتزلة والقدرية, ومسألة خروج أهل الكبائر من النار وتخليدهم فيها مبنية على هذا الأصل" (140). وقال ابن القيم أيضاً رحمه الله: "وأما أهل البدع الموافقون لأهل الإسلام ولكنهم مخالفون في بعض الأصول كالرافضة والقدرية والجهمية وغلاة المرجئة ونحوهم فهؤلاء أقسام:

أحدها: الجاهل المقلد الذي لا بصيرة له, فهذا لا يكفر ولا يفسق ولا تُرَدُّ شهادته إذا لم يكن قادراً على تعلم الهدى .....القسم الثاني: المتمكن من السؤال وطلب الهداية ومعرفة الحق ولكن يترك ذلك اشتغالاً بدنياه ورئاسته وغير ذلك, فهذا مفرّط مستحق للوعيد....وحكمه حكم أمثاله من تاركي الواجبات. القسم الثالث: أن يسأل ويطلب ويبين له الهدى ويتركه تقليداً أو بغضاً أو معاداة لأصحابه فهذا أقل درجاته أن يكون فاسقاً وتكفيره محل اجتهاد وتفصيل" (141).

وسأبسط الكلام قليلاً في مسألة العذر بالجهل لأمرين؛ الأول: بيان خطر الخروج من الملة وأنه قريب لمن لم يحفظه الله.

الثاني: اختلاف التعامل مع أمثال هؤلاء يختلف بتصور هذه المسألة, لأنهم مترددون حسب القولين إلى كفرة فجرة مباحين, أو مسلمين مصونين معصومين.

وقد بيّن علماء الدعوة أنه ليس من شروط إقامة الحجة أن يفهمها المُخَاطَبُ على التفصيل, فقد قال الإمام المجدد موضحاً كلام شيخ الإسلام في قيام الحجة: "فمن بلغه القرآن فقد بلغته الحجة, ولكن أصل الإشكال أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة وبين فهم الحجة, فإن أكثر الكفار والمنافقين لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم, كما قال تعالى: "أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً" (الفرقان: 44) (142).

وقال الشيخ حمد بن ناصر بن معمّر رحمه الله _وهو من تلاميذ المجدد_: "كل من بلغته دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قامت عليه الحجة, كما قال تعالى: "لأنذركم به ومن بلغ" (الأنعام: 19) وقد أجمع العلماء على أن من بلغته دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم أن حجة الله قائمة عليه" (143).

وقال الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن أبو بطين: "فمن بلغته رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وبلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة.....فقول الشيخ تقي الدين رحمه الله: "إن التكفير والقتل موقوف على بلوغ الحجة" يدل آخر كلامه على أن هذين الأمرين وهما التكفير والقتال؛ ليسا موقوفين على فهم الحجة مطلقاً, بل على بلوغها, ففهمها شيء وبلوغها شيء آخر, فلو كان هذا الحكم موقوفاً على فهم الحجة لم نكفر إلا من علمنا أنه معاند خاصة, وهذا بيّن البطلان. بل آخر كلامه يدل على أنه يعتبر فهم الحجة في الأمور التي تخفى على كثير من الناس, وليس فيها مناقضة للتوحيد والرسالة كالجهل ببعض الصفات" (144).

وهل عُبدت الأوثان إلا بالاستحسان والتأويل: "إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً" (النساء: 62). وقال الشيخ إسحاق بن عبدالرحمن رحمه الله: "كل من سمع بالرسول صلى الله عليه وسلم, وبلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة, وهذا ظاهر في كلام شيخ الإسلام" (145).

وقال الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله: "قال شيخنا الشيخ عبداللطيف رحمه الله: وينبغي أن يُعلم الفرق بين قيام الحجة وفهم الحجة, فإن من بلغته دعوة الرسل فقد قامت عليه الحجة إذا كان على وجه يمكن به العلم, ولا يشترط في قيام الحجة أن يفهم عن الله ورسوله ما يفهمه أهل الإيمان..."أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً" (الفرقان: 44) وقال تعالى: "ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة" (البقرة: 7). قلت: _أي الشيخ سليمان_ ومعنى قوله: "إذا كان على وجه يمكن معه العلم" ألّا يكفّر من عديم العقل والتمييز كالصغير والمجنون, أو يكون ممن لا يفهم الخطاب ولم يحضر ترجمان يترجم له" (146).

فالمكفرات القولية والعملية ليست مقيدة بالمعاند, فلا يعذر مرتكب الكفر الأكبر الظاهر الذي لا يخفى على عامة المسلمين إذا كان متأولاً أو مجتهداً أو مخطئاً أو مقلداً, قال الشيخ أبو بطين: "فقد جزم رحمه الله _أي شيخ الإسلام_ في مواضع كثيرة بكفر من فعل ما ذكره من أنواع الشرك, وحكى إجماع المسلمين على ذلك ولم يستثن الجاهل ونحوه, قال تعالى: "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" (النساء: 116) وقال عن المسيح: "إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار" (المائدة: 72) فمن خص ذلك الوعيد بالمعاند فقط فأخرج الجاهل والمتأول والمقلد فقد شاق الله ورسوله, وخرج عن سبيل المؤمنين, والفقهاء يصدرون باب حكم المرتد بمن أشرك ولم يقيدوا ذلك بالمعاند" (147).

