شرح حديث اختصام الملأ الأعلى

وهي ثلاث، أحدها: إطعام الطعام، وقد جعله الله في كتابه من الأسباب الموجبة للجنة ونعيمها، قال الله عز وجل: )ويُطعِمون الطعامَ على حبِّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً" إنَّما نُطْعِمُكُم لوجهِ الله لا نُريدُ منكم جزآءً ولا شُكوراً" إنّا نخافُ من ربِّنا يوماً عبوساً قَمطريراً" فوقاهُمُ الله شرَّ ذلك اليومِ ولقّاهُمْ نَضْرةً وسُروراً" وجزاهُم بما صَبروا جنَّةً وحريراً" مُتَّكِئينَ فيها على الأرآئكِ لا يرونَ فيها شمساً ولا زَمْهريراً" ودانيةً عليهم ظِلالُها وذُلِّلتْ قُطُوفُها تذليلاً" ويُطافُ عليهم بآنيةٍ من فِضَّةٍ وأكوابٍ كانت قواريراً" قواريراً من فِضَّةٍ قدَّروهَا تقديراً" ويُسقَون فيها كأساً كان مِزاجُها زنجبيلاً" عيناً فيها تُسمَّى سَلْسَبِيلاً"( إلى قوله )وسقاهم ربُّهم شراباً طَهُوراً(. فوصف فاكهتهم وشرابهم جزاءً لإطعامهم الطعام، وفي الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي ) قال: "أيما مؤمن أطعم مؤمناً على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، ومن سقى مؤمناً على ظمأٍ سقاه الله من الرحيق المختوم".
وفي المسند والترمذي عن علي عن النبي ) قال: "إن في الجنة غرفاً يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها". قالوا: لمن هي يا رسول الله؟. قال: "لمن أطعم الطعام، وأطاب الكلام، وصلى بالليل والناس نيام".
وفي حديث عبد الله بن سلام الذي خرجه أهل السنن أنه سمع النبي ) أول قدومه المدينة يقول: "أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام".
 
وفي حديث عبادة عن النبي ( أنه سئل: أي الأعمال أفضل؟. قال: "إيمان بالله وجهاد في سبيله وحج مبرور، وأهون من ذلك: إطعام الطعام، ولين الكلام". خرّجه الإمام أحمد. وفي حديث هانئ بن يزيد أن رجلاً قال: يا رسول الله! دلني على عمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار؟. قال: "تطعم الطعام، وتُفشي السلام". وفي حديث حذيفة عن النبي ) قال: "من خُتم له بإطعام مسكين دخل الجنة".
وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو أن رجلاً قال: يا رسول الله! أي الإسلام خير؟. قال: "تطعم الطعام، وتقرئ السلام على من عرفت ومن لم تعرف". وفي حديث صُهيب عن النبي ) قال: "خيركم من أطعم الطعام".
فإطعام الطعام يوجب دخول الجنة، ويُباعد من النار ويُنجي منها كما قال تعالى: )فلا اقْتَحَمَ العَقَبةَ" ومآ أدْراك ما العقبةُ" فَكُّ رقَبةٍ" أو إطعامٌ في يومٍ ذي مسْغَبةٍ" يتيماً ذا مقربةٍ" أو مِسكيناً ذا مَتربةٍ"(. وفي هذا الحديث الصحيح عن النبي ): "اتقوا النار ولو بشق تمرة".
وكان أبو موسى الأشعري يقول لولده: "اذكروا صاحب الرغيف". ثم ذكر أن رجلاً من بني إسرائيل عبدَ الله سبعين سنة، ثم إن الشيطان حسَّن في عينيه امرأة فأقام معها سبعة أيامٍ، ثم خرج هارباً فأقام مع مساكين فتُصُدِّق عليه برغيف كان بعض أولئك المساكين يريده، فآثره به ثم مات، فوِزن عبادته بالسبعة الأيام التي مع المرأة فرجحت الأيام السبعة بعبادته، ثوم وُزن الرغيف بالسبعة الأيام فرجح بها.
 
ويتأكد إطعام الطعام للجائع وللجيران خصوصاً، وفي الصحيح عن أبي موسى الأشعري عن النبي ) قال: "أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفُكّوا العاني". وفي صحيح مسلم عن أبي ذر عن النبي ) قال له: "يا أبا ذر! إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها، وتعهد جيرانك". وفي المسند وصحيح الحاكم عن عمر عن النبي ) قال: "أيما أهل عرضه أصبح فيهم امرؤٌ جائعاً فقد برئت منهم ذمة الله عز وجل ". وقال ): "لا يشبع المؤمن دون جاره". وفي صحيح الحاكم عن ابن عباس عن النبي ) قال: "ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع". وفي رواية: "ما آمن من بات شبعاناً، وجاره طاوياً".
فأفضل أنواع إطعام الطعام: الإيثار مع الحاجة كما وصفه الله تعالى بذلك الأنصار رضي الله عنهم فقال: )ويُؤثِرونَ على أَنْفُسِهم ولو كانَ بهمْ خَصَاصَةٌ(، وقد صح أن سبب نزولها أن رجلاً منهم أخذ ضيفاً من عند النبي ) يُضيفه، فلم يجد عنده إلا قوت صبيانه، فاحتال هو وامرأته حتى نوّما صبيانهما، وقام إلى السراج كأنه يصلحه فأطفأه، ثم جلس مع الضيف يريه أنه يأكل معه ولم يأكل، فلما غدا على رسول الله) قال له: "عجب الله من صنيعكما الليلة". ونزلت الآية.
وكان كثير من السلف يؤثر بفطوره وهو صائم ويُصبح صائماً، منهم: عبد الله بن عمررضي الله عنهما وداود الطائي، وعبد العزيز بن سليمان، ومالك بن دينار، وأحمد بن حنبل وغيرهم. وكان ابن عمر لا يفطر إلا مع اليتامى والمساكين، وربما علم أن أهله قد ردوهم عنه فلم يفطر في تلك الليلة.
ومنهم من كان لا يأكل إلا مع ضيف له، قال أبو السوار العدوي: كان رجال من بني عدي يصلون في هذا المسجد، ما أفطر أحد منهم على طعام قط وحده، إن وجد من يأكل معه أكل، وإلا أخرج طعامه إلى المسجد فأكله مع الناس، وأكل الناس معه.
 
