شرح حديث اختصام الملأ الأعلى

ياسر المنياوى

شخصية هامة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على محمد خاتم النبيين، وإمام المتقين، ورسول رب العالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
خرّج الإمام أحمد رحمه الله من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: احتُبِس عنا رسول الله ) ذات غداة في صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى قرن الشمس، فخرج رسول الله) سريعاً فثوّب بالصلاة وصلى وتجوّز في صلاته، فلما سلم قال: "كما أنتم على مصافكم". ثم أقبل إلينا فقال: "إن سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة: إني قمت من الليل فصليت ما قدر لي، فنعست في صلاتي حتى استثقلت، فإذا أنا بربي عز وجل في أحسن صورة، فقال: يا محمد! فيمَ يختصم الملأ الأعلى؟. قلت: لا أدري رب. قال: يا محمد! فيم يختصم الملأ الأعلى؟. قلت: لا أدري رب. قال: يا محمد! فيم يختصم الملأ الأعلى؟. قلت: لا أدري رب. فرأيته وضع كفّه بين كتفيّ حتى وجدت برد أنامله في صدري، وتجلّى لي كل شيء وعرفت، فقال: يا محمد! فيم يختصم الملأ الأعلى؟. قلت: في الكفّارات والدرجات. قال: وما الكفارات؟. قلت: نقل الأقدام إلى الجمعات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وإسباغ الوضوء على الكريهات. فقال: وما الدرجات؟. قلت: إطعام الطعام، ولين الكلام، والصلاة والناس نيام. قال: سلْ. قلت: "اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر أي وترحمني، وإذا أردت فتنة في قوم فتوفَّني غير مفتون، وأسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربني إلى حبك". وقال رسول الله): "إنها حقّ، فادرسوها وتعلموها".
وخرّجه الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح"، قال: وسألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا، فقال: "هذا حديث حسن صحيح".
قلت: وفي إسناده اختلاف، وله طرق متعددة، وفي بعضها زيادة وفي بعضها نقصان، وقد ذكرت عامة أسانيده وبعض ألفاظه المختلفة في كتاب شرح الترمذي.
 
وفي بعض ألفاظه عند الإمام أحمد والترمذي أيضاً: "المشي على الأقدام إلى الجماعات" بدل "الجمعات"، وفيه أيضاً عندهما بعد ذكر الكفارات زيادة: " ومن فعل ذلك عاش بخير ومات بخير وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه"، وفيه أيضاً عندهما: "والدرجات: إفشاء السلام..." بدل "لين الكلام".
وفي بعض رواياته: "...فعلمت ما في السماء والأرض". ثم تلى: )وكذلك نُري إبراهيمَ ملكوتَ السموات والأرضِ وليمونَ من المُوقِنينَ(. وفي رواية أخرى: "...فتجلّى له ما بين السماء والأرض"، وفي رواية: "...ما بين المشرق والمغرب".
وفي بعضها زيادة في الدعاء، وهي: "...وتتوب عليّ"، وفي بعضها: "إسباغ الوضوء في السبرات"، وفي بعضها: "وقال: يا محمد! إذا صليت فقل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات..." فذكره.
والمقصود هنا: شرح الحديث وما يستنبط منه من المعارف والأحكام وغير ذلك.
ففي الحديث دلالة على أن النبي) لم يكن من عادته تأخير صلاة الصبح إلى قريب طلوع الشمس، وإنما كانت عادته التغليس بها، وكان أحياناً يسفر بها عند انتشار الضوء على وجه الأرض، وأما تأخيرها إلى قريب طلوع الشمس فلم يكن من عادته، ولهذا اعتذر عنهم في هذا الحديث.
وقد قيل: إن تأخيرها إلى هذا الإسفار الفاحش لا يجوز لغير عذر، وأنه وقت ضرورة كتأخير العصر إلى بعد اصفرار الشمس، وهو قول القاضي من أصحابنا في بعض كتبه، وقد أومأ إليه الإمام أحمد، وقال: "هذه صلاة مفرِّط، إنما الإسفار أن ينتشر الضوء على الأرض".
وفي الحديث: دلالة على أن من أخر الصلاة إلى آخر الوقت لعذر أو غيره وخاف خروج الوقت في الصلاة إن طوّلها أن يخففها حتى يدركها كلها في الوقت
 
