بحث شامل عن عقيدتنا فى القضاء والقدر

  • تاريخ البدء

ظل البحر

الاعضاء
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلامضل له
ومن يضلل فلا هادي له
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله
...
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولاتموتن إلا وأنتم مسلمون
.........
يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة
وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءا
واتقوا الله الذي تساألون به والأرحام
إن الله كان عليكم رقيباً
.........
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا يصلح لكم أعمالكم
ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما
.................
إن أصدق الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم
وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار

التعريف بالقضاء والقدر
المبحـث الأول

التعريف بالقدر


" القدر مصدر ، تقول :
قَدَرت الشيء بتخفيف الدال وفتحها أقْدِره بالكسر والفتح قَدْراً وقَدَراً
إذا أحطت بمقداره " (1) .

والقدر في اللغة " القضاء والحكم ومبلغ الشيء
والتقدير التروية والتفكر في تسوية الأمر " (2) .

والقدر في الاصطلاح : " ما سبق به العلم ، وجرى به القلم مما هو كائن إلى الأبد
وأنه – عز وجل - قدَّر مقادير الخلائق ، وما يكون من الأشياء قبل أن تكون في الأزل
وعلم سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة عنده تعالى
وعلى صفات مخصوصة، فهي تقع على حسب ما قدرها " (3) .

وقال ابن حجر في تعريفه :
" المراد أنّ الله – تعالى – علم مقادير الأشياء وأزمانها قبل إيجادها
ثمّ أوجد ما سبق في علمه أنه يوجد ، فكل محدث صادر عن علمه وقدرته وإرادته " (4) .

ونقل السفاريني عن الأشعرية أن " القدر إيجاد الله – تعالى –
الأشياء على قدر مخصوص ، وتقدير معين في ذواتها وأحوالها
طبق ما سبق به العلم وجرى به القلم " (5) .


وهذه التعريفات متقاربة فيما بينها ، وهي تفيد أن القدر يشمل أمرين :

الأول : علم الله الأزلي الذي حكم فيه بوجود ما شاء أن يوجده
وحدد صفات المخلوقات التي يريد إيجادها
وقد كتب كل ذلك في اللوح المحفوظ بكلماته
فالأرض والسماء أحجامهما وأبعادهما وطريقة تكوينهما وما بينهما وما فيهما
كل ذلك مدون علمه في اللوح المحفوظ تدويناً دقيقاً وافياً .

والثاني : إيجاد ما قدر الله إيجاده على النحو الذي سبق علمه وجرى به قلمه
فيأتي الواقع المشهود مطابقاً للعلم السابق المكتوب .

والقدر يطلق ويراد به التقدير السابق لما في علم الله
ويطلق ويراد ما خلقه وأوجده على النحو الذي علمه .

وسئل الإمام الشافعي – رحمه الله تعالى –
عن القدر فأجاب شعراً قائلاً:


فما شئتَ كان وإن لم أشـأ==== وما شئتُ إن تشأ لم يكنْ


خلقتَ العباد على ما علمتَ=== ففي العلم يجري الفتى والمُسِنْ


على ذا مننتَ وهذا خذلتَ ----- وهذا أعنـتَ وهذا لم تُعِنْ


فمنهم شقي ومنهم سعيد000000 ومنهم قبـيح ومنهم حَسَنْ


--------------------------------
(1) فتح الباري لابن حجر العسقلاني :1/118 .
(2) القاموس المحيط للفيروزآبادي :ص591 .
(3) عقيدة السفاريني :148 .
(4) فتح الباري :1/118 .
(5) عقيدة السفاريني :145 .
(6) الاعتقاد للبيهقي :ص162.شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي :1/702 .
 
التعريف بالقضاء

" القضاء : الفصل والحكم .
وقد تكرر في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر ( القضاء )
وأصله القطع والفصل .
يُقال : قضى يقضي قضاء فهو قاضٍ ، إذا حكم وفصل .

وقضاء الشيء إحكامه وإمضاؤه والفراغ منه ، فيكون بمعنى الخلق .

وقال الزهري :
القضاء في اللغة على وجوه ، مرجعها إلى انقضاء الشيء وتمامه

وكل ما أُحكم عمله ، أو أُتمَّ ، أو أُدِّى ،أو أُوجب ، أو عُلم ، أو نُفِّذ

أو أُمضى ، فقد قضي ، وقد جاءت هذه الوجوه كلها في الأحاديث (1) .




وللعلماء في التفرقة بين القضاء والقدر قولان :




الأول : القضاء هو العلم السابق الذي حكم الله به في الأزل

والقدر وقوع الخلق على وزن الأمر المقضي السابق .
يقول ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى :
" قال العلماء القضاء هو الحكم الكلي الإجمالي في الأزل

والقدر جزيئات ذلك الحكم وتفاصيله " (2) .
وقال في موضع آخر :
" القضاء الحكم بالكليات على سبيل الإجمال في الأزل

والقدر الحكم بوقوع الجزيئات التي لتلك الكليات على سبيل التفصيل " (3) .



الثاني : عكس القول السابق ، فالقدر هو الحكم السابق ، والقضاء هو الخلق .

قال ابن بطال :

" القضاء هو المقضي " (4) ومراده بالمقضي المخلوق

وهذا هو قول الخطابي ، فقد قال في معالم السنن :
" القدر اسم لما صار مُقدَّراً عن فعل القادر ، كالهدم والنشر والقبض :
أسماء لما صدر من فِعل الهادم والناشر والقابض .

والقضاء في هذا معناه الخلق ، كقوله تعالى :

( فقضاهن سبع سماوات في يومين )
[فصلت :12] أي خلقهن " (5) .

وبناء على هذا القول يكون " القضاء من الله تعالى أخص من القدر

لأنّه الفصل بين التقديرين ، فالقدر هو التقدير ، والقضاء هو الفصل والقطع " (6) .

ويدل لصحة هذا القول نصوص كثيرة من كتاب الله

قال تعالى : ( وكان أمراً مقضياً ) [ مريم :21]

وقال : ( كان على ربك حتماً مقضياً ) [مريم :71]

وقال : ( وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون ) [ البقرة : 117] .

فالقضاء والقدر – بناء على هذا القول – أمران متلازمان

لا ينفك أحدهما عن الآخر ، لأن أحدهما بمنزلة الأساس وهو القدر

والآخر بمنزلة البناء وهو القضاء

فمن رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه " (7) .

--------------------------------
(1) النهاية في غريب الحديث ، لابن الأثير :4/78 .
(2) فتح الباري :11/477 .
(3) فتح الباري :11/149 .
(4) فتح الباري :11/149 .
(5) معالم السنن للخطابي :7/70 .
(6) المفردات للراغب الأصفهاني : ص406 .
(7) النهاية في غريب الحديث لابن الأثير :4/78.وانظر جامع الأصول :10/104 .
 
أركان الإيمان بالقدر


الإيمان بالقدر يقوم على أربعة أركان ، من أقرَّ بها جميعاً فإن إيمانه بالقدر يكون مكتملاً
ومن انتقص واحداً منها أو أكثر فقد اختل إيمانه بالقدر
وهذه الأركان الأربعة هي :

الأول : الإيمان بعلم الله الشامل المحيط .


الثاني : الإيمان بكتابة الله في اللوح المحفوظ لكل ما هو كائن إلى يوم القيامة .

الثالث : الإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته التامة ، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن .

الرابع : خلقه تبارك وتعالى لكل موجود ، لا شريك لله في خلقه .

وسنتناول هذه الأصول الأربعة بشيء من التفصيل .



الركن الأول

الإيمان بعلم الله الشامل
وقد كثر في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تقرير هذا الأصل العظيم
فعلم الله محيط بكل شيء ، يعلم ما كان ، وما سيكون
وما لم يكن لو كان كيف يكون ، ويعلم الموجود والمعدوم ، والممكن والمستحيل .

وهو عالم بالعباد وآجالهم وأرزاقهم وأحوالهم وحركاتهم وسكناتهم وشقاوتهم وسعادتهم
ومن منهم من أهل الجنة ، ومن منهم من أهل النار من قبل أن يخلقهم
ويخلق السماوات والأرض .

وكل ذلك مقتضى اتصافه – تبارك وتعالى – بالعلم ، ومقتضى كونه
– تبارك وتعالى – هو العليم الخبير السميع البصير .

قال تعالى : ( هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة )[الحشر :22]
وقال :
( لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما )
[الطلاق :12]
وقال عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض
ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ) [سبأ : 3 ]
. وقال : ( إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين )
[ النحل :125].
وقال :
( هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم )
[ النجم : 32] .

