رواية بنات حارتنا

ما كدت أضع رأسي على المخدة حتى برزت في وجهي مشاكل جديدة.
منها الظهور على الخشبة أمام جمهور من الناس لا يزال يزدري الممثل ويدعوه بالمشخصاتي، لم لا أنتقي درباً معبداً مثل بقية البنات؟ هند مثلاً التي علمتنا التانجو والرومبا والسامبا.
- أين تعلمت الرقص يا هند؟.
- في نادي الضباط مع أبي، أبي ضابط طيار، ألا تعرفين؟.
-أبوك من علمك الرقص؟..
تتعجب، إذن لم لا يرقص أبي معي أيضاً؟ تخيلت سليل قضاة دمشق يرقص، ضحكت من أفكاري المجنونة، ألا يكفي ماحل بجارنا أستاذ الموسيقى الذي درس الكمان في أرقى معهد للموسيقى في باريز، وعاد بفكر متحرر ليعلم التلاميذ أصول قراءة النوتات وعندما علم ابنته العزف ورقصة التانجو وكذا أبناءه وصحبها إلى النادي الموسيقي في الشهداء ماذا كانت النتيجة؟
ازور عنه الجميع، وأنكره المثقف والجاهل: لا حقته أقوالهم:
- جاء المزيكاتي، وذهب المزيكاتي، عمل من ابنته فرجة.
يارب.. كيف أتصرف دون أن أدخل تجربة ممضة لا تقلب البيت على رأسي من أساسه.
ركبت تمثيلية بيت حول تمثيلية المدرسة. يفهم أهلي العلم، المدرسة. أما المسرح، وتجسيد أفكار المؤلف والمخرج على منصة فهذا غير مرغوب فيه بتاتاً.
ألبست مشاركتي ثوب الأمر الإداري. ولم أتطرق مطلقاً إلى أدوار الرقص مع زميلتي أميرة بدور فارس الأحلام المحبوب. ولا بدور راقصة المعبد.
وكما خمنت وتوقعت، في البداية ثورة عنيفة ذات طابع قطعي. ابنة الشريف في آخر الزمن ممثلة، من بعد بدأت الأرض الصخرية تستجيب لضرباتي اليومية المتواصلة حتى تراخت اللا.
بدت تدريباتنا عشوائية وحركاتنا لا رابط بينها، نبكي حيث يجب أن نضحك، ونضحك حيث يجب أن نبكي. نعتمد على ماينغل في رأسنا الجاهل عن فن التمثيل دون وجود مخرج مختص. قمنا بتجسيد الأدوار كما فهمناها نحن الصغيرات نبدل من رأسنا ونغير من رأسنا. كان دوري ( رئيس الكهنة) في مملكة زنوبيا. رجل داهية منافق، جاسوس يعمل لحساب الرومان.
وعندما ارتديت الثوب الأسود الطويل الكاهن شاب دخل الكهنوت حديثاً ضحكت الآنسة هيفاء من شكلي: وشعرك؟ سألت.
تلمستُ جدائلي الكستنائية الطويلة.
- أقصه آنسة.
بدوت سعيدة مندفعة رغم يقيني بأن الحزن رفيق مخلص لي. قررت أن أدخل التجربة بعيداً عن الكتب الجادة التي يدفعني أحمد إلى قراءتها. تعبت من اللحاق به ومازال يسبقني بمراحل قد لا أعرفها أبداً، وقد لا أقبض على الزمن والحقيقة من كتب التاريخ المزور.
كان المسرح شيئاً خارقاً للعادة، لا يستوعبه وصفي، مزيجاً من فلسفة الوجود، الفن، والتاريخ، تواصل جماعي.. وإلى ذلك متعة نفسية، وتجاوز.
تساءلت:
- هل تجاوزت المحرمات بقبولي هذا الدور. ولكن ماعساي أن أفعل وأنا التي تتفجر الأسئلة في رأسي حول الكون والكائنات والناس والوطن، والوطنية هل أنا مجنونة أمشي على رأسي غير آبهة بالعائلة، وبالتقاليد والمحرمات؟ ترقرقت الدموع في عيني.
حضرني شوقي وغلبني يأسي من أحمد... أنا لا أشعر بالأمان إلا ورأسي على كتفه. أرمم بقايا المخزون في شراييني حتى لا يشمت أحد بالألم الذي يملؤني، وماذا بعد؟
لابد من لا. حددت وقتها رغبة في ترتيب ماتبعثر من ذهني في الدروب المتشعبة التي أثقلها التفكير بالنجاح والفشل ولقاء أحمد المذعور المخطوف من فم الغول. تناسيت شرور العالم ومؤامراته علينا.. حتى أثقلني التعب. ثلاثون يوماً من التدريب اليومي.
ثم توفيت المسرحية في أواخر نيسان كوداع لصف البكالوريا.
لم يخف تزيين وجهي باللمسات الرجالية ملاحمي. لحية صغيرة مدببة وشعيرات موزعة على جانبي وجهي. شعر قصير ملموم تحت قلنسوة كبيرة هبطت فوق جبيني، وثوب فضفاض ضم خصري بحبل مبروم مثل زاهد.
أثار ظهوري بتلك الهيئة ابتسامة عريضة لاحظتها على وجه أحمد الذي كنت قد دعوته. لم أفسر معناها، ولكنها أثارت غيظي. هاهو يضحك مني.
اندمجت بدوري غير مبالية، أديت الدور بكبرياء مغايرة لما أراده المؤلف.
انسحبت أخيراً متراجعة إلى الداخل كي أغير هندام الروح وأستعيد رغبة الحياة.
تحررت من اللباس الكهنوتي. انقلبت من فوري إلى دور آخر في المسرحية غدوت فارساً مرغوباً من الفتيات الجميلات يختار قلبه واحدة هي (الملكة زنوبيا).
عندما أسدل الستار وقفت لحظة صامتة وحدي وسط ديكورات ملونة أشيع وقتاً امتلأ بالحياة والنشاط.
بكيت في ليلة لا تنسى. أهو انغمار، انغماس، تواجد، هلع، اضطراب.. مجموعة انفعالات إنسانية أيقنت أنها لن تعود أبداً..؟
ركضتُ إلى الأستاذ سعيد كي يمسح عن وجهي بقايا المكياج لألحق بأخوي عادل وسامي قرب الباب الخارجي.
حملت الآنسة هيفاء صحيفة النصر مزهوة سعيدة، كأنها طردت حزن العالم من قلبها المسكون بالألم.
- سلمى.. سلمى. انظري هذه الكلمات في المربع الأسود. نجحنا. اقتربت من أذني همست. أحمد كتب بضعة أسطر أيضاً.
- صحيح؟.. طرت من الفرح.
عززت مكانتي معه وفقدتها مع العائلة. ثارت علي ابنة عم لي بنميمة من مجهولين. كانت قد اتخذت من بيت جدي مقراً لدعوة سلفية نصف أمية بعيداً عن جوهر فقهي حقيقي. غيرت في لون أسقفه الدار الخشبية الثمينة المحفورة والملونة. والمنقوشة بالأزاهير، والمرشوشات بماء الذهب والفضة. جعلتها مطلية بالكلس الأبيض. قلبت قاعاته التي شهدت أفراح وأتراح العائلة على مدى مئات السنين وأحالتها إلى كتاتيب شيخية بدائية.
زارتنا هذه المبشرة الملفوفة بملاءة سوداء مزمومة عند الخصر يقطر السم من ذقنها، ويلهب العينين الخضراوين.
ركضت أمي إلى المطبخ مبتهجة بالضيفة الكريمة. تود أن تضيف صنفاً آخر إلى الطعام. سمعت صراخاً وصوتاً يهدد.
- يابن عمي، يابن عمي، معقول أن تمثل سلمى دور كاهن في مسرحية وتظهر أمام الرجال. هذه بنت زقاق، وليست "بنت الشريف"....
حق علينا التأديب رحم الله جدها القاضي. مايقول فيها لو خرج من قبره، مايقول فينا. لكان أنكرنا ولعننا..
أحس الوالدان بالحرج وبالخطر يهدد ابنتهما. حملا درع الحماية بشراسة أثارت عجبي. فتفجرت دموع الفرح من عيني. خرجت منتصرة مرة أخرى وهذه المرة ضمن عائلتي.
رد والدي بحزم: سلمى لم تخرج عن طوعنا، نحن سمحنا لها بذلك. وضمن جو المدرسة، هرولت ابنة عمي إلى الشارع، ولم تعد إلى بيتنا أبداً.. لكنها ظلت تنتقل كالمكوك من بيت إلى بيت لتؤجج النيران ضدي.
يدرك والدي وحده مدى طموحي. فتح المحفظة الجلدية الصغيرة، ونتر منها مئة ليرة سورية:
- اشتري ياسلمى ماترغبين.
زوت أمي بين حاجبيها معاتبة.
- اسوارة في يدها أفضل.
- حسن هذه مني، والأسوارة منك.
لم أطلب بلساني ذهباً ولا فضة. كنت واحدة من كثيرات تبحث عن كيانها، عن وجودها، عن شخصيتها، تدافع مثلما يدافعن عن ذات أنثوية حرة تأتي في المقام الأول.
تنفس الدمشقيون نسائم الصيف الحارة. توجهوا نحو آخر خط الترام في المهاجرين ليشاهدوا سباق الخيل الذي يقدمه أبو عبدو الغاوردي وأبناؤه. يتحرك موكبهم التقليدي الفرساني بخيول مطهمة مزدانة الأعناق بالأطواق والسلاسل صبيحة كل جمعة من الميدان إلى المهاجرين في جلال مهيب إلى ساحة مكشوفة تتجمع فيها مئات النساء والرجال والأطفال. تبدأ التحية بكر وفر وإقدام وتراجع يلهب الآلاف بالتصفيق، ويفجر الحماس، ثم يعود موكبهم الرائع وكأنهم عائدون من ساحة حرب فرسان على صهوات جيادهم يزين جبينهم إكليل النصر. يلاحقهم هتاف الإعجاب.
أغلقت الجمعيات الثقافية أبوابها بسبب الحر. رحل من رحل إلى بلودان والزبداني. أو جبل لبنان. بقي أحمد يساهر الأوراق في عملٍ مضنٍ يرسم لوحات روائع. اعتكف يترجم مسرحية لغوغول. تقطعت أخباره وتعذر اللقاء. وصبر الهاتف علينا. فالمطبعة غول لا يرحم.
ظلت المدرسة النافذة الوحيدة التي لا تسيجها القضبان. أنطلق مهاجرة، أحمل رفة قلبي في الصدر الموجع أحاوره في سري وأنا في الطريق.
- ترى هل أراه، أم لا أراه، هل أراه أم لا أراه. وفجأة يهبط قلبي. وينذر باقات متناغمة لا تتوقف إلا عندما ينطلق جامحاً عابراً الرصيف نحوي.
هاهو آت بعد غياب يرمي الرسالة في كفي أوسدها صدري. ترى كم مرة قرأت كلماتها حتى انعدمت الأحرف وباخ الحبر.
ماذا يقول هذه المرة؟ يفلسف الحياة والعطاء.


ينبع

 
ساذجة أنت ياسلمى أنت ساذجة وبريئة. الحب حب متكامل مصهور بالجسد والفكر والإحساس. أتدرين ماقيس وليلى سوى أسطورة العجز عن الحب الكامل الحقيقي.
سلمى مزقي المألوف والسائد، تجاوزي نفسك، مزقي الأشواك التي وضعها المتكسبون. كوني امرأة كاملة الأنوثة متحررة من عبودية المواصفات التي وضعها المتكسبون، كوني امرأة كاملة الأنوثة متحررة من عبودية المواضعات).
أهي دعوة إلى الانعتاق من ربقة التابوهات. والاقتراب من النار. ارتعدت مزقت الرسالة. لم أجد أحمد بين سطورها. أصبح رجلاً آخر فقد صبره. عدت أجر رفات قلب ميت... يعذبني شوقي إليه. ترى هل أقوى على ضمه دون وجل. يريد روحي عارية صادقة مع نفسي أولاً. لا أكذب عليها مرة واحدة.
أمضيت ليلة معتمة تحجر الضوء فيها انسكبت ظلمته على إنسانيتي تتلظى بثورة الشباب.
نعود في صباح آخر لنلعب لعبة طفلية مضحكة. أمشي على رصيف ويمشي على رصيف. كيف نلتقي وأين. سؤال أمضنا. أفي بيته الذي ينغل بالأفراد، أم في بيتي المفعم بالأعراف حتى الاختناق.
مقاهي دمشق مفتوحة للرجال ومغلقة في وجه العشاق. لم يبق أمامنا سوى السينما. هذه الصالات التي عاشت قصتنا الغريبة.
ماكان أحمد ليرضخ لمثل هذه العلاقة الصبيانية كما يدعوها.
سرعان مايثور ويتململ:
- فكرت أن أستأجر بيتاً.
- أنت، وفي دمشق لتعيش وحدك؟
يشدني من يدي ويقهقه:
- لا ليس لوحدي.
ترى كم ظللنا هاربين في أزقة ضيقة وحارات مجهولة ونظرات متهمة. يسايرني ويضغط على أعصابه وهو العائد من بلاد بعيدة حيث يصل المحبان فيها إلى غايتهما مباشرة، تتلجلج الأنثى فيّ أمام قبلة. تتنازعني رغبتنا في التمرد والخضوع. أبقى بين مد وجزر ممزقة في علاقة محرمة بين رجل وفتاة. قال باستغراب:
- لم لا تسأليني عن الزواج شأن البنات عندما يتعرفن على أول شاب. مجرد أن يقول لهن مرحبا، يلقين الأنشوطة حول عنقه. حيرتني معك ياسلمى. ماذا تعنين؟!
رفضتُ الخوض في أي حديث مشابه، وفي زعمي أني أخرق ثغرة في سد إرثي منيع أقوى مني. وصلتني همسات مغرضة حول انهماك الأهل بالبحث عن عروس له. مثلت دور اللامبالية.
تنتصر الكبرياء تطغى على وجهي ومسام جلدي. تنز قطرات ندى من شعري في لحظات اللقاء المذعور، وأنا أهرب متخفية من عشيرتي... إلى حبي الكبير.
آه يا أحمد، كم أحس بالأمان معك؟
داعبته قائلة:
- أحمد ، سمعتُ أن العائلة نشطة خلف البنات الحلوات في هذه الأيام. قرأ في عيني الحريق، وقرأتُ في عينيه الاستسلام. كلانا يتلظى ويمشي عكساً إلى غايته.
تجاهل كلامي. احترمت صمته.
لم يك الخبر كاذباً، ولا مجرد إشاعة ملفقة. عقد قرانه على بنت مضمومة الشفتين على آهات مكبوتة في صدر أعجف، وقامة قصيرة، ودراية كبيرة بالكنس والطبخ.
ولم يتخلص أحمد من حلقة العشيرة. كان برغياً في عجلتها. لم ألومه على ضعفه؟ أليس منا ومن هذا البلد؟
أحزنني خضوعه وهشاشة ثوريته على الأعراف. هاهو أول من سقط في شبكة احتجاجاته، ولم يقو على انتشال نفسه منها. جللني غضب ونفور منه. فما عدت أريد أن أفهمه، ولا أريد أن أعرفه. انشطر إلى خليتين. جسدين، فكرين، تمالكت خيبتي. آه لو ينفجر هذا القلب إلى شظايا.
مشيت في الطريق. توقفت أمام محل للبوظة.
- ممكن أن أستعمل الهاتف؟
أدرت الأرقام التي أحببتها. انسكب صوته الصافي في أذني.-ألو.
صمتَ، صمتُ، بادرتهُ:
- مبروك أستاذ أحمد.
- تأخرت بالهاتف. انتظرته منذ فترة.
استيقظت في اليوم التالي، كالموتى، صفراء، خرقاء. مومياء. أجر قدمي إلى المدرسة. وكأني مساقة إلى المقصلة. فقدت كل بهجة. تساءلت:
- أكنت أتعلم، وأتعرف، وأستكشف، وأحارب سواد الحياة من أجله؟!
انتصرت عائلته على الحب. كانت تعرفني تخشاني. تخشى تحرري المورّد.
حاولت في الأيام التالية أن أضمد طعنة السكين المثلمة، لكنه ذات يوم عاد... قابلني واجهني كلمني، شدّ على يدي. قال إنه فسخ.
استعدت روحي. ظفرتُ به ظفرت به، هو لي وأنا له، ولن تتمكن امرأة أخرى أن تسلبه مني. قد تحظى بالجلد واللحم. ولكن ليس بقلبه. حاورت نفسي فيما كان يقترب بخطواته العجلى المتسارعة. تفرست في جسده النخيل المتمايل ويديه المعروقتين، وأصابعه الطويلة المتناسقة. حسبته مسيحاً أهو المسيح بعينه.
تراوح علاقتي بأحمد مكانها، تختمر على جمر هادئ. لم تعد لقاءاتنا في الأزقة المهجورة وبين المقابر في الجبل. فقد ساعدنا الحظ، سافر سعيد رفيق أحمد إلى بولونيا لنيل دكتوراه في الفيزياء. أشفق علينا فقدم لنا مفتاح بيته.
نجم عن هذه النقلة، بل القفزة فزع أكبر، وآلية شديدة الوطأة مثل كابوس مزعج. حشرتني بين رحى الطاحون. أثناء ذلك تشكلت رابطة للكتاب السوريين. وعمت المظاهرات العنيفة المدينة وحلب وحمص داعية إلى إسقاط حكم الشيشكلي، ساندها تمرد عسكري في حلب قادة نقيبان.
حسم الموقف لصالحهما انحياز قادة المنطقة الوسطى حمص. ترددت أثناءها إشاعة بأن لواءين عراقيين تحركا إلى جانبهم. وتسربت إشاعة أخرى بأن السعودية تدخلت حقناً للدماء.
يبدو مصفحتين مدججتين بالأسلحة شقتا صفوف المظاهرات إلى نصفين ووقع المقدور.
سرعان مانبذنا همومنا أمام متغيرات متسارعة حلت بالوطن. أفقنا صباح 1954، على بيان موجه إلى الشعب السوري يعلن الإطاحة بحكم الشيشكلي.
مل الشعب حوادث العنف، وأخبار الاعتقالات، والإضرابات والفوضى، ففي صيف تلك السنة وحدت الأحزاب التقدمية أهدافها ودعت إلى انتخابات بديلة حرة شعبية تثور على الرجعية وضمن خط سياسي ديمقراطي، وصولاً إلى الاشتراكية.
عاد شكري القوتلي رئيساً للجمهورية.
تنفست المدينة الصعداء بعد أن تصدعت سنوات متوالية. لفظت القشع الصدئ من صدرها، وارتخت أعصابها، عم الفرح والحزن.. الحزن خوفاً من تمزق جديد، فالأيام حبلى بالثارات والتصفيات، والولاء لفئة دون فئة أخرى. من يدري بالغد. ربما اعتقالات أخرى وانتماءات، واجتهادات، وربما انفجارات. فالموقف لم يتبلور بعد.
وعاد من سمّوا بالمحاليق إلى التمختر في شارع الصالحية، يزينهم شباب متفجر وعنجهية صارخة بعد أن تخلصوا من إعدام محقق. سرت شائعة أيام الانقلاب الأول تتهمهم بإلقاء القنابل والعبث بالأمن.
رن جرس الهاتف صباحاً، تناولت السماعة:
- سلمى، باختصار، ضحك الحظ في وجهك، وافق وزير المعارف على بكالوريا موحدة، بدل بكالوريا بقسمين، أنا في المطبعة، ثم سكت الهاتف.
- معقول ، غير معقول، سنة واحدة فقط وإذا أنا في الجامعة؟ جننت فرحاً، سأعبر سورها الحديدي إلى القاعات الفسيحة المطلة على الحديقة حيث يتجمع الطلاب أمام كلية الآداب.
تساءلت كطفلة وجدت نفسها في محل للألعاب كلها جميلة ومغرية. تتلون الأحلام. تتزاحم، تتناقض، ماذا دهاني، هل فقدت القدر ة على التركيز؟ الجامعة، الجامعة، اللقاءات، النقاش، الحرية.. صحت وأنا أخلع قميص النوم عنّي:
- في سبيل الجامعة. نحيا أو نبيد!
صفنت لحظة، يجب أن أراه، ولكن كيف؟ ركبت رأسي.. أينما كان، في الطريق، في المعمل، في الباص... أمام الناس، مع الناس لايهم لن أعدم وسيلة. فاجأته في المطبعة يتابع تصحيح البروفات قبل إرسالها إلى الطباعة منكباً على الطاولة ظهره إلى الباب، وإلى جانبه عامل صغير. لم أ در، أسرّه وجودي أم أغضبه. كانت نظرته متسائلة.
سلم الأوراق إلى العامل، وانتحى جانباً دون كلام. أفسح لي الطريق. مشى، مشيتُ كطفلة مذنبة.
البناء قديم لارتوش على جدرانه القذرة. أبواب مسدودة، وأرض وسخة. فتح باباً إلى اليسار وقال:
- تفضلي...
قرب النافذة المغبشة من هباب السيارات. العارية من الستائر. قبع رجل في مثل سن أحمد، زميله في العمل يمج الدخان من سيجارة. ويراقب سحائبه الملتفة في الغرفة المغلقة. دار في كرسيه المعدني. وقف مسلماً. لمحت في عينيه نظرة جريئة. ابتسم متخابثاً، وكأنه يصل حديثاً انقطع قبل هنيهة.
- البروفات جاهزة أستاذ أحمد؟
- حاضر أخي حبيب، دوماً حاضر.. وابتسم غامزاً نحوي.
- لا تنسَ مقالتك النقدية، يجب أن تصل إلى المطبعة اليوم. من الضحية هذه المرة، الفنان أم الفن التشكيلي؟ وضحك لنكتته. حمل بعضه وأوراقه، وقبل أن يغادر رازني بعينيه الصغيرتين المجربتين متأنياً مستكشفاً، ربما المسافة التي قطعتها مع أحمد. قال:
- ليت الآنسة سلمى تترجم لنا قصة من الأدب الأمريكي الحديث، هنري جيمس مثلاً. الكتاب عندي. ثم التفت نحوي:
- كيف لغتك؟
- أنا؟ رددت ساهمة أراقب أسنانه المسودة بفعل الدخان.
- طبعاً، أنتِ.
- مازلتُ في العاشر. لا تعتمد علي.
تباسط بالحديث، وخرج.
عقد أحمد حاجبيه مستاءً من تصرفات رفيقه، عقّب باقتضاب:
- اترك الأمر لنا.
ارتميت بين ذراعيه أنبش صدره وأتلفح بأضلاعه. سمعت وجيب قلبه. نسيت نفسي، تمنيتُ لو أقضي عمري معه، أموت هنا على الكتفين العريضين يضمانني بحنان وقوة همست لنفسي:
- إنه لي، إنه لي..
نقرة على الباب، انفصلنا، دخل الآذن يحمل صينية القهوة. نبر بأدب:
- طلبها الأستاذ حبيب.
مسحت عينا الرجل الطويل النحيل كنخلة باسقة أطراف قدمي، ثم تراجع نحو الباب بلطف:
- إنشاء الله تعجبك أستاذ.
أهي أطيب قهوة ذقتها في حياتي. أهي أحلى أمنية قطفتها من النجوم. أم أحلى فجر؟ غمرتني متعة الظفر. علي أن أختار.
- مارأيك بما طلبه حبيب؟
- سؤال متعجل.
رفع رأسه نحوي. رأيت غيرة واضحة في عينيه. قال: عندما تشربين القهوة، غادري، فما اعتاد العاملون في المطبعة زيارات مماثلة. غرس عينيه في شفتي. جرّني إليه وقبلّني.
في الدرب الملتوي نحو المرجة حيث محطة الترام وحوانيت الحلوى شعرت بالجوع، اشتريت قطعة مبرومة واحدة.
- واحدة، قال البائع دهشاً؟
- واحدة.
تسكعتُ أمام المكتبات. قلبت الكتب، والكتب المترجمة. خفق قلبي. هذا اسمه، اسم (أحمد الخالد) مؤطر بالأحمر على كتاب (غوغول).
تتبادل التوأمان دمشق وبيروت المعرفة. وددتُ لو أشتري سالومي، الأم، الزنبقة السوداء، درب إلى القمة، تاييس، أورى، الحي اللاتيني.
استعدت معنوياتي التي أوشكت على الانهيار بفضل نشاط ابنة العم المتزمتة كان أبي اسعدنا، فالعلم عنده خبز مقدس يحلف عليه. من أجله دفع ذهباً لإخوتي في مدرسة الفرير، وللبنات في مدرسة إيطالية. باع دكاكين وبيوتاً جميلة.
منعني التفكير من النوم.
- يافتاح ياعليم. قالت أمي وهي تفرك عينيها بالمنشفة. ماخلصنا قراءة؟ أرى دليل الهاتف في يدك. خير؟
- أبحث عن رقم إلهام حداد. سمعت أنها افتتحت مدرسة خاصة قد أشتغل عندها معلمة.
سكتت قليلاً ثم رمقتني:
- لا تتعجلي، لست بحاجة إلى العمل. أبوك موجود انتظري البكالوريا. أين أحلام الجامعة؟
تدفق الكلام تباعاً من فمها.
إذن هي لا تمانع، هذه بادرة طيبة. لو تدري كم أحتاج إلى أشياء وأشياء.
- طيب، هات بشارة، قلتها وأنا أندفع نحوها وأقبلها.. خلص، صرت بالبكالوريا. وافق وزير المعارف على دمج البكالورتين اعتباراً من هذه السنة. يعني السنة القادمة بكالوريا موحدة، ما سمعت الإذاعة؟!
تراجعت مرتاحة إلى المطبخ، فاحت رائحة القهوة بمذاق لذيذ منعش. نوّر الغرفة وجه أبي المشرق بابتسامة حانية.
- صباح الخير سلمى، شربتِ القهوة؟
هجمتُ عليه أعانقه:
- معقول بابا، بعد البكالوريا... الحقوق... مافينا كاني ماني.
- المحاماة والقضاء مهنة العائلة.
سألتُ: صحيح. أنا أنحدر من سابع قاضٍ ليس بينهم امرأة متعلمة؟
- طبعاً غير صحيح. ابنة أخي سعاد أول امرأة درست الحقوق في بلدنا.
- بابا، هات البشارة أنت أيضاً، صرت بالبكالوريا.. يعني قصر الدرب وحدوا البكالوريا. ما سمعت الخبر البارحة؟ أصبح بالإمكان الجمع بين العمل والجامعة.
مد وجهه نحوي:
- وهذه قبلة.
أبعدتني أخبار طازجة عن خواطري وصلتنا دعوة ملحاحة حارة تنز غيثاً من صهري صبري أفندي الذي استعاد وجاهته بين بدوٍ في آخر نقطة من شمالي البلاد. ضمنّ رسالته كلاماً كبيراً عن نجاحاته في زراعة القمح والقطن. لم ينسَ أن يذكر ما اشترى لأختي من ذهب ملأ يديها وأذنيها وحتى قدميها. وفي آخر الرسالة أن أم البنات حامل للمرة الثالثة منذ أن سافرت بعد عدة إجهاضات.
من خلال الأسطر فهمنا أنه اقتنى سيارة فخمة (بونتياك) زيتيّة وأجر سائقاً سريانياً سيكون تحت تصرفنا عندما يقرر والدي المجيء.
رمى الرسالة جانباً:
-سنرى ، عقب والدي، ونفخ ضيقاً من صدره.
رقصت فرحاً، صيفية رائعة، هأنذي أنطلق إلى أفق آخر.
تساءلت:
- ترى كيف أصبحت مها؟ أما زالت جميلة، نحيلة فارعة.
قرأنا الرسالة مرات، بادرت أمي بطيبتها المعهودة إلى توزيع الحلوى ابتهاجاً بالأنباء الجيدة التي رفضها إخوتي ساخرين.
- القمحة المسوسة لا تعطي إلا قمحاً مسوساً.
تنذرني عين أبي بالتروي. اقتربت منه أتدفأ بذراعه همست: بابا، أينما ذهبت أذهب معك. لا فكاك مني. ألا تشتاق إلى حفيداتك.
- أنا معك ياسلمى، البعد جفاء. ربت على كتفي وتمتم:
- لابد من بحث الأمر. سيئاته. وحسناته مع أخوتك.
تواترت القصص عن صبري أفندي عبر الأصدقاء والمعلمين العائدين من هناك.
- ذهب أبيض بين يديه، قطن بالأطنان.. أرض خصبة، رخيصة وفلاحون فقراء، جاء صبري أفندي في الوقت الملائم. حظ.. ووجه آخر للعملة الواحدة مستور بطبقة هشة تصبو إلى الكشف عنها. ولن يطول ذلك.
أطار المال صواب مها. أغمضت عينيها عن تحرشات زوجها بالفلاحات. وانغماسه حتى أذنيه في الرذيلة. وأغلقت سمعها عن همسات تدور في غرفة الخادمة الكردية. خرجت أختي من إهاب الخفر والحياء بعد أن كانت ترف عيناها من صوت عالٍ أو صفقة بابٍ حادة مفاجئة في بيت أهلها، تمسك أمي رأسها من أخبارها.
- العمى جنت مها، جنت البنت.