وكان منهم من يطعم إخوانه الطعام وهو صائم، ويجلس يخدمهم ويروحهم منهم الحسن وابن المبارك، وكان ابن المبارك ربما يشتهي الشيء فلا يصنعه إلا لضيف ينزل به فيأكله مع ضيفه، وكان كثير منهم يفضل إطعام الإخوان على الصدقة على المساكين، وقد روي في هذا المعنى مرفوعاً من حديث أنس بإسناد ضعيف، ولا سيما إن كان الإخوان لا يجدون مثل ذلك الطعام. كان بعضهم يعمل الأطعمة الفاخرة ثم يطعمها إخوانه الفقراء، ويقول: إنهم لا يجدونها. وبعضهم يصنع له طعاماً ولا يأكل، ويقول: إني لا أشتهيه، وإنما صنعته لأجلكم. وبعضهم اتخذ حلاوة فأطعمها المعتوه، فقال له أهله: إن هذا لا يدري!. فقال: لكن الله يدري.
واشتهى الربيع بن خيثم حلواء، فلما صنعت له دعا بالفقراء فأكلوا، فقال له أهله: أتعبتنا ولم تأكل!. غفال: ومن أكله غيري!. وقال آخر منهم وجرى له نحو من ذلك: إذا أكلته كان في الحش، وإذا أطعمته كان عند الله مذخوراً. وروي عن علي قال: لأن أجمع أناساً من إخواني على صاع من طعام، أحب إليّ من أن أدخل سوقكم هذا فأبتاع نسمةً فأعتقها. وعن أبي جعفر محمد بن علي قال: لأن أدعو عشرة من أصحابي فأطعمهم طعاماً يشتهونه أحب إلي من أن أعتق عشرة من ولد إسماعيل.
أأصف الإيثار لمن يبخل بأداء الحقوق الواجبة عليه؟! أأطلب الشجاعة من الجبان، وأستشهد على رؤية الهلال من هو من جملة العميان؟! كم بين من قيل فيه: )فلمآ آتاهم من فضلِه بَخِلوا به( وبين من قيل فيه: )ويُؤثرون على أنفسِهم ولو كان بهم خَصاصَةٌ(.؟! بيننا وبين القوم كما بين لبيقظة والنوم:
لا تَعْرِضَنَّ لذكرنا في ذكرهم *** ليس الصحيحُ إذا مشى كالمقعد
فيا من يطمع في علو الدرجات من غير عمل صالح هيهات هيهات! )أَمْ حَسِبَ الذين اجْتَرحوا السيئاتِ أن نجعلَهم كالذين آمنوا وعَمِلوا الصالحاتِ:)
نزلوا بمكة في قبائلَ نوفلِ *** ونزلتُ بالبيداء أبعدَ منزل
 
"الثاني من الدرجات": لين الكلام، وفي رواية: "إفشاء السلام". وهو داخل في لين الكلام، وقد قال الله عز وجل: )وقُولوا للناس حُسناً(، وقال تعالى: )وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسنُ(، وقال تعالى: )ادفع بالتي هي أحسنُ فإذا الذي بينَكَ وبَينَهُ عداوةٌ كأَنَّهُ وليٌّ حميم" وما يُلقّاها إلا الذين صبروا وما يُلقّاهآ إلا ذُو حظٍّ عظيمٍ(، وقال تعالى: )وجادلهم بالتي هي أحسنُ(، وقال تعالى: )ولا تُجادِلوآ أهلَ الكتابِ إلا بالتي هيَ أحسنُ إلا الذين ظلموا منهم(، ولما قال النبي ): "الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" قالوا له: وما الحج المبرور يا رسول الله؟ قال: "إطعام الطعام، ولين الكلام". خرجه الإمام أحمد، وقد تقدم في ذكر إطعام الطعام أحاديث أخر في طيب الكلام، وفي حديث الصحيح عن النبي ): "والكلمة الطيبة صدقة"، وفيه أيضاً: "اتقوا النار ولو بشقّ تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة".
وأما إفشاء السلام فمن موجبات الجنة، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي ) قال: "والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم". وخرّج أبو داود من حديث أبي أمامة عن النبي ) قال: " إن أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام". ويروى من حديث ابن مسعود مرفوعاً وموقوفاً: "إذا مرّ الرجل بالقوم فسلّم عليهم فردّوا عليه كان له عليهم فضل درجة لأنه ذكرهم بالسلام، وإن لم يردوا عليه ردّ عليه ملأٌ خير منهم وأطيب".
 
