رواية بنات حارتنا

خالدالطيب

شخصية هامة
رواية بنات حارتنا


تمهيد:
لكل إنسان حكاية يغزل خيوطها مع رفاق درب تابعوا أم لم يتابعوا مسيرة الحياة معه. وحكايتي أنا حكاية أناس من دمشقي الحبيبة، ظل نبضهم حياً في خاطري. رغم غيابهم تركوا بصماتهم على خط الحياة تأرجحوا مع الأيام، لكنهم لم يتقهقروا أو يطأطئوا.
أناس حارتي، بنات حارتي، شباب حارتي، حملوا قيماً ورواسب، ومفاهيم أصلتها بأصالتها الحياة، وغيرتها بتغيراتها الحياة. فإن وجدت نفسي بينهم ووجدت نفسك معهم فلأننا نعيش أفراحهم وأتراحهم، ويعيشون أفراحنا وأتراحنا، فما زالت الدنيا خيرة وبخير ومن لا يقع لا يقف ولا يصل، هكذا مات بعضهم واقفين.
قالوا:
-حملت سلمى من اسمها بعضاً من تكوينها النفسي والخلقي بنظرة متشوقة نحو المتغيرات التي تحيط بها. توقفت في محطات متلونة تركت في مخيلتها الفتية آثاراً عميقة، ونمنمات مثيرة، وذكريات ثرة، كمرتها في فؤادها.
إذا أطل الماضي بأبعاده الحانية أو الداكنة، تبسمت رضى لحياة عاشتها بين أب وأم عاشقين، حاولا أن يرضيا غرورها بعيش هنيء موار.
قالت نساء الحارة:
-ليست سلمى جميلة كما الجمال بتقاطيع مثالية متناسقة، وأنف دقيق شامخ، وفم مغرٍ وعينين حوراوين.
وقال شاعر:
-كانت سلمى أقوى من الجمال.. حضور حلو، أنفة، وشخصية متميزة. ملكة نفسها وقال آخر:
-إذا أرادت سلمى، صممت، توهجت كشرارة، لم تنزلق في وحل، ولم تقف على قدم واحدة. تفتحت في أرض صلبة مليئة بعروق الذهب.
قالت الأم:
-لسلمى نظرة شفافة تخترق القلب. تقرأ خطوط الزمن في وجوه أناس الحارة. سلمى مزيج من تواشج الضباب والشمس والمطر. خلقت في يوم شتائي عاصف يتلاعب على شاشة الحياة.
كبرت سلمى وسجلت سلمى على دفتر صغير ملامح شخصيات آسرة عن الحارة، بسيطة غنية، ظلت متألقة في ذاكرتها.
*******************​
 
"جعلتني دمشقيتي قريبة من الهواء النقي الذي يتسلل من جبل قاسيون عبر النوافذ المشرعة نحو الشمس. بيتنا واسع فسيح ينبض بالحب. يرى السماء الزرقاء بتغيراتها الأربع. في الشتاء تمتلئ الدار ثلجاً وخيراً".
أنام في غرفة نافذتها عالية مشرقة مطلة على حارة مغلقة بمستطيل انكسر أحد أضلاعه يلتصق جداري بجدار أبوي، اسمع دردشتهما وجدالهما وحوارهما.
صوت أمي:
-إن شاء الله ما في إضراب غداً.
يرد أبي:
-نصف السنة إضرابات.
أخي الكبير هشام الذي يُذبح خروف العيد بين رجليه يجر جسده جراً إلى المدرسة "الفرير"Frere وهو يلعن تقاليدها الصارمة، ونظامها القاسي، والساعة التي دخلها.
كما علق الأوسط كرة القدم. أضحت هوايته كارثة حقيقية لعائلة امتهنت القضاء أباً عن جد.
ما كنت لاهية عما يقلق بال والدي، فأبي أمين جمرك دمشق تحدر من صلب علماء تركوا بصماتهم واجتهادهم على الفقه والعدل.
بين اليقظة والحلم يموت الحوار يقترب من الهمس الدافئ.
يحلو لأمي. عروس بيروت، سليلة عائلة عريقة فيها، أن تلتم على أولادها، وأن تقاطع كل متحدث كي تحكي عن أخيها المغترب الذي هاجر إلى إفريقيا في عام ألف وتسعمئة وخمسة وعشرين.
-وهناك- تعيد السيرة ذاتها- أصبح اسمه محمد الفاتح تاجر للحرير والعاج من أكبر التجار. في يوم صحو آخر من أيام نيسان لحقه أخي الأصغر. كان شمساً حقيقية توهجت في البيت. وعندما حمله بحر بيروت، أحست أمي بتسرب الدم الغالي من أوردتها، فأنّتْ، ومكثت تئن طوال حياتها وحتى مماتها.
دفعتني يوماً، وأنا في مطالع قدرتي على القراءة والكتابة أن أخط أول رسالة إليه، فما كانت تفك سوى أحرفٍ من أسماء أولادها التي أغلقت دنياها عليهم.
قرأت لها بعض الأسطر القليلة. كتبتها بحروف كبيرة مائلة عن السطر ملأت الصفحة. فبكت.
أمدني بكاؤها برصيد معنوي عاطفي جسّم كبريائي. ربحت جولة أولى، ولما أتجاوز الثاني ابتدائي. تغلبت على مفردات صعبة سعّرت أوار عطشي إلى عالم زاخر بالحكايا. رحت أنبش عنها في الكتب الصفراء والبيضاء والمجلات وبين مزق الزيبق ودليلة. نسيت حالي، ونسيني الجميع.
كنت أطير فرحاً بقراءاتي. أعاقب دليلة وأغضب من الزيبق. وأعجب بنجيب محفوظ.
ضم بيتنا الكبير أربعة صبيان وثلاث بنات. توأمان جاءتا الدنيا قبل مجيئي أنا إليها، ما لبثا أن أغلقتا الباب على أسرارهما، ولم نلتقط منهما سوى الابتسامة مرسومة على الشفاه الراضخة لقانون العائلة الصريح: لا فضائح.
يرفض عقلي الصغير انطواءهما تحت هيمنة العرف السائد وقيده الذهبي.. "لمها" الثانية قد فارع، وقامة هيفاء، بهيجة، صغيرة كبيرة، سرعان ما صارت أماً لأربع بنات ولما تتخط التاسعة عشرة.
كانت نهمة للحياة تهبج الأفراح من وجه النسمة. تزورنا كل شهر إذا سمح أبو البنات. تقول العائلة متبرمة:
-ضحك القدر في وجه التوأم هدى عندما تزوجت نبيلاً ينتمي إلى أسرة باشوات عريقة تسلسلت عبر مراتب سلك الجيش. وبعد أشهر حملها زوجها إلى مدينة اسكندرون، لتعيش مع أهله في بيئة أرستقراطية تجيد اللغات الأجنبية وأصول الاتيكيت.
زياراتها إلى الشام محدودة مقننة وموزعة على المواسم والأعياد.
كانت هدى جميلة شقراء، مرهفة تحب الموسيقى ماهرة في حياكة الصوف والتطريز.
تردد أمي:
-أناملها شمع، ويداها ذهب.
ذات مساء خريفي. امتلأ البيت بصديقات أمي، وجاءت "مها" تجر خلفها بناتها الأربع. انزوى أبي بعيداً في غرفة الجلوس يقرأ (طه حسين) معجباً.
رن جرس الباب رنات متسارعة نزقة تحركت "مها" نحوه. أوقفتها والدتي بزجرة من عينيها ثم دفعتها إلى الغرفة حيث الوالد. مشت هي تستطلع أمر القارع المتعجل.
طال الحديث خلف الباب.. علا صراخ مبهم. عادت أمي إلينا صفراء مضطربة. همست في أذن أختي:
-هو.. وأضافت نكدة. صبري أفندي بسلامته.
فهمنا يومئذٍ لم جاءتنا. كانت حردانة.
لا تفصح أمي عادة عن مرادها بوضوح. ترمز وعلى الآخرين أن يفهموا ويستجيبوا.
هو يعني: "صهري" الذي أتى محارباً يبغي استرداد امرأته وبناته.
علقت أمي بحياء:
-قال يحبها.. والله لا يوفر كلبة في الشارع، ولا يتورع عن قطة.
وقفت "مها" قرب الباب حائرة. انهمرت دموعها على خديها. أطرق والدي محزوناً، كور حبات السبحة الصدفية في كفه وتعوذ من الشيطان الرجيم.
-يا بنتي. البيت بيتك. والبنات بناتك، شرفك. أعرف أنه قذر، ولكن ما العمل؟ اذهبي معه الآن وسنرى.
صدرت عن أخي هشام حركة غضب، ألقى كتاب الفرنسي جانباً، همّ، ولكنه أحجم.
لمحت دموع "مها" وأنا ألملم زهرات الياسمين البيضاء عن الطاولة.
لحقت بالمرأة المقهورة قبل أن تغادرنا إلى بيتها الذي لم تحبه أبداً.
شددتها من ثوبها المخملي الخمري أستبقيها. تلكأت لحظة، ثم مسحت على شعري المضفور كإكليل فوق رأسي وقبلتني. قبل أن تغلق الباب خلفها بصمت غرست نظرة مبهمة في عيني، ثم حملت ابنتها الرضيع وغادرت مع بناتها.
لم يودعها أحد، لم يسمح والدي بذلك، كلمته مطلقة.
لملمت أمي فناجين القهوة المبعثرة على الطاولات، تشاغلت بتنظيم البيت نبرت دون تمهيد وبصوت مبحوح:



يتبع
************
 
والله ما أحببته يوماً. نصيب. آخر حركاته، كلب ذئبي مرعب.. ينبح في أذن المصلين، وأين وضعه؟ على السطح المطل على الجامع يا خجلنا من الناس..
كلب ابن كلب أنهت رأيها، ثم أطبقت شفتيها.
انطوى شهر تشرين الأول. وتبعه الثاني. هفهف برد كانون، عكر سكينتنا خبر مفاجئ سافرت أختي إلى أرض بكر مجهولة في شمال سوريا. ضب "صبري أفندي" الأثاث الأنيق الفاخر وباعه بالجملة كي يسدد ديونه بعد أن خسر نصف أمواله على موائد القمار في نادي الصفا.
في صدر أمي بئر عميقة لأسرار الجيران الأوادم.
يفصلنا عنهم من كتبية المطبخ جدار رقيق من خشب الجوز رصفت على رفوفه الطناجر النحاسية المتلألئة.
في تمام الثامنة، يخرج الرجال إلى أعمالهم.
تدق جارتنا الطويلة النحيلة كقصبة صيد السمك دقات منغمة على الجدار:
-صباح الخير أم هشام.. راح جارنا الله معه.
تتكتك المرأتان بقلب مفتوح، تكشفان همومهما المبثوثة في خبايا الأضلع عبر الفاصل الهزيل الذي يمنع سقوط العين عندما تتعرى الأفئدة.
مشكلة جارتنا أنها تلد بناتاً، ويسكنها هلع من شبح الطلاق. تتوهم بأن جذورها باتت على البلاط، ولن يشفع لها حسن سلوكها ولا سمعة أبيها كأستاذ محترم في الرياضيات.
ينغل بيتنا بالأولاد، أمي ولود، والعائلة ولود تحمل أوسمة الخصب المبكر. البنت عربية، مساعدة أمي، حولاء جاءتنا من تل منين، تنظف، ترفو الجوارب، تكوي وأحياناً تساعد الغسالة أم حسن التي تأتينا مرة كل أسبوع من جبل الأربعين حاملة سطلاً فارغاً. كانت أمي في آخر النهار تملأ السطل مما طبخت، وتحمله أم حسن إلى أولادها اليتامى.
تردد باكية:
-شاب والله، يا أم هشام، مثل الوردة، أحسن طيان في المهاجرين ما مثله شغّيل. سقط عن السقالة صباح العيد وماردّ النفس. نصيب. تسأل أمي جزعة:
-وما له تعويض، معاش؟
-ما له!
كان بيتنا عامراً دوماً بأشهى الطعام، يأتينا سمك طازج من طبريا توزع أمي منه على الجيران الملاكة، وهم بدورهم يصبون علينا خيرات أراضيهم في الغوطة. تبدو والدتي مزهوة بكرمها، راضية عن عيشتها.
لم تخفف السهرات القليلة المختلطة من إدمان أبي على مقهى المهاجرين في آخر خط الترام. يسعى ماشياً مشية عسكرية يعب الهواء عبات مسموعة بزفير وشهيق منتظمين، وعندما يصل البيت يأخذ مكانه على الكرسي القش ذي المسندين. يرمي سبحته على الطاولة المعدنية المدورة، ويطلب شاياً، ثم يتأمل دمشق من إطلالته المشرفة منتشياً داعياً:
-الله يحفظك يا شام، ويخلصك من الأجنبي.
كنت معجبة بأبي.. وما دام في البيت كنت لا أكاد أفارقه. أنتظره عصراً قرب الباب أقبل يده، وأظل ممسكة بها. وحتى على سجادة الصلاة كنت أبربر معه بكلمات لا أفهم معناها تعلمتها لا من تلاوات أبي بل من دروس الراهبة الإيطالية في المدرسة. يضحك، ومن خلف ظهري يتضاحك إخوتي، وتقف أمي باسمة..
تشبه الحارة في المهاجرين نادياً نسائياً. تنزين النساء جمعة الاستقبال أجمل زينة وتبدأن منافسة شيقة بينهن ومباهاة في الملبس والمأكل والضيافة والتسريحة.. يدور حديث حول الموضة، والسفور، ورائدات السفور اللواتي تجرأن وتحدّين فنزعن المنديل الأسود عن رؤوسهن. تعود الواحدة منهن مفعمة بالقصص والأشعار وغرائب الحكايا لتسلي العائلة.
يقايضني أخي سامي على قطع الحلوى فيحل لي مسألة الحساب. جاءني يوماً مستضعفاً:
-سلمى حبّابة أنت.. أريد معروفاً، أنا بحاجة إلى كتاب التاريخ الطبيعي.
أرامقه مستفهمة.
-هلا استعرته لي من صديقتك "زينة". تكبرني زينة، رفيقتي في المدرسة، بأعوام ثلاثة. هي جميلة بيضاء نظيفة الرائحة.
قلت: لمَ لا.. تحب أمها أمي وتسّر لها كوامن أشجانها وحتى دقائق حياتها الزوجية، ورغبتها المكبوتة بين أربع حيطان ضم ابنة حماها العانس فيما زوجها يقضي معظم وقته في الضيعة. مع من؟ لا تدري.
ألم تسألها مرة أن تقسم على المصحف الشريف بأن تحفظ سرّها إذ تتمنى الموت لتلك العانس الشمطاء؟ أو تجد وسيلة.
ارتديت ثوباً سماوياً مطرزاً بخيوط حريرية حول القبة المدورة، فصلته لي خياطة الحارة الماهرة " مسرة خانم".
تقول أم زينة عنها:
-من تضاهيها؟ ولا واحدة. فنانة، ترسم، وتفصل، وتجدل الخيوط ببعضها، وتصنع زنانير رائعة.
أجلستني زينة على الأريكة الطويلة المستورة بقماش مورد مكشكش. تأملت أظافرها المقصوصة، ثم ابتسمت بلطف، غابت لحظة وعادت بالكتاب. وضعته أمامي:
-تفضلي.
قلبته. صور حيوانات مألوفة وغير مألوفة من قارات بعيدة. حملتني عوالمه وألوانه إلى بلاد شاسعة إلى ما وراء حدود دمشق وبيروت التي لا أعرف غيرها.
عدت فرحة بما أحمل. سلمت سامي الكتاب، لمحت بريقاً لامعاً في عينيه، وسعادة آسرة غمرت وجهه البرئ المزغب وهويتفتح للحياة.
غيرت مجبرة مدرستي الأجنبية بتحريض من أعمامي خوفاً منهم على عقيدتهم من الإنشراخ. وما أسلموا أعماقهم في حقيقة الأمر إلاّ إلى الغيرة.
اعتبرت تلك النقلة من المدرسة الإيطالية بمثابة عقاب لي. هبطت عشر درجات ودخلت دوامة الأزورار في المدرسة الحكومية والخوف من المسطرة، والقرفصة على الأرض حتى تتيبس الأقدام. أضعت متعة الغناء الجماعي بمرافقة الراهبة على أنغام البيانو.
بعد لأي متعثر بدأت أتأقلم مع لداتٍ في مدرسة "خولة الكندية" بالمهاجرين. في هذه المدرسة توثقت عرى الصداقة بيني وبين زينة وليلى وناديا من بنات الحارة التي أضحت مرتع لقاءاتنا البريئة وحلم أيامنا.
أعدت كتاب التاريخ الطبيعي إلى صاحبته وأنا سعيدة.
في طريقي إلى المدرسة صباحاً رأيت زينة كحمامة يرفرف فوق جبينها شريط أبيض. لحقت بها. هربت مني. قرأت في عينيها شيئاً غريباً، بغيضاً، انقلاباً استوفز كبريائي وبنى سداً منيعاً بيننا، أمعنتْ في أزوارها، تعمقت القطيعة فقررت إذلالها. أغفلتها من حياتي وتفكيري، وعقدت صداقة مع ليلى.