يتبع
*********
 
أطار المال صواب مها. أغمضت عينيها عن تحرشات زوجها بالفلاحات. وانغماسه حتى أذنيه في الرذيلة. وأغلقت سمعها عن همسات تدور في غرفة الخادمة الكردية. خرجت أختي من إهاب الخفر والحياء بعد أن كانت ترف عيناها من صوت عالٍ أو صفقة بابٍ حادة مفاجئة في بيت أهلها، تمسك أمي رأسها من أخبارها.
- العمى جنت مها، جنت البنت.
بعد لأي وافقت والدتي على سفرنا. كان يوماً قائظاً من شهر تموز.
أطلت علينا سيارة فخمة بلونيها الرائعين الأخضر الزيتي والأخضر الفاتح ملأ انسيابها البديع عيون الجيران. دار حولها الأولاد في الحارة، وتلمسوا أضواءها وأطلقوا زمورها.
حمل السائق سهيل الحقائب وعلب الحلوى، رتبها في صندوق السيارة الواسع بعناية.. ثم أخرج برادي القهوة والشاي من جيب الباب المخفي وسأل بأدب:
- هل تتكرم المدام. بملئه بالقهوة؟ الطريق طويلة والقهوة تساعدني على الانتباه.
كان السائق شاباً لا يتجاوز العشرين لطيفاً أزرق العينين، أشقر الشعر طويل الجذع. ارتاحت أنفسنا إلى تصرفاته. شد أبي من همته مرحباً ونحن نركب السيارة.
- الله يبارك بالشباب.
أبدى سهيل لهفة لإرضائنا، دخلت دماثته قلوبنا كأحد أفراد العائلة. توقف عند أول محطة للبنزين على مشارف حمص. نفخ الدواليب، ثم خرج بنا إلى ضفاف العاصي في حماة.
كان المنظر ساحراً، والنواعير تدور وتدور، وتئن، تجرف الماء ثم تصبه في قناة طويلة تروي أراضي حماة الخصبة. أسرع سهيل، مد بساطاً قماشياً مقلماً. وفرد كراسٍ من المعدن الخفيف.
- فنجان قهوة على العاصي ينعش القلب، مارأيك ياعم؟
ضحك والدي برضى: المليح لا يحتاج إلى مشورة.
- والآنسة، استدار نحوي متسائلاً بعينين ضاحكتين.
- مافي كلام، أجبته.. لكن بعد أن نأكل من الزوادة، أخشى عليها من الحر. وضبّت أمي أقراص الكبة والكفتة، والباذنجان المقلي في السلة الصغيرة.
تناول الشاب السلة.
أكلنا، استروحنا هواءً عليلاً هب من العاصي يحمل نسائم رطبة جففت العرق. تخلصنا من أحذيتنا، نراقب الغروب الفاتن الذي زحف سريعاً على المياه الخضراء الداكنة.
علق أبي:
- الماء حياة الدنيا. أنظروا، وأشار بيده نحو غيضة طويلة عامرة بالأشجار الكثة. بدت مثل كتلة سوداء متزاحمة على ضفتي النهر بشريط طويل ملتوٍ انساب مع جريان الماء. سرحنا مع المنظر وارتخت أعصابنا وهاجرت خواطرنا إلى دمشق.
همّ سهيل:

- لنلحق بحلب لنبيت ليلنا هناك. الفندق محجوز والغرف مهيأة، لا مشكلة من هذه الناحية.
- ماعرفناه عن المنطقة الشرقية نتف لا تفصح عن الحقيقة.
رد سهيل:
- أرض بكر خصبة، آبار ارتوازية حفرها الرأسماليون الحلبيون. جاؤوا بالتراكسات الحديثة. قلبت الأرض نحو الشمس، الأرض صالحة لزراعة الأرز وأجود أنواع القطن.
- وشوارعها، وحدائقها؟ أعني مدينة أختي.
- جميلة خططها الفرنسيون على نحو حديث حضاري، شوارع مستقيمة، وحارات منظمة مثل أوروبا، وأضاف:
- قد تصبح أكبر منافسة لبيروت، موقع استراتيجي مفتوح على تركيا شمالاً والعراق شرقاً وحتى إيران. تدفق الكلام من فمه حاراً وكأنه يستظهر درساً. بلاد مفتوحة على التهريب. كل شيء موجود فيها. من الدخان إلى الكهربائيات.
عندما أشرفنا على خان شيخون ومعرة النعمان صاح أبي مردداً بيتاً لأبي العلاء:
صاح، خفف الوطء، فما أديم الأرض إلا من هذه الأجساد.
تلمست كتفه متعبة، وغمرني نعاس عجيب، توقفنا على الطريق العام، شربنا الماء، وغسلنا وجوهنا، ثم تابعنا إلى مدينة حلب. نزلنا في فندق (الكونتيننتال) الذي بدا مهيباً تزين واجهاته الثريات النحاسية الأثرية.
لاحظت عراقة الأثاث والخشب المصقول القديم، والسرير العريض، زينت الجدران لوحات زيتية أصيلة، وامتدت على الأرض سجادة عجمية منقوشة بأجمل الطيور. نمنا بلا هز كما يقال. استيقظنا ظهراً. حركنا عضلاتنا الميتة من المشوار الطويل وخرجنا نتفرج على المدينة الرائعة بأبنيتها الحجرية البيضاء. شاب يترنّح في زاوية الشارع.. يخبئ قنينة العرق في جيب ستره الداخلية يمتصها قطرة قطرة.
- مسكين، بعد قليل سيقع ويدوسه الناس بأرجلهم.
ضحك الرجلان من كلماتي.
في عتمة الليل وقد خفّ استعارّ القيظ، سرنا شرقاً نحو دير الزور على هدي الأضواء الأمامية، في طريق وعرة صحراوية، ترابية، غير معبدة، شقتها دواليب الشاحنات المحملة بالبضائع من حلب إلى العراق. كانت الدروب تتطاول أمامنا كلما لحقت بنا سيارة. كنا كمن ألقي في اليم بلا طوق نجاة، بين سماء زرقاء وبحر هائل هدّار.. شعرنا أننا بين فكي لونين ترابيين غامقين رمليين تواصلا ثم ابتعدا ثم تواصلا. تلال وهضاب. قطعنا مساحات واسعة في قلب الصحراء. توقف السائق عدة مرات ليمسح زجاج الضوئين الأماميين. بعد نصف ساعة نثر العجاج ذراته على اللوح الزجاجي العريض، تسلل الرمل الناعم إلى الحلق والصدر. توقفنا مرة أخرى أمام عمود رملي انتصب فجأة غاشياً مهاجماً صافراً مرعباً، ثم تلاشى شيئاً فشيئاً. وترك أمامنا تلة.
بدت وجوهنا مضحكة في ضوء السيارة الباهت. مرشومة ببودرة بيضاء محت من ملامحنا الحواجب والأهداب. اجتزنا أرض جرداء مسلوخة عن المدينة ويد الإنسان، مرمية، منبوذة مقهورة عطشى. كانت محطات البنزين المتناثرة والمتباعدة معلماً مضيئاً مشرقاً ضمن واحات من السراب.
مررنا بخيام كالحة غبراء مصنعة من شعر الماعز فاحت منها رائحة الماعز والغنم والسمن البلدي... مضينا نسير ليلاً ونهاراً نتفيأ الشمس الحارقة. من خيام البدو ملأنا أوعيتنا وسلالنا باللبن والخبز واللحم المشوي والبيض والجبن الأبيض. فاجأتنا بيوت طينية. وأحياناً قرى هاربة من عمق التاريخ صامدة رغم أنف الطبيعة القاهرة بجدران قائمة وطاقات صغيرة وأبواب قصيرة خوف الطوز.
يرحب البدو بنا، تقول نظراتهم أنهم تعودوا على رجل غريبة... وحتى على رؤية أجانب من كل لون يحملون أدواتهم للتنقيب عن الآثار حول الفرات العظيم.
قال سهيل:
- رغم احتكاك هؤلاء البدو بالأجانب، مازالوا يحافظون على بدائية مفرطة ساهمت في تأصيلها قسوة الطبيعة، وشح المياه وهجمات العشائر الغازية.
خلال ساعات متواصلة من الحديث مع النفس أو الصمت، أو الأسف على الأراضي البور، وصلنا دير الزور عند المغيب، ومررنا فوق الجسر المشرف على النهر العظيم. بضع مقاهٍ على ضفة النهر تشوي السمك المسكوف. تبعثر رجال هنا وهناك يشربون القهوة أو الشاي. ويدخنون النارجيلة. عضنا الجوع. فلنجرب حظنا مع المسقوف. اختار أبي وسهيل جلسة مريحة قربنا الكرسي القش من حافة النهر كانت السماء صافية لا غيم فيها. ولا رفة نسمة. على الضفة الثانية تحركت كتلة سوداء مبهمة المعالم في الظلمة. حركات عشوائية ثم فجأة اشتعلت بها النيران سرعان ما أضحت كتلة لاهبة كالشمس أضاءت سطح الماء المتجمد. عوى صوت امرأة، وطقطقت عظام، وقف الرجال لحظة ثم عادوا إلى كراسيهم.
علق أحدهم:
- مجنونة أخرى حرقت نفسها. هذه الرابعة في أسبوع واحد.
حضر الأكل... لم أستطع فتح فمي بلقمة واحدة.. ظللت أبكي وبقي أنين المرأة المقهورة يضغط على أعصابي بجلال الموت. التهبت الآدمية دفعة واحدة. صبت على بدنها الكاز.. وانتهت هكذا. وبغفلة من الزمن والأحباب التهمها شيء ماسكن أعماقها.
حاول أبي وسهيل تهدئتي، فلم يفلحا. فالحظ الأسود ينتظرني في مفاجآت لم تكن في الحسبان وعلى موعد دائم معه.
ردد الجرسون وهو يلملم بقايا الحسك عن الطاولة ويرميها في النهر: حادثة مألوفة تتكرر باستمرار.. وأضاف: الدم هام في هذه الديار.
أعاد سهيل وضع الكوفية على رأسه، وأبي أيضاً... درجت السيارة على الجسر الشامخ ذاته في الشمال الشرقي.
قطعنا مسافة.. وفجأة هبت علينا رائحة بيض فاسد، سددت أنفي.
- ماهذه الرائحة؟
- أرض كبريتية، وصلنا الآن إلى رأس العين، قال السائق: هذه المياه تكفي لغسل أمراض جميع السوريين.
- عميقة؟ سألت.
- ما أحد يعرف، لو سقط فيها حجر لما سمعنا صوت ارتطامه. ياحرام، نبع يغلي بالنار. فمه مفتوح وخطر، وليس حوله حمامات للاستطباب.
- قد يقع أحد فيه.
- هو هو كل يوم حادث... رد بصوت عادي.
عادت الطبيعة إلى مهاجمتنا. يتثاءب السائق بملل، فالمناظر الرتيبة تدفعنا إلى اليأس. أسأل بين لحظة وأخرى:
- الطريق طويل.
يرد:
- هو هو.. دون أن يلتفت إليّ.
ثلاثة أيام ننام نهاراً ونمشي ليلاً. من بعيد سمعنا ناقوس كنيسة، لاحت بشائر بني آدم، هاهو الفردوس الموعود.
- هوذا.. البيت ذو الواجهة الحجرية والباب الحديدي، المصقول، خفق قلبي، رأيت امرأة قرب الباب تدلي بطنها، وتجمع على رأسها شعراً جعد كثيف، من أذنيها تدلى قرطان ذهبيان كبيران يحملان سمة تلك المنطقة، عانقتنا أختي وناحت على كتف والدها.
- هذه مها..؟!
اقترب صهري، انحنى مرحباً بشوشاً بملء فمه. صاح:
- مريم.. أبوشيرو!
هرول رجل مجدوع الأنف وهرولت امرأة شابة طويلة نحيلة القد، جميلة المحيا، حملت على رأسها لفّة كردية كبيرة، وبرز من أطراف ثوبها الأحمر سروال طويل امتد حتى الكعبين.
- عمي، شاي، أم قهوة؟ وأنت ياسلمى... ماشاء الله صرت صبية.
- دايماً حلوة، أما قلت لك، زغردت ضحكة مها الصافية.
- ليمون، نحتاج إلى شوال ليمون، ثم قهوة ثقيلة، بابا دائخ الله يعينكم، الداخل مفقود على طريق بلدكم، والواصل مولود.
عادت مها بإبريق ليمون معصور محمرة الجفنين. رسمت ابتسامة حلوة على ثغرها، وجلست قربنا تتلمسنا بيديها غير مصدقة.
- الغداء يا مها.. أنسيتِ حالك؟!
- مالي قلب ياصبري، اتركني معهم، خمس سنوات محرومة منهم.
قامت على مضض تحضر الطاولة، فاحت رائحة زكية، توهج خروف محشو بحمرة قانية، تلألأ بالدهن.
طال الليل علينا، أذن الصبح ومازلنا على جلستنا نحكي ونحكي. تنبهت حواسنا حتى مات النوم في أعيننا.
استقبلنا اليوم التالي بالمهنئين، انتقلت الحارة الدمشقية بتقاليدها وحرارة عاطفتها إلى هنا، عمر البيت بايفون، ومارلين، ومادلين، وعبد الله وسعد وجورج وفيرا، كل حمل صحناً ترحيباً بنا.
هدأت العاصفة وتوضحت ملامح أختي مها التي تضخم جسدها، وانتفخ بطنها كالطبل، ملأت الأساور الذهبية ذراعيها حتى الكوعين، ضحكتْ من دهشتي فبانت أضراسها المذهبة البشعة.
- آه لو تراها عين أمي وهي على حالها الجديدة مثل هدية المجنونة، أهذه مها ذات التقاطيع النبيلة، والقامة الرشيقة، والحركة الخفيفة؟ لم أر سوى كتل لحم مباركة تهتز وترتج بعيداً عن الأناقة الشامية. هذه شيخة بدوية ممرعة، زوجة شيخ، وليست مها التي أعرفها.
التقت أفكاري بأفكار أبي، ضبطته يراقب تحولها ويتعوذ:
- لاحول ولا قوة إلا باللّه.
تضخمت الولائم، فهمت الآن لم تعّرض جسد الصبية إلى التورم والترهل. ستلحق العدوى بي لو بقيت، فالفن المطبخي الحلبي والجزراوي، والشامي يملأ المائدة بروائح البهارات التي تسيل لها اللعاب. هكذا تطامن صبري أفندي إلى غرق زوجته في الشحم واللحم، كي يتفرغ هو لأعماله، مضاربة بالمراهنات، وتخليص أرض من فلاح أو حجز أرض على آخر أو رفع حجز من هناك، أو رفع حجز من هناك. يأكل كالمنشار، يسلخ ولا يرحم.
تقزز أبي من الموائد، وعافت نفسه الفراغ القاتل والجلسات اليومية وحديث أسعار القمح والقطن والدودة، همهم وأقسم معلناً عن ضجره وعزمه على العودة قبل أن تسخن الأرض تحتنا، وننسى هلعنا من هجوم الطبيعة الضاري.
حلف المضيف بالطلاق ثلاث مرات، وهكذا بقينا مرغمين نعاند الزمن ويعاندنا.
اقترحت الجارة فيرا، التي تدس يدها في جيب صهري، وترتاح لعطاياه أن نقوم برحلة إلى الضيعة حيث هواء صحراوي يبلل ليلنا، ويهدهد نومنا، ثم نشهد سباق الخيل بين فرسان البدو.
كان الطريق إلى البولادية وعر المسالك شديد المتعرجات، والانحدارات كادت أن تنزلق السيارة إلى الهاوية عدة مرات.
انطويت أشد على بطني بكلتا يدي أمنع الإقياء، لم أقو على الصمود تقيأت مافي جوفي داخل السيارة وعلى ثيابي، كما تقيّأ غيري، استمرت السيارة بحملها الثقيل، واهتزازها المضني تنقلنا من أكمة إلى أكمة، تهبط في وهدة وترتقي إلى درب ضيق لا تسلكه إلا الدواب، شعرنا باقتراب الموت، تساءلنا بخوف:
- هل سترمي جثثنا إلى الكلاب والوحوش الضارية في الفلاة وتكون هذه الرحلة إلى جهنم رأساً؟ تشبثت العيون القلقة بالسماء، وأطبقت الشفاه على تسليم بالقدر، أخيراً انبسطت الأرض كالكف.
سارت المركبة على خير، انزلقت الهوينا تجتاز نهراً عريضاً يفصلنا عن الضيعة، كانت سيارة الجيب قوية عالية وحدها تستطيع أن تخترق المياه الدفاقة دون خشية من انطفاء الموتور. كبس السائق على البنزين، فانطلقت كالعروس، عادت إلينا سكينتنا، تنفسنا الهواء والصعداء، شقت النهر رويداً رويداً، ثم خفت صوت المحرك.
- يالله، ونحن في عرض النهر، صرخت.
صرخ السائق مهدئاً:
- لا تخافوا، لا تخافوا ياجماعة، بسيطة، دوماً نقع في المطب ذاته.
قاطعته أختي المنفوخة كالضرف.
- يازلمة،خطوة وندرك حتفنا، علقت الأعشاب بالدواليب.
ملأت خيالي أفلام الرعب أغمضتُ عيني، واستسلمت للمجهول.
هدأنا أبي:
- لا ذعر، ولا غضب، حال الرجل مثل حالنا، ماباليد حيلة إلا أن ندعو الله ليبتسم لنا الحظ. باءت محاولات الشاب الجادة بالفشل، أدار المفتاح، أغلق الباب، انحنى يمنى ويسرة... لا فائدة، انقطع الأمل. دفع الحظ فلاحاً نحونا هرول مسرعاً، هلل بيديه من الضفة الأخرى، ضاع صوته وصوتنا في هدير النهر، حرك الفلاح يديه، ثم غاب، غابت معه قلوبنا، والماء يرتفع إلى خاصرة الجيب.
- ياجماعة لا تتحركوا رجاء، كرر السائق بعينين حمراوين.
فجأة لاح الفلاح ومعه مجموعة من الناس.
- جاء الفرج مع المجموعة، صرخنا.


