نماذج مشروع تخرج عن محمود درويش

  • تاريخ البدء

smile

شخصية هامة
عامان على رحيل محمود درويش من سيكتب سيرته بعد اكتمالها!


ابراهيم درويش


في مثل هذا اليوم 9 آب (اغسطس) 2008 اسلم الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش الروح في مركز تكساس الطبي في هيوستن منهيا رحلة نصف قرن من الشعر والرحلة في الكلمات والرموز. وعندما تحضر ذكرى وفاة شاعر كبير كدرويش يعود القارئ الى اشعاره يعيد قراءتها ويبحث فيها عن معاني الوطن الذي كرس الشاعر اشعاره وحياته له، وينظر حوله كيف تتحول المشاهد والاحجار ويغيب الحضور في الغياب. كتب محمود درويش الشعر الكثير عن فلسطين واودع روحه ونفسه فيها، وبحث في الحجر والتراب والفراشة والسماء وكل ما يمت الى الوطن. ولكن درويش الذي كان حاضرا بيننا ويشغل الناس بشعره ورموزه وقدرته على مفاجأة اللغة وادهاشها لم يزل غائبا فلا يعثر الباحث في حياته الا على قراءات ومقابلات وتحليلات كتبت عنه وعن الشعر الفلسطيني المقاوم، فيما حفظ الناس اشعاره وغناها المغنون ورقص على ايقاعها الراقصون وتمثلها الطلاب في حفلاتهم السنوية واظهروا بحفظها قدرة ذاكرتهم على الاستيعاب امام اساتذتهم. لكن درويش الانسان لا نعرف عنه الا ما قاله هو درويش عن نفسه في شعره ومقابلاته وحواراته الطويلة ولا يمكن ان يقدم لنا صورة كاملة او سيرة مكتملة عن حياة شاعر قضى معنا وتعودنا على وجوده بينا لدرجة اننا لم نسأله عن خصوصياته لسبب بسيط لانه لم يبخل بالحديث الينا عن نفسه في شعره وربما لانه كان شخصا لا يحب ان يتدخل الاخرون في حياته ولا يفتح قلبه الا لمن يعرفهم. وبعيدا عن النقد والكتابة عن الشعر المقاوم وتقييم الشعراء له فليس بين ايدينا الا بعض السير القليلة التي تقدم صورة عن محمود درويش وحياته وعصره، فيما تغيب السيرة الجامعة لآراء من عاصروه وتبحث في البدايات فنحن نعرف الكثير ولا نعرف التفاصيل وهذه مهمة كاتب السيرة له ولغيره ان يجمع التفاصيل وينسج منها حكاية الشاعر وحكاية وطنه.

