دعاء زوال الهم

Dr.HAYA

من الاعضاء المؤسسين
في المسند وصحيح أبي الحاتم من حديث عبد الله بن مسعود قال:


قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أصاب عبدا هم ولا حزن فقال اللهم اني عبدك وابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك ان تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي الا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرحا قالوا يا رسول الله أفلا نتعلمهن قال بلى ينبغي لمن سمعهن ان يتعلمهن.


في هذه المقالة، سنتأمل مع ابن القيم في كل جملة من جمل هذا الدعاء الرائع:


اني عبدك ابن عبدك ابن أمتك
فتضمن هذا الحديث العظيم أمورا من المعرفة والتوحيد والعبودية منها ان الداعي بهذا الدعاء صدر سؤاله بقوله: "اني عبدك ابن عبدك ابن أمتك" وهذا يتناول مَن فوقه من آبائه وأمهاته الى ابويه آدم وحواء. وفي ذلك تملق له واستخذاء بين يديه واعتراف بانه مملوكه، وآباؤه مماليكه، وأن العبد ليس له غير باب سيده وفضله واحسانه، وأن سيده إن أهمله وتخلى عنه هلك، بل يضيع أعظم ضيعة. فتَحتَ هذا الاعتراف: اني لا غنى بي عنك طرفة عين، وليس لى من أعوذ به وألوذ به غير سيدي الذي انا عبده.
وفي ضمن ذلك الاعتراف بأنه مربوب مدبر مأمور منهى انما يتصرف بحكم العبودية لا بحكم الاختيار لنفسه. فليس هذا شأن العبد بل شأن الملوك والأحرار، واما العبيد فتعرفهم على محض العبودية، فهؤلاء عبيد الطاعة المضافون اليه سبحانه في قوله: "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان" وقوله "وعباد الرحمن الذين يمشون على الارض هونا". ومن عداهم عبيد القهر والربوبية، فاضافتهم اليه كاضافة سائر البيوت الى ملكه، واضافة أولئك كاضافة البيت الحرام اليه واضافة ناقته اليه وداره التي هي الجنة اليه واضافة عبودية رسوله اليه بقوله "وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا" "سبحان الذي أسرى بعبده" "وإنه لما قام عبد الله يدعوه".
وفي التحقيق بمعنى قوله اني عبدك: التزام عبوديته من الذل والخضوع والانابة وامتثال امر سيده واجتناب نهيه ودوام الافتقار اليه واللجوء اليه والاستعانة به والتوكل عليه وعياذ العبد به ولياذه به. وان لم لا يتعلق قلبه بغيره محبة وخوفا ورجاء. وفيه أيضا أني عبد من جميع الوجوه صغيرا وكبيرا حيا وميتا ومطيعا وعاصيا معافى ومبتلي بالروح والقلب واللسان والجوارح. وفيه ايضا ان مالي ونفسي ملك لك فان العبد وما يملك لسيده وفيه ايضا انك أنت الذي مننت علي بكل ما انا فيه من نعمة، فذلك كله من انعامك على عبدك. وفيه ايضا اني لا أتصرف فيما خولتني من مالي ونفسي الا بأمرك كما لا يتصرف العبد الا باذن سيده، واني لا املك لنفسي ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا.
فان صح له شهود ذلك فقد قال اني عبدك حقيقة.


ناصيتي بيدك


وناصية العبد بيد ربه، وقلبه بين أصبعين من أصابعه، وموته وحياته وسعادته وشقاوته وعافيته وبلاؤه كله اليه سبحانه، ليس الى العبد منه شيء، بل هو في قبضة سيده أضعف من مملوك ضعيف حقير ناصيته بيد سلطان قاهر مالك له تحت تصرفه وقهره، بل الأمر فوق ذلك.
ومتى شهد العبد ان ناصيته ونواصي العباد كلها بيد الله وحده يصرفهم كيف يشاء، لم يَخَفهم بعد ذلك وَلَم يرجُهُم ولم يُنزلهم منزلة المالكين، بل منزلة عبيد مقهورين مربوبين، المتصرف فيهم سواهم والمدبر لهم غيرهم. فمن شهد نفسه بهذا المشهد، صار فقره وضرورته الى ربه وصفا لازما له، ومتى شهد الناس كذلك لم يفتقر إليهم، ولم يُعلّق أمله ورجاءه بهم، فاستقام توحيده وتوكله وعبوديته. ولذا قال هود لقومه: "اني توكلت على الله ربي وربكم ما من دآبة الا هو آخذ بناصيتها، ان ربي على صراط مستقيم".
أي مع كونه مالكا قاهرا متصرفا في عباده، نواصيهم بيده، فهو على صراط مستقيم، وهو العدل الذي يتصرف به فيهم. فهو على صراط مستقيم في قوله وفعله وقضائه وقدره وأمره ونهيه وثوابه وعقابه، فخبره كله صدق، وقضاؤه كله عدل، وأمره كله مصلحة، والذي نهى عنه كله ومفسدة، وثوابه لمن يستحق الثواب بفضله ورحمته، وعقابه لمن يستحق العقاب بعدله وحكمته.
ماض في حكمك، عدل فيّ قضاؤك