وقال الحق مقرراً علمه بما لم يكن لو كان كيف سيكون
( ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ) [ الأنعام :28]
فالله يعلم أن هؤلاء المكذبين الذين يتمنون في يوم القيامة الرجعة إلى الدنيا
أنهم لو عادوا إليها لرجعوا إلى تكذيبهم وضلالهم .

وقال في الكفار الذين لا يطيقون سماع الهدى :
( ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون )
[ الأنفال :23] .

ومن علمه تبارك وتعالى بما هو كائن علمه بما كان الاطفال
الذين توفوا صغاراً عاملين لو أنهم كبروا قبل مماتهم .

روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال :
" سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين
فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين " (1) .

وروى مسلم عن عائشة أم المؤمنين قالت :
توفى صبي ، فقلت : طوبى له عصفور من عصافير الجنة .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" أولا تدرين أن الله خلق الجنة والنار ، فخلق لهذه أهلاً ولهذه أهلاً " .

وفي رواية عند مسلم أيضاً عن عائشة قالت :
" دُعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار
فقلت : يا رسول الله طوبي لهذا ، عصفور من عصافير الجنة
لم يعمل السوء ولم يدركه .
قال : أو غير ذلك يا عائشة ، إن الله خلق للجنة أهلاً
خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم ، وخلق للنار أهلاً
خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم " (2) .

وهذه الأحاديث تتحدث عن علم الله في من مات صغيراً
لا أن هؤلاء يدخلهم الله النار بعلمه فيهم من غير أن يعملوا .

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في قوله صلى الله عليه وسلم
في أبناء المشركين :
" الله أعلم بما كانوا عاملين " "
أي يعلم من يؤمن منهم ومن يكفر لو بلغوا
ثم إنه جاء في حديث إسناده مقارب عن أبي هريرة رضي الله عنه
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" إذا كان يوم القيامة فإن الله يمتحنهم ، ويبعث إليهم رسولاً في عرصة القيامة
فمن أجابه أدخله الجنة ، ومن عصاه أدخله النار "
فهنالك يظهر فيهم ما علمه الله سبحانه
ويجزيهم على ما ظهر من العلم ، وهو إيمانهم وكفرهم ، لا على مجرد العلم " (3) .
 
الأدلة العقلية على أن الله علم مقادير الخلائق قبل خلقهم :

والحق أن وجود هذا الكون ، ووجود كل مخلوق فيه يدلَُ دلالة واضحة
على أن الله علم به قبل خلقه
" فإنه يستحيل إيجاده الأشياء مع الجهل ، لأن إيجاده الأشياء بإرادته
والإرادة تستلزم تصور المراد ، وتصور المراد هو العلم بالمراد
فكان الإيجاد مستلزماً للإرادة ، والإرادة مستلزمة للعلم
فالإيجاد مستلزم للعلم " (4) .

وأيضاً فإن " المخلوقات فيها من الأحكام والإتقان ما يستلزم علم الفاعل لها
لأن الفعل المحكم المتقن يمتنع صدوره عن غير علم " (5) .
واستدل العلماء على علمه تبارك وتعالى بقياس الأولى :
" فالمخلوقات فيها ما هو عالم ، والعلم صفة كمال ، ويمتنع أن لا يكون الخالق عالماً " .
والاستدلال بهذا الدليل له صيغتان :
أحدهما :
أن يقال : نحن نعلم بالضرورة أن الخالق أكمل من المخلوق
وأن الواجب أكمل من الممكن ، ونعلم ضرورة أنا لو فرضنا شيئين :
أحدهما عالم والآخر غير عالم ، كان العالم أكمل
فلو لم يكن الخالق عالماً لزم أن يكون الممكن أكمل منه ، وهو ممتنع .

الثاني :
كل علم في المخلوقات فهو من الله تبارك وتعالى
ومن الممتنع أن يكون فاعل الكمال ومبدعه عارياً منه
بل هو أحق به ، ذلك أن كل ما ثبت للمخلوق من كمال فالخالق أحق به
وكلَُ نقص تنزه عنه مخلوق ما ، فتنزه الخالق عنه أولى " (6) .
وكل هذه الأدلة يمكنك أن تلمحها في قوله تعالى :
( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) [ الملك :14 ] .
ويستدل على علمه – تبارك وتعالى –
بإخباره بالأشياء والأحداث قبل وقوعها وحدوثها
فقد أخبر الحق في كتبه السابقة عن بعثة رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه
وصفاته وأخلاقه وعلاماته ، كما أخبر عن الكثير من صفات أمته
وأخبر في محكم كتابه أن الروم سينتصرون في بضع سنين على الفُرس المجوس
ووقع الأمر كما أخبر ، والإخبار عن المغيبات المستقبلة كثير في الكتاب والسنة .


الركن الثاني

الإيمان بأن الله كتب في اللوح المحفوظ كل شيء




دلت النصوص من الكتاب والسنة على أن الله كتب في اللوح المحفوظ كل شيء
ففي الحديث الذي يرويه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال :
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
" كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة
قال : وعرشه على الماء " (7) .

ورواه الترمذي بلفظ :
" قدرَّ الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة " (8) .
وفي سنن الترمذي أيضاً عن عبادة بن الصامت قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" إن أول ما خلق الله القلم فقال : اكتب قال : ما أكتب ؟
قال : اكتب القدر ما كان ، وما هو كائن إلى الأبد " .
قال أبو عيسى الترمذي : وهذا حديث غريب من هذا الوجه (9) .
واللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه مقادير الخلائق سماه القرآن بالكتاب
وبالكتاب المبين ، وبالإمام المبين وبأم الكتاب ، والكتاب المسطور .
قال تعالى : ( بل هو قرءان مجيد - في لوح محفوظ ) [ البروج : 21-22 ] .
وقال :
( ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب )
[ الحج :70]
وقال: ( وكل شيء أحصيناه في إمام مبين ) [يسن : 12] .
وقال : ( والطور - وكتاب مسطور - في رق منشور ) [ الطور : 1-3 ] .
وقال : ( وإنه في أم الكتاب لدينا لعلى حكيم ) [الزخرف :4] .
 
الركن الثالث

الإيمان بمشيئة الله الشاملة وقدرته النافذة




وهذا الأصل يقضي بالإيمان بمشيئة الله النافذة ، وقدرته الشاملة
فما شاء الله كان ،وما لم يشأ لم يكن
وأنه لا حركة ولا سكون في السماوات ولا في الأرض إلا بمشيئته
فلا يكون في ملكه إلا ما يريد .
والنصوص المصرحة بهذا الأصل المقررة له كثيرة وافرة ، قال تعالى :
( وما تشاءون إلا أن يشاء الله ) [ التكوير : 29]
وقال :
( ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى
وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله )
[ الأنعام : 111]
وقال : ( ولو شاء ربك ما فعلوه ) [ الأنعام :112]
وقال : ( إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ) [ يسن : 36 ]
وقال : ( من يشاء الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ) [الأنعام : 39] .
ومشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة يجتمعان فيما كان وما سيكون
ويفترقان فيما لم يكن ولا هو كائن .
فما شاء الله تعالى كونه فهو كائن بقدرته لا محالة
وما لم يشأ الله تعالى إياه لا يكن لعدم مشيئة الله تعالى ليس لعدم قدرته عليه
قال تعالى : ( ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد ) [ البقرة : 253 ]
وقال : ( ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ) [المائ
دة :48 ] وقال : ( ولو شاء الله لجمعكم على الهدى ) [ الأنعام : 35]
وقال : ( ولو شاء الله ما أشركوا ) [ الأنعام : 107]
وقال : ( ولو شاء ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعاً ) [ يونس :99]
وقال : ( ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكناً ) [ الفرقان : 45 ]
والآيات في هذا كثيرة تدل على عدم وجود ما لم يشأ وجوده لعدم مشيئته ذلك
لا لعدم قدرته عليه ، فإنه على كل شيء قدير تبارك وتعالى .


الركن الرابع

الإيمان بأن الله خالق كلّ شيء





قررت النصوص أن الله خالق كل شيء

فهو الذي خلق الخلق وكوَّنهم وأوجدهم ، فهو الخالق وما سواه مربوب مخلوق
( الله خالق كل شيء ) [ الزمر : 62 ]
، ( بلى وهو الخلاق العليم ) [ يسن :81 ]
( الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ) [ الأنعام :1 ]

وقال ايضا ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة
وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً ) [ النساء : 1 ]
( وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كلٌ في فلك يسبحون ) [ الأنبياء : 33] ، والنصوص في هذا كثيرة طيبة .

