روايـة نهر بلا شطآن

خالدالطيب

شخصية هامة
مدخل

يروى عن مسكين بن صدقة أنه دُعي للغناء في قصر الرشيد، فغنَّى المغنون حتى انتهى إليه الدور فأخذ يغني غناء الملاحين والبنائين والسقائين وما جرى مجراه من الغناء، فقال له الرشيد: ويلك.. ما هذا الغناء؟
فقال مسكين: من فرشت داره بالبواري() والبردي فهذا الغناء كثير عليه.




&&&&&


ما إن غادرت الحافلة مركز الانطلاق من دمشق، حتى انفرجت أسارير الوجوه المشدودة والجباه المقطّبة. زالت علامات الضيق والضجر، وسـاد جو من الهدوء والسكينة، تخللته همهمات وهمسات وكلمات ود ومجاملة .
عبد الله الذي كان صامتاً حتى هذه اللحظة، ينقل بصره بين ساعة يده وساعة الحافلة الرقمية التي تجاوزت العاشرة صباحاً بأربع عشرة دقيقة خرج عن صمته وقال بمرارة واستهجان :
ـ لو أنهم يتقيدون بالموعد المحدد !
التفت إليه شاب يصغره بأعوام قليلة وعقّب ساخراً، كأنه يرد على صديق تربطه به معرفة قديمة :
ـ يا أخي .. ( مو ) معقول .. كأنك لست من (هنا ) !. هل تريد أن نغيّر طبيعتنا و نتخلى عن هويتنا ! ما قيمة ربع الساعة أو الساعة ؟ ما قيمة اليوم والشـهر.. ؟ ما قيمة العمر كله ؟
ثم التفت يميناً ويساراً ومال بجسمه نحو عبد الله كما لو أنه يهمس بسر خطير يخشى أن يسمعه أحد، وقال بصوت خافت :
ـ يا أخي .. لا أحد يكترث بالوقت أو يتقيد بالمواعيد .. إنهم يرون في التأخيــر وجاهة وعلو قدر ومنزلة. كأن الله رفعهم فـوق غيرهم درجات. ينهون عن خلق ويأتون بمثله، يأمرون الناس بتطبيق النظام وهم لا يلتزمون به.
قرّب رأسه حتى كاد أن يلامس وجه عبد الله، وأضاف هامساً:
ـ والمشكلة هي أنهم أصحاب الـ .....
نظر حوله بحذر ثم قال : أعتقد إنك فهمت قصدي.
شعر عبد الله بالضيق والإحراج، إذ أدرك أنه وبدون قصد، قد فتح باباً للحوار يصعب إغلاقه، وولج دوامة الدوران في حلقة مفرغة، تثير مسائل وقضايا ملّت النفس من عرضها وتكرارها، وتمنى لو أنه آثر الصمت منذ البداية، ولم ينطـق بكلمة، فحاول أن يضع حداً للحديث والعودة به إلى مساره الأول، والوقوف عند نقطة البداية، تجنباً لمضايقات هو بغنى عنها، فقال :
ـ على أية حال ( ما من ) مشكلة. أربع عشرة دقيقة أو ربع ساعة لن تقدّم ولن تؤخـر .. المهم أن نصل بالسلامة وفي الوقت المحدد .. هذا إذا ضاعف السائق من سرعته قليلاً .. وأعتقد أنه سيفعل ذلك.
لم يخطر له أن وقع هذه الكلمات سيفتح عليه أبواباً أخرى يصعب إغلاقها. فقد أثارت حفيظة المسافر الذي يجاوره في المقعد .. انتفض الرجل المسن ذو الكوفيـة والعقال والنظارة الطبية، وقال باستنكار :
ـ ولماذا السرعة! أما سمعت بالحكمة التي تقول في التأني السلامة وفي العجلة الندامة ؟ ثم .. أين كنا في الماضي وأين أصبحنا اليوم ! .. كان على المسافر من دير الزور إلى دمشق أو بالعكس أن ينطلق أولا ً إلى حلب، ثم يتابع الرحلـة .. المسافة مضاعفة. والزمن يزيد عن نصف يوم وليس خمس ساعات .. بلا تدفئة أو تكييف، وبدون ضيافة وتلفزيون. ناهيك عن محطات الوقوف الكثيرة على طول الطريق .. هذا نازل وذاك صاعد .. هذا يحمل أكياسـا ً أو صناديق، والآخر معه مواشي يزجّها في الممر بين البشر .. تثقب الآذان بثغائها، وتلوث الثياب والأقدام بروثها، وتزكم الأنوف برائحتها. فكأننا في حظيرة بهائم. نحن الآن بألف خير إذا ما قارنا بين الماضي والحاضر .. نعم، بألف خير بعد أن صار السفر متعة وراحة وتسلية. أليس كذلك أم أنا غلطان ؟
التفت إليه عبد الله وقد قرر أن لا ينطق بكلمة أخرى، خشية أن تقـوده إلى حوار آخـر مع الرجل المسن الذي يبدو متعطشاً للكلام، فاكتفى بهز رأسه.
نظر إليه الرجل متفحصاً .. اتسعت حدقتاه وارتسمت على وجهه المتغضّن ابتسامة ود ومحبة. فغر فمه ورفع يده .. مدّ إصبعه حتى كاد أن يغرسه بين عينيه قائلاً بشوق ولهفة :
ـ من .. ؟ عبد الله .. ؟ عبد الله الصالح ؟ أم أنا غلطان ؟
أحس عبد الله وكأن صفعة صعقته. وأيقظت ذكريات قديمـة تجّذرت في أعماقه طالما حاول أن يهرب منها ويتجنبها، فيطويها الزمان وتغيب في عالم النسيان. لكنها ظلت كالنار تحت الرماد، ما إن تهدأ حدتها حتى تعصف بها ريح تؤجج شرارتها، فيشعر بالإهانة، وتستيقظ أحزانه التي لازمته منذ الطفولة.
كرر الرجل سؤاله :
ـ عبد الله الصالح .. أنت عبد الله الصالح، أليس كذلك ؟ أم أنا غلطان ؟
قطّب عبد الله جبينه .. شعر بالضيق والأسف لأن الناس مازالوا ينسبونه إلى أهل أمّـه ولا ينسبونه إلى أهل أبيه .. تردد فيما يقول، ثم ردّ بصوت كالفحيح :
ـ تقصد عبد الله الراشد.
اعتدل الرجل المسن في جلسته، وبدت على وجهه علامات الأسف لأنه أساء إلى الشاب دون قصد، فاستدرك قائلاً :
ـ أهلاً عبد .. اعذرني .. تعرف أننا اعتدنا أن نناديك بعبد الله الصالح منذ أن كنت صغيراً، نشأت و كبرت في بيت خالك رجب الصالح، وقد غلبت كنية أهل أمك على كنية أهل أبيك الغريب عن قريتنا، والذي لم نعرفه عن قرب ولم نره إلا نادراً .. قبل أن يغادر البلاد إثر المشكلة التي تأزّمت بينه وبين خالك رجب الصالح أصلحه الله .
رد عبد الله باقتضاب :
ـ لا بأس .. لا بأس.
نظر إليه الرجل .. عيناه تفصحان عن رغبة في الكلام وطرد الملل الناجم عن الصمت، وتسلية تعوّضه عن عدم مشاهدة الفيلم الأجنبي المترجم ومشاهده العنيفة التي شدّت اهتمام الشباب، فقال :
ـ لم نرك منذ مدة طويلة .. منذ أن التحقت بخدمة العلم .. هل أنت في إجازة ؟
أجاب عبد الله : لا.
ـ ما زلت في الجيش ؟
ـ لا .. بالأمس انتهت خدمتي الإلزامية.
انعطفت الحافلة نحو اليمين، وتابعت سيرها على طريق إسفلتي ضيّق متعرج نسبياً، نصبت في أوله لوحة معدنية مكتوب عليها ( تدمر ـ
دير الزور ).
علّق الرجل المسن وهو يتابع بعينيه الطريق الانسيابي العريض نحو حمص وحلب :
ـ لماذا لا يكون لنا طريق سهل كهذا ؟
كرّر السؤال، علّه يجد صدى لدى عبد الله فيشاركه الحديث. ولما لم يسمع جواباً قال :
ـ إيـه يا عبد الله .. زمان والله زمان. بالأمس كنت صغيراً في بيت خالك في الناصرية، بعد أن غادر والدك البلد إلى جهة مجهولة، وانقطعت أخباره. كنت تلميذاً في المدرسة الابتدائية. هل تتذكرها ؟ المدرسة التي بنوها أيام الوحدة بين سـورية ومصر على ضفة النهر وبين أشجار الغَرَب. إيـه زمان قلنا لهم عندما وضعوا حجر الأساس هذا المكان غير مناسب. . الأرض رملية هشّة، والنهر يجاورها وليس له أمان. فاستخفوا بنا، وأداروا لنا ظهورهم وقالوا : أنتم جهلة لا تفهمون.
تلك الصورة مازالت مطبوعة في ذاكرة عبد الله الراشد رغم تعاقب السنين، والسيطرة على جموح النهر بعد إقامة سد الفرات .. صورة أثارت الفزع والرعب في القلوب حين بدأ موسم الفيضان في شهر نيسان من ذلك العام.
المياه تعلو من يوم إلى آخر و بين ساعة وساعة .. تهدر جارفة ما تصادفه في طريقها. العيون تنظر بخوف وهلع، والقلوب واجفة حذرة، والأعصاب مشدودة ،
والأخبار التي تتناقلها الألسن تثير الفزع بين الناس .. كارثة حلّت بالمنطقة، والنهر الذي كان مصدراً للخير والحياة بات غولاً ينشر الخراب والموت.
كل عام يفيض النهر، إلا أن فيضانه ذلك العام تجاوز الحد ولم يتوقف. كارثة مخيفة صعقت أبناء الجيل، أما العجائز وكبار السن فلم تفاجئهم هذه الظاهرة التي قد تكون صورة ثانية عن سابقة لها قبل عشرات السنين .. يوم فاض النهر وارتفع منسوبه أمتاراً، وفرّ أهالي القرى بعيداً عن بيوتهم وأكواخهم .. حملوا معهم القليل وتركوا الكثير. أما من حاصرتهم المياه وقطعت عليهم طريق النجاة فقد تسلّقوا الأشجار وسطوح المنازل، واستغاثوا طالبين العون والمساعدة.
حويقة الدير بين فرعي النهر داهمتها المياه فأخليت من سكانها .. تشرّدوا أو التجأوا عند الأقارب والأصدقاء وعيونهم معلّقة نحو بيوتهم وبساتينهم .. مازالوا يتذكرون ذلك الحدث الرهيب وتلك الفاجعة التي صارت تاريخاً مطبوعاً في الذاكرة .. ( فيضة أبو عبار ) نسبة إلى أبي عبار الرجل القوي الذي أراد أن يسحب شجرة كبيرة من النهر، لكنه عجـز عن مقاومة التيار فغرق في الماء. سموها باسمه ورتّبوا ذكرياتهم حولها. . فهذا تزوّج قبلها بعام وذاك ولد بعدها بعام أو عامين.
هل تتكرر هذه الظاهرة مرة أخرى ؟ وإلى أين الفرار ؟
انهارت السدود الترابية في بعض القرى، وغمرت المياه الحقول والبساتين وجرفت الزرع والشجر.
صراخ نساء واستغاثة رجال في الجزر الصغيرة المحاصرة. وفي الليل يتفاقم الخطر ويشتد الذعر.
رابط الرجال والشـباب على السدود الترابية، وحمل رجـال الدرك والشرطة المستنفرون البنادق. داهموا البيوت واقتادوا من تخلّف من أبناء القرية من شيوخ وشبان صغار وعجزة ومرضى إلى العمل، و وزعوا عليهم نوبات المراقبة والحراسة ليلا ً ونهاراً .. جبهة حرب، والنهر الذي بات عدواً يستمر في الهدم والتنكيل.
أمل وحيد يرجونه وإن لم يروا له بارقة أو إشارة .. أن يتراجع النهر وينخفض مستوى الماء، أو يتوقف عن الارتفاع بعد أن أضناهم التعب واستنفد السهر والبرد والجوع طاقتهم.
مساحات واسعة من الأراضي غمرتها المياه .. تباعدت المسافة بين الضفتين .. نهر هذا أم بحر ! أمواج صاخبة وهدير ماء يقتلع أشجار الغرب والطرفاء، ويجرف الحطب وأعمدة البيوت والخيام، والحيوانات النافقة.
انهار الجرف وتقلّصت المسافة بين النهر والمدرسة، ولولا فطنة ذوي العقل والخبرة الذين أسهموا بإنقاذ ما استطاعوا من أثاث ومقاعد، وحرص المدير على سلامة التلاميذ والمعلمين إذ قام بإخلائها بمبادرة شخصية ودون موافقة خطية من مديرية التربية، لوقعت كارثة كبرى .. فقد تصدّعت وتشققت جدرانها، وفي اليوم الثاني انهارت وتحولت إلى أنقاض غمرتها المياه.
في ذلك العام كان عبد الله تلميذاً في المدرسة الابتدائية، التحق بها وهو ابن سبع سنوات، وقد سبقه إليها أخوه جاسم الذي يكبره بعامين .. ذلك اليوم كان نقطة تحول كبرى في حياته، فقد ارتدى ثيابه الجديدة الفضفاضة، وحمل حقيبة ودفترا ً وقلماً، وانطلق برفقة شقيقه وصبية آخرين من أبناء الجيران .. يغمره شعور بالفرح والرهبة والإقدام والتردد، فهاهو يقتحم عالماً لا يعرفه من قبل .. لم يألف أجواءه، ويجهل نظمه وقوانينه.
عندما اجتاز بوابة المبنى المحاط بسور مرتفع، انتابه شعور بالضيق كما لو أنه دخل السجن أو معسكراً للأسرى. أعداد كبيرة من التلاميذ الصغار والكبار، ومعلم في يده عصا يلوّح بها ويضرب من يتأخر أو لا يقف أثناء الاصطفاف بانتظام.
وقف عبد الله باستعداد عندما دخل المعلم الصف .. تجمّد مثل تمثال من حجر أو كجندي أمام قائده يمتثل للأوامر، ولا ينطق إلا بعبارة واحدة .. حاضر سيدي، أمرك سيدي. ولم يجلس إلا بعد أن أمره المعلم.
تفقّد المعلم تلاميذ الصف .. قرأ أسماءهم .. أجابوا بكلمة نعم أو حاضر. رددوها بأصوات عالية. قرأ المعلم اسمه :
ـ عبد الله الراشد.
كرره مرة ثانية , ثم أضاف قائلاً وهو يضع جانب اسمه إشارة بالقلم الأحمر : غائب.
وعندما انتهى من قراءة الأسماء سألهم :
ـ من منكم ليس له اسم ؟
رفع عبد الله إصبعه وانتصب واقفاً وقال بخجل :
ـ أنا .. أنا يا أستاذ.
ـ ما اسمك ؟
ـ أنا .. أنا عبد الله الصالح.
ـ واسم أبيك ؟
ـ محمد ..
دقق المعلم النظر في لائحة الأسماء، وقال :
ـ ليس عندي سوى تلميذ واحد باسم عبد الله محمد الراشد. أنت هو ؟
تردد قائلاً : أنا عبد الله الصالح.
نبر به المعلم قائلاً : غبي .. أنت غبي. اسمك هو عبد الله الراشد وليس عبد الله الصالح. . هكذا هو مسجل هنا.
قال بعض التلاميذ : آل الصالح هم أخواله يا أستاذ.
زجره المعلم بنظرة تأنيب واحتقار قائلاً :
ـ هكذا إذاً ؟ تنتسب لأمك وأخوالك، ولا تنتسب لأبيك وأعمامك !
ثم أضاف بسخرية وازدراء :
ـ بغل .. أنت بغل، أليس كذلك ؟ سألوا البغل يوما ً من هو أبوك، فأجاب خالي الحصان. وأنت كذلك .. بغل .. والبغل ابن من؟
طرح سؤاله على رفاقه التلاميذ فأجابوا بصوت واحد: البغل ابن الحمار يا أستاذ.
ثم غمزوه بأعينهم وانفجروا ضاحكين.
أحس بالذل والمهانة .. جرحت كرامته كلمات المعلم القاسية، وآلمه أن يلقّب بالبغل و ابن الحمار، وأن يكون موضع سخرية المعلم والتلاميذ وهدفاً لتعليقاتهم اللاذعة. وأكثر ما يخشاه أن يغلب هذا اللقب على اسمه الحقيقي، ويلازمه مدى الحياة .. وفي القرية كثير من الكبار والصغار غابت أسماؤهم الحقيقية، وعرفوا بألقاب وصفات .. فهذا هو الأسود، و ذاك هو الطير، والآخر قنيفذ، والرابع أبو الشط لأنه يلازم شاطئ النهر ولا يفارقه إلا لماماً. وألقاب أخرى كثيرة.
وإذا كانت بعض الألقاب مقبولة لا تقلل من قدر أصحابها، فإن لقبه سيكون عاراً عليه وكارثة كبرى تحقّره وتصغّره في عيون القوم. . البغل .. جاء البغل .. راح البغل .. والبغل ابن من ؟ ابن الحمار.
منذ ذلك اليوم قرر أن لا يسمح لأحد أن يناديه بعبد الله الصالح. لكن أهل القرية .
وقد اعتادوا أن ينسبوه إلى عائلة الصالح لم يأبهوا لقراره، ولم يكترثوا لمشاعره وأحاسيسه. بل وجدوا في رد فعله مادة للسخرية والتسلية .. كانوا يستفزونه أحيانا. وعندما يبلغ ذروة الثورة والغضب يضحكون غير عابئين بحزنه وألمه. وكثيراً ما غضب من رفاقه وتعارك معهم وشتمهم من أجل ذلك. إلا أن هذا اللقب ظل لاصقاً باسمه كالقذى في العين.
وعائلة الصالح معروفة في الناصرية، تتمتع بقدر من الهيبة والاحترام، ويحظى عميدها رجب الصالح بمنزلة يحسده عليها رجال القرية. عرض عليه أن يكون مختاراً فرفض، وآثر أن يكون عضواً في مجلس المحافظة .. يحضر الاجتماعات الدورية، ويلتقي بالمسؤولين الكبار وصناع القرار. ويوطد علاقاته مع ذوي الشأن والنفوذ .. تسهيلاً لأموره و دعماً لمركزه الاجتماعي. وقد قرر أن يرشح اسـمه لمجلس الشعب، فهو يعرف من أين تؤكل الكتف وأين هي نقاط الضعف. ويدرك تماما ً أن كل شيء بثمن، وأن بلوغ الهدف يقتضي معرفة الطريق السهل الذي يوصل إليه، وأنه ما من أمر صعب مادام يملك الحيلة والوسيلة .
أما عائلة الراشد فهي معروفة بالسيرة الحسنة والذكر الطيب، تنتمي إلى قرية الرواشدة التي تجاور نهر الفرات، ولا تبعد عن الناصرية سوى عدة كيلومترات .. أسرة بسيطة إذا ما قورنت بعائلة الصالح. وقد ارتبطت الأسرتان بزواج البدائل. تزوّج رجب الصالح من ندوة الراشـد، وتزوج محمد الراشـد من فضة الصالح وأنجبت له ولدهما البكر ( جاسم ) بعد عام، وأنجبت عبد الله بعد عامين .. ثم رزقت الأسرة بطفلة أسموها نعيمة.
نشأ عبد الله مع أسرته في قرية الرواشدة، وتآلف مع رفاقه الصغار. ولما بلغ الخامسة، وفي يوم صيفي قائظ جاء رسول إلى القرية على دراجة نارية. بدا على عجلة من أمره .. انفرد بوالده، تحدّث معه بصوت كالهمس ثم شدّ على يده مواسياً. نقل إليه خبراً محزناً كما يبدو. فقد تجهم وجهه وتغضّنت تقاطيعه. ضرب كفاً بكف وردد مستسلماً لإرادة الله عبارات عن القضاء والقدر، وأمر الله، والحياة والموت والحمد لله على كل شيء.
توافد رجال القرية إلى بيت الراشد وعلى وجوههم علامات الحزن والأسى. ذكروا الله كثيراً، ونطقوا بالحكمة والموعظة. تكلم الخصم مع خصمه ووقف العدو مع عدوه .. جمعتهم المصيبة كما يبدو. قرّبت بينهم و وحدت مشاعرهم.
أمه تلوب في الدار وتردد بهلع : ويلاه .. ويلاه.
أطفأت نار الموقد وجمعت بعض حاجاتها وحاجات صغارها. كانت تهرول من الغرفة إلى فناء الدار، ومن فناء الدار إلى الزريبة، لتعود إلى الغرفة وتنادي على ولديها وتغيّر ثيابهم بأخرى نظيفة.
نساء القرية اجتمعن حولها، وساعدنها في تجهيز الصغار وجمع الحاجات في صرّة من قماش وهن يرددن بين لحظة وأخرى : يا ويلي .. ياويلي. ثم يتبادلن أحاديثهن العادية حول الابن الغائب و الزوج الذي تزوج على زوجته، والبقرة ا لتي ولدت، وأشياء أخرى.
وقف والده عند باب الدار وقد انفض معظم الرجال عنه، بعد أن واسوه وسلّموا عليه. بدا مغتاظاً وهو يصرخ بزوجته :
ـ عجّلي يا امرأة .. ماذا تفعلين ؟ هل أنت ذاهبة إلى عرس ؟
حملت صرة الثياب بيد، والطفلة باليد الأخرى، وتعلّق عبد الله بطرف ثوبها، أما جاسم فقد كان يركض إلى جانبها.
فتحت أبواب البيوت، ووقف الجيران على جانبي الدرب المؤدي إلى الطريق العام. . كلمات النساء ودموع العجائز تعبر عن مدى الحزن والأسى. . تعثرت المرأة وهي تلحق بزوجها، وشعرت بألم في ركبتها. نظر إليها بعين غاضبة .. تحملت الألم ولحقت به .. هرول عبد الله ملتصقاً بها. أما أبوه فقد كان يسير بخطى حثيثة ويسبقهم إلى الطريق العام.

