شرح حديث اختصام الملأ الأعلى

ومنها: أن مجالسة المساكين توجب رضى من يجالسهم برزق الله عز وجل، وتعظم عنده نعمة الله عز وجل عليه بنظره في الدنيا إلى من دونه. ومجالسة الأغنياء توجي السخط بالرزق، ومد العين إلى زينتهم وما هم فيه، وقد نهى الله عز وجل نبيه ) عن ذلك فقال تعالى: )ولا تَمُدَّنَّ عينيك إلى ما متَّعنا به أزواجاً منهم زَهْرَةَ الحياةِ الدنيا لنفتِنَهم فيه ورزقُ ربِّك خيرٌ وأبقى( طه: 131، وقال النبي ): "انظروا إلى من دونكم ولا تنظروا إلى من فوقكم، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم". قال أبو ذر: أوصاني رسول الله ) أن أنظر إلى من دوني ولا أنظر إلى من فوقي، وأوصاني أن أحب المساكين وأن أدنو منهم.
وكان عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود يجالس الأغنياء فلا يزال في غمّ، لأنه لا يزال يرى من هو أحسن منه لباساً ومركباً ومسكناً ومطعماً، فتركهم وجالس المساكين فاستراح من ذلك.
وقد روي عن النبي ) أنه نهى عائشة من مخالطة الأغنياء. وقال عمر: إياكم والدخول على أهل السعة فإنه مسخطة للرزق.
واعلم أن المسكين إذا أطلق يراد به غالباً من لا مال له يكفيه، فإن الحاجة توجب السكون والتواضع، بخلاف الغني فإنه يوجب الطغيان، ولهذا ذم الفقير المختال وعظم وعيده لأنه عصى بما ينافي فقره، وهو الاختيال والزهو والكبر.
ولما كان المسكين عند الإطلاق لا ينصرف إلا إلى من لا كفاية له من المال وصى الله تعالى بإيثار المساكين وإطعامهم الطعام، ومدح من يطعمهم، وذم من لا يحض على إطعامهم، وجعل لهم حقاً في أموال الصدقات والفئ وخمس الغنائم وحضور قسمة الأموال.
 
وهؤلاء المساكين على قسمين: أحدهما: من هو محتاج في الباطن وقد أظهر حاجته للناس، والثاني: من يكتم حاجته ويظهر للناس أنه غني فهذا أشرف القسمين، وقد مدح الله عز وجل هذا في قوله تعالى: )للفقرآءِ الذين أُحْصِروا في سبيلِ الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسَبُهم الجاهلُ أغنيآءَ من التَّعفُّفِ تعرفُهم بسيماهم لا يسألون الناسَ إلحافاً( البقرة: 273، وقال النبي ): "ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين من لا يجد ما يغنيه، ولا يُفطن له فيُتصدق عليه". وقال بعضهم: هذا المحروم المذكور في قوله عز وجل: )للسآئلِ والمحرومِ( الذاريات: 19، فأخبر النبي ) أن من كتم حاجته فلم يفطن له أحق باسم المسكين من الذي أظهر حاجته بالسؤال، وأنه أحق بالبر منه، وهذا يدل على أنهم كانوا لا يعرفون من المساكين إلا من أظهر حاجته بالسؤال، وبهذا فرق طائفة من العلماء بين الفقير والمسكين، فقالوا: من أظهر حاجته فهو مسكين، ومن كتمها فهو فقير. وفي كلام الإمام أحمد إيماء إلى ذلك، وإن كان المشهور عنه أن التفريق بينهما بكثرة الحاجة وقلتها كقول كثير من الفقهاء، وهذا حيث جمع بين ذكر الفقير والمسكين كما في آية الصدقات، وأما إن أفرد أحد الاسمين دخل فيه الآخر عند الأكثرين.
وقد كان كثير من السلف يكتم حاجته ويظهر الغنى تعففاً وتكرماً، منهم: إبراهيم النخعي كان يلبس ثياباً حسناء، ويخرج إلى الناس وهم يرون أنه تحل له الميتة من الحاجة.
وكان بعض الصالحين يلبس الثياب الجميلة وفي كمه مفتاح دار كبيرة ولا مأوى له إلا المساجد،وكان آخر لا يلبس جبة في الشتاء لفقره، ويقول: بي علة تمنعني من لبس المحشو. وإنما يعني به الفقر شعر:
أن الكريم ليُخفي عنك عُسرته *** حتى تراه غنياً وهو مجهود
 
وكان بعكس هؤلاء من يلبس ثياب المساكين مع الغنى تواضعاً لله عز وجل، وبعداً من الكبر كما كان يفعله الخلفاء الراشدون الأربعة وبعدهم عمر بن عبد العزيز، وكذلك كان جماعة من الصحابة منهم: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهما رضي الله عنهم، وروي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان ينشد:
إذا أردت شريفَ الناس كُلِّهمُ *** فانظُر إلى ملكٍ في زِيِّ مسكين
ذاك الذي حَسُنت في الناس سيرتُه *** وذاك يصلحُ للدُّنيا وللدين
وكان علي رضي الله عنه يعاتب على لباسه فيقول: هو أبعد من الكبر، وأجدر أن يقتدي بي المسلم. وعوتب عمر بن عبد العزيز على ذلك فقال: إن أفضل القصد عند الجدة. يعني: أفضل ما اقتصد الرجل في لباسه مع قدرته ووجدانه.
وفي سنن أبي داود وغيره عن النبي ) أنه قال: "البذاذة من الإيمان" يعني: التقشف. وفي الترمذي عن النبي ): "من ترك اللباس تواضعاً لله عز وجل وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها". وخرجه أبو داود من وجه آخر ولفظه: "من ترك ثوب جمال أحسبه قال: تواضعاً كساه الله حلة الكرامة".
وإنما يذم من ترك اللباس مع قدرته عليه بخلاً على نفسه، أو كتماناً لنعمة الله عز وجل، وفي هذا جاء الحديث المشهور: "إن الله إذا أنعم على عبد نعمة أحب أن يرى أثر نعمته على عبده". ومن لبس لباساً حسناً إظهاراً لنعمة الله ولم يفعله اختيالاً كان حسناً.
 