يتبع

 
أنزلوا حصانين مع فارسين وحبال إلى الماء، وبدأت عملية الجر لسفينة نوح التي بدأت تغرق، ذقنا طعم الموت.. ثم نجحت عملية الإنقاذ. وعدنا إلى الحياة.
قطعنا النهر خلف الأحصنة نحو النجاة. في الضيعة ارتمينا على فرش ممددة على الأرض مغطاة ببسط صوفية ملونة بنقوش رائعة، جلست أختي مثل خاتون في الزاوية وحولها ألقيت مخدات عالية، مسحت وجهها من العرق، شربت لبناً، ثم رأيناها فجأة وقد أغفت في مكانها، رمت زوجة المرابع حراماً صيفياً جديداً عليها.
توسطت المربع طاولة منقوشة عليها صدر نحاسي كبير وفي داخله صفت فناجين القهوة المرة والركوة.
اقتحمت رائحة الشواء أنوفنا، هب الفلاح إلى الخلاء يثير همم النسوة. تداخل الغداء والعشاء. انتصف المغرب ولما يفّك أسر الخرفان الثلاثة التي ذبحت على شرفنا.
اقترب صبري أفندني من أبي وقال:
- مارأيك بكأس من اللبن الطازج؟ أم تفضل الحليب من ثدي الماعز؟
- اللبن.
- ذقنا لبناً أطيب من القشدة، وبلمح البصر فرش أولاد الفلاح المرابع شرشفاً حموياً مقلماً على الأرض فوق السجاد. فاحت رائحة خبز الصاج الذهبي. قرب رجل طستاً من يد أبي ثم يدي صب الماء من إبريق نحاسي غسلنا أيدينا، ثم دار على الآخرين.
صاح صاحب الدعوة:
- يالله ياجماعة، وأنت ياشيخ سلومي، الأكل على قدر المحبة. تحرك من زاوية الخيمة المزخرفة المشغولة بأناة من عيدان قصبٍ بديع شاب في الثلاثين من عمره كان قد سبقنا. هجمت قامة مديدة زادها اللباس العربي هيبة، رد كوفية بيضاء عن كتفيه.
تململت مها في مكانها غمزتني، ركضت نحوها.
- ألست جائعة يامها؟! يجب أن تأكلي شيئاً من أجل الطفل، أما أنا فأكاد أموت من الجوع.
- أرخي ثوبك ياسلمى، هذا شيخ عشيرة شمر السلومي، شباب، ومال لا تأكله النيران.. يوم في دمشق، وآخر في حلب، والآن في فيينا، تدرج نحو أوروبا.
- ياسلام!
لم أخف ضحكة صغيرة اغتالها أبي مع ازورار، تنبهت إلى نفسي، سددت فمي بيدي.
همست:
- وكيف يتفاهم معهم،بأية لغة؟
- في خدمته سكرتير.
- يحكي عنه؟
- اخرسي وعودي إلى الطعام، لا فائدة منك، خائبة.
جلبتُ صحنين باللحم واقتربت منها.
أحسست بنظرات شيخ العشيرة الدبقة على وجهي، نظرات بدوي جريء، كور خبز الصاج واللحم بأصابعه الثلاث. ورماها في فمه، صدمني احتقان قبيح في عينيه.
- مها، عيناه بشعتان مثل الجمر.
- تراخوما، تراخوما، كل أهالي المنطقة الشرقية مصابون بها بسبب الطوز والعجاج.
- يالطيف، ما أبشعه.
- مجنونة، نصف بنات حلب يرتمين على قدميه.
- بل على ماله. متزوج؟
- متزوج.
- طبعاً. هؤلاء يتزوجون صغار السن، عادة العشيرة . الزوجة الأولى ابنة العم.
- ماشاء الله، ومادخله معكم ومعنا وكأنه من أصحاب البيت، شغلنا مرتبط به. أراضيه بين يدي صهرك.
-فهمتُ الآن سبب الدعوة الحارة . تجارة وزيارة بل زيادة نعجة جديدة تضم إلى قطيعه. رقيق أبيض يباع شرعاً بالزواج، ويقّبن بالمال والأراضي.
- مجنونة ، موتي مع أحلامك.
أجبت بعصبية:
- أفضل من الموت مع لص ابن لص يتحكم في جلساتنا وحياتنا.
تنبه صبري أفندي. صفق بيديه محدثاً ضجة:
- القهوة تقتل الدسم.. أعلن صهري..
لم يكذب السلومي حدسي. فقد حضر إلى العشاء في اليوم التالي بسيارته الخمرية الشيفروليه المكشوفة كي يدعونا إلى العشاء في مطعم (كربيس).
تلمظ وتضوع الطعام الحلبي، قال بلهجة بدوية غريبة:
- يا الله ياجماعة.
يحتل مطعم (كربيس) موقعاً استراتيجياً في البلدة الصغيرة الملمومة على بعضها، والواقعة على الحدود الشرقية الشمالية. يسميها أهلها (الفردوس) ويطلق الغرباء عليها بلدة التهريب لجميع أنواع السجائر والبلوريات، والسجاد والغنم من تركيا. تلتف حول المطعم دور مدير المنطقة، ورئيس المخفر والبلدية، ومحكمة الصلح، وسوق الصاغة. وخارج الدائرة الأولى توزعت المدارس الابتدائية.
تقدمنا صهري. ركض الجرسون يدله على الطاولة المحجوزة، رافقه بناظريه. التفت إلينا:
- نصف الأهالي بوليس، والنصف الآخر مهربون، على كلِ هذا أفضل مطعم لا تجد مثيله إلا في العاصمة. صاحبه خبيث شاطر يعرف من أين تؤكل الكتف، وكتف المواطنين بخاصة.
كان المطعم أنيقاً تفوح منه رائحة بورجوازية أنيقة باذخة جميلة مزيناً بديكورات خشبية تصالبت فوق الجدران وطليت باللون الأخضر، وفصل بعضها بين الطاولات، تدلت من الأحواض المرمرية أوراق اللبلاب والختمية وأنواع من الورود والأزهار الصيفية. انتقلت ديارات دمشق، وبحراتها إلى هنا، سالت من نوافيرها مياه رقراقة شفافة.
قطعة معمارية دمشقية وسط بيوت نصفها طيني، ونصفها الآخر خيام.
كنا أربعة كباراً ماعدا أولاد أختي، اتخذ السائق طاولة بعيدة كالعادة، وطلب بطحة عرق مع مازة حلبية، بعد قليل شرف الداعي يحف به رهط من زلمة باللباس العربي، تفرقوا عنه إلى طاولات أخرى.
فرك كفيه معتذراً وانحنى ويده على صدره، وجه كلامه إلى أبي وأشار بيده نحو صبري أفندي:
- لا تؤاخذني ياعم. البركة في الأستاذ. وقعد قبالتي، نقلني أبي إلى كرسي قربه. انخرط الرجلان صهري والسلومي في حديث مسموم حول تهريب الغنم ومقتل الراعي حمد على يد الحرس التركي، ترك ظلاله القائمة على وجهيهما:
قالت مها:
- مشاكل مع الحدود لا تنتهي.
اقترح السلومي أن يشرب قدحاً على شرف والدي. صفق بيديه، هرع النادل.
- بطرس قازان. مافي توما، مافي أكسترا وطاولة زهر.
- مارأيك ياعم دق بدق.
- محبوسة. فتح الطاولة وتجلس، لا أعرف غيرها. قهقه بصوتٍ مبحوحٍ. لعب السلومي، اندلق الزهر عليه، وأتاه الحظ، غلب ضيفه مرات خمساً. فرك يديه مبتهجاً، نتر من جيبه سبحة ذهبية بأحجار كريمة.
وقدمها لأبي.
- هدية للذكرى.. لا تتردد ياعم. هذه عادتنا. النبي قبل الهدية.
مد أبو هشام الرجل المهيب يده. تحسس الحبات اللامعة، وتركها ملتوية على الطاولة. نادى السلومي على أحد رجاله. حرك أصابعه آمراً دون أن يلتفت.
- أين العلبة؟
أخرج الرجل العلبة متزلفاً باسماً تحت شاربين عنتريين. أدخل المسبحة الثمينة بين طيات المخمل وتهيأ متأدباً.
لم يسع أبي الرفض. أعطاها إلى أختي دستها في حقيبة يدها الجلدية دون أن تلمس الشرابة المشكوكة بحبات من الزمرد والياقوت قد تصلح عقداً أو حلقاً.
لكلزتني مها بكوعها:
- هذه مقدمة. مال لا تأكله النيران.
كثرت الدعوات، وتناثرت أثناءها كلمات مرمزّة تفسر رغبة السلومي في التقرب منا.
- بسببي أنا، من يظن نفسه هذا البدوي؟ قلت لمها.
- تنازعتني خواطر عدة، وتناهبني مد وجزر، وإقبال وصد.
ألم يعذبني أحمد ليلة عقد قرانه على أخرى، وتركني مجنونة محبوسة في قمقم، لا أقوى على الخروج منه تحت وطأة عواطفي المكسورة، ألم يدعني نهباً للذل وقت أن فكر بثانية، ألم يجرح كبريائي أمام رفقائنا، وتركني نهب الأقاويل؟ لم لا أرد له الصاع صاعين وأصبح أميرة على بطاح لا نهاية لها يتسمر الخدم بين يدي. آمر، أنهي. ربما تتحقق أحلامي الكبيرة انطلاقاً من هذه القرية المعلقة بآخر الدنيا. ابني مدرسة، ومسرحاً وحدائق، أنقل دمشق إلى هنا، إلامَ الناس ومعظم من قابلتهم هنا كالدواب، يأكلون وينامون ويضاجعون نساءهم مع روائح المزابل.
هل أرفض الشيفرولية؟ أكون مجنونة إذن.
استيقظت على صليل خشخشة الأساور في يد مها، ما الفرق بينها وبين هدية المجنونة.
- ربما سأصبح أنا هدية مجنونة أخرى ذات يوم.
- قومي.. قومي.. هل رأيتِ حلاماً لمِ كنت تصرخين؟
- وماذا قلتِ؟ خفت أن أكون قد تلفظت باسم أحمد.
- قلت مستحيل، لا!
نفضت من رأسي كابوس مها، أنا لستُ مها، لست نعجة تغرق بالطعام والذهب، الجامعة، هل نسيتها؟ وماذا لو رضي الوالد؟ وأغراه البدوي بالمال والشباب؟
- ولكنه زعيم عشيرة تتجاوز الآلاف. ليس بدوياً إطلاقاً.
- وأميّ لا يعرف القراءة والكتابة. ثلاثون سنة وخلفه عر أولاد يخرب بيته وبيت ماله.
في الصباح جاء مبكراً. حمل حليباً طازجاً ساخناً من ثدي النعجة، ترفرف حول كتفيه كوفية بيضاء تنسدل فوق ثياب نظيفة مكوية. داهمت وأنا أقترب من غرفة الطعام حديثاً بين الصابحين، فتلكأت.
- يالله بسم الله الرحمن الرحمين نقرأ الفاتحة، علا صوت صهري صبري أفندي.
رد أبي اللقمة عن فمه وأجاب:
- كله نصيب، لم العجلة؟ على مهل، الأيام أمامنا، لن تطير البنت ماتزال صغيرة.
صدق حدسي هاقد شربوا القهوة وتحدثوا، وتناقشوا، وقصوا وفصلوا حول مستقبلي، حياتي، وأنا في غفلة، هسهست مها فرحة من المطبخ، لحقتها.
- لك يامجنونة، حظك من السماء، طلب السلومي يدك، تصوري ست وثلاثون قرية له وحده، وتحت إمرته، أي إمرتك، ملكك، إن شاء الله يصير نصيب، أعادت: إن شاء الله يصير نصيب، ورفعت يديها كعجوز إلى المولى.
صفنت:
- ست وثلاثون قرية لرجل واحد، ياه ياللنعيم، الذي سأرفل فيه ويالفرحة أمي التي ستزف البشرى إلى الجيران بعد أن تكون قد أوصلت الأمانة سالمة إلى أصحابها، إلى الزوج المقبل، أجبت مداعبة:
- ماذ أفعل بها. الحياة واحدة، وأواجه مشكلاتها وحدي. طار فكري إلى أحمد هل أجرحه كما جرحني يوم تركني إلى أخرى؟ سألت:
- وبماذا أجاب بابا؟
- كزت على شفتيها:
- غريب أمر أبي من يرفض عرض السلومي، لم يعطِ جواباً، ولم نعرف رأيه.. وأصر على السفر.. ربما أجلّ الموضوع إلى حين عودته إلى دمشق يوم الخميس القادم.
أصبح وجود السلومي بيننا، وهداياه، ونكاته، وخرفانه المذبوحة أمراً مألوفاً، صار مصدر قلق لي. لم يك سيئاً لبنت تتشهى الزواج ولكنه لم يخلق لي بتاتاً، فأنا أريد أن يتركني للتجارب المريرة التي تعيشها الزوجات المهملات، وتؤدي بأكثرهن إلى الجريمة، إما إلى قتله، أو إلى قتلها. هل أضع القيد في عنقي بملء إرادتي وحريتي لأعيش مع أميّ يضمني إلى حريمه مستقبلاً؟ من يرده، يصدّه، من يردعه، ولديه أكبر قوة محركة في العالم: المال!
أقلقتني الأسئلة الصعبة لاختيار أصعب.
جهزتُ مها زوادة لسفرنا، واشترت الهدايا رداً على هدايانا، وخلعت من معصميها سوارين ذهبيين دقة الماس.
- هذه هدية مني لك.
قلبت السوارين بين يدي.. وغضبت من تصرفاتها.. شعرت بإهانة.
لِمَ لم تشتر جديدين..؟
قرأت أفكاري: هات، هات يدك، عنيدة، وألبستني إياهما غصباً.
أمرت الخادمة الكردية بتحضير المرتديلا، واللحم المقدد، أوجعني مجرد التفكير بعناء السفر والعودة عبر الفيافي ذاتها.
ثلاثة أيام أخرى من لوعة الوداع قضيناها لم تنسنا ماسنعانيه من الحر والغبار والخوف من الطبيعة المتحولة حتى مدينة حلب.
لاح أحمد على البعد، عبر الرؤى، عبر رعشات القلب وتقلصات الحلق حتى الاختناق. أحمد بكل روائه، وتحوله، وعقده، وتأرجحه بين عادات موروثة، وانطلاقة العقل الحكيمة العلمية. مغموس بالسياسة حتى قراقيط أذنيه، مهدد بالتسريح كلما تبدل مسؤول وجاء مسؤول.. فكرت كذلك: من الحماقة والغباء الفاحش أن أترك مصيري عائماً في قارب مهدد أبداً بالغرق، والتشرد بعيداً عن السكينة البيتية والأولاد، أجّل أبي موضوع الساعة إلى حين، لعله خاف من اتخاذ موقف دون موافقة أمي وعشيرة آل الشريف.. بالأغلب احترقت الطبخة بين يدي صبري أفندي ومها.
في صباح مبكر.. غادرنا القرية المفتوحة على الخيرات دون أسف، مللنا الراحة المصطنعة:
بدا أبو هشام متحمساً راضياً عن قراره. أزاح هما عن صدره، ماكنتُ لأرضى أن أعود خاسرة.
قررتُ مواجهة أحمد بالأمر. في أول لقاء، شرحت ماحدث ببساطة متناهية كما لو أن الأمر يعني فتاة أخرى. تأملني فترة طويلة بدون كلام.
تقول عيناه:
- يالك من ممثلة فاشلة، عجزت وسلمت أمام أول هزة، نترت قصيدة جديدة كتبتها أثناء وجودي في قرية (الفردوس) وطلبت منه أن يعطيني رأيه صراحة بها.
قرأها مرتين ثم تبسم رضى. ربت على كتفي ولفني بحنان قائلاً:
- هذه سلمى التي أريد...
رغم العاطفة المشبوبة المتحيرة بين أسطرها؟ تساءلت:
- عاطفة صادقة، وهذا سر جمالها.
- أعجبتك.. قلها.. قلها.. لم تخبئ الفرح؟
- لا أدري.. دائماً أخاف من الفرح. أرجح جسده يمنة ويسرة ثم أبقاه واقفاً صلداً كالحجر وأضاف:
- هذه كلمات تعلق بالذهن.
طرت فرحاً، تعمشقت على الحيطان الملساء.. أخيراً نطق كلمة حلوة. هو ذا رجلي، رجلي الذي أريد.
فرط مشروع الزواج بضغط من أخي عادل.. يظل عادل مثقفاً متوازناً ومنفتحاً ولا تهمه المغريات الآنية التي لا يدري أحد إلامَ ستؤدي في آخر المطاف. عاشت الرحلة شهراً معنا، لونت أحاديثنا، وغيرت طعمها وسمرها في السهرات العائلية.
وردتنا من ليبريا رسالة مطبوعة باللغة الإنكليزية من أخي المغترب في إفريقيا، استعنت بالقاموس عدة مرات ثم ترجمتها لامي: كانت الرسالة عبارة عن حديث شاب متعجرف انتسب إلى نادي سباق السيارات الأمريكي الدولي الذي تموله شركة (فايرستون) العالمية. وكيف أصبح عضواً بارزاً بعد محاولات ناجحة في ركوب السيارات، ومقرباً من رئيس الجمهورية، كما أصبح أكبر رامٍ بالمسدس في مدينة هاربل قرب العاصمة منروفيا، ضربت أمي على صدرها خائبة:
- ياللأخبار المخزية عن نجاحات وهمية حادت به عن الدرب والهدف.
تساءلت بأسى قبض على قلبي:
- أهي الغربة القاسية جرته إلى تفريغ الحنين من فؤاده عن طريق العنف. أم التوحد الوحشي في بيئة غير بيئته، أم المال الذي هبط عليه دون تعب؟ خاب ظن العائلة به. حسبوا حساب كل شيء إلا هذه النتيجة، حلموا بأنه سيعود بعد خمس سنوات، يحمل الذهب على كفيه، رجلاً صلباً لا ككل الرجال.. رجلاً خلقته المعاناة.
زاد بكاء أمي تركناها تفرج عن كربها.
علق أبي محزوناً:
- المال السهل يذهب بالطريق السهل.
قال سامي:
- بداية الانتحار.
أجل كان محقاً في قوله. فقد حمل البريد أخباراً تعيسة عن غرقه في أحضان النساء الإفريقيات في مجتمع أموي لا يملك، هو الإنسان الشرقي، حق أبنائه الذكور السبعة.
أطلقت أمي تنهيدة: ست محلات تجارية تمتد من أرض المطار حتى العاصمة ولا تسد الديون وفوائد البنوك؟ أية خيبة لأخي محمد الفاتح.
رد هشام ممازحاً وساخراً:
- لا تخشي على ابنكِ فهو الأمين الوفي لتلك المخازن. يعرف كيف يصرّفها.
أتلفن إلى أحمد لمجرد سماع صوته ثم أغلق السماعة، كشفني، كشف لعبتي.
ترى هل أحس بلهاثي حتى فضح أمري؟
ناولته القصة مترجمة على صفحات ثلاث. قرأ الصفحة الأولى نبر بثقة:
-لا، لا ليست هذه ترجمة، هذه كلمات مرصوفة لا تشكل قلب ونبض كاتب مثل (جيمس).
مزق أحمد سهر أسبوع كامل، تناولت المزق المرمية على الطاولة، واندفعت هائجة خارجة من بيته، همت في الشوارع التي أحبها محبطة، المهاجرين، عرنوس، الجسر الأبيض، بوابة الصالحية، المرجة، بقيت بالترام، عدت معه حتى آخر الخط في المهاجرين، بكيت بلا دموع. صممتُ على القطيعة. لابد من اتخاذ خطوة، موقفٍ حاسمٍ، أعلمته في الليلة ذاتها عن قراري.
- يجب أن نبتعد عن بعضنا، لنجرب أنفسنا، على كلٍ سأسجل في دورة صيفية قد تلتهم وقتي، وأنت أدرى الناس بقيمة الوقت. أعلنت مدرسة (الثانوية الأدبية) عن دورة مكثفة للمواد الرئيسية مدتها شهران، وهذه فرصة لي، أصبحت في سباق مع الزمن. قال متردداً:
- لنجرب، كما.. تشائين.. أنا واثق من أنها تجربة سخيفة.
انغمست في كتب المنطق، وعلم النفس، والفلسفة على نحوٍ مرهق. جافاني النوم في تلك الركضة. سرح مدير التربية بعد خلاف جوهري مع وزير المعارف حول مناهج التدريس وجاءنا مدرساً لمادة العربي. جاءنا من كان يهز أركان التربية.
في الصف، تعرفت زميلة خفيفة الظل، لمّاحة، تحب النكتة إذ تخلق جواً مرحاً حولها. بطفولة صبيانية، معاندة للمألوف قلمت شفتها السفلي بالحبر الأزرق، جعلته وشماً كنساء بلدة السلومي.
ضحك الأستاذ حين رآها. حين دمعت عيناه. لم يتمالك نفسه من التعليق:
- من أين الآنسة؟
ضحكنا كلنا.
- من الرقة أستاذ.
وفي درس تالٍ، رسمنا جميعاً الوشم على شفاهنا.
قال الأستاذ مدير المعارف السابق:
- يابنات ، مهلاً، ستجيء إلى دمشق بدوية من الميادين تجيد الوشم، أرى أن هذا الحبر الأزرق الذي وضع على شفاهكن غير جميل، فمن أرادت أن تكتحل أو توشم فلتسجل اسمها على هذه الورقة، ونادى على رجاء صاحبة الفتنة، وسلمها الورقة.
- دوري على زميلاتك من فضلك.
أحسسنا بخطر اللعبة، أوقعتنا اللعينة في شر أعمالها. قد يطردنا المدير وقد يحرمنا من تقديم الفحص، وهات يا أمل كاذب بالبكالوريا. غير أنه كرجل ذكي محنك غفر مداعباتنا بأبوة سمحة.
سقى الله تلك الأيام، كمّ مرحنا، وكم لعبنا، وكم سقطنا في جب البراءة لاهيات عما يخبئ القدر حالمات بالتقاط النجوم.
ها أنذا أشتري صحيفة أحمد، علقني هوس قراءة الصحف اليومية. أسجل بعض الملاحظات الساخرة على هامش مقالته. (من القلب) كرد انفعالي لهيمنته علي، أمضّنا الشوق. يعترض أحمد طريقي بعد جفاء.
- مرحباً ، آنسة سلمى...
أسمع تحيته وأكابر.
- البعد جفاء. كفى تمثيلاً فاشلاً، أين أنتِ، على الأقل اسألي عن إنسان يقلق عليك.
حدثتُ نفسي:
- يقلق علي، كيف ياترى؟ تجاهلتُ مايرمي إليه. رميت كلمة:
- البكالوريا وصعوبة البكالوريا..
- خطوة، وتتحقق أمانيك حين تطلين على الجامعة، ساعتئذٍ من يقدر عليك؟
- أملي ضعيف ، مواد صعبة، ووقت قصير.
- هنا تبرز شخصية سلمى الشريف، أم نسيت؟
حدقت في عينيه وددتُ لو أمزق وجهه قبلات، ربما غرقت في رغبتي تلك. لم أكذب على نفسي. اعترف بأني أشتاق إليه شوقي إلى النور. هل أقول له إنني كذبتُ يوم طلبتُ القطيعة، وإنني أنتحر يومياً وإنني وياللمهزلة، أتلاشى أمام لحظة سقوط العين في العين.
- أراكِ غداً. قال باتاً. استسلمت.
- أراك..
هجم الفحص بكلكله. مئات مثلي، أولا مثلي يركضن خلف هدف. وهدفي أنا.. الجامعة. أحقق ذاتي، كياني، وجودي، حريتي من خلالها.
يسلّ شهر الامتحان العافية مني.. ولكنه يحمل الموعود، القرار استثنائي والدورة استثنائية، والنجاح استثنائي.
-وكيف عملتِ؟ سألني أحمد وهو يخاصرني بغتة.
- وضعتها في جيبي.
- من؟
- البكالوريا، ألا تسأل عنها؟
أطار نبأ النجاح صوابي. وحملني إلى سموات سبع اخترقت حجاباً خلف حجاب، سبحت فوق غيمات رقاق قطنية دافئة، يؤهلني النجاح لأي فرع أريده في الجامعة..عدا الطب الذي أخشاه. صحيح أنني لم أحقق درجة عالية في العلامات، ولكنها قمينة بأن تحملني فوق عتبة صعبة نحو الانطلاق.
من تحت الأقفال، وفوق الأسيجة الحديدية، رحت ألقاه، وأمشي عذراء حافية على الجمر، أمشي على صوت تصفيق المتفرجين الذين يزكي اللهيب، يتلبسني رعب قاتل من ألسنة الناس. وها أنذا أمشي إلى مالا نهاية..اخترت الطريق. أدرك الخطر. وأمضي إليه بقدمي مندفعة متألقة عاجزة أمام ندائه.
عدت إلى التفكير الممض. ماذا حققتُ؟ فجأة وجدتني لا أقبض على برغي صغير في دورة الحياة الهائلة، تساءلت بوعي أشد.
- هل حقاً تحررت بالنجاح من سلطة الذكورة النتنة؟
استعرضت وجوهاً محبوبة في الوسط الاجتماعي. لمياء دفعت باسمها إلى التقول ثم انتحرت. عفاف هربت إلى أحضان عجوز يسد جوعها إلى الملابس الأنيقة والسيارة الفارهة بعد أن تحطمت وحطمت ناديا التي خرقت تقاليد بلدة ساخرة من أم عجوز وعانس تاهت خلف الغبار. هيام التي وضعت النظارات السوداء على عينيها ولم تخلعها حتى ماتت. نورس التي أفنت صباها وموهبتها في العمل من أجل مثل لإخوة صغار. أمي التي أطرت حياتها بالعادات والأعراف، وتأمين رغبات زوج ازدادت سنة بعد سنة مع التغيرات الفيزيولوجية المنهارة؟ مها التي أضحت نقطة ضمن غبار يعج بقذارة المال والحياة التافهة الدنيئة المخبوءة في حنايا زوجها الوجيه. مَنْ، مَنْ، التي استطاعت أن تنتشل نفسها حقيقة وحدها دون كفٍ رفيقة يملؤها الحنان. دون رجلٍ حرٍ انتزع من أعماقه جذور الأنانية التي تقبر الحب وأدرك تماماً أن المرأة ليست ضلعاً هشاً خرج من خاصرة الرجل ولا هي وعاء لرغباته. إنها سر الدنيا.
ابتسم بمرارة فائقة لحديث امرأة معي تجاوزت الخمسين. كانت صامتة جميلة كما الجمال، ذكية داهية، قادرة على تنظيم الحياة، وأعرف من كثيرات رأيتهن أو مررن بحياتي.
سألتني مرة وهي تربت على رأس آخر مواليدها:
- كيف يكون الحب بين زوجين ياترى؟
- رفعت حاجبي دهشة من حقيقة صدمتني.
- والأولاد الخمسة من أين أتيت بهن.
- سمعت عن الحب، سماعاً ، والحب في عرفنا عيب.
هل تعلن المرأة رغبتها بالرجل أيضاً؟ همست خجلة.
حاورت نفسي:
- أكانت حياتها اغتصاباً وجسدها لحماً مستباحاً طوال ثلاثين عاماً من الزواج؟