--------------------------------
(1) انظر فتح الباري :11/493ورواه مسلم
بلفظه عن أبي هريرة :4/2049ورقمه : 2659 .
(2) صحيح مسلم : 4/2050 ورقمه : 2662 .
(3) مجموع فتاوى شيخ الإسلام :4/246 .
(4) شرح الطحاوية : ص148 .
(5) شرح الطحاوية : ص148 .
(6) شرح الطحاوية : ص148 .
(7) رواه مسلم في صحيحه : 4/2044 ورقم الحديث : 2653 .
(8) سنن الترمذي : (4/458) ورقمه : 2156. وقال فيه : حديث حسن صحيح .
(9) سنن الترمذي : 4/458 ورقمه :2055 والحديث صحيح .
فالغرابة إنما هي في الوجه الذي أورده الترمذي في باب القدر
وإلا فإنه قد أورده في كتاب التفسير ، وقال فيه : حديث حسن غريب .
وقد أورده الشيخ ناصر الدين الألباني في صحيح سنن الترمذي : (2/228)
وذكر أنه خرجه في سلسلة الأحاديث الصحيحة وغيرها .
 
أفعال العباد مخلوقة مقدرة


لا يخرج العباد وأفعالهم عن غيرها من المخلوقات ، فقد علم الله ما سيخلقه من عباده
وعلم ما هم فاعلون ، وكتب كل ذلك في اللوح المحفوظ
وخلقهم الله كما شاء ، ومضى قدر الله فيهم
فعملوا على النحو الذي شاءه فيهم ، وهدى مَن كتب الله له السعادة
وأضل مَن كتب عليه الشقاوة ، وعلم أهلَ الجنة ويسرهم لعمل أهلها
وعلم أهلَ النار ويسرهم لعمل أهلها .

والنصوص التي سقناها فيما سبق تكفي في الدلالة على هذا الذي قررناه هنا
ومع ذلك فهناك نصوص كثيرة أخرى أصرح في الدلالة في هذه المسألة .


قال تعالى : ( والله خلقكم وما تعملون ) [ الصافات : 96]
وقال : ( وكل شيء فعلوه في الزبر ) [ الصافات :52]
وقال :
( وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يُعمًّر من مُّعمَّر
ولا يُنقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير ) [ فاطر :11]
وقال : ( من يهد الله فهو المهتدى ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون ) [ الأعراف :178]
وقال : ( إنّ ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) [ النحل : 125 ] .

وجاءت أحاديث كثيرة تواتر معناها على أن رب العباد علم ما العباد عاملون
وقدّر ذلك وقضاه وفرغ منه ، وعلم ما سيصير إليه العباد من السعادة والشقاء
وأخبرت مع ذلك كله أن القدر لا يمنع من العمل
" اعملوا فكل ميسر لما خلق له " .

وسنورد هنا بعض النصوص الدالة على ذلك .

النصوص الدالة على تقدير الله أفعال العباد

1- الأحاديث الدالة على أن أعمال العباد جفَّت بها الأقلام وجرت بها المقادير :
روى مسلم في صحيحه عن جابر قال : جاء سراقة بن مالك بن جعشم قال :
يا رسول الله ، بيّن لنا ديننا كأنّا خلقنا الآن ، فيما العمل اليوم ؟
أفيما جَفَّت به الأقلام ، وجرت به المقادير ، أم فيما يستقبل ؟ قال :
" لا ، بل فيما جفَّت به الأقلام وجرت بها المقادير " .

قال : ففيم العمل ؟
فقال : " اعملوا فكلٌّ ميسر " وفي رواية : " كل عامل ميسَّر لعمله " (1) .



وروى الترمذي في سننه أن عمر بن الخطاب قال للرسول صلى الله عليه وسلم :
" يا رسول الله أرأيت ما نعمل فيه ، أمر مبتدع أو مبتدأ ، أو فيما فرغ منه ؟

فقال : فيما فرغ منه يا ابن الخطاب ، وكلٌّ ميسَّر
أمّا من كان من أهل السعادة فإنّه يعمل للسعادة
وأمّا من كان من أهل الشقاء فإنّه يعمل للشقاء ".

قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح (2) .

2- علم الله بأهل الجنة وأهل النار :

وروى البخاري عن عمران بن حصين قال : قال رجل :
يا رسول الله ، " أَيُعْرف أهل الجنة من أهل النار ؟

فقال : نعم .

قال : فلم يعملون ؟ قال : كلٌّ يعمل لما خلق له ، أو يسر له " .

وروى مسلم في صحيحه عن علي قال :
" كنا في جنازة في بقيع الغرقد (3) .
فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله
ومعه مِخْصَرةٌ (4) . فنكّس (5) .
فجعل ينكث بمخصرته (6) ، ثم قال :
" ما منكم من أحد ، ما من نفس منفوسة
إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة أو النار ، وإلا قد كتبت شقيّه أو سعيدة " .

قال : فقال رجل : يا رسول الله ، أفلا نمكث على كتابنا ، وندع العمل ؟
فقال : " من كان من أهل السعادة ، فسيصير إلى عمل أهل السعادة
ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة " .
فقال (7) :
" اعملوا فكل ميسر ، أمّا أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة
وأمّا أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة " .
ثم قرأ : ( فأما من أعطى واتقى - وصدق بالحسنى
- فسنيسره لليسرى - وأما من بخل واستغنى -
وكذب بالحسنى - فسنيسره للعسرى )
[ الليل : 5-10 ] " (8) .
 
استخراج ذرية آدم من ظهره بعد خلقه وقسمهم إلى فريقين :
أهل الجنة وأهل النار :




وأخبرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن الله مسح ظهر آدم بعد خلقه له
واستخرج ذريته من ظهره أمثال الذر ، واستخرج منهم أهل الجنة وأهل النار .
روى مالك والترمذي وأبو داود عن مسلم بن يسار قال :
سئل عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) عن هذه الآية :
( وإذ أخذ ربك من بني ءادم من ظهورهم ذريتهم
وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا
أن تقولوا يوم القيامة إنّا كنا عن هذا غافلين ) [ الأعراف : 172 ] .
قال عمر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل عنها فقال :
" إن الله خلق آدم ، ثم مسح ظهره بيمينه ، فاستخرج منه ذرية
فقال : خلقت هؤلاء للجنة ، وبعمل أهل الجنة يعملون
ثم مسح ظهره ، فاستخرج منه ذرية ، فقال : خلقت هؤلاء للنار
وبعمل أهل النار يعملون ".
فقال رجل : ففيم العمل يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة
حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة ، فيدخله الله الجنة .
وإذا خلق الله العبد للنار ، استعمله بعمل أهل النار
حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار ، فيدخله الله النار " (9) .

وروى الإمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح إلى ابن عباس قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان – يعني عرفه –
فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها
فنثرهم بين يديه كالذر ، ثم كلمهم قُبُلاً قال
( ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنّا كنا عن هذا غافلين
- أو تقولوا إنما أشرك ءاباؤنا ذرية من قبل
وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون )
[ الأعراف : 172 –173 ] (10) .
وروى أحمد في مسنده بإسناد صحيح عن أبي الدرداء
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" خلق الله آدم حين خلقه ، فضرب كتفه اليمنى ، فأخرج ذرية بيضاء كأنهم الذر
وضرب كتفه اليسرى
فأخرج ذرية سوداء كأنهم الحمم ، فقال للذي في يمينه :
إلى الجنة ولا أبالي ، وقال للذي في كَفِّه اليسرى : إلى النار ولا أبالي " (11) .
وبين الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر
" أنَّ الله - عز وجل – خلق خلقه في ظلمة ، فألقى عليهم من نوره
فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ، ومن أخطأه ضل "
فلذلك أقول جفَّ القلم على علم الله .
رواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو وقال فيه : هذا حديث حسن (12) .

4- كتابة الله لأهل الجنة وأهل النار :

وروى الترمذي في سننه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال :
" خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان: فقال :
أتدرون ما هذان الكتابان ؟ فقلنا : لا يا رسول الله ،
إلا أن تخبرنا . فقال للذي في يده اليمنى : هذا الكتاب من رب العالمين ،
فيه أسماء أهل الجنة ، وأسماء آبائهم وقبائلهم
ثمَّ أُجمل آخرهم ، فلا يزاد فيهم ، ولا ينقص منهم أبداً.
ثمَّ قال للذي في شماله : هذا كتاب من ربِّ العالمين ، فيه أسماء أهل النار
وأسماء آبائهم وقبائلهم ، ثمَّ أُجمل على أخرهم(13)
فلا يزاد فيهم ، ولا ينقص منهم أبداً . فقال أصحابه :
ففيم العمل يا رسول الله إن كان الأمر قد فرغ منه ؟
فقال : سدِّدوا وقاربوا(14)،
فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة ، وإن عمل أي عمل
وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه فنبذهما .
ثم قال : فرغ ربكم من العباد ، فريق في الجنة وفريق في السعير " .
قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب صحيح (15) .
 
