وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله"*5*

المنسي

الاعضاء
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم



وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله"

هذا ولا بد للحق من قوة مادية تسنده "وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز" (الحديد: 25) وانظر كيف انتهى مشروع شيخ الإسلام الإصلاحي في زمنه, مع سعة علمه, وقوة عارضته, وغزارة تصانيفه, _مع النجاح الباهر في زمنه وعلى امتداد الزمان بعده, بل إن مشروع مجدد الدعوة هو أحد ثمار مشروع شيخ الإسلام_ثم انظر إلى ثمرة مشروع الإمام المجدد وسرعة قطف ثمرته, فإنه لما كان مع المجدد سيف شهير, فتح الله به قلاع الشرك والوثنية من قلوب الناس. فرحم الله أصحاب السيف الشهير الذين حملوا الأمة على التوحيد, ونقضوا عنها صروح الشرك والبدعة.

وما هو إلا الوحي أو حد مرهف تزيل ضباه أخدعي كل مائل
فهذا شفاء للقلوب من العمى وهذا شفاء العي من كل جاهل


"تعظيمُ السُّنَّةِ, وذمُّ البِدْعَةِ"
دين النبي محمد أخــبار نِعْـم المطـيّة للفتى آثارُ
لا ترغبنّ عن الحديث وأهله فالرأي ليلٌ والحديث نهارُ
ولربما جهل الفتى أثر الهدى والشمس بازغة لها أنوار
قال شيخ الإسلام: "كانوا _أي السلف_يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة. قال مالك رحمه الله: السنة مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك. وهذا حقّ؛ فإن سفينة نوح إنما ركبها من صدّق المرسلين واتبعهم, وأن من لم يركبها فقد كذب المرسلين, واتّباع السنة هو اتّباع الرسالة التي جاءت من عند الله, فتابعُها بمنزلة من ركب مع نوح السفينة باطناً وظاهراً, والمتخلف عن اتباع الرسالة بمنزلة المتخلف عن اتباع نوح عليه السلام وركوب السفينة معه, وهكذا إذا تدبر المؤمن العليم سائر مقالات الفلاسفة وغيرهم من الأمم التي فيها ضلال وكفر, وجد القرآن والسنة كاشفان لأحوالهم, مبينان لحقّهم, مميزان بين حق ذلك وباطله, والصحابة كانوا أعلم الخلق بذلك, كما كانوا أقوم الخلق بجهاد الكفار والمنافقين, كما قال فيهم عبدالله بن مسعود: من كان منكم مستنّاً فليستن بمن قد مات, فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة. أولئك أصحاب محمد كانوا أبرّ هذه الأمة قلوباً, وأعمقها علماً, وأقلّها تكلفاً, قوم اختارهم الله لصحبة نبيه, وإقامة دينه, فاعرفوا لهم حقهم, وتمسكوا بهديهم, فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.

فأخبر عنهم بكمال بر القلوب مع كمال عمق العلم, وهذا قليل في المتأخرين .....وأصحاب محمد صلى الله عيه وسلم كانوا مع أنهم أكمل الناس علماً نافعاً وعملاً صالحاً أقلّ الناس تكلفاً, يصدر عن أحدهم الكلمة والكلمتان من الحكمة أو من المعارف ما يهدي الله بها أمة, وهذا من منن الله على هذه الأمة, وتجد غيرهم يحشون الأوراق من التكلّفات والشطحات ما هو من أعظم الفضول المبتدعة والآراء المخترعة, لم يكن لهم في ذلك سلف إلا رعونات النفوس المتلقاة ممن ساء قصده في الدين" (23). وقال الإمام يحيى بن يوسف الصرصري رحمه الله في التحذير من اندراس السنّة:

واهاً لفرطِ حرارة لا تبردُ ولواعجٍ بين الحشا تتردّدُ
في كل يوم سنّة مدروسة بين الأنام وبدعة تتجدّدُ
إيّاك والبدع المضلّة إنّها تهدي إلى نار الجحيم وتورد
وعليك بالسّنن المنيرة فاقفُها فهي المحجةُ والطّريق الأقصدُ
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: خطّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطّاً ثم قال: "هذا سبيل الله" ثم خطّ خطوطاً عن يمينه وعن شماله، ثم قال: "هذه سُبُل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه" ثم قرأ: "وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون"(الأنعام: 153). رواه أحمد.