 
بعد توقف في استراحة المسافرين في تدمر، استغرق ما يزيد عن نصف الساعة، تناول السائق والمرافق خلالها وجبتهما المعتادة، وشربا الشاي والقهوة. صعدا إلى الحافلة .. أخذ السائق مكانه خلف المقود. بعض المسافرين كان نائماً لم يغادر مقعده، والرجل المسن ذو الكوفية والعقال والنظارة الطبية واحد منهم .. و آخرون متلهفون للوصول صعدوا مباشرة دون تأخير .. قلة منهم ظلوا عند بوابة الحافلة يدخنون لفافات التبغ بعجلة ونهم. ضغط السائق على زر المنبّـه يحثهم على الصعود. فألقوا بها وسحقوها بأقدامهم وعادوا إلى مقاعدهم ليتابعوا الرحلة إلى دير الزور.
دارت عجلات الحافلة .. ودار شريط الذكريات في مخيلة عبد الله الراشد .. لماذا عليه أن يعود بذاكرته إلى الماضي دائماً ؟ لقد قال له مدرّس التاريخ يوماً : نأخذ من الماضي العبرة والموعظة، لنبني الحاضر والمستقبل .. فكيف إذا كان الماضي مطبوعاً في ذاكرته كالحفر على الحجر !
توالت صور الماضي قاتمة حزينة ..
العائلة التي وقفت على الطريق العام .. الأب الذي يلوب في المكان، ويدخن لفافة إثر أخرى، ويرصد الطريق بعينين قلقتين بانتظار سيارة تنقلهم إلى قريـة الناصرية. والأم التي تولول بين آن وآخر بصوت خافت حزين، لئلا تتهم بفتور العاطفة والتقصير في أداء الواجب، ثم تنادي على ولديها أن يظلا قريبين منها. والطفلة التي تبكي بحرقة من ألم وجوع.
و كما أحزن الولدين وقع الخبر دون أن يتبينا حقيقته، فقد سرّهما قدوم السيارة العابرة والصعود إليها، والنظر من نوافذها، ومراقبة البيوت والأشجار، وعدّ أعمدة الهاتف والكهرباء وهي تمرق إلى الخلف بينما تندفع السيارة إلى الأمام.
رأت المرأة في سلوك الولدين أمراً غير لائق، لا يتناسب والحالة التي هم فيها، غير مدركة أن لكل سـن ما يناسبه، فأشارت إليهما بالتزام الصمت والهدوء.
أحس عبد الله بالاختناق والضيق .. سكت برهة على مضض، ثم سألها :
ـ نحن ذاهبون إلى بيت خالي في الناصرية. أليس كذلك ؟
ـ نعم.
ثم أضافت قائلة :
ـ بيت خالك وعمتك.
ـ ونبقى عندهم طويلاً ؟
ـ لا أدري ..
ـ لماذا أنت حزينة هكذا ؟
زجرته قائلة : اسكت. أنت تسأل كثيراً.
كرر سؤاله بعد صمت لم يدم طويلاً :
ـ أراك حزينة وأنت ذاهبة إلى بيت خالي. لماذا لا تفرحين ؟ ما الذي جرى لهم ؟
نهرته قائلة : اسكت. أنظر إلى أبيك. ألا ترى كيف هو حاله !
بدا والده في المقعد الأمامي شارداً وهو يدخن لفافات التبغ .. لا يرمي واحدة إلا ليتناول أخرى ويضعها في فمه.
رفع إليها الفتى رأسه، وفي عينيه فضول وإصرار على معرفة الحقيقة، ثم سأل : ما به أبي؟
أدركت أنه لن يكف عن الأسئلة إلا بعد جواب مقنع، فقالت :
ـ عمتك ندوة، أم فواز ..
ـ ما بها ؟
ـ مريضة.
ـ و هل مرضها خطير ؟
الطفل الذي يدفعه الفضول لأن يطرح السؤال بعد السؤال، لا يمتثل لأمرها ويسكت إلا إذا أفضت له بالحقيقة واقتنع بها، ولهذا أضافت :
ـ ماتت وهي تلد، اسكت.
ـ وهل مات الطفل أيضاً ؟
ردّت عليه دون اكتراث :
ـ ومن يسأل عن الطفل !
عقّب عبد الله قائلاً :
ـ مسكين خالي. ليس له إلا ولد واحد .. فواز.
عانقها مضيفاً بحزن : مسكين فواز، ماتت أمه وليس له أخ أو أخت.
ضمته إليها وهمست في أذنه :
ـ اسكت .. وانظر إلى أخيك. إنه صامت.
صمت الطفل وفي ذهنه أسئلة محيّرة عن الولادة والموت والحياة. إلا أن الموت، كما يتصوره، بعيد عنه، لا يأخذ إلا المسنين و المرضى. وهو ليس كبيراً أو مريضاً. ولهذا ليس لذكره رهبة ولا لوقعه لوعة، وقد رأى له في القرية حالات عدّة. . مرّت كحوادث عابرة ومشاهد مسلية. إذ كثيرا ً ما يندفع الصغار عندما يسمعون بموت واحد من القرية، ويخترقون جموع الرجال والنساء و يتحلّقون حول الجسد المسجى، ليروا كيف يبدو ..الفضول يتجاوز الحذر والرغبة تفوق الرهبة. يرافقون الجنازة إلى المقبرة .. يقفزون ويضحكون غير عابئين بزجر الكبار ونهرهم. وينظرون بعيون مفتوحة إلى الجثة وهي تتدلى إلى مثواها الأخير. ويشاركون في الدفن ونقل الطين والحجارة.
وعندما تنتهي مراسـم الدفن، يسـبقون الكبار على طريق العودة، وفي مخيلتهم صورة للقدور الكبيرة، والصحون المملوءة بالخبز والرز والمرق واللحم،
في أعماقهم ومضة فرح، وفي نفوسهم بارقة أمل بدوام العزاء أياماً وأسابيع، ليملأوا بطونهم الفارغة بما حرموا منه شهوراً طويلة.
يتحلّقون قرب صيوان العزاء الذي فرشت أرضه بالبسط والوسائد، حيث يجلس الرجال .. يشربون القهوة المرّة والشاي، يدخنون لفافات التبغ ويأكلون الثريد المكلل بالرز واللحم. تراهم يقصدون القدوم في الظهيرة والمساء. أما الذين لا عمل لهم فهم يلازمون الخيمة اليوم بطوله.
فإذا ما انتهى الكبار من طعامهم، أضافوا إليه قليلاً من المرق واللحم، وقدّموه للصغار الذين ينتظرون هذه اللحظة بفارغ الصبر، فينقضون عليه كالضواري الجائعة والطيور الجارحة .. تسبقهم أيديهم إلى اختطاف قطع اللحم والدهن والعظام التي لم تجرد من الفتات تماماً .. يبتلعونها بشراهة ونهم، فإذا ما قضوا عليها استداروا إلى الرز والخبز وما بقي في الصحون.
...........
قريبا ً من بيت رجب الصالح، وفي فسحة من الأرض مستوية، قام بعض الفلاحين بنصب أعمدة الخيمة الكبيرة وشدّ حبالها .. آخرون اقتلعوا الأشواك ومهّدوا الأرض ورشّوها بالماء. وعند شجرة التوت الكبيرة علقت ذبائح قاموا بسلخها وتقطيعها.
وعندما وصلت السيارة إلى القرية .. ترجّل منها محمد الراشد وتقدّم صوب خيمة الرجال. بينما حملت زوجته طفلتها واتجهت نحو البيت، بعد أن أشارت للولدين أن يذهبا إلى حيث تجمّع الأولاد. وما إن تخطّت العتبة حتى نزعت الغطاء عن رأسها ونثرت شعرها، وأطلقت صيحة تجاوبت معها صيحات النساء المجتمعات في باحة الدار، أعقبها بكاء وعويل ولطم على الوجوه وندب على الصدور.
امتدّت فترة العزاء ثلاثة أيام، وكما هي العادة قضى الرجال ساعات طويلة مضطجعين على البسط متكئين على الوسائد .. يأكلون ويشربون .. يتحدثون في أمور خاصة وعامة .. يستمعون إلى حكايات مسلية، يتكلمون في قضايا السياسة المحلية والدولية .. ينتقدون مواقف الدول والحكومات، ويقترحون خططاً للحروب والمعارك. . يتفقون ويختلفون، يتشاجرون ويتشارعون. وقد يهب أحدهم واقفاً بعد الطعام والشراب وينصرف إلى بيته غاضباً، وما إن يغيب ساعة حتى يعود مرّة أخرى .. فما من مجلس أكثر راحة وفائدة وتسلية من هـذا التجمع. وفي اليوم الرابع قوّضت الخيمة وانفض الرجال، أما النساء فقد دام عزاؤهن سبعة أيام .

...........
في اليوم الرابع صباحاً، وبعد أن سلّم محمد الراشد على رجب الصالح، قال لزوجته :
ـ لن أوصيك بأبي فواز فأنت شقيقته. قومي بالواجب، وارفعي رأسه بين الناس .. لا تقصّري مع النساء .. أكرميهن فهن كثيرات الكلام .. لا يعجبهن العجب ولا الصيام في رجب. وكوني مستعدّة للعودة إلى البيت بعد أن ينتهي العزاء.
نظر إليها وإلى أخيها، وأدرك ما يدور في رأسها فأضاف قائلاً :
ـ سبعة أيام تكفي ..
ثم استطرد وهو يشدّ على يد رجب الصالح مودعاً :
ـ لا عليك يا امرأة. أبو فواز رجل ولا كل الرجال، يعرف الأصول ويقدّر الوضع، وأهل الناصرية كلهم أصحابه وأحبابه .. يملأون عليه الفراغ ويعوضونه عن فقدان المرحومة.
............
أيام كئيبة قضاها محمد الراشد في قريته. نهاراً تخف معاناته بقدوم الرجال ومواساتهم وأحاديثهم. وفي الليل يتصاعد حزنه ويتفجّر ألمه.. يشعر بالانقباض والاختناق .. يدور في دوامة من الأسى .. البيت موحش، والوحدة قاتلة. .شقيقته ماتت. لا امرأة تؤانس وحدته، ولا صغار يسلّونه .. لا شيء إلا الصمت.
وما إن انقضى عزاء النساء، حتى جاء ليعود بزوجته وأطفاله إلى البيت. استقبله رجب الصالح بشيء من البرود، ومع ذلك فقد أصرّ عليهم أن يظلوا إلى ما بعد الغداء.


 

لم يكن متمسكاً بهم عن رغبة كما يبدو .. ربما كانت له غاية أخرى، فقد ألقى عليه الأمر كما يفعل السيد مع تابعه :
ـ اقعد يا رجل .. وأنت يا فضّة، حضّـري الطعام.
ثم أضاف قائلاً : نضيع بدونها .. فمن غيرها يقوم بأعمال البيت ؟
وبعد أن رفعت أواني الطعام وإبريق الشاي و الأكواب. نادى محمد الراشد على ابنه جاسم وقال :
ـ هيا .. نادي على أخيك وقل لأمك أن تهيئ نفسها.
وقبل أن يتخطى الفتى عتبة الباب أوقفه خاله وقال له :
ـ اذهب، ولكن لا تقل شيئا لأمك.
فتح محمد الراشد فمه دهشة واستغراباً .. لاشك أن في ذهن الرجل كلاماً لم ينطق به لسانه، ولا يريد لأحد غيرهما أن يسمعه. فسأل بصوت خافت :
ـ ما الأمر يا أبا فواز ؟
تنحنح رجب الصالح وتململ في مكانه، ثم اعتدل في جلسته. التفت إليه قائلاً وعلى وجهه ابتسامة ساخرة :
ـ مستعجل كثيراً يا أبا جاسم !
ـ العذر منك يا شيخ، فقد تركنا بيتنا وأعمالنا.. كثّر الله خيرك وخير الجيران. لم يقصّروا أبدا ً .. ولكن كما تعرف .. لا راحة لإنسان إلا في بيته.
ردّ عليه رجب الصالح بعبارة من طرف لسانه :
ـ هذا بيتك يا رجل.
عقّب محمد الراشد : وأعز يا شيخ .. أدامك الله .. يبقى عامراً بأصحابه، أنت وابن الغالية.
ثم أضاف ملاطفاً :
ـ أين هو هذا الملعون فواز ؟ ألا يسلّم على خاله ! لماذا لا يأتي معنا بعيداً عن جو الحزن ويقضي بعض الوقت مع أبناء عمته.
بعد فترة من الصمت، قال رجب الصالح وقد تغيرت لهجته، كما تغيرت ملامح وجهه :
ـ قلت لي .. إنكم ذاهبون اليوم إلى الرواشدة ؟ أنت وأم جاسم والأولاد..
أجاب : نعم يا شيخ.
ثم أضاف بتواضع : إذا لم يكن عندك مانع.
قال رجب الصالح باستهجان :
ـ وتتركنا وحدنا، أنا والولد فواز ؟
ـ البركة بكم يا شيخ. أهل الناصرية كلهم حولك، فكيف تقول ذلك ! وإذا كانت المشكلة هي مشكلة فواز .. لا تحمل همّه .. نأخذه معنا، وأنا أعدك أ ن آتي به متى ملّ منا.
رد عليه بنبرة جافة ساخرة :
ـ صحيح .. صحيح. أنت لا تقصّر، إلا أن هذا الكلام لا يطعم خبزاً، و أنت تعرف ذلك.
فوجئ محمد الراشد بهذا الرد، و تبادر إلى ذهنه أن وراء الكلمات ما وراءها فقال باستغراب :
ـ لم أفهم قصدك يا شيخ.
ـ قصدي واضح يا ابن الكرام، والحر يفهم من الإشارة.
ـ صدّقني، لم أفهم. هل بيدي شيء أفعله ؟
ـ نعم .. نعم، بيدك كل شيء.
وقع محمد الراشد في حيرة من أمره، فقد ظل طول الوقت يلاطفه ويجامله ويلقّبه بالشيخ احتراماً وتقديراً، ويغض الطرف عن كلامه الملغز، دون أن يجد لموقفه أي صدى. ومع هذا قال بتواضع :
ـ الحقيقة .. أنا لم أفهم.
اعتدل رجب الصالح في جلسته، تناول علبة التبغ ووضع لفافة في فمه، ثم قال بنبرة حادة :


ـ افهم قصدي يا ابن الناس .. زوّجتك أختي وزوّجتني أختك.
ـ هذا صحيح.
ـ وأختك .. أم فواز .. زوجتي، ماتت.
ـ الله يرحمها، ويمد في عمرك.
ـ والآن صار البيت خالياً. والبيت بدون امرأة ترعاه وتدير شؤونه ليس بيتاً.
ـ هذا صحيح يا شيخ، ولو أنه لا اعتراض على حكم الله.
ـ وأنا يا ابن الكرام سأتزوج .. بعد شهر .. بعد شهرين .. بعد سنة .. إذا يسّر الله، إذ ليس من المعقول أن أظلّ هكذا.
قال محمد الراشد وقد بدا له أن الأزمة بدأت تنفرج :
ـ ومن يمنعك يا شيخ ! من يلومك ؟ هذا حقك.
ردّ عليه بغضب واستعلاء :
ـ أنا لا أطلب الإذن منك أو من غيرك. ولم أفصح لك عن نيتي حتى توافق أو لا توافق.
ـ لماذا إذاً ..... ؟
ـ اسمع يا ابن الناس. زواجنا زواج بدائل، بيني وبينك. يعني .. زوجة كل واحد منا هي مهر للأخرى. هل هذا صحيح ؟
ـ صحيح.
ـ وأختي عندك.
ـ نعم .. هذا صحيح.
ـ وأختك ماتت.
ـ نعم، الله يرحمها.
استند على الوسائد .. أشعل لفافة أخرى وأخذ نفساً عميقاً وقال :

ـ إذاً يا صاحبي أنا لي عندك مهر شقيقتي .. زوجتك، أم جاسم.
فوجئ محمد الراشد بما لم يخطر له على بال .. تغيرت قسمات وجهه وبدا عليه التعجب والذهول .. كأن ماء باردا قد صبّ على جسده. ابتسم، ضحك باستغراب. ضرب كفاً بكف وقال :
ـ تمزح يا رجل ! ما هذا الكلام ؟ هل تعني ما تقول ؟
ثم أضاف ضاحكاً : سامحك الله يا أبا فواز. والله قد أضحكتني والمرحومة لم يمض على وفاتها أسبوع واحد.
نهره بغضب :
ـ أنا لا أمزح. .
انتفض محمد الراشد وقال باستنكار :
ـ إذاً أنت تعني ما تقول ؟
ـ نعم فأنا لا أمزح في مثل هذه الأمور. ثم .. ما الغريب في الأمر ! هذا هو العرف وتلك هي العادات. إن كنت جاهلاً أو قليل الخبرة اسأل أهل الشرع وتأكد بنفسك منهم .. امرأة بامرأة .. امرأتك عندك وأنا لي عندك امرأة. لو كانت لك أخت أخرى تزوجتها وحلّت محلها. أما في حال كهذا فإني أطلب منك مهر شقيقتي لأتزوج به. . أو ..
ـ أو ماذا يا رجل ؟
ـ فضة تبقي هنا، عندي، عند أهلها حتى تدفع مهرها.
هبّ محمد الراشد واقفا ً والدم يغلي في عروقه. قال له وقد بدا صغيرا ً في نظره :
ـ ماذا تقول يا رجل ! أنت لست في وعيك. أنت تهذي .. لقد فقدت رشدك. لاشك أن موت المرحومة قد أثّر على عقلك وعطّل تفكيرك.
ارتدى سترته وهو يردد :
ـ عيب يا رجل، والله عيب.
وقبل أن يغادر المجلس، استدار إليه وقال متوعداً :

ـ اسمع وتذكّر ما أقوله جيداً .. أنت بدأت وسوف تندم.
ثم خرج مسرعاً وهو يردد بنبرة حادة :
ـ العمى .. أمر غريب. الناس ما عادوا يسـتحون ولا يخجلون من الفعل الناقص. يا للأسف .. عيب على الرجال، عيب وألف عيب.
اجتاز بوابة الدار، ولم يلتفت وراءه، ويرى زوجته التي تقبع في الزاوية تحتضن طفلتها ولا تجرؤ أن تفتح فمها وتتفوه بكلمة واحدة .. لم تسأل عن رأيها سابقاً، ولا رأي لها الآن .. لا قيمة لعواطفها ولا أهمية لمشاعرها .. عليها أن تسمع وأن تطيع الأقوى، والأقوى هنا هو شقيقها.
..........
بعد أيام .. ظنوا أنها كافية لانقضاء الأزمة وإزالة التوتر والعودة إلى جادة الصواب والعقل، عاد محمد الراشد بصحبة بعض الرجال من وجهاء قريته .. اجتمعوا برجب الصالح، وحضر الجلسة آخرون من قرية الناصرية .. اختارهم هو وأرسل في طلبهم.
طرحوا المشكلة على بساط البحث، وحاول بعضهم رأب الصدع وحلّها بالحكمة والعقل فقال كبيرهم :
ـ يا أبا فواز. زوجتك ماتت وهذا قضاء الله وقدره، والموت حق على كل إنسان.
رفع يديه إلى السماء واستطرد :
ـ هو الذي يعطي وهو الذي يأخذ، ولا اعتراض على حكمته. فما شأن أبي جاسم ! والله لو أنها مسألة ثأر لوقفنا معك. ولكن. ما ذنبه ؟ هي أخته مثل ما هي زوجتك، ومصيبته مثل ما هي مصيبتك.
قال رجب الصالح بجفاء :
ـ لا .. أبداً. الجرح لا يؤلم إلا صاحبه، ومن يأكل العصي ليس كمن يعدّها. وأبو جاسم لا مجروح ولا مضروب بالعصا.
أراد واحد من جماعة أبي جاسم المشاركة في الحديث و تلطيف الأجواء، فقال :


ـ يا أبا فواز .. الآلة وهي من حديد وفولاذ تكفـلها الشركة المصنّعة سنة أو سنتين لا أكثر. فما بالك بالإنسان وقد خلقه الله من لحم و دم ! وأم فواز ـ رحمها الله ـ عاشت معك سنوات قبل أن يأتي أجلها.

علّق أحد المقربين من رجب الصالح :
ـ يا جماعة .. طلب أبي فواز حق مشروع أقرته الأعراف والتقاليد. فلماذا تتجاهلون الواقع وتحيدون عن الطريق؟
ردّ كبير المفاوضين من جماعة الرواشدة :
ـ عمري سبعون عاماً. في سنة ( فيضة أبو عبار ) كنت في مثل عمركم .. عشت هذه السنين الطويلة، ومرّت بي حالات غريبة، ولم تصادفني حالة كهذه.
علّق رجب الصالح باستخفاف :
ـ يا شيخ. العبرة ليست بالسنين. كثير من الرجال يصيبهم الخرف عندما يتقدم بهم العمر ..
تأزّم الموقف فاكفهرت الوجوه ونفرت العروق، وتحوّل الحوار إلى معركة كلامية، خرجت عن الطور وتجاوزت آداب السلوك. فقام محمد الراشد وجماعته وفي صدورهم شعور بالاستياء والنفور وخيبة الأمل. وقبل أن يبتعدوا استدار إليه محمد الراشد وقال مهدداً :
ـ أنت أردت ذلك. دعها عندك، هي وأولادها، اغنم بها، والله سأتزوج وسوف تسمع بهذا الخبر قريباً.
قال رجب غاضباً :
ـ خذ أولادك معك .. هؤلاء لا حكم لي عليهم ولا حق لي فيهم.
أراد محمد الراشد أن يضيّق عليه الخناق فقال:
ـ لا .. الأولاد مع أمهم .. يذهبون معها أو يبقون معها.
ثم وجّه كلامه إلى الرجل الكبير من جماعته، وقال : العذر منك يا شيخ. لو كنت أعلم أن الأمور تسوء إلى هذا الحد ما طلبت منك المجيء.

ثم أضاف : هيا يا جماعة. لم يبق لنا كلام مع هذا الرجل.
كانت فضة الصالح تضرب على رأسها وتلطم وجهها مرددة بصوت مخنوق : يا ويلي، يا ويلي ..
سالت دموعها، وبكت الطفلة في حضنها. تعلّق الولدان بها، طوّقاها بأذرعهم الصغيرة، وانفجرا بالبكاء.