فرحي لا علاقة له بالفرح

اتذكر هذا في يوم وفاته وبمناسبة قراءتي لكتاب صدر العام الماضي، اشتريته واخرت قراءته مدة طويلة وبدأت بقراءته قبل فترة وهو عن الشاعر الفلسطيني المعاصر وصاحب بيع محل التذكارات في الناصرة طه محمد علي (ولد عام 1931)، وهو شاعر له حضوره في الساحة الشعرية داخل الارض المحتلة وتعنون الكاتبة للدراسة 'فرحي لا علاقة له بالفرح: حياة شاعر في القرن الفلسطيني' وهو عنوان غريب لكن له دلالاته، ان عرفنا ان الكاتبة هي ادينا هوفمان، صحافية وناقدة نشرت اعمالها في جيروزاليم بوست وواشنطن بوست وتايمز ونيشين الامريكية. والدلالة الاخرى ان الكاتبة تتساءل عن سر اختيارها لطه الذي يصف نفسه بانه 'فلاح ابن فلاح' على شعراء خرجوا عن طوق الساحة الشعرية المحلية وصاروا شعراء الوطن كله ' الذي لم يبق منه شيء' بل وشعراء معروفين في الحركة الشعرية العربية وفي حالة محمود درويش اصبح رمزا شعريا عالميا معروفا، وتجيب ان السؤال مشروع عن ضرورة كتابة قصة كاملة عن محمود درويش او سميح القاسم او توفيق زياد، ولكن طه وغيره من الشعراء موجودون على الساحة احيانا يتوافقون ويختلفون ويتعايشيون ويتنافسون ويرتبط وجودهم بوجود الاخر، وترى انها لا تفعل شيئا سوى القيام باعادة صياغة قصته وقصة قريته صفورية وضياعها ومعها ضياع فلسطين، فقصة طه محمد علي الذي سافر للندن نهاية القرن الماضي، وهو في عمر التاسعة والخمسين لحضور مؤتمر للشعر العربي والتقى فيه مع نزار قباني وبلند الحيدري وزكريا تامر، وكانت رحلته للندن بمثابة اكتشاف العرب لصوت شعري منسي كان يعمل في دكانه القريب من التاسعة صباحا حتى التاسعة. ولا يهمنا هنا ما كتب عن السيرة التي اعدتها هوفمان وهي زوجة بيتر كول الذي ترجم بعض دواوينه منها 'ليس الا' لكن ما يهم هو ان قصة طه في طرف منها تشبه قصة درويش حيث يشتركان بان عائلتيهما خرجتا الى جنوب لبنان اثناء حرب عام 1948 وعادتا 'تسربا' لان هناك حبا لدى الشاعرين لقريتهما 'البروة ' بلد درويش و'صفورية' بلد طه محمد علي. بعيدا عن الطبيعة الاحتفائية للكتاب وما كتب على غلافه الخارجي من تقريظات ومراجعات، فاللافت ان طه هو عمرا اكبر من درويش وجيله وان نشر درويش شعره في الخمسسينات من القرن الماضي فطه محمد علي لم ينشر مجموعته الاولى الا عام 1983 ثم تتابعت كتبه، وجاء انتشار وصدور اعمال طه محمد علي في وقت صار فيه درويش نجما وصوت فلسطين في العالم، وشعره مظهرا من تحولات صورتها ومصير ابنائها.

صورة الشاعر شابا

ولكن ما حفزني للعودة وذكر هذا الكتاب تحديدا في سياق الذكرى الثانية لوفاة محمود درويش، ليس ما ورد في الكتاب من اشارات كثيرة له ولاشعاره واهميته للمشهد الشعري المحلي وعلاقته بالشعر المقاوم او المعارض الرافض وكتاب الشهيد 'غسان كنفاني' عن ادب المقاومة في الارض المحتلة عام 1966، بل صورة وضعتها الكاتبة في صفحة 215 للشاعر درويش 'في شبابه' لمصور غير معروف. ويبدو فيها درويش نحيف الوجه، الوجه الذي لم تتغير ملامحه الا بقدر ما تشير اليه حالته الصحية من العافية والقلق الاتساع والنحافة- وتصفيفة شعره تشير الى زمن ثورة الشباب، فهو هو لم يتغير منذ صباه، والصورة تعود كما يبدو الى سنوات الستينات حيث لا تاريخ لها ولا اسم لمصورها. وجاءت في اطار صغير، وذكرتني بالرسم الذي رافق اول كتاب كرس لحياته وشعره وبالضرورة شعر الارض المحتلة كتبه الناقد المصري رجاء النقاش (توفي عام 2009) ويبدو ان الفنان جمال قطب، اقام صورة الغلاف على الصورة نفسها او انها جاءت تماما كما هي صورة الشاعر في حينه بعد ان قرر الاقامة في مصر عام 1971. واعلن عن عدم عودته الى الارض المحتلة، القرار الذي كان له تداعياته في الداخل والخارج، وانتقاد ودفاع وهي القصة المعروفة.