وأهل السنة عند شيخ الإسلام: "هم المتمسكون بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم, وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان" (24). وقال كذلك: "فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة"(25).

وعلى المؤمن التحلي بالتؤدة والأناة والالتفاف حول أهل العلم عند التباس الأمور واختلاط الأفهام, وعدم المشاركة في أمر ليس معه من الله فيه برهان, كما نقل ابن وضاح رحمه في كتابه (البدع) عن ابن مسعود رضي الله عنه: "إنها ستكون أمور مشتبهات, فعليكم بالتؤدة, فإن الرجل يكون تابعاً في الخير, خير من أن يكون رأساً في الشر"(26).

والإسلام المقبول عند الله تعالى ليس شكلاً ومظهراً فقط, بل هو المتضمن الإيمان الباطن مع التسليم الظاهر, فهو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله, فالمسلم الحقيقي مستسلم لربه تعالى, قال الإمام الزهري رحمه الله: "من الله الرسالة, وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم البلاغ, وعلينا التسليم" (27). فالمؤمن يدور مع الحق حيث دار, ويعرف الرجال بالحق, قال شيخ الإسلام: "وليس لأحد أن يحتج بقول أحد في مسائل النزاع, وإنما الحجة النص والإجماع ودليل مستنبط من ذلك تقرّر مقدماته بالأدلة لشرعية لا بأقوال بعض العلماء, فإن أقوال العلماء يحتج لها بالأدلة الشرعية لا يحتج بها على الأدلة الشرعية, ومن تربّى على مذهب قد تعوّده واعتقد ما فيه وهو يحسن الأدلة الشرعية وتنازع العلماء, لا يفرق بين ما جاء عن الرسول وتلقته الأمة بالقبول يجب الإيمان به, وبين ما قاله بعض العلماء ويتعسر أو يتعذر إقامة الحجة عليه, ومن كان لا يفرق بين هذا وهذا لم يحسن أن يتكلم في العلم بكلام العلماء" (28).

والمؤمن المتّبع لا يتردّد في قبول كل ما صحّ من الوحي, ولا يردّ ذلك إلى أوهام العقل, أو خيالات النفس, قال شيخ الإسلام: "الرسل تخبر بمحارات العقول, ولا تخبر بمحالات العقول"(29). وكتب عمر بن عبدالعزيز رحمه الله إلى الناس: "إنّه لا رأي لأحد مع سنّة سنّها رسول الله صلى الله عليه وسلم"(30).

وعند أحمد بسند حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أفضل؟ _وفي رواية: خير_ فقال: "أنا والذين معي, ثم الذين على الأثر, ثم الذين على الأثر". وفي الصحيحين عن أنس رضى الله عنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله متى الساعة قال: "وماذا أعددت لها" قال ما أعددت لها كثير عمل إلا أنني أحب الله ورسوله قال النبي صلى الله عليه وسلم : "المرء مع من أحب" يقول أنس: فما فرحنا بشيء كفرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "المرء مع من أحب" قال: وأنا أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم و أبا بكر و عمر و أرجو الله أن أحشر معهم وإن لم أعمل بمثل أعمالهم. وبرهان الحبّ صدق الاتباع, وحسن الائتساء.