 


مع وصول الحافلة إلى دير الزور، توقّف شريط الذكريات وغابت الصورة .. صورة أبيه وتقاطيع وجهه القاسية التي لا يتذكرها جيداً، بعد أن غادر بيت خاله غاضباً، دون أن يلتفت إلى زوجته وأولاده.
هل كان غير مبال بهم، لا يكنّ لهم حباً و وداً ؟

هكذا قال الخصوم والمغرضون، وهذا ما أراد أن يؤكده خاله. لكن الحقيقة غير ذلك تماماً .. كل ما في الأمر أن الكرامة تطغى على العاطفة، والرجولة تقتضي التضحية. . حتى لو كانت تضحية بالنفس.
ذاك هو أبوه .. الرجل البسيط الذي غاب عنهم واختفى .. مات في أرض بعيدة وانقطع ذكره، وإن ظلّت ذكراه لا تغيب عن الخاطر.
توقّف شريط الذكريات .. وحمل عبد الله حقيبة السفر ومشى .. تسلل بسرعة وقد آثر أن لا يراه الرجل العجوز الذي رافقه في الحافلة، لئلا يفتح صفحة أخرى من الحوار والحديث.
اتجه صوب الجسر العتيق. بعض السيارات تقف في الشارع الموازي للفرع الصغير من نهر الفرات. تنقل البشر من قراهم إلى المدينة ومن المدينة إلى القرى .واحدة منها لم تقلع بعد أن غصّت بالركاب، وضاقت بهم المقاعد والممر وغطاء المحرّك. ولم تتحرك من موقفها رغم هدير محركها. وقد أخذ السائق مكانه خلف المقود، و مدّ رأسه من نافذتها محدّقا ً في وجوه المارة، منتظرا أية إشارة، لينادي على معاونه، ويأمره أن يلتقط راكباً، ويزج به داخل الكتلة التي ضمت الرجال والنساء والأطفال والأكياس والخبز والخضار والأواني الفارغة.
راوحت السيارة في مكانها .. ما إن تدور عجلاتها دورة إلى الأمام، حتى تعقبها دورة أخرى إلى الوراء. وقد اختلط هدير المحرك وصوت المنبه ولغو البشر بأغنية تصدر عن آلة التسجيل، فتثير الأعصاب و تثقب الآذان .. موسيقى صاخبة، أقرب ما تكون إلى قرع الأواني وتكسير الصحون.
بلغت نشوة السائق ذروتها، فصار يدق بيده على المقود، ويميل برأسه يميناً ويساراً، ويردد كلمات الأغنية بصوت أجش .
تصبب العرق من الأجساد المتلاحمة المتراصة .. سال على الوجوه المتغضنة والأيدي السمراء الخشنة، بلل الثياب ورسم بقعا ً كبيرة على المقاعد والمساند.
الرائحة كريهة، والهواء فاسد يبعث على الاختناق والتقيؤ .. رائحة العرق والدخان وأنفاس البشر الذين تكدسوا فوق بعضهم والتحمت أجسادهم وتداخلت أذرعهم وأرجلهم، وبات تحريرها أمراً متعذراً.
بكى الصغار حينما وجدوا أنفسهم مدفونين عند أقدام الكبار، وبين أجسامهم الكبيرة وثيابهم الكثيرة التي يرتدونها رغم الحر الشديد. وصرخ أحدهم :
ـ خنقوني يا أمي.
وصار يلعن و يسب ويشتم باكياً : ( يلعن أبوكم وأبو السيارة ) اتركوني .. أريد أن أنزل .. اتركوني.
ضحكوا رغم أن الموقف لا يدعو للضحك، وضايقوه ثانية حتى يسمعوا مزيداً من السباب والشتائم. إذ رأوا في ذلك متعة و تسلية تخفف من الضيق والاختناق.
تدلّى معاون السائق من الباب .. قدماه على الحافة وجسده معلّق في الهواء ينادي ويعدد أسماء القرى التي تصل السيارة إليها.
صرخ رجل عجوز بالسائق بعد أن نفذ صبره :
ـ ماذا تفعل ؟ أين تريد أن تضع هؤلاء الناس ؟ حرام عليك يا رجل. لقد اختنقنا.
منذ ساعة ونحن ننتظر. لو أننا مشينا على أقدامنا لوصلنا منذ زمن.
قال السائق باستهجان :
ـ ومن قال لك لا تمش ! إذا لم يعجبك الحال انزل وخذ سيارة خاصة.
زجره رجل تعلو وجهه علامات الهيبة والوقار بنظرة لوم وتأنيب، وقال له :
ـ الرجل لم يغلط، فلماذا تردّ عليه هكذا !
أجاب السائق وقد تبدلت نبرة صوته :
ـ وأنا لم أغلط، ولكن .. كما تعرف يا أبا عبد .. السيارة عليها أقساط شهرية ومصاريف يومية، والمحروقات غالية، وشرطة المرور مثل المنشار .. يقصّون في الذهاب والإياب .. وعليك الحساب. .
قاطعه الرجل : هكذا إذاً ! اعمل منها قصة، فكل يوم نسمع هذا الموال.
ردّ عليه السائق معتذراً :
ـ حاضر يا أبا عبد .. أنا بأمرك .. دقيقة واحدة.
طالت الدقيقة وامتدت خمس دقائق، ثم زأر المحرك و دارت عجلات السيارة ثم توقفت. لوّح المعاون بيده إلى شاب أقبل لاهثاً وفي يده حقيبة كبيرة، ونادى عليه : هيا .. اصعد. هات يدك.
تعلّق الشاب بالسيارة، وبصعوبة حشر نفسه بين الحشد الهائل المتشابك من البشر، بعد أن قذف المعاون حقيبته على سطحها. ولما لم يجد له إلا موضع قدم واحدة، فقد ترك الأخرى معلقة، و استند على كتف واحد من الركاب. فتململ الرجل متضايقا وقال : قتلتني .. ابتعد قليلاً.
وفوجئ عندما رفع رأسه ونظر إليه، فقال : عبد الله ؟ يا للمصادفة !
هل هي صدفة حقاً ؟ أبداً .. طريقهما واحد .. إنه الرجل العجوز الذي رافقه من دمشق إلى دير الزور، وأحد سكان قريته.


تحرّكت السيارة نحو الأمام .. سلكت الطريق الموازي للفرع الصغير من نهر الفرات. . شارع عريض مكشوف بعد أن اقتلعـت أشجار التوت الخضراء من ضفة النهر، و زرعت مكانها حواجز من الإسمنت وأسوار من الحديد. بدا ماء النهر راكداً آسناً .. غطته الأعشاب والطحالب، وفاحت منه رائحة نتنة.
انعطفت السيارة إلى اليسار. آثار عجلاتها انطبعت على الإسفلت المنصهر بحرارة الشمس. ثم عبرت الجسر العريض على الفرع الكبير للنهر. ومن جهة الغرب بدا الجسر المعلق شامخاً رشيقاً، وقد انعكست صورته على صفحة الماء، ورسمت لوحة فنية رائعة .. إطارها أشجار الغرب الخضراء على الضفتين وظلالها الوارفة.
انعطفت السيارة مرة ثانية إلى اليسار، وسلكت الطريق الإسفلتي الذي يمرّ بالثانوية الزراعية وكلية الزراعة .. تابعت طريقها بين ضفة النهر والبيوت المتناثرة واجتازت البناء المدرسي المنهار في قاع النهر. .
صور من الماضي مطبوعة في الذاكرة .. اليوم الأول له في المدرسة، والمعلم الذي وصفه بالبغل وابن الحمار. والفيضان الذي غمر الحقول واقتلع الأشجار ..
صور ثابتة، وأخرى تبدّلت. . أحياء سكنية تحمل أسماء الأسر التي سكنتها، أو المزارعين الذين امتلكوا الأرض ونصبوا مضخات الماء على ضفة النهر. ظلت الأسماء ثابتة وإن تبدّل كل شيء .. انتقلت بعض الملكيات إلى مستثمرين جدد، من أبناء المدينة ومن الفلاحين في الريف. بنيت مساكن جديدة و( فيلات ) لقلة من الناس ظهروا على السطح حديثاً، وهدمت أكواخ وعنابر زراعية. تصدّعت جدران المخازن القديمة، واقتلعت أشجار الغرب من مساحات واسعة. وخرّبت حدائق الزهور المحيطة بمضخات الماء، وتحولت إلى مزابل أو صارت زرائب للبقر.

.............
عندما نزل عبد الله الراشد من السيارة، كان بعض الفتيان يسبحون في مياه الساقية الكبيرة المحاذية للطريق الفرعي المؤدي إلى البيت. توقفوا وصعدوا إلى حافتها وقد دفعهم الفضول لرؤية القادم من السفر .. ارتدى بعضهم ثيابه على عجل ورافقوه في الطريق، ساروا بجانب الساقية وتحت ظلال أشجار التوت الكبيرة. على درب ضيق، فأثارت خطواتهم سحابة من الغبار تصاعدت إلى الأعلى.
سألهم عن أحوال القرية والناس، فقصوا عليه أخبارها وأسرارها .. ما يعنيه وما لا يعنيه .. ما يرغب أن يسمعه وما لا يرغب .. كانوا يتكلمون معاً وفي آن واحد. يبدأ أحدهم بسرد حكاية أو خبر فيقاطعه الآخر ويكمل أو يضيف وكأنه أكثر علماً وأوسع دراية.
قال واحد منهم : حميّد تزوج على امرأته.
سأله عبد الله : من هو حميّد ؟
أجاب الفتى موضحاً :
ـ حميّد البقر .. حميّد الراعي، راعي البقر .. قصير القامة. ألا تتذكره؟
قال عبد الله : لكنه ما عاد يرعى البقر، منذ أن أصبح رجلا،ً وتزوج زوجته الأولى.
ـ صحيح. إلا أن الناس لا يعرفونه بغير هذا اللقب.
عقّب آخر مؤكداً : وأنت واحد منهم. لم تعرفه إلا عندما قلنا .. حميّد البقر.
هزّ رأسه أسفاً، و حدّث نفسه بمرارة وأسى : وأنا كذلك، لا يعرفوني إلا بعبد الله الصالح .. اللقب يغلب على الاسم الحقيقي، ويلتصق بصاحبه كما يلتصق القراد بجلد الدابة.
قال الثالث : وعايد الجدعان مات .. غرق في النهر.
أثاره غرق الفتى وأحزنه موته .. الخبر المؤلم يدعو للانقباض والتشاؤم. وقد جرت العادة أن لا يستقبل المرء ساعة وصوله بالأخبار السيئة والمحزنة. هكذا يفعل الكبار، أما الصغار فهم يرون في ذلك بادرة تثير الاهتمام بهم لدى القادم، وترفع من شأنهم في نظره.

سألهم بأسى :
ـ متى حدث ذلك ؟
ـ منذ أسبوع .. كان ماء النهر عكراً أحمر. قلنا له لا تسبح يا عايد لئلا تكون الضحية. ولم يسمع كلامنا.. قفز إلى الماء من شجرة عالية. غطس ولم يظهر ثانية. ثم وجدوا جثته طافية على السطح عند طرف القرية من جهة الشرق، بعد أن جرفه التيار.
قال عبد الله :
ـ أنتم تؤمنون بهذه المعتقدات كالعجائز. تعتقدون أن النهر عندما يتعكر لونه يصبح مثل وحش جائع لا أمان له .. لا يهدأ، ولا يصفو ماؤه إلا بعد أن يبتلع ضحيته.
ـ بل هي الحقيقة التي يعرفها كل الناس. وغرق عايد يؤكدها.
اقتربوا من البيت، فقال ثالثهم :
ـ و أخوك جاسم ...
أحس بوخزة في صدره فوقف في مكانه، وسأل بهلع :
ـ ما به أخي ؟ ماذا أصابه ؟
تنفّس بعمق وهدأت نفسه عندما قال الفتى : لقد سافر.
ـ إلى أين ؟
ـ لا أدري.
ـ متى ؟
ـ منذ شهر أو أكثر، ولم يرجع.
قال أكبرهم : يقولون. إنه سافر إلى السعودية أو إلى الكويت، ولن يعود في وقت قريب.
سألهم بقلق ولهفة :
ـ وأمي ؟ وأختي .. ؟
ـ ما بهما ! إنهما في الدار.
عقّب أحدهم وهو يقاوم شعوراً بالخجل :
ـ أختك نعيمة، جاءها عريس.
ـ ماذا تقول ؟
استطرد الفتى : عنده سيارة طويلة بيضاء، جيبه مليء بالدنانير، وفي يده ساعة ذهبية.
أضاف آخر : و يدخّن سجائر أمريكية .. لها ( قطنة ).
أثارته كلمات الفتيان، فاضطربت أفكاره، وساوره شعور بالقلق والخوف من وقوع أحداث أخرى جرت ولم تصله أخبارها.
ترى .. ماذا خبأت له الأيام أيضاً ؟ ولماذا تكون الأخبار مزعجة دائما ؟ تصدّ النفس وتوقظ الحزن وتدعو للاكتئاب والتشاؤم !
منذ مدة طويلة لم تصله رسالة من أهله. وقد أدرك سر هذا الانقطاع الآن. إنه سفر أخيه الذي كان يرد على رسائله، و يكتب له بين آونة وأخرى. ومن غيره يبادله الرسائل و ينقل إليه أخبار العائلة والقرية ؟ ! أمه ؟ أخته ؟ أمه لا تعرف القراءة والكتابة، وأخته لم تكمل المرحلة الابتدائية. لقد قال خاله يوماً : ما حاجة البنات للتعليم ! تعليم البنت ضياع وقت وخسارة. فلماذا نعلمها ولمن..؟ لرجل غريب يتزوجها ويأخذها إلى بيته !
هذا الخال غيّر رأيه بعد أن تزوج امرأة أخرى، وأنجبت له بنتاً. بل إن رأيه لم يكن كذلك منذ البداية. ولو أن نعيمة كانت ابنته لما تفوّه بهذا القول. إنه يكيل بمكيالين ويزن بميزانين. شأنه شأن كثير من الناس الذين تتغير مبادئهم، وتتبدل أحكامهم بتبدل الظروف والمواقف.
تماسك وهو يستعيد شريط الذكريات، وتظاهر بالهدوء وسأل :
ـ من هو هذا العريس ؟ أهو واحد من القرية ؟ هل تعرفونه ؟
ـ لا. لا نعرفه، فهو غريب.
عقّب الفتى : هي لا تريده .. هكذا سمعنا.
وأضاف آخر : خالك معجب به ويريده .
رد عبد الله ساخراً بمرارة :
ـ يتزوجه خالي.
ضحك الصبية .. فاجأهم الرد، وتساءل أحدهم بسذاجة :
ـ كيف .. ؟ هل يصح هذا؟
تحركوا نحو البيت، بعد أن تكاملت الصورة في ذهن عبد الله. .صورة القرية وأهلها .. وما يهمه من أخبار وتطورات. وقد سبقهم فتى صغير حافي القدمين، صبغت الشمس بشرته باللون الأسود. وقبل أن يصل عبد الله، كانت أمه وأخته قد خرجتا من الدار وهرعتا لاستقباله.
...........
في بيتهم الصغير المؤلف من غرفتين وفناء تظلله أيام القيظ شجرة توت كبيرة ، تزقزق العصافير على أغصانها و يهد ل الحمام البري، تجمع الجيران وقد سمعوا بقدومه .. توافدوا يلقون عليه التحية، ويهنئون أمه بسلامة العودة... يدخلون ويخرجون دون قرع على الباب أو استئذان. وبعد أن غادروا البيت، سأل أمه :
ـ سافر جاسم .. أليس كذلك ؟
أجابت بلوعة وأسى :
ـ صحيح يا بعد عيني. تركنا وسافر.
ـ متى ؟
ـ منذ شهرين.
ـ إلى أين ؟
ـ قال إنه مسافر إلى الكويت.
ثم أضافت بحسرة : أصلح الله أولاد الحلال .. لعبوا بعقله وأغروه بالسفر.
نظر إليها وفال مشككاً :
ـ أولاد الحلال فقط ؟
قالت وقد أدمع الحزن عينيها :
ـ تقصد خالك ؟ مازالت المشكلة بينهما قائمة. أراد منه قطعة أرض يزرعها ويستثمرها بنفسه فرفض، ولم يرض أن يكون فلاحاً بالأجرة في أرضه.
ـ تقصدين أرضه وأرضك ؟ ألست وريثة ولك الحق فيها مثله ؟
ـ يا بني لا تحمّلني فوق طاقتي ..
ثم صارت تميل برأسها، وتنوح مرددة بحرقة وألم قصيدة شعبية تراثية عن الفراق وضياع العمر و بعد الأحبة.
أحس عبد الله أن جروحها قد تفتقت فقال يلاطفها مداعباً :
ـ ولو يا أم جاسم أنت مازلت صبية. على أية حال نسمع منك قصيدة أخرى غير هذه في وقت آخر. والآن أخبريني ماذا جرى بعد ذلك ؟.
ـ تشاجر مع خاله، وتبادل معه كلاماً واتهامات لا تليق بهما، وصار يذهب مع طلوع الفجر كل يوم إلى المدينة، ولا يعود إلا في المساء.
ـ ماذا يعمل في المدينة ؟
ـ يقف في الساحة منتظراً من يرغب في استئجار عامل حفر أو ردم أو رفع الحديد والإسمنت إلى الطوابق العليا .. وقد باتت فرص العمل قليلة، والأجور لا تتناسب مع الجهد وغلاء المعيشة. فقرر أن يسافر إلى الكويت.
ـ ألا تصلكم رسائل منه ؟
ـ لا. لم تصلنا رسالة أو خبر .. وهذا ما يقلقني .
هز عبد الله رأسه وقال بأسى :

 
ـ هو الآخر يهاجر. أبي تركنا وهاجر إلى السعودية، لما تخاصم مع خالي عندما رفض أن تعودي معه إلا إذا دفع مهرك. فغضب وتركنا وغادر. كان في نيته أن يجمع مالاً ثم يعود ليغيظ خالي ويتزوج امرأة أخرى .. فماذا كانت النتيجة ؟ !
صمت لحظة، وأطرق برأسه إلى الأرض، كأنما يستجمع شتات أفكاره وذكرياته التي تثير أشجانه كلما استعادها، ثم أضاف قائلاً بصوت حزين :
ـ مات بحادث سيارة فور وصوله، و دفن هناك. . في أي أرض ؟ لا ندري. لا أرض له في بلده .. حتى ولا قبر. فهل من غربة بعد هذه الغربة ! هذا هو الواقع، وأي واقع ! كم عانينا وتعبنا وتعذبنا ! عشنا على فتات مائدة خالي وما يتكرّم به علينا من مالنا .. أقصد من مالك. ألست وريثة مثله وشريكته في الأرض والبيت ؟
لا شك أنه شعر بالندم عندما سمع بموت أبي .. لماذا ؟ لأننا صرنا عبئا ً عليه، ولا ريب أنه تمنى لو لم يصد أبي عندما جاء ليأخذنا، أو لو أننا لحقنا به فانتهى منا. نحن نكد و نعمل، ولا نحصل على اللقمة إلا بالتعب والعرق، أما خالي فقـد استأثر بالأرض والبيت، و تفضًل علينا بهذا الكوخ .. نحن يا أمي كالأيتام على مائدة اللئام. حقاً نحن أيتام بعد أن مات أبي. أما خالي فقد تزوج امرأة أخرى، غريبة عنا، وأنجب منها .. إنهم ينعمون بما حرمنا منه والفرق شاسع بيننا.
قالت أمه :
ـ يا بني، لا تجعلني أشعر بالخوف على أخيك. . عسى أن يعود سالماً ويجتمع شملنا من جديد. . أما خالك ـ سامحه الله ـ فقد يغير رأيه ويعطيك قطعة أرض من أرض الصالح .. أرضنا، وهذا حق، ونحن لا نستجديه، بل نحاوره بالعقل. فإذا أخذت نصيبي من تركة أبي .. نعمة وألف نعمة. أما البيت الكبير وما فيه من مال وحلال فهو له، حلال عليه. بيتنا هذا كاف علينا.
زفر عبد الله وقال بأسى :
ـ تصوري يا أمي. . أهل قريتنا جاؤوا يسألون عني ويسلمون علي. ولا شك أن خبر قدومي وصلهم، وبيتهم لا يبعد عنا إلا خطوات، ولم يأت منهم أحد،لا خالي ولا ابن خالي ولا زوجة خالي. يصغرون إن فعلوا. يريدون أن أذهب إليهم وأقدم لهم ولاء الطاعة والاحترام. . وهذا لن يحصل أبداً.
ـ اهدأ يا ولدي، ولا تنس أنه خالك، وهم عياله. والظفر لا يطلع من اللحم .
ثم أضافت : خالد ابن خالك من زوجته الثانية مازال صغيراً. أما فواز فقد التحق بالجيش لأداء الخدمة الإلزامية منذ فترة قريبة. أنت ليس لك علم، أليس كذلك ؟ لكنك ستراه اليوم .. يأتي إليك ويراك، فهو يحبك، ولك عنده مودّة خاصة.
ـ كيف يزورني وهو في الجيش ! هل هو في إجازة ؟
قالت موضحة ببساطة :
ـ فواز يخدم في دير الزور. كأنه ليس عسكرياً يا ولدي .. يذهب صباحا ً ويعود بعد الظهر .. ينام في بيته كل يوم.
ثم أضافت : حظ. الدنيا حظوظ، وحظه يفلق الصخر.
علّق عبد الله ساخراً :
ـ الدنيا حظوظ أم أن خالي دبّر أمره ؟ يا أمي .. الدنيا تغيرت والزمان تبدل .. هذا زمن الشطار و خالي واحد منهم،
ـ ماذا تقصد ؟
ـ لا جدوى من الكلام .. دعينا منهم.
ثم التفت إلى أخته وقال مداعباً :
ـ وأنت يا نعيمة. ما هي أخبارك ؟ لقد كبرت يا ملعونة .أ صحيح ما سمعته من الأولاد ؟
سألت أمه : ماذا سمعت ؟
ـ يقولون .. جاءها عريس. هل هذا الخبر صحيح ؟ ولماذا لم أعرف بهذا الأمر من قبل ؟
انطفأت ابتسامة الفتاة واكفهر وجهها. هبت واقفة وغادرت الغرفة. فالتفت إلى أمه وسألها :
ـ هيا .. قولي أنت. ما هذه القصة التي سمعت بها من الصغار؟ من هو العريس؟
ومن جاء به ؟
ـ لا عروس ولا عريس. لا تشغل بالك. حكاية عابرة راحت وانتهت.
سأل بلهجة حادة :
ـ قلت إنها انتهت، المسألة جد إذاً ؟
سكتت برهة، ثم قالت :
ـ لا جد ولا جدة.
ـ أريد أن أعرف الحقيقة.
ـ نعم .. اسمع. منذ أيام جاء خالك ومعه عريس لأختك ..
قاطعها : شاب أم رجل ؟
ـ رجل.
ـ رجل كبير السن.
ـ عمره من عمر خالك تقريباً.
سألها بتهكم : من أين جاء هذا الرجل الذي هو من عمر خالي تقريباً ؟ هل أعرفه ؟ أهو واحد من القرية ؟
ـ لا، إنه من منطقة البوكمال ومقيم في الكويت منذ سنين.
عقّب عبد الله مضيفاً :
ـ عنده سيارة وهو غني. متزوج وله أولاد شباب. . ربما كانوا متزوجين أيضاً.
ـ كيف عرفت ؟
ـ يا أمي .. المسألة لا تحتاج إلى ذكاء، فقد صارت ظاهرة معروفة، وحكاية تتكرر كل يوم. والمؤسف أن المال يعمي البصر والبصيرة. فلا أحد يسأل عن الأصل والفصل، ولا عن السن والشكل.
ـ أبداً .. ليس الكل، أنا لم أوافق عليه وقلت .. الكلمة لأخويها الغائبين.
ـ وكيف كان موقف خالي ؟
ـ غضب قليلاً وقال : أنا خالها وكبير العائلة وليس لي كلمة! ثم تراجع وقال : ننتظر حتى يأتي أحدهما. و ها قد جئت، وأعتقد أنه سيأتي إليك، أو يرسل في طلبك، ويعرض الأمر عليك.
ـ وأنت .. ما هو رأيك ؟
ـ الرأي لك، أنت رجل البيت. إلا أنني غير مطمئنة ولا أشعر بالارتياح.
ـ وهي .. ؟
سألته : من ؟ نعيمة ؟
رفعت يدها وقالت بنبرة قاطعة : لا تريده.
ثم أضافت :
ـ دع عنك هذه الأمور، و لنضع حداً للحديث في هذه المسائل .. يحلها من لا تغمض له عين .
..............
مساء .. جاء خاله وبرفقته ابنه فواز.
أوقف سيارة ( البك أب ) التي اشتراها في مطلع الموسم أمام بيتهم، وبادر عبد الله الذي خرج لملاقاته معاتباً :
ـ يا ناكر الجميل .. من أول النهار هنا، ولا تقول أرى خالي وأسلم عليه ! على الأقل كنت ترسل من يبلغني بمجيئك !.
بدا لطيفاً ودوداً، أو هكذا يظن من يراه ويسمع عتابه. عانق عبد الله وشدً على يده .. وكذلك فعل فواز.
قال عبد الله :
ـ العفو يا خال .. لم أصل إلا منذ ساعات قليلة، والدار لم يفرغ من الضيوف والزوار.
كان رجب الصالح طويل القامة عريض الصدر ممتلئ الوجه والجسم. تضفي عليه ثيابه الريفية التقليدية هيبة توحي بأنه واحد من شيوخ العشائر. يتمتع بقدر من الذكاء والدهاء، وطلاوة الحديث، وحلاوة اللسان .. كان واثقاً من نفسه، معتداً بها. وقد اكتسب هذه الصفات عندما تطورت أحواله المادية، وتعددت علاقاته مع أشخاص لهم مكانتهم الوظيفية والاجتماعية، وبعد أن صار عضوا ً في مجلس المحافظة، ورئيس الجمعية الفلاحية، وقبل أن يرشح نفسه إلى مجلس الشعب .
يكنّ له أهل القرية الاحترام والتقدير حيناً، ويدارونه أحياناً، ويعرضون عليه مشكلاتهم فيتوسط لهم عند ذوي الشأن والنفوذ من أصدقائه ومعارفه .. أولئك الذين يترددون على بيته أيام الجمع والأعياد، بسياراتهم أو سيارات دوائرهم، فيذبح الذبائح ويقيم لهم الولائم. و يدعو وجهاء القرية ليروا بأعينهم ضيوفه الذين هم من علية القوم في نظرهم.
كلّمه خاله عند عتبة الباب، وقد وقفت أمه إلى جانبه ترحب بأخيها وتلح عليه أن يدخل. إلا أنه لم يفعل، لأنه على عجلة من أمره كما يقول. كانت تريد أن تطوي صفحة الماضي وتفتح صفحة جديدة، وتودّ أن تتحسن العلاقات بينهما. وقد سرّها مجيئه إلى بيتها، ونسيت أو تناست في تلك اللحظة آلام الماضي وما أوقعه بهم من عسف وضيق.
وقبل أن ينصرف التفت إلى عبد الله، وسأله :
ـ إجازة ؟ طويلة أم قصيرة ؟
ـ طويلة جداً.
نظر خاله إليه مستوضحاً فقال :
ـ انتهت خدمتي الإلزامية.
تبدلت ملامح رجب الصالح، وقال وقد تغيرت نبرة صوته :
ـ إذاً جئت لتبقى ؟
ـ نعم.
سأله بجفاء :
ـ تبقى هنا ! في القرية ؟
ـ نعم .. في القرية. ما الغريب في الأمر ؟
أدرك رجب الصالح أنه قد جار عليه بكلامه فغير لهجته وقال :
ـ لا .. لا غرابة. إنما ماذا تعمل في القرية ؟ أقصد ماذا تشتغل ؟
ـ في الأرض.
قطب الخال جبينه وقال باستغراب :
ـ في الأرض ؟ فلاح ؟ أنت تعمل فلاحاً ! أما نسيت أمور الزرع والقلع والقطاف والحصاد، واعتدت حياة نظيفة في الجيش ؟ مالك وللشقاء ؟ دع الهم لأهله وابحث عن مستقبلك في وظيفة أو مهنة أخرى.
لم تغب على عبد الله نواياه .. لا يريده قريباً منه، ولا يريد أن يثير قضية الأرض وحق أمه فيها. تمنى لو أنه ظل في الجيش أو طالت خدمته إلى أمد بعيد.
أما وقد عاد فقد لاحت في الأفق غيوم ماطرة في غير أوانها. و الغيوم الماطرة في غير أوانها كارثة وبلاء على من قصّر أو تأخر في الزرع أو الحصاد .
قال عبد الله : كما تقول أمي .. يحلها من لا تغمض له عين.
أضاف خاله معقباً :
ـ أما كان من الأفضل لك لو أنك تطوعت في الجيش ؟ على أية حال الحديث طويل و هناك موضوع بيني وبينك. تعال إلينا غداً .. لا تنس .. أنا بانتظارك.
أقلعت السيارة مسرعة، وأثارت عجلاتها غبار الطريق فحجبها عن عينيه رغم نور المصباح الكهربائي المتدلي.
سعل عبد الله وسعلت أمه مسرعة إلى الداخل. وقبل أن يغلق الباب همس بمرارة : كيف أنسى ! وهل هذا أمر ينسى ؟ !
 