وكان كثير من الصحابة والتابعين يلبسون لباساً حسناً، منهم: ابن عباس، والحسن البصري. وقد صح عن النبي ) أنه سئل عن الرجل يحب أن يكون لباسه حسناً ونعله حسناً؟ قال: "ليس ذلك بالكبر، إنما الكبر بطر الحق وغمط الناس". يعني: التكبر عن قبول الحق والانقياد له، واحتقار الناس وازدراءهم فهذا هو الكبر، فأما مجرد اللباس الحسن الخالي عن الخيلاء فليس بكبر، واحتقار الناس مع رثاثة اللباس كبر. وقد روي عن النبي ) أنه كان ماشياً في طريق، وهناك أمة سوداء، فقال لها رجل: الطريق! الطريق! للنبي ). فقالت: الطريق يمنة ويسرة!. فقال النبي ): "دعوها فإنها جبارة". خرجه النسائي وغيره، وفي رواية للطبراني وغيره: قالوا: يا رسول الله! إنها. يعني: مسكينة. قال: "إن ذاك في قلبها". يعني أن الكبر في قلبها وإن كان لباسها لباس المساكين. وقال الحسن إن قوماً جعلوا التواضع في لباسهم والكبر في صدورهم، إن أحدهم أشد كبراً بمدرعته من صاحب السرير بسريره، وصاحب المنبر بمنبره. قال أحمد ابن أبي الحواري: قال لي سليمان بن أبي سليمان وكان يعدل بأبيه: أي شيء أرادوا بثياب الصوف؟. قلت: التواضع. قال: وما يتكبر أحدهم إلا إذا لبس الصوف!.
 
وقال أبو سليمان: يكون ظاهرك قطنياً وباطنك صوفياً. قال أبو الحسين بن بشار: صوف قلبك، والبس القوهي على القوهي. يعني: رفيع الثياب. فمتى أظهر الإنسان لباس المساكين لدعوى الصلاح ليشتهر بذلك عند الناس كان ذلك كبراً ورياء، ومن هنا ترك كثير من السلف المخلصين اللباس المختص بالفقراء والصالحين، وقالوا: إنه شهرة. ولما قدم سيار أبو الحكم البصرة لزيارة مالك بن دينار لبس ثياباً حسنة ثم دخل المسجد فصلى صلاة حسنة، فرآه مالك ولم يعرفه فقال له: يا شيخ! إني أرغب بك عن هذه الثياب مع هذه الصلاة. فقال له: يا مالك! ثيابي هذه تضعني عندك أم ترفعني؟! قال: بل تضعك. فقال: نعم الثوب ثوب يضع صاحبه عند الناس، ولكن انظر يا مالك لعل ثوبيك هذين يعني: الصوف أنزلاك عند الناس ما لم ينزلاك من الله. فبكى مالك وقام إليه واعتنقه، وقال له: أنشدك الله أنت سيار أبو الحكم؟ قال: نعم.
فلهذا كره من كره من السلف كابن سيرين وغيره لباس الصوف حيث صار شعار الزاهدين، فيكون لباسه إشهاراً للنفس، وإظهاراً للزهد، وأما النبي ) فكان يلبس ما وجد، فتارة يلبس لباس الأغنياء من حلل اليمن وثياب الشام ونحوها، وتارة يلبس لباس المساكين فيلبس جبة من صوف أحياناً، وأحياناً يتزر بعباءة ويهيئ إبل الصدقة، يعني أنه يطلبها بيده ويصلحها كما يفعل أرباب الإبل بها، ولم يبعث الله نبياً من أهل الكبر، ونما بعث من لا كبر عنده، ولا يتكبر عن معالجة الأشياء التي يأنف منها المتكبرون كرعاية الإبل والغنم، وإجارة نفسه عند الحاجة إلى الاكتساب. ومن أعطاه الله منهم ملكاً فإنه لم يزل دأبه تواضعاً لله عز وجل كداود وسليمان ومحمد. صلى الله عليهم وسلم تسليماً كثيراً.
 