يتبع
********

 
عدت من المدرسة إلى البيت في الرابعة بعد الظهر. رأيت الحطب مرمياً، والحطابون ينيخون جمالهم للراحة. شممت رائحة شياط.
بادرتني نظرة من أمي ملبدة بالغضب. لاحظت رعشة خفيفة في شفتيها. ردت الباب بنزق:
-عجلي عجلي غيري صدارك.. عندما أم زينة.
-أم زينة؟ وما شأني أنا؟
امتثلتُ. فتحتُ باب الصالة فضرب الحائط. هاجمتني رصة لئيمة تعلو شفتي جارتنا الرقيقتين مضمومتين على ازدراء. لمحت بين يديها كتاب التاريخ الطبيعي الذي لابنتها. فجأة رمته من يدها على الطاولة قرب فنجان القهوة الذي لم تمسه ورددت مرتين:
-باطل، باطل يا أم هشام، كيف ينجح ابنك في حياته. كيف يسمح لنفسه وينزلق نحو فعل مشين كهذا وهو في هذه السن.
فتحت الكتاب وتلوت في الكرسي، ثم قربته من أمي:
-انظري بنفسك. استعاره من زينة ثم رده وعلى جلدته الداخلية أشعار غرامية.. بالحبر الأحمر.
فركت كفيها باستياء وقلبت شفتيها كضفدعة.
-باطل، باطل.
ركبني الذهول حقاً أمام صمت أمي. فتحت فمي لأدلي بشهادتي فأسكتتني بقسوة.
-ولا كلمة.. هزت الكتاب في وجهي، ثم رمته على الأرض فانفرطت صفحاته.
أكملت:
-أشعار غزل لبنات الناس. كيف يتجرأ، كيف تمكنت أصابعه من خط كلمات حب ليست من حقه. باطل، باطل.
تأبطت الجارة محفظتها الجلدية السوداء، وهرولت تاركة إيانا مشدوهتين وكلماتها الواخزة تسبح في فراغ الغرفة.
لبدت في مكاني، تلبستني مشاعر عديدة. أخفقت في القبض عليها كاملة. أحببت لو أركض خلفها وأجرها من منديلها، وأمعسها بقدمي، اضربها، أعفر أنفها الرفيع البارز لأثأر لأمي الدّهشة.
أرخت والدتي رأسها حزينة. أدلت رقبتها النبيلة على ضلفة باب غرفة الضيوف مهانة مكلومة إلى آخر عظمة في بدنها. لم تجرؤ على الكلام. مسحت دموعها عن خديها ببطء وفجأة تيقظت من ارتباكها. تحفزت نحوي تريد الإمساك بتلابيبي، وتفجير الغضب.
خطا أبي خارجاً من غرفته، متوجهاً إلى المقهى. قرأ حيرة على وجهينا، رمى على الكرسي صحيفة الألف باء، ومجلة المضحك والمبكي الأثيرة لديه. استدار عائداً إلى غرفته. نبر بصوت آخر:
-أم هشام.. الحقيني.
جأرت أمي مكفكفة دموعها:
-شفت، شفت ابنك سامي، ماذا فعل بنا، بهدلنا أمام الصغير والكبير، مرغ سمعتنا في الوحل، تصور..
قاطعها:
-اهدأي يا امرأة، لم أفهم شيئاً من الأول.
-لا أول ولا آخر.. والله، والله. حلفت بالعظيم، لن أبقى في هذا البيت. لم أعد احتمل عجرفة الأب، ولا ميوعة الأولاد ولا ميوعة الجيران.
رفع أبي حاجبيه متسائلاً كيف أقحمته في مشاكلها.. صرخ بها مهدئاً فأوقف هذيانها.. تقطع الكلام في حلقها.
-ابنك سامي، ابنك عشقان ما شاء الله، مع من؟ مع ابنة جارنا العزيز، يا خجلي!
-سامي، عشقان، ألا تعرفين معنى هذه الكلمة؟
انخضت عيناه، وتغلب لونهما الأحمر القاني على لون بشرته وشعره الأشقر.
-أعيدي.. لم أسمع.
-يا سيدي.. وحكت القصة كاملة.
أخضع ردة فعله وثورته بعد عذاب إلى تحكيم العقل رد حانقاً:
-أهذا ما تعلمه في مدرسة الفرير؟ تحملت كلام الناس، حاربت اخوتي، ليصبح بشراً. بعت بيتاً، بيوتاً، لأصرف عليه وعلى إخوته في المدارس الأورباوية..
وعلى حين غرة صرخ بملء صوته:
-الجيران، عرضي، شرفي فهمت؟ أين هو، أين، ناده هذا جزائي.
ضرب على صدره مهدداً:
أجابت بضعف:
-لم يعد من المدرسة، لفت يديها حول صدرها تكبت زفيراً حاداً متقطعاً، بينما راحت شفتاها تبسملان.
اقتربت من أبي مسترحمة.
تخاذلت أمي أمام ردة فعله العنيفة عائدة إلى كامل رشدها.
-أبو هشام، مابودنا فضائح ولا شماتة، هنا حفرنا، وهنا طمرنا. والله لو ضربته كفاً لتركت البيت لك، وسافرت إلى بيروت.. كراج العلمين موجود، وأشارت بيدها نحو الباب.
استدار بجسده المديد نحوها. لم تعجبه لهجتها الطارئة، وخروجها عن المألوف، بظّت عيناه من محجريهما.. لكنه التزم الصمت.
خرجت أمي من الغرفة ولسانها يقول:
-هل تجاوزت الحدود معه، هل أساءت إليه، هل سيغفر لها جرأتها المفاجئة على سلطته؟
لعلع صوت أبي:
-ماشي الحال، اليوم نعقد جلسة مع العائلة وندبر الأمر زفر. كان زفيره قوياً، يوقد حطباً.
تكركب البيت الملموم على الحب بحضور أختي هدى التي جاءتنا ضيفة مكرمة، كانت خارجة من الحمام على صراخ أبي موردة الخدين مجدولة الشعر الأشقر الطويل. هتفت:
-سلمى ماذا جرى؟ كأني سمعت صوت بابا على غير العادة.
أجبت:
-قام يوم القيامة.. أمك ستطلق وانتحبت. ستطلق أمك.
رمت المنشفة الكبيرة من يدها فانحلت ضفيرتها على كتفيها. بدت حورية جميلة. شدتني من شعري.
-ثقيلة الدم، غليظة، هذه كلمة كبيرة من أين أتيت بها.
-سمعتها من أبي يهدد بها أمي وهو يدلف إلى غرفته غاضباً، على كل حال هيئي نفسك اليوم لحضور المحاكمة.
أمسكتني من كتفي وثبتتني على الحائط.
-لن أتركك حتى تقولي كل شيء.
-يا ستي، كتب سامي قصيدة غرامية على كتاب زينة، فهمت الآن؟
اربد وجه هدى، لعلها تذكرت ابن عمها الذي قبر حبهما قبل أن يزهر. فابن العم العزيز سافر إلى فرنسا وتزوج هناك، وما عاد إلى بلدها مطلقاً.
حكم أبي على سامي حكماً جائراً. أجبره أن يقف على قدم واحدة طوال السهرة، ووجهه إلى الحائط، ولم تنفع معه واسطة.
تتلاعب الليالي بي، تمد لي شرائط ملونة، أتعمشق عليها، ثم ما تلبث أن تنقطع فوق جنازة قتيل شهيد، ويزداد عدد القتلى كل يوم. تحمل الأكف الشابة جثمان الفقيد إلى مقبرة الدحداح.
ومئات الحناجر الغاضبة تردد:
-والشهيد حبيب الله، لا إله إلا الله، تسقط فرنسا، يسقط الانتداب! يركض النعش خفيفاً، ليصبح منارة فرماداً.
أتساءل:
-ما الموت، من أنا، من أين أتيت، وكيف؟ أتعب فأمتطي حزمة الضوء اللامعة التي تخترق زجاج نافذتي من نور الشارع، وأتحول إلى ساحرة.
فتحت حادثة سامي العابرة فجوة في ذهني. ألقيت الانكماش جانباً فتجرأت، وبنيت بيتاً لأبطال روايات قرأتها، وقبضت على عشقهم، وفروسيتهم، لازمتهم، سيّرتهم، دفعتهم إلى القبر أو الخلود.

كانت ساعات النوم أقربها إلى نفسي. أخلو بها إلى معبدي المقدس لا يلجه غيري أرتب زواياه على مزاجي دون أن يعترضني أحد. هناك أستنطق دخيلتي بحرية، وأبوح لها بأسراري.
كتبت نتفاً عن حبيبين انتحرا لم يجدا منفذاً إلى الهواء فآثرا الموت وحيدين، متعانقين. جاء موتهما شاهداً على ظلم الإنسان وأنانيته.
التقطت أذناي القصة من حديث مكنون بين أمي وهدى. كانت تهمس وأنا أسارق النظر إليهما:
-تعرفين جميلة الكاظم طالبة دار المعلمات، البنت الحلوة، والدها إمام جامع الشمسية.. أحنت هدى رأسها، ونبرت بصوتٍ عالٍ:
-ماما، ارفعي صوتك سلمى صغيرة ومشغولة بوظائفها.
-يا حرام على شبابها، انتحرت.
-المجنونة! باعدت هدى بين قدميها، فارتخى ثوبها في حجرها، ووقعت صنارتا الصوف من يدها.
قربت أمي ركبتها من ركبة ابنتها، لكزتها.
-انتحرا معاً، شربا سم الفئران. جميلة الكاظم، وعزيز الأسعد، الحب، الله يلعن الحب، هذا ما تعلماه من كلام الروايات والأفلام.
-يوجد ألف وسيلة للالتقاء، الزواج، الخطف، واسطة العائلة. غباء ما بعده غباء أن يلجآ إلى الموت. الحياة غالية.
-لم يقصر الولد، خطبها، ولم يرضوا: بسبب الفارق المادي بينهما. ردوه خائباً يائساً.
صفنت هدى وعضت على شفتيها أسيانة، تنهدت:
-سخافة، تخلف أين نحن وأين العالم.. الزواج ليس فراشاً وليست المشكلة أنها رفضت ابن عمها كما أرى، بل لأنها شقت عصا الطاعة على إرادة العشيرة. هذه هي الحقيقة.
-ما هذا الكلام؟ هدى!
-ماما، انتحارهما احتجاج كبير لمن يفهم. السكوت لا يعني الرضا، معناه الرضوخ، أو الموت البطيء، أو عدم القدرة على الصدام. أتعرفين لِمَ؟ لأننا نحن البنات نخاف، نخاف وحتى الشباب يخاف.
عقدت الدهشة لسان أمي. لأول مرة في حياتها تقع على زرّ ورد يخفي أريجه ويتطلع إلى جو الانعتاق.
تغير الحديث بينهما، فلم تقويا على الاسترسال أو الخوض في العمق. أضافت أمي:
-ولكن الحمد لله بقيت عذراء ماتت وظلت عذراء، هكذا قال الطبيب الشرعي.
-يا لطيب على هذه الفضيحة. صرخت هدى.
-أبداً.. طارت أمها من الفرح، برأت ابنتها أمام الناس. ظهر شرفها سليماً صحيح ماتت، ولكن العائلة ظلت مرفوعة الرأس.
تساءلت بيني وبين نفسي:
-عذراء ماتت وبقيت عذراء.. عصي الفهم علي.
اندفعت جارتنا أم ناديا إلى الغرفة هائجة تحمل صينية امتلأت بكؤوس فضية منقوشة نقشاً هندياً.
-أرجوك يا أم هشام. خلّهم أمانة عندك، لم يترك شيئاً في البيت إلا حطمه. حتى ملابسي وملابس البنات مزقها كلها.
ارتعشت هدى:

يتبع

**********

 
هذا مجنون، بدائي، مكانه المرستان، وليس بين البشر.
-مسكين، خرج الأمر من يده.. أنتْ المرأة المقهورة وأكملت: إنه لا يعي نفسه. عندما يشرب أبو أولادي العرق يتحول إلى وحش لا أعرفه.
-اتركيه، عاقبيه، اذهبي إلى أهلك.
-ومن له غيري ومن لي غيره، كلانا غريبان هربنا من ليبيا.
كيف أتركه. وإذا رحلت، والبنات؟ البنات كسرن ظهري. آه.. هرولت أم ناديا خائفة عائدة إلى بيتها.
علقت هدى:
-يا لحظي.. ظهرت المشاكل على وجهي.. البيوت ملأى بالأسرار الحزينة. من يدري بالمكنون.. هرت دمعتان من الفضة على خديها.
شق الفجر خيوطه. لمحت عباءة أبي المقصبّة ترفرف عبر الباب المفتوح كسارية سفينة أرخت شراعها للريح فيما تدق عصاه الأرض بنغمات متواترة توقظ فيّ رغبة النهوض، ينطلق من الحارة يومياً إلى جامع الشيخ محي الدين في سوق الجمعة حيث يعتكف وفي صدره ينثال الأمان وتهدأ النفس، تملأ خياشمي رائحة الخبز التنوري الطازج. ممزوجة برائحة الفول المدمس بالثوم والليمون. ها قد عاد.. بعد قليل ستفوح رائحة القهوة.. ويهب البيت.
أفهم نظرة أمي الملحاحة بفطرة أنثوية. تقف وتصوب عينيها علي وهي تبتسم. أغض النظر خجلة.. فقد نبت نهداي وآلماني.
تروزني خالتي الكحيلة الجميلة، إذ تأتينا زائرة من بيروت وهي تفرد حقائبها الملأى بالأثواب الحريرية، والخواتم الفيروزية.. تروزني كخروف حلل ذبحه.
-صرت صبية "يا سلمى" زهرة مفتحة. مثلك صار عندها أولاد.
-أم عبد، ما له مكان هذا الكلام، ما زالت صغيرة، على مهلها، لم العجلة؟ جربنا وشفنا أختي أعصر لك كأس ليمون، لا بد انك دائخة من الطريق. طلعة ظهر البيدر صعبة.
أعلم أن أمي على عجلة من أمري. تريد أن تتخلص من الأمانة سالمة قبل أن تهتك كما فعل القدر بجميلة وعزيز.
أخذ يتردد علينا من بيروت ابن خالتي "عبد الحميد" جعل من أمه عباءءة يتستر خلفها. برقت عيناه عندما وقعتا على زريّ الورد الصغيرين في صدري. تلكأ قرب الباب.
-سلمى، أنت سلمى، غير معقول. صرت صبية.
صدمتني أظافره المسودة. شممت في خيالي رائحة السيارات والشحم وورشات التصليح وقطع الغيار تنفر من أنفاسه وتفوح من أعطافه.
تكرر أمي لازمتها على أذني:
-ابن خالتك يقص ذهب.. صنعته مربحة،
يدحُره بطلي الذي يخرج من الكتب، فارساً طويلاً ممشوق القامة شديد الاعتداد، قوي الملاحظة، يزين وجهه شارب أسود أنيق.
أوقفني بطلي الخيالي هذا في إشكالات المقارنة، أيقظ في لا وعيي تهيباً من الرجل العادي، ورغبة البوح على الورق.
بات ابن خالتي صاحب الورشات الميكانيكية زائراً أسبوعياً، يأتينا بسيارته "الرينو" من بيروت، ملمع الشعر، مطيب الأعطاف، نظيف الملابس. يبيت ليلة، ثم يعود صباحاً باكراً، يتحمل نزقي ومزاجي بصير عجيب، ثم ملّ مني.
-يا الله، يا ماما، حفظت الدرس، لا أريده.. ضربت الأرض بقدمي وصفقت الباب خلفي بقوة.
قال الطبيب وهو يطفئ النور بين عينيه:
-يجب أن تضعي نظارة بيضاء. عندك انحراف بسيط.
علقت أمي شاكية:
-من أول عمرها يا دكتور. لا يغرّك طولها، ما تزال صغيرة.
في ظني أنها خافت علي من العنوسة، فالناس لا يحبون النظارات على عيون الصبايا.
انكمشت على بعضي، وبدأت أغوص في عزلة محببة أفسدتها كلمات من إخوتي مجدولة بالسخرية ها قد تقدمت عليك ابنة عمك الهام، أضحت أحلامها حقيقة، رزقت عريساً تاجراً في سوق الحرير.
هتفت عندما رأيتها:
-يا ربي.. كم تغيرت يا إلهام؟
صارت نصف امرأة. وجه ملطخ بالأحمر والأبيض بعيد عن البساطة والبراءة تتعبد نفسها بالمرآة.
راقبت عينيها في حفل الغداء، كانتا تزغردان مشوقتين إلى عريسها الفتى صراحة دون حرج، انبسطت أمامها الأمور المعقدة بشرعية مباركة.
طقت ضحكة بدرت منها.
خلف الباب رأيتها تتلوى عجينة لينة بين يديه. يهصرها، وتتسلل أنامله إلى قميصها.
انفردت بأوراقي، كتبت ما لاحظت. ثم خبأت أفكاري بين طيات ملابسي الداخلية.
تطير حمامة أخرى من الحارة، تطير "زينة" التي انقطعت كل علاقة لها مع سامي تطير من المهاجرين إلى عرنوس لتحط زوجة في بيت وثير أنيق، ملكة على قلب طبيب خمسيني.
زفت الخبر جارتنا "أم زينة" متباهية.
-لا تؤاخذيني أختي "أم هشام" فضلنا شهر العسل في أوربا على حفل العرس. فرصة وحيدة أمام البنت لترى العالم قبل أن تعلق بالأولاد.. بيت سيارة، طباخة، لا يجوز للمرأة أن تفني عمرها في المطبخ.
-ورضي العريس؟ سألت أمي منكسرة الخاطر، تذكرت سامي الذي رسب في صفه.
-طبعاً.. قاتل حاله.. قبل بكل شروطنا..
شروط للزواج، شروط للحب، وتنازلات، وقوانين تتحكم بمقدرات المرء، ترى ما كانت ردة فعل العشيرة فيما لو تزوجت رفيقي ميشيل في المدرسة الإيطالية؟ ميشيل جليسي في المقعد، معه تعرفت الحرف الأول حتى ترفعنا إلى الصف الرابع. كان لطيفاً، حلواً، يساعدني في حمل حقيبتيّ الملأى بالكتب المصورة. وعندما يوصلني أبي بالعربة السوداء التي يجرها حصانان إلى باب المدرسة أجده واقفاً. يندفع نحوي فرحاً وبيده قطعة شوكولا يقضم نصفها وأقضم أنا نصفها الآخر ونضحك.
تفصلنا الراهبة قبل الغداء إلى فريقين.. بلا وعي مني ألتزم صف ميشيل. ويلتزم ميشيل صفي. نبعان صافيان من العسل لم تشوهمهما المواضعات الاجتماعية. أين أراضيه اليوم يا ترى؟
ها أنذي أصغر تلميذة في الصف الخامس، وفي مدرسة حكومية ابتدائية عافت نفسي القراءة والطعام. انقلب الوضع تماماً. أرجحني في شبكته، فألعاب البنات حولي مثقلة بالرتابة وإيحاءات الآخرين.. ذروة التفجر المكبوت عندهن صورة ممثلة أو ممثل مقصوصة من مجلة الاثنين المصرية تسلل شيء ما إلى حياتي فجأة. قطعة سكر ذابت في حلقي عندما شد صبي في مثل عمري على يدي جاء مع أمه، نظر في عيني، خرق حجاباً، قبلني من خدي، لا أدري لم كانت متلصصة هرولت خارجة، سمعت صوته خلفي: "اورفوار".
بحثت عن غطاء أسبله على وجهي، كفنت جسدي بشرشف أبيض. طرت مع سابع حلم. تحولت إلى حمامة بيضاء كسيرة الجناح، مالت بمنقارها نحو النوافذ المغلقة تنادي الأخريات، ثم سقطت على الأرض لتجد إرادتها مسيجة بالجدران، ومشدودة بخيط مربوط في قدمها.
تقوم قيامة البيت يوم الاستقبال صباح كل اثنين من كل شهر على جري العادة. تكوى الستائر المكرنشة الدانتيل. تفرك القدد النحاسية بمادة تثير الغثيان، وتفرش الملاءات البيضاء المطرزة على الطاولات. عرس جميل يتجدد كل شهر.
غير أن هذا العرس المتجدد أصيب بنكسة بالغة، فقد توارى الفرح عن البيت، واسلمه إلى كارثة هزت أركانه، وزلزلت أمنه عندما نشب خلاف بين أبي موظف الجمرك الكبير، وبين مديره القومندان شارل الذي حمل في ثيابه العسكرية عقلية فجة، وتعليمات صارمة من حكومة الانتداب الفرنسي تحتم على موظفي الجمرك ارتداء الزي العسكري الفرنسي، والتكلم باللغة الفرنسية والتعامل فيها حصراً، وإلا فالطرد من الوظيفة.
انطوت الأفئدة على فكرة الخروج من المأزق الصعب، فتفرق الأهل جماعات. وأصبحت في البيت وحيدة، غريبة كنبتة خضراء أصابها الجفاف، لا يدري أحد بي، ولا يلتفت إلي عيني الرامدتين ليمسح عنهما العمش. أسندت رأسي إلى مخدتي علني أفهم المشكلة، ولم انفجرت الدنيا في وجهنا فجأة ولكن عبثاً حاولت.
أطبقت أمي فمها على هم لم أدرك مداه في سني الصغيرة، يداها في حضنها مستسلمة، تتوجه بإشارات بكماء إلى "عربية" التي أبت أن تغادرنا. ترف عيناها السوداوان الواسعتان بأسى وحسرة كلما باع أبي بيتاً أو دكاناً.
تقاربت زيارات أختي هدى، أضحى حديثها همساً مع والدتي.
-شباب، أفواه مفتوحة، الجوع لا يرحم.. كلمات غريبة ترددت. أعقبها تقشف بادٍ في ألوان الطعام، ولون الخبز والسكر.



يتبع
**********

 
تعرض الرجال كما تعرضت البلاد في أواخر عام 1943 لدعايات شتى غزت رؤوس الشباب بأحلام البطولة. عملاء بريطانيا المأجورون جعلوا يجوبون المدارس ويدعون ويزينون الانخراط في صفوف الجيش الانكليزي لمحاربة عنجهية ونازية الألمان التي تضعنا في أسفل السلم البشري تخلفاً، وانحطاطاً.
تشد الدعاية تارة ازر الألمان، وتارة ازر الحلفاء، والشعب دائخ بين رحى الطاحون. يدور همس بين سامي وعادل:
-كيف لا نحارب فرنسا التي طردت أبي من عمله، وهي حليفة انكلترا، كل يوم اضراب وقتلى وجرحى؟
يجيب عادل:
-تموج المدرسة بالدعاية وتملأ الآذان ويسكت عنها المدير.
-سمعت أن الانكليز فتحوا باب التطوع، ما رأيك؟
-أنا مؤمن بأن الاستقلال قريب، أنا ما زلت أفكر. الاستقلال قريب.
-أنت تحلم يا عادل. تحكمنا فرنسا بسيف مسلط على رقابنا، لا جيش ولا أسلحة. دفعة عادل من كتفه ممازحاً:
-والله كبرت يا سامي. هذا الرأس.. يملؤه شيء آخر غير كرة القدم.
تحرك نحو مكتبه.
من زاويتي رأيته يفرد خارطة سوريا، ويلون بقعاً بالأحمر والأزرق. رمى القلم من يده ونقر على الخشب، وتبسم رضى عن نفسه. لف رزمة ضخمة من أوراق في صحيفة أخرجها من صندوقه.
اقترب سامي وربت على كتفي:
-ليتني مثلك، أغبطك على جلدك واجتهادك، ألا تتعبين؟
أحسست أنه بحاجة إلى إنسان يحكي معه.
-سلمى، اسمعي، هل أتطوع مع الانكليز لأصبح شخصية عسكرية مرموقة؟ هززت رأسي مفاجأة:
-لا أخي لا أرجوك، كل شيء ما عدا العسكر. أخاف منهم.
-سلمى، معي سر أخفيه في قلبي عن الجميع، يكاد يفجر رأسي. احلفي بأنك لن تبوحي لأحد به، ورفع يدي بالقسم.
-البارحة، بعد الانصراف لحقني عيّاد الليبي الذي نزح من طرابلس الغرب هرباً من إيطاليا. فتحنا حديثاً، شكوت له حالنا التي تنزلق نحو الإفلاس. عياد، لا بد أنك رأيته عندما طلب أطلس الجغرافية مني، الشاب الأسمر الغامق النحيل مثل مسلول، يعرج من قدمه اليسرى.. تذكرته الآن؟
-تذكرت
-حكى لي الكثير عن جيش الحلفاء. قال:
تزيّن قيادة الانكليز سواعد الجنود بالأشرطة الذهبية إن أبدى أحدهم شجاعة وإخلاصاً لهم، للحلفاء ويرفع إلى مرتبة أعلى، ذكر لي أسماء نصف شباب المدرسة الذين تطوعوا على يديه.
-وأنت؟
-سأتطوع كجندي محترف.
-ولكنك صغير.
قال هذا شغله. يجب أن أترك الموضوع له.
يبتسم سامي. تلون الأحلام رأسه، تهب معالم الرجولة على وجهه وترسم خطين من الزغب الأشقر فوق شفتيه وعلى صفحة خده. سألته متلهفة سعيدة بالسر.
-يعني خلص، قررت.
-لا يمكن التراجع. يجب أن أصبح شخصية وأحطم أنف مسيو شارل، بودي أن أخلص أمي من همومها. لم أعد أحتمل بكاءها. خلّفت أفكارها قبحاً على وجهها الجميل. أنا خائف ولا يمكنني التراجع.