التقدير في ليلة القدر والتقدير اليومي :



بينا من قبل أن الله قدَّر مقادير عباده قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة
ودلّ الكتاب والسنة على أن هناك تقديران تقدير حولي وتقدير يومي

فأما التقدير الحولي ففي ليلة القدر ، ففيها يكتب من أم الكتاب
ما يكون في السنة من موت وحياة ورزق ومطر
وما يقوم به العباد من أعمال ونحو ذلك ، قال تعالى :
( إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين - فيها يفرق كل أمر حكيم -
أمراً من عندنا إنا كنا مرسلين ) [ الدخان : 3-5 ] .

أما التقدير اليومي فهو سوق المقادير إلى المواقيت التي قدرت لها فيما سبق
قال تعالى : ( يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن
[ الرحمن : 29 ]


روى ابن جرير عن منيب بن عبد الله عن أبيه قال :
تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ، فقلنا :
يا رسول الله ، وما ذاك الشأن ؟ قال :
أن يغفر ذنباً ، ويفرج كرباً ، ويرفع قوماً ، ويضع آخرين .
وجملة أقوال المفسرين في الآية " أن الله من شأنه في كل يوم أن يحيي ويميت
ويخلق ويرزق ، ويعز قوماً ويذل قوماً ، ويشفي مريضاً ، ويفك عانياً
ويفرج مكروباً ، ويجيب داعياً ، ويعطي سائلاً ، ويغفر ذنباً
إلى مالا يحصى منأفعاله وإحداثه في خلقه " (16) .

6- كتابة ما قدر للإنسان وهو جنين في رحم أمه :
ورد في الأحاديث أن الله يرسل ملكاً للجنين في رحم أمه
فيكتب رزقه وأجله وشقاءَه وسعادته ، ففي صحيحي البخاري ومسلم
عن عبد الله ( هو ابن مسعود ) قال :
حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال :
" إن أحدكم يُجمع في بطن أمه أربعين يوماً ، ثم يكون علقة مثل ذلك
ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح
ويؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد .
فوالذي لا إله غيره ،
إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها
إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل النار ، فيدخلها
وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار ، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع
فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل الجنة ، فيدخلها " (17) .
وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" وكل الله بالرحم ملكاً ، فيقول : أي رب نطفة ، أي رب علقة
أي رب مضغة . فإذا أراد الله أن يقضي خلقها قال :
أي رب ذكر أم أنثى ، أشقي أم سعيد ؟ فما الرزق ؟
فما الأجل ، فيكتب كل ذلك في بطن أمه " (18) .
وروى الترمذي في سننه عن أنس قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" إذا أراد الله بعبد خيراً استعمله فقيل : كيف يستعمله يا رسول الله ؟
قال : يوفقه لعمل صالح قبل أن يموت " .
قال : الترمذي هذا حديث حسن صحيح (19) .
وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة
ثم يختم له عمله بعمل أهل النار
وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار
ثم يختم له بعمل أهل الجنة " (20) .
وعن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار
وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة " (21) .
ومما يحسن أن يساق في هذا الباب لما فيه من العبرة
قصة الذي أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه من أهل النار
ففي صحيح البخاري عن أبي حازم عن سهل بن سعد
أن رجلاً من أعظم المسلمين غناءً في غزوة غزاها مع النبي صلى الله عليه وسلم
فنظر النبي صلى الله عليه وسلم فقال :
من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار ، فلينظر إلى هذا .
فاتبعه رجل من القوم وهو على تلك الحال من أشدِّ الناس على المشركين
حتى جُرح فاستعجل الموت ، فجعل ذبابة سيفه بين ثدييه
حتى خرج من بين كتفيه. فأقبل الرجل إلى الرسول مسرعاً :
فقال : أشهد أنك رسول الله . فقال : وما ذاك ؟
قال : قلت لفلان من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إليه
وكان من أعظمنا غناء عن المسلمين
فعرفت أنه لا يموت على ذلك ، فلما جرح استعجل الموت فقتل نفسه .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك :
" إن العبد ليعمل عمل أهل النار ، وإنه من أهل الجنة .
ويعمل عمل أهل الجنة ، وإنه من أهل النار
وإنما الأعمال بالخواتيم " (22) .

--------------------------------
(1)صحيح مسلم : 4/2040ورقم الحديث 2648 .
(2) رواه الترمذي : 4/445ورقم الحديث :2135 .
(3) بقيع الغرقد : مقبرة أهل المدينة .
(4) المخصرة : عصا صغيرة .
(5) نكس رأسه : خفضه .
(6) أي يخط بمخصرته في التراب .
(7) هكذا في الحديث كرر " فقال " .
(8) رواه مسلم : 4/2039 ورقم الحديث :
2647 والحديث رواه البخاري في غير موضع في صحيحه ورواه الترمذي وأبو داود .
واللفظ الذي سقناه هنا لمسلم .
(9) مشكاة المصابيح : 1 4 ورقم الحديث :
95 وقال محقق المشكاة الشيخ ناصر الدين الألباني فيه :
رجال إسناده ثقات رجال الشيخين
غير أنه منقطع بين مسلم بين يسار وعمر ، لكن له شواهد كثيرة .
(10) مشكاة المصابيح : 1/43 .
(11) مشكاة المصابيح : 1/42 .
(12) سنن الترمذي 5/26 ورقم الحديث (2642) .
(13) أجمل على أخرهم ، أي : جمعوا أهل الجنة وأهل النار عن أخرهم
وعُقدت جملتهم ، فلا يتطرق إليها زيادة ولا نقصان .
(14) السداد : الصواب في القول والعمل . والمقاربة : القصد فيهما .
(15) سنن الترمذي : 4/450 ورقم الحديث 2141
وهو في صحيح سنن الترمذي للشيخ ناصر : 2/225 .
(16) ذكره صاحب معارج القبول :1 46 عن البغوي المفسر .
(17) رواه البخاري ، انظر فتح الباري :11/477 ورواه مسلم :
4/2036. ورقم الحديث : 2634.
والسياق لمسلم .ورواه أبو داود والترمذي أيضاً .
(18) رواه البخاري ، فتح الباري : 11/477.
ورواه مسلم : 4/2038. ورقمه 2646. والسياق للبخاري .
(19) سنن الترمذي : 4/450 . ورقمه : 2142 .
(20) رواه مسلم : 4/2042 ورقم الحديث : 2651 .
(21) رواه مسلم : 4/2042 .
(22) فتح الباري : 11/499 ورقم الحديث : 6607
 
حدود نظر العقل في القدر

يقول أبو المُظَفَّر السمْعَاني فيما حكاه عنه ابن حجر العسقلاني :

" سبيل المعرفة في هذا الباب التوقيف من الكتاب والسنة دون محض القياس والعقل

فمن عدل عن التوقيف فيه ضلَّ وتاه في بحار الحيرة ، ولم يبلغ شفاء العين

ولا ما يطمئن به القلب ، لأن القدر سِرٌّ من أسرار الله تعالى

اختص العليم الخبير به ، وضرب دونه الأستار
وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم لما علمه من الحكمة

فلم يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب " (1) .



ويقول الطحاوي رحمه الله تعالى :
" وأصل القدر سرّ الله تعالى في خلقه ، لم يطلع على ذلك ملك مقرب

ولا نبي مرسل ، والتعمق في ذلك ذريعة الخذلان

، وسلم الحرمان ، ودرجة الطغيان

فالحذر الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة ، فإن الله طوى علم القدر عن أنامه

ونهاهم عن مرامه ، كما قال تعالى :
( لا يُسْأل عما يفعل وهم يسألون ) [ الأنبياء : 23 ] " (2) .



وقال الآجُرِّيُّ :
" لا يحسن بالمسلمين التنقير والبحث في القدر

لأن القدر سر من أسرار الله عز وجل

بل الإيمان بما جرت به المقادير من خير أو شر واجب على العباد أن يؤمنوا به

ثم لا يأمن العبد أن يبحث عن القدر فيكذب بمقادير الله الجارية على العباد

فيضل عن طريق الحق " (3) .



وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى :
" من السنة اللازمة : الإيمان بالقدر خيره وشره

والتصديق بالأحاديث فيه ، والإيمان بها ، لا يقال : لِمَ ؟
ولا كيف ؟ إنما هو التصديق بها والإيمان بها .

ومن لم يعرف تفسير الحديث ، ولم يبلغه عقله ، فقد كفى ذلك

وأحكم له ، فعليه الإيمان به ، والتسليم له ،
مثل حديث الصادق المصدوق ، وما كان مثله في القدر " (4) .



وقال علي بن المديني مثل قول الإمام أحمد في القدر (5) .



وهذا الذي قرره أهل العلم في القدر يضع لنا عدَّة قواعد في غاية الأهمية :


الأولى : وجوب الإيمان بالقدر .

الثانية : الاعتماد في معرفة القدر وحدوده وأبعاده على الكتاب والسنة

وترك الاعتماد في ذلك على نظر العقول ومحض القياس

. فالعقل الإنساني لا يستطيع بنفسه أن يضع المعالم والركائز

التي تنقذه في هذا الباب من الانحراف والضلال

والذين خاضوا في هذه المسألة بعقولهم ضلوا وتاهوا فمنهم من كذَّب بالقدر

ومنهم من ظن أن الإيمان بالقدر يُلزم القول بالجبر

ومنهم من ناقض الشرع بالقدر
وكل انحراف من هذه الانحرافات سبب مشكلات
في واقع البشر وحياتهم ومجتمعاتهم

فالانحراف العقائدي يسبب انحرافاً في السلوك وواقع الحياة .



الثالثة : ترك التعمق في البحث في القدر

فبعض جوانبه لا يمكن للعقل الإنساني مهما كان نبوغه أن يستوعبها

وبعضها الآخر لا يستوعبها إلا بصعوبة كبيرة .

قد يقال : أليس في هذا المنهج حجر عل العقل الإنساني ؟
والجواب أن هذا ليس بحجر على الفكر الإنساني

بل هو صيانة لهذا العقل من أن تتبدد قواه في غير المجال الذي تحسن التفكير فيه

إنه صيانة للعقل الإنساني من العمل في غير المجال الذي يحسنه ويبدع فيه .

إن الإسلام وضع بين يدي الإنسان معالم الإيمان بالقدر

فالإيمان بالقدر يقوم على أن الله علم كلَّ ما هو كائن وكتبه وشاءَه وخلقه

واستيعاب العقل الإنساني لهذه الحقائق سهل ميسور

ليس فيه صعوبة ، ولا غموض وتعقيد .

أما البحث في سر القدر والغوص في أعماقه فإنه يبدد الطاقة العقلية ويهدرها

إنّ البحث في كيفية العلم والكتابة والمشيئة والخلق

بحث في كيفية صفات الله ، وكيف تعمل هذه الصفات
وهذا أمر محجوب علمه عن البشر ، وهو غيب يجب الإيمان به

ولا يجوز السؤال عن كنهه

والباحث فيه كالباحث عن كيفية استواء الله على عرشه
يقال له : هذه الصفات التي يقوم عليها القدر معناها معلوم

وكيفيتها مجهولة ، والإيمان بها واجب ، والسؤال عن كيفيتها بدعة .

إن السؤال عن الكيفية هو الذي أتعب الباحثين في القدر

وجعل البحث فيه من أعقد الأمور وأصعبها ، وأظهر أن الإيمان به صعب المنال

وهو سبب الحيرة التي وقع فيها كثير من الباحثين .

ولذا فقد نصَّ جمع من أهل العلم على المساحة المحذورة

التي لا يجوز دخولها في باب القدر

وقد سقنا قريباً مقالة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى التي يقول فيها :
" من السَّنة اللازمة الإيمان بالقدر خيره وشره والتصديق بالأحاديث فيه

والإيمان بها ، لا يقال : لِمَ ؟ ولا كيف ؟ " (6) .

لقد خاض الباحثون في القدر في كيفية خلق الله لأفعال العباد

مع كون هذه الأفعال صادرة عن الإنسان حقيقة ،
وبحثوا عن كيفية علم الله بما العباد عاملون

وكيف يكلف عباده بالعمل مع أنه يعلم ما سيعملون

ويعلم مصيرهم إلى الجنة أو النار .

وضرب الباحثون في هذا كتاب الله بعضه ببعض

وتاهوا وحاروا ولم يصلوا إلى شاطئ السلامة

وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم أمته من أن تسلك هذا المسار

وتضرب في هذه البيداء

ففي سنن الترمذي بإسناد حسن عن أبي هريرة قال :

" خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم

ونحن نتنازع في القدر ، فغضب حتى احمرَّ وجهه

حتى كأنما فقئ في وجنتيه الرمان ، فقال :

أبهذا أمرتم ، أم بهذا أرسلت إليكم ؟
إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر

عزمت عليكم ألا تنازعوا فيه " (7) .
 
مدى إدراك العقل للعلل والأوامر والأفعال
وما فيها من حسن وقبح :



ذهب جمهور أهل العلم من السلف والخلف
إلى أن لأوامر الله ومخلوقاته عللاً وحِكماً

فإنه لا يأمر إلا لحكمة ، ولا يخلق إلا لحكمة .

وبعض هذه الحِكم تعود إلى العباد ، وبعضها يعود إلى الله تعالى

فما يعود إلى العباد هو ما فيه خيرهم وصلاحهم في العاجل والآجل

وما يعود إلى الله تعالى هو محبته أن يُعبد ويطاع ويتاب إليه ويُرجى

ويُخاف منه ويتوكل عليه ويُجاهد في سبيله
قال تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) [ الذاريات : 56 ]

وقال : ( أيحسب الإنسان أن يترك سدى ) [ القيامة : 36 ]

وقال : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) [ الأنبياء : 107 ]

وقال : ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون ) [ المؤمنون : 115 ] .

والنصوص الدالة على أن لله حِكماً في خلقه وأمره كثيرة وافرة

يصعب حصرها

والعقول البشرية تستطيع أن تدرك شيئاً من هذه الحكم .

وذهب جمهور أهل العلم أيضاً إلى أن العقل

يستطيع أن يدرك ما في الأفعال من حسن وقبح

فالعقول تدرك أن الظلم والكذب والسرقة وقتل النفوس قبيح

وأن العدل والصدق وإصلاح ذات البين وإنقاذ الغرقى حسن وجميل .




والحكم الحاصلة من الشرائع ثلاثة أنواع :



الأول :

أن يكون الفعل مشتملاً على مصلحة أو مفسدة

ولو لم يَرِدْ الشرع بذلك ، كما يعلم أن العدل مشتمل على مصلحة العالم

والظلم يشتمل على فسادهم ، فهذا النوع حسن وقبيح

وقد يعلم بالعقل والشرع حسن ذلك وقبحه

لكن لا يلزم في العقول أن الإنسان معاقب على فعل القبيح

من هذا النوع في الآخرة إن لم يرد الشرع بذلك

ومن ادعى أن الله يمكن أن يعاقب العباد على أفعالهم القبيحة من الشرك والكفر

ونحو ذلك من غير إرسال رسول فقد أخطأ .

الثاني :
إذا أمر الشارع بشيء صار حسناً ، وإذا نهى عن شيء صار قبيحاً

واكتسب الفعل صفة الحسن والقبح بخطاب الشرع .

الثالث :

أن يأمر الشارع بشيء امتحاناً واختباراً كما أمر الله إبراهيم بأن يذبح ولده إسماعيل .
فالشارع ليس له قصد في ذبح الابن ، ولكنه الابتلاء والاختبار .



والمعتزلة أقرت بالنوع الأول دون الثاني والثالث .
والأشعرية ذهبت إلى أن جميع الأوامر والنواهي الشرعية هي من قسم الامتحان

والأفعال ليست لها صفة لا قبل الشرع ولا بالشرع

وأما الحكماء وجمهور أهل العلم فأثبتوا الأقسام الثلاثة (8) .



وهذا الذي عليه جمهور أهل السنة من أفعال الله معللة

وأن العقل بإمكانه أن يدرك ما في الأفعال من حسن وقبح

يفتح الباب أما العقول الإنسانية لتبحث في الحِكَم الباهرة

التي خلق الله من أجلها المخلوقات

وشرع من أجلها ما شرعه من أحكام ، وهو باب كبير

يحصل العباد منه على علم عظيم ، يثبت الإيمان ، ويزيد اليقين

ويُعِّرف العباد بإبداع الخالق العظيم

( الذي أحسن كل شيء خلقه ) [ السجدة : 7 ]

وكيف لا يكون الأمر كذلك وقد وعد الحق تبارك وتعالى
أن يُرِى عباده من آياته العظيمة ما يظهر صدق ما جاء ب
ه الرسول وأنزله في الكتاب

( سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبن لهم أنه الحق )
[ فصلت :53] .