وقال الشيخ عبدالرحمن بن حسن: "وكل كافر فقد أخطأ, والمشركون لا بد لهم من تأويلات, ويعتقدون أن شركهم بالصالحين تعظيم لهم ينفعهم ويدفع عنهم, فلم يعذروا بذلك الخطأ, ولا بذلك التأويل" (148).

هذا, وقد رد علماء الدعوة على داود بن جرجيس حين نسب لشيخ الإسلام اشتراط فهم الحجة في مسائل الشرك الأكبر, وممن رد عله ذلك الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن في كتابه (منهاج التأسيس والتقديس) (149) كذلك الشيخ سليمان بن سحمان في كتابه (الضياء الشارق) (150) وقد وضح ذلك مراراً إمام الدعوة (151).

والحكم إنما هو على الظاهر دون الباطن ومن الأدلة؛ "أمرت ان أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله" رواه البخاري. وقوله "...إني لم أؤمر أن أنقب قلوب الناس ولا أشق بطونهم" رواه البخاري. قال الإمام النووي رحمه الله: معناه؛ إني أمرت أن أحكم بالظاهر, والله يتولى السرائر. (152). لهذا حكم صلوات الله وسلامه عليه على ظاهر الذين تخلفوا عنه في تبوك, كذلك سيرته مع المنافقين, قال شيخ الإسلام: "الإيمان له مبدأ وكمال وظاهر وباطن, فإذا علقت به الأحكام الدنيوية من الحقوق والحدود, كحق الدم والمال والمواريث والعقوبات الدنيوية علقت بظاهره, ولا يمكن غير ذلك إذ تعليق ذلك بالباطن متعذر"(153).

والخلاصة كما ذكرها الشيخ صالح الفوزان حفظه الله: أن بلوغ الحجة يكون بشرطين:

1_ أن يكون من بَلَغَتْهُ يفهمها لو أراد.

2_ أن يكون ذلك في الأمور الظاهرة دون الخفية(154).

قلت: وسبب سوء فهم بعضهم, لعبارة شيخ الإسلام أنهم ألحقوا الأمور الظاهرة _التي لم يقصدها_ بالأمور الخفية المشتبهة, وهي التي عناها رحمه الله, أما الظاهرة فهي المعلومة من الدين بالضرورة ويعلم عامة المسلمين أنها من دينهم في العلميات والعمليات.

إذن ففي مسألة قيام الحجة هناك فرق بين الأمور التي تخفى والأمور الواضحة الجلية, قال مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله: "إن الذين توقفوا في تكفير المعين في الأشياء التي يخفى دليلها, فلا يكفر حتى تقوم عليه الحجة الرسالية من حيث الثبوت والدلالة, فإذا أوضحت له الحجة بالبيان الكافي كفر, سواء فهم أو قال: ما فهمت, أو فهم وأنكر, ليس كفر الكفار كله كفر عناد, وأما ما عُلم بالضرورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاربه وخالفه فهذا يكفر بمجرد ذلك ولا يحتاج لتعريف, سواء في الأصول أو الفروع ما لم يكن حديث عهد بإسلام" (155).

قال الشيخ ابن باز رحمه الله: "أما من بلغه القرآن أو بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم, فلم يستجب فقد قامت عليه الحجة كما قال تعالى: "وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ" (الأنعام: 19). فقد قامت عليه الحجة, وقال تعالى: "ولينذروا به" (إبراهيم: 52). فمن بلغه القرآن ثم لم يدخل فيه له حكم الكفرة, وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار" أخرجه مسلم في الصحيح" (156).

وفي فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء: "من عاش في بلاد يسمع فيها الدعوة بالإسلام وغيره ثم لا يؤمن ولا يطلب الحق من أهله فهو في حكم من بلغته الدعوة الإسلامية وأصرّ على الكفر, أما من عاش في بلاد في بلاد غير إسلامية ولم يسمع عن النبي صلى الله عليه وسلم, ولا عن القرآن, فهذا على تقدير وجوده حكمه حكم أهل الفترة"(157).

ويرى بعض العلم والفضل "أن في خلاف العلماء في مسألة العذر بالجهل, وهل يكفي البلاغ أو لا بد من الفهم؛ أن هذا الخلاف في حقيقته إجمال موهم, وأن القولين في حقيقتهما متقاربان, وقد لا يكون بينهما تعارض, وذلك أن الذين اكتفوا ببلوغ القرآن قصدوا بذلك البلاغ التام الواضح الذي لا يبقى معه لبس وأن ذلك راجع لشيئين:


 
شكرا لك على الموضوع الجميل و المفيذ ♥

جزاك الله الف خير على كل ما تقدمه لهذا المنتدى ♥
 
وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله"*14*
 
الوسوم
وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله14
عودة
أعلى