وأما قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه لما طوّل في صلاة الفجر و قرأ بالبقرة فقيل له: كادت الشمس أن تطلع! فقال: "لو طلعت لم تجدنا غافلين". فإن أبا بكر رضي الله عنه لم يعتمد التأخير إلى طلوع الشمس ولا أن يمدها ويطيلها حتى تطلع الشمس لأنه دخل فيها يغلس، وأطال القراءة وربما كان قد استغرق في تلاوته فلو طلعت الشمس حينئذ لم يضره لأنه لم يكن متعمداً لذلك. وهذا يرى على أنه كان يرى صحة الصلاة لمن طلعت عليه الشمس وهو في صلاته كما أمر النبي ) من طلعت عليه الشمس وقد صلى ركعة من الفجر أن يضيف إليها أخرى.
وفي حديث معاذ: دليل على أن من رأى رؤيا تسره فإنه يقصها على أصحابه وإخوانه المحبين له، ولا سيما إن تضمنت رؤياه بشارة لهم، وتعليماً لما ينفعهم، وقد كان النبي ) إذا صلى الفجر يقول لأصحابه: "من رأى منكم الليلة رؤيا؟ ".
وفيه أيضاً: أن من استثقل نومه في تهجده بالليل حتى رأى رؤيا تسره فإن في ذلك بشرى له، وفي مراسيل الحسن: "إذا نام العبد وهو ساجد باهى الله به الملائكة، يقول: )يا ملائكتي انظروا إلى عبدي: جسده في طاعتي وروحه عندي(.
وفيه دلالة على شرف النبي )وتفضيله بتعليمه ما في السموات والأرض، وتجلى ذلك له مما تختصم فيه الملائكة في السماء وغير ذلك، كما أري إبراهيم ملكوت السموات ولأرض وقد ورد في غير حديث مرفوعاً وموقوفاً أنه )أُعطي علم كل شيء خلا مفاتيح الغيب الخمس التي اختص الله عز وجل بعلمها، وهي المذكورة في قوله عز وجل: )إن الله عندَه علمُ الساعَةِ ويُنزِّلُ الغيثَ ويعلمُ ما في الأرحامِ وما تدري نفسٌ ماذا تكسبُ غداً وما تدري نفسٌ بأي أرضٍ تموتُ إن الله عليمٌ خبيرٌ(.

 
وأما وصف النبي ) لربه عز وجل بما وصفه به فكل ما وصف النبي ) به ربه عز وجل فهو حق وصدق يجب الإيمان والتصديق به كما وصف الله عز وجل به نفسه مع نهي التمثيل عنه، ومن أشكل عليه فهم شيء من ذلك واستبه عليه فليقل كما مدح الله تعالى به الراسخين في العلم وأخبر عنهم أنه يقولون عند المتشابه: )آمنّا به كُلٌّ من عند ربِّنا( وكما قال النبي ) في القرآن: "وما جهلتهم منه فكلوه إلى عالمه". خرجه الإمام أحمد والنسائي وغيرهما، ولا يتكلف ما لا علم له فإنه يُخشى عليه من ذلك الهلكة.
سمع ابن عباس يوماً من يروي عن النبي) شيئاً من هذه الأحاديث فانتفض رجل استنكاراً لذلك، فقال ابن عباس: "ما فرق هؤلاء؟! يجدون رقةً عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه! " خرجه عبد الرزاق في كتابه عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباسرضي الله عنهما.
فكلما سمع المؤمنون شيئاً من هذا الكلام قالوا: هذا ما أخبرنا الله ورسوله )وصدقَ الله ورسولُه وما زادَهُم إلاّ إيماناً وتسليماً(.
وفيه دلالة على أن الملأ الأعلى وهم الملائكة أو المقربون منهم يختصمون فيما بينهم، ويتراجعون القول في الأعمال التي تقرّب بني آدم إلى الله عز وجل وتكفّر بها عنهم خطاياهم، وقد أخبر الله عنهم بأنهم يستغفرون للذين آمنوا ويدعون لهم.
وفي الحديث الصحيح: "إن الله إذا أحب عبداً نادى: "يا جبريل إني أحب فلاناً فأحبه"، فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه. فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض".
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: "إذا مات ابن آدم قال الناس: ما خلّف؟. وقالت الملائكة: ما قدّم؟ ".
فالملائكة يسألون عن أعمال بني آدم ولهم اعتناء بذلك واهتمام به.
وبقي الكلام على المقصود من الحديث، وهو: ذكر الكفارات والدرجات والدعوات، ونعقد لكل واحدة منها فصلاً منفرداً.
الفصل الأول
في ذكر الكفّارات
 
وهي إسباغ الوضوء في الكريهات، ونقل الأقدام إلى الجُمُعات أو الجماعات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات. وسميت
هذه كفارات لأنها تكفر الخطايا والسيئات، ولذلك جاء في بعض الروايات: "من فعل ذلك عاش بخير، ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه". وهذه الخصال المذكورة الأغلب عليها تكفير السيئات، ويحصل بها أيضاً رفع الدرجات كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي ) قال: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟! ". قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط".
وقد روي في هذا المعنى عن النبي) من وجوه متعددة. فهذه ثلاثة أسباب تكفر بها الذنوب، أحدها: الوضوء، وقد دلّ القرآن على تكفيره الذنوب في قوله عز وجل: )يا أيها الذين آمنوا إذا قُمْتُم إلى الصلاةِ فاغسِلوا وُجوهَكم وأيديَكم إلى المرافقِ وامسحوا برؤوسِكُمْ وأرجُلَكُمْ إلى الكعبين( إلى قوله: )ما يُريدُ الله ليجعلَ عليكم من حَرَجٍ ولكن يُريدُ ليُطَهِّرَكم وليُتِمَّ نعمتَهُ عليكُم( فقوله تعالى: )ليُطَهِّركُم( يشمل طهارة ظاهر البدن بالماء، وطهارة الباطن من الذنوب والخطايا، وإتمام النعمة إنما يحصل بمغفرة الذنوب والخطايا وتكفيرها، كما قال تعالى لنبيه): )ليغفرَ لك الله ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر ويُتِمَّ نعمتَه عليك(، وقد استنبط هذا المعنى محمد بن كعب القرظي، ويشهد له الحديث الذي خرجه الترمذي وغيره عن معاذ أن النبي ) سمع رجلاً يدعو، يقول: اللهم إني أسألك تمام النعمة. فقال له: "أتدري ما تمام النعمة؟ ". قال:دعوةٌ دعوت بها، أرجو بها الخير. فقال النبي): "إن تمام النعمة: النجاة من النار، ودخول الجنة". فلا تتم نعمة الله على عبده إلا بتكفير سيئاته
 