 
تؤرقني ذكرى هذه المرأة، وربما كثيرات من نسائنا اللواتي قتلهن الخفر. فسقطن أسيرات أحلام اليقظة. فكرت، يجب أن أتحرك على صعيد العمل إن أردتُ وزناً متكاملاً. تحريت من صديقاتي العاملات.
- البنك، لا، الهاتف، أعوذ بالله، بائعة، مستحيل. أسلم طريق للمرأة في بلدي هو التعليم. ولكن التعليم يحتاج إلى دار معلمات وأصول التدريس، وقواعد الانضباط، هذا هو الطريق الأمين والمنفرج عن كلمة نعم من الأهل.
عشية الخميس وهو يوم مقدس في بلدي تتم فيه كل الشعائر الدنيوية والدينية، من زواج وختان، وصلة الرحم زارنا قريب ذو نفوذ في وزارة الاقتصاد يتأبط دكتواره في العلوم السياسية من أمريكا. كان الرجل بعينيه الزرقاوين الهاربتين من دم هجين عن طريق أمه الفرنسية، ودوداً وذكياً، يفهم لغة العيون كما يفهم الموسيقى الكلاسيكية. يحمل صوته لطائف النبرات الدافئة.
- ايه يابن العم. كيف وجدت بناتنا.
- في تقدم مروع. يضحك.
يتدخل أبي مسالماً:
- عسى أن لا تكون قد وقعت في حبائل الأجنبيات.
يضحك ابن العم ويرمقني متوجساً من الانزلاق في حديث متشعب لا يرغبه.
- أفكار مغلوطة عن نساء الغرب ياعمي.
- يكفي أنهن يستولين على خيرة شبابنا، فهمت علي. زيوان البلد ولا قمح الجلب. كما يقال.
يحتدم النقاش بينهما وأتفرج. أقول في سرّي:
- ليتني أسافر أيضاً لأعب من المعرفة، لماذا نغالط. قلت متوددة:
- هل تساعدني ؟ خدمة بعشرة أمثالها. أريد أن أجد وظيفة ترضى العائلة عنها.
ضرب كفيه على فخذيه، ووقف متأدباً يرجو السماح له.
- سأحاول، رد.
- مضى أسبوع. رن الهاتف.
- سلمى غداً لديك لقاء مع مدير البنك العربي في الحريقة. تعرفين المكان؟
- أسأل عنه لا تقلق علي، شكراً.
أرجحتني الأحلام بين ردٍ وأخذ. غرقت في دوامة الانفعال. ورغبات صغيرة جانبية.
في الساعة العاشرة صباحاً. اندفعت من الباب الحديدي العريض للبنك إلى سلم حجري رخامي أوصلني إلى باب خشبي سميك الضلفتين. وجدتني في صالون كبير، بل ورشة تعج بالناس وبضجيج آلات طابعة.
سددت أذني.
- يا إلهي كيف لا تدفعهم هذه الضوضاء والجلبة إلى الجنون؟
كانت القاعة مقسمة إلى كابينات صغيرة يفصل مابينها زجاج قصير يطل منه رأس الموظف أو الموظفة.
جلست في ركن أراقب عجقة الحياة الغريبة، أهذا ماتذكرتني به يابن العم؟ انتابتني الخواطر المتباينة على نحوٍ عصي غلاب، متى يفرغ السيد المدير من مراجعيه ذوي الحقائب المقفلة على الأموال؟ أذن لي بالدخول.
وقف رجل مهيب أشيب الشعر على عينيه نظارتان مربوع القامة ذو هندام أنيق جداً، زرر سترته باحترام ومدّ يداً طرية. ثم انتقل من خلف مكتبة إلى أريكة مخملية خضراء وأشار لي.
جلستُ ، وجلس قبالتي..
- نعم آنسة سلمى الشريف، تريدين عملاً. تحملين بكالوريا موحدة.
- نعم.. خفضت من بصري. عددتُ خيوط السجادة وخطوط الطيور المغردة، عشرات المرات.
- طبعاً.. تجيدين الضرب على الآلة الكاتبة. عربي وإفرنسي.
- طبعاً لا...
-هِمْ.. تجيدين إحدى اللغتين؟ مرر إصبعه على شفته السفلى.
- مستوى البكالوريا عندنا..
- تجيدين المحاسبة.. أعمالنا تعتمد على الأرقام.
- لا أعرف المحاسبة، ولا الحساب.
-لم تريدين الوظيفة.؟
تلكأتُ، كيف أشرح جوانيتي المخبأة، كيف أوضح له رغبة العصفور بالطيران، من قضبان القفص، كيف أشرح لهيب النيران المتراكمة بين ضلوعي، وأفشي سري الخاص.
- مجرد رغبة تزجية فراغ، أجبت.
- هل أنت بحاجة مادية.
انتفضت في مكاني كما لو أن صفعة حادة حطت على وجهي، تملكني الغضب حتى رغبة الصدام، ثم انهمرتُ دموعي، ولم أقوَ على كفكفتها ظلت أقوى من إرادتي. تفجرت ينبوعاً حاراً صافياً، شلالاً، يغسل إهانة ملأت كياني ورأسي حتى العظم. عميتُ تماماً، ولم أعد أرى بعيوني شيئاً إطلاقاً. كل شيء أضحى غائماً أسود.
صدم السيد المدير، ناولني علبة المحارم، حرك يديه مضطرباً حائراً عدة مرات وهو يقول:
- يا آنسة سلمى افهميني.. لم أقصد..
حدثت نفسي:
- هل أسأل أنا سلمى الشريف هذا السؤال، وأبي يقدم حبة عينيه من أجلنا.
تابع معتذراً : أسأت التصرف؟
هل أخطأت.. لكل إنسان ظروفه المالية، كلنا نعمل من أجل عيشنا، اندفعت نحو الباب أمانع شهيقي، بكيت بحرقة محروم جائع. همت في الطرقات دخلتُ في حارات وأزقة لم أعرفها أرغب في أن أجفف دموعي قبل أن أصل إلى البيت، ويراها أهلي بماذا سيتهمونني عند ذاك؟
لازمني شعور الانكسار والعنف أمام مدير البنك مدة طويلة، وقتئذٍ لم أفهم ولن أفهم لم بكيت؟ أكنت أخشى استغلالاً؟ بعد فترة أحسستُ بأنني كنتُ بحاجة إلى من يكشط عني بريق اسم العائلة كي أصبح أصلب عوداً في مواجهة الحياة. فالحياة ليست أماً وأباً وإخوة وحبيباً ونظرات هائمة تظللها الأحلام. الحياة أن أكون أولا أكون. وهذا مايجب أن أقرره وحدي.
غضضتُ النظر عن البنك،وبحثت عن معلمتي إلهام حداد أيام الابتدائية. توسطت المدرسة فم سوق ساروجة. بيت عربي قديم ينفتح بباب صغير على باحة مربعة، على جانبيها غرفتان ثم غرفة الإدارة تدلف منها إلى باحة كبيرة تقع في صدرها غرف ثلاث على صف واحد ليخرج من خاصرة الباحة سلم حجري ملتوٍ بأناقة إلى الطابق الأعلى.
كانت إلهام حداد سمراء حمراء الخدين ذات شعر قصير منسدل فوق الأذنين بقصة موضة العشرينيات، وعينين كبيرتين جاحظتين قليلاً ترنوان بود يثلج الصدر. كنت أثيره في صفها. لم تطوني الأيام من ذاكرتها. تجددتُ معرفتنا يوم كبرت. صرت أذهب إلى بيتها مع ثلة من البنات نحمل الورد اعترافاً بفضلها. كما حفظنا ودها، عندما التقيتها لاحظتُ تكدس الشحم حول بطنها وركبتيها. بادرتني باسمة. وتجاهلت دهشتي:
- سلمى الشريف، ابنتي..
- هأنذي جئتك أطلب عملاً. وظيفة.
رفعت حاجبيها ثم ضحكت.
- ياللأيام ياسلمى، سلمى الصغيرة تصبح كبيرة ومعلمة.
بادرتها:
- حظ طيب أنا في طريقي إلى الجامعة. نجحت في البكالوريا.
- ألف مبروك . ماريك بالصف السابع. أم تفضلين عملاً إدارياً؟
- أي شيء لا يعيقني عن الدراسة.
- يوجد في الصف السابع خمس عشرة بنتاً كأزرار الورد. تبقى مهمتك صعبة قليلاً مع بنات البكالوريا. المدرسة مؤلفة من سابع، وثامن، وتاسع، وبكالوريا صف وحيد للراسبات.
- ياويلي: همهمت.
توجست قليلاً في البداية فالبنات أكبر مني سناً. لكنني سرعان ما تأقلمت. لم تمضِ أيام عشرة حتى عقدتُ صداقة معهن. وجدتُ أن الهدنة أسلم طريق إلى قلوبهن، وبخاصة أنهن في سن الفوران والرغبات المكبوتة.
عندما دخلتُ صفي السابع هبّت في وجهي رائحة الطفولة البريئة، كن بنات في أعمارٍ مختلفة بين الحادية عشرة والخامسة عشرة جئن من حي شعبي ثرٍ بعواطفه، بسيطات الملبس، سليمات، مسالمات في اللعب، حكيتُ لهن قصة أحلامي، فتعلقن بي بمودة وتعلقت بهن.
مضى الشهر سريعاً، قبضت أول راتب في عمري مئة وخمسون ليرة، كانت كافية لشراء أشياء وأشياء، وكتب وهدايا للأهل. حققت استقلالاً مادياً، وقريباً معنوياً، جرى تبدل طفيف في نظرة الأهل لي صارت أكثر ثقة.
أضحى صف السابع بهجة حقيقية لي. غيرت في لباس بعضهن. لفتت انتباهي من بينهن فتاة صغيرة القد نحيلة ذات عينين ذكيتين براقتين. شعلة ذكاء وتفتح.
هذه أول سنة أترك فيها الدراسة، وأتربع فوق كرسي، وأحمل في يدي مسطرة أدق بها على الطاولة لأزجر عبث الأطفال. وعبث الأطفال كثيراً مايعن على باله أن يمد رأسه بين المقاعد ليظهر في وشوشة هامسة. كتبت على اللوح الكبير بخط واضح عريض (وصف ورقة صفراء تروي قصتها)، لبثت لحظة أنظر، ثم عاودت الكلام: الموضوع جميل يا آنسات نحن في فصل الخريف.
- آنسة خلصت. ارتفعت الرؤوس عن المقاعد. هل أسمعك إياها. هل أقرأ ماكتبت.
أدرت رأسي حيث ارتفع الصوت، ورأيت أصبع فادية ترتفع مستفهمة مترددة.
((بينما كنت أتنزه في الخريف بإحدى الحدائق الملأى بالورق الأصفر سمعت صوت همسات تقول لي:
-كنت في إحدى الشجرات الجميلة- وهي أمي- أعيش في لذة الحياة لأنني في فصل الربيع الذي كساني رونقاً. ثم جاء فصل الصيف، وتنهدت بعدها. كنت أنعم بلذة حياتي لأني لم أفارق أمي الحنون. أمي التي ربتني وغذتني وتعبت علي...))
وعاد صوتها:
((ولم أكد أنعم بشبابي حتى جاء فصل الخريف فصل الفراق، فدفع نحو أمي البرد القارس، فاصفررت أنا وإخوتي، ثم جاء بعواصفه الهائلة التي هزت أمي هزاً عنيفاً. ولكن أمي أمسكتنا بحنان خوف أن يقتلعنا. غير أنه- آه.. فلم أكد أرد لها جواباً حتى جاءت ريح قوية... طارت بالورقة تتلاعب بها.))
دق جرس الفرصة.
كنت أريد أن أقول لها:
بأنها ستصبح كاتبة، أو شاعرة. إذا تابعت دراستها، ولتحيا في طمأنينة وأمان بعيداً عن شرور القنبلة الذرية.
بادرتُ مديرة المدرسة متفائلة: - أجدني أتعلق بالتدريس.
دخلت ((إلهام)) في سهوم وتوحد، انسللت إلى صفي، وبالي مشغول. ترى بماذا تفكر، وبمن، هل فشلت في إنجاز حب أو حلم؟ تقول عيناها الكثير من الحكايا الحلوة والمرّة. يا لبناتنا، تموت الواحدة منهن ألف ميتة، ولا تبوح بسرّها لأحد