وقد يطلق اسم المسكين ويراد به من استكان قلبه لله عز وجل، وانكسر له وتواضع لجلاله وكبريائه وعظمته وخشيته ومحبته ومهابته، وعلى هذا المعنى حمل بعضهم الحديث المروي عن النبي ) أنه قال: "اللهم أحييني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين". خرجه الترمذي من حديث أنس، وخرجه ابن ماجة من حديث ابن عباس، وفي حمله على ذلك نظر لأن في تمام حديثيهما ما يدل على أن المراد به المساكين من المال، لأنه ذكر سبقهم الأغنياء إلى الجنة، مع أن في إسناد الحديثين ضعفاً.
وقد خير النبي ) بين أن يكون نبياً ملكاً أو عبداً رسولاً، فأشار إليه جبريل أن تواضع. فقال: "بل عبداً رسولاً". وكان بعد ذلك لا يأكل متكئاً، ويقول: "آكل كما يأكل العبد. وأجلس كما يجلس العبد". قال الحسن: قال رسول الله ): "فأعطاني الله لذلك أن جعلني شيد ولد آدم، وأول شافع، وأول مشفع، وأول من تنشق عنه الأرض". وصح عنه ) أنه قال: "إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله". فأشرف أسمائه: عبد الله، ولهذا سمي بهذا الاسم في القرآن في أفخر مقاماته، فلما حقق )عبوديته لربه حصلت له السيادة على جميع الخلق.
كان كثير من العارفين في مناجاته لربه: كفى بي فخراً أني لك عبد، وكفى بي شرفاً أنك لي رب. وكان بعضهم يقول: كلما ذكرت أنه ربي وأنا عبده حصل لي من السرور ما يصلح به بدني:
شرفُ النفوس دخولها في رقِّهم *** والعبدُ يحوي الفخر بالمُتملِّك
وكان أبو زيد البسطامي ينشد:
يا ليتني صِرت شيئاً *** من غير شيء أُعدُّ
أصبحت للكل مولى *** لأنني لك عبدُ
 
فمن انكسر قلبه لله عز وجل واستكان وخشع وتواضع جبره الله عز وجل، ورفعه بقدر ذلك، وفي الأثر المشهور: أن الله عز وجل قال لموسى على نبينا وعليه السلام حين سأله: أين أجدك؟. قال: عند المنكسرة قلوبهم من أجلي، فإني أدنو منهم كل يوم باعاً ولولا ذلك لانهدموا. وروي عن عبد الله بن سلام أنه فسره، فقال: هم المنكسرة قلوبهم بحب الله عن حب غيره. وفي الحديث المشهور المرفوع: "إن الله تعالى إذا تجلى لشيء من خلقه خشع له، فإذا تجلى لقلوب العارفين عظمة الله وجلاله وكبرياؤه اندكت قلوبهم من هيبته، وخشعت وانكسرت من محبته ومخافته".
شعر:
مساكين أهل الحب حتى قبورهم *** عليها تراب الذُّلِّ بين المقابر
فالمسكين في الحقيقة من استكان قلبه لربه وخشع من خشيته ومحبته، ولا يكون المسكين ممدوحاً بدون هذه الصفة، فإن من لم يخشع قلبه مع فقره وحاجته فهو جبار كتلك الأمة السوداء التي قال فيها النبي ): "إنها جبارة". وهو إما عائل مستكبر أو فقير مختال، وكلاهما لا ينظر اله إليه يوم القيامة، فالمؤمن من يستكين قلبه لربه ويخشع له ويتواضع، ويظهر مسكنته وفاقته إليه في الشدة والرخاء، أما في حالة الرخاء فإظهار الشكر، وأما في حال الشدة فإظهار الذل والعبودية والفاقة والحاجة إلى كشف الضر، قال تعالى: )ولقد أخذناهُم بالعذابِ فما استكانوا لربِّهم وما يتضرَّعُون( المؤمنون: 76، فذم من لا يستكين لربه عند الشدة، وكان النبي ) يخرج عند الاستسقاء متواضعاً متخشعاً متمسكناً. وحبس لمطرف بن عبد الله قريب له فلبس خلقان ثيابه، وأخذ بيده قصبة، وقال: أتمسكن لربي لعله يشفعني فيه.
ومما يشرع فيه التمسكن لله عز وجل حال الصلاة كما في حديث الفضل بن عباس عن النبي ) قال: "الصلاة مثنى مثنى، تشهد في كل ركعتين، وتخشع، وتضرع، وتمسكن، وتقنع يديك يقول: ترفعهما،ويقول: يا رب ثلاثاً، فمن لم يفعل ذلك فهي خداج". خرجه الترمذي وغيره.

 
وكذلك يشرع إظهار المسكنة في الدعاء، وخرج الطبراني من حديث ابن عباس قال: رأيت النبي ) يدعو بعرفة، ويداه إلى صدره كاستطعام المسكين. ومن حديثه أيضاً أن النبي ) قال في دعائه عشية عرفة: "أنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، الوجل المشفق، المقر المعترف بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليه ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير".
وكان بعض السلف يجلس بالليل مطرقاً رأسه، ويمد يديه وهو ساكت كحال المسكين المستعطي. وقال طاوس: دخل علي بن الحسين الحجر ليلة فصلى، فسمعته يقول في سجوده: عبيدك بفنائك، مسكينك بفنائك، فقيرك بفنائك، سائلك بفنائك. قال طاوس: فحفظتهن، فما دعت بهن في كرب إلا فرج عني. وكان بعض العباد قد حج ثمانين حجة على قدميه، فبينما هو في الطواف وهو يقول: يا حبيبي! يا حبيبي!. فهتف هاتف: ليس ترضى أن تكون مسكيناً حتى تكون حبيباً! فكان بعد ذلك يقول: مسكينك مسكينك.
شعر لابن تيمية رحمه الله:
أنا الفقيرُ إلى ربِّ السموات *** أنا المُسَيْكينُ في مجموع حالاتي
أنا الظَّلوم لنفسي وهي ظالمتي *** والخير إنْ جاءها من عندِه يأتي
قوله : "وأن تغفر لي وترحمني": المغفرة والرحمة يجمعان خير الآخرة كله، لأن المغفرة ستر الذنب مع وقاية شره، وقد قيل: إنه لا تجتمع المغفرة مع عقوبة عليه، ولذلك سمي المغفر مغفراً، لأنه يستر الرأس ويقيه الأذى، وهذا بخلاف العفو، فإنه يكون تارة قبل العقوبة وتارة بعدها.
 