وقد تكاثرت النصوص عن النبي ) بتكفير الخطايا بالوضوء كما في صحيح مسلم عن عثمان رضي الله عنه أنه توضأ ثم قال: رأيت رسول الله ) توضأ مثل وضوئي هذا ثم قال: "من توضأ هكذا غُفر له ما تقدم من ذنبه وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة".
وفيه أيضاً عن النبي ) قال: "من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره".
وفيه أيضاً عن أبي هريرة عن النبي ) قال: "إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يديه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقياً من الذنوب". وفيه أيضاً عن عمرو بن عنبسة عن النبي ) قال: "ما منكم من رجل يقرب وضوءه فيتمضمض ويستنشق فينتثر إلا خرّت خطاياه وجهه وفيه وخياشيمه، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء، فإن هو قام فصلى فحمد الله وأثنى عليه ومجده بالذي هو له أهل وفرّغ قلبه لله إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه"
 
وفي الموطأ ومسند الإمام أحمد وسنن النسائي وابن ماجة عن الصُّنابحيّ عن النبي ) قال: "إذا توضأ العبد المؤمن فمضمض خرجت الخطايا من فيه، فإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه، فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه حتى تخرج من تحت أشفار عينيه، فإذا غسل يديه خرجت الخطايا من يديه حتى تخرج من تحت أظفار يديه، فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه، فإذا غسل رجليه خرجت الخطايا حتى تخرج من تحت أظفار رجليه، ثم كان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة له.
وفي المسند عن أبي أمامة عن النبي ) قال: "ما من مسلم يتوضأ فيغسل يديه ويمضمض فاه ويتوضأ كما أمر إلا حطّ الله عنه ما أصاب يومئذ: ما نطق به فمه، وما مس بيده، وما مشى إليه، حتى إن الخطايا تحاذر من أطرافه، ثم هو إذا مشى إلى المسجد فرجل تكتب حسنة، وأخرى تمحو سيئة".
وفيه أيضاً عن النبي ) قال: "أيما رجل قام إلى وضوئه يريد الصلاة ثم غسل كفيه، نزلت خطيئته من كفيه مع أول قطرة، فإذا مضمض واستنشق واستنثر نزلت خطيئته من لسانه وشفتيه مع أول قطرة، فإذا غسل وجهه نزلت خطيئته من سمعه وبصره مع أول قطرة، فإذا غسل يديه إلى المرفقين ورجليه إلى الكعبين سلم من كل ذنب هو له، وكان من لك خطيئة كهيئته يوم ولدته أمه، فإذا قام إلى الصلاة رفع الله بها درجته، وإن قعد قعد سالماً".
وفي المعنى أحاديث أخر، وفيما ذكرناه كفاية ولله الحمد والمنة. وقد وردت النصوص أيضاً بحصول الثواب على الوضوء، وهذا زيادة على تكفير السيئات به:
ففي صحيح مسلم عن عمر رضي الله عنه عن النبي ) قال: " من توضأ فأحسن الوضوء ثم قال: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله"، فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء".
وفيه أيضاً: عن أبي هريرة عن النبي ): "تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء".
وفيه أيضاً: عن أبي هريرة عن النبي ) قال: "أنتم الغرّ المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء".
 
وخرجه البخاري، ولفظه: "إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجّلين من آثار الوضوء".
واعلم أن حديث معاذ بن جبل في المنام إنما فيه ذكر إسباغ الوضوء على الكريهات، وكذا في حديث أبي هريرة المبدوء بذكره في هذا الفصل، فها هنا أمران: أحدهما: إسباغ الوضوء، وهو إتمامه وإبلاغه مواضعه الشرعية كالثوب السابغ المُغطي للبدن كله، وفي مسند الزّار عن عثمان مرفوعاً: " من توضأ فأسبغ الوضوء غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر". وإسناده لا بأس به، وأخرجه ابن عاصم من وجهٍ آخر عن عثمان.
وخرج النسائي وابن ماجة من حديث أبي مالك الأشعري عن النبي ) قال: "إسباغ الوضوء شطر الإيمان"، وخرجه مسلم، ولفظه: "الطهور شطر الإيمان".
وثانيهما: أن يكون إسباغه على الكريهات، والمراد أن يكون على حالةٍ تكره النفس فيها الوضوء، وقد فسر بحال نزول المصائب فإن النفس حينئذ تطلب الجزع فالاشتغال عنه بالصبر والمبادرة إلى الوضوء والصلاة من علامة الإيمان كما قال عز وجل: )استعينوا بالصبر والصلاة وإنَّها لكبيرةٌ إلا على الخاشعين( وقال تعالى )يا أيُّها الذين آمنوا استعينوا بالصبرِ والصلاةِ إن الله مع الصابرين(، والوضوء مفتاح الصلاة، وقد يطفأ به حرارة القلب الناشئة عن ألم المصائب، كما يؤمر من غضب بإطفاء غضبه بالوضوء.
وفسرت الكريهات بالبرد الشديد، ويشهد له أن في بعض روايات حديث معاذ: "...إسباغ الوضوء على السبرات"، والسبرة: شدة البرد، ولا ريب أن إسباغ الوضوء في شدة البرد يشق على النفس وتتألم به، وكل ما يؤلم النفس ويشق عليها فإنه كفارة للذنوب وإن لم يكن للإنسان فيه صنع ولا تسبب كالمرض ونحوه كما دلت النصوص الكثيرة على ذلك.
 