وقد روي من حديث عمران بن حصين وغيره أن رجلاً دخل على النبي ) فقال: السلام عليكم. فقال النبي):"عشرٌ"، ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله. فقال رسول الله ): "عشرون"، ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فقال رسول الله ): "ثلاثون". خرجه الترمذي وغيره، وخرجه أبو داود، وزاد: ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته. فقال النبي ): "أربعون" ثم قال: "هكذا تكون الفضائل".
وقد سبق حديث: "أن تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف" وفي حديث ابن مسعود مرفوعاً: "من أشراط الساعة: السلام بالمعرفة". خرجه الإمام أحمد.
وإنما جمع بين إطعام الطعام ولين الكلام ليكمل بذلك الإحسان إلى الخلق بالقول والفعل، فلا يتم الإحسان بإطعام الطعام إلا بلين الكلام وإفشاء السلام، فإن أساء بالقول بطل الإحسان بالفعل من الإطعام وغيره كما قال تعالى: )يآ أيُّها الذين آمنوا لا تُبطِلوا صدقاتِكم بالمنِّ والأذى(، وربما كان معاملة الناس بالقول الحسن أحب إليهم من الإحسان بإعطاء المال كما قال لقمان لابنه: يا بنيّ! لتكن كلمتك طيبة، ووجهك منبسطاً، تكن أحب إلى الناس ممن يُعطيهم الذهب والفضة. وقد كان النبي ) يلين القول لمن يشهد له بالشر فينتفي بذلك شرّه، وكان ) لا يواجه أحداً بما يكره في وجهه ولم يكن ) فاحشاً ولا متفحشاً.
وروي عن ابن عمر أنه كان ينشد:
بنيَّ إنّ البرَّ شيءٌ هيِّنٌ *** :وجهٌ طليقٌ وكلامٌ ليِّنٌ
ولبعضهم:
خُذ العفو وأمر بعرف كما *** أُمِرتَ وأعرضْ عن الجاهلينْ
ولِنْ في الكلام لكلِّ الأنامِ *** فمُستحسَنُ من ذوي الجاهِ لينْ
 
وقد وصف الله عز وجل في كتابه أهل الجنة بمعاملة الخلق بالإحسان بالمال واحتمال الأذى، فقال تعالى: )وسارعوآ إلى مغفرةٍ من ربِّكم وجَنَّةٍ عرضُها السمواتُ والأرضُ أُعِدَّتْ للمتقين" الذين يُنفقون في السرَّآء والضرَّآء والكاظمين الغيظَ والعافين عن الناسِ والله يُحِبُّ المُحسنين( فالإنفاق في السراء والضراء يقتضي غاية الإحسان بالمال من الكثرة والقلة، وكظم الغيظ والعفو عن الناس يقتضي عدم المقابلة على السيئة من قول وفعل، وذلك يتضمن إلانة القول، واجتناب الفحش والإغلاظ في المقال ولو كان مباحاً، وهذا نهاية الإحسان، فلهذا قال تعالى: )والله يحبُّ المحسنين(.
ومن هذا قول بعضهم وقد سُئل عن حسن الخلق، فقال: بذل الندى وكف الأذى. وهذا الوصف المذكور في القرآن أكمل من هذا، لأنه وصفهم ببذل الندى، واحتمال الأذى. وحسن الخلق يبلغ به العبد درجات المجتهدين في العبادة، كما قال النبي ): "إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم النهار، القائم الليل". ورؤي بعض السلف في المنام فسئل عن بعض إخوانه الصالحين، فقال: وأين ذلك؟! رُفع في الجنة بحُسن خلقه.
ومما يُندب إلى إلانة القول فيه: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يكون برفق كما قال تعالى في حق الكفار: )وجادِلهم بالتي هيَ أحسنُ(، قال بعض السلف: ما أغضبت أحداً فقبل منك. وكان أصحاب ابن مسعود إذا رأوا قوماً على ما يُكره يقولون لهم: مهلاً مهلاً بارك الله فيكم. ورأى بعض التابعين رجلاً واقفاً مع امرأة فقال لهما: إن الله يراكما، سترنا الله وإياكما. ودُعي الحسن إلى دعوة، فجيء بآنيةٍ فضةٍ فيها حلواء، فأخذ الحسن الحلواء فقلبها على رغيف وأكل منها، فقال بعض من حضر: هذا نهيٌ في سكون.
 
ورأى الفضيل رجلاً يعبث في صلاته فزبره، فقال له الرجل: يا هذا! ينبغي لمن يقوم لله أن يكون ذليلاً، فبكى الفضيل، وقال له: صدقت. قال شعيب بن حرب: ربما مر سفيان الثوري بقوم يلعبون الشطرنج، فيقول: ما يصنع هؤلاء؟ فيقال له: يا أبا عبد الله ينظرون في كتاب. فيُطأطيء رأسه ويمضي، وإنما يريد بذلك ليُعلم أنه قد أنكر. وقال سفيان: لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا من كان فيه خصال ثلاث: رفيق بما يأمر، رفيق بما ينهى، عدل بما يأمر، عدل بما ينهى، عالم بما يأمر، عالم بما ينهى. وقال الإمام أحمد: الناس يحتاجون إلى مداراة ورفق في الأمر بالمعروف بلا غلظة إلا رجلاً معلناً بالفسق فإنه لا حرمة له.
وكان كثير من السلف لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا سراً فيما بينه وبين من يأمره وينهاه. وقالت أم الدرداء: من وعظ أخاه سراً فقد زانه، ومن وعظه علانية فقد شانه.
وكذلك مقابلة الأذى بإلانة القول كما قال تعالى: )ادفعْ بالتي هيَ أحسنُ(، وقال تعالى: )ويدرَؤُن بالحسنةِ السيئةَ أولئك لهم عُقْبى الدارِ(، قال بعض السلف: هو الرجل يسبه الرجل فيقول له: إن كنت صادقاً فغفر الله لي، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك. قال رجل لسالم بن عبد الله وقد زحمت راحلتُه راحلتَه في سفر: ما أراك إلا رجل سوء. فقال له سالم: ما أراك أبعدت.
وقالت امرأة لمالك بن دينار: يا مُرائي!. قال: متى عرفت اسمي؟! ما عرفه أحد من أهل البصرة غيرك. ومر بعضهم على صبيان يلعبون بجوز، فوطئ على بعض الجوز بغير اختياره فكسره، فقال له الصبي: يا شيخ النار! فجلس الشيخ يبكي ويقول: ما عرفني غيره. ومر بعضهم مع أصحابه في طريق فرموا عليهم رماداً، فقال الشيخ لأصحابه: من يستحق النار فصالحوه على الرماد؟! يعني فهو رابح
 