وأما الرحمة فهي دخول الجنة وعلو درجاتها، وجميع ما في الجنة من النعيم بالمخلوقات، ومن رضى الله عز وجل وقربه ومشاهدته وزيارته فإنه من رحمة الله تعالى، وفي الحديث الصحيح: "إن الله عز وجل يقول للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي". فكل ما في الجنة فهو من رحمة الله عز وجل، وإنما تنال برحمته لا بالعمل كما قال ): "لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله". قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟!. قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته".
قوله ): "وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون": المقصود من هذا الدعاء سلامة العبد من فتن الدنيا مدة حياته، فإن قدر الله عز وجل على عباده فتنة قبض عبده إليه قبل وقوعها، وهذا من أهم الأدعية فإن المؤمن إذا عاش سليماً من الفتن ثم قبضه الله تعالى إليه قبل وقوعها وحصول الناس فيها كان في ذلك نجاة له من الشر كله، وقد أمر النبي ) أصحابه أن يتعوذوا بالله من الفتن ما ظهر وما بطن. وفي حديث آخر: "وجنبنا الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن". وكان يخص بعض الفتن العظيمة بالذكر، فكان يتعوذ بالله في صلاته من أربع، ويأمر بالتعوذ منها: "أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال".
ففتنة المحيا تدخل فيها فتن الدين والدنيا كلها، كالكفر والبدع والفسوق والعصيان. وفتنة الممات يدخل فيها سوء الخاتمة وفتنة الملكين في القبر، فإن الناس يفتنون في قبورهم مثل أو قريباً من فتنة الدجال. ثم خص فتنة الدجال بالذكر لعظم موقعها، فإنه لم يكن في الدنيا فتنة قبل يوم القيامة أعظم منها، وكلما قرب الزمان من الساعة كثرت الفتن.
وفي حديث معاوية عن النبي ) أنه قال: "إنه لم يبق من الدنيا إلا بلاء وفتنة". وقد أخبر النبي ) عن الفتن التي كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا.
 
وكان أول هذه الفتن ما حدث بعد عمر رضي الله عنه، ونشأ من تلم قتل عثمان رضي الله عنه، وما ترتب عليه من إراقة الدماء وتفرق القلوب وظهور فتن الدين كبدع الخوارج المارقين من الدين وإظهارهم ما أظهروا، ثم ظهور بدع أهل القدر والرفض ونحوهم، وهذه هي الفتن التي تموج كموج البحر المذكورة في حديث حذيفة المشهور حين سأله عنها عمر، وكان حذيفة رضي الله عنه من أكثر الناس سؤالاً للنبي ) عن الفتن خوفاً من الوقوع فيها. ولما حضره الموت قال: حبيب جاء على فاقة، لا أفلح من ندم! الحمد لله الذي سبق بي الفتنة! قادتها وعلوجها. وكان موته قبل قتل عثمان رضي الله عنه بنحو من أربعين يوماً، وقيل: بل مات بعد قتل عثمان. وكان في تلك الأيام رجل من الصحابة نائماً، فآتاه آتٍ في منامه فقال له: قم! فاسأل الله أن يعيذك من الفتنة التي أعاذ منها صالح عباده، فقام فتوضأ وصلى، ثم اشتكى ومات بعد قليل.
وقد روي عن النبي ) أنه قال لرجل: "إذا مت أنا وأبو بكر وعمر وعثمان فإن استطعت أن تموت فمت"، وهذا إشارة إلى هذه الفتن التي وقعت بمقتل عثمان رضي الله عنه.
والدعاء بالموت خشية الفتنة في الدين جائز، وقد دعا به الصحابة والصالحون بعدهم، ولما حج عمر رضي الله عنه آخر حجة حجها استلقى بالأبطح ثم رفع يديه وقال: اللهم إنه قد كبرت سني، ورق عظمي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفتون. ثم رجع إلى المدينة فما انسلخ الشهر حتى قتل رضي الله عنه.
 