يتبع

 
تمنيت أن أدعو أحمد على الغداء، ولكن أين، وأنا محاطة برماح تغرس في دربي كلما تجاوزت ذهنية الحارة، وحدود العشيرة. استعرضت كافة الاحتمالات، تلاعبت بي خواطر غريبة أخافتني. عرضت الفكرة على أحمد، فرفضها بشدة.
-الأيام القادمة أفضل من الماضية.
كلمة عابرة لفظها، مدت لي خيطاً من حرير متين. أخفيت مشاعري.
قلت:
-أجدك مكبلاً أكثر مني. أيها التقدمي.
بقينا حبيسي سريرتنا نتمنى لو نستحم بضياءٍ لم تسمح به العادات أبداً. كبرت حلقة الأصدقاء حولنا وكبرت همومنا معهم، وتشتت تساؤلاتهم المبطنة التي تكشف عن سلفية متأصلة كامنة في النفوس.
فيما كنا نبني أنفسنا، تلتهم دمشق المعرفة، وتمد يدها الرخصة السمحة إلى الكنوز الإنسانية وإلى صداقات دولية ترجوها حقيقية وتسعى إلى الحفاظ على السبيكة الذهبية قبل السقوط في خضم المعاهدات والاتفاقيات وأهواء الرؤساء. حاولت بدوري قلب التربة في عقول زميلاتي المعلمات كي تتجه نحو الشمس. بئت بالفشل. فقد حافظن على خطٍ أفقي غير قابل للتغيير أو الكسر.
أبقيت على شعرة معاوية بيني وبينهن بعد نقاش حاد حول حرية المرأة ودورها كاد يودي بنا إلى ما لاتحمد عقباه صرن يتجنبن الحديث معي. أذهلني الانطلاق على مفاهيم ساذجة وأحلام مريضة فالحديث عن الحب حرام، وعن الجنس مرفوض ومخزٍ، والنصيب محتوم، وللإنسان حظه في الحياة أين، السعي، أين الكفاح؟ ياه.. ياه... أين أنا؟ أحسست بالاحباط ونكوص إلى الوراء سنوات تلي سنوات.
رغم هذه العصي المتصلبة اليابسة في مجلس الإدارة دخلت صبية إلى المدرسة. تخففت من حقيبتها المعلقة بكتفها، وضعتها على الطاولة بتأن وقدمت نفسها:
-صفاء.. مدرسة الانكليزي.
كانت جميلة لونت جو الغرفة القاتم وجو العوانس البارد. شعر عجيب كستناوي ضارب إلى الحمرة الداكنة، عينان زرقاوان كحيلتان، قد نحيل طويل.
همست بصوت خافت:
-آسفة لتأخري، وصلني الرد البارحة فقط توجهت بكلامها إلى المديرة.
لا أدري لم فرحت بوجودها هنا. لعلي توسمت في شخصيتها هيأة حضارية. وقفتُ مرحبة مستبشرة.
-أهلاً آنسة صفاء، أهلاً بك في المدرسة. أنا سلمى الشريف. التفتت نحوي بلطف ومدت يداً رشيقة تكاد تتقصف، قائلة:
أهلاً متى أبدأ؟
-الآن إن أحببت، فالحصة خالية. والبنات موجودات. نهضت فلحقتني بخطوات قطة. تأملت هندامها، كان بسيطاً أنيقاً، سترة وتنورة من الجوخ الكحلي. برز من القبة إيشارب زهري.
عند باب الصف قالت:
-أتمنى أن تتعمق صداقتنا، فأنا جديدة، والأخريات مخضرمات.
-آنسة سلمى، هل تتابعين دراستك؟
-سنة أولى جامعة، الثقافة العامة.
-أنا في سنة ثانية إنكليزي.
عدت إلى غرفة الإدارة، ولحسن حظي كان فارغة من القامات المهزوزة والعيون المغلقة على رواسب مئة سنة. ضممت أوراقي، ودخلت صفي.
رغم ما اختلط من أحداث متسارعة، فقد أفرز الزمن وعياً وتكاتفاً لدى فئات واسعة من الشعب دفع بنا نحو القضايا المصيرية رغبة التخلص من التبعية الغربية وشق طريق قد تؤدي إلى الحرية المطلقة المرجوة. وهكذا حبكت صداقتنا المتطلبات الوطنية، والتغيرات الاجتماعية التي خلفتها الانقلابات المتوالية:
حدثت نفسي:
-أخيراً التقيت في هذه المدرسة بفتاة ثابتة الخطو والموقف، في ظروف منطقة تتسم بإضطراباتها، موزعة متلاطمة متأرجحة بين فكر ليبرالي واشتراكي، ورأسمالي.
كنت سعيدة بخروجي من عب الحارة المتشددة على قيم متخلفة. نفضت عني تراخياً شكلته مهنة التعليم. فكرت بالجامعة التي ملأت كياني بادئ الأمر خفت من التسمر خلف طوابير الطلاب للحصول على ((نوتة)) أو الانتظار أمام غرفة مدير شؤون الطلاب للتسجيل والتوهان بين المعاملات والطوابع، فأنا أساساً لا أدري شيئاً عن الأمور الإدارية.
تلبس هشام دور المنقذ معلناً عن وجوده كي لا أخرج من تحت إبطه، تبرع بالمتابعة والتسجيل، وحتى طبع البرنامج وساعات الحصص والقاعات.
-سلمى، نبر بصوت حاد.
استجبت ملهوفة خائفة.
-خير إنشاء الله..
ضرب على جزمته اللامعة بقضيب خيزران مصقول رفيع:
-كل شيء تمام مبروك صرت طالبة نظامية وهذا هو البرنامج على الطاولة.
راقب تحوله السريع بخشية وحذر. ترى ما وراء سعيه المشكور؟
أرجأت الجواب إلى حين تكشفه الأيام. غمرني سرور طغى على ترددي..
لم يتغير شيء في مسار حياتنا البيتية إلا انغمار أبي في عمل تجاري لم يخلق له. باع دكاناً أخرى في السوق القديمة من حي القنوات. وقبض ثمنها ليرات ذهبية لماعة ما لبث أن خرجت من محفظة جلدية خمرية اللون إلى يد زوج عمتي صاحب معمل الشوكولاه الشهيرة. دخل أبي مساهماً في شركة رابحة مضمونة دون أوراق. مجرد كلمة. انتظرنا أشهراً مليئة بالوعود. وخرجت المدخرات من زنار أمي لتصرف على حاجيات كمالية، يحدوها أمل في سَعَة قريبة مباركة لمالٍ حلال يندلق علينا طيباً لذيذاً كطعم الشوكولاه، يعيد الهناء لحياتنا العائلية التي اتسمت دوماً بالبحبوحة قبل تسريح الفرنسيين لأبي من وظيفته. غير أن هذا الرخاء حين جاء لم يتعد الأشهر القليلة فسرعان ما انطفأ نوره حين تناثرت كلمة التاجر الكبير قريب العائلة الموثوق نيازك حارقة.. ضاعت الليرات الذهبية في بطن المحترم.. في ليلة غاب قمرها هرّب أمواله إلى بيروت وأعلن إفلاسه.
من كان يدري ما في الصدور وما يحمل الغد؟ خيبة إثر خيبة. لا يلدغ مؤمن من جحر مرتين. تجربة مرّة لم تكن الأولى، تهز كيان أبي وكياننا. رمى عادل كلمة غاضبة قاسية في وجه أبي:
-نحن أولاد اليوم. ماراح راح. هل نبكي مثل العجائز، ما الفائدة؟ ثم نظر إلى ساعته، وصفر متعجلاً: أف. تأخرت، عندي إجتماع.
لم يرفع والدي رأسه. بقيت عيناه ثابتتين إلى الأرض.
طقطقت خالتي الزائرة بأسنانها الاصطناعية.
-قال صهر، قال: قريب وحبيب وتاجر محترم، لارده الله. انسكب على رأس أمي سطل بارد. ارتعشت شفتاها، وهي تلتفت إلينا.
-المال والبنون زينة الحياة الدنيا.. أنتم يا أولادي كنزي. لا يسمح أبوكم سوى صوته. أعلنت الصيام. ودخلت غرفتها، حبست نفسها ضمن جدرانها إحتجاجاً على تسلط الحاكم المطلق في البيت، حتى شارفت على الموت.
إنتصرنا على غدرات الزمن ومراراته.. دفعنا إلى سباق غير متكافئ معه. زحف ثقيلاً على آمالنا، وأجبر أبي على أن يعفي سامي من الدراسة ويدفعه عاملاً متدرباً في محل تجاري بلا أجرة لمدة ثلاثة أشهر.
خلقت تلك النقلة البعيدة عن جو المدرسة والدارسة من أخي شخصاً آخر.. غيّره جو الاحتكاك مع الناس تغييراً ملموساً جذرياً في سلوكه وفي مفهومه للحياة. أحس بقيمته كرجل منتج، وبأهمية القرش. بدأ يتدخل في شؤون البيت، وألوان الطعام متجاوزاً رغبة الآخرين،
والأنكى أنه فرض مسؤوليته وهيمنته على سلوكي. أخضعني إلى نظام مراقبة يومية لزجة صارمة، أوقعتني بإشكالية مزعجة منها: حرماني من رؤية أحمد، والجامعة، والندوة، صبرت على نار ريثما تنجلي الغيمة السوداء من تلقاء نفسها، غير أنها ظلت تحوم فوق رأسي باستكبار.
قررت المواجهة والصدام والتشبث بمكاسبي، وإن قدر لي أن أموت فلأمت واقفة كما الأشجار التي تموت واقفة كما يقال:
ضممت شفتي بقسوة، وأضربت عن الطعام والماء أثار وضعي الصحي أمي وأربك أبي سمعت صوته الحنون:
-تكلمي معها أم هشام. هنا دورك. قد تموت العنيدة.
-أقفلت الباب بالمفتاح، كيف ألج الغرفة. ردت بكآبة.
-أفهميها...والله، والله إن لم...
صرخت أمي:
-لا تقسم... لا تقسم كل شيء بالحسنى. أترك الأمر لي.




 
خرجت من الصيام منهكة واهنة خوفاً على مشاعر المسكينة والدتي. كانت أعصابي مرخية وإرادتي مهيضة.
ذات صباح باكر لفّه الصمت، تسللت إلى المدرسة، أمضيت نهاري كاملاً غائبة عن البيت. ضربت عرض الحائط بتعليمات أخي ومن خلفه العائلة. أراد الحرب، فلتكن. خلق سوء التفاهم فليتحمل. قبيل الإنصراف وجدت صفاء في غرفة الإدارة.
إقتربت مبتسمة: سلمى صار لي ساعة هنا. أين أنت، مريضة؟
ارتسم سؤال على وجهي.
-خير.
هزت مجلة بيدها. ثم نشرت مجلة الجندي قرب النافذة. وأزاحت الستارة كي يدخل النور هتفت فرحة:
-انظري.. تمعني، إقرئي، اسم من هنا؟
ضحكت من قلبي المرتعش.
-اسمي، طبعاً
-قرأت قصتك ((واحدة منهن)) أهنئك. فعلاً رائعة.
-إن هي، إلا محاولة تحبو.
-بل مؤشر، نقرأ في الأدب الإنكليزي قصص جويس... ذكرتني به.
-أرجوك يا صفاء، لا تنفخي في رأسي حتى لا يكبر فيتضخم، فيطق.. حينئذ..هوب..
-لا أمزح... قطبت جبينها.
-لا أراك في الجامعة.. ألا تحضرين الدروس؟
خجلت، تلكأت:
-مهمة جديدة أضيفت إلى مسؤوليتي كمعلمة. دخلت في لعبة الإدارة والتوجيه.
غامت عيناها لحظة، ثم تبسمت.
الإدارة تنظيم، لا يحتاج إلى كبير موهبة.
تأملت زرقة عينيها الداكنة، والنمش الطفيف على وجهها. أجبت بألم.
-يا صفاء، الجامعة تعني تفرغ. ونحن نمر الآن في أزمة مادية قاهرة من بعد يسر وعز.
-لست وحدك، أنا أعيل أمّاً وحيدة غريبة جاءت هذه الديار من الشرق البعيد.
حملها أبوها إلى شام شريف. أما كيف نعيش. وندبر أنفسنا. فالطابق مستور.
أقبض راتباً من الدولة كسبته بعلاماتي الجيدة في البكالوريا. دروس خصوصية في البيت، وها أنا ذي في المدرسة.
-أنتِ، صعقتني كلماتها. مثلك من تحمل ذوقك وجمالك يرصع البرلنت أصابعها وتمشي على الذهب.
حدثت نفسي: يا الله.. هذه إنسانة تعانق النجاح ويعانقها، مسؤولة عن إطعام وإكساء وإيواء أم وما تزال غضة. أنا من أنا. أنا لم أقدر قرشاً واحداً لعائلتي. شعرت بالخزى وبشاعة أنانيتي.
-هل نترافق اليوم نحو الجامعة، المشي جميل في هذا الشهر ما رأيك؟
-أحب نيسان، يبدو أن سرتنا قطعت على حب الكتب، ما رأيك لو نتدرج نحو المكتبات. طريقنا واحدة.
نسيت همي. سرنا الهوينا في الطريق المشمس. من بوابة الصالحية إلى مكتبة اليقظة التي تعرض أحدث الإصدارات.
انحرفنا نحو مدرسة التجهيز الأولى للبنين. هاجمتنا رائحة الفلافل الزكية، من موقع في زاوية الشارع.
فكرت بأبيها الهارب الجبان الأناني كيف فر وترك إبنة كالوردة تهاجم الصقيع ويهاجمها. ومن جهتها تساءلت صفاء: ما هي علة أبيها هل مات، هل تزوج أخرى، هل انتحر، لابد أنه وقع في هوى أخرى. دوامة من الأسئلة. لاح في بالي أحمد. وما كان ليغادر خاطري رغم شراسة أيام حبلى بالألم. ترى لو سألتني عمن أعز وأحب هل يسعني أن أراوغ، ولا أصدقها القول؟
سرقت نظرة جانبية نحوها، دخلت هي الأخرى في حوار مع ذاتها بدا في تقطيبة الحاجبين وشبه إبتسامة حول الفم. فقط حركة إنقباض من أصابعها داخل الكف الجلدي الأسود تنبئ بالغليان.
مزقتُ الصمتُ:
-حلوة الجامعة.... جو آخر أليس كذلك؟
-أراها ثانوية كبيرة، لم أجد فيها تغيراً جوهرياً.
-أعني، بمحاضراتها، بأساتذتها، بإختلاط الجنسين، بعوامل عديدة قد تساعد على الانفلات من الحبل المشدود على رقابنا، وبالتحديد رقاب البنات.
رمقتني بوداعة:
-أتظنين؟! لن تجدي هذا في شهادة الثقافة العامة. مدجنة تفرغ دجاجاً وديكاً.
توقفت أستروح هواء دمشق الذي هب من الربوة ودمر وفتح رئتي- يا الله.. ندهت:
سألتني:
-وماذا بعد الجامعة؟
ضحكت:
-الزواج، كأي بنت.
-سلمى هل ثمة رجل في حياتك؟
-لم يفاجئني قولها. كنت أتوقعه.
دقرت لحظة، وأجبت بسرعة كمن يفرغ حملاً ثقيلاً عن قلبه:
-أجل. صحيح.
أطرقت برأسها إلى الأرض.
-أما أنا، فلا، حياتي صحراء، كلما غمرني الغيث عطشت.
أيقنت بأن أمها وجمالها عثرة. صفاء مشرنقة بالمعجبين، والمتزلفين، والطامعين. لا تدري بمن تثق.
عندما دخلنا الجامعة، تباعد الطلاب عن دربنا نحو الحائط. لاحقتها عيون جائعة ورغبات مكبوتة كانت نقطة الضوء الباهرة في مجموعة نجوم صغيرة كسفت نورها. تدرك بنظرة عجلى مدى سيطرتها على الجنس الآخر. أرجأت حديث قلبها إلى وقت آخر فانكبت تلمع فكرها. تصقله، تصهره معرفة.
-أمن مكان نشرب القهوة؟
-النادي. هلمي بنا. نادي الطلاب. تقابل إنسانان مشهوران على السلم الحجري العريض، استأثرا بشهقة حسد وإعجاب من الطلاب. مدت صفاء يدها مصافحة:
-الأستاذة رندة، أستاذة الأدب الإنكليزي. أول إمرأة دخلت سلك التدريس الجامعي في بلدنا وشاعر الحب نزار، أشهر من نجمة. فجأة لمعت شرارة في العيون، لكنها ما لبثت أن أنطفأت في بؤبؤي صفاء. هنا الشاعر بجوانيته إليها، أسدلت ستاراً من الوقار بينهما، اختفت صفاء الناعمة خلف كبرياء قاسية، بينما ظلت عيناه تأكلان وجهها وشفتيها.
استدارت نحوي مكابرة:
-كلاهما موهوب، متفوق، يرنوان نحو كتابة قصة حب خالدة لا تعترف بحدود وسدود وعمر.
وعلقت متجاهلة رفة القلب في وجهها.
-وأنتِ، أين أنت منهما؟
تنهدتْ:
-لا أدري؟ أنا ضائعة.. الآن تحتاجني أمي الأرمل المسكينة تحتاج حبي.
غيرتُ الحديث عندما لحمت ((غادة)) تتأبط ذراع ابنة خالتها السمراء سمية. اقتربت مني بلهفة.
-سلمى
رن صوت دلع رقيق بناتي في أذني.
غادة، فاتنة الجامعة، عانقتني.
-سلمى، قرأت قصتك في مجلة الجندي ((واحدة منهن)) أنت الواحدة منهن.
تفرست في عينيها:
-أتمزحين يا غادة؟
-سلمى والله أعني ما أقول، لك ما يميزك. وسترين.
- يا لحظي الرائع اليوم، صفاء وأنت؟ أعتز برأيكما.
-حذار يا سلمى من التراجع، اكتبي، اكتبي ولا تتوقفي.
لم تكن غادة معروفة على صفحات الجرائد بعد. كانت طالبة ذكية تحمل عيني سوداوين شبقتين إلى الحياة، تفهم محرك العالم، ومحرك العالم هو الذي قبض عليه وحكى عنه وكرسه فرويد.
تطير غادة، تدور حول نفسها تخشّ تنورة القش الزرقاء حول خصرها النحيل المرصوص بزنار مطاطي عريض، وتبتسم ابتسامة مسرحية مدربة. انظري حولك. يخضعون جميعاً لفرويد.. ضحكت وأنت يا سلمى لا تكذبي.
أنا أيضاً مع فرويد.
للجامعة رائحة خاصة، كما للسينما رائحة خاصة في كياني. تصب الحياة فيهما بزخم فوّار. دخلت مدرج الجامعة متهيبة. من منبرها نسمع أشد البيانات خطورة ومن منبرها يعلو صوت مفكر، ومعارض، وسياسي، مع دعوات إلى لملمة تبرعات لحركة التحرير في الجزائر.
يندلق الطلاب رويداً رويداً حاملين صخبهم، وحيويتهم، فوضاهم، راقبت هذا البحر الحيوي. ملأني فرحاً.. يقترب شاب من المكبر.
يدق الطلاب على المقاعد.
-يعتذر أستاذ علم الاجتماع عن الحضور اليوم بسبب إنعقاد مجلس الكلية.
-يا لحظي التعيس؟
انشلع من المدرج كغصن عابث. أحمل كتبي وأمشي خائبة نحو البيت. تزاحمني الأفكار، أتذكر نورس بقامتها المنمنة القصيرة، ونظرتها المتسائلة.
-أين وصلت؟
أعرفها، ترمي جملتها، وتتركها مفلوشة منفرجة نحو معان عدة تطال في صميمها علاقتي بأحمد، بينما تظل أحاديثها الخاصة ملجوجة في صدرها.
في الطريق فاحت رائحة الفلافل. تساءلت: ماذا لو صدمني شخص أحمد الآن. ماذا لو رآني أخي عادل معه الآن؟ هل يغض النظر؟ كيف أتصرف؟ تُراني أهرب؟ أم أواجه، أقاتل، ما عدت أعرف نفسي. شغلتني أفكاري عن المسافة الطويلة التي قطعتها مشياً من الجامعة حتى المهاجرين... أحسست بالتعب وبرغبة النوم إلى الأبد.
على مائدة الطعام بادرنا أبي بنبأ طازج كرغيف تنوري ساخن وفواح.
-سأعود إلى عملي...
قرر المعهد الوطني، إعادة وتعويض كل من سرحهم الفرنسيون إلى وظائفهم. قامت قيامتنا. هللنا وجعلنا نقبل أبي وأمي. علت طرقات الملاعق فوق الصحون.
حاولت أمي كفكفة دموعها فما استطاعت. إنسحبت من المائدة ناشجة.
خلقت التغيرات الحياتية عندنا بخِطّها البياني المتأرجح خوفاً من الفرح ومن الحزن على حد سواء. فالضحك مخيف، واللهو مخيف، والحزن يقف خلف الباب، فما كنا يوماً لنقبض على السرور حتى يقبض الألم على خناقنا. نعود بعد فترة فنتفتح براعم خضراء طرية، ثم زهراً مثمراً لا تلبث ريح أن تلفحه فيسقط. ما أشقى انساننا، وماأقوى صدامه. يظل أقوى من الممنوعات ويتفوق على اللاءات ويخترق التحديات.
بم أحلم؟
غرفة ومطبخ وسقف يظللني في رأس جبل.. مع أحمد. تعاتبني نفسي هازئة.
-ما أبسط أحلامك.