ورأى جندب إبراهيم بن أدهم خارج البلد فسأله عن العمران، فأشار له إلى القبور، فضرب رأسه ومضى، فقيل له إنه إبراهيم بن أدهم! فرجع يعتذر إليه، فقال له إبراهيم: الرأي الذي يحتاج إلى اعتذارك تركته ببلخ. ومر به جندي آخر وهو ينظر بستاناً لقوم بأجرة، فسأله أن يناوله شيئاً فلم يفعل وقال: إن أصحابه لم يأذنوا لي في ذلك. فضرب رأسه، فجعل إبراهيم يطأطئ رأسه وهو يقول: اضرب رأساً طالما عصا الله.
من أجلك قد جعلتُ خدِّي أرضاً *** للشامت والحسود حتى ترضى
"الثالث من الدرجات":
الصلاة بالليل والناس نيام، فالصلاة بالليل من موجبات الجنة كما سبق ذكره في غير حديث، وقد دل عليه قول الله عز وجل: )إنَّ المتقين في جناتٍ وعُيونٍ" آخذين مآ آتاهم ربُّهم إنهم كانوا قبلَ ذلك مُحسنين" كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون" وبالأسحارِ هم يستغفرون" وفي أموالِهم حقٌ للسائلِ والمحرومِ(، فوصفهم بالتيقظ بالليل، والاستغفار بالأسحار، وبالإنفاق من أموالهم.
وكان بعض السلف نائماً فأتاه آتٍ في منامه فقال له: قم فصلِّ، أما علمت أن مفاتيح الجنة مع أصحاب الليل، هم خزانها هم خزّانها.
وقيام الليل يوجب علوّ الدرجات في الجنة، قال الله تعالى لنبيه ): )ومن الليل فتهجَّدْ به نافلةً لك عسى أنْ يبعَثك ربُّك مقاماً محموداً(، فجعل جزاءه على التهجد بالقرآن بالليل أن يبعثه المقام المحمود، وهو أعلى درجاته ).
قال عون بن عبد الله: "إن الله يدخل الجنة أقواماً فيعطيهم حتى يملّوا، وفوقهم ناس في الدرجات العُلى، فلما نظروا إليهم عرفوهم، فقالوا: ربنا إخواننا كنا معهم، فبم فضلتهم علينا؟ فيقول: هيهات هيهات! إنهم كانوا يجوعون حين تشبعون، ويظمئون حين تروون، ويقومون حين تنامون، ويشخصون حين تخفضون".
 
ويوجب أيضاً نعيم الجنة ما لم يطلع عليه العباد في الدنيا، قال الله عز وجل: )تَتَجافى جُنُوبُهُم عن المضاجع يدعون ربَّهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم يُنفقون" فلا تعلم نفسٌ مآ أُخفِيَ لهم من قُرَّة أَعْيُنٍ جزآءً بما كانوا يعملون(. وفي الصحيح عن النبي ) قال: "يقول الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. اقرءوا إن شئتم: )فلا تعلمُ نفسٌ ما أُخفِي لهم من قُرَّةِ أعيُنٍ جزاءً بما كانوا يعملون( ". قال بعض السلف: أخفوا لله العمل فأخفى الله لهم الجزاء، فلو قدموا عليه لأقرّ تلك الأعين عنده.
ومما يجزي به المتهجدين في الليل: كثرة الأزواج من الحور العين في الجنة، فإن المتهجد قد ترك لذة النوم ولذة التمتع بأزواجه طلباً لما عند الله عز وجل، فعوضه الله تعالى خيراً مما تركه وهو الحور العين في الجنة، ومن هنا قال بعض السلف: طول التهجد مهور الحور العين في الجنة. وكان بعض السلف يحيي الليل بالصلاة ففتر عن ذلك، فأتاه آتٍ في منامه فقال له: قد كنت يا فلان تدأب في الخطبة، فما الذي قصر بك عن ذلك؟. قال: وما ذلك؟. قال: كنت تقوم من الليل، أوَ ما علمت أن المتهجد إذا قام إلى التهجد قالت الملائكة: قد قام الخاطب إلى خطبته؟! ورأى بعضهم في منامه امرأة لا تشبه نساء الدنيا فقال لها: من أنت؟ قالت: حوراء أمة الله. فقال لها: زوجيني نفسك. قالت: اخطبني إلى سيدي وامهرني. قال: وما مهرك؟ قالت: طول التهجد.
نام بعض المتهجدين ذات ليلة فرأى في منامه حوراء تنشد:
أتخطبُ مثلي وعنِّي تنام *** ونومُ المحبين عنَّا حرام
لأنّا خُلِقنا لكلِ امرئٍ *** كثير الصلاة براه الصيام
وكان لبعض السلف ورد من الليل فنام عنه ليلة، فرأى في منامه جارية كأن وجهها القمر ومعها رقٌ فيه كتاب، فقالت: أتقرأ؟.قال: نعم. فأعطته إياه ففتحه فإذا فيه مكتوب:
أألهتك لذةُ نَومةٍ عن خير عيشٍ *** مع الخيرات في غُرَفِ الجنان
 