ودعا علي ربه أن يريحه من رعيته حيث سئم منهم فقتل عن قريب. ودعت زينب بنت جحش لما جاءها عطاء عمر من المال فاستكثرته وقالت: اللهم لا يدركني عطاء لعمر بعدها. فماتت قبل العطاء الثاني. ولما ضجر عمر بن العزيز من رعيته حيث ثقل عليهم قيامه فيهم بالحق طلب من رجل كان معروفاً بإجابة الدعوة أن يدعو له بالموت، فدعا له ولنفسه بالموت فماتا. ودعي طائفة من السلف الصالح إلى ولاية القضاء، فاستمهلوا ثلاثة أيام فدعوا لأنفسهم بالموت فماتوا.
واطلع على حال بعض الصالحين ومعاملاته التي كانت سراً بينه وبين ربه، فدعا الله أن يقبضه إليه خوفاً من فتنة الاشتهار فمات. فإن الشهرة بالخير فتنة كما جاء في الحديث: "كفى بالمرء فتنة أن يشار إليه بالأصابع، فإنها فتنة".
وكان سفيان الثوري يتمنى الموت كثيراً فسئل عن ذلك، فقال: ما يدريني! لعلي أدخل في بدعة، لعلي أدخل فيما لا يحل لي، لعلي أدخل في فتنة، أكون قد مت فسبقت هذا.
واعلم أن الإنسان لا يخلو من فتنة، قال ابن مسعود: لا يقل أحدكم: أعوذ بالله من الفتن، ولكن ليقل: أعوذ بالله من مضلات الفتن. ثم تلا قوله تعالى: )إنّمآ أموالُكم وأولادكم فتنة( التغابن: 15. يشير إلى أنه لا يستعاذ من المال والولد وهما فتنة، وفي المسند أن النبي ) أمر أم سلمة أن تقول: "اللهم رب محمد اغفر لي ذنبي، وأذهب غيظ قلبي، وأجرني من مضلات الفتن ما أبقيتني".
وقد جعل النبي ) النساء والأموال فتنة، ففي الصحيح عنه ) قال: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء". وفيه أيضاً أنه ) قال: "والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم".
 
وفي صحيح مسلم عنه ) قال: "اتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء". وفي الترمذي أنه ) قال: "لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال". وقد قال الله عز وجل: )وجعلنا بعضَكم لبعض فتنةً أتصبرون وكان ربُّك بصيراً( الفرقان: 20، فالرجل فتنة للمرأة، والمرأة فتنة للرجل، والغني فتنة للفقير، والفقير فتنة للغني، والفاجر فتنة للبر، والبر فتنة للفاجر، والكافر فتنة للمؤمن، والمؤمن فتنة للكافر كما قال تعالى: )وكذلك فَتَنّا بعضَهم ببعضٍ ليقولوآ منَّ الله عليهم من بيننا أليسَ الله بأعلمِ بالشاكرين( الأنعام: 53، وقال عز وجل: )ونبلوكم بالشرِّ والخير فتنةً( الأنبياء: 35، فجعل كل ما يصيب الإنسان من شر أو خير فتنة، يعني أنه محنة يمتحن بها، فإن أصيب بخير امتحن به شكره، وإن أصيب بشر امتحن به صبره. وفتنة السراء أشد من فتنة الضراء، وقال عبد الرحمن بن عوفرضي الله عنه: بلينا بفتنة الضراء فصبرنا، وبلينا بفتنة السراء فلم نصبر. وقال بعضهم: فتنة الضراء يصبر عليها البر والفاجر، ولا يصبر على فتنة السراء إلا صديق.
ولما ابتلي الإمام أحمد بفتنة الضراء صبر ولم يجزع، وقال: كانت زيادة في إيماني. فلما ابتلي بفتنة السراء جزع وتمنى الموت صباحاً ومساءاً، وخشي أن يكون نقصاً في دينه. ثم أن المؤمن لا بد أن يفتن بشيء من الفتن المؤلمة الشاقة عليه ليمتحن إيمانه كما قال الله تعالى: )ألم" أحَسِبَ الناسُ أن يُتركوآ أن يقولوآ آمنّآ وهم لا يُفتَنُون" ولقد فتنّا الذين من قبلهم فليعلمَنَّ الله الذين صدقوا ولَيعلمَنَّ الكاذبين"( العنكبوت: 13، ولكن الله يلطف بعباده المؤمنين في هذه الفتن، ويصبرهم عليها ويثبتهم فيها، ولا يلقيهم في فتنة مهلكة مضلة تذهب بدينهم، بل تمر عليهم الفتن وهم منها في عافية.
 
وأخرج ابن أبي الدنيا من حديث ابن عمر مرفوعاً: "إن لله ضنائن من عباده يغذوهم في رحمته، ويحييهم في عافية، ويتوفاهم إلى جنته، أولئك الذين تمر عليهم الفتن كقطع الليل المظلم، وهم منها في عافية".
والفتن الصغار التي يبتلى بها المرء في أهله وماله وولده وجاره تكفرها الطاعات من الصلاة والصيام والصدقة كذا جاء في حديث حذيفة، وروي عنه أنه سأل النبي )، قال: إن في لساني ذرباً، وإن عامة ذلك على أهلي. فقال له: "أين أنت من الإستغفار؟!".
وأما الفتن المضلة التي يخشى منها فساد الدين فهي التي يستعاذ منها، ويسأل الموت قبلها، فمن مات قبل وقوعه في شيء من هذه الفتن فقد حفظه الله تعالى وحماه، وفي المسند عن محمود بن لبيد عن النبي ) قال: "اثنتان يكرههما ابن آدم: يكره الموت، والموت خير للمؤمن من الفتن، ويكره قلة المال، وقلة المال أقل للحساب".
 