أمور كثيرة لا تنسى .. أحداث من الماضي القريب والبعيد .. صور طبعت في الذاكرة، تفرعـت في زواياها، وتجّذرت في أعماقها .. صارت جزءاً من الذات، وتركت آثارها على دروب الحياة.

وجوه أليفة لديه قريبة منه.. غابت في ظلام الأيام، وإن ظلت ذكراها لا تفارق الخيال.
جمال .. ابن فياض الناصر، ذاك الوافد من الشمال .. من الجزيرة، عرفه منذ سنين .. منذ أن كانا صغيرين يترافقان على طريق المدرسة، وإلى الحقل والنهر. هذا الصديق لا يراه إلا نادراً وفي أيام الصيف فقط، منذ أن التحق بكلية الطب في جامعة حلب.
تبدّل الأحوال يبدّل الرجال .. هكذا كان يقول في سرّه. لذلك هيأ نفسه لتقبّل الوضع الجديد، على الرغم مما أبداه الصديق من صدق العواطف ونبل المشاعر وصمودها أمام رياح التغيير. إلا أن عبد الله وقد أخذ العبرة من تجارب الآخرين ولاحظ كيف يترفع القريب عن قريبه، وكيف يختلف الأخ مع أخيه إذا ما اختلفت الأحوال، ساوره الشك في استمرار العلاقة بينهما، وإن لم يقطع الأمل ويفقد الرجاء.
كان يراجع نفسه أحياناً ويقول : مازال في الدنيا خير، والعالم لا يخلو من الصالحين وأولاد الحلال .
سمير .. ذلك الفتى اللطيف، الذي يتدفق نشاطا ً وحيوية.. طالما رافقه إلى المدرسة، وشاركه اللعب في بيادر القرية. ولأنه الولد الوحيد بين أربع بنات فقد كان مدللاً في أسرته .. ثيابه جديدة، وجيبه لا يخلو من النقود والحلوى. يحسده الفتيان على ما هو فيه من خير ونعيم. . ينظرون إليه بإعجاب، ويتمنى كل واحد منهم أن يكون هو، أو أن يكون مثله وحيداً لأبويه، علّه يتذوق طعم السعادة، ويحقق ما يتمناه.
وفي ليلة صيف، رافق أصدقاءه الصغار إلى حفلة عرس. . صعدوا إلى سطح البيت، وجلسوا على حافته يتفرجون على الشباب والشابات وقد تشابكت أيديهم في حلقة الدبكة .. أهازيج وزغاريد وغناء، وشاعر يعزف على الناي والمزمار ..
ونقود تنثر فوق رأسه عندما يجثو على ركبته أمام رجل له قدره ومنزلته، أو شاب واقع في حب صبية ويريد أن يلفت نظرها ويستأثر باهتمامها وإعجابها.
مناسبة سعيدة تجمع أهالي القرية .. الكبير منهم والصغير، والغني والفقير، تخفف من معاناتهم وتفرّج كربهم.
ارتفعت الأصوات .. صوت المزمار والمغني، ووقع الأقدام على الأرض في حلقة الدبكة، والعيارات النارية تعبيراً عن البهجة والفرح .. حذرهم بعض العقلاء : توقفوا عن إطلاق النار، لا نريد مأساة فلا تقلبوا العرس إلى مأتم.
من يسمع ! ومن يستجيب !
لا أحد .. إلا بعد وقوع الكارثة .. عندما سقط سمير من فوق السطح، والدم الأحمر يسيل منه كطير مذبوح .. انقلبت الأهازيج والزغاريد إلى صراخ وبكاء وعويل. حملوه إلى أمه التي صعقتها الفاجعة وغابت عن الوعي.
هكذا .. اختارته المنية من بين العشرات.
أسئلة كثيرة ظلّت بدون جواب.
لأنه الولد الوحيد لأبويه بين البنات ؟ لأنه لطيف ومحبوب ومحسود من رفاقه ؟ أم لأن الدنيا لم تبخل عليه بما شحّت به على غيره ؟
لا أحد يدري ..




لا أحد يعرف من هو قاتله. ضاع دمه هدراً، والسلاح القاتل لم يكن بين الأسلحة التي ضبطوها بعد الحادث المفجع، وقاتله ليس بين الذين أوقفوا للتحقيق.
عمر .. ابن المدينة، لم يعرفه عن قرب ولم يره إلا مرتين أو ثلاث .. فتى يافع في السادسة عشرة من عمره، نحيل الجسم، شاحب الوجه .. عيناه زائغتان تحدّقان في الفراغ، صامت لا يتكلم .. قاده أبوه إلى بيت الشيخ أو( السيد ) كما يلقبونه في القرية. أصيب بالفزع والذعر عندما طوّقه الحاضرون وحاصرته العيون، مثل فريسة وقعت في شبكة الصياد. وما إن رآه ( السيد ) حتى مطّ شفتيه وهزّ رأسه قائلاً دون اكتراث :
ـ تأخّرت كثيراً يا رجل.
أحبط الرجل وانهارت عزيمته، وقال بصوت واهن :
ـ ماذا أفعل يا سيد ؟ كنت أعالجه عند الأطباء.
ضحك ( السيد) ساخراً وقال بشماتة :
ـ عند الأطباء ! هل هذا معقول ! وهل مرضه من اختصاصهم ! يدسون أنوفهم في كل شيء. و بالطبع لم يكتشفوا علّته فسمموا جسمه بعقاقيرهم وأدويتهم. ابنك يا رجل ليس مريضاً بواحد من الأمراض التي يعرفونها.
سأله مستوضحاً بخوف :
ـ ما به يا ( سيد ) ؟ ما هو مرضه ؟ بالله عليك اخبرني فقد شغلت بالي.
صمت ( السيد ) لحظة كأنها الدهر .. تعلّقت عينا الرجل بشفتيه .. ثم .. عبس السيد .. تثاءب وارتعش ودمدم بكلمات غير مفهومة، ثم قال بلهجة العارف الواثق من نفسه :
ـ ابنك يا رجل .. معمول له عمل.
ـ ماذا تقول ؟
ـ ولكن لا تقلق .. اطمئن، هناك أمل.


انفرجت أسارير الرجل، وصار يهذي بفرح كالمجنون :
ـ الله يحفظك ويمدّ في عمرك. ما هو علاجه ؟ و ما المطلوب ؟
ـ تتركه هنا بضعة أيام، ثم تعود وتأخذه سالماً معافى كالحصان، بعد أن يتحرر من الجن الذي تلبّسه
ثم استطرد ساخراً :
ـ قال أطباء .. قال ..
ـ وماذا تأمر يا سيد ؟
ـ عيب يا رجل. أنا أعمل لله ولا أتقاضى أجراً ..
ثم تبدلت لهجته وأضاف مبتسماً : إلا إذا كنت مصرّا. أما عندما يتعافى فلن أرضى بأقل من كبش بقرنين.
ـ أنت تأمر يا سيد.
دسّ الرجل في يده مبلغاً من المال. وضعه ( السيد) في جيبه، وقال :
ـ بإمكانك أن تتركه الآن و تعود إلى بيتك.
نظر إليه الرجل، فأدرك ما يدور بخاطره، وقال :
ـ لا تقلق .. اطمئن.
فاضت عيناه بالدموع وهو ينظر إلى ابنه نظرة وداع. ولما أدار ظهره، وهمّ بالانصراف، صرخ الفتى :
ـ أبي .. لا تتركني يا أبي.
بكى الفتى بحرقة وألم .. استحلفه بالله وباسم الأنبياء والرسل والصالحين أن لا يبتعد عنه .. أن لا يرميه بين أيدي الغرباء. رجاه، توسل إليه بحياته وحياة أمه وأخيه. وارتمى على الأرض باكياً ومرّغ وجهه بالتراب.
إحساس غريب تملّكه في تلك اللحظة. لن يراهم مرّة أخرى. لن يرى أمه وأخاه وبيتهم بعد الآن.
تردد الرجل .. تقدّم خطوة وتأخر أخرى. أغمض عينيه ومشى مسرعاً دون أن يلتفت إليه. لئلا يضعف وينهار أمام توسلاته ودموعه، فيتراجع ويعود به إلى البيت.


نادى السيد على واحد من رجاله، وقال مشيرا إلى الفتى :
ـ امسك به، وقيّده.
وضع في قدمه طوقا ً من حديد، من تلك التي يقيدون بها الحيوانات، و ربط السلسلة إلى جذع شجرة كبيرة أمام البيت، أحكم إغلاق القفل، ونزع المفتاح ووضعه في يد السيد.
ثلاثة أيام قضاها الفتى مربوطاً، ينام ويستيقظ ويأكل ويدور حول الشجرة، كحيوان مشدود إلى الوتد، وعلى مقربة منه حمير وبغال وأبقار مربوطة على معالفها.
يقدمون له الطعام في إناء معدني يصد النفس ويبعث على التقيؤ. ويتجمع الصغار حوله في النهار .. يسخرون منه و يحقًرونه، يتلذذون بالضحك عليه وتعذيبه، يقتربون منه ويضربونه، فيرفع يده ويهجم عليهم، لكن القيد يحد من حركته و يحول بينه وبينهم .. مسافة آمنة رسموا لها على الأرض خطاً لا يتجاوزونه، وقد يغررون بطفل صغير ويدفعون به إليه، فيصرخ ويبكي هارباً ويقذفه ويقذفهم بالحجارة.
أما الكبار فما كانوا أرجح منهم عقلاً، ولا أفضل سلوكاً .. فهم لا يترددون في مضايقته والسخرية منه. فإذا ثار وصرخ أو استغاث، ضربه السيد بالسوط حنى يهدأ ويستكين.
تسلية وأية تسلية ! فرجة بالمجان .. عقول قاصرة، وضمائر ميتة .. ماتت ومات الحس الإنساني فيها.
انهار عقله وانهار بدنه .. تحوّل إلى شبح إنسان .. عظم تحت جلد ذابل متغضّن. وبعد أيام مات الفتى.
لم يشعر السيد بالذنب، ولم يكدّر مزاجه إحساس بالأسف والندم. ولم يؤرقه عذاب الضمير. بل قال ببساطة لأبيه عندما جاء يأخذه :


 

ـ انتهت أيامه وهذا هو الحد الذي يعيشه.
ثم أضاف وكأنه حكيم : هذا قضاء الله وقدره .. وعندما يحين أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون أخرى.
وضعوه في تابوت من الخشب على ظهر سيارة .. انطلقت وابتعدت فتصاعد الغبار وحجبها عن عيون القوم الذين تفرّقوا وكأن شيئاً لم يكن .
ما الذي يتذكره عبد الله أيضاً ؟
أحداث الماضي أرّقته، والصور القاتمة الكئيبة حرمته النوم في الليلة الأولى بعد عودته إلى البيت، فلم يغمض له جفن إلا بعد أن انشق الظلام وانبلج الفجر. حاول أن يطوي صفحة الماضي، ويرميها وراء ظهره .. لكنها ظلت تقفز إلى ساحة شعوره وتفرض عليه نفسها بقوة.
..............
في صبيحة اليوم التالي استيقظ متأخراً، فوجد أمامه مائدة إفطار شهية .. بيض مقلي بالسمن العربي، لبن وزبدة وخبز تنور ساخن، شدًته رائحته الزكية بعد أن حرم منها مدة غير قصيرة.
فتح عينيه ورأى أمه تبادره قائلة بلطف :
ـ تأخرت في النوم أيها الكسول .. وكأنك عريس في صباح اليوم الأول.
سألها بسرور وإعجاب وعيناه على المائدة :
ـ ما هذا كله ! أهي وليمة !
ردّت قائلة : هذا من بيت فياض الناصر. جاءت به ابنتهم جميلة .
رفع رأسه والبسمة تعلو وجهه. فقد استيقظت في ذاكرته صورة أخرى أضاءت ظلام ليله الطويل، و أحيت بصيصاً من الأمل والتفاؤل. وقبل أن ينطق بكلمة أخرى أضافت والدته :
ـ الجماعة يعرفون الأصول، ولا يقصّرون أبداً.
سألها باستحياء :
ـ هل هي هنا ؟

ـ من ؟ جميلة ؟ نعم .. هي في فناء الدار مع أختك نعيمة. أرادت أن تسلّم عليك لكنك كنت نائماً.
نادت عليها بصوت عال.
دخلت جميلة برفقة شقيقته، حيَّته بخجل وقالت :
ـ أمي أعدّت لك خبز التنور ..وقالت .. أنت تحبه، ولا شك أنك اشتقت إليه كثيراً.
رفع إليها بصره واختلس نظرات فاحصة، كأنه يراها للمرة الأولى. هل تغيرت ؟ أم هو الذي تغير ؟ وما الذي تغير فيها ؟
جميلة .. في عمر شقيقته، وهي حقاً جميلة .. اسم على مسمى. سمرتها خفيفة، سوداء العينين والشعر، متوسطة الطول، رشيقة القوام، ناعمة التقاطيع والبشرة، متوردة الوجنتين والشفتين.
جميلة .. ابنة فياض الناصر وشقيقة صديقه جمال .. يعرفها من قبل، منذ أن قدمت من الجزيرة، مع أسرتها الهاربة من قضية ثأر ودم، وحطّت العائلة عصا الترحال في قرية الناصرية، بحثاً عن ملاذ آمن ومورد للعيش .. بعد أن تشاجر عمها سعيد الناصر مع واحد من أبناء عشيرة كبيرة في الشمال، وقتله لما تطاول عليه وأهانه أمام الناس. ثم فرّ هارباً واختفى، ولم يعثر عليه أحد، على الرغم من جهود الأمن المكثفة وتحقيقاتهم ومداهماتهم، واستنفار رجال العشيرة وشبابها، وبحثهم الدؤوب في كل قرية، وفي كل مزرعة وبيت. وقيل انه فرّ إلى بقعة نائية، وقيل انه عبر الحدود إلى العراق أو تركيا، وانقطعت أخباره، فلا أحد يدري إلى أي أرض قذفت به الأقدار، وهل هو حي أم ميت.
على أثر مقتل ابن الشيخ، تشتت آل الناصر وتشردوا. تركوا أرضهم وبيوتهم، وفرّوا بعيداً عن موطنهم .. تنقلوا من بلد إلى بلد، ومن قرية إلى أخرى، قبل أن تستقر أسرة فياض في قرية الناصرية.
...............
كانت ليلة شتاء ليست كباقي الليالي .. قاسية، طويلة، عصفت ريحها واشتدّ بردها. وانهمر المطر وبلل الرؤوس والثياب التي التصقت بالأجساد الواهنة المتعبة .. عندما وقفت عائلة فياض أمام بيت المختار في قرية الناصرية. فرقّ لحالهم ومنحهم الأمان والطعام والدفء، وغرفة صغيرة يحتمون بها.
وفي اليوم الثاني قال فياض للمختار إنه يبحث عن عمل، وعن مكان يؤويه وعائلته. ولما سأله المختار : من أين أنتم قادمون ؟. تردد وتلكأ، ثم قال: من أرض الله الواسعة.
أدرك المختار أنهم واقعون في ورطة، ويعانون من ضائقة، وأن المسألة تتجاوز حدود الحاجة والمساعدة المادية .. إنها أكبر بكثير من هذا كله. ولما كان للناس أسرارهم التي لا يفضون بها للآخرين جزافاً، فقد آثر السكوت ولم يطرح عليهم أسئلة أخرى، بل قال : ابشروا خيراً، وأهلاً وسهلاً بكم. و زوّدهم بما يسدّ حاجتهم أياماً. ثم عرض قضيتهم على وجهاء القرية وسألهم تقديم العون والمساعدة. فتقدّم رجب الصالح وعرض عليه أن يعمل فلاحاً في أرضه.
انتقلت العائلة إلى أرض الصالح، وسكنت في كوخ صغير كان مخزنا ً للتبن والعلف، قبل أن تدخل الآلة ويتحول إلى مستودع للأدوات القديمة التي لم تعد لهم بها حاجة.
أرضه تراب، وجدرانه من اللبن والطين، وسقفه من الحطب والقش المغطى بطبقة من الجص الأسود. له نافذة صغيرة وباب من الخشب والصفيح، قليل الارتفاع، يرغم المرء أن يحني رأسه في الدخول والخروج .
عزّلوه ونظفوه ورتبوه وصار سكناً مقبولاً، وجدوا فيه الراحة بعد أن فقدوا طعمها منذ تلك الحادثة المشؤومة .. حادثة القتل التي يدفعون ثمنها دون أن تكون لهم يد فيها.
كان فياض الناصر نشيطاً خدوماً ودوداً، لطيفاً، حلو اللسان. يبتسم رغم ثقل الهم والمعاناة، ويضحك وهو يحبس في أعماقه أنة حزن وألم. فقد حرّم عليه أن يطأ أرضه وبيته في الجزيرة .. مهدور دمه إن فعل .. يقتل كما يقتل كلب أجرب. ولا ذنب له سوى أن القاتل شقيقه، والمقتول ابن شيخ عشيرة له هيبة وسطوة ونفوذ. لم يقبل منهم الديّة، ولم يرض بالصلح بين الطرفين. رفض وساطة الوجهاء وقال بإصرار وتصميم :
ـ ولدي بعشرة، و دمه لن يذهب هدراً مهما طال الزمن.