تعيش مخلّداً لا موتَ فيه *** وتنعُمُ في الجنان مع الحِسان
تيَقّظ من منامك إن خيراً *** من النوم التهجُّدُ بالقرآن
فاستيقظ، قال: فوالله ما ذكرتها إلا ذهب عني النوم.
كان بعض الصالحين له ورد فنام عنه، فوقف عليه فتى في منامه فقال له بصوت محزون:
تيقّظ لساعاتٍ من الليل يا فتى *** لعلك تحظى في الجِنان بحورها
فتنعُمَ في دارٍ يدومُ نعيمُها *** محمدٌ فيها والخليلُ يزورها
فقمْ فتيقظْ ساعةً بعد ساعةٍ *** عساك تُوفِّي ما بقى من مهورها
كان بعض السلف الصالحين كثير التعبد، وبكى شوقاً إلى الله ستين سنة، فرأى في منامه كأنه على ضفة نهر يجري بالمسك، حافتاه شجر لؤلؤ ونبت من قضبان الذهب، فإذا بجوارٍ مزينات يقلن بصوتٍ واحد:
ذرانا إلهُ الناس ربُّ محمدٍ *** لقومٍ على الأقدام بالليل قُوَّمُ
يناجُون ربَّ العالمين إلهم *** وتسري همومُ القومِ والناسُ نُوَّمُ
فقال: بخ بخ لهؤلاء! من هم؟! لقد أقرّ الله أعينهم بكُن. فقلن: أوما تعرفهم؟! قال: لا. فقلن: بلا هؤلاء المتهجدون أصحاب القرآن والسهر.
وكان بعض الصالحين ربما نام في تهجده فتوقظه الحوراء في منامه فيستيقظ بإيقاظها، وروي عن أبي سليمان الداراني أنه قال: ذهب بي النوم ذات ليلة في صلاتي، فإذا بها يعني: الحوراء تنبهني وتقول: يا أبا سليمان! أترقد وأنا أربي لك في الخدر منذ خمسمائة سنة؟!. وفي رواية عنه أنه نام ليلة في سجوده قال: فإذا بها ركضتني برجلها وقالت: حبيبي أترقد عيناك والملك يقظان ينظر إلى المتهجدين في تهجدهم؟ بؤساً لعين آثرت لذة نومٍ على مناجاة العزيز، قم فقد دنا الفراغ، ولقي المحبون بعضهم بعضاً، فما هذا الرقاد يا حبيبي وقرة عيني؟ أترقد عيناك وأنا أربي لك في الخدور منذ خمسمائة عام؟ فوثب فزعاً من توبيخها له، قال: وإن حلاوة منطقها لفي سمعي وقلبي.

 
وكان أبو سليمان يقول: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا. وقال يزيد الرقاشي لحبيب العجمي: ما أعلم شيئاً أقر لعيون العابدين في الدنيا من التهجد في ظلمة الليل، وما أعلم شيئاً من نعيم الجنان وسرورها ألذّ عند العابدين ولا أقرّ لعيونهم من النظر إلى ذي الكبرياء العظيم إذا رفعت تلك الحجب وتجلى لهم الكريم. فصاح حبيب عند ذلك وخرّ مغشياً عليه.
وكان السري يقول: رأيت الفوائد ترد في ظلام الليل. وقال أبو سليمان: إذا جن الليل وخلا كل جبيب بحبيبه، افترش أهل المحبة أقدامهم، وجرت دموعهم على خدودهم، أشرف الجليل جل جلاله فنادى؛ يا جبريل! بعيني من تلذذ بكلامي، واستروح إلى مناجاتي، ناد فيهم يا جبريل: ما هذا البكاء؟! عل رأيتم حبيباً يعذب أحباءه؟ أم كيف يجمُل بي أن أعذب قوماً إذا جنّهم الليل تملقوني؟ فبي حلفت إذا قدموا عليّ يوم القيامة لأكشفنّ لهم عن وجهي ينظرون إليّ وأنظر إليهم.
وسئل الحسن: لم كان المتهجدون أحسن الناس وجوهاً؟ قال: لإنهم خلوا بالرحمن فألبسهم نوراً من نوره. رأت امرأة من الصالحات في منامها كأن حُللاً قد فُرقت على أهل مسجد محمد بن جُحادة، فلما انتهى الذي يفرقها إليه دعا بسفطٍ مختوم فأخرج منه حُلةً صفراء، قالت: فلم يقم لها بصري، فكساه إياها، وقال: هذه لك بطول السهر. قالت: فوالله لقد كنت أراهتعني: محمد بن جحادة بعد ذلك فأتخايلها عليه. تعني تلك الحلة.
قال كرز بن وبرة: بلغني أن كعباً قال: إن الملائكة ينظرون من السماء إلى الذين يتهجدون بالليل كما تنظرون أنتم إلى نجوم السماء.
يا نفسُ فازَ الصالحون بالتُّقى *** وأبصرُوا الحقَّ وقلبي قد عُمي
يا حسنهُم والليل قد جنَّهم *** ونورهم يفوقُ نورَ الأنجُمِ
ترنّموا بالذكر في ليلهم *** فعيشهم قد طاب بالترنُّمِ
قلوبهم للذكر قد تفرّغت *** دموعهم كلؤلؤٍ مُنظَّمِ