محمود درويش شاعر الارض المحتلة

وقد حفزتني الصورة للعودة للكتاب لفهم ملامح الشاعر كما وردت في كتاب النقاش. ويعترف الاخير ان لقاءه الاول مع شعر المقاومة لم يحصل الا عام 1966 عندما كان على متن طائرة في زيارة للجزائر ضمن وفد الجمهورية العربية المتحدة، وقرأ اثناء رحلة للمناطق البترولية في الطائرة قصيدة نشرت في ركن من اركان الجريدة قصيدة 'منسوبة' لشاعر من ارض فلسطين المحتلة، ويعلق ان القصيدة هزته لما فيها من صدق وجمال فني وحرارة ثورية. واشرت هنا الى شعور الناقد بالنسبة للقصيدة لانه اعتقد ان القصيدة كتبها مناضل ثوري عربي تحت اسم مستعار 'محمود درويش' يعيش متخفيا في الارض المحتلة. وبدت القصيدة له كبيان ثوري عربي هدفها 'رفع الروح المعنوية لعرب الارض المحتلة ولم يكن يتخيل النقاش في حينه وجود حركة شعرية ثورية قوية كهذه، ولعل سبب هذا الشعور هو قلة المعلومات المتوفرة عن عرب الارض المحتلة لانهم كانوا يعيشون داخل ستار حديدي، انكسر عندما احتلت اسرائيل بقية فلسطين وعندها بدا الشعراء الفلسطينيون من الجانب الاخر قادرين على مواجهة اخوانهم داخل الستار الحديدي، وعندها تعرف العالم العربي على طبيعة واصالة هذه الحركة الشعرية ورموزها القوية التي واصلت الكتابة والمقاومة داخل الارض المحتلة واختار البعض منهم مثل محمود درويش وراشد حسين الخروج ومواصلة المقاومة الشعرية كل بطريقته واسلوبه. يبدو النقاش هنا في اعتماده على الطبعة الثانية من كتابه حريصا على التأكيد على اصالة وجوهرية الحركة الشعرية فالحكم هذا ليس نابعا من تعاطفنا تعاطفه مع الشعراء الفلسطينيين هناك لكونهم تحت الحصار، ولكن لان الحركة الشعرية فاعلة وواعية واصيلة و'ناضجة' و'رائعة' كما يقول. واهمية الحركة الشعرية داخل الارض المحتلة انها تقاد من شباب موهوبين لو برزوا في مكان اخر لكان لهم شأن اخر. وكان مشروع النقاش في البداية مشروعا لالقاء الضوء على ادب الارض المحتلة بداية بمحمود درويش تتبعه محاولات اخرى عن سميح القاسم واصدقائهما في الحركة الشعرية هناك. كتاب النقاش كان رياديا من ناحية تركيزه على شخصية محورية في ادب الارض المحتلة تماما مثلما فعل الناقد احسان عباس بتجليته حركة الشعر العربية بقراءته لشعر البياتي، واهمية محاولة النقاش تنبع من انه حاول تقديم واحد من شباب الحركة الشعرية، ولم يكن الاول فقد سبقه غسان كنفاني الذي حلل وقدم ابعاد الحركة الشعرية المقاومة في كتابه الذي لا يزال مرجعا في ادب هذه الحركة على الرغم من مضي 34 عاما على صدوره. وتفترض دراسة النقاش مثل غيرها من الدراسات عن هذا الادب ان درويش ورفاقه لم يولدوا من فراغ وانهم ورثة لحركة شعرية وادبية فلسطينية ثرية ومناضلة وهم وان كانوا منعزلين ثقافيا عن العالم العربي الا انهم استطاعوا التواصل معه عبر الاثير والتعرف على اسماء الشعر الكبيرة. ودرويش لم يكن وحيدا في الحركة بل جزءا من حركة ولهذا حرص النقاش على ربطه برفاقه في النضال من الشعراء الشباب مع التأكيد على ان صورة درويش في الطبعة الاولى تختلف قليلا عنها في الطبعة الثانية. فالاولى كانت نتاج فكرة ان درويش اسم مستعار وفي الثانية جاءت بعد ان تأكدت حقيقة وجوده بل وصوله القاهرة ليعلن للعالم كل ما يعرفه عن آلام اهل الارض المحتلة وهنا التقاه النقاش صوتا وصورة. وينشغل النقاش بقراءة ظروف اهل العرب في اسرائيل وسياسات الاخيرة القمعية، وسياساتها الدائمة لتغيير الهوية، واستبعاد العرب من السياق الاجتماعي، واللعب على تفرقة العرب بين مسلم ومسيحي ودرزي وقضايا التعليم. وتبدو المعلومات هذه ضرورية نظرا لقلتها.

