وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله"*10*

المنسي

الاعضاء

السلام عليكم ورحمه الله وبركاته

بسم الله الرحمن الرحيم



وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله"


"لُزُومُ بَيْعَةِ السُّلْطَانِ المُسْلِمِ, وَتَحْرِيمُ الخُرُوجِ عَلَيْهِ"
درج السلف الصالح على الاهتمام بالمسائل الكبار وتأصيل فقه الأولويات في الأمة, والعناية بالأمور الطارئة على أصول الدين أو جمع كلمة الأمة وحماية بيضتها. وفي الزمان الذي يهتزّ فيه المنهج عند العامة, أو تُغزى أصول الديانة, يتحتم التأكيد وتكرار الحديث حول ذلك الأمر لرد تلك الغارة وكف تيك العادية, وثبيت الناس في الفتن والملمات, ولما خرجت الحرورية صاح العلماء في الأمة بتحذيرها من ضلالهم, كذلك لما ظهرت المرجئة, وبمثلها خروج الزنادقة الحلولية والاتحادية, وابتداع القائلين بخلق القرآن, أو انتشار شبهات القبورية وعبّاد الموتى...وهكذا, فكلما نبتت نابتة سوء تسابق الأئمة لنيل رضوان الله بقطعها قرباناً له, وصيانة لأمتهم من غلوائها, فكذلك في هذا الزمان تتابع العلماء الناصحون للأمة من تحذير الناس من شؤم الخروج على السلاطين المسلمين دون الكفرة الزنادقة, فالفتن إذا أقبلت تزينت وتبهرجت, وخدعت بتبرجها المستعجلين "ولكنكم تستعجلون" (رواه البخاري. وانظر ما ذكره الشيخ العلّامة العثيمين رحمه الله في شرحه لهذا الحديث في رياض الصالحين) أما العلماء فيرون مآلاتها بنفاذهم في لبّها وفرز جوهرها الشين عن بهرجها الزّين.

فهم لازمون لمنهجهم لأنهم يدورون مع نصوص الشريعة حيث دارت "يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم" (الأنفال: 24) ويثقون بنصوص الوحي ثقة مطلقة, ويؤمنون بأن الخير بحذافيره في إعمالها لا في إهماله "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً" (الأحزاب: 36) ولا يثنيهم عن ذلك سخرية واستهزاء من قصر فهمه ودنا نظره فاستعجل ثمرة الإنكار بالخروج بالسيف, وهذا على شمل الأمة من أعظم الحيف, فأهل السنة لاينزعون يداُ من بيعة الإمام المسلم, وهذا ظاهر في مصنفات الأئمة المتقدمين والمتأخرين, وهم ينصحونه وينصحون له, وينكرون عليه منكراته سرّاً وهي القاعدة دفعاً لمفاسد من لا يقدر الأمور من الرعاع, وعلانية على قدر الحاجة وهي الاستثناء. ولما وقعت الفتنة في عهد عثمان قال بعض الناس لأسامة بن زيد رضي الله عنه ألا تنكر على عثمان؟ قال: "أنكر عليه عند الناس؟! _مستنكراً_ لكن أنكر عليه بيني وبينه، ولا أفتح باب شرٍ على الناس". ولقد وقع ما خافه, ففُتح الباب وحدثت مصيبة لا يرقأها كرّ الأيام والليالي, ولله الأمر من قبل ومن بعد.

وقال الشيخ العثيمين رحمه الله: "...ولكن يجب أن نعلم أن الأوامر الشرعية في مثل هذه الأمور لها محالّ، ولا بد من الحكمة ، فإذا رأينا أن الإنكار علناً يزول به المنكر والشر ويحصل به الخير فلننكر علناً، وإذا رأينا أن الإنكار لا يزول به الشر، ولا يحصل به الخير، بل يزداد بغض الولاة للمنكرين وأهل الخير، فإن الخير أن ننكر سراً، وبهذا تجتمع الأدلة، فتكون الأدلة الدالة على أن الإنكار يكون علناً فيما إذا كنا نتوخى فيه المصلحة، وهي حصول الخير وزوال الشر، والأدلة الدالة على أن الإنكار يكون سراً فيما إذا كان إعلان الإنكار يزداد به الشر ولا يحصل به الخير. الواجب أن نناصح ولاة الأمور سراً كما جاء في النص الذي ذكره السائل, ونحن نقول: النصوص لا يكذب بعضها بعضاً, ولا يصادم بعضها بعضاً.

فيكون الإنكار معلناً عند المصلحة، والمصلحة هي أن يزول الشر ويحل الخير، ويكون سراً إذا كان إعلان الإنكار لايخدم المصلحة، أي: لا يزول به الشر ولا يحل به الخير. ونحن نعلم أن ولاة الأمور لا يمكن أن يُرضوا جميع الناس أبداً، حتى إمام المسجد لا يستطيع أن يرضي جميع من يصلي خلفه, فبعضهم يقول: إنه يطيل، وبعضهم يراه مقصراً، وبعضهم يريد التبكير بالصلاة، وبعضهم يريد التأخير، فهذا بالنسبة لإمام المسجد فكيف بولاة الأمور التي ولايتهم أوسع بكثير منه؟ فإذا أعلن النكير على ولاة الأمور استغله من يكره اجتماع المسلمين....فالحاصل أنه يجب على شباب الصحوة أن ينظروا إلى النصوص من جميع الجوانب، وألا يقدموا على شيء حتى ينظروا عاقبته، فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت" فاجعل هذا ميزاناً لك في كل أقوالك، وكذلك في كل أفعالك، والله الموفق. وقال أيضاً رحمه الله: "....وهناك فرق بين أن يكون الأمير أو الحاكم الذي تريد أن تتكلم عليه بين يديك وبين أن يكون غائباً، لأن جميع الإنكارات الواردة عن السلف كانت حاصلة بين يدي الأمير أو الحاكم، الفرق أنه إذا كان حاضرا أمكنه أن يدافع عن نفسه، ويبيّن وجهة نظره، وقد يكون مصيباً ونحن المخطئون، لكن إذا كان غائباً لم يستطع أن يدافع عن نفسه وهذا من الظلم، فالواجب أن لا يتكلم على أحد من ولاة الأمور في غيبته، فإذا كنت حريصاً على الخير فاذهب إليه وقابله وانصحه بينك وبينه" (83).