 
لست أحلامي بسيطة أبداً، بل متنامية متكاثرة، كالخلية، تنشطر ثم تنشطر وتولد من جديد.
إذن، قولي له صراحة أحبك، أتلاشى في لحظة لقائك معك أسمع تمزق الأنسجة في جسدي.. أحبك كما تحب إمرأة، كما تقدر إمرأة على الحب.
تدعوني رائحة الجامعة. بدأت أضيق بالجو المخنوق كمعلمة ضمن مدرسة محدودة بإطار معين.. فاعل ومفعول وجار ومجرور. أهذا ما أريده حقيقة؟ فكرت في أن أهرب كتبت قصيدة نثرية جديدة ((سأعود بعد الحصار)) تحكي قصة عاشقة تتحايل بسلة تين تحملها لترى حبيبها.
((هززت مهد الصباح الرضيع/ صعدت الجبل، في يمناي سلة من تين يداعب أذيال ثوبي الهفهاف نسيم وادع ممراح/ توقفت أمام بيته تتنازعني الأفكار. يا لدهشتي: لقد أطل علي حبيبي/ تملأ فمه إبتسامة حانية. فكرت فيما عساي أن أفعل؟ أأترك السلة وأعدو هاربة/ أم أتريث لأراه؟... أراه/ وبين الرهب والرغب تركت سلتي وانطلقت أعدو.. /وركض خلفي صوت حبيبي: ((عودي)) فسمعت صوتي يقول ((سأعود بعد الحصاد)).
نشرت مجلة دمشقية القصيدة النثرية. لفتت النظر. دعاني محي الدين ((المشرف على إدارة الندوة الأدبية)) إلى التعرف على شلة الندوة والمشاركة في أمسية مقبلة قد يحضرها عميد كلية الأداب ووكيل الجامعة، وبعض الأساتذة بمناسبة عيد الجلاء.
في الندوة تعرفت على الأذكى عادل، واسكندر، ونصر، وهيام وناديا وعيسى هشام وعبد الله وعبد العزيز عكست الندوة صورة مصغرة عن النشاطات الثقافية والفنية التي أخذت تعج في العاصمة لكنها بقيت دون ناظم فكري محدد موحد، تستحم بفوضى الانفلاش الفكري الفاغمة.
استهوتني الانطلاقة من اليومي إلى المقبل.. لهذه الندوة ونكهتها الفجة، تحمل المشعل غير هيابة. أحياناً، كانت الكلمة تجمل قوة الرصاص ذات طابع قومي وإشتراكي تفجر الأسئلة في الأذهان الطلابية النظيفة. كيف، ولِمَ، ومتى؟.
ما إن تنتهي الأمسية، ويغلق آخرنا خلفنا الباب حتى يلتم شملنا ثانية فنهبط إلى النادي.. تسبقنا أصواتنا المتشابكة بنقاشٍ حاد محتدم حول موضوع الندوة، حول الوضع السياسي والعقبة التي فتّتت الأنظمة الرجعية، نتحلق مثقفين وشباباً طلعة طلاباً كنا وطالبات: رجاء نورس فرات، رضى، محي الدين فرحات، قتيبة، نبيه، أدهم، ناديا، عادل، نصر، عبد الله، عمران، هشام.
كلهم بدؤوا نشطاء برؤوس حامية وأرواح فياضة ومشوا في دربٍ وعرٍ شاق متجاوزين مطبات الأنظمة والعهود والانقلابات، والتطلعات نحو امتطاء المستحيل.. تلك صفحة مشرقة لعطاء مبكر قدمته قلوب عرفتها من ذهب.
ماكان الخميس إلا موعداً ووعداً يرش عطره عليهم. في أمسية لمحت أحمد بين الحاضرين يرعى الشتلات الصغيرة، وإلى جانبه عادل ومحي الدين.
لكزني عبد الله باسماً:
-جاء المعلم.
أرد متضاحكة:
-جاء يرعى الشتلات الواعدة أمثالك.
-دعك من ضلالك وتعبيرك المعهود.
أتساءل بيني وبين نفسي:
-ما الذي جاء به؟ عن اهتمام جاء، أم كن يترصد خطواتي ليعرف كيف أقضي وقتي ومع من؟ لم يذكره مرة أنه حريص على معرفة ما يدور في ندوتنا التي حدثته عنها. مثل أبي الهول هو... صابر، كتوم، سري، خفي....
قررت أن أفوت عليه فرصة إنتصاره. هرولت مسرعة التقط خطواتي قفزت فوق درجات السلم الحجري. وجدتني في الحديقة. تنفست الهواء بعمق.
ربتت يد على كتفي. جفلت.
-سلمى، لم تركت الندوة هكذا ألن تحضري النقاش؟
همهمت مستفهمة: وأنت؟
ضحك.
-قلب المحب دليله، هل أرافقك؟
تلكأت هنيهة، لعله قرأ ترددي.
أضاف:
-نسير حتى مدرسة التجهيز الأولى فقط.
ترافقت خطواتنا متناسقة متكاملة في نصف العتمة يداً بيد، كتفاً بكتف سرنا. أميل عليه ويميل عليّ. جناحاي صلبان. لم أشعر بالدنيا. ولا الدنيا شعرت بي. مخلوقة خفيفة أنا تسبح في فضاء هلامي وصلنا التجهيز. خفق قلبانا بشدة. من يغادر أولاً. كلما هممنا تراجعنا. وكلما تراجعنا هممنا. ودوماً نتقدم.
بركت فوق أول كرسي صادفته في البيت. هجمت أمي تلفني بحنانها.
-تعبانة، زعلانة، بردانة، ما بك؟
صبت علي فواجع الأمراض جميعاً. وأنا غارقة في لجة المنتهى. كيف أشرح لها ما بذاتي وهي الخاضعة أبداً لسطوة التقاليد، كيف أزف لها صبوات صبية عاشقة يتفجر الهوى في شرايينها، ولا يلقى مسيلاً له؟
غنت لورد كّاش في مسمعي: ((آمنت بالله))
ترنمت: آمنت بالله. تكومت بعضي على بعض وغفوت فوق الأريكة.
ربت أخي سامي على كتفي. كفى استرخاء. لن تستطيعي النوم في الليل. أجبت وأنا ناعسة:
-عندي دراسة. وتلخيص، سأسهر الليل.
-تسهرين الليل، من أجل ماذا؟
تيقظت أعصابي كلها.
-من أجل الجامعة.
-جامعة طز في ستين جامعة.. هذه الحال لم تعد تعجبني.
نهضت مثل لبوة أمعن النظر في خلقته.. أطلق من جهته صراخاً في خلقتي:
-بلا جامعة، بلا بطيخ.. دوام مسائي، وعودة متأخرة... جنون هذا... ما عندنا بنات من هذا الصنف.
زعقت، انتفضت، لسعتني أفعى هيأتني للشجار.
-نعم، نعم؟ لم أسمع. أعدها مرة ثانية.. أنا لست جارية في بيتك وتنصاع لقوانينك المتخلفة. أعماني الغضب فأخذت أرتجف.
رفع يده، وهوى بصفعة رنانة على وجهي، أفقدتني توازني. شعرت بطعم مالح في فمي.. وبأقصى ما أملك من قوة وصبر وفوران السنوات السابقة ركلته على بطنه. أنّ متوجعاً. هجمت على وجهه خرمشته بأظافري. سال خيط رفيع من الدم من أظافري.
اندفع كل من في البيت نحونا... صراخ، هلع. كنت أبكي وأنشج بحرقة الخيبة. أضرب الجدران بجسدي ورأسي... دارت الدنيا بي، لم أعد أرى أحداً، أسمع أحداً، كل العائلة تجمعت أمامي في وجه واحد بشع، قاسٍ معاد.
عندما أويت إلى سريري، جفت دموعي. أضحت قاسية صلبة. تشنجت ملامحي. مقاتلة أنا أضحيت.. هذه معركتي ولن أتراجع..
لم أنم حاولت أن أقرأ فلم أعِ ما قرأت... مثُل أخي أمام عيني.. هل يعقل أنني فعلت ما فعلت معه، وهل يعقل أن أعود نعجة يسيّرها هو أو غيره كما يريد.
ينشر الليل ظله. يخبئني، يطويني تحت جناحه الأسود. أبوح بين يديه بما بقلبي متحررة، منطلقة، وأكتب على لوح خاطري، ما في خاطري.
رغم الأقفال خابرني أحمد:
-وصلت المنشورات التي تدعو لانتخابات حرة ديمقراطية تشمل اليمين واليسار معاً.
-إنتخابات حقيقية؟ يعني تخلص الزعماء الكبار من عقدة الأبوة. إسمع، قد تكون هدنة مؤقتة تخدم هدفاً ما.
-لم لا؟
-ولكن الأيام حبلى بثارات وتطلعات وعمالة وإنتماءات. هل ننسى.؟
أضاءت تلك الدعوة المباركة مصباحاً في درب وعر المسالك بدأ تعبيده ملأت الإعلانات الجدران والأعمدة الكهربائية وواجهات المحلات. إعترضت الشوارع يافطات خامية بيضاء كتب عليها بالأسود والأحمر: ((لا للأحلاف، لا للمؤامرات، لا للعملاء)) من يعارض هذه الشعارات؟
ملَّ الشعب الانقلابات المتوالية التي أورثته الإنقسامات والفوضى، وجردته من إنتماءاته الواضحة. بات أشد وعياً، وأكثر حذراً في إندفاعاته العاطفية. يريد أن يجرب طعماً آخر للسياسة، طعم الديمقراطية الصحيحة.
ضمت قوائم المرشحين فئات من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين المتطرف المحافظ. تثور الجامعة بخطب رنانة متعصبة لأفكار أصحابها، ترفع شعاراً تصب في مطلب رئيسي: ((الديمقراطية))... ديموقراطية بألوان متباينة بالطبع.
إزدحمت الحديقة الجامعية بالطلاب، وقف نشأت طالب الطب على سلم النادي خطيباً ثم تناول الحديث يعقوب طالب الحقوق، صياح طالب الآداب. وقفت خلفهم بنات متحمسات، منطلقات. تحدث الخطباء واحداً إثر واحد، ناشدوا الطلبة بالسعي على إنجاح الإنتخابات المقبلة ورص الصفوف، والتصدي لأي دخيل قد يزرع الفوضى أو البلبلة في طريقها.. كنت مستمعة لا تزال ترزح تحت وطأة الصدمة التي تلقتها في البيت.. فكرت:
-لماذا الطلاب والعمال هم الوقود الحقيقي المستمر، والوجه المضيء الذي يدفع الثمن ويدفع به إلى الصفوف الأولى في ثورات العالم؟ ظل سؤالي معلقاً.

 
خلف السور الحديدي والباب المغلق للجامعة وقفت ثلة من الشرطة لم يسمح لها بالدخول.
أدى المؤتمر العشرون في زمن خروتشوف والتطورات السياسية الجديدة إلى انفتاح البعثيين على الاتحاد السوفييتي وإنجاح الفئة اليسارية في الإنتخابات.
إنكسر الوهم. نبذت البلد الدعاية الأمريكية التي أججت نيران الحقد عند الأنقياء البسطاء ضد بلاد الموسكوف. بدأت روسيا الإشتراكية تفك الأغلال والأقفال عن شعوبها، وتفتح قلبها لاستقبال آلاف الناس القادمين من بلادٍ غمرتها الأسئلة اللاذعة حول تجربة تاريخية امتد لهيبها على نصف الكرة الأرضية.
دعا الإتحاد السوفييتي إلى ما سماه ((المهرجان العالمي الأول للشبيبة)) في لقاء أسطوري يجمع مختلف الألوان والمذاهب والعقائد والأجناس. في المهرجان ستقدم مختلف الفعاليات والأنشطة والمسابقات: قصة، شعر وموسيقى، وغناء. وفرق للرقص الشعبي تحمل تراث وتقاليد أمتها.
دفعني أحمد بقوله:
-سلمى، لم لا تشاركين في مسابقة القصة لشباب العالم. تقدمي بقصة ((واحدة منهن)) شروط المسابقة واضحة. أن تكون مترجمة لإحدى اللغتين الفرنسية أو الإنكليزية.
-سأغير العنوان ليصبح الورقة الصفراء... ما رأيك؟
-فكرة، يؤدي المعنى.
-من يترجمها؟
-أنا أترجمها إلى الفرنسية. انبرى متفائلاً.
غمرني خوف، فأنا بطبعي أخشى الفشل.
-وإذا فشلتُ
-فشلتِ، فشلتِ، ما المشكلة، هز كتفيه لا مبالياً.
صفنت قليلاً. ملأتني أحلام النجاح، أحسست بجذوري تتمدد في شرايين البلد. هجمت عليه، قبلته، عانقته.
-هل يسمح وقتك؟ دقرت أستشف صدى كلماتي.
أطرق برأسه إلى الأرض متبرماً.
-لدي كل الوقت.
يحيرني هذا الحبيب، يضعني في حلبة سباق مع الزمن وأنا لا أجيد الركض والقفز العالي، ألا يتعب؟
-سألني:
-أتودين المشاركة بمهرجان موسكو مع شبان الجامعة. لديك فرصة كبيرة، أصبح اسمك معروفاً.
-أنت تمزح.
-لِمَ لا، حاولي، وسأحاول من جهتي. سأسافر قريباً إلى بلغاريا لحضور العيد الوطني ومن هناك أتابع إلى موسكو. من يدري؟ وضحك.
تركني وحدي أواجه تحدياً، وقفزة نوعية قد تودي بي إلى كسر رقبتي.
-يا إلهي، يا إلهي، هل أقوى؟
لا تقارب المشكلة هذه المرة أية مشكلة أخرى، فإن تخطيت أشدها وعورةً وتملصت من الإنزلاق في هاوية الرضوخ حتى الآن، فهذا لا يعني إطلاقاً بأن الحظ سيحالفني دوماً. السؤال الصعب الذي يطرح نفسه: كيف أمهد السبيل مع عقول تؤمن بأن الإتحاد السوفييتي بلد الفسق والإلحاد وشيوع النساء، وأن الأطفال أطفال الدولة، كيف أفسر لأهلي بأنها دعايات خلقتها وأشاعتها الرأسمالية الغربية خوفاً من مدٍّ إشتراكي شعبي يرعبها ويهدد مصالحها في الشرق الأوسط؟
كيف أباغتهم بطلبي هذا الذي لم يجرؤ عليه إخوتي الشباب وآخرهم سامي الذي تلفح بعقلية تويجر.
اهتديت إلى أسلوب المباغتة. المباغتة في الحرب طريق النصر نفضت أمام أهلي ما بجعبتي مرة واحدة.
-إختارتني الجامعة مع عدد من الطالبات لتمثيلها في مهرجان موسكو، وهذه ميزة كبيرة وفرصة قد لا أنالها في سنوات مقبلة.
استدرت متراجعة متشاغلة حتى لاتقع عيني في أعينهم الدَهِشة لحظتها لن يسعني الانفلات من شباكها.
سمعت أمي:
-ما هذه البنت المجنونة- تطلع كل يوم بفن جديد، تود لو تأكل الدنيا وتهبجها ليتها تزوجت ذاك البدوي، وبقي همها في قلب زوجها. والله أنا خائفة عليها.
لم يرد والدي، ولم ينبس بكلمة. هل سيجري عليّ الحد، ويمنعني من مغادرة البيت إلى الجامعة مثلما ود أخي لو يفعل؟ لعله سئم تمردي. ماذا يبيت في سريرته؟ يلتزم صمتاً مريباً يطول، وقلبي يخفق ويخفق.. نجاحي وفشلي على كف عفريت..
لبث في زاوية أتنصت. لم أسمع شيئاً، هربت إلى غرفتي، وفتحت كتبي، حاولت أن ألخص أفكاراً ليونع، وآدلر، اشتغلت بهمة فائقة حتى خارت قواي، وتعبت عيناي ها قد دخل حياتي عامل آخر. السفر.
هل أسافر، أم لا أسافر....
من أجل أن أخفف من قلقي قرأت شيئاً من غوركي في الأم مرة أخرى، ومقاطع من الحرب والسلام لتولستوي، فاجأتني روعة العبقرية وصلابة الإنسان، كما أرعبتني سهوب سيبريا وصليل سلال ديستويفسكي.
-ترى كم مر على الإنسانية من حكام وظلام وقطاع طرق نهبوا الأخضر واليابس.
من غرائب الصدف غير المقولة، أن تنقر دجاجة رأس ديك. عارض أخي عادل، ودعمتني أختي هدى التي جاءتنا ضيفة لمدة يومين في طريقها إلى مصايف بيروت.
أصبت بالإحباط من موقف عادل الإنسان المثقف الهادي الذي يناقش وينظّر بخط قومي عربي مع أستاذه ميشيل... أخي عادل المثقف المتفتح وصفني بالتهور والأنانية.
بدت ثورته العارمة غير خاضعة لأي منطق. فجأة تحجر عقله وتبخرت نظرياته المبثوثة في زوايا الصحف حول دور المرأة الرفيقة في نهضة الأمة. وحلت محلها تقطيبة دائمة بين العنين. أعقبها صمت وقطيعة شبه كاملتين. لم يعد الحامي من شطحات هشام الفقاعية. بل أضحى المتسلط الذي يشن الهجوم المركز آن يستطيع ذلك حتى يثبط همتي. قلبت الأمور على وجوه عدة علني أجد تفسيراً لتحولاته.
-هل يخاف الجريء على اسمه من أخت ستسافر إلى بلدٍ شيوعي لا يعرف الأخ أخته فيه وإلى مجتمع مجهول ملحد مليء بالأخطاء. هل يخشى على منطلقاته التحررية من الإنهيار؟ ناقشت الأسئلة جميعاً. زادني الازورار عناداً وتشبثاً. ورحت أرتب أموري شيئاً فشيئاً، فما عدت ألتقيه على مائدة الطعام، أو في سهرة العائلة، خلقتنا جواً تعيساً في البيت لم يرض عنه والدي.
من جانبي بدأت انحت بإزميل دقيق حاد في تزمت عادل أمام العائلة وأتكتك مع أبي. ناقشنا الإحتمالات. وجدتني أدخل في دوامة محكمة صارمة وأمثل أمام قاض. قمت بدور المحامي بجدارة، تطوي الأيام أحلامي وأنا أحارب على عدة جبهات محرومة من الجامعة والمدرسة ومنبوذة في البيت ضمن عشيرة في قلب قبيلة لا تؤمن حقيقة بجوهر حرية المرأة إلا من خلال الكتب النظرية.
يشد أحمد أزري حتى لا ترتخي قوتي. برزت هدى بكل ثقلها وروائها وهمينتها على العائلة التي غادرتها صغيرة لتعيش في جوٍ آخر تحوطها الأبهة والارستوقراطية. رغم هذه المظاهر التي تستميت تحت أقدام المراسم، رغم هذه التبعية الخالصة مدت لي أملاً حريرياً، ويداً أتوكأ عليها في نقلتي تلك، وتطلعني نحو السفر، نحو الأفق البعيد.
أعلنت عن رأيها بصراحة وثقة أمام الجميع. مهدت لحديثها بأمثلة كثيرة عن البنات والسيدات اللواتي يقمن بأدوار راقية تعلو فوق المطبخ وإنجاب الأولاد والتنظيف.
-بابا، يجب أن تنزع سدادة الفلين عن طموح سلمى. بابا الحياة لا تعود إلى الوراء في زمنٍ دخلت فيه المرأة ميدان العمل، وخلعت الحجاب، هل تصدق أنني أدرس البروفيه مع أولادي هذه السنة سأتبعها بالبكالوريا فالجامعة.. زوجي معي خلف كل خطوة صالحة أرجوها. فلماذا نكبت طموح زهرة متفتحة نحو الجيد من اللامألوف؟
استدارت نحو أمي:
-ماما سلمى، مختلفة عنا، إتخذت طريقاً، ما يسعدنا قد لا يفرحها ثم قامت من مكانها، وقبلتها من رقبتها، ودغدغتها من خاصرتها. سألتها.
-أما كنت تحلمين بالسفر؟ يجب أن تتعرف سلمى على العالم. وهذه فرصة لإختراق ألوان قوس قزح في سماء أخرى. صارت حكيمة نفسها فلتواجه التيار وأنا على ثقة أنها ستطفو أما إذا أخطأت فعندئذٍ الحساب.
-هكذا ببساطة؟ ردت الوالدة.
أفعمتني الدهشة. بل سحرني بيانها. لم أصدق ما سمعته أذني. هذا المنطق، وتلك القدرة على الإقناع أين كانا، لم تخبأت هذه المرأة خلف الأستار طويلاً، ولماذا ابتعدت عني، وتركتني أواجه المشكلات وحدي. ما هذه الأحجية؟ ما أغباني عندما فتحت عيني على الدنيا ولم أجدها، ظننتها ماتت، رأيتها صبية مدللة بين يدي زوج يتقدمها بأشواط في العمر. يضحك بمقدار، ويأكل بمقدار. إعتبرتها ميتة. كيف استطاعت أن تنتشل نفسها من سلاسل الرسميات، والدعوات والنوادي المختلطة؟ وَعَتْ ذاتها وحققت شخصيتها من حيث لم تحتسب، ولا نتخيل البنت المدللة وقد صارت ربة عائلة وسيدة نفسها. هل أرادت أن تحقق المزيد من ذاتها من خلالي. أم تنتقم من إرث بالٍ حال دون استمتاعها بطفولة بريئة؟ أم أن تلك الحياة الأرستوقراطية لم تكن حقاً فارغة ولا تافهة كما ظننت، وإنما أكسبتها صقلاً رائعاً أضيف إلى ثقافتها الأجنبية الأولية؟
غادر ((عادل)) بمهمة مجهولة إلى المحافظات في وقت كنت بأشد الحاجة إلى غيابه.. تنفست الصعداء.. فقد فك أسري، وانفكت عقد العائلة.
ثبّتت دعوتي إلى مهرجان الشبيبة ككاتبة شابة.
 