ظلت قصة مقتل ابن الشيخ وهرب عائلة الناصر سراً، لا يعرفه أحد. إلا أن حدس الناس وتكهناتهم تقول ذلك. . فهم لا يكفون عن السؤال و كشف الأسرار.
خمّنوا ثم تأكدوا عندما اعتقد فياض أن الأزمة انقضت والعاصفة مرّت بسلام، وصارت جزءاً من الماضي، وأن الزمان تغيّر وغيّر ما في النفوس، كما تغيرت أحوال أصحابها، فروى الحكاية كما حصلت، منعاً لأي لبس أو تأويل أو اتهام.
اشتغل بجد ونشاط، من الفجر حتى المساء، وبذل جهداً يفوق طاقة الإنسان، وكذلك فعل أفراد العائلة .. يتناولون فطورهم وغداءهم في الحقل ويشربون من ماء الساقية. لا وقت لديهم للراحة والتسلية. يسابقون الزمن. ولا يعودون إلى البيت إلا بعد أن يحل الظلام.
وفي سنوات قليلة تطورت أحواله فاشترى قطعة أرض صغيرة بنى عليها بيتاً، و استأجر أرضاً من أحد المالكين، واتبع طرقاً حديثة في زراعتها واستثمارها.
تبدّلت نظرة الناس إليه.. إعجاب وشيء من الحسد. صار مثلا وعبرةً. يستشهدون به وبإنجازه، ويحثون أبناءهم على الاقتداء بأبنائه.
جميلة .. ابنة فياض الناصر، تعلمت في مدارس القرية، وتركتها عندما أتمت المرحلة الإعدادية ونجحت بمجموع لا يتيح لها الالتحاق بالثانوية العامة في القرية. أما الثانويات الفنية في المدينة فمن الصعب إن لم يكن من المستحيل على الفتاة الذهاب إليها والعودة منها كل يوم.
أما جمال فقد أتم المرحلة الثانوية في واحدة من مدارس دير الزور .. يقطع الطريق من القرية إلى المدينة على دراجة عادية .. بضعة كيلومترات يمشيها كل يوم .. في الحر والبرد والريح والمطر، فهو أمل الأسرة، ونجاحه هدفها المرتقب.
ولما نجح بتفوق ودرجات عالية، حصل على بعثة دراسية داخلية، و درس الطب في جامعة حلب. وظل صديقاً حميماً لعبد الله على الرغم من أن طريق كل منهما قد اتخذ منحى مغايراً للآخر.
..............
سأل عبد الله نفسه، وهو يسرق نظرات خاطفة إلى جميلة : لماذا لم تلفت نظري من قبل ؟ كانت قريبة مني .. أكلمها وتكلمني، نضحك معاً، أضربها برفق مداعباً، أجرّها من شعرها وأخطف ما في يدها فتركض ورائي .. أمسك بيدها .. أعصرها برفق ثم أضغط عليها فتصرخ وتقول بغنج ودلال :
ـ كفى يا( عبد ).
تلفظ الكلمة وتغمز بطرف عينها. فأرد عليها :
ـ أنا لست عبدًا .. أنا عبد الله.
تشدّد على مخارج الحروف وتكرر : كفى ياعبد.
أضغط على يدها .. تتألم .. تتلوى، فأقول لها : قولي كفى يا عبد الله. وإلا لن أترك يدك.
شعور لذيذ نحسه في ساعات اللقاء. والآن أشعر أنني لا أجرؤ أن أطيل النظر إليها .. لا أقدر أن أتأمل وجهها وأدقق في ملامحها فكيف لي أن أمسك بها وأعصر يدها أو أشدها من شعرها ! أهو الحب ؟ ربما هو كذلك.
جمالها يأسر القلب وفتنتها تسلب اللب، ناهيك عن طيبتها وصفاء نفسها. كل ما فيها تغير .. شكلها، لون بشرتها، شعرها، صوتها. فماذا يقول وكيف يبدأ ؟
سألها : جمال .. ما هي أخباره ؟
قالت وهي تبتسم بفخر واعتزاز :
ـ تقصد .. الدكتور جمال ؟
ـ هل تخرّج ؟
ـ على وشك التخرج. بعث إلينا برسالة يقول فيها انه ينتظر النتيجة.

وأضافت : وقريباً يصبح طبيباً.
ـ وتصبحين أنت أخت الطبيب .
ابتسمت بدلال أضفى جمالاً على جمالها، وتمنى لو أنه يمسك يدها ويعصرها حتى تتأوه وتقول له : كفى يا ( عبد ). فيضغط ويضغط، حتى تقول : أنت لست عبداً، أنت عبد الله. ثم أضاف قائلاً :
ـ وترفعين رأسك عالياً وتتكبرين علينا ؟
قالت بتواضع وخجل :
ـ لا يا عبد الله. العين لا تعلو على الحاجب.
واستطردت بفرح : أحضرنا خروفاً كبيراً .. نذبحه عند قدميه عندما يأتي ومعه الشهادة.
قال مازحا ً بود :
ـ وأنا ؟ ماذا يعنيني إن نحرتم خروفاً أو اثنين ؟
أدركت قصده وابتسمت باستحياء، فتساءل : ترى ! ما هو شعورها نحوه؟
هل تحبه ؟
منذ اللحظة تغير طعم الحياة .. أصبح لها لون ومعنى .هذه الفتاة تثير عواطفه، وتؤجج النار الكامنة في أعماقه منذ زمن طويل. كل كلمة تقولها، كل همسة أو إشارة أو نظرة منها كالغيث تتلقاه أرض عطشى، وكما تبتسم الطبيعة للمطر ابتسم لها، فقالت :
ـ ولو يا عبد ! كيف تقول ذلك ! أنت أول المدعوين، ولك صدر المجلس.
تمنى أن يطول الحديث بينهما فقال :
ـ تقولين .. يا( عبد )؟ مازلت تحنّين للماضي ؟
ثم أضاف : أنا لا أريد صدر المجلس .. أريد ( القلب ).
أطرقت بحياء. هي تفهم ما يرمي إليه، ومع ذلك قالت هامسة :
ـ قلب الخروف ؟ القلب لك يا عبد الله إن كنت تريده ؟
انفرجت أساريره وخفق قلبه ولم ينطق بكلمة.
سادت فترة من الصمت .. كانا يتبادلان النظرات دون كلام. الصمت لغة، والإشارة عبارة تفصح عن المعاني والصور والعواطف. حديث طويل تبادلاه في لحظات الصمت .. حديث وصل إلى أمه وأخته اللتين تنظران إليهما بحب ومودّة.
انتبه عبد الله إليهما وقال :
ـ كبرت جميلة. أليس كذلك يا أمي ؟
احمر وجه الفتاة خجلاً وهمت بالانصراف قائلة : تأخرت .
وأضافت بشيء من المبالغة والمزاح : أمي ستقلب الدنيا على رأسي.
تابعها عبد الله بنظراته وهي تبتعد. أما أمه وأخته فقد كانتا تحدقان به وتبتسمان.

 

لم يذهب عبد الله إلى منزل خاله، ولم يقابله في ذلك اليوم، فقد حرص على أن تدوم اللحظات السعيدة التي تذوق طعمها في الصباح، عندما التقى بجميلة. فلا يفسد متعتها ولا يعكّر صفاءها وروعتها حديث قد يؤدي إلى نزاع حول مسألة الأرض أو جدال بشأن زواج شقيقته من الرجل الغريب.

أمر آخر أدى إلى تأجيل اللقاء بينهما .. ليس إلى ما بعد ذلك اليوم فحسب، بل إلى ما بعد أيام عدّة. إذ هبت عاصفة من الغبار عند الظهيرة، واستمرت إلى منتصف الليل.
كان النهار في أوله صيفياً عادياً .. سماء صافية زرقاء وشمس ساطعة .. هواء نظيف ساكن، وحرارة عالية تلفح الوجوه وتدفع الكائنات الحية نحو الظل.
ثم .. حدث كل شيء بسرعة.
أقبلت عاصفة رملية صفراء وحمراء حيناً، وسوداء حيناً آخر .. جاءت من جهة الجنوب كسيل جارف وليل حالك السواد.
رآها بعض الأهالي تتقدّم من بعيد. فتعالت أصواتهم محذرة منذرة. ترك الناس أعمالهم وهرعوا إلى بيوتهم. نادوا على صغارهم وساقوا دوابهم إلى حظائرها. أوصدوا الأبواب وسدوا المنافذ. ومن كان منهم بعيداً عن داره التجأ إلى أقرب بيت أو احتمى بأي ساتر .. وساد صمت وخوف وترقب.
رفعوا أيديهم إلى الأعلى، واستغفروا الله ورددوا الدعوات. كانوا ينتظرون كمن يرى أمامه قنبلة أشعل فتيلها والنار تسري فيه، ولا يستطيع الحراك.
عاصفة هي أم كارثة ! توقعوا أنها ستقتلع الأشجار وتخرب الحقول وتهدم البيوت وتحولها إلى أنقاض فوق رؤوس ساكنيها، وساورهم شعور بأن هذه هي نهاية الدنيا، فقال بعضهم :
ـ هذا غضب من الله.
وعقّب آخرون مؤيدين : طبعاً .. لأن البشر يستحقون الجزاء عقاباً لهم على ذنوبهم وفساد أخلاقهم .. انظروا إلى بنات المدن ـ اللهم اعف عنا ـ لا حياء ولا شرف. وجوههن مطلية بالأصباغ والألوان، و يتبخترن في الشوارع شبه عاريات. والمصيبة أن الرجل صار يغض النظر عن سلوك ابنته وأخته و زوجته.
علّق أحدهم وقد وجدها فرصة ليفرغ ما في جعبته :
ـ أعان الله الرجل .. يركض نهاراً وليلاً وراء لقمة العيش، ولا وقت لديه لتربية ابنته وتلبية رغبات زوجته.
صدرت هذه الأحكام وأخرى غيرها من أفواه الكثير .. نطق بها عديمو الشرف .. المحتالون والنصابون والكذابون والسارقون والمتملقون، قبل أن ينطق بها الشرفاء والصالحون وأهل الخير. أطلقتها ألسنتهم، أما عيونهم فقد كانت تراقب العاصفة من وراء زجاج النوافذ وهي تزحف نحوهم.
بعض الصغار .. خرجوا من بيوتهم في غفلة عن ذويهم .. دفعهم الفضول وحب المغامرة والاستكشاف لرؤيتها بصورة أكثر وضوحاً.
المسافة الفاصلة بينها وبينهم تتضاءل، ومدى الرؤية بات محدوداً. وحركة ذوائب الأغصان وتطاير الأوراق يشير إلى بدايتها. ولما صارت على مشارف القرية صاح بعضهم : وصلت .. وصلت ..
تكسّرت الأغصان، واقتلعت قطع الصفيح، و تدحرجت البراميل. انقطعت أسلاك الهاتف والكهرباء ومالت أعمدتها أو انتزعت من الأرض. توقفت السيارات عن السير، وأوقفت مضخات الماء عن العمل.
أضيئت البيوت بالشموع والقناديل. والتجأ الأطفال إلى أحضان أمهاتهم بعد أن أمسى النهار ليلاً
ألا ينذر هذا بقيام الساعة ؟ هكذا تصوروا وكذلك يعتقدون.
أضرار جسيمة وخسائر فادحة لحقت بهم، لم يقدروا حجمها إلا في اليوم الثاني، بعد أن هدأت العاصفة، و صفت السماء بعد أن أمطرت رمالاً وغباراً يوماً بطوله.
خرج الناس من بيوتهم كما لو كانوا يغادرون الملاجئ بعد غارة جوية وقصف وتدمير. . صدورهم ملأها التراب ... حلوقهم، عيونهم، أنوفهم، مسـامات جلودهم .. لونهم بلون التراب، ونفوسهم منقبضة كئيبة.
تفقدوا الأضرار والخسائر ..
أسقطت الأشجار ثمارها وتكسّرت أغصانها .. طارت سقوف التوتياء والصفيح، تناثرت أكوام الحطب والتبن والقش، ونام الزرع على الأرض تحت طبقة من التراب كأن أقداماً ثقيلة سحقته.
غابت الألوان .. كل شيء بلون التراب .. الوجوه والثياب وجدران البيوت والأثاث والحقول وماء النهر والسواقي .. لون رمادي كالح حزين .. ومشاعر متناقضة في نفوس البشر .. مشاعر اليأس والأمل، والكفر والإيمان، والاستسلام والتحدي.
منذ الصباح قام الناس الذين اعتادوا مواجهة الأحزان ومقارعة الصعاب وبدأوا وبصورة آلية، ينفضون الغبار وينظفون البيوت والأثاث والأواني والثياب. كانت هذه هي مهمة النساء. أما الرجال فقد انطلقوا إلى الحقول .. ينفضون الغبار عن مزروعاتهم بقطع من القماش وفروع الأغصان الطرية، أو بالهواء الضغوط من آلات الرش التي يحملونها على ظهورهم، فتتطاير ذرات الرمل والتراب عن النباتات بعد أن ذبلت أوراقها وتساقطت أزهارها، و جفت براعمها.
محاولات وعزم وتصميم، وصراع بين الإنسان والطبيعة التي لم تكفّ يوماً عن تحديها له.
وفي أحلك الظروف وأشدها قسوة، يميل الإنسان إلى الضحك والابتسام، والتندّر باستعادة مواقف وتصرفات صدرت عن بعض الناس. أهي وسيلة دفاع عن الوجود والبقاء ؟ قد يكون الأمر كذلك.
ينظر أحدهم إلى الآخر، ويرى الغبار وقد غلّفه بلون رمادي، فيشير إليه ويقول ضاحكاً : صرت مثل( الغريري ). فيرد عليه الثاني : وأنت ؟ ألم تنظر إلى نفسك ؟ أنت تشبه السعدان. ثم يضحكان معاً.
تنصّل الناس عن مواقفهم أو تناسوها، وعادوا إلى طبعهم وطبيعتهم. من قرر أن يتراجع عن الخطأ ويعود إلى الصواب، لم يلتزم بقراره. ومن تعهّد أن يبرئ ذمته و يدفع للناس حقوقهم، عاد إلى التأجيل والمماطلة. ومن فكّر أن يعدل بين زوجاته ولا يفضل الصغيرة على الكبيرة صرف النظر عن الموضوع تماماً.
إلا أن أوقات الفرح والمرح وساعات السعادة المسروقة، قليلة جداً. . عمرها قصير كعمر الزهور، فهم يتوجسون شراً كلما ضحكوا ويخشون أن ينقلب الضحك بكاء والفرح حزناً .. هكذا علمتهم التجربة، وعلى ذلك اعتادوا وتطبّعوا، فهم يقولون بعد كل ضحكة أو فرح : اللهم اعطنا خيرها و جنبنا شرها.
الفرح يعقبه الحزن، والضحك يتبعه البكاء، و لحظة السعادة ما هي إلا بداية المصائب. هكذا توجسوا، وتوجسهم هذه المرة لم يكن خطأً أو مبالغة. فقد حدث ما توقعوه.
سمعوا أصواتاً عالية اختلطت بصراخ وعويل، فأدركوا أن مصيبة قد وقعت. تركوا بيوتهم وهرعوا من حقولهم .. ركضوا صوب النهر وراء من سبقهم، وهم يسألون : ما الأمر ؟ ماذا جرى ؟
جاءهم الرد : سلوم بن خميس البدران .. وجدوه غريقاً عند الشاطئ.
سألوا : كيف ؟ ومتى ؟
كان الفتى عند أقاربه في الجانب الآخر من النهر.. وهذه ليست المرة الأولى، فقد اعتاد أن يقطع النهر سباحة إليهم كلما أراد، وفي بعض الأيام يعبره مرتين أو ثلاث، لاسيما وأن سد الفرات روّضه و حدّ من جريانه.
فاجأته عاصفة الأمس أثناء عودته إلى القرية، وأحس كأنما السماء أطبقت
على الأرض.
أمواج النهر تعصف بها الريح العاتية فتعلو وتهبط، ويداه تضربان الماء تارة وتهويان في الفراغ تارة أخرى.
اندفعت موجة إلى الأعلى ثم هوت فوقه فغاص في الماء ..
تكاتفت عليه قوى الطبيعة .. النهر الهائج وماؤه الذي يقذف به عالياً ثم يشدّه نحو الأسفل .. العاصفة والغبار .. والظلام الذي شمل الكون وحجب الأشياء والصور. .
بدأت قواه تضعف ثم تنهار وتتلاشى.
أقاربه في الجانب الثاني للنهر يعتقدون أنه قد وصل بسلام، سيما أنه غادر قبل العاصفة، وأهله يظنون أنه آثر البقاء وظل عندهم لما أحس بقدومها.
وعندما كان يصارع شبح الموت و يناضل وحيداً من أجل الحياة، ساورته مشاعر شتى، تصوّر نفسه يغوص في الأعماق، دون أن يراه أحد، ولا يحس بفقده إنسان، فشعر بالخوف والفزع، وأدرك أن نهايته باتت قريبة.
بحث بعينيه عن الشاطئ، فلم ير له أثراً وسط العاصفة الهوجاء .. أحس كما لو أنه يسبح في نهر بلا شطآن. اندفع مرّة أخرى، عبثاً يحاول أن يبلغ الشاطئ.
بعد أن ضيّع الجهات، وأثقلت جسده الطحالب والأعشاب المائية، ووقف حاجز الزل في طريقه. استرخى وترك جسده المنهك للأمواج تتقاذفه كريشة تعصف بها الريح.
كان متعباً واهناًً، وقد بدأ اليأس يراوده، بعد أن استجمع البقية الباقية من قواه دون جدوى.
غابت الصور .. تلاشى الأمل، وغرق الكون في الظلام والصمت والسكون.
وعندما قصدت فتاة من القرية نهر الفرات لتملأ صفيحة الماء، انكفأت فزعة مذعورة، بعد أن رأت جسداً عارياً، وقد علق بالطين والطحالب وعيدان الزل التي نمت بكثافة واحتلت الشاطئ .. جذورها تمتد في الرمل والطين وتحت الماء، وفروعها ترتفع إلى الأعلى وتتشابك، لتشكل حاجزا ً يفصل بين الماء واليابسة.
فصرخت بهلع تنادي وتستغيث.
هرع إليها الناس، فأشارت لهم بيدها بعد أن أخرس الهلع لسانها .. سحبوه إلى الشاطئ، وغطوه بعباءة، ثم نقلوه إلى البيت.
كان ماء النهر عكراً يميل إلى الحمرة .
استرجع عبد الله ما رواه الصبية أول أمس، لحظة وصوله إلى القرية، عن النهر وضحيته في كل مرة يتعكّر فيها ماؤه.
قد يكون الأمر مصادفة، فإذا تكررت تحولت إلى ظاهرة تلفت الانتباه وتثير التساؤل، فتنسج حولها الحكايات والأساطير، وترسخ الاعتقادات، وتغدو في نظر الناس حقيقة مطلقة لا ريب فيها.
في صباح اليوم التالي، عاد ماء النهر صافياً رقراقاً، يعكس زرقة السماء وخضرة أشجار الغرب. والذين أصيبوا بالفزع يوم أمس يشعرون اليوم بالراحة والطمأنينة. يردون إلى النهر، ويشربون ويسبحون ويتطهرون.
تدور الأيام دورتها الرتيبة، تشرق شمس وتغرب .. تنصرم ساعات العمر كما يتسرب الماء في أرض رملية .. تطحنهم الحياة برحاها الثقيلة .. عيونهم مسكونة بالصمت، وفرحهم مثل ألق اللحظة الأخيرة.
في الذاكرة صور قاتمة، وعلى البال سؤال : ترى .. من الضحية في المرة القادمة؟ هل هو واحد منا؟ من يدري !
مرّت الأزمة، وانقشعت الغمامة. عادت الأمور إلى طبيعتها، ودفنت الأحزان مثلما دفن الفتى. وقبل أن يجف الطين فوق قبره، جفّت الدموع في المآقي، وعادت الابتسامات تلوح على الوجوه.
رفاقه يلعبون بمرح، وأهله يزاولون أعمالهم اليومية المعتادة، كأن المصيبة حادث عابر لم يغيّر شيئاً في نفوسهم، ولم يرفع من مستوى تفكيرهم واهتمامهم.
أبوه يصرخ في وجه زوجته، لا لأنها لم تطعم أطفالها الجائعين، بل لأنها تأخرت في تقديم العلف للبقرة. وأمه تمنع الحليب عن صغارها لئلا تنقص من قيمته ليرات قليلة. أما أخوته فقد تناسوه وكأنه لم يكن واحداً منهم.
ما إن مضى يوم واحد، بعد أن اقتلعوا أوتاد خيمة العزاء , ورفعوا البسط والوسائد ونقلوها إلى بيوت أصحابها، وحملوا دلال القهوة المرّة والفناجين إلى مكانها في ديوان المختار .. حتى فوجئ عبد الله في الصباح بطرق عنيف على الباب، فسأل :
ـ من هناك ؟
جاءه الصوت :
ـ افتح يا عبد الله، افتح .. أنا أبو صارم.

 
أثار قدوم الرجل قلقاً في نفسه، فتساءل : ما الذي جاء به في وقت مبكر من النهار ؟
ثم اطمأنت نفسه وابتسم، عندما استطرد قائلا ً وكأنه يردد كلمات أغنية :
ـ أنا أبو صارم .. خيال المهرة.
و أبو صارم هو جدوع ولقبه قنيفذ .. واحد من أبناء القرية، نشأ يتيماً فقيراً، وعاش على ما يتصدقون به عليه من طعام ولباس ومال، لقاء خدمات يكلفونه بها .. رجل تجاوز الأربعين من العمر، قصير القامة، قصير اليدين والقدمين، وقد غاص رأسه بين كتفيه كأنما ليس له رقبة. وقد شبهوه بالقنفذ الصغير فحمل هذا اللقب، ولم يعرف إلا به .
وهو بسيط ساذج ومحط سخرية الناس وتهكمهم وتسليتهم، بمن فيهم من الفتيان والأطفال، الذين يتبعونه، وهو على ظهر حماره الصغير، ويصفقون ويهتفون : قنيفذ مال .. قنيفذ مال ..
وما إن يسمعهم حتى يفقد توازنه، فيميل يمينا ويساراً، ويقع على الأرض فيضحكون ويهربون قبل أن يلحق بهم.
يسكن في كوخ صغير من اللبن والقش والطين. لا يفارق حماره أبداً، ولا يترجل عنه ويمشي على قدميه إلا نادراً، مهما كانت المسافة قصيرة. كانا متلازمين دائماً، لا يفترقان، يقوده خفية إلى حقول القمح والقطن فيأكل العشب الأخضر حتى يشبع، وفي موسم الحصاد يجمع التبن والشعير مؤونة له في فصل الشتاء.
يرتدي سترة عسكرية قديمة، يعود تاريخها إلى سنوات الحرب العالمية الثانية، فضفاضة، طويلة تصل إلى مادون ركبتيه. يهتم كثيرا ً بتلميع أزرارها الصفراء. يتأبط عصا غليظة، يستعين بها في طرق الأبواب، وطرد الكلاب، والتلويح للأولاد الذين يلحقون به ويسخرون منه.
عندما فتح له الباب، أدى تحية عسكرية، فقال عبد الله :
ـ لماذا هذه التحية يا أبا صارم ؟ أنا لم أعد في الجيش.
تبدلت ملامحه ومطّ شفتيه الغليظتين، ونظر إليه باستخفاف قائلاً :
ـ هذا يعني أنك صرت مثلنا.
رد عبد الله مبتسماً : نعم.
ـ يعني .. لم تعد لك هيبة. . والله لا هيبة ولا عظمة للرجل إلا بالبدلة العسكرية والرتب والنياشين. .
عبّر عن رأيه وقناعته، وهو يمسح أزرار سترته ويلمّعها بيده.
سأله عبد الله :
ـ ما الأمر يا أبا صارم ؟
رد جدوع أو قنيفذ كما يلقبونه
ـ يا سيدي .. خالك .. أبو فواز، شيخ المشايخ، أرسلني إليك .. يريدك في الحال، عجلاً سريعاً.
ـ لماذا يريدني ( عجلاً سريعاً ) ؟
قال متأففاً بنزق :
ـ لم أسأله عندما أرسلني إليك بالأمس.
ـ و كيف يريدني حالاً وهو أرسلك بالأمس ؟
قال جدوع بنبرة عسكرية :
ـ هذه هي الأوامر .. نفذ ثم اعترض.
ضحك عبد الله وعقّب قائلاً :
ـ تتكلم وكأنك عسكري، مع أنك لم تخدم في الجيش مطلقاً.
زفر قنيفذ متحسراً، وقال : حظي سيئ. وكما يقول المثل .. من ليس له حظ لا يتعب ولا يشقى.
رغب عبد الله أن يمازحه ويتسلى معه، فسأله :
ـ ألم تتزوج يا أبا صارم ؟
أجاب : من ؟ أنا ؟ قريباً إن شاء الله ..
ثم أضاف : لو أنك تسعى لي بالخير عند وضحة الحمود.
ـ من ؟ الطامح ؟
ـ هي بعينها. وهل من واحدة أخرى غيرها !
ـ مازلت تلف وتدور حولها ؟
ـ عنيدة يا عبد الله , عنيدة ..
ـ لأنها طامح، و الطامح لاتقبل إلا برجل على مزاجها.
ـ والله .. لو توافق، أقيم لها عرساً لم تشهد القرية مثله من قبل .. دبكة ومزمار وشاعر .. لا تقل إلا عرس ابنة الشيخ .
ـ يا أبا صارم، كبّر عقلك، هذه تقدّم لها شباب ورجال فرفضتهم، لأنها طامح. ألا تفهم ؟
ـ ماذا تعني ؟ هل تقصد أنهم أفضل مني ؟ سامحك الله يا عبد.
قال عبد الله ملاطفاً :
ـ لا يا أبا صارم .. أنت فيك الخير والبركة. المشكلة هي أنها لا تعطي قدرك حقه، وأنفها مرفوع أكثر من اللازم.
رد قنيفذ متباهياً بثقة :
ـ والله .. إن صارت من نصيبي لأكسره لها، وأروّضها كما تروض المهرة الشموس. وأنا أخوك .. أبو صارم، خيال المهرة
ثم امتطى ظهر حماره، وكرر قائلاً :
ـ لا تنس أن تذهب إلى خالك .. أنا بلغت وما على الرسول إلا البلاغ.
قال له عبد الله مستدركاً :
ـ لكنك لم تدخل البيت، يا أبا صارم.
ردّ عليه : عندي شغل.
ـ أنت دائماً عندك شغل !
قال بغرور واعتزاز :
ـ نعم، أنا دائماً عندي شغل، لأني لست مثل بقية الناس.
وقبل أن يبتعد، التفت إلى عبد الله وقال بنبرة حادة :
ـ هات خمس ليرات.
ضحك عبد الله وهو يقول له : كنت ترضى بليرة واحدة.
ردّ عليه : هذا صحيح، عندما كانت علبة الدخان بليرة. أما الآن، و بعد هذا الغلاء، ماذا أعمل بها ؟ أشتري (سيجارة ) ؟ ولا هذه تشترى بليرة.
ناوله عبد الله خمس ليرات. فحياه وانصرف.
على مقربة منهما وقف صبية وأطفال ينظرون وينتظرون. ولما مرّ بهم هتفوا قائلين : قنيفذ مال، قنيفذ مال. فاختل توازنه، مال ووقع على الأرض، وتعفّر وجهه بالتراب، .ثم نهض وركض وراءهم .. رشقهم بالحجارة و شتمهم، ولعن آباءهم الذين لم يحسنوا تربيتهم.