وفرق بين الحكم والقضاء إذ جعل المضاء للحكم والعدل للقضاء. فإنًّ حكمه سبحانه يتناول حكمه الدينى الشرعى، وحكمه الكونى القدرى. والنوعان نافذان في العبد إن ماضيان فيه وهو مقهور تحت الحكمين قد مضيا فيه ونفذا فيه شاء أم أبى. لكن الحكم الكونى لا يمكنه مخالفته، واما الديني الشرعى فقد يخالفه.
ولما كان القضاء هو الاتمام والاكمال وذلك انما يكون بعد مضيه ونفوذه، قال عدل في قضاؤك أي: الحكم الذي أكملته وأتممته ونفذته في عبدك عدل منك فيه.
واما الحكم فهو ما يحكم به سبحانه وقد يشاء تنفيذه وقد لا ينفذه. فان كان حكما دينيا فهو ماض فى العبد، وان كان كونيا فان نفذه سبحانه مضى فيه وان لم ينفذه اندفع عنه. فهو سبحانه يقضى ما يقضى به، وغيره قد يقضي بقضاء ويقدر أمرا ولا يستطيع تنفيذه، وهو سبحانه يقضي ويمضي، فله القضاء والامضاء.


وقوله عدل فى قضاؤك يتضمن جميع أقضيته فى عبده، من كل الوجوه من صحة وسقم وغني وفقر ولذة وألم وحياة وموت وعقوبة وتجاوز وغير ذلك. قال تعالي "وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيديكم" وقال "وان تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فان الانسان كفور" فكل ما يقضى علي العبد فهو عدل فيه.ومن أسمائه الحسني العدل الذي كل أفعاله وأحكامه سداد وصواب وحق، وهو سبحانه قد أوضح السبل وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، وأزاح العلل، ومكَّن من أسباب الهداية والطاعة بالاسماع والابصار والعقول -وهذا عدله- ووفّق من شاء بمزيد عناية، فهذا فضله. وخذل من ليس بأهل لتوفيقه وفضله وخلى بينه وبين نفسه، ولم يرد سبحانه أن يوفقه فقطع عنه فضله ولم يحرمه عدله.


وهذا نوعان:
1- ما يكون جزاء منه للعبد على اعراضه عنه وايثار عدوه فى الطاعة والموافقة عليه وتناسى ذكره وشكره فهو أهل ان يخذله ويتخلى عنه.
2- ان لا يشاء له ذلك ابتداء لما يعلم منه انه لا يعرف قدر نعمة الهداية ولا يشكره عليه ولا يثنى عليه بها ولا يحبه فلا يشاؤها له لعدم صلاحية محله. قال تعالى: "وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين" وقال: "ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم" فاذا قضى على هذه النفوس بالضلال والمعصية، كان ذلك محض العدل.
أسألك بكل اسم هو لك.... الى آخره


وهذا توسل إلى الله بأسمائه كلها ما علم العبد منها وما لم يعلم. وهذه أحب الوسائل إليه، فانها وسيلة بصفاته وأفعاله التي هى مدلول اسمائه.
وقوله: ان تجعل القرآن ربيع قلبى ونور صدرى. الربيع المطر الذي يحيى الأرض، شبه القرآن به لحياة القلوب به. وكذلك شبهه الله بالمطر، وجمع بين الماء الذى تحصل به الحياة والنور الذى تحصل به الاضاءة والاشراق. كما جمع بينهما سبحانه فى قوله: "أنزل من السماء مآء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما توقدون عليه فى النار ابتغاء حلية"، وفى قوله: "مثلهم كمثل الذى استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم" ثم قال: "أو كصيب من السماء" وفي قوله: "الله نور السموات والارض مثل نوره..." الآيات، ثم قال: "ألم تر أن الله يزجي السحاب ثم يؤلف بينه.." الآية، فتضمن الدعاء أن يحيي قلبه بربيع القرآن وان ينور به صدره، فتجتمع له الحياة والنور. قال تعالى: "أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها".

ولما كان الصدر أوسع من القلب، كان النور الحاصل له يسري منه الى القلب لأنه قد حصل لما هو أوسع منه. ولما كانت حياة البدن والجوارح كلها بحياة القلب، تسري الحياة منه الي الصدر ثم الى الجوارح، سأل الحياة له بالربيع الذي هو مادتها. ولما كان الحزن والهم والغم يضاد حياة القلب واستنارته، سأل أن يكون ذهابها بالقرآن، فانها أحرى أن لا تعود. وأما إذا ذهبت بغير القرآن من صحة أو دنيا أو جاه أو زوجة أو ولد فانها تعود بذهاب ذلك.
والمكروه الوارد على القلب. إن كان من أمر ماض أحدث الحزن، وإن كان من مستقبل أحدث الهم، وإن كان من أمر حاضر أحدث الغم. والله أعلم.


انتهى كلامه رحمه الله.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه.
والحمد لله رب العالمين.

 
تسلم ايدك على الموضوع القيم والمفيد

دعاء زوال الهم
 
الوسوم
الهم دعاء زوال
عودة
أعلى