 
أسحارهم بهم لهم قد أشرقت *** وخِلعُ الغفران خيرُ القِسَمِ
في بعض الآثار يقول الله عز وجل كل ليلة: يا جبريل أقم فلاناً وأنم فلاناً. قام بعض الصالحين في ليلة باردة، وكان عليه
خلقان رثّة فضربه البرد فبكى، فسمع هاتفاً يقول: أقمناك وأنمناهم، ثم تبكي!.
تنبّهوا يا أهلَ وادي المنحنى *** كم ذا الكرى، هبّ نسيمُ وجدي
كم بين خالٍ وجَوّ وساهرٍ *** وراقدٍ وكاتمٍ ومُبدي
قيل لابن مسعود: ما نستطيع قيام الليل. قال: أبعدتكم ذنوبكم.
وقيل للحسن: أعجزنا قيام الليل. قال: قيدتكم خطاياكم. إنما يؤهل الملوك للخلوة ومخاطبتهم من يخلص في ودادهم ومعاملتهم، فأما من كان من أهل مخالفتهم فلا يرضونه لذلك:
الليلُ لي ولأحبابي أُحادِثُهم *** قد اصطفيتهم كي يسمعوا ويَعُوا
لهم قلوبٌ بإسرارٍ لها مُلئت *** على وِدادي وإرشادي لهم طُبِعوا
قد أثمرت شجراتُ الفهمِ عندَهم *** فما جَنوا إذ جَنَوا مما به ارتفعوا
سُرُّوا فما وهِنوا عجزاً وما ضَعُفُوا *** وواصَلُوا حبلَ تقريبي فما انقطعوا
الفصل الثالث
في ذكر الدعوات المذكورة في هذا الحديث
وهي: "اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون، وأسألك حبك، وحب من يحبك، وحب العمل الذي يبلغني حبك". فقال النبي ): "تعلموهن وادرسوهن فإنهن حق".
هذا دعاء عظيم من أجمع الأدعية وأكملها، فقوله ): "أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات". يتضمن طلب كل خير وترك كل شر، فإن الخيرات تجمع كل ما يحبه الله تعالى ويقرب منه من الأعمال والأقوال من الواجبات والمستحبات، والمنكرات تشمل كل ما يكرهه الله تعالى ويباعد منه من الأقوال والأعمال، فمن حصل له هذا المطلوب حصل له خير الدنيا والآخرة، وقد كان النبي ) يستحب مثل هذه الأدعية الجامعة، قالت عائشة: كان النبي ) يعجبه الجوامع من الدعاء، ويدع ما بين ذلك. خرجه أبو داود.

 
وقوله: "حب المساكين". هذا قد يقال أنه من جملة فعل الخيرات، وأفرده بالذكر لشرفه وقوة الاهتمام به، كما أفرد أيضاً ذكر حب الله تعالى وحب من يحبه وحب عمل يبلغه إلى حبه، وذلك أصل فعل الخيرات كلها، وقد يقال أنه طلب من الله عز وجل أن يرزقه أعمال الطاعات بالجوارح وترك المنكرات بالجوارح، وأن يرزقه ما يوجب له ذلك، وهو حبه وحب من يحبه وحب عمل يبلغه حبه، فهذه المحبة بالقلب موجبة لفعل الخيرات بالجوارح ولترك المنكرات بالجوارح، وسأل الله تعالى أن يرزقه المحبة فيه. فقد تضمن هذا الدعاء سؤال حب الله عز وجل وحب أحبابه وحب الأعمال التي تقرب من حبه والحب فيه، وذلك مقتض فعل الخيرات كلها. وتضمن ترك المنكرات والسلامة من الفتن، وذلك يتضمن اجتناب الشر كله، فجمع هذا الدعاء طلب خير الدنيا، وتضمن سؤال المغفرة والرحمة، وذلك يجمع خير الآخرة كله، فجمع هذا الدعاء خير الدنيا والآخرة.
والمقصود أن حب المساكين أصل الحب في الله تعالى، لأن المساكين ليس عندهم من الدنيا ما يوجب محبتهم لأجله، فلا يحبون إلا لله عز وجل و "الحب في الله من أوثق عرى الإيمان"، و "من علامات ذوي حلاوة الإيمان"، وهو "صريح الإيمان"، وهو "أفضل الإيمان"، وهذا كله مروي عن النبي ) أنه وصف به الحب في الله تعالى، وروي عن ابن عباس أنه قال: "به تنال ولاية الله، وبه يوجد طعم الإيمان".
وحب المساكين قد وصى به النبي ) غير واحد من أصحابه، قال أبو ذر: أوصاني رسول الله ) أن أحب المساكين، وأن أدنو منهم. خرجه الإمام أحمد، وخرج الترمذي عن عائشة أن النبي ) قال لها: "يا عائشة! أحبي المساكين وقربيهم فإن الله يقربك يوم القيامة".
ويروى أن داود عليه السلام كان يجالس المساكين، ويقول: يا رب مسكين بين مساكين. ولم يزل السلف الصالح يوصون بحبح المساكين، كتب سفيان الثوري إلى بعض إخوانه: "عليك بالفقراء والمساكين والدنو منهم، فإن رسول الله ) كان يسأل ربه حب المساكين".
 
وحب المساكين مستلزم لإخلاص العمل لله تعالى، والإخلاص هو أساس الأعمال الذي لا تثبت الأعمال إلا عليه، فإن حب المساكين يقتضي إسداء النفع إليهم بما يمكن من منافع الدين والدنيا، فإذا حصل إسداء النفع إليهم حباً لهم والإحسان إليهم كان هذا العمل خالصاً، وقد دل القرآن على ذلك، قال عز وجل: )ويُطعِمون الطعام على حُبِّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً" إنما نُطعمكم لوجهِ الله لا نريدُ منكم جزآءً ولا شُكوراً( الإنسان: 8،9،وقال عز وجل: )ولا تطرُدِ الذين يدعون ربَّهم بالغَداةِ والعَشيِّ يُريدون وجهَهُ ما عليك من حِسابِهم من شيءٍ وما مِنْ حِسَابِك عليهم مِنْ شيءٍ مع الذين يدعون ربَّهم بالغداةِ والعَشي يريدون وجهَه ولا تعدُ عيناك عنهم تريدُ زينةَ الحياة الدنيا( الكهف: 28.
قال سعد بن أبي وقاص: نزلت هذه الآية في ستة: فيّ وفي ابن مسعود وصهيب وعمار والمقداد وبلال، قالت قريش لرسول الله ): إنا لا نرضى أن نكون أتباعاً لهم فاطردهم عنك. فأنزل الله عز وجل: )ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه( الآية.
 