كفر قاسم المدينة المقدسة

ويشير النقاش الى 'كفر قاسم' (1956) المجزرة التي يقول ان الشعراء العرب في اسرائيل حولوها الى مدينة مقدسة للكفاح والنضال ولا يكاد يوجد شاعر بينهم الا وكتب عنها قصيدة، ولم يكن درويش استثناء فقد كتب 'ازهار الدم' والتي تحولت فيها خضرة غابات الزيتون مع الغروب الى بحيرة دم بعد ان سقط بين اشجارها 'خمسون ضحية'. كفر قاسم كان الحدث الاهم في تاريخ عرب اسرائيل في الفترة ما بين النكبة والنكسة. ولكن الدفقة الشعرية التي رافقت المجزرة كانت طبيعية من شعراء الوطن المحتل فالشعراء كانوا هم نبض الثورات الفلسطينية منذ بداية القرن العشرين، وعليه لا يرى النقاش انفصالا بين حركة الشعر في سنوات الغياب وحركة الشعر النضالي الفلسطيني وقدمت شعرا كان ممتلئا بامل النصر ثم جاءت النكبة لكي تقدم شعرا يائسا مليئا بالمرارة، وهو ان قدم العذر لجيل اللجوء من الشعراء الا انه لم يشر في ظني الى ان شعراء جيل اللجوء عبروا عن مرارتهم اولا وعن صدمتهم بما حدث لهم ثانيا فهم لم يفكروا ابدا بهذا السيناريو الذي عبر عنه هارون هاشم رشيد 'لماذا.. نحن يا ابتي لماذا.. نحن اغراب؟'.

الشعر الجديد والامل

ومن بين الانقاض والنوستالجيا ومرارة اللجوء ولد الشعر الجديد او كما قال درويش نفسه 'انني ابحث في الانقاض عن ضوء وعن شعر جديد' الذي جاء كما يقول محاولة لاسترداد الذات والخروج من نفق الهزيمة مشفوعا بتطورات امل مثل الثورة المصرية وعودة الشاعر العربي الفلسطيني للتلاحم مع قضايا امته ومشاركته ادبيا في الرد على العدوان الثلاثي وهو يقول ان 1956 وان شهدت مجزرة كفر قاسم الا انه كان عام انتصار مصر على الامبريالية ومن بين الردم ولد شاعر جديد على ارض المأساة الفلسطينية شاعر لم يعد يحس انه معزول ووحيد، مشتت ومنفي بل اضحى شاعرا ينتمي الى امة استيقظت من سباتها واخذت تتبصر طريقها من داخل اليأس والهوان. لقد ولد الشعر الجديد كما يرى النقاش عام 1948 وبدأ يترك وراءه ذكريات النكبة باحثا عن امل وانتصار، واللافت انه لم يولد في مخيمات اللاجئين ولكن في قلب فلسطين النازف. وهو جيل محمود درويش وتوفيق زياد وحنا ابو حنا وسميح القاسم وهي روح لم تخمد على الاقل في زمن كتابة الكتاب على الرغم من فجيعة الانفصال عام 1961 ونكسة النكسات عام 1967. والنقاش يقول انه منذ ان ارتفع صوت محمود درويش وهو يحلق في عالم الامل والتفاؤل الثوري ولا يتردى الى قاع الهزيمة لانه بقلبه الكبير يرى عظم الالم وحقيقة المأساة، وان الظلم على الفلسطيني لا بد ان يزول. ويتساءل النقاش ان الامل الذي علا على كل الانتكاسات لا يفسره الا قانون واحد وهو تاريخي للمؤرخ توينبي 'التحدي والاستجابة'. وقصة محمود درويش دليل عملي على هذا القانون، لقد هدم اليهود بيته وقريته وسجنوه مرارا وتكرارا وهددوه بلقمة العيش عندما قال له رجل الامن انه ان استمر بكتابة الشعر فسيمنع والده سليم درويش من العمل في مقلع الحجارة، وفرضت عليه، اي محمود الاقامة الجبرية وحرم من التنقل وزيارة القدس، لكنه مثل زياد والقاسم رفضوا الاستجابة لحس اليأس والتشاؤم لان التشاؤم يقتل روح الثائر. ومن هنا يفهم الناقد النقاش عزم الشعراء وقوة الشعر المتمسك بالامل الذي ولد على انقاض النكبة مقارنة مع الهوامش اليائسة التي كتبها شعراء العرب عن نفس النكسة 'لا بد لا بد للشاعر من نخب جديد واناشيد جديدة'.