وأما إن كان ناشئاً عن فعل هو طاعة لله فإنه يكتب لصاحبه به أجر، وترفع به درجاته كالألم الحاصل للمجاهد في سبيل الله تعالى، قال الله عز وجل: )ذلك بأنَّهم لا يُصيبُهُم ظَمأٌ ولا نَصَبٌ ولا مَخْمَصَةٌ في سبيل الله ولا يَطئُون مَوطِئاً يَغيظُ الكُفّارَ ولا يَنالون من عدوٍّ نَيلاً إلا كُتِبَ لهم به عملٌ صالحٌ إنَّ الله لا يُضِيعُ أجرَ المحسنين(، وكذلك ألم الجوع والعطش الذي يحصل للصائم، فكذا التألم بإسباغ الوضوء في البرد. ويجب الصبر على الألم بذلك، فإن حصل به رضىً فذلك مقام خواص العارفين المحبين، وينشأ الرضى بذلك عن ملاحظة أمور: أحدها: تذكر فضل الوضوء من حطّه الخطايا، ورفعه للدرجات وحصول الغرّة والتحجيل به، وبلوغ الحلية في الجنة إلى حيث يبلغ، وهذا كما انكسر ظفر بعض الصالحات من عثرةٍ عثرتها فضحكت وقالت: أنساني حلاوة ثوابه مرارة وجعه. وقال بعض العارفين: من لم يعرف ثواب الأعمال ثقلت عليه في جميع الأحوال.
الثاني: تذكر ما أعده الله عز وجل لمن عصاه بالبرد والزمهرير، فإن شدة برد الدنيا يذكر بزمهرير جهنم، وفي الحديث الصحيح: "إن أشد ما تجدون من البرد من زمهرير جهنم"، فملاحظة هذا الألم الموعود يهوّن الإحساس بألم برد الماء كما روي عن زُبيد اليامي أنه قام ليلة للتهجد، وكان البرد شديداً، فلما أدخل يده في الإناء وجد شدة برده فذكر زمهرير جهنم فلم يشعر ببرد الماء بعد ذلك، وبقيت يده في الماء حتى أصبح، فقالت له جاريته: مالك لم تصل الليلة كما كنت تصلي؟!. فقال: إن لما وجدت شدة برد الماء ذكرت زمهرير جهنم فما شعرت به حتى أصبحت، فلا تخبري بهذا أحداً ما دمت حياً
 
الثالث: ملاحظة جلال من أمر بالوضوء، ومطالعة عظمته وكبريائه، وتذكر التهيؤ للقيام بين يديه ومناجاته في الصلاة فذلك يهون كل ألم ينال العبد في طلب مرضاته من برد الماء وغيره، وربما لم يشعر بالماء بالكلية كما قال بعض العارفين: بالمعرفة هانت على العاملين العبادة.
قال سعيد بن عامر: بلغني إن إبراهيم الخليل ) كان إذا توضأ سُمع لعظامه قعقعة. وكان علي بن الحسين إذا توضأ اصفرّ، فيقال له: ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء؟!. فيقول أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم له؟.
وكان منصور بن زاذان إذا فرغ من وضوئه يبكي حتى يرتفع صوته، فقيل له: ما شأنك؟! فقال: وأي شيء أعظم من شأني، إني أريد أن أقوم بين يدي من لا تأخذه سنة ولا نوم، فلعله يرضى عني. وكان عطاء السليمي إذا فرغ من وضوئه ارتعد وانتفض وبكى بكاءً شديداً، فقيل له في ذلك، فقال: إني أريد أن أتقدم إلى أمر عظيم: إني أريد أن أقوم بين يدي الله عز وجل.
الرابع: استحضار اطلاع الله عز وجل على عبده في حال العمل له، وتحمل المشاق لأجله، فمن تيقنّ أن البلاء بعين من يحبه هان عليه الألم كما أشار تعالى إلى ذلك بقوله عز وجل لنبيه ): )واصبر لحُكمِ ربِّكَ فإنَّكَ بأعْيُنِنا(، وقوله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام: )لا تخافآ إنَّني مَعَكُمآ أسمعُ وأرى(، وقال ): "اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فهو يراك". قال أبو سليمان: قرأت في بعض الكتب: يقول الله عز وجل: "بعيني ما تحمل المتحملون من أجلي وكابد المتكبدون في طلب مرضاتي، فكيف بهم وقد صاروا في جواري، وتبحبحوا في رياض خُلدي؟ فهنالك فليبشر المصفُّون لله أعمالهم بالمنظر العجيب من الحبيب القريب، أترون أني أضيع لهم عملاً؟ فكيف وأنا أجود على المولين عني، فكيف بالمُقبلين عليّ؟! ".
 