قرر أبي السماح بسفري، لكن ليس قبل تأكده من أن الوفد يضم العديد من البنات ومن السيدات المعروفات.. وفاض علي فزودني بالرسم الرمزي للرحلة وأجرة السفر: أربعمئة وخمسين ليرة سورية.
ملأت هدى حقيبتي الجلدية الرمادية بالهدايا دون أن أدري، هدايا شامية، علب موزاييك، أقراط فضة مشغولة بصبر الدمشقي الفنان، قطع بروكار، عباءات مقصبة.
تذللت فجأة كل العقبات، لم تعد الأرض تحملني، صارت الرحلة هوس ليلي ونهاري. دارت برأسي الأحلام. حرة طليقة أنا، سيدة قراري، ما من رقباء، ولا تعاليم...
بحر وماء وسماء، اللاذقية، البوسفور، أوربا، ثم موسكو بالقطار، سأتفرج على العالم، أناجي القمر حرة مع أصدقاء العمر... بيدي هاتين أمسك زمام أموري.
في السابعة مساء، التقت جموع المسافرين في ساحة المرجة، هرج مرج وتجمع الباصات وكأننا في عيد.
لوحت لأبي وهدى من النافذة، لم أصدق أنني وحدي، وحدي دفعة واحدة، ومن عرين الأسد أخرج؟
تحرك ركبنا في أجمل ليلة صيفية مقمرة، هب نسيم عليل، وبدأ الشاعر محمد حديثه الضاحك، تفنن في رمي النكات الساخرة، ما هي إلا لحظات حتى استقطب ركاب الحافلة فالتفوا حولنا ليشاركوا معنا في ايقاد الفرح والظرف، النكتة تلو النكتة.
صباحاً شممنا رائحة البحر، رائحة السمك، أجمل بحر في العالم، بحر اللاذقية، صفحة زيت تجعدت بشرتها بنسائم لطيفة، قرب الشاطئ ربضت باخرة بيضاء أطل من سطحها بحارة بلباسهم الرسمي، رفرفت أعلام وزينات، وعلا مكبر صوت باستقبال موسيقي مهيب.
من سطح الباخرة بدا صف من الملاحين الشباب يتقدمهم الربان.
تجمعنا أمام السلم المرخى، وقفنا ننتظر التوزيع، نادوا علينا بالأسماء، وجدتني في حجرة ضيقة بنافذة مدورة تلطمها الأمواج تتسع لسريرين نضدا فوق بعضهما.
فوجئت بزميلة الندوة ناديا في الحجرة ذاتها، مع انطلاقة الباخرة هرعنا عشرات إلى السطح نتفرج على اللاذقية مستحمة بشمس الصباح وتبتعد عنا، فما غفوت بعض الوقت حتى صحوت على آلام في بطني ودوار في رأسي.
غالبته فغلبني، نهضت فدارت بي الدنيا، تشبثت بالباب، لم أعد أميز ما حولي، لم يوفرني دوار البحر أبداً منذ اللحظة الأولى للسفر، مثلي تساقط الرفاق واحداً تلو الآخر، والبحر يستل رويداً رويداً القوة من أبداننا ويتركنا في حالٍ من الإنهاك والصفرة البشعة، عمل البحر ضدنا ثلاثة أيام متوالية.
اكتشاف تلو الإكتشاف، ووجوه تترى خلف وجوه، وصداقات تعقد، والسفر أحلى كشاف لنفسية الناس، تبادلنا العناوين والأحاديث حول موائد الطعام، وتأرجحنا مع اهتزازات السفينة فوق موج البحر الأسود، شاهدنا شروق الشمس وغروبها وراقبنا في الليالي القمراء السمك بتقافز فوق الماء، يماشي سفينتنا ويناكدنا، ويماحكنا، يدعونا إلى الغوص معه، ثم يمل أعيننا، فيغيب، مع آخر فجر أرخيت المرساة عند قدمي أوديسا المتعالية ببيوتها الجميلة وسلالمها الحجرية المحفورة في التلال المشرفة على الطريق الملتف بطبيعته الخلابة، بدت أوديسا منارة مضاءة بنجوم متلألئة عبر بيوت الناس، تنسرب ألحان راقصة من مؤخرة السفينة تطلق وداعها الفرح بوجوه مستبشرة منطلقة، يرقص البحارة ويدورون، ينتشون، يتسلل الوجد إلى أفئدتنا، نحاول أن نغني جماعياً، ولكننا لا نجيد الغناء، نحاول أن نرقص، فلا نعرف كيف نرقص، فقط نعرف كيف نحزن، ونأسى ونبكي، شعرت بطعم المرارة في فمي.. هل حقاً سألتقي أحمد في موسكو.
تجولنا في المدينة الرائعة في طريق مسلط على البحر ثم انقلنا إلى محطة القطار، كان القطار أنيقاً جداً تشع النظافة من ثياب الأسرة الجديدة والستائر البيضاء المنسدلة على النوافذ، أكسبتنا المظاهر الحضارية راحة نفسية، تهالكنا على المقاعد، وقد عضنا الجوع، رتبنا حقائبنا، ومشينا نبحث عن المطعم، اجتزنا عربات كثيرة، في مقطورة المطعم كانت في انتظاري مفاجأة...
وجدتني أمام أحمد... هل أفرك عيني؟ أحمد بشحمه ولحمه أمامي مع الشاعر سليمان، يا إلهي، كيف يفاجئني على هذا النحو؟ تجمدت مصلوبة في مكاني وإذ شعر هو بحرج موقفي نهض عن كرسيه واتجه نحوي.
-الحمد لله على السلامة.. سبقتك بليلة كاملة.
-لم أجد كلمات أعبر بها عن دهشتي وفرحتي في آن واحد. أخذ بيدي وجلسنا إلى مائدة.
-أنت سادي.
تدخل سليمان وهو يراقب الموقف الغريب باسماً:
-قلت له ذلك قبلك.
-ألا يفرحك حضوري؟ على كل حال، اسمعي التقيت بشاعرنا سليمان في صوفيا، وطلبنا من مضيفينا البلغار إيصالنا إلى أوديسا لنرافقكم بدلاً من نقلنا إلى موسكو مباشرة.
-هكذا إذاً.

-أما كانت فكرة حلوة؟ أخذنا الطريق مقاطعة.. واقترب مني هامساً: من أجلك... ما عاد بي صبر على فراقك.
-شد كرسي نحوه، وأجلسني قربه، قبلني كعراب أمام الجميع.
نبرت خجلة:
-أراك تأقلمت مع جو صوفيا، وهات يا حرية؟
-يا ستي تأثرت، عندك مانع...
-ضحك سليمان وقال:
-ما رأيت حبيبين إلا تخاصما.
تفرست في وجه أحمد:
-خمسة عشر يوماً أعادتك إلي رشيقاً.
تلمس صدره بيده، ثم قهقه:
-رأيت نحولي، ولم تلحظي اشتياقي، حظ عاثر؟
ضحكنا ثلاثتنا.
-نشرب القهوة؟
-بل أنا جائعة.
دفعني من كوعي، تملص سليمان من رفقتنا بلباقة بعد تناول الطعام مباشرة.
-إيه، أخيراً وحدنا لارقيب ولا نظير.
-لا يعرف الطائر الحبيس ماذا يفعل بحريته، نبست.
-انس نفسك، ومن أنتِ. تنشقي الحرية بملء رئتيك.
وضع يده فوق يدي على الطاولة.
-مرحباً أستاذ أحمد.
ألقت ((نادرة)) تحيتها الخبيثة، وكأنها تسجل نقطة علينا.
جلسنا قرب النافذة الملمعة، نحتسي القهوة نطيل بقاءها في حلقنا، ونمتصها قطرة قطرة... غرقنا في لهفة التعبير، وتعثر التعبير، عاد يمسك كفي ويعصره.
-تأكلنا العيون...
-دعيها... فلتأكل جوعها...
-قال بعد قليل ونظرته تعبر النافذة الصغيرة المستدير.
 
ما هي سوى أيام نقتنصها من فم السبع.. بها نختصر حياة. الآن بدأ عمرنا هكذا يجب أن تفكري، كفانا تشرداً، وملاحقة وخوفاً، أنت لي، وأنا لك.
هززت رأسي وجلة.
-هل رأيت بقية الرفاق؟
-جميعاً، إلا ليان، لم أره... البقية رافقوني من دمشق حتى اللاذقية في الباص ذاته.
لكزني من كتفي منبهاً.
اقترب منا ثلاثة شبان، بنتان سمراوان، وشاب منمنم، نهض أحمد مسلماً ومعرفاً.
-أهلاً بناديا بطلة الغساني، ونينا. سهيل أصغر وأذكى مترجم في سوريا.
من ينسى سالومي؟
-تشرفنا: ابتسمت بود.
تعارفنا، توافقنا، ولم نفترق طوال الرحلة.
عدت إلى سريري، وجدت مدرسة التاريخ وقد لطخت الوجنتين بالأحمر الفاقع. تعثرت في رحلتي تلك بنماذج إنسانية متنوعة، مختلفة المشارب والأهواء تحتاج إلى صفحات، أحببتها بأخطائها، وعقدها ومحاسنها، بإقبالها وإدبارها، كلنا سواء، نحمل رواسبنا أنى حللنا ولا ننسى شرقيتنا تكومت، غفوت على هدهدة القطار.
في الصباح، غيرت ملابسي، وتوجهت نحو المطعم، وجدت أحمد بين مجموعة من رفاقه. حنا، شوقي، ناديا، محمد، سهيل، نينا، شحادة.
-تتهادى هناء كنار الرحلة، بقامة مهيبة، بيضاء غضة، مفعمة بالأنوثة، تتحرك بدلال، دارت بعينيها الزرقاويين على الحاضرين ثم ارتدت خائبة.
علقت نايا بخفة:
-فشلت جولتها الصباحية، فتاها غائب يعلم الله أين حط ومع من.
-تقصدين الضخم بطل الكمال الجسماني؟ سأل حنا مغتاظاً.
قام عن كرسيه، لحق بها، رص على أسنانه، يطحن غيظه، يود أن يمزقها يشتمها، نبر بصوت متهدج: يحرق.... د.....
شده أحمد من كم قميصه مداعباً: ومن الحب ما قتل، بهدلتنا يا رجل، تماسك، لم تتعب نفسك، ليست لك، عندها رفيق حلو جميل ولست مثله.
يغرس حنا عينيه يائساً في وجوه رفاقه وفي حبات المسبحة المرمية على الطاولة، يكورها بين كفيه، يضغطها... يتنفس ببطء:
والله ذبحتني، يحرق د... تعرف نفسها، وتعرفني تريد أن تقتلني أن تمزقني، ذبحتني... والله ذبحتني أنا متهالك أمام هكذا جسد، اتركوني، وحدي بالله عليكم،
ولكنه هو من ترك الطاولة،... غابت قامته بين المجموع.
انضم سليمان إلينا...
-حرملك، وسلاملك هنا، ومثلها هناك.... مللت هذه الرحلة بالله.
-دعنا من أحاديث البنات والشباب، ما الجديد في الشعر؟
-((برتقالي معلق)) قصيدة جديدة، غداً نصل موسكو، وفي ساحة الكرملين وتحت القبة الزرقاء.. حيث لاتنام موسكو، ولا تعرف الليل، سأسمعكم إياها.
-وعد؟
-وعد.
أشعل سيكارة... طاتلي سرت....وسار الهوينا نحو عربة التدخين. تدعونا أنغام الموسيقى، نركض معاً، نتكاثر في المطعم، فجأة ينزلق من وفدنا جسدان غضان يرقصان، سرت عداوهما إلينا، حاولنا أن نحرك أرجلنا، مسحت صدري بيدي، لأجفف العرق، فالجو حار خانق، والقطار يخب ويكاد يغيب صوته. وصلنا محطة أخرى.
امتلأت عربات القطار بأنواع الورود، دارت رؤوسنا من رائحة الأزاهير، تجمع في المحطة مئات الناس نساء ورجالاً تحت المطر الغزير الصيفي، يرفعون رايات الترحيب، ينشدون أغان روسية حميمة، لا يمكن أن نفهمها، ولا نستطيع أن نستوعب معانيها وأمداءها، غمرتنا المشاعر العميقة فبكينا، تساءلت:
-هل يقبل الإنسان على إنسان غريب بهذه اللهفة، هل تختلط الدماء مع الماء يوماً ليصبح الجميع أخوة، لا حرب، ولا مؤامرات، ولا أسلحة، ولا قنبلة ذرية، مستجيبين لنداء السلم، يا لهؤلاء البشر، أية قوة ديناميكية تحرك عواطفهم، وتدفعهم في الليل والنهار وتحت المطر كي يقفوا الساعات الطوال في المحطة وليهتفوا لنا كفاتحين.
((مير.... دروجبا))) سلام صداقة
ماذا تريد الشعوب أكثر من سلام وخبز وماء وحب وحرية...؟!
سماء زرقاء، طقس ربيعي في صباح موسكو تجمعنا في ساحة كبيرة توسطت الفنادق المعدة لاستقبال الوفود، تفقدنا حقائبنا، ضم فندق الوفد السوري غرفاً لا نهاية لها. صالون كبير أفضى بنا إلى متاهة دهاليز امتدت طولاً وعرضاً التفت من حول طوابق حديثة بيضاء مثل الثلج، توزعنا الغرف بالأسماء.
أنا، وعفاف، ومنيرة باقة منسجمة امتدت جذور معرفتها إلى مقاعد الدراسة الإبتدائية.
ارتميت على سريري اتفقده، اتشمم رائحة النظافة المنعشة على الشراشف البيضاء.
تباعد عن وعيي حديث الصديقتين، ورحت في سابع نوم حتى صباح اليوم التالي، شبعت نوماً وراحة، هرولت فرحة نحو الشلة، كانت بينهما الجثة الهائلة لصديق الكل، وحبيب الكل مئة و عشرون كيلو من الطيبة وروح النكتة وخفة الدم.
قلت ممازحة بلهجة تمثيلية بطيئة متوجهة إليه:
-لتكن دليلنا ونقطة تلاقينا يا محمد.. الحيز الذي تشغله شكل نقطة علام حيثما كنت.... ضعنا ضمن الزحمة في هكذا متاهة.
تنحنح في مقعده وخلص جسده منه بصعوبة:
-من أجل عينيك، ونكاية بهذا الذئب أحمد أنا حاضر.
مد لي يده السمينة كنبيل فرنسي ومددت يدي. علق أحمد ضاحكاً:
-أين أين يا جماعة نحن هنا؟ نحن هنا....
ضمن التنظيمات الهائلة للمهرجان خصصت لكل مجموعة عرقية وجغرافية مطاعم تناسبها.
وجدنا أنفسنا ضمن مطعم سوري بكل أطايبه ورائحته، ومطبخه، تجولنا في المطاعم الأخرى، هذا فرنسي، وذاك إنكليزي، وذاك صيني، لكل وفد ذوقه وطعامه. بين الجموع المتلاطمة صدمت بالأستاذ ((رفيق)) صاحب سوسن التي قتلت على عتبة المدرسة يتأبط ذراع طباخة روسية قمئية قصيرة، تذكرت الرسائل الزهرية، ولعله تذكرها، احمر وجهه خجلاً.
وقفت مشدوهة أمام حرارة لقائه.
-أهلاً سلمى، يا للمفاجأة الرائعة؟
انغمسنا بلقاءات ثقافية وفنية معدة مسبقاً، لقاء تاريخي مع ((بولغانين)) بحضور سفيرنا الدكتور جمال، والأستاذ خالد والتلفزيون، وجهاً لوجه مع الزعيم السياسي الذي أوقف الاعتداء على مصر إثر تأميم قناة السويس عام ست وخمسين وتسعمئة وألف.
رمى نكات غير متوقعة، وضحك ببساطة آسرة نابعة من بساطة الإنسان الطيب لشعب طيب.
كرّم الشعبُ الطيب شعبنا الطيب. رأيت على المسارح الكثيرة المتناثرة بين الأحياء، وجهاً سورياً، وفي اللقاء الثقافي وجهاً سورياً، وفي المعارض الفنية وجهاً سورياً، خمسة عشر يوماً من الأعياد المتواصلة المتكاملة التي لم يبهت لونها، وأخيراً أقيم حفل الختام في الكرملين، قصر القياصرة، والأباطرة، والثوريين، آلاف من سحنٍ مختلفة رقصت على أغنية المهرجان ((مساء موسكو))، موسكو فيتشر.
هيمن الانبهار علينا، تساءلنا بخشوع هل داست هذه الحدائق أقدام ايفان الرهيب، هل، هل،.....؟
بطلب من إذاعي سوري يعمل هناك سجلت بصوتي قصة ((الورقة الصفراء)) اشتريت إسطوانات كلاسيكية لعباقرة الموسيقى.
لا يقوى وصفي أو قلمي على الإلمام بالغنى النفسي الكبير الذي اختزنته ذاكرتي من تلك الرحلة، حملت تجربة لا يعدلها ما قرأت من كتب، وحكايا إلى آخر العمر، التواصل الإنساني، التواشج، الصدق، في عالم مغاير لعالمنا، بعيد عن عاداتنا، وتقاليدنا، قريب من طيبتنا واستمرارنا وصراعنا وحبنا للحياة... فجأة انساحت القارات بحب في هذا المهرجان، وافعمت روحي هوى بالحرية وباستقلال الإرادة.
رجعت إلى بلادي، إلى جوي، كنت سعيدة، ممتلئة حتى آخر قطرة ممكنة.. لا شيء، لا شيء، وما من أحد يمكن أن يعيدني إلى القمقم بعد الذي عشت ورأيت.
بدأت أتعرف على مهنة الكتابة كحرفة موازية لدارستي في كلية الأدب، فلم أعد مجرد هاوية تغتبط برسم اسمها على صفحات الجرائد، ربصت الكتابة بثقلها فوق كاهلي،
أصبحت مسؤولة عما أكتب، أحاسب، وأنقد، وأقدم توضيحاً لأفكاري.
أيقنت بعد محاولات جدية، أن الأدب ليس كتاباً يقرأ، ولا قصيدة ممتعة، ولا حديث عابر.
أريد، أحب، أرغب بزاوية لي في صحيفة، غير أن الصحف في بلدي تلتهم العمل الفني التهاماً دون أجر، وعلى المرء أن يتبرع مجاناً بأفكاره، قد تعقبها كلمة الشكر، أولا شكر.
تحاورت مع أحمد حول عمل في صحيفة الفيحاء، لم ألق جواباً شافياً، قلب شفتيه وهز برأسه:
-كم بطيخة ستحملين بيد واحدة؟
ركبت رأسي معاندة، قدمت طلبي إلى رئيس التحرير فائز. تملاني متيقناً من جدية القول ورغبة الدخول إلى عالم الرجال، خجلت من الخوض في موضوع الراتب كالعادة، تركت الأمور سائبة، فأنا لا أشكو تقصيراً، وماتزال الدنيا فسيحة مفتوحة أمامي. نبر الأستاذ مقاطعاً أفكاري:
-طيب، تبقين فترة تحت التجربة، أقترح عليك موضوعين اختاري أحدهما:
تحقيق عن الطوالع السبع في دمشق. أو يوم في حياة أسرة دمشقية من حي شعبي.
-ويلي، أين هي الطوالع السبع؟ في دمشق، أم حماة؟
اكتشفت أني لا أعرف شيئاً عن دمشقي ولا أحيائها، فقط مجرد أسماء أقرأ عناوينها في طريقي إلى المدرسة، وحتى الأحياء الكبرى كالقيمرية، أو القصاع، أو باب توما، أو الميدان، ما كنت أدري عنها إلا القليل.
هالني الأمر وأنا المحاصرة بمئة سؤال وجواب في البيت. وقفت حائرة:
-من أين أبدأ، من الحارات المتفرعة عن خط الميدان أم الشاغور أم السويقة، وباب الجابية. أم شيخ محي الدين وحي الأكراد. كلها أماكن خلقت في ذاكراتي صوراً صوفية عن المروءة والكفاح لا تلطخها عتمة الفقر والجهل.
ترددت في خطواتي.