وقد جاءت النصوص آمرة بالتدبر والتأمل والنظر في آياته المنزلة

وآياته المخلوقة المبدعة ( أفلا يتدبرون القرآن )[ محمد : 24]



( قل انظروا ماذا في السماوات والأرض ) [ يونس :101 ]


( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلقت ) [ الغاشية : 17 ]


( فلينظر الإنسان إلى طعامه - أنا صببنا الماء صباً - ثم شققنا الأرض شقاً )
[ عبس : 24 – 26 ] .

--------------------------------
(1) فتح الباري : 11/ 477 . وراجع شرح النووي على مسلم : 16 / 196 .
(2) شرح الطحاوية : ص276 .
(3) الشريعة للآجري : ص 149 .
(4) شرح أصول اعتقاد أهل السنة : ص157 .
(5) المرجع السابق :165 .
(6) شرح اعتقاد أهل السنة للالكائي : 1/157 .
(7) صحيح سنن الترمذي : 2/223 .
(8) راجع في تعليل أفعال الله ومسألة التحسين والتقبيح العقلي : مجموع فتاوى شيخ الإسلام : 8/ 122 ، 308 ، 428 .
 
وقد صاح الصحابة بأصحاب هذه الضلالة من كل ناحية

وأنكروا عليهم ما جاؤوا به من الضلال والباطل

ونهوا الناس عن مخالطة هؤلاء ومجالستهم

وأوردوا عليهم النصوص الفاضحة لباطلهم ، المقررة للحق في باب القدر .

ففي سنن الترمذي عن نافع أنَّ ابن عمر جاءَه رجل فقال :
إنَّ فلاناً يَقرأ عليك السلام ، فقال له : بلغني أنّه قد أحدث
فإن كان قد أحدث فلا تقرئه مني السلام

فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :

" يكون في هذه الأمة أو في أمتي خسف أو مسخ

أو قذف في أهل القدر " .

قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب .

وفي الترمذي عن ابن عمر أيضاً يرفعه :
" يكون في أمتي خسف ومسخ وذلك في المكذبين في القدر "

(8) .

وفي سنن الترمذي أيضاً عن عبد الواحد بن سليم قال :

قدمت مكة فلقيت عطاء بن أبي رباح فقلت له: يا أبا محمد

، إن أهل البصرة يقولون : لا قدر . قال يا بني ، أتقرأ القرآن ؟

قلت : نعم .

قال : فاقرأ الزخرف .

قال : فقرأت :
( حم - والكتاب المبين - إنا جعلناه قرأناً عربياً لعلكم تعقلون -

وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم )
[ الزخرف : 1-4 ] .

قال : أتدري ما أم الكتاب ؟

قلت : الله ورسوله أعلم .

قال : فإنه كتاب كتبه قبل أن يخلق السماوات والأرض

فيه أن فرعون من أهل النار
وفيه ( تبت يدا أبي لهب وتب ) [ المسد : 1 ] .

قال عطاء : فلقيت الوليد بن عبادة بن الصامت صاحب رسول الله

صلى الله عليه وسلم فسألته ما كانت وصية أبيك عند الموت ؟

قال : دعاني أبي فقال لي : يا بني ، اتق الله

واعلم أنك لن تتقي الله حتى تؤمن بالله ، وتؤمن بالقدر كله خيره وشره

فإن مت على غير هذا أدخلت النار
إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :

" إن أول ما خلق الله القلم قال : اكتب .فقال : ما أكتب ؟
قال : اكتب ما كان ، وما هو كائن إلى الأبد " .

قال الترمذي : هذا حديث غريب من هذا الوجه (9) .

وقد نص الأئمة على كفر هذه الطائفة التي لم تقر بعلم الله

وممن نص على كفرهم الأئمة مالك والشافعي وأحمد (10) .

وقد تلاشت هذه الطائفة التي تكذب بعلم الله السابق أو كادت

يقول السفاريني : " قال العلماء :
المنكرون لهذا انقرضوا

وهم الذين كفرهم عليه
الإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد وغيرهم من الأئمة " (11) .

" وقال القرطبي :
قد انقرض هذا المذهب ، فلا نعرف أحداً ينسب إليه من المتأخرين

وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني :
القدرية اليوم مطبقون على أن الله عالم بأفعال العباد قبل وقوعها ،

وإنما خالفوا السلف في زعمهم بأن أفعال العباد مقدورة لهم

وواقعة منهم على وجه الاستقلال

وهو مع كونه مذهباً باطلاً أخف من المذهب الأول .
قال : والمتأخرون منهم أنكروا تعلق الإرادة بأفعال العباد
فراراً من تعلق القديم بالمحدث " (12) .

وقال النووي :

" قال أصحاب المقالات من المتكلمين :
انقرضت القدرية القائلون بهذا القول الشنيع الباطل

ولم يبق أحد من أهل القبلة عليه

وصارت القدرية في الأزمان المتأخرة تعتقد إثب
ات القدر ولكن يقولون : الخير من الله

والشر من غيره تعالى الله عن قولهم " (13) .



" والقدرية يعترفون بأن الله خلق الإنسان مريداً

لكن يجعلونه مريداً بالقوة والقبول

أي قابلاً لأن يريد هذا ويريد هذا ، وأمّا كونه مريداً لهذا المُعَيَّنِ

وهذا المُعَيَّنِ ، فهذا عندهم ليس مخلوقاً " (14) .

" فهؤلاء في الحقيقة مجوس ثَنَوِيَّة ، بل أعظم منهم

فإن الثَنويّةَ أثبتوا خالِقَين للكون كله

وهؤلاء أثبتوا خالقين لكل فرد من الأفراد ،
ولكل فعل من الأفعال ، بل جعلوا المخلوقين كلهم خالقين

ولولا تناقضهم لكانوا أكفر من المجوس .

وطرد قولهم ولازمه وحاصلة هو إخراج أفعال العباد

عن خلق الله – عز وجل – وملكه

وأنها ليست داخلة في ربوبيته عز وجل ، وأنه يكون في ملكه ما لا يريد
ويريد مالا يكون ، وأنهم أغنياء عن الله عز وجل

فلا يستعينون على طاعته ولا ترك معصيته

ولا يعوذون بالله من شرور أنفسهم ولا سيئات أعمالهم

ولا يستهدونه الصراط المستقيم " (15) .



والقدرية بزعمهم أرادوا تنزيه الله وتقديسه

عندما زعموا أن الله شاء الإيمان من الكافر
ولكنَّ الكافر هو الذي شاء الكفر ، وحجتهم في ذلك أن هذا يؤدي إلى الظلم

إذ كيف يشاء الله الكفر من الكافر ثم يعذبه عليه .

ولكنهم – كما يقول شارح الطحاوية –

" صاروا كالمستجير من الرمضاء بالنار

فإنهم هربوا من شيء فوقعوا فيما هو شرٌّ منه
فإنه يلزم أن مشيئة الكافر غلبت مشيئة الله تعالى

فإن الله قد شاء الإيمان منه – على قولهم – والكافر شاء الكفر

فوقعت مشيئة الكافر دون مشيئة الله تعالى ، وهذا من أقبح الاعتقاد

وهو قول لا دليل عليه ، بل هو مخالف للدليل " (16) .



ومشيئة الله الكفر من الكافر ليس ظلماً له كما يدعي أهل الظلم من القدرية

فلله الحجة البالغة ، وله في عباده من الحِكَمِ مالا يعلمه إلا هو تبارك وتعالى .

ففي صحيح مسلم عن أبي الأسود الدِّيلي

قال : قال لي عمران بن الحصين :
" أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه

أشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قدر ما سبق ؟
أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم ، وثبتت الحجّة عليهم ؟

فقلت : بل شيء قضي عليهم ، ومضى عليهم .

قال : فقال : أفلا يكون ظلماً ؟

قال : ففزعت فزعاً شديداً .
وقلت : كل شيء خَلْق الله ومِلْك يده فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون .

فقال لي : يرحمك الله ، إني لم أرد بما سألتك إلا لأحرز عقلك .

إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا :

يا رسول الله ، أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه

أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قد
ر قد سبق أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم ، وثبتت الحجة عليهم ؟

فقال :
" لا ، بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم ، وتصديق ذلك في كتاب الله

( ونفس وما سواها - فألهمها فجورها وتقواها )
[ الشمس : 7-8 ] (17) .
 