يتبع
**********

 
يبتسم سامي. تلون الأحلام رأسه، تهب معالم الرجولة على وجهه وترسم خطين من الزغب الأشقر فوق شفتيه وعلى صفحة خده. سألته متلهفة سعيدة بالسر.
-يعني خلص، قررت.
-لا يمكن التراجع. يجب أن أصبح شخصية وأحطم أنف مسيو شارل، بودي أن أخلص أمي من همومها. لم أعد أحتمل بكاءها. خلّفت أفكارها قبحاً على وجهها الجميل. أنا خائف ولا يمكنني التراجع.
فيما كان "عادل" يوزع منشوراته المعادية للانتداب الفرنسي في الأحياء القديمة والمدارس ترك سامي البيت تحت جنح العتمة هائماً متستراً وعلى كتفه جعبة إلى محطة الحجاز حيث يتجمع الطابور أمام ميجر انكليزي للالتحاق بجيش الحلفاء.
طمرت رأسي تحت اللحاف، ورحت أنشج. أترقب صباحاً صاخباً.. ما إن جهجه الضوء حتى اعترفت بسرّ سامي، وكان الأوان فات. عاف أبي المقهى من بعد. انطوى على خيبةٍ بابن غرٍ يلتحق بصفوف الأعداء.
قاطع اجتماعات الرجال التي تدعو إلى الاضراب وإغلاق الدكاكين برأي منه.
هل سقطت هيبته عن أولاده حتى وقع في مطب المشاكل خارج الخط الفاصل بين إرادته والمتغيرات القسرية. كيف سمح للهواء بأن يتسرب عنيفاً إلى زعامته؟ يتساءل دوماً في خلوته.
تغير مالكو البيت في رأس الحارة. أجرته الأوقاف لصالح ورثة يتامى. زارتنا الجارة الجديدة. امرأة جهمة. وجه مدور طفح، قامة مديدة مرصوصة على الشحم. تبعتها فتاة فارعة القوام، جعداء الشعر منفوشة الغرة. شدت على يدي بقوة:
-مرحباً.
خرج من حلقها صوت رجالي ثخين مبحوح، توددتْ إليّ مبتسمة. ثم استدارت نحو أمي:
-بيتكم حلو خالة. ربما في الصيف أحلى. ديار وياسمين وعنب.
ردت أمي المجاملة منبسطة الأسارير.. بادرتها:
-أنت أحلى.
تلوت البنت بدلع.. وهمست في أذني:
-أتذهبين معنا إلى السينما. الساعة السادسة ماتينه، فيلم عن غزو نجمة المريخ.
شعرت أنها هدمت قسماً من السياج حولي، وفتحت لي طاقة نحو الهواء الطلق.
-أذهب، أجبت متعجلة.
-وأمك؟ غمزت بعينها.
-لا أدري، مشغولة مع الضيوف، متى؟
-بعد نصف ساعة. اسبقيني إلى رأس الحارة.
-تصير الدنيا عتمة.
-لا.. لا.
يثير حديث ناديا مشاعري، ويذكي خيالي، الأبطال، المركبة الفضائية، الممثلة، الثياب العجيبة، الطيران، سألتها: ما اسم السينما؟
-ربما الأمبير، أو اللونابارك في شارع بغداد قد تكون روكسي.
تسللت خلفها ممغنطة. وجدتها تنتظرني، وإلى جانبها شاب يماثلها طولاً وشبهاً.
-أخي زهير، أشارت إليه.
ما إن اطفئت الأنوار في الصالة الضخمة حتى غرفت بخوف يكاد يفجر شراييني. طغى الرعب على كل متعة ممكنة، وصورة مدهشة. فماهمني لو هرب البطلان عليهما اللعنة في المركبة ذات الأزرار العجيبة ليغزوا المريخ. تقامزت النجوم أمام بصري مثل كرات لاهبة نارية انصبت على وجهي وكهربتني استجمعت شجاعتي ولكزتها.
-ناديا متى ينتهي الفيلم ونعود إلى البيت؟
-خائفة؟
-لا أبداً.. يعني..
ارتعشت حتى أخمص قدمي. كيف أعود؟ أغمضت أجفاني على صورة أبوي اللائبين الجزعين.. أفظع منهما أخي هشام الصعب..
عندما غادرنا القاعة المذهلة برائحتها الرطبة الخاصة غرقت الدنيا في عتمة خلف عتمة. أطرقت برأسي إلى الأرض، وبلعت لساني. اقتربنا من حارة العفيف. لاح أمام ناظري شبحان عرفتهما تماماً. أمي وقد لفّت قامتها الباسقة المتكبرة بعباءة سميكة مقصبة تخفي ثيابها الموردة، وأبي ترج عصاه المفضضة الأرض. اختبأت خلف "ناديا" وأخيها ريثما عبرا الطريق إلى جانبي. لم أقو على مناداتهما.
عند عتبة الباب ناولني أخي هشام صفعة رنانة لم أنسها طوال حياتي عمقت الهوة بيننا. أكد مرتين:
-لا لأنك ذهبت، ولكن لأنك كذبت.
قضيت ليلة رهيبة محبوسة في الحمام، أتصارع مع أشباح الظلام، أبكي وأتوجع بصمت.
شغلت العائلة عني مؤقتاً بقصة سامي. طاردتني نظرات أخوتي اللائمة. ضيقت الدائرة حول عنقي. كانت الثغرة التي فتحتها تجربة السينما دونما إذن وقبلها إخفائي هروب أخي تزداد عمقاً يوماً بعد يوم.
انطلقت بدوري أفكر بسامي من زاويتي المهملة بعيداً عن أحلامي. كتبت عنه، ومزقت ثم كتبت ما يجول في خاطري ورفضت الاستسلام تصلبت قدماي بقوة على الأرض. ها هو سامي متمرد آخر على قوانين جائرة يرفض الانصياع لأعراف العشيرة ويثقب تقاليدها ولا يبالي بالنفي.
ابتسم القدر في وجهي انزاح ثقل العائلة عن كاهلي بعد حين.. هرب سامي من المعسكر، وعاد إلى البيت متخفياً في الليل. وقف خائفاً متهيباً يخشى مواجهة الأهل. رأته أمي. ذهلت عما حولها. فارت القهوة على النار وكسرت الفناجين. هبت العائلة كلها. وبعد قليل جاء أبي.. ألقى سامي نفسه على يديه يقبلهما بحرارة. ويبللهما بدموعه جعلنا كلنا نبكي ودموع الفرح تهمي على وجناتنا.

لكنه عاد مقهوراً قلقاً زائغ العينين، يتناوشه هاجس الموت، بمفاصل هشة مرتعشة. عاد الكنار إلى القفص يغني موالاً حزيناً.. اختنق بأنفاسه مبكراً لأنه أضاع اتجاه الريح.
اجتمع مجلس العائلة. وقفت أبكي خلف أمي. تأتأ مرات. ناولته كأس الماء استدار نحوي يريد أن يشهدني، ولكنه تراجع إزاء خوفي.
"انتظرنا الطابور في محطة الحجاز. وجدت زملائي يودعون أهاليهم ويتناولون حقائب الطعام وعلب الحلوى من نوافذ القطار وكأنهم في نزهة إلى الربوة. كانوا في السن المناسبة بين الثامنة عشرة والعشرين، وكنت بينهم كالطفل الذي أضاع أهله.
حشرنا في عربات القطار الخمس. دفعت حقيبتي الصغيرة إلى رف فوق رأسي. وانكمشت في مقعدي أراقب الأجسام الضئيلة والضخمة التي تهبط وتصعد حاملة حاجياتها. راجعت خطواتي مذ فكرت في السفر راودتني فكرة الهروب والعودة وقد وجف قلبي وحاصر الندم روحي".
شهقت أمي دامعة.
"فجأة أغلق باب القطار بإشارة من عصا الميجر الإنكليزي. أغلق كل منفذ في وجهي. ظلت يد شاب معلقة بكف أمه وهي تقبلها. وعندما تحرك القطار انتزعها بقوة وراح يبكي.



يتبع


 
خيمّ السكون الحزين على العربة هب أحدنا فجأة وأنشد بصوت رخيم: "موطني، موطني" اندفعت الأصوات الشابة خلفه بحناجر دافئة "موطني، موطني" يقطعها إيقاع العجلات مختلطة بالآمال تتماوج على وجوه شبان من أعمار مختلفة. شعرت بشوق خارق إلى أمي، إلى أبي، إليكم جميعاً. أوشكت أن أفقد وعيي، شعرت بتخاذل في أعصابي، انبجست الدموع من عيني بغزارة لكني قاومت النشيج خجلاً.
تحركت نحو الباب، باب القطار. أسلمته جسدي المنهك، وفكرت بأبي الذي يتفقدنا كل مساء، فهدّني ضعفي، تراكضت الأشجار في الظلام، تلاعبني مرة وتختفي عني مرة أخرى.. بدت سيقانها مبقعة بالضياء ينثره نور القطار. رجعت إلى مكاني تاقت نفسي إلى كسرة خبز. اجتزنا دمر والهامة. تجاوز القطار عين الفيجة. انبسطت أمامنا سهول الزبداني قطعاً قائمة منسقة، تفوح منها رائحة الأرض المحروثة. علا صفير وفح ونحن ندخل أرضاً أخرى، استسلمت لنغمة وغفوت جالساً.
صاح صوت:
-رياق يا شباب..
لكزت زميلي الذي غلبه النوم مثلي:
-وصلنا رياق.
رد بحسرة:
من هنا تبدأ مسيرتنا نحو المجهول.. إلى فلسطين، نقطع حيفا، غزة.. ثم مصر أم كلثوم.. الأهرامات.. النيل يا الله..
أفعمت الحرية صدري، تنفست الهواء ملء رئتي. كثرت الأقاويل عن دورة تدريبية. لم أع فكرة وأبعاد تلك الدورة فمن قائل سننتقل إلى الاسكندرية، وآخر.. لا بل إلى الصحراء، لا، إلى السودان.
جهجه الضوء.. انتصف النهار، مررنا بسهول ومزارع وأناس تركوا صورهم في رأسي أغنتني عن رغيف الخبز وقطعة الجبن التي قدمها لي جاري. اعتذرت منه، فلم يكرر دعوته، راح يقضمها بصمت. وينقل ناظريه بأسى بين وجوه المسافرين، كان شعره حليقاً عند الصدغين، بريء النظرة، نحيل القامة لا يكاد يبلغ خمسين كيلو غراماً، ربما في مثل سني.
قلت في سري:
-قد يصبح هذا رفيقي.
علمت أن اسمه "أحمد العنبري" من أطراف دمشق، فقير الحال، أبوه حلاب ماعز يدور على البيوت صباحاً.
كنت متشوقاً للوصول، عكس زملائي، مفعماً برغبة التغيير والاستمتاع باللهجة المصرية، ها قد اقتربنا منها. مررنا بحيفا، لم يسمح لنا بالنزول، مجرد ترتيبات أمنية، تخللها لغط عسكر انكليز على رصيف المحطة."
يسترسل سامي في رواية قصته، قلوبنا واجفة، وأعصابنا متعلقة بكل كلمة يقولها.. نتمنى بألا تنتهي، فكل حركة أتى بها تخصنا وكل حادثة مرت تهمنا.. نعيش معه في مغامرة كان يمكن أن يجد فيها نهايته.
"مضى القطار يطحن ذكريات الأهل والحارة.
صرخنا:
-اقتربنا من مصر.. آه أم كلثوم.. جئناك.. دخلنا الاسكندرية. هب هواء مملح على وجهنا. شممت رائحة بيروت. توقفنا قليلاً في المحطة، ثم جر القطار عجلاته نحو القاهرة. نقلونا إلى شاحنات عسكرية تحت ستر الليل. سار موكبنا صامتاً حزيناً كجنازة، ثم أفرغ حمله منا كالقمامة عند بوابة حديدية لمعسكر كبير. تفرقنا إلى مهاجع مستطيلة ملأتها أسرة عسكرية رفيعة الأرجل سريعة الطي عليها بطانيتان.
بدأت دورة التدريب بلا تأخير في الصباح الباكر لوصولنا. دورة تدجين بطيئة قاتلة.. ثم ها نحن وجهاً لوجه مع العمل المضني، حفر الخنادق، وردم الآبار، يا إلهي.. تصوروا.. ثلاثة أشهر، تسعون يوماً وليلة من الأشغال الشاقة. يأتيني وجه أمي في الليل وغضبة أبي، ودهشة أخوتي، يدفعني وضعي إلى الجنون، فأنخرط في حوار مع نفسي لا ينتهي ثم أبكي كطفل.
شيئاً فشيئاً تبلورت الأمور في ذهني، فهمت أن الحرب ليست حربنا. وما نحن إلا عيدان كبريت تحترق أولاً.. غداً ستساق إلى ليبيا ونحارب؟ والعياذ بالله. وهكذا صممت على الفرار والعودة إلى دمشق. أحسست أنني كبرت عشر سنوات. دبرت أمر الهرب مع رفيقين لي من حي المهاجرين تلكأنا عن التدريب، تسترنا.. ومن خلف سياج هربنا كالقطط.. المحطة تعج بالجنود. ركبنا القطار من القاهرة باتجاه حيفا بإجازات مزورة. توقفنا في محطة حيفا. لم نر منها سوى أضواء العنابر التموينية المحاطة بأسلاك شائكة، والسكك الحديدية اللامعة في الليل البهيم تتحرك قربها أجسام عملاقة.
تناولت الحقيبة وعصرتها على بطني. كنت قد اتفقت مع رفيقي من أهل الشام على إبلاغ أهلي وأهله فيما إذا أوقف أحدنا أو حوكم.. أو اغتاله رصاص الإنكليز.
كان جوفي ينعصر بشدة وكنا جائعين. تلاقت نظراتنا عازمة، حازمة. هذه فرصتنا، فلنغتنمها، لكن هذه المرة بحذر وتدقيق وتعقّل".
أكمل سامي:
"تسللنا في حيفا تحت جنح الظلام إلى ظهر القطار كالعفاريت، يدفعنا خوف من خطر يشل أقدامنا، فلو أن دوريات العسكر المتواجدة ضبطتنا لكان مصيرنا الإعدام رمياً بالرصاص. انبطحنا على بطوننا مصلوبين هلعين.
أسلمتنا رتابة العجلات على السكة الحديدية إلى نوم مربك قلق يهدهد أحلامنا الطفولية. أيقظتنا من خوفنا رجة قوية وصفير متواصل وصلنا بيروت.
هرج ومرج على الرصيف.. العسكر العائدون بإجازة، وأهلهم المستقبلون.. تسللنا هابطين وحين ابتعدنا ووصلنا برّ الأمان توجهنا إلى كراجات الشام. رمينا الطاقيات نحو السماء نضحك ونلهو كالمجانين ونحن نسأل عن سيارة أجرة تقلنا إلى عائلاتنا.
تحسسنا إجازاتنا المزورة في ساحة "فكتوريا" خوف مداهمة الشرطة ونحن في الزي العسكري. نفحت فينا حرارة الشجاعة، وأنقذتنا من رعب مميت. انحل عقد الرفقة في ساحة المرجة عند موقف ترام المهاجرين. تلفّت حولي. آه، يا دمشق، ما زلت حلوة نظيفة. رميت بجسدي على الحافلة مكذباً نجاتي، ألصقت أنفي وعيني بزجاج النافذة أتملى مشهد بردى يتراقص ماؤه في ضوء الليل. وبدأت أعب، أعب من هواء الشام، من تعبي، وخوفي، وشوقي. يا لحظي الذي تمطى كعملاق. فيما كانت تتخطفني اللهفة نشوان أحسست بلكزة في كوعي. استدرت مرتعداً، رأيت وجهاً مألوفاً. عرفت وجه عياد الليبي الذي هربني من بيتي وبلدي لألتحق بالجيش الانكليزي، عانقني بحرارة سألني عن أحوالي، ثم نظر إلى ساعته..
-الساعة العاشرة ليلاً.. هل أنت في إجازة؟
أجبت بريئاً:
-معي إجازة، اشتقت إلى أهلي وبلدي، ولكني لن أعود يا عياد.. لمحت على وجهه ابتسامة صفراء عريضة لم أعن بملاحقة معناها فقد صرت في الشام، ولن يتمكن لا هو ولا أي عميل آخر أن ينتزعني منها. فجأة قفز عياد من الترام كجني، وانشقت الأرض عنه، لم أبال به.. إلى ألف جهنم.. وعندما وصلت البيت كان السكون يخيم عليه. وقفت أمام النافذة متردداً، حاولت اختراق الظلمة، من الدرفات الخشبية، عجزت، نقرت الباب بيدي سمعت خطوات سلمى وصوت باب يفتح، هدأ قلبي جاءني صوت سلمى:
همست:
-أنا سامي افتحي لا تخافي، رأيت سلمى تعاني نعاساً أثقل جفنيها. توقفت لحظة قبل أن ترتمي وتعانقني، خلصت قدمي من بسطاري العسكري.. ومشيت على رؤوس أصابعي غير مصدق أنني صرت في بيت أهلي. لكن في أعماقي خوف هصر أعصابي وألهب حساسيتي، فأنا أتوقع شراً وخوفاً من غول ما انفك فاغراً فاهاً مرعباً.
توقف "سامي" عن الكلام وأطرق.. جالت عيوننا تتصفح وجوه الآخرين. لتتوقف عند وجهه المتعب. كان قد أخذ يبكي وينشج كطفل..
انخطفت أمي إلى المطبخ، وعادت بكأس ماء. تناولها بيد مرتجفة، ورشف منها، رفع بصره تجاه أبينا الذي لفت بصره إلى ناحية أخرى. كان على درجة عالية من التأثير. لكنه ضبط أعصابه، ورفع سبابته:
-لنأكل لقمة، أحس بالجوع. لا نعرف ماذا يخبئ الغد.