أما البدعة فقد بيّن ضابطها شيخ الإسلام بقوله: "البدعة في الدين هي ما لم يشرعه الله ورسوله, وهو ما لم يأمر به أمر إيجاب ولا استحباب" (31). وقال الشاطبي رحمه الله: "البدعة هي طريقة في الدين مخترعة, تضاهي الشرعية, يُقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه" (32). وقد قال الله تعالى منكراً كلّ بدعة: "أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله" (الشورى: 21). ويكفي في ذم البدع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خُطَبِه: "أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة ضلالة" رواه مسلم. ولو تأمّل المبتدع أنه ببدعته إنما يتنَقَّصُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم باتهامه غير المباشر أنه لم يبلّغ الدين حق البلاغ لانزجر, فبرهان المحبة له طاعته والتزام سنته بحذافيرها, بدون زيادة أو نقص."قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله" (آل عمران: 31) ومن استهان بالسنّة أو شنأها عاد ذلك عليه وبالاً, وانقلب حامدُه من الناس له ذامّاً, قال شيخ الإسلام: "فلا يوجد من شنأ الرسول صلى الله عليه وسلم إلّا بتره الله, حتى أهل البدع المخالفون لسنته, قيل لأبى بكر بن عياش: إن بالمسجد قوماً يجلسون للناس ويتكلمون بالبدعة. فقال من جلس للناس جُلس الناس إليه, لكن أهل السنة يبقون ويبقى ذكرهم, وأهل البدعة يموتون ويموت ذكرهم" (33). ومن كان على الحق فهو الأمة ولو كان لوحده, قال الإمام المجدد رحمه الله تعالى في تفسير قول الله تعالى: "إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين" (النحل: 120) "إنّ إبراهيم كان أمة" حتى لا يستوحش سالك الطريق من قلة السالكين "قانتا لله" لا للملوك ولا للتجار المترفين "حنيفاً" لا يميل يميناً ولا شمالاً, كحال العلماء المفتونين "وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" خلافاً لمن كثّر سوادهم، وزعم أنه من المسلمين".

ولابد في كل عبادة من استيفاء شرطي العمل؛ الإخلاص والمتابعة, فإن تخلّف الإخلاص دخل الشرك, وإن تخلفت المتابعة دخلت البدعة, وقد جمعتهما آخر آية من سورة الكهف: "فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً" (الكهف: 110)

وقال شيخ الإسلام: "قال الفضيل بن عياض فى قوله تعالى: "ليبلوكم أيكم أحسن عملاً" (الملك: 2) قال أخلصه وأصوبه, قيل له: يا أبا علي مّا أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل, وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل, حتى يكون خالصاً صواباً, والخالص أن يكون لله, والصواب أن يكون على السنّة. وكان الفضيل رحمه الله يقول: من وقّر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام, ومن زوج كريمته لصاحب بدعة فقد قطع رحمها, ومن انتهر صاحب بدعة ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً, وأكثر إشاراته وإشارات غيره من المشايخ بالبدعة؛ إنما هي إلى البدع في العبادات والأحوال, كما قال الله تعالى عن النصارى: "ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم" (الحديد: 27) وقال ابن مسعود: عليكم بالسبيل والسنة, فإنّه ما من عبدٍ على السبيل والسنة ذكر الله خالياً, فاقشعر جلده من مخافة الله إلا تحاتّت عنه خطاياه كما يتحات الورق اليابس عن الشجرة, وما من عبد على السبيل والسنة ذكر الله خالياً فدمعت عيناه من خشية الله إلا لم تمسه النار أبداً, وان اقتصاداً فى سبيل وسنّة خير من اجتهاد فى خلاف سبيل وسنة, فاحرصوا أن تكون أعمالكم وإن كانت اجتهاداً أو اقتصاداً على منهاج الأنبياء وسنتهم" (34). وقال شيخ الإسلام في لاميته مزرياً بمن استهانوا بالسنة والآثار واستبدلوها بغثاء أفراخ الفلاسفة:

قبحاً لمن نبذ الكتاب وراءه وإذا استدل يقول قال الأخطلُ
وقال الشاطبي رحمه الله في الاعتصام: "وعن كُميل بن زياد أن علياً رضي الله عنه قال: يا كميل: إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها للخير, والناس ثلاثة: فعالم رباني, ومتعلم على سبيل نجاة, وهمج رعاع أتباع كل ناعق, لم يستضيؤا بنور العلم, ولم يلجؤا إلى ركن وثيق.....أُفٍّ لحامل حق لا بصيرة له, ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة, لا يدري أين الحق, إن قال أخطأ, وإن أخطأ لم يدر, مشغوف بما لا يدري حقيقته, فهو فتنة لمن فتن به" (35). وقال ابن الماجشون: سمعت مالكاً يقول: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة, فقد زعم أنّ محمداً خان الرسالة, لأن الله يقول: "اليوم أكملت لكم دينكم" (المائدة:3) فما لم يكن يومئذٍ ديناً فلا يكون اليوم ديناً" (36).