وفي سنن أبي داود عن ابن الديلمي قال : أتيت أُب
ي بن كعب فقلت له : وقع في نفسي شيء من القدر

فحدثني بشيء لعل الله أن يذهبه من قلبي ، قال :
لو أن الله عذَّب أهل سمواته وأهل أرضه عذبهم وهو غير ظالم لهم

ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم

ولو أنفقت مثل أحد ذهباً في سبيل الله ، ما تقبله الله منك حتى تؤمن بالقدر

وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك

وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، ولو مت على غير هذا لدخلت النار .



قال : ثم أتيت عبد الله بن مسعود ، فقال مثل ذلك
ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك ، ثم أتيت زيد بن ثابت فقال مثل ذلك (18) .





والقدرية بمسلكهم هذا جعلوا لأهل الضلال سبيلاً عليهم

فقد ذكر عمر بن الهيثم قال : خرجنا في سفينة

وصحبنا فيها قدري ومجوسي ، فقال القدري للمجوسي : أسلم .

فقال المجوسي : حتى يريد الله .

فقال القدري : إن الله يريد ، ولكن الشيطان لا يريد .

قال المجوسي : أراد الله وأراد الشيطان ، فكان ما أراد الشيطان

هذا شيطان قوي . وفي رواية أنه قال : فأنا مع أقواهما (19) .



محاورة أهل السنة للقدرية


ولم يستطيع منطق المعتزلة أن يقف في مجال الحجاج

مع عوام أهل السنة فضلاً عن علمائهم وأهل الرأي فيهم .

يذكر أهل العلم أن أعرابياً أتى عمرو بن عبيد

فقال له : إن ناقتي سُرقت ، فادع الله أن يردها عليَّ .

قال عمرو بن عبيد : اللهم إن ناقة هذا الفقير سُرقت

ولم تُرِدْ سرقتها ، اللهمّ ارددها عليه .

فقال الأعرابي : الآن ذهبت ناقتي ، وأيست منها .

قال : كيف ؟

قال : لأنه إذا أراد أن لا تُسرق فسرِقت

لم آمن أن يريد رجوعها فلا ترجع ، ونهض من عنده منصرفاً (20) .



إجابة أبو عصام القسطلاني لقدري


وقال رجل لأبي عصام القسطلاني : أرأيت إن منعني الهدى
، وأوردني الضلال ثم عذبني أيكون منصفاً ؟

فقال له أبو عصام : إن يكن الهدى شيئاً هو له

فله أن يعطيه من يشاء ويمنعه من يشاء (21) .



محاورة عبد الجبار الهمداني وأبي إسحاق الإسفراييني


ودخل عبد الجبار الهمداني أحد شيوخ المعتزلة – على الصاحب ابن عباد

وعنده أبو إسحاق الإسفراييني أحد أئمة السنة ، فلما رأى الأستاذ قال :

سبحان من تنزه عن الفحشاء .

فقال الأستاذ فوراً : سبحان من لا يقع في ملكه إلا من يشاء .

فقال القاضي : أيشاء ربنا أن يُعْصَى ؟

فقال الأستاذ : أيُعْصَى ربنا قهراً ؟

فقال القاضي : أرأيت إن منعني الهدى ، وقضى عَليَّ بالردى
أحسن إليّ أم أساء ؟

فقال الأستاذ : إن منعك ما هو لك فقد أساء

وإن منعك ما هو له فهو يختص برحمته من يشاء . فبهت القاضي .

وفي تاريخ الطبري أن غيلان قال لميمون بن مهران

بحضرة هشام بن عبدالملك الذي أتى به ليناقشه :

أشاء الله أن يُعصى ؟

فقال له ميمون : أفَعُصيَ كارهاً ؟ " (22) .



بيْنَ عمر بن عبد العزيز وغَيْلان الدمشقي


وحاور عمر بن عبد العزيز غيلان الدمشقي أحد رؤوس الاعتزال

فقال له عمر : يا غيلان بلغني أنك تتكلم في القدر .

فقال : يَكْذِبون عليَّ يا أمير المؤمنين .

قال : اقرأ عليَّ سورة " يس " .

قال : فقرأ عليه :
( يس - والقرآن الحكيم - إنك لمن المرسلين - على صراط مستقيم

- تنزيل العزيز الرحيم - لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم فهم غافلون

- لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون

- إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقمحون

- وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً
فأغشيناهم فهم لا يبصرون ) [ يس : 1-9 ] .

قال غيلان : لا والله لكأني يا أمير المؤمنين لم أقرأها قط إلا اليوم .
أشهد يا أمير المؤمنين أني تائب من قولي بالقدر .

فقال عمر : اللهم إن كان صادقاً فتب عليه

وإن كان كاذباً فاجعله آية للمؤمنين (23) .



قال معاذ بن معاذ : حدثني صاحب لي قال :

" مرَّ التيمي بمنزل ابن عون فحدثه بهذا الحديث

قال ابن عون : أنا رأيته مصلوباً بدمشق " (24) .



وقال أبو جعفر الخطمي :

" شهدت عمر بن عبد العزيز وقد دعا غيلان لشيء بلغه في القدر فقال له :
ويحك يا غيلان ما هذا الذي بلغني عنك ؟

قال : يُكْذَبُ عليَّ يا أمير المؤمنين ، يقال عليَّ ما لا أقول .

قال : ما تقول في العلم ؟

قال : نفذ العلم .

قال : أنت مخصوم ، اذهب الآن فقل ما شئت .

يا غيلان ، إنك إن أقررت بالعلم خصمت ، وإن جحدته كفرت

وإنك إن تقر به فتخصم ، خير لك من أن تجحد فتكفر .

ثم قال له : أتقرأ ( يس ) ؟

فقال نعم .

قال : اقرأ .

قال : فقرأ ( يس - والقرآن الحكيم ... )

إلى قوله : ( لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون )

[ يس : 1-7 ] .

قال : قف كيف ترى ؟

قال : كأني لم أقرأ هذه الآية يا أمير المؤمنين .

قال : زد .

فقرأ : ( إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقمحون

- وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً )
[ يس : 8-9 ] .

فقال له عمر : قل

( سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون - وسواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون )
[ يس :9-10 ] .

قال : كيف ترى ؟ .

قال : كأني لم أقرأ هذه الآيات قط

وإني أعاهد الله أن لا أتكلم في شيء مما كنت أتكلم فيه أبداً .

قال : اذهب . فلما ولىَّ قال :
اللهم إن كان كاذباً بما قال فأذقه حر السلاح .

قال : فلم يتكلم زمن عمر

فلما كان يزيد بن عبد الملك كان رجلاً لا يهتم بهذا ولا ينظر فيه .

قال : فتكلم غيلان .

فلما ولي هشام أرسل إليه فقال له :
أليس قد كنت عاهدت الله لعمر لا تتكلم في شيء من هذا أبداً ؟

قال : أقلني ، فوالله لا أعود .

قال : لا أقالني الله إن أقلتك ، هل تقرأ فاتحة الكتاب ؟

قال : نعم .

قال : اقرأ ( الحمد لله رب العالمين ) .

فقرأ : ( الحمد لله رب العالمين - الرحمن الرحيم

- مالك يوم الدين - إياك نعبد وإياك نستعين )

[ الفاتحة : 2-5 ] .

قال : قف . على ما استعنته ؟ على أمر بيده لا تستطيعه

أو على أمر في يدك أو بيدك ؟

اذهبا فاقطعا يديه ورجليه واضربا عنقه واصلباه

(25) (26) .

والقدرية النفاة حُرموا الاستعانة بالله الواحد الأحد

لأنهم زعموا أن الله لا يقدر على أفعال العباد ، وأن العبد هو الخا
لق لفعله فكيف يستعينون بالله على مالا يقدر عليه .

وهؤلاء يعتمدون فيما يفعلون على حولهم وقوتهم وعملهم

وهم يطلبون الجزاء والأجر من الله كما يطلب الأجير أجره من مستأجره

والله ليس محتاجاً إلى العباد وأعمالهم ، بل نفع ذلك عائد إلى العباد أنفسهم

ومع كون العباد هم المحتاجين إلى الأعمال ، فلا غنى لهم عن الاستعانة بالله

( إياك نعبد وإياك نستعين ) [ الفاتحة : 5 ] .

( فاعبده وتوكل عليه ) [ هود : 123 ] .
 
شبهات وأجوبتها


1- معنى المحو والإثبات في الصحف
وزيادة الأجل ونقصانه :


قد يشكل على بعض الناس مواضع في كتاب الله
وأحاديث رسول الله صلى الله وسلم
فيقول بعضهم : إذا كان الله علم ما هو كائن
وكتب ذلك كله عنده في كتاب فما معنى قوله :
( يمحو الله ما يشاء ويثبت ) [ الرعد : 39 ] .