يتبع
********

 
شهقت أمي دامعة، رصت يدها على فمها، وقفزت مضطربة إلى الحمام تتقيأ الحزن صاح أخي هشام من قلب الدنيا:
-العسكرية، ظننتها لعبة. لا تخرج من البيت، لن يتركك الكلب.
كنا فعلاً على موعد مع الغول، قرع الباب ولما يُنه المؤذن قول: "حي على الصلاة، حي على الفلاح". شعرت بيد قاسية تقبض على صدري وتأخذ بخناقي. سرقت نظرة من ثقب المفتاح، لم أتبين سوى لباس عسكري. ارتعدت مفاصلي، عملاقان من البوليس الإنكليزي. ومعهما رفيق أخي في المدرسة "عياد الليبي" اثنان آخران. عرفنا فيما بعد أن صاحب الطربوش المائل الذي يمصمص شفتيه وأسنانه، ويعلك الكلام هو المختار. والثاني شرطي من مخفر المهاجرين، مصطبة.
هبّ سامي حافياً خلفي. حاولت منعه، فدفعني عنه وفتح الباب، برقت عينا الأشقر بنصرٍ مؤزر، تكلم بعربية محطمة:
-أنت سامي الشريف، يا الله، تعال معنا.
نحى جسده العريض الذي سد الباب، فتسللت منه خيوط الفجر الأولى ونسمة رقيقة داعبت دموعي.
أدخل سامي قدميه المتورمتين في البسطار الكبير وسلم نفسه بالبيجاما، غنمة طائعة مدت عنقها للذبح قبل أن يفيق أبي.
صرخت وتعلقت بسترته.
-لا تروح سامي، سامي لا تروح. انتظر بابا. جاء بابا.
استدار نحوي:
-لا أستطيع، يجب أن أذهب معهم حتى لا أعتبر جاسوساً.
دفعه العسكري من نقرته إلى سيارة جيب، وقفت خارج الحارة، أبكي ملء عيني.. هب البيت بعد فوات الأوان..
لكن سامي كان مضى.
إلى أين مضى؟ هاجمتني أيدٍ سوداء وبيضاء. تسمرت في مكاني ارتعش خوفاً وترقباً. انقلب الفرح إلى عزاء وبتنا على جمر الانتظار. نلطش على واسطة خير أشهراً عدة. جمع أبي معلومات عن مفتاح يوصله إلى سجن القابون. وبعد أربعة أيام ظفر بجارنا متعهد الطرق شفيق العشا، وفواز الحلاق الذي يعمل لحساب الإنكليز، ويقدم خدمات مشبوهة.
عاد متعباً من مشواره، طلب كأس لبن، وروى لنا بصوت متهدج قصة لقائه مع سامي في غرفة مدير السجن.
-"لم أدر كيف تصرفت، وتصرف ساعتئذ، هجم علي واحتضنني وبكى أم هجمت عليه؟ أم تسمّر في مكانه؟ كانت لحظة غائمة تحجب الوضوح ربما قال:
-هبط قلبي يا بابا، خفت من النداء، وكأنني أساق إلى حكم الإعدام"
أفزعتنا أمي بنحيبها، رششنا وجهها بماء الزهر. سقطت مريضة بين الموت والحياة. وعم الأسى المنزل.
مرت الأيام بطيئة تئن في أفئدتنا كأزيز ناعورة مهترئة. لا نقوى على الضحك، ولا الرضوخ لواقع أقوى من إرادتنا.
قبل المغرب من أيام حزيران القائظة قرع الباب عسكري أسود الوجه لماع. ناولني ورقة مطوية عدة طيات أخرجها من محرمة في جيبه. وصلتنا أول رسالة مهرّبة من سامي.
أهلي أحبابي.
اعترف بضياعي ويأسي. أنا مشرد، ربما أموت غداً قبل أن أراكم.
أحبابي. أتذكركم وأبكي، رفضت كل ما قدم لي من طعام، فاصوليا حب ورز. وحتى كار الشاي الأسود المغلي. أبكي ندماً حتى الصباح، ولا أخجل من ضعفي. استولت علي فكرة التخاذل فأسندت رأسي إلى الجدار، سمعت خربشة فأرة تختبئ في كيس طحين، دققت على الحائط عدة مرات ابحث عن إنسي. خيل إليّ أن جواباً أتاني من خلف الحجارة السميكة الصلبة السوداء، والأرض الباردة المقفرة إلا من بطانية. أعدت المحاولة اليائسة. توضح الجواب. جاءتني دقات رتيبة وسؤال عن اسمي باللغة العربية، ثم ظهر وجه الحارس الأسود الذي حمل ورقتي وسألني:
-مسلمان؟
-مسلمان.
فهمت كما لو أنني أفكك طلاسم الجن، أن فرقتي رحلت إلى ليبيا لقتال الألمان. رجوته أن يوصل أمر سجني إلى أهلي، عاد بعد ساعة، ودفع بورقة وقلم من أسفل الباب.
بت ليلتي شقياً، هل كتب لي عمر جديد؟ أحقاً هربت من مصر إلى دمشق لأنجو من الحرب.
لعلكم حسبتم مجيئي حلماً من أحلام اليقظة. بت أنا أيضاً أسير أوهامي. تتلاعب بي يمنة ويسرة. قادرة على ابكائي، وعاجزة عن تخفيف الرعشة، رعشة الرعب التي تلاعبت بي كورقة صفراء.
أهلي
علمت أن الواشي "عياد" كلب الانكليز، وأنه عميل مزمن للمخابرات البريطانية في دمشق. عمله التقاط الأغرار أمثالي.
بعد أن غادرني أبي، رمينا في شاحنة عسكرية كالغنم. رؤوسنا متلاصقة، وظهورنا إلى الشارع. في محطة الحجاز رأيت القطار الذي مهد لي سبيل اللقاء بكم.
رافقني "عياد" إلى بيروت عن طريق "رياق" ويده على المسدس شعرت برغبة عارمة في ذبحه.
تأبط ذراعي عسكريان أجنبيان، وساقاني إلى السجن دون أن يتمكن ابن خالتي عبد الرحمن المقيم في بيروت من تهريبي بطلبٍ منكم. يرن صوته في أذني.
-سامي، أنا عبد الرحمن. ابن خالتك.
أحسست بأهميتي. يداي مطوقتان بقيد حديدي كأعتى المجرمين. رميت منفرداً في سجن الحرس. عقد الخوف لساني تساءلت ببلاهة: كيف تسربت من أيدي أهلي وأمام أعينهم في بيروت.
تعرفت في السجن على قافلة الموت. كانت مؤلفة من ثلاثة عشر افريقياً أسود. داخلني الخوف. انكمشت على بعضي بادئ بدء. كانوا مثل الليل. ظلام بظلام، وعتمة في عتمة. دفعت قدمي بالباب وأسندت ظهري إلى الحائط. ونمت كالقتيل.
تنبهت على بربرة غريبة من حارس سنغالي يحمل الفطور جبنة زيتون ومرملاد. قال بلكنة عربية مشوهة:
-مسلمان، الله محمد، ووضع يده على صدره احتراماً وردد:
-مسلمان:
-مسلمان.
قفزت الفرحة من عيني. ها هو بني آدم آخر قريب يتحرك أمامي بلحمه ودمه. سحبت قدمي من الكوة القصيرة المقضبة بحديد أسود.
لوحت بيدي وهتفت: -مسلمان.
طق مفتاح ثقيل بالقفل. أخرجني حارس إلى المهجع المقابل. خلصت بدني من الخوف. انتابني شعور مخدر وأنا أسير نحو رفاقٍ سجناء جدد، لعلهم هاربون من عذاب ما، من وطن محتل مثل وطني. بدأت يداي تلوحان، تترجمان بلغة الخرس. عجبت من رقتهم وليونتهم، حكيت قصتي من خلف القضبان، وحكوا قصتهم من خلف القضبان. كانت ألوانهم الأبنوسية السوداء اللماعة بداية الدرب الوعر الذي قادهم إلى الجلد والذل والسجن كنفايات أفرزها الإنسان الأبيض تحت شمسٍ محرقة.
الأسود في خدمة الأبيض، يدفع الأسود ضريبة لونه، لعله أخيراً يدرك أو لا يدرك بأن الحياة له إلا مع مجموعته. يعيش معهم ، ويفنى معهم.
كانت قافلة الموت أمامي أشبه بأيدٍ عارية مغلولة مبتهلة.
فهمت بصعوبة أن مأساتهم الأزلية تكمن في غنى أرضهم، وفقرهم ولونهم.
وفي ليلة قائظة حيث امتزج الدم بالغضب، قررت الكتيبة السوداء قتل كابتن انكليزي لأنه جلد رفيقهم بالسوط حتى الموت. وعندما اكتشف الأمر، انتقى الانكليز واحداً من كل كتيبة متطوعة لينفذ حكم الإعدام به رمياً بالرصاص انتقاماً وعبرة.
يسوق الحراس رفاقي السود إلى المحاكمة في السابعة صباحاً، ثم يعيدونهم كالغنم في الثانية عشرة. أربعة أيام متتالية دورت عيونهم كحبة المشمش وفرغت الدم من أبدانهم.
تنهد أبي، وطوى الرسالة. تعلقت عيناه لحظة بها، ثم ردد وكأن الغرفة خالية إلا من شبح أمي:
-نامي، نامي يا امرأة. الصباح رباح: عيدنا بمولد نبينا. ثم صاح وعيناه إلى السماء. اللهمّ إني صائم عن الطعام حتى يخرج سامي من السجن. بكينا حتى جف الدمع من عيوننا.
انزوت النسوة من بعد، كل في دارها يندبن حظ أمي العاثر. وشباب أخي.



يتبع
**********

 
انبلج النهار ساطعاً بشمس قوية نفضت كدر الأيام السابقة. خرج الناس إلى أعمالهم. فالأفواه مفتوحة، والغلاء يتفشى، والجوع يدخل البيوت المستورة بعد أن أضحت الإعاشة "بالبونات".
قامت مظاهرة ضخمة، كسرت نوافذ المدارس وأغلقت الدكاكين: جوعانين جوعانين رطل الخبز "بثلاثين قرشاً" ارتأى بعض من الوجهاء أن تتحمل الحارة جزءاً مادياً من مسؤولية حارة الفواخير الفقيرة المجاورة بعد اعتقال سبعة من شبانها وزجهم في سجن القلعة.
في تلك الأيام الصعبة دخلت أرجل غريبة إلى بيت كبير مهجور منذ سنوات يطل على خط الترام. جاءته عائلة مهاجرة من اسكندرون.
لم نر رجلاً واحداً من سكانه. بل ثلاث أجيرات يافعات قويات البدن تعاون مع عتالة على تفريغ الشاحنات الكبيرة المليئة بالخيرات من برغل وأرز وخوابي السمن البلدي، وتنكات الزيت في زمن الشح والاضرابات، وما هي إلا أسابيع حتى أسدلت الستائر المخملية على النوافذ وتم تنسيق الحديقة التي تفصل البيت عن الشارع بشتلات ورود ملونة. فجأة دبت الحياة فيه.
كان البيت كبيراً جداً طوابق ممتدة نحو الشمس بمستويات متدرجة داخلية على بساتين الحواكير.
ألف الناس منظر أقراص الكبب المدورة الشهية، ورائحة السمن البلدي تحملها الخادمتان صبيحة وصليحة على رأسيهما إلى الفرن. تنادي الحناجر مخنوقة: جوعانين جوعانين رطل الخبز بثلاثين. وتنهال الحجارة على نوافذ الترامواي من النقيفات والمقاليع المشغولة بأيدي الأمهات، على ساحة المرجة. انتقاماً من صاحبته فرنسا يشد الأطفال السنكة عن المسار الكهربائي. يتعلق الشباب بالرفراف وأصواتهم تلعلع:- حكم لصوص.. حكم لصوص خونة.
ترددت إشاعة بأن رب البيت المهاجر من اسكندرون سيصبح وزيراً للمالية. كان الوزير المرتقب طويلاً نحيلاً كعصا، ولكنه يملك عقلاً حسابياً وبناتٍ لا أجمل ولا أحلى.
تنبأت العائلات لهنّ بحظٍ يفلق الصخر.. ولم تمض أشهر قليلة حتى خطبت الجميلات إلى شبان أصلاء سلبوا أحلام كل فتاة في المهاجرين.
تبتسم الحياة لبناته، وتصبح الدنيا خادمة طيعة بين أيديهم. تقول أم مصطفى الأرمل:
-الحظ يجرّ الحظ. والفقر يجر الصئبان.
-جمال وكمال. ما شاء الله ترد أمي.
-أعوذ بالله. تنفض المرأة ثوبها عن صدرها.
فيما كنت، أنا وسامي نتلقى الصدمات المتلاحقة ازداد عادل ثقة واقتراباً من أبوي. أبدى صبراً وتنظيماً لحياته خططهما بفهم وتوازن.
أهدته أمي دون اخوته صندوقاً خشبياً أثرياً مصدفاً بنحو فني رائع. أغلقه بقفل نحاسي.
كثرت التكهنات حول ما يحتويه هذا الصندوق من أسرار يخشى عليها. استغل هشام وجود عادل بالحمام وكسر القفل مدفوعاً بفضول جهنمي. ماذا وجد؟
قصصاً، وروايات ورسائل مغفلة من الاسم والعنوان، وأقلاماً للرسم وصوراً مرسومة بالحبر الصيني لشخصيات معروفة شكلها على مزاجه، ورسماً مكبراً لسميرة فاتنة الحارة. فما كان منه إلا أن جمع الأوراق كلها ودفع بها إلى موقد الحمام. ساعتئذٍ بردت نيرانه.
خرج عادل متوهجاً كالجمر ينشف شعره الحليق عند الصدغين. فرأى المنظر.. الصندوق مفتوح، والأغراض مبعثرة. نفر الغضب من عينيه.
رد هشام متباهياً:
-لا أسرار في هذا البيت.
جُنّ عادل، خرج عن طوره لأول مرة في حياته هجم على أخيه يحاول خنقه. كيف يعتدي على حريته وملكيته؟ جره من رقبته، ألصقه بالأرض. لم يوقف الصراع سوى والدي الذي أطل وهو ينقر على النافذة. قال بحزم يفصل بينهما:
-فنجان قهوة يا هشام، تجرب عضلاتك مع أخيك. النادي الرياضي قريب. انحشرت بين الخزانة والجدار. صمت كل شيء إلا زفرات مكبوتة مهانة في صدر عادل.
ظفر هشام بشيء أسقط الحجاب عن الوجه الوقور الكتوم. ركضت ألملم بقايا مزق الأوراق المبعثرة.
ارتمى عادل على سريره محنقاً كحيوان ذبيح.
سارت الأمور داخل العائلة دون أحداث تذكر. لكن المدينة لم تهدأ، تأججت بالمظاهرات تدعو إلى حكم وطني لا يأتمر بأمر فرنسا.
لم تتغير دورة الحياة. تابعت خطها بزخمها الفوار. هي الأقوى. نجح عادل بالبكالوريا قسم الرياضيات.
يلذ لعادل صيفاً أم شتاءً،... عادة يومية.. أم يحمل كرسيه الخيزران ويتأبط كتابه ويجلس في رأس الحارة المشرفة على شوارع عده.. يقرأ ويتسلى بمراقبة الناس، وفي نيته المخبوءة أن يلمح فتاة أحلامه سميرة عائدة بباص الكلية يحمر وجهه، يغض الطرف إذ تمر مسرعة وتلقي التحية:
-مرحباً، عادل.
وتشاء الظروف السيئة أن تقع سميرة في غلطةٍ ترافقها مدى العمر. لمحها عادل مع شاب أسمر وسيم الطلعة في عربة يجرها حصانان. نزلت في مكان غير بعيد عن رؤياه قرب جادة الحواكير.. عادت منتشية لاهية تدندن نغماً شائعاً. لم يصدق عينيه، رفض الحقيقة. أحزنه ما رأى من فشل وتطلع نحو الغريب لم يتوقعه. طار صوابه دون وعي، لحق بالعربة. هجم على الشاب جره من نقرته تلوى الرجل بين يديه مباغتاً متملصاً. ركله عادل بقدمه على بطنه طرحه أرضاً. داس على رقبته وهو يصرخ:
-كلب حقير والله. لو رأيتك ثانية تُدردر ناحية الحارة لقلعت عينيك، لأعدمتك. والله أعدمك وأرميك مثل كلب في الشارع.
تجمع الناس. نفض عادل ثيابه، ونفض الغريب بنطاله. هرول أبو شاكر السمان، يتبعه جاره الحمصاني يوسف وهو يترنح من السكر:
-اتركه لي، دعه لي. أنا أربيه. يظن بنات الحارة داشرات. تبسم عادل، انتزع يوسف ضحكة من قلبه.
-شكراً يا يوسف، أنت قدها وقدود.



يتبع
***********

 
ضحك الناس وتفرق الجمع. نفخ عادل الهواء ثقيلاً من رئتيه. مسح أنفه من الدم. أحس بأن ضلعاً سقط من صدره. تضخم الخبر في الحارة وبين الجيران وسعى البعض إلى توسيع الفجوة فبنوا سداً منيعاً لالقاء بعده. تنبهت سميرة من غفلتها. حاولت استرضاءه واستعطافه واغراءه. عبثاً، باءت محاولاتها بالفشل. وأخيراً جربت الرسائل. وقع بعضها في يد رفيقتها سها القاطنة الجدار بالجدار، الباب بالباب، فأوصلت الأخيرة الأمانة إلى غير أهلها، غير مبالية بالنتائج الخطيرة.
تمرغت سمعة البنت بالوحل، وحرمت من المدرسة فبقيت حبيسة الدار تنتظر العريس الذي لم يأت أبداً.
مدح أبي ابنه أمام الرجال:
-ابني زكرد، لاقواد، يجب أن يفهم الجميع.
منحته "الزكردية" ثقة على ثقة، أضحى الفكر المخطط والمنظم لشؤون البيت، وزعيم شباب الحارة. يحرض على الإضراب، ويدعو إلى المظاهرات ضد الفرنسيين، ويقود بعضها: بل ويكتب المنشورات.
التقي ليلى أخت سها "لطيفة ظريفة، نسير إلى المدرسة، نشتري كعك الدبس والتماري تتبعني كظلي. دعتني إلى بيتها كي نستظهر قصيدة: لبلابة قالت لنجم مرة يا طول صبرك. حددت أمي الوقت اللازم والمسموح به.
-نصف ساعة، فهمت يا سلمى، لا أريد مشاكل مع المجنونة سها هذه خبيثة. لا تتورع عن أية دسيسة.
-أعرف ماما.
تحاصر سها عادل تنقل أخباراً ملفقة عن سميرة. طورتها إلى دسائس سخيفة وحقيرة بمساحات تافهة. يتلبسها شيطان يأبى الهزيمة. صفعها عادل مرة على وجهها صفعة أنستها عمرها، صرخ في رأسها:
-إياك أن تقتربي مني. مجنونة مهسترة. قضيت على سميرة. والآن تبحثين عن ضحية أخرى. أحب رائحة الياسمين في بيت ليلى. دخلت وراءها وجلة. نقزت سها عندما وقعت عيناها علي، قامت من سريرها، ولطمتني على خدي انتقاماً من أخي، وعادت إلى اضطجاعها تنتظر ردة فعلي كي تكمل نهمها إلى الشر.
شدتني ليلى من يدي هامسة:
-لا تردي عليها، مجنونة. سأشكوها إلى أمي.
اندست مع سها تحت اللحاف.. خادمة ممصوصة بلهاء هبطت من الضيعة مع أبيها الفقير بحثاً عن الخبز. فجأة راحت تقبل سها من وجهها وفمها، وتداعب ثدييها.
صرخت بشدة:
-يا مجنونة، سأحكي لأمك.
اهتز السرير هزات متسارعة، ثم همد أخبرت أمي بما رأيت فضربتني على فمي.
-ما دخلك؟
تنسى الحارة همومها. تهب ودودة تمديداً حميمية فرحة لتحضيرات العرس للفتى البكر إبراهيم بن رفعت الحموي. يرفل إبراهيم ذو الوجه الناعم الأنثوي بالدلال في حضن والده صاحب المكتب العقاري لبيع أراضي الغوطة الشرقية.
يلعب رفعت الحموي بالمال لعباً رغم أن جذوره على وجه الأرض. يتلاعب بحياة الفلاحين البسطاء، يتحكم برقابهم يبيع ويشتري ويؤجر ويضمن من يشاء. تدور همسات بين كبار الحارة حول حقيقة عمله. تظل الهمسات مكتومة ومكبوتة في الصدور ترمى عيون زوجته المخلصة الرائعة. تفلت أحياناً كلمات بين الرجال حول صداقة مشبوهة بناها مع حكومة الانتداب، واتكأ عليها وإلا كيف تخلص من السجن وأيدي الشرطة بعد صفقة الحشيش المهربة من بعلبك.
- الغاية تبرر الواسطة، يطعمها صغيرة، ويأكلها كبيرة، يعلق عادل:
- لكل شيء نهاية. يرد أبي متيقناً
تضيف والدتي:
- من أجل عيني أم إبراهيم أمد يدي إليها. مغلوبة على أمرها، مطيعة، مسايرة، ذكية، مقهورة، يحركها كيفما يشاء كقطعة أثاث
تجددت الحياة بنغم جديد ولون حديث. ودعنا الصمت والانطواء على ذواتنا. فردت الأقمشة الغالية عند الخياطة مسرة التي كلفت بملابس العروس عرض أبي بيته الكبير لتلبيس العريس، والزفة والعراضة. وكأنه تناسى قصة ابنه سامي.
همس هشام في أذن عادل:
- يا رجل ستأتي ناديا العريس مع فرقتها خصيصاً لعرس إبراهيم
- سمعت أن ملكة جاجاتي أيضاً قد تأتي... يا زلمة كيف تعرف عليهم واحدة إثر واحدة، وكأنه خلق في كاباريه؟
هيأتني أمي كي أحمل ذيل العروس، فاشتريت لي ثوباً من الأوركنزا البيضاء، تفننت الخياطة في إبراز موهبتها زينته بشريط من الساتان الزهري التف حول الكتفين العاريين لينسدل إلى الأرض. وأخذتني أمي إلى الحلاقة((ماري)). يقع بيتها على بعد خطوات من حارتنا. تطل غرفة تصفيف الشعر على الطريق العام حيث يمر الترام التقط دردشة النسوة المفرعات بملابس مكشوفة الصدر والأكمام. مشهد كرنفالي حقيقي شكلته لفائف التجعيد الملونة على رؤوسهن. من هذه الدكان تخطب معظم البنات. ويعرف المرء خفايا ودقائق الحياة الزوجية وحتى العامة، والاضرابات. وبين الحين والحين تقطب الحلاقة((ماري)) عينيها، وتعض على شفتيها محذرة من أم مصطفى.
- الحيطان لها آذان.
كانت أم مصطفى راديو الحارة الجوال من بيت إلى بيت.
حشرتُ مع الأخريات في الجو الخانق، ورائحة الشعر المحروق المكوي تثير الدمع في عيني. قطعت أمي حديثها مع جارتها، مدت يدها ببكلة على شكل زهرة المرغريت اشترتها من صالة((آ- ب، ث))
- جدائل يا ست ماري. الفرق على اليسار. رجاء، موديل يناسب سنها، أنت صاحبة ذوق يا ست ماري.
- على عيني، ولوْ، تغمز الحلاقة بعينيها الكحيلتين. ويبين((الروميل)) كثيفاً على أهدابها القصيرة.
في السادسة. علقت أم إبراهيم بيدي، ويد ليلى، وناديا سلة أزهار صغيرة مليئة بالملبس. ربطت بشرائطها أرباع ليرات ذهبية حقيقية لتنثر على العروس والعريس. تعيد كلامها مع أمي.
- العروس، صورة مصورة يا أم هشام، سبحان من خلقها. من عائلة مستورة، عجينة لينة، عرس مطنطن.
- يا ليت يا أم إبراهيم، واللّه عتم قلبنا
تلألأت العروس ابنة الرابعة عشرة بتاج ماسي رصع جبينها الأبيض، تهادت أميرة بثوب الدانتيل الأبيض كشف عن كتفين مستديرين ورص على خصر نحيل زنار طرز باللؤلؤ والماس.
جلست مع رفيقاتي عند قدمي العروسين. انكبت المدعوات على الأرض يلتقطن قطع الذهب المرشوشة تيمناً بالأفراح الدائمة.
تلوب عينا العريس بين الصبايا تتنزهان بحرية.
وشوشت أم هيثم:
- حظ، انحرف الحظ عن بنت العائلة. هاقد شارفت ابنتها جميلة على الثالثة عشرة ولما تتزوج بعد.