 
بعد تردد ذهب عبد الله إلى بيت خاله، فاستقبله في غرفة كبيرة، ضاقت على رحابتها بما حوته من مقاعد وثيرة وبسط وسجاد، وستائر على الجدران، و مروحة سقفية وأخرى عمودية، ومصابيح كهربائية .. وبراد ومذياع وتلفزيون ملوّن. وفي وسطها منقل نحاسي مزخرف، عليه دلال قهوة مرّة، كبيرة ومتوسطة وصغيرة.

وفي الغرفة أيضاً .. خزانة من الخشب والزجاج، رصفت على رفوفها أباريق نحاسية و صحون وأكواب و فناجين. . عرضت للتفاخر والتباهي .. يستعمل بعضها نادراً، وبعضها لا يستعمل أبداً.
فيها يستقبل رجب الصالح زوّاره وضيوفه الغرباء وشيوخ العشائر، وأصحاب القرار والنفوذ. . أما الحجرات الأخرى فهي عادية ذات فرش بسيط، للزوجة والأولاد ولـه أيضاً .. فيها يأكلون ويستريحون وينامون، ويستقبلون زوارهم العاديين.
وعندما قاده إلى هذه الغرفة أيقن أنه ما دعاه إليها إلا لأمر هام.
قدّم له لفافة تبغ أجنبي، وهذا ما ضاعف من يقينه، إذ لم يسبق له أن فعلها من قبل. ثم بدأ الحديث قائلاً :
ـ لم تأت .. لو لم أرسل في طلبك، يا ناكر الجميل ..
تلفظ بعبارته الأخيرة كما لو أنها عتاب وود من عزيز ومحب. لكن الرجل عندما وصفه بناكر الجميل فهو يعني ما يقول. وفيها تلميح لم يغب عن ذهن عبد الله .
فتساءل في سره مستغرباً : أي جميل هذا الذي أنكرته يا خال؟ جميلك مع أبي يوم جاء يأخذنا إلى البيت، فوقفت في وجهه، وفرّقت بيننا وبينه ؟ أم جميلك مع أمي وقد حرمتها من حقها في الأرض، وأسكنتها في دار صغيرة وكأنك تتكرم عليها من مالك ؟ أم جميلك معي ومع أخي وأختي ؟
ومع هذا لم يهن عليه أن يقطع الخيط الواهي الذي يربط بينهما، فابتلع غصّته وقال معتذراً :
ـ الظرف لم يسمح .. عاصفة الغبار، وما تركته من آثار مازالت بقاياها، وعزاء ابن خميس البدران و...
ضرب بيده على فخذ ابن شقيقته، وقال ملاطفاً :
ـ ها .. والآن ؟
ولما كان عبد الله حريصاً على أن لا يقطع الرباط الواهي بينهم وبينه .. ذلك الخيط الرفيع الذي يلتف حول أعناقهم ويطوقها باسم القربى، ويجبرهم على الخضوع لإرادته وتقديم التنازلات.. طرفه في يده .. يشدّه متى شاء. فإن تمسكوا برأيهم و عارضوه انقطع الخيط، ووصفهم بناكري الجميل. فقد كتم غيظه وقال وقد أطرق برأسه إلى الأسفل :
ـ أنا بأمرك.
ابتسم رجب الصالح وانفرجت أساريره واعتقد أن حل المسألة معه بات أمراً مفروغاً منه، ومع ذلك فقد ارتأى أن لا يطرق الموضوع مباشرة، بل يمهّد له ويبدأ من زاوية أخرى، فقال وكأنه استدرك مسألة أخرى :
ـ أما كان من الأفضل لو أنك تطوعت في الجيش ؟
ثم أضاف مباشرة :
ـ على أية حال، ليس هذا هو موضوعنا.
ـ وماهو موضوعنا ؟
سأله وفي ذهنه إجابة يتوقعها. فتذكر تلك الحكاية الساخرة التي يرددها عامة الناس، حينما يستدعيهم علية القوم .. فقد قالوا للحمار يوماً : فلان يريدك .. لماذا؟
فضحك الحمار وقال : لماذا يريدني ! إما لنقل الماء أو حمل الحطب.
كذلك هو شأن خاله، إذ قال:
ـ موضوعنا يا عبد، هو زواج أختك. البنت ما عادت صغيرة، والزواج ستر وغطاء للفتاة. هذه سنة الحياة، أم أنا غلطان ؟
أجاب ببرود :
ـ العفو يا خال. كلامك صحيح، وأنت لم تغلط، لكن ....
قاطعه : انتظر حتى أكمل كلامي.
ثم استطرد :
ـ منذ مدّة تقدّم شخص لخطبتها.
قاطعه ثانية :
ـ شاب أم رجل ؟
تلكأ في الجواب، فقاطعه عبد الله :
ـ رجل كبير في السن، متغرّب، متزوج وعنده أولاد.
ـ وكيف عرفت ؟
ـ وهل في القرية أسرار تخفى على الناس ! وصلتني هذه المعلومات قبل أن أتخطى عتبة الدار. والخبر تناقله الصغار قبل الكبار ..
ـ دعني أكمل.
ـ هات ما عندك، تفضّل.
قالها بلهجة جافة، فأضاف رجب :
ـ الرجل غني ويعمل في الكويت. عنده أرض وأملاك في منطقة البوكمال . يدفع مهراً عالياً ويسكنها في بيت مستقل. فماذا تقول ؟
قال عبد الله متسائلاً بنبرة فيها شيء من السخرية :
ـ بيت في الكويت ؟
رد خاله باستغراب :
ـ في الكويت ؟ لا. في قريته .. في منطقة البوكمال.

ـ وهـو .. ؟
ـ يعود إلى الكويت. قلت لك .. عمله هناك. لكنه يأتي إلى قريته وبيته مرّة أو مرتين في العام. ويريد امرأة تقوم بالواجب وترعى شؤون البيت في غيابه.
قال عبد الله وابتسامة ساخرة تلوّن وجهه :
ـ يا خال. هل هذا معقول ! كبير ومتزوج وعنده أولاد، ويأتي في العام مرّة أو مرّتين ! هل هذا زواج ؟ ما الذي يدعونا لقبول عرض كهذا؟ !.
ـ لم لا .. مادام الرجل يوفر لها ما تحتاجه ؟ المسكن واللباس .. والمصروف.
ـ هل هذا كل ما تحتاجه المرأة !
ردّ رجب بعصبية :
ـ ما الذي تحتاجه غير ذلك ؟
قال عبد الله :
ـ السجين يحصل على هذه الأشياء، والسيد يوفرها لعبده .. يا خال، يبدو أننا مختلفان في الرأي تماماً، تفكيرك غير تفكيري، وما يرضيك لا يرضيني. و لهذا لن نتوصل إلى اتفاق.
ردّ عليه غاضباً :
ـ ما الذي ترمي إليه ؟ قلها بصراحة ودون حياء .. قل إنك متعلم ومثقف، وخالك جاهل ومتخلف. أليس هذا هو قصدك ؟
ـ العفو يا خال. المسألة غير ذلك تماماً. و أنت الخير والبركة، فلا تغضب. كل ما أبغيه أن نتحاور بالمنطق والعقل.
ـ لا تكن يابس الرأس. فكّروا بالأمر .. أنت وأمك أختك. سيعود الرجل بعد يومين أو ثلاثة. وهذه فرصة، فلا تضيعوها من أيديكم.
صار الحوار مملاً، يصدّ النفس ويثير النفور، وأراد عبد الله أن يضع للحديث نهاية، فقال :
ـ حسناً. الخير يقدّمه الله.
عاد رجب الصالح إلى لهجته التي بدأ بها، وقال :
ـ لو لم تكن ناكراً للجميل لقلت يا خالي افعل ما تراه مناسباً. أنت كبيرنا ولك حق علينا. وأنا وأمي وأختي طوع أمرك ولا نخرج عن إرادتك. ولكن.. لا .. أنتم جميعاً ناكرون للجميل.
ـ يا خالي ..
ـ اسكت .. لو كنت خالك ـ كما تقول ـ لما أغضبتني !. أنت لا تختلف عنهم في شيء .. مع أنك متعلم.
ثم أضاف بنبرة عتاب :
ـ هكذا تعارض خالك يا متعلم !
مرّت فترة صمت. ينظر كل منهما في وجه الثاني، ثم يرفع بصره إلى الأعلى محدقاً في الفراغ. قبل أن يتجرأ عبد الله ويقول :
ـ يا خالي .. أنت تعرف أن خدمتي العسكرية قد انتهت، وأنا شاب .. آخذ مصروفي من أمي التي تبيع حليب البقرة بنصف ثمنه لذلك المستغل، صاحب الشاحنة الصغيرة .. ولا يعقل أن أظل بلا عمل.
ابتسم خاله مزهواً إذ أيقن أن ميزان القوة قد اختلّ، ورجحت كفته لصالحه، وقال :
ـ أنت أخطأت لأنك لم تتطوع في الجيش.
ـ والأرض ؟
ـ أية أرض ؟
ـ أرضنا .. أقصد أرض أمي، فقد آن الأوان لكي نزرعها بأيدينا.
ضحك خاله ساخراً وقال :
ـ أنت تعمل في الأرض ؟ وبهاتين اليدين الطريتين !. ما نفع الشهادة الثانوية التي تحملها ؟ ما جدوى الدراسة والنفقات وضياع الوقت ! إذا كانت النتيجة أن تعمل فلاحاً مثل أي أميّ أو جاهل ؟ فكّر بعقلك يا ولد.
ـ لقد فكرت .. و رأيت مهندسين زراعيين، شهاداتهم أكبر من شهادتي ويعملون في الأرض.
ـ هذا كلام فارغ. الفلاح فلاح والأفندي أفندي، وإذا تبادلوا الأدوار يعم الفساد ويخرب الكون.
ردّ عبد الله بهدوء وحكمة :
ـ ليس أنت من عليه أن يقول ذلك يا خالي. دعه للإقطاعيين وأصحاب الملايين. أنت فلاح ابن فلاح .. هل نسيت ؟ !.
قال مستنكراً :
ـ أنا ؟
ـ نعم .. أنت. أنت فلاح ونحن فلاحون. أم أن هذا اللقب للاستهلاك والمناسبات فقط ؟ ألم ترشّح لانتخابات مجلس الشعب ضمن القائمة ( أ ) ؟
ـ أنا لا أفهم قصدك.
ـ بل تفهم قصدي. . فلأنك فلاح تحصل على ما يزيد عن حاجتك من القروض والبذار والسماد والعلف .. ولأنك فلاح ..
قاطعه بغضب :
ـ خلاصة القول ؟
ـ أرض أمنا.
ـ أمكم ؟ اسمع يا ناكر الجميل.
 
هل قصّّرت في حقكم أو في حق أمكم ؟ هل نقصكم أو نقصها شيء ؟ أنا أعطيها أكثر مما يعطيها القانون .. حصة الأرض عشرة بالمائة من المحصول .. تأخذه بالتمام والكمال كل موسم.
سكت لحظة ثم أضاف قائلاً :
ـ هذا حقها إن كنت تسأل عن الحق والقانون. أما الشرع فلا يجيز للأنثى أن ترث .. اسأل أهل الخبرة. الأرض للذكور لئلا يدخل بينهم غريب. وعلى أية حال إذا كانت غايتكم بيع الأرض أنا أشتريها منكم.
رد عبد الله مؤكداً :
ـ نحن لا نبيع الأرض. بل نزرعها.
فكّر رجب الصالح .. رأى أنه يخوض حرباً لا يريد أن يخسرها إذا ما لجأوا إلى القانون، فأراد أن يجرب كل الأسلحة، وأن يلجأ إلى المناورة والالتفاف، فقال :


ـ تزرعون الأرض .. ؟ طيب. كلام معقول. تأخذون الأرض الفوقانية.
وقبل أن يعترض عبد الله، أضاف :
ـ منذ الغد، بل منذ اليوم هي لكم .. ازرعوها، احرقوها، افعلوا بها ما تشاؤون.
ضحك عبد الله ساخراً .. تجاوزت ضحكته حدود الأدب التي يلتزم بها. إلا أن الموقف يدعو للضحك. فكأن خاله يخاطب جاهلاً لا يعرف قوانين اللعبة و أسرارها. ثم قال :
ـ أنت تعرف جيداً يا خال أن هذه الأرض غير صالحة للزراعة، بعد أن زحفت الملوحة إليها، وحولتها إلى مستنقع آسن. . الشوك لا ينبت فيها.
ـ استصلحوها .. ألم تقل إنكم فلاحون ؟
ـ لماذا .. ؟ أقصد .. لماذا نحن وحدنا ؟ أنت تعرف أن استصلاحها ليس بالأمر السهل. ويحتاج إلى أموال، وحفر قنوات تصل إلى النهر لغسل التربة وتصريف الماء المالح، وسنوات من العمل، وهذا ما يعجز عنه الأفراد متفرقين، ولا تقدر عليه إلا الحكومة.
ـ جيد. والفرج قريب. فقد وضعت دائرة استصلاح الأراضي خطة عمل، ولم يبق إلا التنفيذ.
هز عبد الله رأسه وقال باسماً :
ـ ( هات عمر .. )
وأضاف بلهجة جادة :
ـ الرأي هو أن نقسم الأرض الفوقانية والجوانية .. لنا النصف في كل منهما. هذا هو العدل والقانون.
زعق به بغضب :
ـ أي عدل وأي قانون ؟ أنت صرت تفهم بالقانون ؟ لا ريب أن أحدهم قد لعب بعقلك. وإلا .. متى كان للمرأة حق في ملكية الأرض ؟ تخرج من بيت أبيها إلى بيت زوجها بثوبها فقط .. حتى الثوب .. يقلعونه عنها لتأخذه أختها. وأمك حملت معها الثياب والفراش والحلي. والآن تريد الأرض ؟ بأي حق ؟ ومن أعطاها هذا الحق ؟
ـ الشرع والقانون.
تفاقمت حدّة المواجهة بينهما، فرفع رجب سلاح التحدي قائلاً :
ـ أمامك القانون إذاً.
فكر عبد الله .. سوف يدور سنوات في حلقة مفرغة إذا ما لجأ للمحاكم. دعاوى وقضاة ومحامون ونفقات، وتأجيل واستئناف وقد يربح الدعوى لكنه سيخسر خاله بكل تأكيد. فقال بهدوء وحكمة :
ـ يا خال. من المعيب أن نلجأ للقضاء والمحاكم.
أصر خاله على تعنته، واستفزه قائلاً :
ـ ليس لك حق عندي يا بن الراشد. ربما نسيت نفسك واعتقدت أنك من عائلة الصالح. حقك هناك، في الرواشدة، عند أعمامك .. فاذهب إليهم وخذه منهم.
أثارت هذه الكلمات شجونه فردّ بهدوء :
ـ أنا لم أنس نفسي، وأنت تعرف أن أبي لم يترك شيئاً. ليس له في الرواشدة شبر أرض .. حتى قبره ليس هناك.
أدرك رجب الصالح أنه قد تصرف معه بقسوة جرحت كرامته، فغيّر من لهجته وقال :
ـ اسكت .. ليس لك كلام معي. وإن كان لابد من الكلام فهو مع أمك فضة التي لم تُحسن تربيتك.
ردّ عبد الله بأسى :
ـ حاضر .. أنت على حق. مشكلتها معك أو مشكلتك معها، ويبدو أنني لم أعرف حدودي.
نهض واقفاً على قدميه، وقبل أن يغادر البيت، لم يستطع أن يكتم غصة في حلقه، فقال بصوت حزين :

ـ ولكن .. لا تنس أنها أمي وأنا ابنها.
..............
مشى على الطريق من بيت خاله إلى بيته بخطى متثاقلة بطيئة .. في صدره ألم وحسرة، فقد قطع خاله الخيط الرفيع بينهما، وسدّ المسالك والدروب، وأطفأ بصيص النور الذي علّق عليه آماله، منذ أن كان يؤدي خدمة العلم على الجبهة، ويصغي إلى توجيهات الضابط، حين اجتمع بالجنود وقال : أنتم تدافعون هنا عن أرضكم بالسلاح، وغداً تعودون إلى مدنكم وقراكم وتدافعون عنها بالعمل ... المعركة مستمرة والنضال لا يتوقف.
توقف عن السير.. راودت مخيلته أفكار وصور .. أرضنا هناك يحتلها الأجنبي وهنا .. من يحتلها ؟
زفر متحسّرا ً. لم يتغير خاله أبداً مع تقدم العمر وطول السنين، ورغم تعدد التجارب. مازال كما هو، بل غدا أكثر طمعاً وأنانية.
وقبل أن يدخل البيت استدار وعاد راجعاً .. مشى بخطى حثيثة، إلا أنه لم يكن قاصداً بيت خاله.
أمه وأخته تنتظران عودته بقلق ولهفة، وشعوره بالضيق والاختناق يدفعه لأن يمشي ويسلك درباً ترابياً ضيقاً ينحدر نحو النهر، وإلى جانبه ساقية قديمة انتصبت على حافتيها أشجار التوت.
وعند شجرة التوت الكبيرة توقف.
تحت الشجرة بقايا غراف قديم، انتزعت بعض أخشابه وسطوله، ونبتت حوله الأعشاب والأشواك، وعلى أعمدته التفت النباتات المتسلقة.
هذا المكان يقصده دائماً عندما يحس بالضيق، منذ أن كان فتى .. يجلس عند جذع الشجرة أو على عموده، حين يكون واقفاً لا يدور. . يقرأ .. أو يكتب شعراً، أو يسترسل مع خيالاته وأحلامه.
عشرات الغراريف كانت تروي الحقول والبساتين. ويطيب للفلاحين أن يقضوا قيلولتهم بجوارها. يستظلون بفيء أشجار التوت والغرب، يتنفسون الهواء النقي، و تنعشهم النسمات اللطيفة. . كلها أوقفت وتحولت إلى بقايا وأنقاض، أو اقتلعت واستبدلت بمضخات تعمل على المازوت.
لم يفكر واحد منهم أن يحافظ عليها. لا قيمة للماضي. لا قيمة للتراث، لا قيمة للجمال في زمن انهيار القيم.
عادات كثيرة تبدلت، وتقاليد اندثرت .. البساطة، الطيبة، الألفة والمحبة، السهر في الليالي على ضوء القمر أو القناديل. . الحكايات، الدبكة ومزمار الراعي، تنانير الخبز و قدور البرغل وأطباق الشعيرية والفتيات اللواتي يتجمعن لفتلها.
كان الفتى يتناول رغيف الخبز من أي تنور، ويقطف حبات البندورة من أي حقل. لا حيطان عالية ولا أبواب مغلقة، قبل أن ترتفع جدران الإسمنت وتقام حواجز الأسلاك الشائكة، وقبل أن تقام الأفران الحديثة، ويصبح الخبز سلعة تباع بالنقود، ويقف الناس صفوفاً طويلة بانتظار الدور. كما يقفون أمام أبواب المؤسسات لشراء السكر والشاي والرز والزيت.
صور الماضي لا تغيب عن ذاكرة الآباء والأجداد .. يطيب لهم الحديث عنها، يستعيدونها ويضيفون إليها من خيالهم ما يزيدها جمالاً ومتعة. فتمتلئ نفوسهم ألماً وحسرة على الماضي الذي ولّى و ولت أيامه ولن تعود.
لماذا يحن الناس دائماً إلى الماضي ؟ هل هو أجمل من الحاضر ؟ أم أن تراكم الهموم على مر الزمن ومع تقدّم السن يزيد من تعلقنا به ؟ أم هو اليأس بعد أن تتضاءل الآمال ؟ أسئلة دارت في عقله وشغلت تفكيره .
تنهّد بأسى ونظر إلى النهر الذي غزت شطآنه أشجار الزل. كانت أجمات صغيرة قليلة يجرفها الفيضان سابقاً قبل أن يلجم النهر ويكبح جماحه. ثم لم تلبث أن امتدّت واتسعت رقعتها وصارت أدغالاً.
هذا النبات الجديد في المنطقة يتكاثر بجنون .. جذوره تمتد في الماء والطين وفروعه تتشابك بكثافة، وتغطي مساحات واسعة على امتداد الشاطئ.
اختفت الرمال النظيفة الساخنة التي كان الصغار يدفنون أجسادهم فيها عندما يسبحون، وتحول الشاطئ إلى دغل كثيف، ومرتع للأفاعي والفئران وأسراب البعوض.
وبعد تردد، اجتاز عبد الله ممراً ضيقاً بين أشجار الزل .. فتحته أقدام الناس والدواب. ولما وصل الشاطئ خلع ثيابه واندفع نحو الماء.