فإسباغ الوضوء في البرد لا سيما في الليل يطلع الله عليه، ويرضى به، ويباهي به الملائكة، فاستحضار ذلك يهون ألم برد الماء، وفي المسند وصحيح ابن حبان عن عقبة بن عامر عن النبي ) قال: "رجلان من أمتي يقوم أحدهما من الليل يعالج نفسه إلى الطهور وعليه عُقد فيتوضأ، فإذا وضّأ يديه انحلت عقدة، وإذا وضأ وجهه انحلّت عقدة، وإذا مسح برأسه انحلّت عقدة، وإذا وضّأ رجليه انحلّت عُقدة، فيقول الرب عز وجل للذي وراء الحجاب: انظروا إلى عبدي هذا يعالج نفسه يسألني، ما سألني عبدي هذا فهو له..." وذكر بقية الحديث.
وروى عطية عن أبي سعيد عن النبي ): "إن الله يضحك إلى ثلاثة نفر: رجل قام من جوف الليل فأحسن الطهور..." وذكر الحديث. وكان بعض السلف له ورد بالليل ففتر عنه، فهتف به هاتف: بعين الله في الليل لما يصنع خُدّامه، إذا قاموا وحثّتهم على الخدمة أحكامه.
الخامس: الاستغراق من أمر بمحبة هذه الطاعة، وأنه يرضى بها ويحبها كما قال تعالى )إنَّ الله يُحِبُّ التَّوابينَ و يُحِبُّ المُتطهِّرينَ(، فمن امتلأ قلبه من محبة الله عز وجل أحب ما يحبه وإن شق على النفس وتألمت به، كما يقال: المحبة تهوّن الأثقال. وقال بعض السلف في مرضه: أحبه إليّ أَحبه إليه؟ وكما قيل: "فما الجرح إذا أرضاكم ألم" وكما قيل أيضاً:
في حُبِّكم يهونُ ما قدْ ألقى *** يسعدُ بالنعيمِ منْ لا يشقى
من خدم من يحب تلذذ بشقائه في خدمته. وقال بعضهم: القلب المحب لله يحب النصب له. وقال عبد الصمد: أوجد لهم في عذابه عذوبةً.
 
إسباغ الوضوء على المكاره من علامات المحبين كما في كتاب الزهد للإمام أحمد عن عطاء بن يسار قال: "قال موسى عليه السلام: يارب! من أهلك الذين هم أهلك، الذين تُظلهم في ظلّ عرشك!. قال: هم البرية أيديهم، الطاهرة قلوبهم، الذين يتحابون بجلالي، الذين إذا ذُكرت ذُكروا بي، وإذا ذكروا ذكرت بذكرهم، الذين يسبغون الوضوء في المكاره، وينيبون إلى ذكري كما تنيب النسور إلى أوكارها، ويكْلفون بحبي كما يكلف الصبي بحب الناس، ويغضبون لمحارمي إذا استحلت كما يغضب النمر إذا حُرِب".
وقد يخرق الله العادة لبعض المحبين له فلا يجد ألم برد الماء، كما كان بعض السلف قد دعا الله أن يهون عليه الطهور في الشتاء، فكان يؤتى بالماء وله بخار، وربما سُلب بعض الإحساس في الحر والبرد مطلقاً، وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه قد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم أن يذهب الله عنه الحر والبرد، فكان يلبس في الصيف لباس الشتاء، وفي الشتاء لباس الصيف، وقال النبي ) فيه: "إنه يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله".
ورأى أبو سليمان الداراني في طريق الحج في شدة برد الشتاء شيخاً عليه أخلاق رثّةً وهو يرشح عرقاً، فسأله عن حاله، فقال: إنما الحر والبرد خلقان لله عز وجل، فإن أمرهما أن يغشيان أصاباني، وإن أمرهما أن يتركاني تركاني. وقال: أنا في هذه البرية منذ ثلاثين سنة يُلبسُني في البرد فيحاً من محبته، ويلبسني في الصيف برداً من محبته. وقيل لآخر وعليه خرقتان في برد شديد: لو استترت في موضع يُكِّنُك من البرد!... فأنشد:
ويُحسنُ ظني أنني في فنائِه *** وهل أحدٌ في كُنِّه يجِدُ البردا؟.
"السبب الثاني من مُكفِّرات الذنوب":
 
المشي على الأقدام إلى الجماعات وإلى الجمعات، ولا سيما إن توضأ الرجل في بيته ثم خرج إلى المسجد لا يريد بخروجه إلا الصلاة فيه كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ) قال: "صلاة الرجل في الجماعة تَضْعُف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسةً وعشرين ضعفاً، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخطُ خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحُطَّ عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاّه: "اللهم صلي عليه، اللهم ارحمه"، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة".
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي ) قال: "من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله، كانت خطوتاه: إحداهما تحط خطيئة، والأخرى ترفع درجة".
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ) قال: "كل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة".
وفي المسند وصحيح ابن حبان عن عقبة بن عامر عن النبي ) قال: "إذا تطهر الرجل ثم أتى المسجد يرعى الصلاة كتب له كاتباه بكل خطوة يخطوها إلى المسجد عشر حسنات".
وفيهما أيضاً عن عبد الله بن عمرو عن النبي ) قال: "مَن راح إلى مسجد جماعة فخطوتاه: خطوة تمحو سيئة، وخطوة تكتب حسنة ذاهباً وراجعاً".
وفي سنن أبي داود عن أبي أمامة عن النبي) قال: "من خرج من بيته متطهراً إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاجّ المحرم".
وفيه أيضاً عن رجل من الأنصار عن النبي ) قال: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى الصلاة، لم يرفع قدمه اليمنى إلا كتب الله له بها حسنة، ولم يضع قدمه اليسرى إلا حطَّ الله عنه بها خطيئة، فليقرب أو ليبعد، فإن أتى المسجد فصلى في جماعة غُفر له".
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جداً.
 