قال الإمام أحمد: "ولا يحلّ قتال السلطان, ولا الخروج عليه لأحد من الناس, فمن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السنة والطريق" (84). وقال حنبل رحمه الله: لما اجتمع فقهاء بغداد في ولاية الواثق إلى أبي عبدالله -يعني الامام أحمد رحمه الله، وكان في السجن- وقالوا له: إن الأمر قد فشا، وتفاقم -يعنون إظهار القول بخلق القرآن، وغير ذلك من المصائب والضيق والشدة، والقتل، والسجن- ولا نرضى بإمارته ولا سلطانه. فناظرهم في ذلك، وقال: عليكم بالإنكار في قلوبكم ولا تخلعوا يداً من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم، ودماء المسلمين معكم، وانظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريح بَرٌّ، ويُستراح مِن فاجر. وقال: ليس هذا -أي الخروج- صواباً، هذا خلاف الآثار) (85).

وروى مسلم في الصحيح فيمن خلع يداً من طاعة وفارق الجماعة بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "فمن خرج عن الطاعة، وفارق الجماعةَ، فمات فميتته جاهلية، ومن قاتل تحت رايةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعُصْبَةٍ، أو يدعو لِعُصْبَةٍ، أو ينصر عُصْبَةً، فقتل فَقِتْلَتُهُ جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى عن مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني ولست منه". وروى مسلم رحمه الله في صحيحه بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأله رجل فقال: يا نبي الله أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألوننا حقهم, ويمنعوننا حقنا! فما تأمرنا؟ فأعرض عنه. ثم سأله؟ فأعرض عنه. ثم سأله في الثالثة؟ فجذبه الأشعث بن قيس، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حُمِّلوا وعليكم ما حُمِّلتُم". قال العلامة القرطبي المالكي رحمه الله: يعني أن الله تعالى كلّف الولاة العدل، وحسن الرعاية، وكلف المُولَى عليهم الطاعة، وحسن النصيحة، فأراد أنه إذا عصى الأمراءُ اللهَ فيكم، ولم يقوموا بحقوقكم، فلا تعصوا الله أنتم فيهم، وقوموا بحقوقهم، فان الله مجازٍ كل واحد من الفريقين بما عمل" (86).

وقال حذيفة رضي الله عنه كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: "نعم" . قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: "نعم، وفيه دخن" قلت: وما دخنه؟ قال: "قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر" قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: "نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها" قلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال: "هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا" قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم" قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: "فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعضّ بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك". رواه البخاري. وفي حديث أبي بكرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: "إنها ستكون فتن، ألا ثم تكون فتنة، المضطجع فيها خير من الجالس، والجالس فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي إليها، ألا فإذا نزلت أو وقعت، فمن كانت له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه، ومن لم يكن له شيء من ذلك فليعمد إلى سيفه، فيدقّ على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاء، اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت" (87). وفي حديث أنس رضي الله عنه وقد حسّنه الذهبي رحمه الله: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكون بين يدي الساعة فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً، ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع أقوام دينهم بعرض من الدنيا" ومن أعظم الفتن فتن الدماء وسفكها بغير حق. (88).

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من رأى من أميره شيئاً يكرهه, فليصبر عليه, فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات إلا مات ميتة جاهلية" متفق على صحته. قال الحافظ في شرحه: "قال ابن أبي جمرة: المراد بالمفارقة السعيُ في حلّ عقد البيعة التي حصلت لذلك الأمير, ولو بأدنى شيء, فكنّى عنها بمقدار الشبر لأن الأخذ في ذلك يؤول إلى سفك الدماء بغير حق" (89).

وقال شيخ الاسلام ابن تيمية الحراني رحمه الله: "فطاعة الله ورسوله واجبة على كل أحد، وطاعة ولاة الأمور واجبة لأمر الله بطاعتهم، فمن أطاع الله ورسوله بطاعة ولاة الأمور لله، فأجره على الله، ومن كان لا يطيعهم إلا لما يأخذه من الولاية فإن أعطوه أطاعهم، وان منعوه عصاهم، فماله في الآخرة من خلاق. وقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم؛ رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل، ورجل بايع رجلاً سلعة بعد العصر فحلف له بالله لأخذها بكذا وكذا فصدقه وهو غير ذلك، ورجل بايع إماماً لا يبايعه إلا لدنيا، فان أعطاه منها وَفى، وان لم يعطه منها لم يفِ" (90).
 
وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله"*10*
 
الوسوم
وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله10
عودة
أعلى