قوله ): "وأسألك حبك، وحب من يحبك، وحب العمل الذي يبلغني حبك". هذا الدعاء يجمع كل خير، فإن الأفعال الاختيارية من العباد إنما تنشأ عن محبة وإرادة، فإن كانت محبة الله ثابتة في قلب العبد نشأت عنها حركات الجوارح فكانت بحسب ما يحبه الله ويرتضيه، فأحب ما يحبه الله عز وجل من الأعمال والأقوال كلها، ففعل حينئذ الخيرات كلها وترك المنكرات كلها، وأحب من يحبه الله من خلقه، وهذا الدعاء كانت الأنبياء عليهم السلام يدعون به كما في الترمذي عن النبي ) أن داود عليه السلام كان يقول: "اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يبلغني إلى حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلي من نفسي وأهلي ومن الماء البارد". وفيه أيضاً أن النبي ) كان يدعو: "اللهم ارزقني حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يبلغني إلى حبك، اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب، وما زويت عني مما أحب فاجعله فراغاً لي فيما تحب". وفي حديث مرسل خرجه ابن أبي الدنيا وغيره أن النبي ) كان يقول: "اللهم اجعل حبك أحب الأشياء إلي، وخشيتك أخوف الأشياء عندي، واقطع عني حاجات الدنيا بالشوق إلى لقائك، وإذا أقررت أعين أهل الدنيا من دنياهم فأقرر عيني من عبادتك".
ومن كان همه طلب محبة الله عز وجل أعطاه الله فوق ما يريده من الدنيا تبعاً، قال بعض السلف: لما توفي داود عليه السلام أرسل الله عز وجل إلى سليمان عليه السلام: ألك حاجة تسألني إياها؟. فقال سليمان: أسأل الله أن يجعل قلبي يحبه كما كان قلب أبي داود يحبه، وأن يجعل قلبي يخشاه كما كان قلب أبي داود يخشاه. فشكر الله له ذلك وأعطاه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده.
 
ومحبة الله تعالى على درجتين: إحداهما: واجبة، وهي المحبة التي توجب للعبد محبة ما يحبه الله من الواجبات، وكراهة ما يكرهه من المحرمات، فإن المحبة التامة تقتضي الموافقة لمن يحبه في محبة ما يحبه، وكراهة ما يكرهه خصوصاً فيما يحبه ويكرهه من المحب نفسه فلا تصح المحبة بدون فعل ما يحبه المحبوب من محبة، وكراهة ما يكرهه المحبوب من محبة. وسئل بعض العارفين عن المحبة، فقال: الموافقة في جميع الأحوال. وأنشد:
ولو قلتَ لي: مُتْ. مُتْ سمعاً وطاعة *** وقلتُ لداعي الموت: أهلاً ومرحبا
وأنشد بعضهم:
تعصى الإلهَ وتزعُمُ حبَّه *** هذا لعمري في القياسِ شنيعُ
لو كان حبُّك صادقاً لأطعته *** إن المحبَّ لمن يحبُّ مُطيعُ
ومتى أخل العبد ببعض الواجبات، أو ارتكب بعض المحرمات فمحبته لربه غير تامة، فالواجب عليه المبادرة بالتوبة، والاجتهاد في تكميل المحبة المفضية لفعل الواجبات كلها واجتناب المحرمات كلها، وهذا معنى قول النبي ): "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن". فإن الإيمان الكامل يقتضي محبة ما يحبه الله، وكراهة ما يكرهه الله عز وجل والعمل بمقتضى ذلك، فلا يرتكب أحد شيئاً من المحرمات أو يخل بشيء من الواجبات إلا لتقديم هوى النفس المقتضي لارتكاب ذلك على محبة الله تعالى المقتضية لخلافه.
 
الدرجة الثانية من المحبة: درجة المقربين، وهي أن يمتلئ القلب بمحبة الله تعالى حتى توجب له محبة النوافل، والاجتهاد فيها، وكراهة المكروهات، والانكفاف عنها، والرضا بالأقضية والأقدار المؤلمة للنفوس لصدورها عن المحبوب، كما قال عامر بن قيس: أحببت الله حباً هوّن علي كل مصيبة، ورضاني بكل بلية، فلا أبالي مع حبي إياه على ما أصبحت عليه ولا على ما أمسيت. وقال عمر بن عبد العزيز لما مات ولده الصالح: إن الله أحب قبضه، وإني أعوذ بالله أن يكون لي محبة في شيء من الأمور يخالف محبة الله. وكان يقول: إذا أصبحت فمالي سرور إلا في مواقع القضاء والقدر..
يا من يعز علينا أن نفارقهم *** وِجدَانُنا كلَّ شيءٍ بعدَكم عدمُ
إن كان سرَّكم ما قد بُليت به *** فما لجرحٍ إذا أرضاكُمُ ألمُ
وحسب سلطان الهوى أن يلذّ فيه كل ما يؤلم.
كان عمار بن ياسر رضي الله عنه يقول: اللهم لو أعلم أنه أرضى لك عني أن أرمي بنفسي من هذا الجبل فأتردى فأسقط فعلت، ولو أعلم أنه أرضى لك أن أوقد ناراً عظيمة فأقع فيها فعلت، ولو أعلم أنه أرضى لك عني أن ألقي نفسي في الماء فأغرق نفسي فعلت، ولا أقول هذا إلا وأريد وجهك، وأنا أرجو أن لا تخيبني وأنا أريد وجهك.
وقتل لبعض الصحابة ولدان في الجهاد، فعزاه الناس فيهما فبكى وقال: ما أبكي لفقدهما، إنما أبكاني كيف كان رضاهما عن الله حيث أخذتهما السيوف. وكان بعض العارفين يطوف بالبيت، فهجمت القرامطة على الناس فقتلوهم في الطواف، فوصلوا إليه فلم يقطع الطواف حتى سقط من ضرب السيوف صريعاً وأنشد:
ترى المحبين صرعى في ديارهم *** كفتيةِ الكهف لا يدرون كم لبِثُوا
أقل ثمن المحبة بذل الروح:
بدمِ المحبِّ يُباع وصلُهُم *** فمن ذا الذي يبتاعُ بالثمنِ
قال بعض العارفين: إن كنت تسمح ببذل روحك في هذه الطريق، وإلا فلا تشتغل بالترهات:
خاطر بروحك في هوانا واسترح *** إن شئت تحظى بالمحلِّ الأعظمِ
 