فالمشي إلى الجمعات له مزيد فضل، لا سيما إن كان بعد الاغتسال، كما في السنن عن أبي أوس عن النبي ) قال: "من غسل يوم الجمعة واغتسل، وبكّر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، واستمع ولم يلغ، كان له بكل خطوة أجر سنة: صيامها وقيامها".
وكلما بعد المكان الذي يمشي منه إلى المسجد كان المشي منه أفضل لكثرة الخطا، وفي صحيح مسلم عن جابر قال: كانت دارنا نائية عن المسجد، فأردنا أن نبيع بيوتنا فنقرب من المسجد، فنهانا رسول الله ) وقال: "إن لكم بكل خطوة حسنة".
وفي صحيح البخاري عن أنس أن النبي ) قال: "يا بني سلمة! ألا تحسبون آثاركم؟!". وفي الصحيحين عن أبي موسى أن النبي) قال: "إن أعظم الناس أجراً في الصلاة: أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم".
ومع هذا فنفس الدار القريبة من المسجد أفضل من الدار البعيدة عنه، لكن المشي من الدار البعيدة أفضل، ففي المسند عن حذيفة عن النبي ) قال: "فضل الدار القريبة من المسجد على الدار البعيدة الشاسعة كفضل الغازي على القاعد" وإسناده منقطع.
والمشي إلى المسجد أفضل من الركوب كما تقدم في حديث أوس في الجُمع، ولهذا جاء في حديث معاذ ذكر المشي على الأقدام، وكان النبي ) لا يخرج إلى الصلاة إلا ماشياً حتى العيد يخرج إلى المصلى ماشياً، فإن الآتي للمسجد زائر لله، والزيارة على الأقدام أقرب إلى الخضوع والتذلل كما قيل:
لو جئتكم زائراً أسعى على بصري *** لم أَدِّ حقاً وأيُّ الحقِّ أدَّيتُ؟!
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي ) قال: "من غدا إلى المسجد أو راح أعدَّ الله له منزلاً في الجنة كلما غدا أو راح". والنُّزُل: هو ما يُعدُّ للزائر عند قدومه. وفي الطبراني من حديث سلمان مرفوعاً: "من توضأ في بيته فأحسن الوضوء، ثم أتى المسجد فهو زائر الله تعالى، وحق على المزور أن يكرم الزائر".
 
وفي صحيح مسلم عن أبي بن كعب قال: كان رجل لا أعلم رجلاً أبعد من المسجد منه، وكان لا تخطئه صلاة في المسجد، قال: فقيل له أو قلت له: لو اشتريت حماراً تركبه في الظلماء وفي الرمضاء. فقال: ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يُكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي. فقال رسول الله ): "قد جمع الله لك ذلك كله".
وكلما شق المشي إلى المسجد كان أفضل، ولهذا فُضل المشي إلى صلاة العشاء وصلاة الصبح، وعُدل بقيام الليل كله كما في صحيح مسلم عن عثمان عن النبي ) قال: "من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله".
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ) قال: "أثقل صلاة على المنافقين: صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيها لأتوهما ولو حبواً". وإنما ثقلت هاتان الصلاتان على المنافقين لأن المنافق لا ينشط للصلاة إلا إذا رآه الناس كما قال تعالى: )وإذا قامُوآ إلى الصلاةِ قاموا كُسالى يُرآءون الناسَ ولا يذكُرُونَ الله إلا قليلاً( وصلاة العشاء والصبح يقعان في ظلمةٍ، فلا ينشط للمشي إليهما إلا كل مخلص يكتفي برؤية الله عز وجل وحده لعلمه به.
وثواب المشي إلى الصلاة في الظُّلَم: النور التام في ظلم يوم القيامة كما في سنن أبي داود والترمذي عن بُريدة عن النبي ) قال: "بَشِّر المشَّائينَ في الظُّلَم إلى المساجدِ بالنُّورِ التّام يومَ القيامة" وخرجه ابن ماجة من حديث سهل بن سعد، وقد رُوي من وجه كثيرة.
وفي بعضها زيادة: "يفزع الناس ولا يفزعون". قال النخعي: وكانوا يرون أن المشي في الليلة الظلماء إلى الصلاة موجبة. يعني توجب المغفرة. وروينا عن الحسن قال: أهل التوحيد في النار لا يُقيدون، فيقول الخزنة بعضهم لبعض: ما بال هؤلاء لا يقيدون وهؤلاء يقيدون؟! فيناديهم منادٍ: إن هؤلاء كانوا يمشون في ظلم الليل إلى المساجد.
 