يتبع
***********

 
رجعت الحياة إلى طبيعتها. عشش حديث العرس في السهرات، حديثاً لا نهاية له عن الآبهة والحرير الذي غلف الأعمدة في الديار وفوتيكات مستأجرات قدّمن الضيافة بلباقة وخبرة وحسن تصرف.
لم ينس الناس طعم الحلوى والمحلاية عندما مزّق الصراخ المرير هدأة الليل.
تيبسنا في أسرتنا، تعلقت عيوننا ببعضنا، تسرق آذاننا مصدر الصوت.
- خير إنشاء اللّه، نّحى والدي أمي التي اعترضت دربه وخرج يستطلع الأمر:
- أبو سعيد، شنق نفسه في الضيعة، الحكي كثير
استدار نحو أخوتي: فضيحة إثر فضيحة:
- البلاء الأعظم، انتبهوا يا أولاد ملأت الشرطة الحارة، تستجوب ما هب ودب من الجيران. لا حول ولا قوة بدأت تنهار الحارة. تحركت أشباح النساء إلى بيت الميت يضربن كفاً بكف:
- يا حسرة عليك يا أم سعيد، واللّه بنت أكابر، من فم ساكت. جرت أم مصطفى جسدها البدين الملفوف بعباءة سوداء نحو أمي بدت كغراب أسود جاحظ العينين.
- يا ستي، الولد سعيد عاق، علق فلاحة وتركها حبلى مرمية في بيت أهلها، الولد لا شغل ولا عمل، على كلمة هات، وذبح خرفان، افتضح أمره، طار صواب الأب وفقد عقله.
عقبت أمي سريعاً:
- فشنق نفسه، حرام عليك يا أم مصطفى من أين جئت بهذه الحكايا، المجالس بأماناتها.
ارتمت أم سعيد على الديوان المخملي معقودة اللسان هادئة تحت وطأة المفاجأة.
صوت الرجال:
- الفرح مثل العزاء يحتاج إلى قلوب حنونة.
- ترحيل الميت إكرامه. نبر أبو فايز
فرش موت أبي سعيد عتمة على القلوب. فمن عرس إلى موت كبرت فيه النميمة. مات. وظل السر سراً مدفوناً في صدر القتيل.
تستعيد الحارة صحتها. أشرف العيد على الأبواب وحجزت صاجات المعمول من الأفران. ارتخت الحياة مجدداً بعد نقلتين متناقضتين.
عاد أبي وإخوتي من صلاة العيد. دفع أجير الخباز معجن الخبز النحاسي إلى قلب الدهليز الطويل. فاحت رائحته الزكية ممزوجة بالمحلب والمسكة.
بح صوت غريب خشن.
- يا اللّه
- تفضل. تفضل
ركضت أمي متلهفة تحمل كأس ماء الزهر، قبلت يد الضيف الكبير الذي تضمخ بالبخور والمسك والعنبر، تراجفت نحو الباب احتراماً وصاحت بصوت دافئ:
يا أولاد، زارنا النبي... الشيخ أحمد في دارنا. غيروا ملابسكم البسوا ثياب العيد. وتعالوا.
عبقت رائحة البخور في الصالة الكبيرة. انبعثت فاغمة من ملابس الشيخ أحمد. تسمرت حائرة أمام هيمنة شيخ جليل على هيبة أبي اقتربت منه. مدّ لي يده مشجعاً. تحولت عنها إلى رأسه رفعت عنه الطاقية البيضاء شغل الإبرة، ووضعتها على رأسي. درت متباهية. شدني هشام من جديلتي وصاح بي:
- هات الطاقية. استح أمام الشيخ أحمد، ما عاد فيك حياء. لن تكبري. روحي حضري الطعام مع الوالدة. رميت الطاقية على الأرض وهربت.
سكنت خاطري جاذبية الأراجيح التي تنصب في ساحة الحارة.
وهبت رائحة السينما رائعة رطبة فتحت أبوابها أمامي.
- مدت ليلى رأسها. شعرها مجعد مكوي تدلت من رقبتها سلسلة ذهبية تعلقتها سمكة
- سمكة؟ أمسكتها مهتاجة بكلتا يدي. لعبطت بين أصابعي.
وقف هشام يتأمل ليلى. جسد عبل مرصوص بنضارة الصبا. تلوت بدلال ورمقته بنظرة أنثوية خارقة لكل براءة. نظرة صريحة مغناج.
قالت: سنذهب إلى الأرجوحة. ثم إلى السينما فيلم حلو كتير((ليلى بنت الفقراء)) بالروكسي.
- وحدكما؟ سأل هشام:
رد عادل من الداخل:
- أنا.... معهم موجود.
- نحن صغار، أجابت بصيغة الجمع.
قهقهة عادل واقترب من الباب. سرقت عيناه زري الورد في صدر ليلى. نبر ممازحاً على غير المألوف.
- كبرت واللّه يا ليلى، البارحة كنت صغيرة. وأحملك على كتفي.
لحقت أمي بنا:
- يا بنت، لا أريد مشاكل. الأرجوحة قربنا، لا تذهبا إلى الجسر الأبيض.
- طيب، طيب. طرنا، قفزنا، لهونا، أصبحنا فراشتين بيضاوين. تعبنا. داهمتني أحلام اليقظة في طريقنا إلى السينما. رقة حديث الممثل. همساته الناعمة. أحسست برعشة لذيذة وددت لو طالت.
عينا صبي مراهق رافقا زهوي. أتعثر به يومياً في طريقي إلى المدرسة. ها هو قربي يبتسم، يدير ظهره ويمشي على الرصيف المقابل. يرفع يده مسلما
لم يجرؤ على الكلام معي. كان قصيراً لا بل كان معتدلاً. شعره خرنوبي، وعينه -ربما- زرقاوان، خضراوان أرى ألقهما من بعيد. وأنا بدوري ما كنت أقوى على رد سلامه، وأنا المفعمة بخوف ضبابي من الجنس الآخر يلاحقني كظلي حتى أصبح طيفي الحقيقي.
- كبرت يا سلمى، أضاف عمي العائد من قرية السنابل على حدود الجولان يهيئ صفقة مع تجار الميدان لبيع القمح. يحمل في تقاطيعه فحولة الرجل الجبلي الهارب من سهوب باردة. يخرش صوته الأجش مسمعي.
كان عجيباً في شكله. غريب السمات، لا هو بالعربي، ولا بالأجنبي. يحمل فوق عينيه المكحولتين حاجبين أسودين كثيفين يميزان شكله عن بقية إخوته الشقر.
يداه كبيرتان سرعان ما تتحولان إلى أنامل سحرية تحكي حباً، لهفة، إذا أمسك العود.
كان العود هدية أبي لأمي عندما تزوجا، جاءها وقتذاك بمعلم تركي الأصل اسمه((شوقي بك)) أكبر عازف كمان في دمشق. وعندما درجت أصابعها على أوتاره، وحفظت أنغام الحجاز كار، والنهوند ورقصة((ستي))، كر الأولاد من بطنها واحداً إثر واحد، حتى قضوا على موهبتها.
تردد في صفائها:
- ينعصر قلبي كلما سمعت رنة العود فأبكي.
ربما رضعت هذه الحساسية منذ كنت نطفة في رحمها. أحببت الموسيقى هاجسي الغرامافون الأسود. مسحورة أمامه. كيف يخرج الصوت من جوفه نقياً رائعاً. حفظت معظم الأسطوانات.((كلنا يحب القمر، أراك عصي الدمع، يا جارة الوادي، أحببت شنشنة، جفنه علم الغزل)) اللحن راقص والكلمات جميلة. كم اسطوانة شطبت وجهها بقلة درايتي؛ من بعد حرمت الاقتراب من الغرامافون.
في يوم كنت مع الغرامافون رن جرس الباب خبأت الأسطوانات، وأقفلت الحاكي. أطلت ((باهية خانم)):
- أمك موجودة يا سلمى.
- لا. عند طبيب الأسنان. تفضلي
رفعت الغطاء الأسود عن وجهها لتجفف العرق. بان طرف خدها. جلد أبيض معجون بالأحمر. مجعد مثنى شتر الفم نحو الأذن حتى نبقت أسنانها. تراجعت.
- يا ربي.
- خفت مني يا سلمى. ردَّت الغطاء على الجانب المشوه ببساطة.
كيف لماذا؟ وقفت مبهوتة أتأمل ملامحها.
- رمى شاب متعصب ماء الفضة على وجهي. حرقني، رآني سافرة عن وجهي.
بدا النصف السليم آية بالجمال جعلني مشدوهة.
تلبست مظهر صاحبة البيت، الترحاب ذاته، الابتسامة العريضة ذاتها. راقبتني المرأة الضيفة وابتسمت.
- صرت صبية يا سلمى، إيه الأيام. العم يسري كأني أرى أمك تتحرك أمامي. مجدو كبر أيضاً. بعد سنة يقدم البكالورية الأولى قسم الفلسفة. وبعدئذٍ يدخل كلية الحقوق ليصبح محامياً.
نقزت في مكاني، محامي، أنا أكره كل محام بعد صبري أفندي زوج أختي لأنه يقبض على أسرار النسوة ويدفع بهن إلى أحضانه.
- مجدو يا سلمى حلو. ليس طائشاً مثل أخيه فائز. لطيف، أخلاقه عالية.
فهمت التلميح والترميز، قرفصت وانتشلت اسطوانة من الخزانة ندهت، يا حظي، كركت((أم فائز)) ومجت من سيكارة الخانم ذات الفم الأحمر. صدح صوت عبد الوهاب((جفنه علم الغزل))
غلى الدم في عروقي. تدفق دفء حار إلى أوردتي، فاندفعت أتلوى على النغم الراقص. تلاحقني صفقة باهية خانم المشجعة
- لك يا حبيبتي، هات بوسة
انتهت الأغنية. سربلني الخجل ندمت، لم رقصت أمامها؟ لا.. أنا رقصت للأغنية لحلم لم أعرفه، لآمال تركزت حول كلمة عابرة عن الرجل. لملمت أشلائي المبعثرة بين الأرض والغرامافون، وركنت جسدي في كرسي أصغي إلى كلمات الإطراء.
ذاع خبر ليونة جسدي، ورقتي بين النسوة في الاستقبال، سرعان ما نقلنه إلى الأبناء، فاندلق الخطاب علي، بدأت لعبة فصارت حقيقة، تحتم علي أن أخضع لسماجة بعضهن وأناقة ألفاظهن، راجيات كي أقف أمامهن ولو مرة واحدة. دفعت الثمن فادحاً ضريبة فظيعة تتنافى مع كبريائي. مكثت في البيت، ورفضت الظهور أمام أي كائن كان.
تدللني أمي بثياب جديدة. جاءت بالخياطة إلى البيت واشترت أقمشة جميلة.
- ست مادلين، قطبة عند الخصر، وأخرى عند الكتف. افتحي القبة قليلاً. لابأس. الكم فوق الكوع. لا. لا يرضى أبوها.


يتبع
********
 
تنكب ست مادلين على ماكينة الخياطة دون أن ترفع رأسها إلا عندما تفصل وتقيس. أثناءها ترشف القهوة. حتى إذا اندفع الغداء بأريج الأطعمة الزكية((غسلت يديها متأنقة)) وجلست تمضغ الطعام بصمت. لعلها ملّت هذه المهنة القاسية، لعلها شعرت بوطأة العمل الذي يكسر ظهرها يومياً وهي تنتقل من بيت إلى بيت حاملة((الكاتلوجات)) في محفظة يدها السوداء الكبيرة. تنهال عليها كلمات الإطراء عندما يصبح الثوب جاهزاً. فستان وسترة وتنورة في يوم واحد. تلف المئة ليرة، وتضعها في عبها. تسكن عينيها نظرة امتنان.
تغادرنا قبل المغرب لتلحق فتطبخ لأولادها.
أكبر بسرعة. تدلك أمي خدي العاجيين بقليل من الحمرة الجافة.
- سلمى عندنا ضيوف أسرعي. ارتدي ثوبك البنفسجي. فهمت. هصرت خصري بالزنار الأسود الجلدي اللماع. برز نهداي مذعورين شددت قامتي، ودخلت بصينية القهوة. جلست قريبة من الباب أراقب عيني المرأة الفاحصتين، وأتجاهل غمزة أمي المتكررة تدعوني كي أخرج. لذت لي ملاحظة الضيفة بدت دقيقة القد. قدماها صغيرتان رقيقتان محشورتان بحذاء ذي كعب عالٍ. بانت أشد نحولاً أشبه بمراهقة عندما خلعت معطفها البني. تدلى من عنقها عقد لؤلؤي ثمين وسلسلة عريضة بطرفها ليرة ذهبية. يوحي مظهرها بالبحبوحة.
ظلت عيناها معلقتين بوجهي وهي تشكو كساد السوق وعدم إقبال الناس على الشراء. ردت أمي:
- لا تؤاخذيني بهذه الكلمة. التجار هم الكاسبون دوماً في الحرب والسلم. ما صدقنا أننا خرجنا من الحرب الثانية حتى فتحوا علينا أزمات واضرابات جديدة لن يتركونا بسلام. معلوم، أرض فلسطين خصبة، زيتون وبيارات برتقال. بلاد خير وجبل من ذهب في السعودية. الإنكليز دهاة الإنكليز بلوانا.
هزت الخاطبة رأسها. لم يعجبها الحديث.
- مفهوم.... مفهوم. ولكن...
لضمت المرأة الكلمة دون تصريح.
تساءلت:
- ترى ما عساها تريد أن تقول. أن تحكي بالسياسة؟ أم تريد أن توهمنا بأنها تدري ما لا ندري حتى لا تطلب أمي ثمن حقي نصف الألف.
سألت الضيفة بلطف:
- عملت شراب التوت هذه السنة؟
- عندي شراب السنة، صنعته بنفسي. تذوقيه ثم احكمي. سلمى شاطرة
- لا تعذبيها، فحت المرأة
غادرت الصالة مرغمة، ليس في مقدوري الرفض. إكرام الضيف من شعائر العائلة.
أرخيت السلم الخشبي من علاقته الحديدية في الجدار وركنته. صعدت إلى السقيفة متلهفة إلى إنهاء المهمة. تناولت قنينة واحدة من الرف وعدت. وضعت قدمي على أول درجة. لم أدر كيف انزلق تحتي، وهويت على الأرض أنا والقنينة. اندفعت المرأتان إثر الخبطة إلى المطبخ، وفجأة فرّت الخاطبة. بقيت أنا مطروحة لا أقوى على التنفس. قال مصور الأشعة الدكتور منذر:
- رضة قوية في الأضلاع.
فقدت القدرة على الضحك، والبكاء مدة أسبوعين. أغلقنا الباب ريثما أستعيد صحتي.
تقفز طموحاتي درجتين، درجتين، أهي فورة المراهقة، أم ثورة الانطلاق من الطفولة إلى الأنوثة الكاملة؟ أسمع تمزق الأغشية في جسدي. أسمع هسيسها في الليل فيما أضع رأسي على الوسادة. تقلقني. تسرق أمني، تجعلني أفكر بالألم الذي بدأ يدب في بدني يجب أن أخبر أمي:
- ما هذا الوجع؟ أنا مريضة؟
ترد متضاحكة صارمة:
- كل البنات يتوجعن في مثل سنك؟ تظل أسئلتي معلقة دون أجوبة يقتلها الحياء. سرعان ما أكتشف أجوبتها بنفسي. يكبر رأسمالي يوماً إثر يوم في عالم نماذجه غنية مذهلة.
اقتربت الامتحانات ولما تجف دمعة أمي على فراق سامي
يدخل هشام البيت ملكاً، ليخرج وزيراً. ترف أهداب(عربية) رفات مذعورة إذ تراه. يصرخ:
- عربية فنجان قهوة.... حضرت الأكل؟
تقترب منه. تمسح حذاءه الأسود اللماع. يمد قدمه متباهياً أمام إخوته. هي تخشاه ولا تخشاه.
أمي من جهتها لاهية عنه بعشيرتها، تزداد مشاكلها الصحية تعقيداً تحت وطأة الحزن. تسرح أفكارها خلف ابنها الشمس المهاجرة إلى افريقيا وخلف سامي السجين، وخلف أختي(مها) التي استكانت إلى حياة تعيسة مع صبري أفندي حين قبض عليها عصفورة صغيرة، وعصرها حتى لا ترجو انفلاتاً.
انتفخ بطن عربية، دفعتها أمي مداعبة من كتفيها
- سمنانة يا ضربانة. أطبقت البنت شفتيها وانتحبت عند قدميها. رفعت رأسها وقد ازداد نحيبها. ستي ستي، أنا غلطت استروني انتفضت أمي فجأة، جلست، نهضت. لا تصدق. فضيحة جديدة انهالت فوق البيت.- يا رب يا رب. رفعت أمي يديها إلى السماء تستمطرها الرحمة، والستر المقيم على المظلومين الغائبين. أمسكت مسبحتها البيضاء من حبات اللؤلؤ، وراحت تركع وتصلي وتبكي الفضيحة القادمة. عندما حبك الليل أوى كل إلى سريره تسللت أمي...
حملت القرآن الكريم من محفظته المطرزة بالقصب والترتر، وأدنته بخشوع من وجه أبي المورد بجمر المنقل النحاسي.
- أبو هشام. احلف بالكتاب الكريم أن تحفظ السر وتجد له مخرجاً.
صاح بها وقد تولاه الغضب واربد وجهه:
- هل جننت يا امرأة. أنا أحلف على القرآن، ولِمَ؟
لم يكن بد من إفلات الحقيقة الرهيبة:
- عربية عربية حامل.
انتفض كمن لسعته أفعى. حددّ نظرته يطرد كابوساً مفزعاً. رمق وجه أمي المرتعش مكذباً، انكمشت داخل ثيابها، قام مهتاجاً، ضرب الباب المغلق على الخادمة، رفعها من شعرها كريشة، ثم رماها على الأرض.
- كلبة. قولي الصدق، واللّه أذبحك إن لم تقولي الصدق.
- اذبحني، اذبحني يا سيدي، أنت أهون من أخي ومن أهلي.