لا يشغُلَنَّك شاغلٌ عن وَصْلِنا *** وانهض على قدمِ الرجاء وقدّمِ
ولما كانت محبة الله عز وجل لها لوازم، وهي محبة ما يحبه الله عز وجل من الأشخاص والأعمال، وكراهة ما يكرهه من ذلك، سأل النبي ) الله تعالى مع محبته محبة شيئين آخرين، أحدهما: محبة من يحب ما يحبه الله تعالى، فإن من أحب الله أحب أحباءه فيه ووالاهم، وأبغض أعداءه وعاداهم كما قال النبي ): "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله..." الحديث.
وأعظم من تجب محبته في الله تعالى أنبياؤه ورسله، وأعظمهم نبيه محمد ) الذي افترض الله على الخلق كلهم متابعته، وجعل متابعته علامة لصحة محبته كما قال تعالى: )قُلْ إنْ كنتم تُحِبُّون الله فاتَّبِعوني يُحبِبْكُم الله ويغفرْ لكم ذُنُوبَكم( آل عمران: 31، وتوعد من قدم محبة شيء من المخلوقين على محبته ومحبة رسوله ومحبة الجهاد في سبيله في قوله تعالى: )قل إن كان آبآؤكم وأبنآؤكم وإخوآنُكم وأزوآجُكم وعشيرتُكم وأموالٌ اقترفْتُموها وتجارةٌ تخشَون كسادَها ومساكنُ ترضَونهآ أحبَّ إليكم من الله ورسولهِ وجهادٍ في سبيلهِ فتربَّصوا( التوبة: 24.
ووصف المحبين له باللين للمؤمنين: من الرأفة بهم والرحمة والمحبة لهم، والشدة على الكافرين: من البغض لهم والجهاد في سبيله، فقال تعالى: )فسوفَ يأتي الله بقومٍ يُحبُّهم ويُحبُّونَه أذِلَّةٍ على المؤمنينَ أعِزَّةٍ على الكافرين يجاهدون في سبيلِ الله ولا يخافون لومة لآئم( المائدة: 54
 
والثاني: محبة ما يحبه الله تعالى من الأعمال وبها يبلغ إلى حبه، وفي هذا إشارة إلى أن درجة المحبة لله تعالى إنما تنال بطاعته وبفعل ما يحبه، فإذا امتثل العبد لأوامر مولاه وفعل ما يحبه أحبه الله تعالى ورقاه إلى درجة محبته كما في الحديث الإلهي الذي خرجه البخاري: "وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عندي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه". فأفضل ما تستجلب به محبة الله عز وجل فعل الواجبات، وترك المحرمات، ولهذا جعل النبي ) من علامات وجدان حلاوة الإيمان أن يكره أن يرجع إلى الكفر كما يكره أن يلقى في النار. وسئل ذو النون: متى أحب ربي؟. قال: إذا كان ما يكرهه عندك أمر من الصبر. ثم بعد ذلك الاجتهاد في نوافل الطاعات، وترك دقائق المكروهات والمشتبهات.
ومن أعظم ما تحصل به محبة الله تعالى من النوافل: تلاوة القرآن، وخصوصاً مع التدبر، قال ابن مسعود: لا يسأل أحدكم عن نفسه إلا القرآن، فمن أحب القرآن فهو يحب الله ورسوله. ولهذا قال النبي ) لمن قال: إني أحب سورة )قل هو الله أحد( لأنها صفة الرحمن. فقال: "أخبروه أن الله يحبه". وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: لما قدم النبي ) المدينة خطب، فقال في خطبته: "إن أحسن الحديث كتاب الله، قد أفلح من زينه الله في قلبه، وأدخله في الإسلام بعد الكفر، واختاره على ما سواه من الأحاديث، إنه أحسن الحديث وأبلغه، أحبوا من أحب الله، وأحبوا الله من كل قلوبكم".
وكان بعضهم يكثر تلاوة القرآن ثم فتر عن ذلك فرأى في المنام قائلاً يقول له:
إن كنت تزعم حُبِّي *** فلِمَ جفوت كتابي
أما تدبّرت ما في *** ه من لطيف عتابي
فاستيقظ وعاد إلى تلاوته.
 