 


كان قرار آل الراشد بشأن زواج نعيمة من ذلك الرجل الغريب قراراً قطعياً لا رجعة فيه. . الرفض التام. لا إغراء، لا مساومة أو تنازل، لا رضوخ للضغط والإكراه، مهما كانت العواقب. ومع هذا فقد رحّب به عبد الله عندما فاجأهم بالزيارة برفقة خاله الذي لم يقطع الأمل تماماً.

هذه هي العادات والأعراف. وهذا ما تفرضه شيم الأخلاق، حتى وإن كان الزائر عدواً أو مطلوباً بثأر ودخل بيت طالبه مستجيراً به.
استقبلهما في غرفته المتواضعة التي ينام فيها و يستريح ويستقبل الضيوف. وظلت أمه وأخته في الغرفة الثانية.
وبعد أن شربوا شاياً وقهوة، تنحنح رجب الصالح وبدأ الحديث قائلاً :
ـ الرجل يطلب القرب، وقد جاء لما سمع بعودتك إلى القرية، وهاهو أمامكم .. ترونه ويراكم، وتسمعون منه ويسمع منكم.
صمت برهة ثم أضاف :
ـ صحيح انه متزوج، وعنده امرأة وأولاد. ولكن هذه ليست مشكلة .. أولاده شباب ولهم أعمالهم .. ما عادوا يحتاجون إليه، بعد أن رباهم وأعطاهم وكفاهم، وامرأته عندها ما يكفيها. باختصار .. لا ينقصهم شيء. والرجل قادر، ويريد الزواج. وهذا أمر حلله الله وما يحلله الله لا يحرّمه البشر.
تكلّم الرجل .. قدّم عرضه .. مهر عال، مال، فلوس .. ردد كلمة فلوس كثيراً. يعتقد أن كل شيء يشترى بالفلوس، فإذا توفرت الفلوس لم تعد هناك مشكلة .
هكذا يفكر، وهذا ما يعتقد. يتكلم باستعلاء، يتصرف بتصنع، ينظر إلى ساعته الثمينة بين آونة وأخرى، يتناول لفافة تبغ أجنبي ويشعلها بقداحته المذهبة.
وعلى إيقاع حبات مسبحته الرتيب تظاهر عبد الله بالإصغاء .. هكذا بدا من عينيه ونظراته، أما فكره فقد ذهب بعيدا، وهو يتأمل شكله ومظهره وسلوكه الذي يدفع إلى السخرية والاستهجان.
لم يتبدّل رأيه، ولم تغير الإغراءات والوعود قراره. القضية هي قضية مبدأ. صحيح أن كثيراً من الناس بدّلوا مبادئهم أو تنازلوا عنها وركضوا وراء المنفعة والمصلحة، إلا أن الخطأ لا يعتبر قاعدة .، والمبادئ لا تراجع عنها .. لا بيع، لا تنازل، لا مساومة .. هكذا تعلّم، وعلى هذا نشأ، وذاك هو نهجه ولن يحيد عنه أو يرضى عنه بديلاً.
هكذا فكر. ولما ساد الصمت وتطلعت العيون إليه بعد أن أفرغ الرجل ما في جعبته، قال :
ـ المسألة غير ذلك تماماً. أهلاً بك كضيف حلّ علينا، أما بشأن الزواج فلا نصيب لك عندنا. .
اكفهر وجه الرجل وتبدل لونه من الأسمر إلى الأحمر فالأصفر، جحظت عيناه .. فتح فمه دهشة واستغراباً، وسأل باستجداء :
ـ لماذا .... ؟
ردّ عليه بثقة :
ـ لأننا مختلفون في كل شيء.
انتفض خاله، وقال بغضب :
ـ ما هذا الكلام ؟ هل أصابك الجنون ؟
كرر الرجل : لم تقل لي لماذا.
أجاب عبد الله ببساطة ساخرة لينهي الجدال ويقطع عليه طريق العودة :
ـ لماذا .. ؟ هكذا. لست بالرجل المناسب.
أحس الرجل أن كرامته قد طعنت، فهب واقفاً وقال مخاطباً رفيقه :
ـ هيا. قم قبل أن نسمع المزيد من الإهانات.
ثم أضاف موجهاً الكلام إلى عبد الله :
ـ اسمع يا عبد .. لولا خالك وكرامته ومنزلته بين القوم ما طرقت بابكم. أما من ناحية الزواج فالنساء أكثر من هم القلب، وألف واحدة تتمنى، والفلوس تفعل كل شيء.
وقف خاله وقال معاتباً بغضب :
ـ لا يا بن الراشد. ما هكذا يكون الرجال .
ـ يا خال. . افهمني...
ـ اسكت .. اسكت. لا تفتح فمك بكلمة أخرى .
شيعهما عبد الله حتى الباب. وحاول أن يبين لهما أنه لم يقصد الإهانة والتجريح، وإنما أراد أن يقول رأيه ويعبر عن موقفه. إلا أنهما لم يصغيا إليه.
دمدم خاله بكلمات خشنة فظة، وقبل أن يبتعد ويلحق بالرجل، التفت إليه وقال بلهجة لوم وعتاب :
ـ نكّست رأسي يا بن فضة، ووضعته في الطين.
وأضاف مهدداً وهو يشير بسبابته :
ـ اسمع يا بن الراشد وتذكر كلامي جيداً .. لن أنسى هذا الموقف أبداً .. والأيام قادمة.
ابتعد الرجلان .. غابا في ظلام الدرب الترابي المتعرج. وعاد هو إلى الدار وفي ذهنه سؤال يحيره : ماذا يبغي خاله من وراء هذه الصفقة ؟ المال ؟ الدعم في الانتخابات القادمة ؟ لاشك أنه يسعى لهذه الغاية، ومن أجلها يفعل أي شيء .
هرعت إليه أمه وأخته. سألته أمه وقد سمعت صراخ شقيقها وتهديداته :
ـ لماذا غضب خالك ؟ هل أسأت إليه ؟
ـ أخوك غاضب علينا دائماً، وأنت تعرفينه جيداً. لم يبق إلا أن أترك له البيت وأمشي.
ردّت أمه جزعة :
ـ تمشي ؟ مثلما فعل أخوك ؟ لا يا بني .. لا، واحد يكفي، كفاني ما لقيت منكم ومنه.
اختنقت بعبراتها، وسالت دموعها. رفعت يديها إلى السماء، وقالت بصوت متهدّج حزين :
ـ لماذا يا رب ؟ لماذا أتحمل كل هذا العذاب !
تفجر الحزن في صدرها أنيناً، بكاءً، حشرجة، وهي تقول :
ـ منذ أن كنتم صغاراً لم أعرف الفرح، لم أضحك، لم أشعر بالسعادة مثل باقي النساء. خالكم من جهة، وأنتم من جهة أخرى. لماذا ؟ أين أذهب ؟ ومن يواسيني ؟ من يخفف حزني ولوعة قلبي ؟ من .... ؟ ماذا فعلت يا رب حتى يكون هذا جزائي ؟.
بكت وناحت مرددة قصيدة تنز عباراتها قهراً و حرماناً. أثارت عاطفة ابنها فدنا منها طالباً السماح، وقبّل رأسها ومسح دموعها. ثم صار يمازحها ويلاطفها ويشد من أزرها.
...................
بعد أن غادر الرجل برفقة خاله بيت الراشد، توافدت إليهم نساء وصبايا. دفعهن الفضول لاستطلاع الخبر ومعرفة ما انتهى إليه الأمر. تحلّقن حول المرأة وابنتها، وفتحن آذانهن وأفواههن وأصغين إلى كل جملة وكلمة.
هززن رؤوسهن مؤيدات .. و وصفن الرجل بفاقد العقل والمتصابي والدنيء .وقالت إحداهن : هذا حال الرجل عندما يكثر المال في يده، إما أن يتزوج وإما أن يقتل أحداً. .
قالت كل واحدة منهن ما عندها. صدر الكلام من طرف لسانها، أما في قرارة نفسها فثمة أمنية تراود فكرها .. ماذا لو أن الرجل تقدّم لها ؟ ولماذا لم يفعل ؟ أم أن الدنيا حظوظ، والخير من نصيب من لا يستحق. والحلاوة تعطى لمن ليس له أضراس .
واحدة منهن ظلت صامتة، تنقّل بصرها بين المرأة وابنتها، وتسرق نظرة خاطفة نحو عبد الله، وهو يدخل غرفته ويخرج منها .. يبادلها النظرة ويدور في عقله ما يدور في عقلها. . ففي أحلك الظروف وأشدها ضراوة وقسوة، حيث تتأزم المواقف، وتكثر الحواجز، وتضيق الدروب، ويشعر المرء أنه غارق في دوامة الأحداث، تائه في بحر من الظلمات ..لا شاطئ ولا ميناء. ويصل به اليأس إلى حافة الانهيار.. يلمع في الأفق البعيد بصيص نور يهدي من ضلّ الطريق، فتهدأ النفس المضطربة، وينتعش الأمل .. ترتسم على الشفتين ابتسامة، ويخفق القلب المتعب كجناحي عصفور صغير يهم بالطيران.
هذه هي الحياة، وهذا سرها. لا تغلق باباً إلا لتفتح آخر، ولا تشتد الأزمة إلا لتنفرج.

 
فبعد أن خرجت النساء و البنات من بيت الراشد، قامت جميلة لتلحق بهن، كانت تتسحب بخطى بطيئة، ثم وقفت ونظرت إليه باستحياء وحيته بصوت ناعم خجول، فردّ على تحيتها ونظر إليها بحب وشوق.
كانا عاجزين عن الكلام .
ولجا دائرة الصمت .. تذكر تلك اللحظات السعيدة، حيث كان يمسك يدها ويشدّ شعرها فتتأوه وتتلوى. كم كانا بسيطين وبريئين ! مثل طفلين يلعبان بكرة معدنية عثرا عليها، دون أن يدركا أنها ما هي إلا قنبلة موقوتة، تنفجر بفعل الشد والضغط والحرارة فتكويهم بسعيرها وتحرقهم بنارها.
كم يتمنى أن يمتلك الجرأة، فيحطم جدار الصمت، ويحرر أشواقه وعواطفه من سجنها، ويعبر لها عن حب جامح عقد لسانه، وجعل منه طفلاً عاجزاً عن التعبير !
سأل نفسه : كيف يبدأ ؟ وماذا يقول ؟
كلمات الحب والشوق واللهفة، مرارة الفراق وعذوبة اللقاء .. تسمعها الأذن كل يوم عشرات المرات، من الصباح إلى الصباح، وكأن الناس لا عمل ولا شاغل لهم إلا الحب. يرددها المغنون في أغانيهم، والشعراء في قصائدهم .. في الإذاعـة والتلفزيون والسينما .. في الكتب والمجلات. في أهازيج الفلاحين في حقولهم، وفي مجالسهم وليالي أنسهم وسمرهم. فيطربون لها، و تصل بهم النشوة ذروتها، يترنحون ويطوحون بأيديهم و رؤوسهم ويصفقون لمغنيها ومنشدها ..
هذا أمر مألوف في عرفهم مرغوب لديهم، لا ملامة عليه ولا اعتراض. أما أن يقولها حبيب لحبيبته أو زوج لزوجته فهذا أمر مستهجن مرفوض، لا تستسيغه آذانهم، ولا تتقبله عقولهم .. حتى لو كان همساً، وراء أبواب مغلقة وستائر مسدلة .
لذلك يلجأون إلى الرمز والتلميح والإشارة. والإشارة تفصح أكثر من العبارة .
رؤية جميلة أطفأت نار الغضب، وألقت ستاراً على خشونة المواجهة بينه وبين خاله، وأعادت الراحة والهدوء إلى نفسه المتعبة.
.............
دارت الأيام دورتها الرتيبة، بعد أن توترت العلاقة بينه وبين خاله. كان كل منهما يتجنب الآخر في الطريق أو يصدّ عنه متظاهراً بأنه لا يراه. ومع ذلك ظل عبد الله متمسكاً بطرف الخيط الرفيع، أملاً بانقشاع الأزمة وزوال التوتر، والعودة إلى الحوار والتفاهم. حيث ظلت المسائل الكبرى معلقة .. وأهمها مسألة الأرض والبحث عن عمل يعيل أسرته ويريح أمه من عنائها.
وفي يوم .. أقبل جدوع على ظهر حماره، يلكزه بساقيه القصيرتين .. يلوّح له بالعصا ويحثه على الجري. لا هرباً من الأولاد الذين يضايقونه ويسخرون منه، ويوقعونه على الأرض كلما صادفوه، بل ليسبق سيارة صغيرة تلحق به، اضطر سائقها للسير وراءه على مهل، ليقوده إلى بيت الراشد.
وكعادته قرع الباب بعصاه قائلاً :
ـ افتح يا عبد الله افتح، أنا أبو صارم.
أدى تحية عسكرية وابتسم لما فتح له الباب، ثم بادره قائلاً :
ـ جئتكم بضيف.
لما رأى عبد الله السيارة البيضاء، ذات اللوحة الكويتية. ساوره شعور بالغم والانقباض .. فكأن الصورة تتكرر ثانية، صورة خاله والرجل الغريب بسيارته البيضاء. فهمس في أذن جدوع بلهجة جافة ساخرة :
ـ أنت مثل طير ابن نبهان. لا تأتي إلا بالأخبار السيئة، فما وراءك يا جدوع ؟
كشّر جدوع وقال معاتباً :
ـ لا يا بن الأكارم، ليس هذا ما أرجوه منك، أنت آدمي و متعلم، فكيف تحكم قبل أن تعرف من هو الضيف، ولماذا جاء ؟
ثم أضاف : هذه المرة .. عليك واحدة
أحس عبد الله أنه قد تسرّع في الحكم، وأساء إلى الرجل الذي اعتاد أن يسمع كلاماً جارحاً من الكبار قبل الصغار. فقال :
ـ على أية حال، أهلاً وسهلاً بك وبالضيف يا أبا صارم.
تبسم جدوع وانفرد ت أساريره عندما لقّبه بأبي صارم، وقال :
ـ نعم. هكذا يكون الكلام بين الرجال يا بن الكرام.
في تلك الأثناء كان صاحب السيارة ينزل منها، ويغلق نوافذها وأبوابها. فدسّ عبد الله في يد جدوع ورقة نقدية من فئة الخمس ليرات. فقلبها بيده قائلاً :
ـ لا والله. هذه المرة لن أقبل بأقل من عشر .. فالرجل جاءكم بالخير، كما أنك أخطأت بحقي وشبهتني بطير ابن نبهان.
وضع الليرات العشر في عبه وانصرف. لم يدخل مع الضيف، لأنه وكما يقول دائماً عنده شغل. وقبل أن يبتعد كان الفتيان يلحقون به ويقولون: مال قنيفذ، مال قنيفذ. وظلوا يهتفون حتى مال وسقط عن ظهر الحمار.
حمل إليهم الضيف القادم من الكويت بعض الهدايا الصغيرة الرخيصة ، ورسالة من جاسم، حمّله إياها لما علم أنه يمر في طريقه بقرية الناصرية.
فتح الرسالة، وبعينين اتسعت حدقتاهما التهم سطورها وصفحاتها التي تجاوزت الثلاث .. قرأها بصمت أولاً، بينما كان الضيف يشرب الشاي. كانت تعابير وجهه تتغير، ما إن تنفرج حتى تنكمش فتزول الابتسامة، وتعلوها تجاعيد الكآبة.
بعد أن انصرف الضيف، هرعت أمه وأخته، وقد كانتا تنتظران بلهفة، وسألتاه عن مضمون الرسالة.
أعاد قراءتها بتمهل وإمعان ...
حملت الرسالة آلاف التحيات، لهم وللأقارب والأصدقاء والجيران، وجميع أهل القرية الذين لم يغيبوا عن فكره أبداً. ولم ينس أن يهدي تحياته إلى خاله وأفراد عائلته ... هذا الخال الذي كان وراء رحيله وغربته.
ضمّن الرسالة أشواقه وحنينه وشعوره بالغربة .. هذا الشعور الذي لازمه منذ أن سافر، والذي يدفعه كل يوم وكل ساعة لترك العمل، والعودة إلى الوطن والأهل. لكنه عاجز عن تحقيق ما يريد، فهو مدين بثمن بطاقة السفر للرجل الذي يستغله ويقاسمه ثمرة عمله وتعبه وشقائه. ولا يسمح له بالعودة إلا بعد أن يسدد قيمتها .. إنه يحتجز جواز سفره، وما من طريقة لفك الأسر والعودة إلا بدفع النقود، وهي غير قليلة.
كانت الرسالة، رغم بساطة لغتها وأسلوبها تضج بالبلاغة والقهر والمرارة .
فهو يسكن مع بعض العمال .. وفدوا من مناطق مختلفة، في غرفة واحدة، لا تصلح زريبة للبهائم .. صغيرة، ضاقت بهم فلا يقدر أحدهم أن يمدّ ساقيه عندما ينام. يعمل ورفاقه منذ الصباح حتى المساء، كالآلات أو الدواب، في منطقة صحراوية، أرضها رمل وهواؤها حار .. قرية الناصرية تعد مصيفاً أمامها.
لا شجر ولا نهر، لا شيء إلا الحرارة ورطوبة البحر الخانقة... ظروف العمل قاسية جداً، لا يحتملها إنسان، لولا الحاجة التي تجعله يغمض عينيه ويبتلع الغصة، ويتجرع كأس العلقم ومرارة الحرمان.
ويتذكر في رسالته تلك الأوقات الرائعة التي قضاها في القرية .. يتذكر النهر والساقية وأشجار التوت والغرب، وأعشاش الحمام والعصافير .. خضرة الحقول وليالي الصيف المقمرة .. السهر والسمر وألعاب الطفولة .. حتى عواصف الغبار يشتاق إليها. والناس وقد جمعتهم الألفة والمحبة، وربطت بينهم العلاقات الاجتماعية برابطة افتقدها في غربته.
ويضيف في الرسالة : هذه لم نعرف قيمتها إلا حين فقدناها. ثم يؤكد على أمنيته في العودة .. إلا أنها لن تكون قبل أن يجمع ثمن ( الفيزا ) ويدفعه للرجل الذي يتاجر بالناس كالعبيد.
كان يكرر بعض الجمل والعبارات في رسالته، بحيث تفصح بوضوح تام عن مدى المعاناة والأوقات العصيبة التي يمر بها. ثم ينهي الرسالة بالتحية والأشواق والسلام على الجميع فرداً فرداً. ويقول أيضاً : أنا بخير، طمئنوني عنكم.
ابتسم عبد الله ساخراً لما قرأ هذه العبارة، وتساءل : أي خير هذا بعد الذي ذكرته !.
ثم أضاف بحزن وألم :
ـ يبدو أنه واقع في ورطة، أو هكذا يشعر. مع أن كثيراً من الشباب يقولون غير ذلك.
أراد أن يخفف من أثر وقع الرسالة على أمه وأخته فقال :
ـ الأيام والشهور الأولى صعبة دائماً. هذه هي المشكلة. وغداً يتبدل حاله ويأتينا بسيارة وهدايا وجيب مليء بالنقود.
كانت أمه وأخته تصغيان عندما قرأ الرسالة، والدموع تنحدر من عيونهما غير عابئتين بالسيارة والهدايا والنقود. وعندما انتهى من قراءة الرسالة، قالت أمه وهي تنشج وتمسح دموعها، وتستعيد ذكرى زوجها الذي هاجر منذ سنين طويلة، ومات في الغربة : المهم أنه حي .. المهم أنه حي.
 
أيام طويلة مشحونة بالقلق والتوتر، تضاعفت فيها معاناته واشتد الحصار، إذ وجد عبد الله نفسه سجين القرية والبيت، يدور في دوامة من الفراغ من الصباح إلى المساء، وينتظر مصروفه اليومي من أمه .. ومن حليب بقرتها التي تبيعه كل يوم، لصاحب الشاحنة الصغيرة.
تنظر إليه أمه بأسى وترق لحاله. وعندما استيقظت عند الفجر للصلاة، فوجئت بغرفته مضاءة على غير العادة، وأحست بوجود حركة فيها، فشعرت بريبة وخوف، فهي تعرف أن عبد الله ينام على السطح في ليالي الصيف، بينما تنام هي مع ابنتها في فناء الدار.
اقتربت من الغرفة بهدوء وحذر ..
كان بابها مفتوحاً، وعبد الله يبحث في حقيبة، وضعت فيها ثياب قديمة وبالية.
سألته مستغربة عما يفعل في هذه الساعة المبكرة، فقال :
ـ كما ترين. .. أرتدي ثيابي.
سألت بتعجّب : هذه .. ؟
أجابها : نعم، هذه. ما بها ؟
ـ لماذا ؟ وإلى أين ؟
ردّ عليها باقتضاب :
ـ إلى العمل.
كان قد قضى ليلته مؤرقاً، يتقلب على فراشه، والأفكار تتصارع في رأسه فتقض مضجعه وتتركه في حيرة وقلق.
قلّب الأمور على وجوهها .. فكّر وحسب وخطط، ثم اتخذ قراره .. يذهب إلى المدينة ويقف في ساحتها مع الواقفين بانتظار فرصة عمل .. أية فرصة، مهما كانت وضيعة أو مهينة. . إذ أن مجرد الوقوف في الساحة يجعله أشبه بالعبد في سوق النخاسة. شأن الشباب الذين ورثوا الفقر والحاجة عن ذويهم، وشأن أخيه جاسم قبل أن يسافر.
عندما كان عبد الله في الجيش، قال الضابط له ولرفاقه، وغالبيتهم من أبناء الفلاحين والعمال وذوي الدخل المحدود : أنتم هنا في الجبهة، تدافعون عن أرضكم ....
تنهّد عبد الله .. كثير من رفاقه لا يملكون أرضاً أو بيتاً، ومع ذلك فهم يعطون ولا يأخذون، وفي الجانب الآخر فئة أخرى، تملك كل شيء، وتأخذ ولا تعطي .
سألته أمه :
ـ ذاهب للعمل ؟ أين ؟
ـ في المدينة.
ـ ماذا تعمل في المدينة ؟ تشتغل أجيراً عند الناس يا بن الراشد ! مثل أخيك ؟ تكرر قصته ؟ والشهادة التي تحملها ؟ والأرض .. ؟
ردّ عليها مبتسماً بسخرية :
ـ الشهادة ؟ الثانوية العامة تسمينها شهادة ؟ إنها لا تطعم خبزاً في هذه الأيام. حملة الشهادات الجامعية يبيعون الخضار على عربات في الساحات والشوارع، ويعملون سقاة في المقاهي والمطاعم، وخدما ً في الفنادق .. ما عادوا يرون غضاضة في الانحناء للزبائن، ومسح الطاولات وحمل الصحون، واستجداء ( الفراطة ) و ( البقشيش ) .. صاروا شحاذين بشهادة. . شحاذين مثقفين كما يطيب للبعض أن يسميهم. أما الأرض فلا حاجة لفتح سيرتها من جديد .. هي مسألة بينك وبين أخيك. أنت تعرفينه وتعرفين موقفه، وأنا لن أتدخل بينكما فأنا ابن الراشد ولست ابن الصالح.