يتبع
***********

 
من هو، انبسي.
نشج صوت مقهور:
- سيدي هشام
- هشام، ابني هشام يبول في دلوي. واللّه قتْلك وقتله حلال في هذه الأيام الفضيلة، يا سواد وجهي من حالي ومن أهلك، ماذا أقول لهم تفضلوا ابنتكم حامل، انظري إلي.. حلفت لأبيك بشاربي هذين بأن أرعاك مثل ابنتي، دار على نفسه كثور هاج في طاحون، هرعنا كلنا من أسرتنا...
فهمنا الكارثة على الفور اقتربت أمنا منه متخاذلة.
- نحسبه من أولادنا يا رجل.
- اسكتي أنت، وهي، وهي ماذا نقول للغريب والقريب؟
سقط الجبار على الديوان خائراً ثائراً، غطى عينيه بكفه، فسالت منه قطرات ناصعة كالندى تشجعت أمي إزاء ضعفه، فاقتربت منه، ومسحت على شعره أسلم رأسه إلى صدرها.
وقفت على مبعدة يا إلهي، عاد طفلاً، هذا الجبار الذي يهز الأرض تحت قدميه، يعترف بالخيبة، وأمامي.
هزت الكارثة أركان البيت العريق، جللته بسواد أشد سواداً من اعتقال سامي، رفع الراديو الخشبي الضخم من غرفة الجلوس ومنعت أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب ومنيرة المهدية، وحل شجار يومي بين الوالدين العاشقين هدد بالانفصال.
هرب هشام إلى بيت عمته منذ اللحظة الأولى.
انفرجت الغيمة قليلاً عندما عاد الشيخ أحمد بعد أسبوعين تفوح من ثيابه رائحة البخور الفاغمة، وخلفه هشام، أمسك يدي عربية وهشام، وقرأ الجميع الفاتحة، لم توزع الحلوى ولا الملبس ظلت أمي تبكي حظ ابنها البكر وارتدت الأسود.
أحس هشام بالقيد الملفوف على عنقه، فالتحق طالباً بالكلية الحربية في حمص ومرت الأزمة الخانقة مليئة بالغم واليأس والخجل.
غير أن القفزة السريعة التي أدتها عربية دون تمهيد دفعتها إلى التمرد الدنيء على تقاليد البيت غير مبالية بالحزن الذي لفه، ولا بنظرات الجيران إلى بطنها المنفوخة. صارت تمشي متباهية كبطة سمينة نفضت جناحيها من الماء. رمت الشغل كله على كتف أمي. ها قد أصبحت زوجة لابن الشريف الكبير. من يقاربها؟
وقعت أمنا فريسة ضغط الدم.
زارنا الطبيب زهدي مرات ثم أعياه مرضها. فوصف لها العلق خلف أذنيها عله يخفف من الخطر. ارتمى العلق متورماً بالدم على منشفة بيضاء لفت حول رقبتها.
لعب القدر في تحرير هشام من قيد حديدي ربطه بعربية. وخرج من الوضع النفسي السيء الخطر خاوي اليدين. ولدت عربية ابناً ميتاً زاد من حزننا في الوقت الذي فرَّج عن قلوبنا ونفوسنا.. فما هي سوى أيام حتى رمى أخي الطلاق عليها الذي عمق في نفسي نفوراً منه مشوباً باحتقار خفي.



يتبع

********

 
وصلتنا أوراق مهربة من سامي.
أهلي
فاض الشوق بي. بت كالزيز يئز ويدور حول نفسه، ثم يضرب رأسه بالجدار. جافاني النوم. أغزل أفكاري حول نفسي والمساجين. نسيت حالي ونسيت عائلتي. اقتحمت المهجع أرطب خاطرهم. قرأت لهم سوراً من جزء عمَّ وسورة ياسين والفاتحة. رددوها معي. ظلت عيونهم الخائفة متشبثة بالسماء تستجدي الرحمة. ولكن عبئاً فقد أحكمت الأنشوطة حول أعناقهم، أعناقنا، هل أصدق أذني، أأنا واهم، أم مجنون، سمعت أصواتكم تحت نافذة الزنزانة. قفزت أحاول رؤيتكم، لم أفلح فرحت أبكي. ضربت رأسي بالحائط. رآني السنغالي. دخل. أمسك قدمي ورفعني إلى النافذة، إلى الطاقة المعلقة في السماء. صرخت:
- ماما، بابا، خالتي، سمعت صوت خالتي يلعلع كالرصاص يقطعه نشيح أمي الباكية:
- لن أعود قبل أن أراه.
هل أنا واهم، اختلطت الآهات بالكلمات، ولكني متأكد من وجه شيخ أسود الشعر ملتح يتكلم الإنكليزي تذكرت سحنته. كانت لرجل لمحته في مكتب التطوع تملأ الخواتم الزمردية والياقوت أصابعه العشرة. وقفت أترنح كالسكران ناداني صفير خافت من الزنزانة المقابلة من خلال القضبان، رأيت الوجوه السوداء تلمع بدموع مغلوبة مقهورة ذليلة. تعانق أيديهم المستحيل. فهمت المصير القاتم الذي يفتح شدقيه لالتهامهم ربما التهامي غداً أو بعد غد.
مضت ساعة دقت أقدام عسكرية رتيبة قاسية على أرضية الزنزانة، وانتصبت قامات عملاقة مروعة في الضوء الباهت.
مشى الضعفاء طائعين أمامهم. أكتافهم متهدلة، رؤوسهم المجعدة منكسة كرايات مهزومة. كانوا الوقود العبرة الذي لملم من كل كتيبة ثأراً للضابط الإنكليزي.
لم يمض وقت كبير حتى دوت ثلاث عشرة طلقة. نظرت إلى ثيابهم المكومة في الزوايا وعلى الأرض. اقشعر بدني. انكمشت هلعاً هالني صوت الرصاص صرت أدور على نفسي كالمهووس أبكي مصيرهم. بل مصيري من يدري، أجل، ممكن، قد ألحق بهم غداً أو بعد غد.
فجأة دفع الباب عليّ بشدة. هبط قلبي.. وقف حارس أبيض فوق رأسي آمراً:
- خذ أغراضك، هيا هيا بسرعة.
وجدتني في محطة القطار التي شهدت حريتي أول مرة وأنا أغادر مصر إلى سوريا. كان الطريق إلى الحرية قصيراً جداً. أعادوني إلى الإسماعيلية ثم إلى قطعتي. ومنها إلى السجن قيد المحاكمة. جرجرة مهينة. عينت المحكمة الكابتن جورج محامياً للدفاع عني.
أحبكم جميعاً. أقبل أيدي ماما وبابا.... سامحوني
ما إن أنهى أبي تلاوة الرسالة التي وصلت متأخرة حتى جاءتنا البشارة سريعاً بأن سامي أصبح في سجن القلعة بدمشق. وقع أبي على محضر طويل في مخفر الشرطة ربطت به حيثيات الحكم، وأعاد سامي إلى البيت.
وقف سامي كالقطة المبلولة قرب الباب. حليق الشعر نحيل الجسم في ملابس عسكرية فضفاضة تخب قدماه في بسطار كبير. درنا حوله تلمسناه بأيدينا. وشممناه من رقبته وكتفيه البارزتين. تنحنح بدا خجلاً من ملابسه الوسخة. وربما من رائحة العرق. استند إلى الجدار ورمى الحقيبة عن ظهره ما إن أدار نظره فينا حتى دبت الحرارة في جسمه المنهك نفض عنه لحظة الذهول، وارتمى على صدر أمي يبكي بحرقة مثل طفل، جعل يبكي وينشج.
ضمته أمي بحرارة تمسح دموعه. ويمسح دموعها
حسم عادل الموقف العاطفي باحترام حقيقي لمشاعر أخيه.
- صار رجلاً، كفى دلالاً يا أمي.
تبادر إلى ذهن أمنا الطعام. يجب أن يأكل ويستعيد عافيته. انسحبت مرغمة وبقينا مسمرين إلى فمه ننتهز فرصة غياب الوالدة في المطبخ فقد ذابت كشمعة في الآونة الأخيرة.
- أي سامي نبر أبي بنفاد صبر فرحاً بعودة ابنه. اتكأ على مسند فوق الديوان المفروش بسجادة شرقية.
- رائحتي قاتلة. أغسل بدني وأعود إليكم. أجاب:
صرخنا بصوت واحد: لا، لا...
تدفق صوت سامي واهناً:
((عندما صدر علي الحكم بالسجن المخفف نظراً لصغر سني رحت أحفر الأيام بأظافري على الجدار إذا ما انسحب الليل وهاجمه الصباح. وصلتني دراهم أبي عن طريق ابن العشا متعهد الطرق لدى الإنكليز. فطلبت مذياعاً صغيراً تقاسمت سماعه مع الحارس الكونغولي. ازداد الضغط على السجناء المساكين. سمعت بأذني أصوات التعذيب الخارقة لكل معاني الرحمة.
عرفت ومن معي بما لا يدركه الشك بأن الجيش الإنكليزي في تدهور وتراجع. لازمني سوء الحظ في الفترة العصيبة لاندحارهم وتقهقر الجيش الثامن حتى أبواب الإسكندرية. بل قيل ذلك حتى((مرسي مطروح)).
تهب الأخبار مثل زوبعة مداً وجزراً، تقلباً وهدوءاً، حيال أي تقدم أو تقهقر، في هذه الأثناء تغيرت القيادة الإنكليزية، قبض عليها الرجل الحديدي((مونتغمري)) رص الصفوف، أعاد تنظيم الجيش الثامن، نفخ فيه روحاً عسكرية حديثة، دعمتها الإمدادات الأمريكية عبر البحر.
هكذا استسلمت إيطاليا، وانسحب الحليف الألماني الجنرال رومل إلى الصحراء وتبدلت القيادة الألمانية أيضاً، أدى الاختلاف بين القيادتين المتدربتين مع فن الحرب في الصحراء إلى هزيمة نكراء ساعدت الحلفاء على تطويق الجيش الألماني.
- يا حرام على مصر، يا حرام على مصر يا حرام عليك يا مصر أم الدنيا. ردد سامي وضرب جبينه بكفه.
وقفت الدنيا على رأسها. عمت المجاعة مصر كلها وتسلطت الأوبئة على الشعب المسكين البسيط، فمن نجا من الكوليرا سقط فريسة مرض الزهري والطاعون الأسود حتى ملأت رائحة الموت الخياشيم، ودخلت الزنزانات المغلقة، وشوارع القاهرة رحل العديد من المساجين السود حمدت ربي أني داخل القضبان أثناء تلك القتامة التي محت الحياة حولي وحتى الشمس اللاهبة التي باتت كئيبة باهتة، كانت الأنباء شاهد عصر على قسوة الحرب الضروس التي جرت الشعوب الضعيفة ومصر إلى حافة الهاوية. حرقت الجثث أو طحنت بجنازير الدبابات الثقيلة. باعت الحرة طفلها، والصبية جسدها وغزت همجية القرون الوسطى شوارع القاهرة تتاجر بالرقيق الأبيض مقابل لقمة العيش.
أنباء رهيبة كانت تصلنا. تعلمت كيف أكره الإنكليز، فلا الجيش جيشنا، ولا اللغة لغتنا.
سألني المدعي العام:
- ما الذي دفعك إلى صفوفهم؟
أجبت:
- أحببت رؤية مصر.
استغرب المدعي العام قولي. نظر إلي بدهشة كمن يعاين مجنوناً..
- تدخل الجيش فقط ليأخذوك إلى مصر؟
- نعم سيدي..
تأكد عند ذلك من سذاجتي أن يكن من جنوني.
في اليوم السابع من محاكمتي المرهقة. ثارت علي أسناني. تفجر رأسي من الألم: ولم أقو على تركيز مخي، جروني إلى عيادة طبيب يهودي اسمه((صموئيل)) كان يهودياً قذراً بلا قلب. أدخل الكلابة في فمي وخلع لي ضرسين سليمين دون مخدر. صحت من الألم ورفسته بالبسطار على وجهه. أعادوني إلى الزنزانة لم يتوقف النزيف كدت أختنق بالدم وعندما رآني الحارس رثى لحالي وأشفق علي... أخبر الشرطة العسكرية. نقلوني إلى المستشفى وخاطوا الجرح الذي لم يندمل.
كانت فترة المستشفى وقلع الضرسين، ومرارة الألم فترة راحة واستحمام لي. لم تلبث أن انتهت سريعاً، فقد أعادوني إلى المحكمة مثل كلب أجرب وقرأوا علي التهمة التي تلخصت كالتالي:
- الهروب من الحرب بالسلاح الكامل.
- كنت بحاجة إلى إنسان من أهلي ووطني. فرغم قسوة الموقف ظلت ذاكرتي تعيدني إلى دمشق. احتل هذا الحلم ذهني. كان الأمل الذي يمدني بالشجاعة والصبر.
أعادوني إلى القاضي، للمرة الأخيرة سألني:
- العمر
- ستة عشر عاماً
حدق في الأوراق، ثم أدخل يده في درج المكتب وأخرج ورقة كان قد زورها عيّاد ليصبح العمر ثمانية عشر عاماً. ثم أخرج الوثيقة الأصلية التي جاء بها الشيخ العميل من دمشق، وقارن بين الاثنتين.
قال القاضي عاقد الحاجبين مع ظل ابتسامة بصوت مهيب بعد معاينة استنطاقي الأسبق:
- أهذه تذكرتك؟
أجبت: نعم.
- تكلم، كيف تطوعت بالجيش.. جيش بريطانيا العظمى.
عدت أؤكد ونظري إلى الأرض:
- أحببت أن أرى مصر، لا علاقة لي بالإنكليز ولا بالحرب. ترجم رجل وقف إلى جانبي. كان بديناً ذا وجنتين منتفختين ونظارتين هبطتا إلى أرنبة أنفه.
ضحك الحاضرون بصوت عال. تقبلت نتيجة المحاكمة بفرح عارم. حكم علي بالسجن مدة أسبوعين مع تسريح من الجيش لصغر سني.
ظل موضوع غلاء الخبر يؤرق الناس في حياتهم اليومية وبات الهم اليومي الذي يقض مضاجعهم، ويلون سهراتهم بقصص العوز والتقتير.
خرجت من البيت المجاور المرأة الليبية التي كانت تودع حليها عندنا إثر كل يمين طلاق يطلقه زوجها. كانت تحمل حقيبة ملابس واحدة. وتجر ثلاث بنات ذاهلات عن المصير خلفها. فتحت أمي الباب راجية إياها أن تخزي الشيطان ريثما يتم الصلح بينها وبين زوجها:
- الصباح رباح يا أم نادية.
- لا، لن أعود إليه، واللّه لن يرى ظفري بعد اليوم.
همدت الأصوات نهائياً في المنزل. ثم تغير شيء حولنا. دخل الحارة طنبر خشبي يجره حصان أصهب.
توقف أمام بيت أم ناديا المهجور

يتبع

 
أنزل العتال أثاثاً ملفوفاً بعناية، وآلات معدنية كبيرة حديثة، وكرسياً دواراً تناوله رجل مخضب الشعر في الخمسين من عمره. علّق الرجل قطعة نحاسية مستطيلة على الباب. حفر عليها: كامل السمان طبيب أسنان وجراح.
تلهّت الحارة بالزوار الجدد، وأغمضت عينيها عن رجل غريبة دبت لعملاق ضخم الجثة تفوح من فمه رائحة عجيبة ذات أبخرة واخزة، يرتدي قنبازاً مفتوحاً كالحاً وشالاً يضمه حول وسطه بزنار جلدي عتيق. يأتينا كل يوم.. يترنح في مشيته يمنة ويسرة إلى أن يصل إلى دكة ترابية يجلس قرب برميل القمامة القلاب. ثم يخرج رغيف خبز التقطه من الفرن ويقضمه على مهل. تدفع قذارة شكله وشعره الطويل اللزج الأولاد إلى الضحك والسخرية منه، وأحياناً إلى ضربة بالحجارة وشد الزنار ينفلش القنباز المهترئ عن بدن عار في عز الشتاء.
يلكزه خبيث:
- حميدو، أين كنت البارحة؟ لا تخجل، قل، قل.
وينط آخر:
- اعترف لك حشاش.
ترف عينا حميدو الزائغتان بحثاً عن معين. لا يجد. يعود ساهماً تائهاً في جلسته.
- حميدو.. إبك.. أين بيتك؟. حميدو ارقص.
يترنح حميدو ثقيلاً، يدب بخوف مبهم. يدور دورتين ثم يقع على الأرض.
- شوفوا المجنون. حميدو، غني يا وابور اجري، حميدو ابكي.
يمسح حميدو عينيه. تهر منهما دمعتان حقيقيتان. يبحث عن عود ثقاب، يمد يده مستنجداً. ويضربه الصبي هيثم، يدوس حسن على قدمه يبقى حميدو ضعيفاً حتى الموت.
حشاش، حشاش يخرب بيتك، ما وجدت غير هذه الحارة حتى توسخها... أمامك القميم في العفيف، هناك تستطيع أن تحشش على مهلك. سلطان زمانك. يا اللّه انقلع. يميل الغريب على جنبيه ويعود في اليوم التالي أشد إلحاحاً على جلسته مترنحاً مهاناً لا واعياً. كل ما تعرفه الحارة عنه. أنه خرج من السجن حشاشاً اتهمه زوج أمه بالسرقة. طرده من البيت، وسلمه إلى الشرطة.
تنبعث من عيادة الطبيب(كامل السمان) أغنية يومية أسيانة بصوت(لور دكاش) الرخيم الصداح. أغنية واحدة لا تتغير وكأنها أبدية. (آمنت باللّه. نور جمالك آية، آية من اللّه. آمنت باللّه).
ألفت في عودتي من المدرسة ظهراً رؤية امرأة تركية شقراء الشعر تلف شعرها المنسق الأملس بشبكة سوداء ناعمة تعقصه على شكل قلب فوق الجبين العالي.
كانت قصيرة القامة، بنظرة نبيلة تنبئ عن ماض عريق. ترتدي طقماً أسود يطل من قبته الرسمية قميص أحمر. تنتعل في قدميها حذاء من الفلين السميك. تهرول خلفها امرأة سوداء لا تحاذيها أبداً، ولا تكلمها فقط تتبعها كظلها.
يطغى النداء الدافئ من حنجرة(لور دكاش) على أزيز الآلة المرعبة لنخر الأسنان. يتلصص الأولاد من ثقوب الخص الخشبية المتقابلة. يدفعهم فضول ما إلى فعل ذلك لا يدري أحد كنهه. فعل صبياني محرم على الكبار ومباح للصغار.
تصمت الآلة. لا ينير الضوء الخافت الغرفة، بل يسهم في تهييج الخيال، يتبادل الأشقياء الكلام.
- أين يده، قدمه، فمه... ولكن هي، أين هي؟
تظل الخادمة جالسة وحيدة في الردهة. صنم قُدَّ من أبنوس قديم. تلف سيكارة وتدخن بصمت لاهية عن العالم. أتراها جالسة معها مجرد حماية.. أم ماذا؟
تخرج المرأة التركية. تمشي فتتبعها المرأة الأخرى. تتكرر اللقاءات. وتكبر الإشاعات. وتتأجج الغيرة الحمقاء في الصدور.
لابد من كبش فداء يبرد الدم يجب أن يسيل الدم حاراً قانياً كي يغسل أعتاب الحارة من رجس الشيطان. ولكن متى. لابد من توقيت.