وإذا كانت الأرزاق والأعمال والآجال مكتوبة
لا تزيد ولا تنقص
فما توجيهكم لقوله صلى الله عليه وسلم :
" من سرَّه أن يُبسط له في رزقه
ويُنسأ له في أثره فليصل رحمه " .

وكيف تفسرون قول نوح لقومه :
( أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون
- يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى )
[ نوح : 3-4 ] .

وما قولكم في الحديث الذي فيه أن الله جعل
عمر داود عليه السلام مائة سنة بعد أن كان أربعين سنة .

والجواب أن الأرزاق والأعمار نوعان :

نوع جرى به القدر وكتب في أم الكتاب
فهذا لا يتغير ولا يتبدل
ونوع أعلم الله به ملائكته فهذا هو الذي يزيد وينقص
ولذلك قال الله تعالى :
( يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب )
[ الرعد : 39] .
وأم الكتاب هو اللوح المحفوظ
الذي قدر الله فيه الأمور على ما هي عليه .

ففي كتب الملائكة يزيد العمر وينقص
وكذلك الرزق بحسب الأسباب
فإن الملائكة يكتبون له رزقاً وأجلاً
فإذا وصل رحمه زيد له في الرزق والأجل
وإلا فإنه ينقص له منهما (1) .

" والأجل أجلان :
أجل مطلق يعلمه الله ، وأجل مقيد
فإن الله يأمر الملك أن يكتب لعبده أجلاً
فإن وصل رحمه ، فيأمره بأن يزيد في أجله ورزقه
والملك لا يعلم أيزاد له في ذلك أم لا
لكن الله يعلم ما يستقر عليه الأمر
فإذا جاء الأجل لم يتقدم ولم يتأخر " (2) .

يقول ابن حجر العسقلاني :
" الذي سبق في علم الله لا يتغير ولا يتبدل
والذي يجوز عليه التغيير والتبديل
ما يبدو للناس من عمل العامل
ولا يبعد أن يتعلق ذلك بما في علم الحفظة والموكلين بالآدمي
فيقع فيه المحو والإثبات ، كالزيادة في العمر والنقص
وأما ما في علم الله فلا محو فيه ولا إثبات والعلم عند الله " (3) .


2- التوفيق بين الأقدار وبين
" كل مولود يولد على الفطرة " :


وقد يقول بعض الناس كيف يكون الله قدر كل شيء
مع أنه صح عن رسولنا أن كل مولود يولد على الفطرة ؟

فالجواب أنه لا تناقض ولا تعارض بين النصوص المبينة
أن كل شيء بقدر
والنصوص المخبرة بأن مولود يولد على الفطرة .

فالله فطر عباده على السلامة من الاعتقادات الباطلة
كما فطرهم على قبول العقائد الصحيحة
ثم إذا ولدوا أحاطت بهم شياطين الإنس والجن
فأفسدت فطرهم وغيَّرتها ،
وثبَّت الله من شاء الله هدايته على الحق .

والله يعلم من يثبت على الفطرة السويّة السليمة
ومن تتغير فطرته ، علم ذلك في الأزل وكتبه
فلا منافاة بين هذه النصوص ولا تعارض بينهما
ففي الحديث الذي يرويه مسلم في صحيحه
عن عياض بن حمار قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن الله :
" إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين
وحرَّمت عليهم ما أحللت لهم
وأمرتهم أن يشركوا بي مالم أنزل به سلطاناً " .

والله يعلم من الذي تجتالهُ الشياطين وتغرر به
ويعلم من يثبت على الحق ، ويهدى للصواب .

وإذا عرفت هذا الذي بيناه علمت كيف تُوَجِّه قوله
صلى لله عليه وسلم :
" خلق الله يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمناً
وخلق فرعون في بطن أمه كافراً " .
رواه ابن عدي في الكامل ، والطبراني في الأوسط (4) .

3- إذا كانت الأمور مقدرة فما معنى قوله :
( وما أصابك من سيئة فمن نفسك ) :

وقد يحتج بعض الناس للقدرية النفاة بقوله تعالى :
( ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك )
[ النساء : 79 ]
ويظنون أن المراد بالحسنات والسيئات
في هذه الآية الطاعات والمعاصي .

وهؤلاء أخطؤوا الفهم ، فالمراد بالحسنات هنا النعم
والمراد بالسيئات المصائب
يدلنا على صحة هذا الفهم سياق النص
قال تعالى
: ( أينما تكنوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة
وإن تصبهم حسنة
يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة
يقولوا هذه من عندك قل كلٌ من عند الله
فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً
- ما أصابك من حسنة فمن الله
وما أصابك من سيئة فمن نفسك )
[ النساء : 78 –79 ] .

فالله يحكي عن المنافقين أنهم كانوا إذا أصابتهم حسنة
مثل الرزق والنصر والعافية ، قالوا : هذه من الله
وإذا أصابتهم سيئة – مثل ضَرْبٍ ومرض وخوف من عدو
– قالوا : هذه من عندك يا محمد .
أنت الذي جئت بهذا الدين الذي عادانا الناس لأجله
وابتلينا لأجله بهذه المصائب .

فالحسنات هنا النعم ، والسيئات المصائب
وهذه كقوله تعالى :
( إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها
وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً )
[ آل عمران : 120 ]
وقوله :
( وبلونهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون )
[ الأعراف : 186 ] .

ثم قرر الحق أن المصائب والنعم لا تخرج عن قدر الله ومشيئته
( قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً )
[ النساء : 78 ] .

ثم بين الحق تبارك وتعالى أن السيئات التي هي المصائب
ليس لها سبب إذا أذنب العبد إلا من نفسه
وأما ما يصيب العبد من الخير فلا تنحصر أسبابه
لأنه من فضل الله
يحصل بعمل العبد وبغير عمله من إنعام الله عليه
فالواجب على العباد أن يشكروا ربهم
ويحمدوه على ما أنعم به عليهم ،
كما يجب أن يكثروا من التوبة والأوبة والاستغفار
مما اقترفوه من ذنوب سببت لهم المصائب والبلايا .

وإذا أنت تأملت في قوله :
( ما أصابك من حسنة ... )
( وما أصابك من سيئة )
علمت أن الحسنة والسيئة هي فعل الله بالعباد
التي هي المصائب والنعم ، أما قوله
( فمن نفسك ) أي بسبب ذنوب العبد وخطاياه
وهذا وإن كان مقدراً إلا أن الله قدر تكون المصيبة بسبب الذنب .

أما الحسنات والسيئات التي هي أفعال العباد فلا يقال فيها :
( ما أصابك ) وإنما يقول :
( من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة
فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون )
[ القصص : 84 ]
وإنما قال هنا : ( جاء ) لأن الحسنة فعل الجائي
ولذلك صرح بهذا في جانب الذنوب والمعاصي :
( فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون )
[القصص:84 ] (5) .

4- كيف يخلق الله الشر ويقدره ؟

وقد يشاغب بعض القدرية فيقولون : إنَّ الله مقدس عن فعل الشر
وإن الواجب على العباد أن ينزهوا ربهم عن الشر وفعله
وهؤلاء خلطوا حقاً بباطل فالتبست عليهم الأمور

وجواب هذه الشبهة أن الله تعالى لا يخلق الشرَّ المحض الذي لا خير فيه
ولا منفعة فيه لأحد ، وليس فيه حِكْمَة ولا رحمة
ولا يعذب الناس بلا ذنب
، وقد بين العلماء أمثال شيخ الإسلام
ابن تيمية وابن القيم وغيرهما
ما في خلق إبليس والحشرات والكواسر من الحكمة والرحمة .

فالشيء الواحد يكون خلقه باعتبار خيراً
وباعتبار آخر شراً ، فالله خلق إبليس يبتلي به عباده
فمنهم من يمقته ، ويحاربه ويحارب منهجه
ويعاديه ويعادي أولياءَه ، ويوالي الرحمن ويخضع له
ومنهم من يواليه ويتبع خطواته .

------------------
(1) راجع مجموع فتاوى شيخ الإسلام : 8/540 .
(2) راجع المصدر السابق : 8/517 .
(3) فتح الباري : 11/488 .
(4) صحيح الجامع الصغير : 3/113
ورقم الحديث : 3232 .
(5)راجع في هذا المبحث :
مجموع فتاوى شيخ الإسلام : 8/110، 224 .
 
الوسوم
القضاء بحث شامل عقيدتنا عن فى والقدر
عودة
أعلى