وقال خباب بن الأرت في هذه الآية: جاء الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن فوجدوا رسول الله ) مع صهيب وعمار وبلال وخباب قاعداً في ناس من الضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حول النبي ) حقروهم، فأتوه فخلوا به، وقالوا: إنا نريد أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا به العرب فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنك، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت. قال: نعم. قالوا: فاكتب لنا عليك كتاباً. قال: فدعا بصحيفة، ودعا علياً ليكتب ونحن قعود في ناحية فنزل جبريل عليه السلام فقال: )ولا تطرد الذين يدعون ربَّهم بالغداة والعَشيِّ يُريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيءٍ وما من حسابك عليهم من شيءٍ فتطردَهم فتكون من الظالمين( ثم ذكر الأقرع بن حابس وعيينة ابن حصين فقال: )وكذلك فتنَّا بعضهم ببعضٍ ليقولوآ أهؤلاء مَنَّ الله عليهم من بيننا أليسَ الله بأعلَم بالشاكرين( النعام: 53 ثم قال: )وإذا جآءك الذين يؤمنون بآياتنا فَقُلْ سلامٌ عليكم كتبَ ربُّكم على نفسه الرحمة( الأنعام: 54. قال: فدنونا منه حتى وضعنا ركبنا على ركبتيه، وكان رسول الله ) يجلس معنا فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا، فأنزل الله عز وجل: )واصبر نفسك مع الذين يدعون ربَّهم بالغداةِ والعَشيِّ يُريدون وجهَه ولا تعدُ عيناك عنهم( ولا تجالس الأشراف، )ولا تُطِعْ مَنْ أغفلنا قلبَهُ عن ذِكرِنا( الكهف: 28 يعني: عيينة والأقرع. قال خباب: فكنا نقعد مع النبي ) فإذا بلغنا الساعة التي يقوم قمنا وتركناه حتى يقوم. خرجه ابن ماجة وغيره.
وكان النبي ) يعود المرضى من مساكين أهل المدينة ويشيع جنائزهم، "وكان لا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين حتى يقضي حاجتهما"، وعلى هذا الهدي كان أصحابه من بعده والتابعون لهم بإحسان.
 
وروي عن أبي هريرة قال: كان جعفر بن أبي طالب يحب المساكين ويجلس إليهم، ويحدثهم ويحدثونه، وكان النبي ) يكنيه: أبا المساكين. وفي رواية: أنه كان يطعمهم، وربما أخرج لهم عكة فيها العسل فشقوها ولعقوها.
وكانت زينب بنت خزيمة أم المؤمنين تسمى أم المساكين لكثرة إحسانها إليهم، وقد توفيت في حياة النبي ). وقال ضرار بن مرة في وصف علي بن أبي طالب في أيام خلافته: كان يعظم أهل الدين، ويحب المساكين. ومر ابنه الحسن رضي الله عنهما على مساكين يأكلون، فدعوه فأجابهم وأكل معهم، وتلا: )إنَّه لا يُحبُّ المُستكبرين( النحل: 23 ثم دعاهم إلى منزله فأطعمهم وأكرمهم. وكان ابن عمر لا يأكل غالباً إلا مع المساكين، ويقول: لعل بعض هؤلاء أن يكون ملكاً يوم القيامة.
وجاء مسكين أعمى إلى ابن مسعود وقد ازدحم الناس عنده فناداه: يا أبا عبد الرحمن! آويت أرباب الخز واليمنية وأقصيتني لأجل أني مسكين. فقال له: أدنه. فلم يزل يدنيه حتى أجلسه بجانبه أو بقربه. وكان مطرف بن عبد الله يلبس الثياب الحسنة ثم يأتي المساكين ويجالسهم. وكان سفيان الثوري يعظم المساكين ويجفو أهل الدنيا، فكان الفقراء في مجلسه هم الأغنياء، والأغنياء هم الفقراء. وقال سليمان التيمي: كنا إذا طلبنا علية أصحابنا وجدناهم عند الفقراء والمساكين. وقال الفضيل: من أراد عز الآخرة فليكن مجلسه مع المساكين.
ومن فضائل المساكين أنهم أكثر أهل الجنة كما قال النبي ): "قمت على باب الجنة فإذا عامة من دخلها المساكين" وقال ): "تحاجت الجنة والنار، فقالت الجنة: لا يدخلني إلا الضعفاء والمساكين" وسئل النبي ) عن أهل الجنة، فقال: "كل ضعيف متضعف".
وهم أول الناس دخولاً كما صح عنه ): "أن الفقراء يسبقون الأغنياء إلى الجنة بأربعين عاماً". وفي رواية: "أنهم يدخلون الجنة بنصف يوم، وهو خمسمائة سنة".