يتلمظ الرجال حسرة كلما تهادت التركية. عيناها دائمتا النظر إلى الأمام. لا مباليتان بالخطوات المتلصصة التي تتبعها.
فيما كانت الحمية تدفعها المروءة تثور لتدمر، وتحطم، وتقتل، وتذبح باسم الشرف، انتهت اللقاءات العاطفية بصمت، دون دم بعد أن غادر الطبيب الحارة تلقائياً. جمع حوائجه وغاب.
حلّ محله طبيب نفسي جلب فرنسية جميلة معه. شهق الرجال وغمغمت النسوة حسرة:
- أجنبية!
تظل النساء حاضرات غائبات مكبلات حتى العظم، هي في الشورت الأبيض وهن بالمانطو الأسود.
تنقر شكواهن آذان الأزواج بلا ثمرة. صب حضورها برداً على القلوب المتعصبين جميعاً. فما عادوا يتذمرون من رائحة الخمر ولا صوت الموسيقا الضاجة في الليل. ولا من نباح الكلب الرابض خلف الباب. ارتخت مفاصلهم كما ارتخت معارضتهم لجارهم(كريم) صاحب الأراضي الواسعة في الغوطة عندما جاء بطفلة بنت أشهر ورماها بين أيدي أخواته العانسات قائلاً:
يتيمة الأبوين سجلوها تحت اسم فريدة العبد اللّه
لم تتجزأ واحدة على فتح فمها عن أصلها، وكيف جاءت. من أبوها؟
فجرت البنت اللقيطة عاطفة الأمومة المكنونة في صدورهن.
- التربية غالية. قالت جدة رفيقتي المتهالكة على الحياة.
هذه ابنة كريم ولا يعترف بها خوف الفضيحة. يا لطيف اقطع يدي إن لم تكن من صلبه. رغم القيل والقال والهمسات قبلتها الحارة. تسللت رخاوة إلى عيني أبي الصقريتين. نادى عربية التي فقدت ولدها وظلت مقيدة بنا وقفت واجفة القلب.
- نعم سيدي.
- إذا كان في ودك أن تتركينا وتذهبي إلى أهلك فأنا أوصلك بيدي. ربما تجدين ابن الحلال الذي يسترك في الضيعة. أطرقت المسكينة برأسها إلى الأرض وانهمرت دموعها.
- يا سيدي. الموت معكم أرحم. أين أذهب من عيون أهلي؟
سكت محزوناً، وهز رأسه مستغفراً ربه، ودعاه في سره.
ظل الفقر والجوع الهم اليومي للناس. جابت مصفحات إنكليزية شوارع دمشق لمدة أربعة أيام كي ترغم الفرنسيين على الانسحاب.... رمى جنودها البسكويت والعلكة للأولاد وفرقوا الطحين الزيرو على الأفران... وعندما انسحبوا.... عاد الخبز الأسمر إلى موائد الشوام وعمر التشاؤم قلوبهم.
علق أحدهم: حكم لصوص أنذال.
عيد الجلاء!
استيقظت دمشق على فرحة كاسحة... فرغت الدنيا من جيوش الاحتلال الفرنسية. لأول مرة تتحرر البلاد بعد أربعمئة سنة حكم عثماني وثلاثين سنة حكم فرنسي..
فرح ووجوه باسمة، وآمال تعمر الصدور.... اللّه أكبر.
قال أبي متحمساً:
- هل نقوى على تحمل هذا الفرح يتفجر في الصدور. في ودي لو أضم الناس جميعاً بذراعين خالصتين من البغضاء، هل يمكن للمرء الذي فتح عينيه على المظالم والإضرابات والمظاهرات والغلاء والقتلى والشهداء أن ينسى هذا اليوم؟ عيد الجلاء.
لابد أن الكبار فهموا معنى عيد الجلاء أكثر منا نحن الصغار عشنا عيداً ملوناً لا يماثله عيد في العالم على كثرة الأعياد. هبت الحارات والأخيار، والكبير والصغير هبة واحدة وقلب واحد للاحتفال بعيد الجلاء. ذبحت الخرفان ووزعت الهدايا والحلوى. وارتفعت الزينات. غناء موسيقى حماسية مذيعون يتناوبون.... ضجيج وفرح... من قبة السيار في آخر خط المهاجرين إلى الشيخ محي الدين... ومن سوق ساروجة إلى سوق الحمدية. وباب الجابية والسويقة إلى القصاع وباب توما، وحيّ الأمين. سجاد على الجدران مشاعل الكشافة ليلة العيد لمبات كهربائية متصالبة على النوافذ والشرفات. أسهم نارية ملأت السماء عيون ساهرة تنتظر الغد. السابع عشر من نيسان عيد الجلاء تاريخ جديد لنضال مرير منذ هجوم التتر وحتى آخر فرنسي.
مضينا في الصباح رجالاً ونساءً وأطفالاً وشباباً وشيبا إلى شارع بيروت تتفجر رغبة الحياة الحرة من مآقينا. أصبحت سوريا جمهورية عربية مستقلة رئيسها شكري القوتلي.
صرخ عادل من السرادق:
- تعيش سورية، يالدمشق العظيمة... افرحي لشهدائك لقتلاك.
علق أبي:
- الآن جاء دور الشباب. نحن عملنا واجبنا دوركم يا أولاد



يتبع

***********

 
لعل غرابة وتنوع نماذج النساء التي تعثرت بها، ورأيتها قربي خاضعة لتعليمات اجتماعية صارمة أثرت بعمق في مشاعري، كل شيء في الناس كان مشوهاً... حتى تصرفات أمي واخوتي البنات حين كان الأمر يتعلق بالتقاليد والعادات والأعراف السائدة... خنوع وملل ورتابة عيش.
شكلنا أنا ورفيقتي((نورس)) ثنائياً جيداً في الصف. جمعنا تطلع نحو الثابت في المجتمع... الوطن، الفكرة، الثورة... أما المتحول فيجب أن تكون التقاليد البالية المتوارثة.
كانت نورس مرجعاً في قواعد اللغة العربية، وكنت أنا بأجنحتي المفرودة دوماً نحو الريح كتلة مشاعر وأحاسيس لا تنضب. أقرأ بين السطور وأستوعب وأعب من ثروة المفردات.
ذات صباح. تمسحت بي زميلة في الصف اسمها((سوسن)) يموج على كتفيها شعر أسود طويل مفرق بجديلتين، ويرتسم على شفتيها الدقيقتين خط من الزغب الأسود الواضح فوق بشرة بيضاء. رفت أهدابها الوطفاء على عينين واسعتين ذئبيتين.
نبرت هامسة: سلمى تحملين سراً؟
حدجتها بنظرة قاسية أرخت يدها عن كمي.
- شوفي، معي رسالة غرام.
تراجعت خجلة.
- لا تخافي... لي
- مجنونة، لو سمعتك الموجهة. فضيحة، ثم طرد.
- خذي اقرئيها، وغداً ترجعينها. موافقة؟ دستها في جيبي.
كنت أرتعش خوفاً، ماذا لو وقعت في يد أخي؟ هل يصدقني؟
تركتني أتخبط بحيرة واجمة ساخرة على نحوٍ صبياني، وهربت.
أحدث نفسي:
- هذه البنت النصف رجل تجد فتى أحلامها، وتقع في الحب ياللمهزلة.
اشتريت من دكان صغيرة على ناصية حارة الرئيس مجلة الاثنين واحدى روايات ارسين لوبين وخبأتهما بين كتبي.
أحببت هذه المغامرة الصغيرة، كبرت تطلعاتي. سئمت الكتب التاريخية الوصفية، والكتب الصفراء في مكتبة أبي واجتهادها الذي توقف وبحثت عن الممنوع والمجهول واللامألوف الصعب. يضيق رأسي بحمل أفكاري كما تضيق ملابسي وتنبئ بتغيرات فيزيولوجية تقلقني وتفرحني. استدار الكتفان والردفان تحت الخصر النحيل وامتلأ النهدان ضراوة.
غلفت سوسن تقربها المفاجئ مني أمام التلميذات بمجلة، ضمنتها رسالة زهرية اللون كتبت بخط جميل.
هذه هي الثانية تلمع عيناها إذ تحكي.
- هل تصدقين يا سلمى، يعبدني، يعبدني، يقبلني قبلات طويلة حارة. ويضغط على ثديي بقوة فأطير من النشوة اللذيذة أخشى أن أغيب عن الوعي بين يديه. يريد أن يأكلني.
- وأهلك؟
- في غرفة الجلوس.. آخر اطمئنان. سلمى إذا هبت رياحك فاغتنميها. لا تكوني غبية.
- صرت مثقفة يا سوسن. منذ متى؟
دبكت بقدمها:
- لو رأيته يا سلمى. لو رأيته. رجل ناضج كامل مثقف موشى الشعر بخيوط من فضة. نظارتان على أنف معتدل، وفم مدلوق ذقن مبرومة. يداه، يداه يداه. كم أحب يديه تمتصان قوتي، تهدّان مقاومتي...
لم أسمع بقية حديثها، رحت أتخيل شكل العاشق المتيم الذي يكتب الأشعار ولا تفهمها. رسمت للعاشق صوراً شتى. لم تنطبق أي منها على من أعرف.
قلت لها:
- وما دوري أنا... أنا بالذات؟
- أنت شاطرة بالعربي، أنت ثقتي، أرجوك ساعديني، كلماته كبيرة علي ما رأيك لو كتبت جواباً باسمي. أنا كسلانة بالعربي.
انحنت وقبلت يدي بذل.
خامرني شعور خبيث. لم لا أتلاعب بعواطفها، وأساومها على تقبيل قدمي ثمن كل رسالة أخطها.
ضحكتُ من أفكاري الجهنمية، وطمأنتها:
- طيب، طيب. أشوف.
حبست نفسي في الحمام وقرأت. كانت أشعاراً حقيقية، وتشابيه صعبة وتراكيب معقدة أرفع من مستوانا المدرسي في الصف الثامن. فالكلمات جميلة حارقة تقطر جوى وشكوى. تبنيتها، اعتبرتها ملكاً خاصاً بي وحدي. مددت بيني وبين الشاعر خيوطاً حريرية خلقتها كلمات عاطفية.
انكب على رسالة((سوسن)) مشوقة إلى تفريغ شحنة الصبا في بدني التي تتوق إلى الانفجار. كبسني شوقي إلى ولوج حياتها الخاصة.
وقّعت سوسن حذره بالحرف الأول من اسمها في ذيل الرسالة المزينة بقلوب حمراء. ثم رسمت قلباً يقطر دماً.
- اللعينة!
تابعتها وضحكت منها، وعندما مررت لسانها على الظرف شعرت بهول تهوري. تساءلت"
- لم أزج نفسي في لعبة خطرة. لماذا أغمس أصابعي في أهواء فتاة تتلمظ شهوة وأحلاماً بالتحرر من ربقة العذربة كما تدعي. دون أي شعور بالمسؤولية.
سرقت مداراة الأعراف سكينتي.
- هل أقوى يوماً على التسلل إلى أحضان فتى أحلامي. وأقف أمامه عارية لا يسترنا سوى الظلام كما تفعل((سوسن)) يومياً بعد أن يأوي أبواها إلى فراشهما.
تبادلني النظرات في يوم آخر، أفهم. مزيداً من الرسائل ولكني لن أقبل أن أكون الثانية بعد أن تقرأ الرسالة أولاً. عرضت شروطاً مليئة بالابتزاز:
- أفتح الرسائل أولاً.
انصاعت مرغمة.
أحسستني تعيسة للشر الذي تفجر في أعماقي، والغيرة التي تأكلني فجأة.
- أمجرد احتكاك بسيط مع أناي الداخلية تحولت إلى لا((إنسانة)). أمدتني بالرسائل على نحو منتظم، صباح كل سبت. تعلقت بها وعصرت قلبي قطرة قطرة. وسوسن سعيدة لاهية ناعمة بالحب، تجول يدا حبيبها حرتين في ثناياها جسدها اللاهب. تحكي لي بسذاجة بريئة عن مداعباته، وعن ابن الجيران الذي يلاحقها ويقرصها من فخذها. وأستاذ الإنكليزي الذي يلمس شعرها بأنامله. ولم تتطرق أبداً إلى الرسائل.
ذات حين دعتني إلى بيتها كي نشرب الشاي، ونستمع إلى اسطوانة((مجدلينا)) الراقصة.
وهناك مع فنجان الشاي التقيته. مشهد مضحك هرب من فيلم مصري. ابتسم ابتسامة عريضة مغرية دبقة.
- آنسة سلمى. أخمن؟
أجبته بابتسامة عريضة مماثلة.
تسلقت عيناه شفتي. تعلقتا بفمي. ثم درجتا على وجهي ويدي وجسدي. قرأت اللعب في عيني رجل مخادع شبق مجرب.
دخلت((سوسن)) بالقهوة. رشفت من فنجاني رشفة ساخنة. ورشف من فنجانه رشفة. وبلمحة بدل الفنجانين، وبهدوء تام أشعل سيجارة((بافرا)) وراح يدخنها على مهل، ويتأملني من خلال الضباب الكثيف، تجاهلت حركته الصبيانية التي لا تليق بسنواته الخمس والثلاثين. كسر الصمت. قال ممازحاً:
- حكت لي سوسن عنك... قالت إنك تحبين كتابة الرسائل. ثبت عينيه في مؤق عيني. فاجأني بكلامه. خسرت اللعبة. كشفني ببساطة. ياللغبية التي لا تؤتمن على سر)).
- لا. لا أحب، أجبت غاضبة.
تناولت محفظتي وهرولت نحو الباب. رفعت يدي مودعة.
- عندكم درس خاص.



يتبع

**********

 
تنتقل سوسن متباهية كفراشة من جميل إلى أجمل ومن طالب إلى أستاذ ومن ابن مدينة إلى ابن ريف، تمسك بتلابيبهم وتزحلقهم. يمر أسبوع تملّهم واحداً إثر واحد. حتى فاحت رائحة نتنة وامتلأ بطنها، وعلى باب المدرسة ناولها طالب طب ثلاث رصاصات ثأراً لكرامته. خطفت الروح من بدنها وقضت على مستقبله، ثم أسلم نفسه للشرطة.
كنت قد كتبت قصة سوسن على مزاجي الخاص، ودفعتها إلى حافة الموت بسكين حادة. عندما قتلت شعرت بأني مدانة ومشاركة في تلك الجريمة بنحوٍ أو بآخر. عفت الطعام والنوم، وكرهت نفسي، ذبحتني القفزة القاتلة التي قامت بها. تساءلت:
- ترى لو أهملت طلبها أما كان الأفضل؟ ظلت جثتها الملطخة بالدماء المرمية تحت الأقدام ماثلة في مخيلتي ورافقتني سنوات طويلة زرعت الهلع في قلبي.
تلونت الأيام بعد أربع سنوات من الاستقلال فقط. تحولت من زهر إلى رمادي، ومن رمادي إلى أسود حسب الظروف والأهواء السياسية التي أطلت فجأة على حياة الشوام، برز وجه عسكري ينادي بتغيرات اجتماعية مظهرية مثل الغاء الطربوش والشروال. وحمل الدعوة أزلام مُتكسّبون داروا بها على منافيخ الحارات.
قال أبو عجاج الحمصاني الذي ارتدى البدلة الرسمية لأول مرة في حياته بصوت مسموع:
- معلوم يا أخي... بدنا رجال تحارب بفلسطين، هذا رد على هزائم فلسطين. همس زكردي في أذنه وفي يده خيزرانة رفيعة:
- أسلحة فرنسية وصورة الزعيم على السبطانات، هكذا سمعت ما شاء اللّه وكان!
- حبيبي هذا رجال وليس ديكاً كما أقول لك. كان في السجن، سجنته فرنسا. اتفق على شراء أسلحة متطورة. رفع دعوى على الحكومة الفرنسية وطالب بأوسمته.
طارت طابة من خرق قماشية ملفوفة على واجهة أبي عجاج فكسرت الزجاج.
خرج أبو عجاج من دكانه مهتاجاً غاضباً.
- لك أين هو... وينه الكلب، ابن الكلب.
هرب الولد وتخبأ في زاروب ضيق وصرخ مناكداً:
- أبو عجاج... حسني بك يا عزنا! بسرعة غيرت؟
لم تهدأ الحكايا. ذعر الناس حين استيقظوا صباحاً على أجساد محكومة تتدلى من حبال المشنقة في ساحة المرجة، فأغلقوا أبوابهم تحسباً من مفاجآت تالية، وما هي إلا ليال من شهور ستة من الأحداث المتسارعة الدامية في سوريا ولبنان حتى انفجر الوضع الجديد ولمّا يثبت أركانه. دخل عادل مهتاجاً مضطرباً إلى البيت:
- انقلاب جديد... انتبهوا كتيبة مصفحة تجوب شوارع المدينة. لا تخرجوا من الدار. أنت سامي، وأنت سلمى....
- خير إنشاء اللّه؟ سأل سامي...
- مشروع سوريا الكبرى... رد على تحرشات إسرائيل في الظاهر والباطن بعلم اللّه...
وقعنا في هم المفاجآت. مرة من انقطاع الكهرباء. ومرة من انقطاع مياه الفيجة. وباتت الأضواء الخافتة بالألوان النيلية على النوافذ تنذر بالشؤم وتُؤرّث الخوف.
فيما كانت الشام تتطلع إلى تثبيت الحلم الديمقراطي عبر مجلس نيابي أمين على مقدراتها ويوسع نواة الأحزاب الوطنية من خلال الطلاب والمثقفين من خلال الأساتذة الذين عادوا من أوروبا بعدما نهلوا من العلم والخبرة، وتشبعوا بالأفكار التحررية، تعرفت وتعمقت علاقتي بالفنان التشكيلي أحمد.
كان شاباً حنطياً حاد التقاطيع معبأً بذخيرة ديناميكية من الجدية، كتلة أعصاب مكهربة.
لفّه خيالي، وحفظته أحلامي، وراقبه زهوي. اندفعت خلفه بقوة كهرطيسية لاهية عن احتمالات التقول.
تابعت نشاطه، أقرأ ما يكتب في الفن والفكر أستذكر بيني وبين نفسي ما يكتب في الصحف المحلية من تعليق، فاجأتني تقاطيعه الحادة منذ اللقاء الأول فيما استقرت عيناه على وجهي. بت أترصد خطواته: محاضرة في جمعية الفنون، ومعرض في صالة الفن الحديث، تعليق في الندوة الثقافية، ومنتدى سكينة، والنادي العربي. كنت واحدة بين حاضرات وحاضرين.
وقفت، يوماً بينهم صغيرة مترددة أسأله، وما عساي أن أسأله وأنا لم أتجاوز الكفاءة.
همستُ بصوت خافت خجل كلمات مبهورة حول كتاب أصدره عبد السلام. ابتسم. تعلق شيء ما بيننا.
سأل عن سبب اهتمامي بهذا الكاتب بالذات. كشفتني رعشات شفتي ويدي. لملم أفكاري المبعثرة بلطف حول أسلوب المؤلف، كان رأيه أن المعنى المحرض يجب أن يستلم الريادة بعيداً عن الإسهاب والتفاصيل السطحية.
بعد أيام، أخذ يمدني بمواعيد المحاضرات صابراً على غيابي في أحيان. أدمنت على لقائه وأنا خائفة، أخذته انشغالاته بعيداً عني، بات أسير المقالة اليومية والمطابع التي تفتح فاهاً كالغول.
أحمد يعرض وينشر تعليقات ساخرة، تعج بالمرارة والضحك، تثير نقمة الحكومة الانقلابية الجديدة تكبر حلقته يدعو إلى تكتل الفنانين في نقابة تصونهم وتحمي حقوقهم. فن واقعي يعالج الأمور الراهنة ويضم اليميني واليساري في عصبة متحررة من أي ارتباط خارجي قد يشوه اسمها لا لدكتاتورية الحزب الواحد متمثلاً بحركة التحرير التي عمت دعايتها الدوائر والجامعة، والمدارس والأسواق
كانت الحركة غائمة الأهداف، طافية على السطح في الهواء الطلق لا جذور شعبية. لها بعيدة عن البنى التحتية لخصتها جريدة((الإنشاء)) بعناوين من مثل:
- حركة الفترة وليس التحرير فقط
- ضم عدد ضخم من الأصوات
- شعارات حرة لشعب حر
- المستقبل: الروح والجسد
لكن الحكم كان في واد والشعب في واد.. جاء حين تفجرت فيه العواطف المكبوتة. أعلن عن إضراب عام في الجامعة، انضمت إليه ثانويات التجهيز للبنين والبنات، وأغلقت المدارس بعد تحطيم النوافذ بالحجارة، خرجت أعداد كبيرة من الطلاب بمظاهرة تدعو إلى إسقاط الدكتاتورية.
لاحقت المباحث المنظمين فسقط عديدون في حبائلها كما سقط عادل في فخ الاعتقال، كشفت الواجهة الديمقراطية عن وجهها الكاذب.
ظل انتماء أخي عادل السياسي سراً خافياً علينا.
اشتد أوار الصدام بين العسكر والأهالي، وامتلأت سجون القلعة والشيخ حسن والمزة بالمقابل. ظل أحمد على خطه اليساري يقاوم بضراوة إغراءات الوزارة المعروضة عليه، يئس المتكسبون من احتوائه فسُّرح من سلك التعليم ومن الصحيفة، ووضع تحت الإقامة الجبرية في البيت.
طال غياب عادل عنا، رحنا نعد الأيام ننتظر خطواته، أرقنا القلق وأرثته أخبار التعذيب. أدخلت التمنيات الطيبة من الأصحاب والجيران خناجرها في حلوقنا لتنكأ جراحنا كلما حاولنا تضميدها، وكأننا غسلنا أيدينا من جثة ميت.
أخيراً، خرج أخي عادل من السجن صدر عفو عام عن بعض المعتقلين لعدم توفر الأدلة.
عاد نصف حي يجر جسماً نحيلاً يابساً.
فتحت أمي عينيها من غيبوبة السكري الذي أكل عافيتها.
- رجع عادل. همس سامي في أذنها. وأمسك كفيها النحيلين مطمئناً. صدر عفو عنه.
دخل عادل عليها وأخذ يمرغ وجهه بيديها... نفر الدمع من مآقينا.
خفف نجاحي في الكفاءة بعض الآلام التي ركبتنا تماثلت أمي نحو الشفاء وتجلست في سريرها النحاسي الأصفر.. هاقد عادت الضحكة إلى عينيها الكابيتين.
داعبتها بقولي:
- ماما تتلامح أمامي الجامعة. سنة وهوب يا جامعة... ساعتئذ ماذا أفعل.. احزري، ماذا أفعل. وقفزت فوق سريرها وضممتها تبسمت بوهن.
أرنو حالمة حزينة إلى ما كان ملكي قبل أن ينبشه هشام على نحو مباحثي من بين طيات ملابسي الداخلية. هتك سر مذكراتي، ومزق قصة الحب التي كتبتها عن سوسن. ففقدت مع ثورته الذكورية أهم أفكاري.
عادت العصفورة التي قضمت القضبان بأسنانها إلى العش مهيضة الجناح منتوفة الريش لتلتقط من الحب ما يسمح به.
سقى اللّه أيام الجمعيات الأدبية الذهبية والمنتديات الثقافية. هاجت بي الأشواق بعيداً عن الحزن. كتبت قصيدة بعنوان: ((إلى فنان)). أرسلتها متفائلة إلى صحيفة الفيحاء وانتظرت حتى مللت وعيل صبري.
وفجأة بعد أيام طويلة ظهر اسمي إلى النور.
تلفنت إلى أحمد، وسألته رأيه متوجسة.
رد بلا نفس:
- أثارت أعصابي. أثارتني
شعرت بخجل من تعليقه. لضمت الإهانة
- أنت لا تحب ما أكتب. يعني أن أكف عن الكتابة. أنسحب بشرف... لم لا تصفعني على خدي؟
- اكتبي: ولكن لا تتركي عواطفك مكشوفة متداولة و...