التخلص من لعنة اللاجئ والجبن الاصفر

دراسة النقاش المهمة في تطور وحياة الشاعر محمود درويش على الرغم من انها قامت على مصادر ثانوية لقاءات الشاعر بعد خروجه من فلسطين، خاصة مع مجلة الطريق محمد دكروب، واخر مع صحيفة اسرائيلية، شفع لها انها اعتمدت على شعر درويش كمصدر لتحليل رؤيته الشعرية وكتابات كنفاني ويوسف الخطيب 'ديوان الوطن المحتل' ومقالات للشاعر نفسه، وملامح درويش الشخصية اعتمدت في معظمها على مقابلتيه هاتين تحديدا: قصة تسلله من لبنان مع عمه هاربا من لعنة 'اللاجئ' والجبن الاصفر وعائدا الى فلسطين واقامته في دير الاسد وعمله في مجلة 'الجديد'، وهروبه وانضمامه للحزب الشيوعي وبداية مشواره الادبي واصداراته الاولى وسجنه الدائم، ورحلته الى موسكو للدراسة وقراره البقاء في المنفى عام 1971. ولان الكاتب يعتمد على روايات ومقابلات للشاعر وهي المقابلات التي جاءت وليدة اللحظة ونتاجا لحالة الشاعر فهناك تنوع ان لم يكن تناقضا في الروايات فهو يقول في مقابلة ان الفلسطينيين يجبرون على التعلم عن تيودور هيرتزل اكثر من تعلمهم عن محمد، والنماذج المدرسة من الاشعار هي من اشعار حاييم نحمان بياليك واكثر من اشعار المتنبي ويدرسون التوراة اكثر من دراستهم للقرآن. وفي مقابلة اخرى ينقل عنه انه تعرف على اشعار بياليك بتشجيع من المعلمة اليهودية شوشنة. مع انه لا تناقض بين ما فرضته السلطة التعليمية على العرب في فلسطين واعجاب الشاعر باشعار بياليك الذي يعتبر الشاعر القومي الاسرائيلي. الا ان هناك حاجة لتصفية المعلومات وقراءتها في ظرفها وفهمها في مرحلتها المعينة من حياة الشاعر. ويعترف النقاش في الطبعة الثانية بوجود هذا التردد في المعلومات حول مولد الشاعر فقد ذكر انه ولد عام 1941 ثم عاد وصححه الى عام 1942 وذكر ان والده سليم درويش قد استشهد اثناء الثورة وحرب عام 1948 ولكن هذا الخبر لم يكن صحيحا حيث اعتمد الكاتب على رواية نقلها عن شاب فلسطيني بعد 1967 .

تصحيح اخطاء

وحرص النقاش في الطبعة الثانية على تصحيح هذه الاغلاط، والتأكيد على لقائه بدرويش في القاهرة ووصف ملامحه النحيفة والعصبية البادية على طريقة مشيه وحبه للسهر وخجله ووفائه لاصدقائه وبساطته وحبه العميق للحياة واهتمامه باعراس بلاده وتقاليد اهله الفولكورية. دراسة النقاش جاءت شاملة ووافية لوقتها حيث حاولت قراءة شعر الشاعر في شبابه (كان درويش في الثلاثين من العمر) وملامحه الصوفية والنضالية ورموزه الدينية واحتفائه بالطبيعة وقراره الخروج للمنفى وتقييمه وضيقه وهو في الداخل بما اسماه 'الحب القاسي'. ومع فهم النقاش ان تقييم تجربة درويش في هذا العمر ستظل قاصرة ولها عيوبها الا ان نتائج الدراسة تقدم شاعرا ناضجا ومناضلا يحيا مع الجماهير. وكما تنبأ النقاش فما حققه درويش كان بداية الثمار وليس نهايتها. وهو ما حدث. ولا بد في النهاية من النظر الى ان السيرة كانت بنت ظرفها الايديولوجي وبنت اللحظة وكل هذا يدعونا للبحث عن سيرة الشاعر المكتملة والكاملة لان عام 1971 كان بداية رحلة اخرى، وان عرفنا تفاصيلها وكتبت بعض ملامحها في الشعر والمقابلة الا انها تحتاج للجمع والدراسة والحاجة اليها اكثر من الحاجة الى الجدل حول تحويل بيته في عمان او رام الله لمتحف او متحفين. نعرف ان طوقان كتبت روايته اخته 'اخي ابراهيم' فدوى طوقان ولكن من سيكتب الرواية القادمة عن الشاعر 'القومي' الفلسطيني!
 