 
وهم أول الناس إجازة على الصراط كما صح عنه ) أنه سئل: من أول الناس غجازة على الصراط؟ فقال: "فقراء المهاجرين".
وهم أول الناس وروداً الحوض كما قال ): "أول الناس وروداً عليه: فقراء المهاجرين، الدنس الثياب والشعث رؤوساً، الذين لا ينكحون المتنعمات، ولا تفتح لهم السدد".
وهم أتباع الرسل كما أخبر الله تعالى عن نوح عليه السلام أن قومه عيروه باتباع الضعفاء له فقالوا: )أنؤمنُ لك واتَّبعكَ الأرْذَلون( الشعراء: 111، وكذلك قال هرقل لأبي سفيان لما سأله النبي ): وهل يتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاءهم. قال هرقل: هم اتباع الرسل.
وهم أفضل من الأغنياء عند كثير من العلماء أو أكثرهم، وقد دل على ذلك أدلة كثيرة، منها قول النبي ) حين مر به الغني والمسكين في المسجد: "هذا يعني: المسكين خير من ملء الأرض من مثل هذا يعني: الغني". وقد خرجه البخاري وغيره.
ومنهم من لو أقسم على الله لأبره كما في الصحيح عن النبي ) أنه قال في أهل الجنة: "كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره". وفي رواية: "أشعث ذو طمرين"، وفي رواية خرجها ابن ماجة: "أنهم ملوك الجنة"، وفي الحديث المشهور: "رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره" خرجه الحاكم وغيره.
رُبَّ ذي طمرين نِضْوٍ *** يأمَنُ العَالَمُ شَرَّهُ
لا يُرى إلاّ غنياً *** وهو لا يملكُ ذَرَّهْ
ثم لو أقسمَ في شيءٍ *** على اللهِ أَبَرَّهْ
قال ابن مسعود: كونوا جدد القلوب، خلقان الثياب، سرج الليل، مصابيح الظلام، تعرفون في أهل السماء، وتخفون على أهل الأرض.
طوبى لعبدٍ بحبلِ الله مُعْتَصَمُه *** على صراطٍ سَويٍّ ثابتٍ قدمُه
رثّ اللباس جديدِ القلب مُستترٍ *** في الأرض مشتهرٍ فوقَ السما وَسْمُه
ما زال يستحقرُ الأُولَى بِهمَّته *** حتى ترقّى إلى الأخرى به هِمَمُه
فداك أعظمُ من التاج مُتّكئاً *** على النمارق مُحتفّاً به خَدَمُه

 
واعلم أن محبة المساكين لها فوائد كثيرة، منها: أنها توجب إخلاص العمل لله عز وجل، لأن الإحسان إليهم لمحبتهم لا يكون
إلا لله عز وجل، لأن نفعهم لا يرجى غالباً. فأما من أحسن إليهم ليمدح بذلك فمل أحسن إليهم حباً لهم بل حباً لأهل الدنيا، وطلباً لمدحهم له بحب المساكين.
ومنها: أنها تزيل الكبر، فإن المستكبر لا يرضى مجالسة المساكين كما سبق عن رؤساء قريش والأعراب ومن حذا حذوهم من هذه الأمة ممن تشبه بهم، حتى إن بعض علماء السوء كان لا يشهد الصلاة في جماعة خشية أن تزاحمه المساكين في الصف.
ويمتنع بسبب هذا الكبر خير كثير جداً، فإن مجالسة الذكر والعلم يقع فيها كثيراً مجالسة المساكين، فإنهم أكثر هذه المجالس، فيمتنع المتكبر من هذه المجالس بتكبره، وربما كان المسموع منه الذكر والعلم من جملة المساكين، فيأنف أهل الكبر من التردد إلى مجلسه كذلك يفوتهم خير كثير. وقد أخبر الله تعالى عن المشركين أنهم قالوا: )لولا نُزِّلَ هذا القرآنُ على رجلٍ من القريتين عظيم( الزخرف: 31 يشيرون إلى عظماء مكة والطائف كعتبة بن ربيعة وأخيه شيبة ونحوهما من صناديد قريش وثقيف ذوي الأموال والشرف فيهم ممن كان أكثر مالاً من محمد ) وأعظم رياسة عندهم، ورد عليهم سبحانه بأنه يقسم رحمته كما يشاء، وأنه كما رفع درجات بعضهم على بعض في الدنيا فكذلك يرفعها في الآخرة، وأن رحمته بالنبوة والعلم والإيمان خير مما يجمعونه من الأموال التي تفنى، فهو يخص بهذه الرحمة الدينية من يشاء ويرفعه على أهل النعم الدنيوية، وقد خص محمداً ) بما لم يشركه غيره من هذه النعم كما قال تعالى: )وأنزل الله عليك الكتابَ والحكمةَ وعلَّمكَ ما لم تكنْ تعلمُ وكانَ فضلُ الله عليك عظيماً( النساء: 113.

 
وقد كان علي بن الحسين يجلس في مجلس زيد بن أسلم فيعاتب على ذلك فيقول: إنما يجلس المرء حيث يكون له فيه نفع. أو كما قال: يشير إلى أنه ينتفع بسماع ما لم يسمعه من العلم والحكمة، وزيد بن أسلم أبوه مولى لعمر، وعلي بن الحسين سيد بني هاشم وشريفهم.
ولما اجتمع الزهري وأبو حازم الزاهد بالمدينة عند بعض بني أمية لما حجّ وسمع الزهري كلام أبي حازم وحكمته أعجبه ذلك، وقال: هو جاري منذ كذا وكذا، وما جالسته وما عرفت أن هذا عنده!. فقال له أبو حازم: أجل إني من المساكين، ولو كنت من الأغنياء لعرفتني فوبخه بذلك. وفي رواية عنه أنه قال له: لو أحببت الله أحببتني، ولكنك نسيت الله فنسيتني. يشير إلى أن من أحب الله تعالى أحب المساكين من أهل العلم والحكمة لأجل محبته لله تعالى، ومن غفل عن الله تعالى غفل عن أوليائه من المساكين فلم يرفع بهم رأساً، ولم ينتفع بما اختصهم الله عز وجل به من الحكمة والعلوم النافعة التي لا توجد عند غيرهم من أهل الدنيا.
وقد كان علماء السلف يأخذون العلم عن أهله والغالب عليهم المسكنة وعدم المال والرفعة في الدنيا، ويدعون أهل الرياسات والولايات فلا يأخذون عنهم ما عندهم من العلم بالكلية.
ومنها: أنه يوجب صلاح القلب وخشوعه، وفي المسند عن أبي هريرة أن رجلاً شكى إلى رسول الله ) قسوة قلبه، فقال له: "إن أحببت أن يلين قلبك فأطعم المسكين وامسح رأس اليتيم"
 
الوسوم
اختصام الاعلى الملأ حديث شرح
عودة
أعلى