-كيف سأدق الباب على عائلة غريبة لم أزرها في حياتي، وأقول لها:
احكي لي عن همومك؟!
حملتني الخواطر إلى آفاق متشعبة صعبة التحقيق في جو مغلق على أسراره. يؤمن أناسه بالفقر الأبيض ويرفض الخوض في الفقر الأسود. يموتون ويعيشون بلا حكايا معلنة ترن في جنباتها الضحكة. رغم كل شيء اتخذت قراراً صعباً بالولوج في حياة أسرة دمشقية من حي شعبي.
إلى ذلك الحي الذي لا يصله ترام، ولا سيارة توقفت أمام عتبة منزل حجري سوداء خلع الأولاد أحذيتهم المهترئة خارجها. طرقت الباب متوجسة. أطل صبي في الحادية عشرة يهرش عرنوس ذرة نيئة. تفرس في وجهي مستغرباً. ثم وارب الباب، ثم عاد وفتحه.
-أمك في البيت يا شاطر؟
ندت كلمة ترحيب ممطوطة متكاسلة من الداخل.
-تفضلي. تفضلي ناولني الغطاء يا علي.
تربعت على الأرض إلى جانب المرأة التي اندلق ثديها على صدرها. ردت الرضيع عنه. ظلت قبة الثوب مفتوحةً، تحلق ثلاثة صبية حولي حفاة فوق أرض عدسة اسمنتية تمددت فوقها طراريح رقيقة. على بعضها في الزاوية غفا طفلان برز وجهاهما من غطاء أسود كالح. قرفصت البنات، أسندن ظهورهن إلى الجدار الكلسي المشقق. ارتسمت في عيونهن دهشة. تفقدت الغرفة التي فصلها شرشف حموي مخطط إلى غرفتين.
-لابد أنها غرفة الأبوين. وإلا كيف بظّت كل الأفراخ.
صرخت المرأة:
-مية السلامات. خديجة فنجان شاي للآنسة.
اعتذرت منها بكلمات خرجت من فمي متعثرة جوفاء باردة فضحت كذبي. خجلة من ذاتي كنت وأنا أرفض زهورات أشربها على مرارة هؤلاء؟!
فيما كانت المرأة تتحدث، أنا أسأل وهي تجيب، تارة تنهر الأولاد وتارة تتعثر بهم، أحسست أني في سبيلي إلى الإغماء. أهذه دمشق التي أعرف، على مبعدة قليلة من بيتي وحتى من مركز العاصمة في ساحة المرجة. هربت من رائحة الرطوبة العفنة إلى شمس انبدرت في الحارة... بكيت. رثيت هؤلاء ورثيت نفسي؟ فشلت في تجربتي الصحفية وخنقتها في المهد.
-ما أصغر همومنا!





 
حكيت لرفيقاتي، ولتلميذاتي، ولأحمد عما رأيت. أطرق برأسه إلى الأرض ثم نظر طويلاً في عيني نظرة أسيانة.
-هذه عينة بسيطة. تذكريها إن أردت الأدب مهنة.
حملت من مادة الثقافة العامة فقه اللغة للدورة الثانية. أيقنت أنها ليست لعبة أبداً، ولا مجرد فاعل، ومفعول وإن وأن وإذا وصرف ونحو.
مرت الأشهر تباعاً وتخلصت من دبق الثقافة العامة التي أبعدتني عن الكتابة. سجلت فرعاً قريباً من اللغة العربية. فرع آخر أحب: ((علم النفس)). كان من حقنا أن نجمع الفرعين معاً آنذاك.
عبر أسلاك الهاتف نقل الأستاذ ليان البشرى:
-مبروك آنسة سلمى. الجائزة الأولى في مسابقة القصة لشباب العالم.
دبلوم شرف مكتوب بماء الذهب. وعليه اسمي، وعليه عنوان القصة.. وفي الأعلى: المهرجان ((العالمي الأول للشبيبة)).
من فوري ذهب تفكيري إلى أحمد. فرحة طاغية، بدأت ألهث، يجب أن يشاطرني أحمد فرحتي. لا تكون فرحة إن لم اقتسمها معه....
درت على نفسي، أختنق بلذة الانتصار، أراقص الحلم الجميل الذي عشش في ذهني وقلبي أياماً وليال، ونقلني إلى ذرى صعبة المنال.
تلاقينا أطلت شمس ذهبية من عينيه. كان سعيداً وحزيناً.
ماذا هناك؟
-قبلك بلغني خبر فوزك بالمسابقة، لكن...
-لكن ماذا؟
-انظري...
ونشر أمامي جريدة يومية كتبت الخبر أسفل إحدى صفحاتها الداخلية وربما في باب الوفيات. الورقة الصفراء. قصة سورية تفوز في مسابقات مهرجان الشباب العالمي وكأن الفائزة ليست سورية بل من واق الواق.
شرنقني وكبلني نجاحي. حد من حريتي. أثناءها نشطت الأحزاب السياسية، رفدتها دماء جديدة نظفت شرايينها.
دعت جريدة ((الجمهور)) الطلاب بالتفافٍ ذكي وسبق صحفي منها إلى اجتماع مصغّر خاص بالمستقلين الحياديين. كي يعبروا عن رأيهم كاملاً، إزاء قضية مصيرية ملحة ستطرح قريباً على بساط البحث مع الشعب. وهي ((الوحدة مع مصر)).
تفتحت الدعوة من قلبٍ مزقته الانقلابات. فتفجر حماساً، فما كانت الأحلام الطويلة لتذهب هباءً. من لا يهلل لأرض تكبر....ولوطن يتمدد، وبقاع تنتشر خصباً وحضارة ومنَعَة. من لا يهوى ولا ينادي بوحدة متماسكة مدروسة تضم شعبين شقيقين مصيرهما واحد. ونبضهما واحد، وعدوهما واحد.
نقل أبي بعض أحاديث الرجال في المقهى:
-كرست الحركة الناصرية. مصر عربية في الدستور المؤقت.
-خطوة جريئة وخطيرة، هناك شائعة بأن زعيم مصر سيشتري الأسلحة من الشرق.
-تأميم القناة وحدَّ العالم العربي: رد رجل.
-أيجب أن تعم رؤوسنا المصائب حتى نتجمع على بعضنا؟ علق أبي متسائلاً متشائماً.
-ولكن نداء استوكهولم للسلام بلبل أفكارنا. فكيف نحارب إسرائيل وهي حربنا المصيرية ونشجب الاعتداء علينا والقتل الجماعي بالقنبلة الذرية وننادي بالسلام؟
غمغم عادل وهو يضب أغراضه في كيس قماشي علقه فوق السرير.
-التفسير صعب حالياً... ولكن الأحداث تبشر بالغيث.
تنامت التحديات خلقت صراعات وصدامات بعد شهر العسل إبان الانتخابات بين نشأت ويعقوب. المناضلين الشهيرين الخصمين لكن العدوين اللدودين للأحلاف ولمشروع الهلال الخصيب.
كان الاثنان من حملة لواء تنظيم الطلاب الجامعي كل في حزبه...
إبّان الانتخابات عملا معاً ضد أهل اليمين ودعاة الأحلاف. وبعدها عادا إلى مواقعهما وقناعاتهما.
تأججت مظاهرات ضخمة أعقبها اعتقالات في مختلف المدن السورية تدعو إلى الإحاطة بصاحب الانقلاب الثالث.
عقد المجلس النيابي جلسة أخيرة كثر فيها الجدل. وفي الكواليس وزعت الكراسي على حكومة مؤقتة.
يدعو صوت إلى الوحدة الكاملة مع مصر. عبر يعقوب عن رأيه بصراحة أمام مجموع الطلاب المحتشدة في حديقة الجامعة:
-الوحدة كنز ومطلب مصيري. الإطار أولاً، ومن ثم التفاصيل، لحقه الكثيرون على شرفه النادي المطلة على بقايا فرع بردى المنسربة بعد الربوة حتى المرجة. كنا جماعة الندوة الأدبية نشرب القهوة، نناقش جوهر الوحدة ونتائجها سلباً وإيجاباً.
في تلك الفترة المشتعلة./ شغل أحمد عن لقاءاتنا ضيوف أعزاء جاؤوا من مصر محمود أمين، إدريس، بهجت.
التقيت بأحمد في الشارع بادرني معجلاً:
-تفهمين وضع البلد جيداً. أعتذر منك، لابد أنك تقدرين ظروفي. هؤلاء ضيوفي وفي بيتي... بهجت يعمل في مجلة أدبية مهمة سيلتقيك مع عدد من أعضاء الندوة الأدبية. ربما غداً، أو بعد غد..
سيتلفن إلى المدرسة أعطيته رقمك. لا تتهربي من أسئلته. كوني مرتاحة وصريحة.
غادرني مسرعاً.
تدفق الكلام من فم بهجت كحبات السبحة، نبعاً لا ينضب... يقفز مع أفكاره المتلونة السريعة بأمثلة تطال المستقبل. وبالتكامل الاقتصادي والثقافي بين البلدين. يحكي ويبتسم. طلب فنجان قهوة آخر.
صب حديثه علي أنا وعلى مسابقة القصة لشباب العالم.
شاركتنا نورس الجلسة ظلت مستمعة جيدة ومستوعبة، تحكي بمقدار، وتتنقل بعينيها الصغيرتين بين وجهينا، وتتمتم: -أكيد، نعم.
كتب بهجت على ورقة اسمه الكامل وعمره وتاريخ ولادته. واسم أمه، وخاله وعمه، وثقافة كل منهم. قرأها علي.
ضحكت ملء قلبي ما هذه الأحجية التي لاعلاقة لها بموضوعنا؟
-هذه ترجمة حياتي.
كنت فعلاً خالية الذهن بعيدة عن تشعبات ذهنه. غادرنا وهو يؤكد عودة سريعة إلى الشام
-ما رأيك فيه؟
-أرى فيه صورة الرجل النشط المتوثب.
-أما أنا، فأراه الرجل الخبيث الباطني.
-سلمى التي أعرفها، لاتقبل تحدياً ولا تراجعاً.
مشينا الهوينا، عضّنا الفكر بنابه. لم تحاول أية واحدة أن تخرق الصمت.
وأخيراً تنهدت صديقتي:
-انقضت العطلة سريعاً وهاأنذي أسافر إلى السويداء حيث المدرسة والبنات وطعام وشراب ونوم مدة أسبوع قد أعود قبل رأس السنة. كي أكسر رتابة حياتي بين أهلي وفي دمشقي. إلى اللقاء.
-طريقي غير طريقك، اسمعي لا تنسي اللبن والزبدة والجبن من السويداء. ضحكتْ، ضحكتُ.
كرَّ ومر الأسبوع سريعاً. وفي ليلة رأس السنة هتفت إلى أحمد من صيدلية دخلتها، كنت بحاجة إلى أن أسمع صوته.
-أحمد، مشغول أنت؟
-عندي ضيوف نحضر لأفراح رأس السنة الجديدة، نتقاسم المهمات، وبعد قليل سيأتي حنا وشوقي، وسعيد والشلة... الدنيا قائمة وقاعدة في بيتي.
-وأنا؟
-طبعاً لا. أبداً. جننت؟ أصلاً أنت لا تستطيعين الخروج في الليل.
-متى نحتفل كالناس وأمام الناس بلا خوف، ولا وجل؟
-قريباً. ليس الآن. تذكريني الليلة.. نلتقي في السنة الجديدة.
 
لم أنم. لا أدري بماذا انشغل ذهني... كوابيس تتناوب على ألامي كلما غفوت لحظات.
عندما شق الفجر أول خيوطه. وامتدت عبر نافذتي. وبدأت أغمض عيني، واستسلم لهدهدة الحمام في الديار، شممت رائحة حريق نهضت كالملسوعة. أين الحريق؟..
وحدي في البيت من رأى الدخان واختنق بالنيران.
لم نسبر حقيقة المقدمات التي سبقت إعلان الوحدة، ولم أسأل أخي عادل حول آلية محركي مواضيع الساعة التاريخية المصيرية، ولم أقل له أني معنية بوطني الكبير. كما هو معني بالتخطيط لوطنه. ونلعب على رقعة الشطرنج ذاتها. قد يكون بأسلوب مختلف وتكتيك مختلف ولكن وصولاً إلى الأهداف ذاتها التي أدت إلى توحيد الحزب الاشتراكي والبعث. بقيت أحاور وأناقش المعطيات وحدي ومع رفاقي ربما لأني غير منظمة حزبياً، وبعيدة عن طموحات بطوليّةٍ لست من قياسها.
تابعت نوعيات الوفود، والاجتماعات المتوالية بتأنٍ.
بعد أشهر من غرق الجامعة بالخطب واللقاءات والبيانات وتحويل صالة الرياضة إلى قاعة خطابية سياسية يتناوب عليها الحزبان البعثي والشيوعي، عاد الصحفي بهجت ممثل مجلة صباح الخير وفي جعبته أسئلة وفي أهابه دور استطلاعي يلعبه.
تبادر إلي أنه اجتمع بناديا، ونصر وعادل ومحي الدين. وصل الدور إلي. موعدي معه على شرفة النادي. حول طاولة مخلعة دبقة. جلسنا أنا ونورس ننتظر. أطل. لاحظت أنه في الثلاثين، أسمر غامق، في مشيته تؤدة وفي تقاطيعه الفرعونية تصميم وذكاء. فوق كتفيه مؤشر على انكبابه على الورق.
بدا كلامه كأي مصري خفيف الظل نكتي، ساخر ينتزع الضحك والأسى معاً. موهبة حقيقية ودهاء صحفي كبيران، رمى على الطاولة مجلة صباح الخير التي حققت انتشاراً، وبريقاً كشافاً برسومها الكاريكاتوريه بالغة العمق والمعنى.
ماذا يحكي المرء عندما يلتقي غريباً يؤم بلده؟ تعرجت الأسئلة فتلوت الأجوبة حتى دخلت مضامين الحياة الدمشقية، ومتاهات الأحزاب السياسية وحول الوحدة لتخرج منهكة إلى الفضاء الرحب بعيداً عن تفاصيل النتائج. ترتمي، تفتح ذراعيها معانقة رغبة شعبين أصيلين طالما وحدتهما الملمات. رمى بهجت قشرة موز في طريقي، فما تزحلقت. طرحت أفكاري حرة فجة ساخنة دون تنميق. فأعجبته لا بل تبناها... يجب أن يسبق إعلان الوحدة تمهيد مرحلي قد يدوم سنوات إذا أردناها قابلة للعيش والديمومة.
أهي الحاسة السادسة؟ أهي إشراقة في الوجد؟ أهي لغة التخاطر النفسي التي يتحدث عنها الناس؟
أحسستني محمولة على أجنحة بومة سوداء تطير بي وتطير الكون. كله ظلام. استلقيت متعبة طردت الخواطر السوداء لفني محلها توهج الشوق وهسيس موسيقى ناعمة تبعد عن ذهني توقعات الشر.
غفوت على سرير هندي مليء بالمسامير.
انتصف النهار، انتظرت كلمة حلوة أنهي سنة بها وأبدأ سنة مزهوة موارة. ولكن عبثاً انتظرت.
يلاحقني غول مجهول. يضربني الخوف بسياطه. أصوات ثاقبة منغمة ممطوطة تنادي بعناوين الصحف:
-اعتقالات جماعية في ليلة رأس السنة.
أحمد، أتراك تتشبث بأمل التغيير لترسخ حلماً محققاً.؟ أتراك تتغلب على التنين الأسود في الرؤوس الموصدة بالحديد والمغلقة على الأنا؟
اندفعت نحو الطريق الإسفلتي، إلى الجامعة. الدرب طويل ومتعرج ومقفر. الحرم الجامعي مغلق بقضبان سوداء، عيون سوداء، رشت يد ساحرة شريرة الموت على المدينة فغفت بلا حراك. أضحت أحجاراً من أسمنت وتراب.
أحمد، لست النعجة التي تمد رأسها للجزار، وتستسلم للذبح. قاوم فلن تجرفك العاصفة.
قرب الباب الحديدي.. دفعها رجل خشن من كوعها إلى سيارة عسكرية مصفحة تجمدت الدمعة أسى في عينيها. أضرمت ضراوة في قلبها أبعدت التردد والتخاذل واللا إنتماء عن خطواتها لتتوحد مع خطوات الآخرين في درب معشب بالأشواك. قدرها لا يلهو أبداً معها ولن يترك لها الخيار.
ينبثق عامود من ضياء أمام عينيها. لن تضيق الأفكار عليها وإن لوى كتفيها حمل ثقيل بعيد من التخييل، فلتدخل التجربة مع الأنبياء. تجربة لن ينساها، ولن تنساها. حالة الدخول في الذات الأخرى،.... دورات الآخرين. فإن بدت تحركات الكائنات البشرية المأمولة كتحرك السلحفاة في الوقت الراهن، فإنها حتماً لتتسارع نحو الهدف على نحو مذهل. استكانت إلى الحلم. وأغمضت عينيها.



(وبس)
 
الوسوم
بنات حارتنا رواية
عودة
أعلى