محمود درويش والقصيدة التي لا تنتهي

د. سعيد الفـراع

الذكرة الثانية لرحيل الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، وهي مناسبة لاستعادة دور الشعر والشاعر في سياقنا العربي، فدرويش شكل نموذجا شعريا وإنسانيا نادرا، بقدر ما كان يحرص على بناء كون شعري متفرد بلُغته وطاقاته التخييلية والفنية، كان يحرص أيضا على تأكيد أن الشعر ليس نصوصا ودواوين، بقدر ما هو رؤية وأسلوب حياة، فالشاعر الحقيقي روح ثائرة ومتوثبة نحو الحرية، ترفض الاستكانة والرضوخ لكل أشكال الاستلاب والقيود، فمهمة الشعر أن يواجه عبث الواقع'وزيفه، وتعرية جبروت السلطة وكشف فخاخها ومفارقاتها، والحفر على ضمير الإنسانية وتصوير كل أشكال التخاذل في الانتصار للمغلوبين والضعفاء والمضطهدين. فهشاشة الوجود الفلسطيني جعلت الشاعر يعيش حالة سباق دائم مع الزمن، لإثبات زيف القيم التي تحكم عالمنا المعاصر.

فقيمة العدالة والمساواة ومحاربة التمييز وغيرها من القيم، التي شكلت شعارات المنتظم الدولي لم تعرف طريقها إلى فلسطين، ولذلك كان درويش يكتب تاريخا شعريا لواقعنا المعاصر، تاريخا حقيقيا بإمكانه البقاء بعيدا عن كل أشكال التزوير والمسخ التي طالت العديد من الوقائع والأحداث. إنه تاريخ الحقيقة الذي يجد في اللغة والمتخيل والرمز والجمال، مادته لصياغة تراجيديا إنسانية على إيقاع ملحمي ينزف ألما وتمزقا.
إن إصرار محمود درويش على مقاومة المشروع الصهيوني في اغتصاب الأرض الفلسطينية، قاده إلى التنويع في أسلوب المقاومة الشعرية، فالشعر في اشتباكه مع أسئلة الوجود، يمتلك طاقات لا حدود لها تسمح بالكشف عن مآزق الإنسان في مواجهته لغربته وانشطاراته بين ثنائيات نمطية ماكرة، تسعى إلى سجن الفلسطيني في قفص البكاء على أمه الرمزية والدوران حول أسئلة الواقع اليومي الضيقة. فكانت المقاومة الشعرية سلاحا لا تقهره أفتك الأسلحة الحديدية والكيماوية، والرهان على الدور الفكري والثقافي في بناء مشاريع شعرية، تُضْمِرُ رؤى قادرة على اختراق الحواجز الذاتية والأدبية التي رسَّخها المُحتل رمزيا ولا شعوريا، مما يمنحُ فعلَ المقاومة الشعرية قدرة على التجدد وعدم الاستسلام للآني والعابر، فشعر المواجهة الذي انخرط فيه محمود درويش سيبقى مشروعا مفتوحا ولا مكتملا.

لهذا سنجد وربما من باب المصادفة المقصودة أن تكون آخر قصيدة (1) قبل رحيله الأبدي المفاجئ، موسومة بعنوان ' لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي' الزاخرة بالدلالات التي تلتقي عند الإصرار على المواجهة المفتوحة، فالشاعر كان يعرف جيدا أن الغياب الجسدي أمر حتمي لا مفر منه، فمند قصيدته ' جدارية' (2) بدأ في مواجهة سؤال الموت شعريا، بعد عمليتين جراحيتين على القلب، لهذا شكلت قصيدة ' لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي' وصية شعرية أخيرة، وصية تحمل ملامح القصيدة الحلم، التي ستظل أفقا مفتوحا إلى الأبد، تقاوم بإصرار لحظة اكتمالها.