ومن الأعمال التي توصل إلى محبة الله تعالى وهي من أعظم علامات المحبين: كثرة ذكر الله عز وجل بالقلب واللسان، قال بعضهم: ما أدمن أحد ذكر الله إلا وأفاد منه محبة الله تعالى. وقال ذو النون: من أدمن ذكر الله قذف الله في قلبه نور الاشتياق إليه. وقال بعض التابعين: علامة حب الله كثرة ذكره، فإنك لن تحب شيئاً إلا أكثرت ذكره. وقال فتح الموصلي: المحب لله لا يجد مع حب الله للدنيا لذة، ولا يغفل عن ذكر الله طرفة عين. المحبون إن نطقوا نطقوا بالذكر، وإن سكتوا اشتغلوا بالفكر:
فإن نطقتُ فلم ألفظ بغيركم *** وإن سكتُّ فأنتم عند إضماري
ومن علامات المحبين لله وهو ما يحصل به المحبة أيضاً حب الخلوة بمناجاة الله تعالى، وخصوصاً في ظلمة الليل:
الليلُ لي ولأحبابي أسامرهم *** قد اصطفيتهم كي يسمعوا ويعوا
قال الفضيل: يقول الله عز وجل: كذب من ادعى محبتي فإذا جنه الليل نام عني، أليس كل حبيب يجب الخلوة بحبيبه، ها أنا مطلع على أحبابي إذا جنهم الليل جعلت أبصارهم في قلوبهم، ومثلت نفسي بين أعينهم، فخاطبوني على المشاهدة، وكلموني على حضوري، غداً أقر عين أحبابي في جنتي:
تنامُ عيناك وتشكو الهوى *** لو كنت صَبّاً لم تكن نائماً
قلوب المحبين جمرة تحت فحمة الليل، كلما هبّ عليها نسيم السحر التهبت، وأنشد:
يذكرني مَرُّ النسيم عهودَكم *** فأزدادُ شوقاً كلما هبت الريحُ
أراني إذا ما أظلمَ الليلُ أشرقت *** بقلبيَ من نارِ الغرام مصابيحُ
كلما جن الغاسق حن العاشق:
لو أنك أبصرت أهل الهوى *** إذا غابت الأنجُمُ الطُلَّعُ
فهذا ينوح على ذنبه *** وهذا يُصلي وذا يركعُ
من لم يكن له مثل تقواهم لم يدر ما الذي أبكاهم، ومن لم يشاهد جمال يوسف لم يدر ما الذي آلم قلب يعقوب. وسئل السري السقطي عن حاله فأنشد:
من لم يَبِت والحبُّ حشوُ فؤادِه *** لم يدرِ كيف تُفتَّتُ الأكباد
 
أين رجال الليل؟! أين ابن أدهم والفضيل! ذهب الأبطال وبقي كل بطال، يا من رضي من الزهد بالزي، ومن الفقر بالاسم، ومن التصوف بالصوف، ومن التسبيح بالسبح، أين فضل "الفضيل" ؟! أين جد "الجنيد" ؟! أين سر "السري" ؟! أين بشر "بشر"؟! أين همة "ابن أدهم" ؟! ويحك إن لم تقدر على معرفة "معروف" فاندب على ربع "رابعة" وأنشد:
هاتيك رُبُوعهم وفيها كانوا *** بانوا عنها فليتَهم ما بانوا
ناديتُ وفي حشاشتي نيرانُ: *** يا دارُ متى تحوَّلَ السكانُ؟!
يا من كان له قلب فانقلب، يا من كان له وقت مع الله فذهب، قيام الأسحار يستوحش لك، صيام النهار يسأل عنك، ليالي الوصال تعاتبك على انقطاعك:
تشاغلتم عنّا بصُحبةِ غيرنا *** وأظهرتم الهُجران ما هكذا كُنَّا
وأقسمتُمُ أن لا تحولوا عن الهوى *** فقد وحياةِ حِلتم وما حِلنا
لياليَ كنا نجتني من ثماركم *** فقلبي إلى تلك الليالي لقد حنّا
إخواني! مجالس الذكر شراب المحبين، وترياق المذنبين )قد عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مشربَهم( البقرة: 60، مجالس الذكر مآتم الأحزان، فهذا يبكي لذنوبه، وهذا يندب لعيوبه، وهذا يتأسف على فوات مطلوبه، وهذا يتلهف لإعراض محبوبه، وهذا يبوح بوجده، وهذا ينوح على فقده، وأنشد:
ما أذكرُ عيشنا الذي قد سلفا *** إلا وجفَ القلبُ وكم قد وجفا
واهاً لزماننا الذي كان صفا *** بل واأسفاً لفقده واأسفا
غيره:
يا ليتنا بزمزم والحِجْرِ *** يا جيرتنا قُبيلَ يوم النَّفْرِ
فهل يعود ما مضى من عُمُري *** ما كنت أدري يا ليتني لا أدري
كأني أرى الخلع خلعت على المقبولين، كأني أرى الملائكة تصافح التائبين، تعالوا نبكي على المطرودين:
ما زلتُ دهراً لِلِّقَا مُتعرِّضاً *** ولطالما قد كُنتُ عنّا مُعرِضا
جانَبْتَنا دهراً فلما لم تجدْ *** عِوضاً سوانا صِرتَ تبكي ما مضى
لو كنت لازمت الوقوفَ ببابنا *** لَلبستَ من إحسانِنا خِلَع الرضا
لكن تركتَ حقوقَنا وهجرتنا *** فلذاك ضاقَ عليكَ مُتَّسَعُ الفَضا

 
الوسوم
اختصام الاعلى الملأ حديث شرح
عودة
أعلى