كما أن مواضع السجود عن عصاة الموحدين في النار لا تأكلها النار، فكذلك الأقدام التي تمشي إلى المساجد في الظلم لا تقيد في النار، ولا يسوي في العذاب بين من خدمه وبين من لم يخدمه وإن عذبه:
ومَنْ كانَ في سُخطه محسناً *** فكيف يكونُ إذا ما رضي؟!
لما كانت الصلاة صلة بين العبد وربه، ومناجاة تظهر فيها آثار تجليه لقلوب العارفين وقربه، شرع قبل الدخول فيها الطهارة، فإنه لا يصلح للوقوف بين يدي الله عز وجل والخلوة بمناجاته إلا طاهر، فأما المتلوث بالأوساخ الظاهرة والباطنة فلا يصلح للقرب، فشرع الله عز وجل للمصلي غسل أعضائه بالماء، ورتب عليها طهارة الذنوب وتكفيرها، حتى يجتمع لمن يريد المناجاة طهارة ظاهره وباطنه، ثم شرع المشي إلى المساجد، وفيه أيضاً تكفير الخطايا حتى تكمل طهارة الذنوب إن بقي منها شيء بعد الوضوء، حتى لا يقف العبد في مقام المناجاة إلا بعد كمال طهارة ظاهره وباطنه من درن الأوساخ والذنوب، ولهذا شرع له تجديد التوبة والاستغفار عقيب كل وضوء حتى تكمل طهارة ذنوبه كما خرج النسائي من حديث أبي سعيد مرفوعاً وموقوفاً: "من توضأ فأسبغ الوضوء، ثم قال عند فراغه من وضوئه: "سبحانك اللهم وبحمدك، استغفرك وأتوب إليك" خُتم عليها بخاتم، فوُضعت تحت العرش فلم يكسر إلى يوم القيامة".
ومتى اجتهد العبد على تكميل طهارته ومشيه إلى المسجد ولم يقوَ ذلك على تكفير ذنوبه فإن الصلاة يكمل بها التكفير، كما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ) قال: "أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ ". قالوا: لا يبقى من درنه شيء. قال: "فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا". وإن قوي الوضوء وحده على تكفير الخطايا فالمشي إلى المسجد والصلاة بعده تكون زيادة حسنات، وهذا هو المراد من قول النبي ) في حديث عثمان والصُّنابحي: "...وكان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة"، وقد سبق ذكر الحديثين.
 
واعلم أن جمهور العلماء على أن هذه الأسباب كلها إنما تكفر الصغائر دون الكبائر، وقد استدل بذلك عطاء وغيره من السلف في الوضوء، وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه: الوضوء يكفر الجراحات الصغار، والمشي إلى المسجد يكفر أكثر من ذلك، والصلاة تكفر أكثر من ذلك. خرجه محمد بن نصر المروزي.
ويُدلّ على أن الكبائر لا تكفر بذلك ما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ) قال: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتُنِبَت الكبائر".
وفي صحيح مسلم عن عثمان عن النبي ) قال: "ما من امرئٍ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها وسجودها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة، وذلك الدهر كله".
فانظر إلى كم تُيَسر لك أسباب تكفير الخطايا لعلك تطهر منها قبل الموت فتلقاه طاهراً، فتصلح لمجاورته في دار السلام، وأنت تأبى إلا أن تموت على خبث الذنوب فتحتاج إلى تطهيرها في كير جهنم. يا هذا! أما علمت أنه لا يصلح لقربنا إلا طاهر؟! فإن أردت قربنا ومناجاتنا اليوم فطهر ظاهرك وباطنك لتصلح لذلك، وإن أردت قربنا ومناجاتنا غداً فطهر قلبك من سوانا لتصلح لمجاورتنا )يومَ لا ينفعُ مالٌ ولا بَنُونَ" إلا مَنْ أتى الله بقلبٍ سليمٍ(، القلب السليم الذي ليس فيه غير محبة الله، ومحبة يحبه الله، إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، فما كل أحد يصلح لمجاورة الله تعالى غداً، ولا كل أحد يصلح لمناجاة الله اليوم، ولا على كل الحالات تحسن المناجاة:
الناسُ من الهوى على أصنافِ *** هذا نقضَ العهدَ وهذا وافي
هيهاتَ مِنَ الكدورِ تبغي الصافي *** ما يصلِحُ للحضرةِ قلبٌ جافي
"السبب الثالث من مكفرات الذنوب":

 
الجلوس في المساجد بعد الصلوات، والمراد بهذا الجلوس انتظار صلاة أخرى كما في حديث أبي هريرة: "... وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط". فجعل هذا من الرباط في سبيل الله عز وجل، وهذا أفضل من الجلوس قبل الصلاة لانتظارها، فإن الجالس لانتظار الصلاة ليؤديها ثم يذهب تقصر مدة انتظاره، بخلاف من صلى صلاة ثم جلس ينتظر أخرى فإن مدته تطول، فإن كان كلما صلى صلاة جلس ينتظر ما بعدها استغرق عمره بالطاعة، وكان ذلك بمنزلة الرباط في سبيل الله عز وجل.
وفي المسند وسنن ابن ماجة عن عبد الله بن عمرو قال: صليت مع رسول الله ) المغرب، فرجع من رجع، وعقب من عقب، فجاء رسول الله ) مسرعاً قد حَفَزه النفَس، وقد حسر عن ركبته فقال: "أبشروا! هذا ربكم قد فتح عليكم باباً من أبواب السماء يباهي بكم الملائكة، يقول: انظروا إلى عبادي قد قضوا فريضة وهم ينتظرون أخرى".
وفي المسند عن أبي هريرة عن النبي ) قال: "منتظر الصلاة بعد الصلاة كفارس اشتد به فرسه في سبيل الله على كَشْحِهِ، تُصلي عليه ملائكة الله ما لم يحدث أو يقوم، وهو في الرباط الأكبر".
ويدخل في قوله: "والجلوس في المساجد بعد الصلوات": الجلوس للذكر والقراءة وسماع العلم وتعليمه ونحو ذلك، لا سيما بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، فإن النصوص قد وردت بفضل ذلك، وهو شبيهٌ بمن جلس ينتظر صلاة أخرى، لأنه قد قضى ما جاء المسجد لأجله من الصلاة وجلس ينتظر طاعة أخرى.
وفي الصحيح عن النبي ) قال: "وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده".
وأما الجالس قبل الصلاة في المسجد لانتظار تلك الصلاة خاصةً فهو في صلاة حتى يصلي، وفي الصحيحين عن أنس عن النبي ) أنه لما أخّر صلاة العشاء الآخرة ثم خرج فصلى بهم: قال لهم: "إنكم لم تزالوا في صلاةٍ ما انتظرتم الصلاة".
 