لقد كانت مهمة درويش مهمة مزدوجة، فبقدر ما عمل على تأسيس وجوده كفلسطيني ينزع نحو تأكيد حريته وحقه في امتلاك هوية وطنية مكتملة، عمل أيضا على تشكيل ملامح القصيدة الجديدة، وهما المهمتان اللتان جعلتا قصيدته الأخيرة قصيدة حوارية بامتياز، تحاور الوجود وترتاد فضاءاته الكونية السحيقة، وتسائل الزمن كفخ يطارد قصيدة مستكينة لمنجزها، ويعبث بمواضعات الذائقة الشعرية لقرائها المتعاقبين عبر الزمن، لهذا ردد درويش في قصيدته ' إن الزمان هو الفخ... لأن الزمان يشيخ الصدى' (3).

وتكشف قصيدة ' لا أريد لهذي القصيدة أن تنهي' عن هذا المسعى، الذي يرتفد بصيغ وأشكال رمزية متعددة، تجعل من جدلية المكان والزمان عملية استبدالية، خاضعة للترهين النصي والرؤيا الشعرية للذات الشاعرة، إذ تتميز القصيدة بكثافة خيالية تجعل منها عالما خاصا يقوم على الإمكان التخييلي، ما دامت المعطيات المرجعية المباشرة التي تنهض عليها، لا تشكل سوى مادة خام يعاد تشكيلها وفق متطلبات الإجراء التخييلي، المتحكم في البنى التركيبية والأسلوبية والدلالية، مما يجعل الفضاء النصي خاضعا لمنطقه الخاص، ومولدا لدلالات تنسف المعنى المتداول وتعالقاته النسقية المختلفة.

لهذا تحيلنا القصيدة منذ افتتاحها على كثافة تخييلية، شكلت على امتداد النص أداة لحم لمختلف الأجزاء والمقاطع الممتدة عبر جسد القصيدة، والتي تتحكم فيها علاقة الصراع بين حركتين: حركة المكان بكل ما تشف عنه من نزوعات نحو الفضاءات الحميمة، التي تجعل من الموت أقل قسوة بل جسرا نحو الألفة المفتقدة في الواقع المعاش، وبحثا عن سر التناهي الذي يهدد المسار المجهول للذات. وحركة الزمان بما تحيل عليه من وقوف على تخوم النهايات، التي تجعل حركة الزمن لا ترتد في اتجاه الماضي أو المستقبل، بقدر ما تتركز حول الحاضر، الذي شكل بالنسبة للذات الشاعرة بؤرة لتفجير إمكانيات حميمية لا حدود لها. إن العالم المتخيَّل الذي تحيل عليه قصيدة ' لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي'، هو عالم الأبدية في لا نهائيته المفتوحة، فدرويش يبعث رسالة من الأبدية في اتجاه الحياة المعاصرة، وكأنه يستبق مجازيا عالمه لما بعد الموت، فيتأمل الوجود الإنساني الهش من زاوية العالم الآخر:

قلبي الجريح هو الكون
والكون قلبي الفسيح. تعالي معي
لنزور الحياة، ونذهب حيث أقمنا
خياما من السرو والخيزران على
ساحل الأبدية. إن الحياة هي اسم
كبير لنصر صغير على موتنا (4).

ومن هنا اتخذت ثنائية الزمان والمكان حيزا هاما في هذه القصيدة، فبقدر ما يبدو المكان أليفا ومفتوحا على العالم، يتخذ الزمن صورة الفخ الذي يتربص بالإنسان، بحكم قَدَرية الموت وجبروته، لهذا نجد الشاعر يعقد مصالحة مع المكان:

ليس المكان هو الفخ
ما دمت تبتسمين ولا تأبهين
بطول الطريق...
لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي أبدا
لا أريد لها أن تكون خريطة منفى
ولا بلدا (5)

فالأمكنة تبدو من خلال القصيدة فضاءات مفتوحة، لا توجد حدود دقيقة بين الحياة والموت، بين الهنا والهناك، فالشاعر يستطيع أن يشيد أمكنة متخيلة مليئة بأشيائه الحميمة:

ليس المكان هو الفخ
في وسعنا أن نقول:
لنا شارع ههنا
وبريد وبائع خبز ومغسلةٌ للثياب
وحانوت تبغ وخمر
وركن صغير
ورائحة تتذكر(6).