وقال الإمام ابن الإمام عبدالله بن أبي داود السجستاني في حائيته:

تمسّك بحبل الله واتبع الهدى ولا تك بدعـيّاً لعـلك تفلحُ
ودن بكتاب الله والسنن التي أتت عن رسول الله تنجو وتربحُ
ودع عنك آراء الرجال وقولهم فقول رسول الله أزكى وأشرحُ
وقال سفيان الثوري رحمه الله: "البدعة أحب إلى إبليس من المعصية, المعصية يُتاب منها, والبدعة لا يتاب منها" (37). وحين حذّر ابن مسعود رضي الله عنه من البدع, وأمر بالهرب منها...قيل له: يا أبا عبدالرحمن فإلى أين؟ قال: "إلى لا أين" قال: "يهرب بقلبه ودينه لا يجالس أحداً من أهل البدع" (38). وتأمل قوله الذي يكاد يخرج من مشكاة النبوة: "كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير, ويهرم فيها الكبير, إذا ترك منها شيء قيل: تركت السنة!" قيل متى ذلك يا أبا عبدالرحمن؟ قال: "ذلك إذا ذهب علماؤكم, وكثرت جهالكم, وكثرت قرّاؤكم, وقلّت فقهاؤكم, والتمست الدنيا بعمل الآخرة, وتفقه لغير الدين" (39).

وقال الدكتور عبدالله الدميجي: "أكبر أسباب الابتداع في الدين والانحراف عن المنهج الحق (الوسط) والوقوع في الغلو والإفراط, أو في الجفاء والتفريط, قديماً وحديثاً؛ هو الانحراف في فهم النصوص الشرعية, والتفلّت من فهم السلف لها, ولذلك ظهرت بعض التيارات الفكرية المعاصرة والمنابذة للحق.....ولا بد من التفريق بين ما كان فهماً لبعض السلف وفهم السلف, فالثاني يقتضي إجماعهم, أو اتفاق جمهورهم, مع عدم وجود المخالف منهم, بينما الأول يدخل فيه اجتهاد أفرادهم في بيانهم لبعض الأحكام الجزئية, أو تفسيراتهم لبعض الآيات القرآنية التي اختلفوا فيها وتعددت أقوالهم, أو لم يشتهر ذلك عنهم, أو جانب بعضهم الصواب فيها....وللسلف الصالح من الخصائص والميزات التي لا تجتمع في غيرهم ما يوجب تقديم فهمهم على فهوم المتأخرين؛ كسلامة مصادرهم في التلقي, وحرصهم على العلم وفهمه, والعمل بما علموه, ومشاهدتهم الوحي والتنزيل, مما أورثهم مزيد فهم لا يشاركهم فيه غيرهم, كما أنهم أعظم الناس عقلاً وفهماً وحساً وإدراكاً, وذلك ثمرة قوة إيمانهم وتقواهم" وملخص كلامه حفظه الله: أن الحقّ لا يخرج عن فهم السلف مهما تصرفت مصادره وتعددت موارده. (40).

وخير الأمور السالفات على الهدى وشرّ الأمور المحدثات البدائع
والوضوح والإشهار سمة أهل السنة, والاختفاء والإسرار سمة أهل البدعة, قال الإمام الراشد عمر بن عبدالعزيز رحمه الله: "إذا رأيت قوماً يتناجون في دينهم دون العامّة فاعلم أنهم على تأسيس ضلاله"(41). وقال في ذم الخصومات في الدين: "من جعل دينه عرضة للخصومات أكثر التنقل"(42).




 
منوره حلا
وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله"*5*
 
الوسوم
وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله5
عودة
أعلى