وفيهما أيضاً عن أبي هريرة عن النبي ) قال: " الملائكة تصلي عل أحدكم ما دام في مصلاه ما لم يحدث: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه. ولا يزال أحدكم في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه، لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة". وفي رواية لمسلم: "ما لم يؤذِ فيه، ما لم يحدث فيه".
وهذا يدل على أن المراد بالحدث: حدث اللسان ونحوه، وفسره أبو هريرة بحدث الفرج، وقيل إنه يشمل الحدثين.
وفي المسند عن عقبة بن عامر عن النبي ) قال: "القاعد يرعى الصلاة كالقانت، ويُكتب من المصلين من حين يخرج من بيته حتى يرجع إليه". وفي رواية له: "فإذا صلى في المسجد ثم قعد فيه كان كالصائم القانت حتى يرجع". وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة.
وبالجملة فالجلوس في المسجد للطاعات له فضل عظيم، وفي حديث أبي هريرة عن النبي ) قال: "لا يوطن رجل المساجد للصلاة والذكر إلا تبشبش الله عز وجل كما يتبشبش أهل الغائب إذا قدم عليهم غائبهم".
وروى دراج عن أبي الهيثم عن أبي سع عن النبي ) قال: "من ألف المسجد ألفه الله". وقال سعيد بن المسيب: من جلس في المسجد فإنما يجالس الله عز وجل وصحّ عن النبي ) أنه عدّ من السبعة الذين يظلهم الله في ظلّه يوم لا ظل إلا ظله: "رجل قلبه معلّق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود".
وإنما كان ملازمة المسجد مكفراً للذنوب لأن فيه مجاهدة للنفس، وكفّاً لها عن أهوائها فإنها لا تميل إلا إلى الإنتشار في الأرض لابتغاء الكسب أو لمجالسة الناس ومحادثتهم أو للتنزه في الدور الأنيقة والمساكن الحسنة ومواطن النّزه ونحو ذلك، فمن حبس نفسه في المساجد على الطاعة فهو مرابط لها في سبيل الله، مخالف لهواها وذلك من أفضل أنواع الصبر والجهاد.

 
وهذا الجنس أعني ما يؤلم النفس ويخالف هواها فيه كفارة للذنوب وإن كان لا صنع فيه للعبد كالمرض ونحوه، فكيف بما كان حاصلاً عن فعل العبد واختياره إذا قصد به التقرب إلى الله عز وجل ؟! فإن هذا من نوع الجهاد في سبيل الله الذي يقتضي تكفير الذنوب كلها.
ولهذا المعنى كان المشي إلى المساجد كفارة للذنوب أيضاً، وهو نوع من الجهاد في سبيل الله أيضاً، كما خرجه الطبراني من حديث أبي أمامة عن النبي ): "الغدوّ والرواح إلى المساجد من الجهاد في سبيل الله عز وجل".
كان زياد مولى ابن عباس أحد العباد الصالحين، وكان يلازم مسجد المدينة، فسمعوه يوماً يعاتب نفسه ويقول لها: "أين تريدين أن تذهبي؟! إلى أحسن من هذا المسجد!! تريدين أن تبصري دار فلان ودار فلان!".
لما كانت المساجد في الأرض بيوت الله أضافها الله إلى نفسه تشريفاً لها، وتعلقت قلوب المحبين لله عز وجل بها، لنسبتها إلى محبوبهم، وانقطعت إلى ملازمتها لإظهار ذكره فيها )في بُيُوتٍ أذِنَ الله أنْ تُرفَع ويُذْكَرَ فيها اسمُهُ يُسبِّحُ لهُ فيها بالغُدُوِّ والأَصَالِ" رجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكرِ الله وإقامِ الصلاة وإيتآءِ الزكاة يخافونَ يوماً تتقلّبُ فيه القلوبُ والأبْصارُ(.
أين يذهب المحبون عن بيوت مولاهم؟! قلوب المحبين ببيوت محبوبهم متعلّقة، وأقدام العابدين إلى بيوت معبودهم مترددة:
يا حبّذا العرعرُ النجدي والبان *** ودارُ قومٍ بأكناف الحِمى بانوا
وأطيبُ الأرضٍ ما للقلبِ فيه هوى *** سَمُّ الخَياط مع المحبوبِ ميدانُ
لا يُذكرُ الرَّملُ إلا حَنَّ مُغتربٌ *** له بذي الرمل أوطارٌ وأوطانُ
يهفو إلى البان من قلبي نوازعُه *** وما بيَ البانُ بل مَن دارهُ البانُ
الفصل الثاني
في ذكر الدرجات المذكورة في حديث معاذ
 
الوسوم
اختصام الاعلى الملأ حديث شرح
عودة
أعلى