يتبع
******
 
أفهم من ترميزك أنها سيئة. قلها بصراحة.
- على هذا النحو نعم. اخرجي من ذاتك إلى الآخرين، إلى الناس.
انطويت على قهرٍ قاسٍ. فمزقت أوراقي التي سودتها وكبرت معي.
- رميتها في موقد الحمام بملء إرادتي. واتخذت قراراً بأن أترك المدرسة وأعيش حياة دعة أسوة ببنات الحارة انتظر العريس. بكيت طوال الليل. لاحظت أمي احمرار الجفنين وطفحاً خفيفاً على وجهي. نادتني:
- سلمى، ما هذه، حساسية على جلدك. على وجهك. يجب أن يراك الدكتور.
- وجهي، ركضت إلى المرآة. تلمست حبيبات حمراء منتفخة بشعة شوهت بشرتي. وكأنها جدري الماء.
هجمت على الطعام بشكل مرضي، لم أجد تفسيراً لذاك الاضطراب الجسماني وزيادة الإفرازات.
- هل كنت أعاقب نفسي؟ لا يمكن. شيئاً فشيئاً استرجعت صوابي وتوازني. فهمت بأن الصدمة التي أكلتها ضرورية، وأنها انعطافة جادة لابد منها في مسيرتي الفنية. إن أردت المتابعة.
تشبث الهوى بي، وتشبثت به. اصطلي بناره.. عاجزة عن رد وهجه. عدت مكبلة مزعزعة أقتل غيرتي التي أججتها فتاة سمراء نحيلة القد طويلة القامة كصبي أعجف تلبسها فكر يساري غائم ومضطرب تسللت إلى مخدعه ليلاً. نقلت الخبر ابنة خالته المكبوتة على رغبة الحب.
تغيرت الأحوال السياسية بعد الانقلاب الأخير، صدر عفو عن أحمد. بحث مجدداً عن صحيفة أخرى تتبنى أفكاره. عاد فشدد من لهجته ضد الدكتاتورية التي خلقتها الانقلابات منذ أن بدأها بطلها((حسني الزعيم)) وما جرته على البلد من ويلات وتمزيق نفسي وخلقي أدى إلى عدم الاستقرار وفقدان الثقة بين الأخ وأخيه. نسي الرسم واللوحات والمعارض وما عاد يعبأ بانزلاق فنان تشكيلي نحو الإفلاس.
تناوب أحمد حسب سياسة الصحيفة على كتابة الافتتاحية مع كاتب يميني اتضح أنه داعية حزب الشعب، يتعارضان ثم يلتقيان في مطالب أهمها:
حرية التعبير، تعدد الأحزاب، نظام ديمقراطي سليم.
لفتت لهجة المقالات النقدية اهتمام الناس فأقبلوا على شراء الصحيفة. هكذا رجع أحمد بعد لأي مرير إلى تثبيت أقدامه في عالم الصحافة.
تدخل عادل الرجل الثاني في البيت في مسيرة حياتي. أقنع أبوي بنقلي إلى الثانوية الأدبية حيث عين أستاذاً للرياضيات فيها. تحظى المدرسة بسمعة جيدة ومستوى رفيع باللغة الإنكليزية.
كان في نيته أن يبعدني عن أحلامي التي شم رائحتها عشية سمعني أكلم أحمد بالهاتف. لم يجابهني. ولم يسألني. تركني مع مواجهة نفسية ومحاسبة مميتة بدت أقسى من السوط على جلدي والقهر في ضميري. وفي حالٍ من التأهب المضني لسؤال أو جواب قد يأتي.
لم يسعني الرفض. برزت أمام نقلي إلى مدرسة أخرى مشاكل عدة:
- قالت أمي: المدرسة بعيدة عن المهاجرين والأقساط غالية، تشكل عبئاً جديداً على العائلة.
ذلل عادل العثرات جميعاً:
- أنا المسؤول:
تغير نمط حياتي. فمن جو متزمت خانق إلى تباسط ومناقشة وحرية في التعبير وصدام في الآراء حول التاريخ والحكم ونظام الحكم.
صرت أستيقظ مبكرة قبل موعدي السابق بساعة. يرافقني أخي، نركب الترام ونهبط في بوابة الصالحية، ثم نمشي في الحي الضيق المضموم على دخانه وروائح الطعام الزكية وهذا ما أغضب والدتي. وبعد أيام تراخى الحبل الذي لف حول عنقي حين ملّ أخي مرافقتي وحررني من رقابة عاتية.
أخذت بالجو الجديد. طال دربنا أم قصر أنا وأحمد، بتنا نلتقي يومياً. تترافق خطواتنا مشياً متوازناً. هو على رصيف، وأنا على رصيف نضحك على منظرنا. ثم نجده جميلاً في ظروف بلدنا.
فاجأتني أنظمة المدرسة غير العادية برسالة فكرية تبشيرية حزبية حول مشروع((سوريا الكبرى)) تطرح منطلقاتها في الصفوف مع الأساتذة والتلميذات وتتداول البنات صحيفة يومية تحمل شعارات الحزب السوري.
في الباحة لمحتني معلمة اللغة العربية الآتية من الجامعة الأمريكية في بيروت.
- سلمى، أملنا كبير في نشاطك وحيويتك. أتوسم فيك مستقبلاً مشرقاً. سرني إطراء الأستاذة هيفاء. حسبت كلامها مسايرة بوصفي أخت عادل الشريف الذي ذاعت موهبته بالرياضيات.
سارت الأمور بعد لأي سيراً طبيعياً. توثقت صلتي بها. وصلتها بي. كانت المدرسة قصراً بديعاً أثرياً ذا طابع شامي. هندسة معمارية مدروسة، واسعة فسيحة بساحة كبيرة مشجرة بالكباد والنارنج والليمون تشقها سلالم حجرية ملونة ضيقة تؤدي إلى متاهات الغرف الكثيرة في الطابق الثاني والثالث المشرعة للشمس.
في درس التاريخ وجه الأستاذ ميشيل حديثه بنحو غير متوقع، قال في جملة ما قال:
- ليست المرأة شفة تتلمظ، ولا جسداً يتلوى. هي من تكون كالملكة سمير أميس.
- الملكة سمير أميس؟ سألت مهتاجة:
- أجل، سمير أميس ملكة حكى عنها التاريخ الملكة الأسطورية لبلاد آشور وبابل. تنسب التقاليد إليها تأسيس مدينة بابل وحدائقها المعلقة تمجيداً لشجاعة زوجها الملك نينوس.
- يا اللّه. تنهدت.
أضاف وكأنه يلقي درساً في التاريخ
في عام 1748 كتب عنها((فولتير)) مسرحية تراجيدية، وقبله عالج الموضوع ذاته كريبّيون.
تدخلت ابنة المدير زميلة الصف:
- أستاذ، لا تنسى أوبرا روسيني التي وضع موسيقاها بافتتاحية رائعة عام/ 1825 .
علق مبتسماً راضياً:
- ابتعدنا عن الدرس.
- ماذا يعني.
- تساءلت دهشة.
قبل الانصراف. نادتني المعلمة((هيفاء))
- سلمى، أنت مدعوة إلى الشاي في بيت المدير هنا في المدرسة، انتظريني في الباحة.
تلكأت مترددة... ولكن..
- لن تتأخري. ستتعرفين على زميلات من كافة الصفوف.
دفعني الفضول إلى قبول الدعوة.
رأيت وجوهاً مألوفة. جلست المعلمة هيفاء قرب النافذة في زاوية مهملة تراقب مدى انسجامنا مع ما نسمع تتلاعبني أفكار شتى تحملني إلى صباح عطلة فيه رن الجرس في بيتنا. فتحت الباب. وقفت قامة فارعة بوجه متطاول أسمر وعيني واسعتين كحيلتين. خلفها بانت فتاة قصيرة بدينة، ابتسمتا في وجهي. نبرت الطويلة متعجلة.
- جئنا من قبل أحمد. أنا نائلة أدرس في كلية الحقوق. ورفيقتي أسماء من اللاذقية. تدرس العلوم.
تنحيت مرحبة ومتعجبة. كانتا أكبر سناً مني بنحو خمس سنوات على الأقل.
ظلت البنتان واقفتين على أقدامهما
- لن نأخذ من وقتك. ندعوك إلى أمسية شعرية ثم حوار بمناسبة عيد المرأة العالمي، في 8 آذار. تشارك في الأمسية الشاعرتان: أم جمانة وعزيزة، حول حقوق المرأة، ثم حديث لمناقشة مشروع إيزنهاور، وسوريا الكبرى والهلال الخصيب سنحتفل بعيد المرأة العالمي احتفالاً شعبياً في نادي العائلات بالقصاع. وهذه دعوة لك.
أخرجت إحداهما من حقيبتها بطاقة بيضاء مطبوعة. على غلافها اسمي.
تكررت الدعوات. أحببتها. صارت نافذة واسعة، وكتاباً أعيش بين سطوره على أرض الواقع. يمتد بيت المحامية الشاعرة أم جمانة طولاً بدهليز يدفع الغرف إلى جانب واحد.
في أول زيارة. رأيت بضع بنات في مثل سني جلسن متلحفات بالخفر. زينت الجدران لوحات أصلية لفنانين عرفتهم. ولوحة صغيرة بتوقيع أحمد. في زاوية قبع بيانو أسود لماع. انسدلت على النوافذ ستائر مخملية خضراء تلائم الأرائك القليلة المتناثرة بأسلوب أوروبي. وكثير من الكراسي الخيزران.
امتلأت الكراسي بعد نصف ساعة. ثم دخلت صاحبة البيت. استغربت شكلها. امرأة بدينة قصيرة جداً سمراء غامقة. شعر أجعد قصير ملموم فوق نافوخها، تترنح في مشيتها. رحبت بنا بوجه بشوش أزال الغم عن نفسي.
ألقت نكات ظريفة كسرت جو الصمت وبدأت تحكي عن وضع المرأة المتردي في البلد. يا إلهي. هكذا تعيش المرأة ولا نعرف عنها شيئاً. باسم الشرف تقتل، وباسم العائلة تموت، وباسم الأولاد تحرم. وباسم... انقلبت المحامية في نظري إلى أنثى جميلة رشيقة ساحرة، استطاعت أن تغرد هموم المرأة على بساطٍ صريح دون الاتكاء على أحد. كسبتنا منذ الجولة الأولى. خرجنا من عندها مفعمات بأهمية دور المرأة المتعلمة في توعية المجتمع الأمي المشلول الذي تمثله معظم النساء.
في ذهني أخذت تدور كلمات قالتها:
- الحرية، والعلم... العلم يأتي بالحرية. إذا لم تتعلم الواحدة منا فلن تخرج من قوقعتها إلى الهواء الطلق. من خلال الحماس طرحت أسئلة ذات طابع أنثوي صميمي تجاوز بعضها الهموم الصغيرة إلى هموم أشمل. نقطة سوداء تم التوقف عندها: هدايا النقطة الرابعة التي وزعت على المدارس، وفي علبها السم المدسوس لأجيالنا.
هالتني الكلمات الكبيرة الجريئة. في زمن الغليان.
انتشلني أستاذ التاريخ من سهومي مبتسماً:
- سلمى مشغولة عنا. ليست معنا إطلاقاً. سمعت أنك تكتبين شعراً.
تبسمت:
- مجرد محاولة، أستاذ..
- أحب هذه المحاولات، أطلعيني عليها، ربما أنشرها في صحيفتنا. سأعرفك على شاعر رقيق قوي المشاعر لعلك سمعت باسمه((خازن نمر))
- قرأته. أحب شفافيته، ليتني أتعرف عليه. صوره مثل لوحة بالألوان المائية.
تساءلت في قرارتي: -لم قال صحيفتنا... من هو؟ ماذا يعمل؟ ما خلفيته؟ من وراءه؟
انكمشت مرتبكة. هأنذي أدخل في لعبة أخرى... أنزلق في خطين متعارضين يجب أن أحذر خطواتي. جئت إلى هذه المدرسة كي أرمم لغتي الأجنبية لا أكثر.
مرت الأيام مليئة بالجدية والمثابرة.
نلت حظوة حسدتني عليها الكثيرات. كانت حلم كل فتاة منظمة حزبياً، هي رؤية زعيمة الحزب السوري.
كنت خالية الذهن ساذجة لا أعي أهمية وقيمة تلك المقابلة.
عندما دخلت بيتها المتواضع في عين الكرش، تقدمت نحو سيدة شاحبة جميلة المحيا، رشيقة القوام نحيلة الجسد غارقة بالسواد رفعت يدها بالتحية.
انبرت الأستاذة هيفاء متعجلة تقدمني:
- سلمى شاعرة الصف.
رأيت السيدة الحزينة في لوحة كبيرة على الجدار. تعلقت على خدها دمعة.



يتبع


 
أهلاً بشاعرتنا الصغيرة، يسعدني أن أراك. قالت كلماتها فصيحة واضحة، لم نلبث في بيتها سوى دقائق. انتهت الزيارة عندما دخلت بنتان صغيرتان. حيتا برفع يديهما.
انتظرت((هيفاء)) في الردهة خرجت مستبشرة:
- حظك كبير يا سلمى. تركت انطباعاً حلواً في نفسها.
- الفضل لك. أجبت مجاملة بحياء.
خفت من الانجرار والتمزق خلف دعوات ولقاءات أخرى لا أقوى على الاستمرار فيها، تراجعت. تحاشيت الكلام مع((هيفاء)) خارج الصف عن الزيارة غير العادية. تشاغلت بالمذاكرة. تخبأت خلف مناقشة الأوضاع في بلدنا حتى يئست مني. من ترويض المهرة الجامحة التي لا تعترف بقيد مذ خلعت الرسن من عنقها ومهما كان الثمن. في الواقع، ما كنت بقادرة على الانصياع تحت أوامر والتمزق الفكري بين اليمين واليسار. ثم أقف متفرجة مذبذبة منافقة.
تجاوزت((هيفاء)) عن دلعي كما وصفته، فصلت بين القناعة والاقتناع، ثم حسمت الأمر بذكاء وتفهم كبيرين لوضع قربني من صداقتها وأبعدني عن كثير من المشاكل مع الإدارة والمدير الذي اكتشفت أنه كان غارقاً بحبها.
ركبني الشيطان مرة، اقتربت من غرفتها المعلقة في متاهة السلالم من الطابق الأخير في المدرسة... أحزنني ما رأيت، تقشف بادٍ لأبسط قواعد الراحة، مثل غرفة عسكري يؤدي الخدمة الإلزامية بسرير حديدي، وطاولة جرداء قذرة عليها طابعة باللغتين العربية والإنكليزية وتحت أرجل الطاولة علبة معدنية امتلأت بورق الكربون الأسود والأزرق.
تربعت على الجدار صورة قديمة للمعلمة مقصوصة من صحيفة عربية لبنانية مع فريق من شباب الجامعة أثناء التخرج.
- كم هي جميلة هذه الشابة الجامعية، تأملتها بإعجاب. على قصاصة أخرى كلمات: الحكم بالإعدام على قتلة الزعيم اللبناني رياض، وقعت على سر دفين، قبضت على حياة امرآة تتسلل الروح من بدنها لحظة، لحظة، حزنت حزناً أليماً على هذه الهاربة من بهجة الشباب إلى عزلة قاتلة مقرفة بين أربعة جدران لا تتعدى ستة أمتار مربعة ولا تصلح إلا زنزانة لأعتى المجرمين، أو زريبة للدجاج.
هيفاء هاربة من وجه العدالة قاتلة. تملكني ذهول. انسحبت ببطء ألملم خطواتي المسروقة على صرير السلم الخشبي الفضاح، وأنا أهمهم.
- ماذا تخبئ الأيام؟



تسللت إلى الباحة، اختلطت مع البنات، ربتت هيفاء على كتفي وسألت:
- سلمى، ما أخبار أحمد؟
نقزتُ في مكاني، حسبتني أخفيت عواطفي، ووسدتها بئراً عميقة، ها هي واضحة كعين الشمس.
ضحكتْ من ارتباكي:
- هل قرأت عمر أبو ريشه؟
قفي لا تخجلي مني
فما أشقاك أشقاني

كلانا مر بالنعمى
مرور المتعب الواني

أضافت: عسى أن يكون صادقاً معك؟
- من؟
- أحمد، رأيتكما معاً أكثر من مرة.
ما من مجال للمراوغة، هاجمت بلا تحسب:
- أحلم أن أكون جديرة به، هو الكاتب والفنان الذي يملأ اسمه دمشق.
غادرتني باسمة.
ندهت على ملكة جمال المدرسة. تقدمت قامة سامقة بشعر أسود منسدل بنعومة الحرير، وجه يقطر لطفاً وجاذبية فهمت الآن لم ترك ميشيل أستاذ التاريخ ابنة عمه وعلقها جوىً وهياماً.
مرّ بجانبي سعد أستاذ العلوم، رفع يده محيياً.
- سلمى، لم نعد نسمع أخبارك؟
هززت رأسي.
- اقترب الفحص أستاذ، يجب أن أنجح حتى لا أسود وجه أخي.
- ألم تخبرك الآنسة هيفاء؟
اختارتك المدرسة للمسرحية الجديدة.
أجبت:
- حفلة مسرحية يعني تدريبات ودوام إضافي، لا، لا أستاذ، وجع رأس أنا في غنى عن المشاكل.
- وجع جميل.
تركني... راودتني أحلام عن خشبة المسرح، التصفيق، أحمد. تجسد المسرح في خيالي لعبة حلوة عانقتها أعادني في أفكاري صوت الآنسة هيفاء.
- سلمى، وصلت صور مسرحية زنوبيا من بيروت قدمتها طالبات وطلاب الجامعة الأمريكية، ولقيت نجاحاً باهراً، مرّي علي حتى أطلعك عليها. أنا موجودة في الإدارة أرجو أن تتحقق المسرحية بشكل جيد في دمشق أيضاً: ضمت يديها إلى بعضهما وكأنها تصلي.
- ولكن..
- لا اعتراض، أراك مسحوقة الإرادة، خاملة، ما هذا؟.
- أعني أن المسرحية بحاجة إلى ملابس، وديكور، وإكسسوارات، فمن أين نأتي بها، ونحن نسمع بأن المدرسة تشكو من عجز في ميزانيتها ووزارة المعارف لا تساعد، والأقساط المورد الوحيد.
- هذه أمور محلولة، نستعير الملابس من الفرقة السورية أما المكياج ومعلمي الرقص والإلقاء، فهناك متطوعون.
- والأهل؟.
- هذه مهمتك، تصرفي.



يتبع

 
الوسوم
بنات حارتنا رواية
عودة
أعلى