وبالمقابل يتخذ الزمن صورة الجبار الذي يترصد الكينونة ويجعلها مهددة بالمحو، فلا تجد الذات الشاعرة سوى الاحتماء بمسكن الشعر والذاكرة:

قال: إذن، حدثيني عن الزمن
الذهبي القديم
فهل كنت طفلا كما تدعي أمهاتي
الكثيرات ؟ هل كان وجهي دليل
الملائكة الطيبين إلى الله،
لا أتذكر... لا أتذكر أني فرحت
بغير النجاة من الموت! (7).

إنه استدعاء للحظات الطفولة التي تشكل ملاذ ذاكرة كل إنسان حين يقسو الزمن الحاضر، وتصبح الحياة صعبة خالية من الألفة، غير أن الشاعر على خلاف الآخرين لا يبدو سعيدا بطفولته الخالية من الفرح والحميمية، لهذا سنجده يتساءل:

من قال: حيث تكون الطفولةُ
تغتسل الأبدية في النهر... زرقاء ؟
فلتأخذيني إلى النهر (8).

وأمام الإحساس بهذا العجز في مواجهة الزمن وسطوته، يسعى الشاعر إلى قلب استراتيجية المواجهة عن طريق استثمار اللحظة الحاضرة، وجعلها البؤرة التي يتداخل فيها الأمس والغد:

ماذا أريد من الأمس؟ ماذا أريد من
الغد؟ ما دام لي حاضر يافع أستطيع
زيارة نفسي، ذهابا إيابا، كأني
كأني. وما دام لي حاضر أستطيع
صناعة أمسي كما أشتهي، لا كما
كان. إني كأني. وما دام لي
حاضر أستطيع اشتقاق غدي من
سماء تحن إلى الأرض ما بين
حرب وحرب (9).

إنه تفجير للآني على نحو يجعل الزمن الحاضر ملتحما بالمكان، فاللحظة الزمنية التي تنفتح عليها القصيدة في بدايتها تحيل على الشمس برمزيتها في الثبات أمام الزمن، والغوص في اتجاه الأعماق التي تمكن الذات من آليات قلب وارتداد المكان إلى حميميته، لهذا كشفت ملامح الفضاء المتخيل في القصيدة عن نزوع نحو تخوم النهايات والأبدية البيضاء، التي تحد من قسوة الألم، فالذات الشاعرة تُصر على السير في اتجاه المجهول، الذي يحيل القصيدة إلى بحث عن سر التناهي، من خلال تفجير الأسئلة وجعل الموت ممرا رمزيا من الزمني إلى اللازمني، من التناهي إلى نقيضه الأبدي. وبذلك شكلت قصيدة ' لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي' عودا أبديا وتمردا على مواضعات الزمن وإكراهاته، وجعلت من محمود درويش شاعر النهايات التي لا تنتهي.

الهوامش والإحالات:

وهي عنوان الديوان الصادر في آذار ( مارس) 2009، عن دار رياض الريس للكتب والنشر، بيروت. والمنشورة في مجلة ' الكرمل' العدد 90/ ربيع 2009، من ص 9 إلى ص 22.
جدارية محمود درويش، رياض الريس للكتب والنشر، الطبعة الأولى حزيران ( يونيو) 2000.
قصيدة ' لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي'، مجلة ' الكرمل' العدد 90، ص 18.
قصيدة ' لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي'، ص 21.
نفسه ص 16.
نفسه ص 13
نفسه ص 10.
نفسه ص 11.
نفسه ص 14 ص 15.
 
الوسوم
تخرج درويش محمود مشروع نماذج
عودة
أعلى