قالت وكأنها وجدت حلاً :
ـ لماذا لا تعمل في التعليم ؟ مهنة محترمة ونظيفة.
ردّ ساخراً :
ـ في التعليم ؟ معلم وكيل ؟ هذه الوظيفة لو توفرت لي فأنا لا أريدها. لا أريد أن أحكم على نفسي بالفقر مدى الحياة. لا يا أمي لا، لقد اخترت طريقي وقررت. هي مرحلة مؤقتة ريثما تنفرج الأزمة و يتبدل الحال.
قالت بجزع :
ـ حالة مؤقتة ؟ ماذا تعني ؟ هذا كلام أخيك جاسم. كان يقول ذلك أيضاً، فهل أنت تفكر مثله وتنوي الرحيل ؟
قال بصوت مخنوق :
ـ جاسم ؟ لا أرى أنه كان مخطئاً. يبدو أنه فكّر جيداً.
قالت بهلع :
ـ لا يا بني .. لا. افعل ما تريد إلا السفر. أنت رجل البيت، أنت عموده، ومن غيرك يبقى لنا ومعنا ؟
عقّب ساخراً :
ـ رجل البيت ؟ تقصدين مثل زويد العطيش ؟
ردت مستنكرة : لا .. فشر زويد.
ـ ولماذا ؟ هو أيضاً رجل البيت بعد وفاة أبيه.
كان زويد، ابن الثالثة عشرة، الابن الأكبر بين أخوته الذكور، له شقيقات أكبر منه سناً .. إحداهن تجاوزت العشرين. وصار رجل البيت في هذه السن عندما توفي والده. وقد تجاوزت سلطته أخوته وأخواته وشملت أمه أيضاً. يأمر فيطاع، يدخن علناً أمام الجميع، ويتصدّر مائدة الطعام. أخته الصغرى تصب الماء على يديه، وينهر الكبرى التي تحمل إليه المنشفة إن تأخرت. ويشتم أخوته وأخواته الصغار ويضربهم بالعصا والحزام. حتى أن أمه تهدد أبناءها وبناتها إذا لم يطيعوها، بقولها : الآن يأتيكم زويد .. و دواؤكم عنده.


قالت أمه : ألا تحاول أن تجد وظيفة أخرى غير التعليم ؟
قال : الوظيفة هي الوظيفة، إن كانت في التعليم أو في غيره، و راتب الوظيفة لا يعادل إيراد حليب البقرة التي تملكينها.
وأضاف متبسما ً :
ـ يعني .. البقرة أحسن من الموظف.
دراجته القديمة كانت بانتظاره، وكان قد تفقدها في اليوم السابق. أخذها وانطلق بها نحو المدينة.
وعندما عاد في المساء مرهقاً، استغرق في نوم عميق .. يشخر ويئن ويهذي بكلمات غير مفهومة.
وفي اليوم الثاني كان يعاني من أوجاع في كافة أشلاء جسده المتعبة، لم تمنعه من النهوض باكراً، وإعادة الكرة مرة أخرى.
ألم البدن ليس بذي قيمة إذا ما قيس بألم النفس. .
الوقوف في الساحة بين العشرات من مختلف الأعمار، والانتظار الطويل الذي يحطم الأعصاب .. اليأس، الركض كالكلاب الجائعة وراء أصحاب العمل .. التوسل والرجاء والمساومة، الألفاظ النابية، والصد والرد ... هدر الكرامة والذل والفشل والخيبة.
هذا الشقاء اليومي يعاني منه، كما عانى منه الآخرون، قبل أن يعتادوه ويصبح جزءاً من حياتهم .. جزءاً من شخصياتهم وطباعهم وغذائهم اليومي. لم يألفه .. يشعر بالخجل من الوقوف في الساحة، ومن الركض والانتظار .. يأنف المشي وراء صاحب العمل كالخادم أو العبد .. عيناه مسمرتان على الأرض، لا يرى أحداً ولا يريد أن يراه أحد.
دقّ بعض الأبواب .. أبواب المصانع والشركات دون جدوى. صدّه أصحابها و مديروها بلطف حيناً وبخشونة أحياناً. أغلقوا الأبواب دونه، كما أغلقوها دون أمثاله من الفقراء والمحتاجين، وشرّعوها أمام غيرهم ممن لا يستحق.
عاد خائباً مرات عدّة. . في حلقه غصة وفي صدره ألم .. وفي الأعلى، في السماء التي كانت زرقاء سحب من الدخان الأسود .. دخان المعامل وآبار النفط والغاز.
يسمع أحياناً من الآخرين .. من أبناء المدينة الذين قلّت فرص عملهم كلمات قاسية ونقداً وتجريحاً. يقولون في وجهه : أنتم يا أبناء الريف أهملتم الأرض، تركتم العمل فيها وجئتم تعملون خدماً وأجراء .. أنتم بلا كرامة، مثل كلاب السوق .. تقتاتون بالفتات وتعيشون على البقايا، والخير وراءكم في الأرض التي أدرتم ظهوركم لها .. عندكم الأرض وتشترون الخضار من المدينة، عندكم القمح وتأكلون خبز الفرن، أنتم أهل السمن العربي وتأكلون السمن المهدرج .. ماذا أنتم ؟ أنتم بشر ؟
أحكام جائرة قاسية ..

 
يتصورون أن أبناء الريف كلهم يملكون الأرض. لا يعرفون الحقيقة، لا يدركون أن مالكين جدد من أصحاب القمصان البيضاء والرمادية أقاموا لهم فيها مزارع و قصور واستراحات. ولا يقدّرون المعاناة التي تدفع أبناء القرى للبحث عن عمل في المدينة، أي عمل، مهما كان وضيعاً يتنافى مع الكرامة.
الفاقة، القهر، الحرمان، الأفواه الفاغرة والبطون التي لم تعرف الشبع .. لقمة العيش التي تسد الرمق بعد أن يدفعوا ثمنها غالياً .. الحد الأدنى من الضروريات لحفظ حياة المرء وبقائه على قيد الحياة .. وأية حياة ؟ آلة تدور وتعطي ولا تتوقف. تعب وإرهاق .. والمردود ضئيل، والموت البطيء يعشش في النفس والجسد.
المعاناة تكبر، ويتجسم القهر عندما يفشل في اقتناص الفرصة، والحصول على عمل، فيعود إلى بيته خائباً خاسراً مهزوماً. فقد مرَت بالساحة سيارة تلتقط بعض العمال .. نظر صاحبها من النافذة إليهم وقد تحلقوا حوله وطوقوه وعرضوا عليه خدماتهم. فأشار بيده قائلاً :
ـ أريد خمسة .. خمسة فقط.
وبلمح البصر قفز عدد منهم على الصندوق الخلفي .
لم تتحرك السيارة. ترجل صاحبها وقال بإصرار :
ـ قلت خمسة .. خمسة فقط.
تبادلوا النظرات، ادعى بعضهم أنه أول من صعد إليها، وقال آخر أنه الثاني. اشتد الجدل بينهم فقال الأول :
ـ يا شباب، فلينزل السادس. هيا لا تعرقلونا.
عيونهم تتطلع إلى عبد الله .. ونظراتهم مسلطة عليه، تقذفه بأسهم من شرر ونار، كما لو كان مذنباً قبضوا عليه بالجرم المشهود. قام باستحياء وقفز من السيارة وابتعد عنها وعنهم، تلاحقه انتقادات المتعهد اللاذعة وضحكات العمال الذين كانوا مثل ديكة تلتقط حبات القمح وتصيح مزهوة، بينما يذبح أحدهم ويسيل دمه أمامهم، بل يلغون مناقيرهم في دمه، ولا يدركون أن الدور آت عليهم لا محالة، ومن نجا من حد السكين هذه المرة لن ينجو منها في مرات قادمة.
يطول الطريق من المدينة إلى القرية، وتعجز الساقان عن دفع عجلة الدراجة إلى الأمام .. يصيبهما الوهن والإعياء .. تتلاحق الأنفاس، يجف الفم والحلق واللسان، تتورّم الشفتان .. يختنق الصدر ويتسارع نبض القلب .. دقات موجعة كوخز إبر حادة أو كسكين تخترق الأضلاع وتطعن الفؤاد.
كل يوم يسلك هذا الطريق، وفرصة العمل لا تأتي كل يوم. .
ذات صباح قطع الجسر المعلق على دراجته متجهاً صوب المدينة، والشمس تنهض بتثاقل كعروس تتمطى في صباحها الأول. الفجر ندي، والهواء عليل منعش، والنفس تواقة للخير والفرح. لكن ذلك لم يدم طويلاً. فقد كان أمام موقع الجسر الصغير أو العتيق كما يطلقون عليه، جمهور كبير من الناس .. عمال على دراجاتهم، موظفون، طلاب مدارس، فلاحون وبائعات حليب وجبن .. شيوخ وأطفال .. وعلى الجانب الآخر حشد مماثل.
بلبلة وفوضى، أصوات عالية، إشارات بالأيدي، أسئلة وأجوبة .. استنكار واستهجان وتعليقات ساخرة لاذعة.
انهار الجسر العتيق .. انهار قبل الفجر. كان خالياً من السيارات والمارّة،
لم يصب أحد بأذى .. دراجة فقط سقطت في الماء تحت الركام .. تركها صاحبها عندما سمع أصواتاً غريبة، تصدر من الأسفل، فأحس بالخطر وفر هارباً ونجا بجلده.
اندس عبد الله في الزحام واقترب ..
الجسر الذي قاوم عشرات السنين، وصمد أمام فيضة ( أبو عبار ) عندما ارتفع مستوى النهر وكاد أن يلامس الرصيف، وتحمّل الناس والدواب والآليات الكبيرة الثقيلة .. انهار تماماً عندما حفروا إلى جانب أساساته لتدعيمها.
كيف خطرت لهم الفكرة ؟ أي عقل هذا الذي يخطط ؟
سمع أحدهم يقول : ليتهم تركوه على حاله.
وعلّق آخر ساخراً : أرادوا أن يكحلوها فعموها.
انهار الجسر .. سقط كفارس مثخن بالجراح .. لم يهزم في ساحات الوغى، بل بطلقة تلقاها من الخلف. وقبل أن يهوي إلى قاع النهر اهتز وارتعد محذراً. وعندما ابتعد الناس، انتفض انتفاضته الأخيرة ثم سقط .. ليصبح مع الأيام ذكرى، صورة تبهت ملامحها كلما مرت الأيام .. فتغيب عن الذاكرة ويطويها النسيان.
عجوز تخطى الثمانين .. ينظر إلى ركام الجسر، ويقول باكياً :
ـ ضاع رفيق العمر، ضاع صاحبي وصديقي، وآخر من بقي لي بعد أن فقدت الأحباب والأصحاب.
عيناه تتكلمان ..
نظرة الأسى أبلغ من الكلمات.
لم يستطع كتمان ما في صدره فقال :
ـ من نحبهم .. لماذا يسقطون واحداً بعد الآخر ؟ لماذا نفقد الأعزاء على قلوبنا؟ ويضيع منا أغلى ما لدينا ؟ لماذا نرميهم وراء ظهورنا ونمشي ؟ وكيف ننسى ؟
اقترب منه عبد الله وأمسك بيده، سأله إن كان يريد العودة إلى بيته فرفض قائلاً بحرقة وألم :
ـ كيف أمشي وصديق العمر يموت أمام عيني ؟!
أيام الطفولة والصبا والشباب .. الدواوين والمجالس، الدير العتيق، الغراريف وأشجار التوت والغرب .. سفن الحطابين. . مواقد النار وخبز التنور، قدور البرغل وحلقات الشعيرية، حفلات الرقص والدبكة، الناي ومزمار الراعي والربابة .. شاطئ الرمل، والنهر الذي كان بحراً قبل أن يتحول إلى ساقية، والشطآن قبل أن تغزوها أدغال الزل والأعشاب والطحالب. . كلها زالت واندثرت. صارت مجرد ذكرى، يستعيدها الكبار ويتحسرون عليها.
و بدون خوف أو وجل، أخذ الرجل الذي أثقلت كاهله السنون يلعن ويشتم من تسبب في انهياره. فقال مستفزاً :
ـ ماذا تركتم يا أبناء الـ ... ؟ قضيتم على كل ما هو أصيل وجميل.
ثم وجّه خطابه إلى الجمهور :
ـ هل تصدقون إذا قلت لكم أن الغزال كان يرعى على مشارف المدينة ؟ وأن بيض القطا يباع بالقروش ؟ أين الغزال ؟ وأين القطا والحمام البري ؟ قضوا عليه وأبادوه. والخيول الأصيلة أين هي ؟ أجزم أنكم لا تفرقون بين الأصيل والكديش.
طبعاً فقد ولّت أيامها و ولى الخير معها.
كان يخاطب أشخاصاً مرئيين، .وآخرين غير مرئيين .. يغيبون عن الساحة، ويختفون عن الأنظار عندما تتأزم المواقف ويغلي الدم في العروق .
سكت لحظة .. كان يغص بكلماته و ينشج مثل طفل صغير، ثم استطرد :
ـ كأن بينكم وبين الخير عداوة وثأر.
وقبل أن ينهار قاده عبد الله إلى بيته مكرهاً .. عيناه غارقتان بالدموع، يلتفت إلى الوراء، ينظر إلى أنقاض الجسر ويجهش بالبكاء.
هزّت كلماته مشاعر الحاضرين، و أحدث كلامه صدى في نفوسهم، فقد تكلم بلسانهم ،وعبّر عما في ضمائرهم. قال ما يود كل واحد أن يقوله ولا يجرؤ.
سأل رجل فوجئ بما سمع : ماذا يقول هذا العجوز ؟ ! هل فقد عقله وتكلم بهذه الطريقة ؟ .
ردّ عليه آخر محاولاً أن يبرر صمته :
ـ ما الذي بقي له في هذه الحياة؟ قدم في الدنيا والأخرى في القبر، لذلك يقول ما يريد.
نظر إليه بعض الواقفين بلوم وتأنيب، فقال مدارياً خجله :
ـ هذه هي الحقيقة .. وإلا لماذا هو وحده من دون الآخرين ينطق بهذا القول ؟
ظل سؤاله دون جواب .. كان الجواب كامناً في صمتهم، وفي الخوف الذي فضحته عيونهم.
.................
بعد انهيار الجسر العتيق، كان على من يقصد المدينة أو يغادرها أن ينحرف يميناً أو يساراً ويقطع مسافة طويلة، ثم يعبر أحد الجسرين الجانبيين، وهذا يستغرق ساعة أو تزيد.
لم يصل عبد الله إلى ساحة المدينة ذلك اليوم، بل عاد إلى القرية وشعور بالأسى والخيبة يلازمه وهو يكرر عبارة واحدة : ( انهار الجسر .. انهار الجسر )
أما الرجل العجوز فقد ظل يأتي إلى موقع الجسر كل يوم .. يجلس قبالته ساعات طويلة، ينظر بصمت إلى ركام الحجارة و عيناه تذرف الدموع، بعد أن ضاقت مساحة الفرح، وتصدّع القلب المتعب الحزين.

 
عواصف الغبار التي تنشط عادة في الخريف وفي الربيع حين تقل الأمطار، هادئة في فصل الصيف .. فترة الاستقرار وسكون الرياح. غير أن نفوس البشر غير مطمئنة. فكلما هبّت نسمة هواء، يتهيأ لهم أنها بداية عاصفة تحمل إليهم ذرات الرمل والتراب .. فتخز الجلد، وتتغلغل في مساماته، وفي الصدر والرئتين.
وفي أمسيات الصيف، بعد أن يعود الفلاحون من حقولهم والعمال من أعمالهم، يقبعون في بيوتهم بصمت أمام شاشة التلفزيون .. هذا الضيف الجديد
ألفوه واعتادوا على متابعة برامجه ومسلسلاته، لا يرفعون أبصارهم عنه إلا في حال انقطاع الكهرباء أو توقف البث. وغدا حاجة ضرورية، بل واحداً من أفراد الأسرة، يفتقدونه إذا تعطّل ونقل إلى التصليح .
حفظوا إعلاناته، كما حفظوا أسماء الممثلين والممثلات، وتناقلوا قصصاً عنهم ابتدعها خيالهم.
الدواوين والمجالس لم تعد كما كانت.
ما عادوا يقصدون مضافة المختار، أو بالأحرى لم تعد هناك مضافة في بيت المختار. ولم يعد للمختار من الهيبة والاحترام كما كان في الماضي، بعد أن صار في القرية موظفون ومسؤولون وضباط من أبنائها.. يقصدهم المختار بنفسه إذا اعترضته مشكلة واستعصى عليه حلها.
والدركي الذي كان يصول ويجول، ويرهب القرية ويرعبها .. ذلك الرجل البدين، ذو الكرش الكبير .. الذي يتصدّر ولائم الثريد المكللة بلحم الغنم أو الدجاج والرز المطبوخ بالسمن العربي. .. الذي يضرب بالسوط والعصا, ويشتم ويلعن آباء الصغار والكبار، والشيخ قبل الفتى، والآدمي قبل المسيء، ثم يجرّ المطلوبين والمخالفين من القرية إلى المدينة سيراً على الأقدام، وراءه ووراء حصانه، وقد قيّد أيديهم بكوفياتهم، ووضع عقالاتهم في أعناقهم، إمعاناً في الاضطهاد والإذلال والإهانة. و إرضاء لغروره، وتأكيداً لقوته وسيطرته.
هذه الصورة المرعبة انحسرت .. راح الدركي و راحت أيامه، صارت جزءاً من الماضي.
والعلاقات تبدّلت، كما تبدّل خبز التنور بخبز الفرن، والسمن العربي بالزيت المهدرج، ومصابيح الكاز بالكهرباء.
القديم والحديث والصراع القائم بينهما.
ظلت جذور القديم راسخةً في نفوسهم، وحلّ الجديد .. لكنه طفا على السطح كالزبد. . تناقض بين الباطن والظاهر .. ازدواجية في المعايير والعادات والآراء والمواقف.
هذا التناقض هو الذي أدى إلى فشل زواج المعلم راغب الياسين، ابن القرية وصديق عبد الله من زهرة ابنة علي الرشيد.
خبر تلقاه عبد الله باستغراب، لما يعرفه عن علي الرشيد من هدوء واتزان وحكمة. . الرجل الذي عرف كيف يربي أبناءه تربية ناجحة صالحة، فصار أولهم ضابطاً في الجيش، والثاني طبيباً في دير الزور، ويتابع الثالث دراسة الهندسة في جامعة حلب. إذ أنه وبعد أن وافق على زواج ابنته زهرة من المعلم راغب الياسين، واتفق مع والده على المهر بحضور عدد من وجهاء القرية .. بعد هذا كله أرسل في طلب راغب، و قال له ببساطة :
ـ الزواج قسمة ونصيب، وأنت ليس لك نصيب عندنا.
أراد راغب أن يعرف سبباً واحداً لهذا الرفض المفاجئ. لكن علي الرشيد أسكته قائلاً : كلمة واحدة، لا أنت لها ولا هي لك.
سرت همهمات وهمسات في القرية، وعرف منها راغب أن شخصاً آخر تقدّم لها وعرض مهراً يفوق ما اتفقا عليه بمرات. . وأن أهلها قبلوا بعرضه.
قال له عبد الله :
ـ لا تيأس .. نذهب غداً .. نزور ابنه الطبيب و نحدثه. إنه واحد منا، ابن قريتنا وصديق طفولتنا .. أضف إلى ذلك أنه متحضر، وعقله غير عقل أبيه.
إلا أن رد الطبيب جاء مخيباً للآمال، مثيراً للدهشة والاستغراب، حين قال بعد تفكير :
ـ هذا حقه. وقيمة المهر من قيمة العروس، وقدره من قدر أهلها بين الناس.
حاولا إقناعه بالحوار، وضربا أمثلة عن زيجات فشلت وكان المال عنصرها الأهم، وأخرى عانت فيها المرأة من الإساءة والظلم فوق طاقتها، وحوّلت حياتها إلى جحيم.
وعندما أدرك راغب أن الحوار معه لا يجدي، قال له بسخرية :
ـ أنت تقول هذا الكلام، وقد دفعت عشر ليرات .. مهر زوجتك، ابنة المدينة والمتعلمة. فهل هذه هي قيمتها وقيمة أهلها ؟
انتفض الطبيب وردّ عليه بخشونة:
ـ إلزم حدودك يا راغب، واعرف مع من تتكلم.
حاول عبد الله أن يلطّف الجو المشحون بالتوتر والاستفزاز. لكن الطبيب قاطعه قائلاً :
ـ الحديث انتهى، وهذه عيادة وليست مضافة.
فتح الباب وظل ممسكاً بقبضته، فخرجا مسرعين وقد أدركا أنه يطردهما.
ما الذي تغير بصديق الأمس ؟ المظهر أم الجوهر ؟ يبدو أن العلم والدراسة الجامعية لم يغيرا سوى المظهر أما الجوهر فقد ظلّ كما هو .
في طريق عودتهما إلى القرية، كانا غارقين في صمت الصدمة. ينظر عبد الله في وجهه فيرق لحاله، أما هو فقد كانت عيناه جامدتين لا تنظران إلى أحد، ولا ترغبان أن يراهما أحد.
أراد عبد الله أن يخفف عن صديقه .. فصار يمازحه حيناً , ويعدد له أسماء بنات القرية حيناً آخر ليختار منهن واحدة. تظاهر راغب بعدم الاكتراث، وحاول أن يقنع عبد الله بأنه صرف النظر عن مسألة الزواج، وفي الوقت ذاته كانت تومض في ذهنه صورة أخرى، ويسأل نفسه : كيف غابت عنه وهي قريبة منه ؟ ولماذا لم تخطر على باله من قبل ؟
............
بعد أيام جاءهم خاطباً .. يتقدّمه أبوه وأعمامه، فرحبوا بهم. إلا أن فضة الصالح، وقد كانت راضية مسرورة، قالت لهم :
ـ من الواجب أن تطلبوها من خالها.
قال عبد الله مغتاظاً :
ـ خالها ؟ وهل تعتقدين أنه يوافق، بعد أن رفضنا وساطته من قبل ؟
قالت : ومع ذلك .. الواجب واجب، والأصول أصول.
عندما عرضت عليه مسألة زواج ابنتها، جاء رده قاسياً خشناً .. أراد أن ينتقم لكرامته المطعونة .. تحدث كثيراً. سيل من اللوم والعتاب صبّه عليهم .. تجريح وتأنيب. ثم قال أخيراً متظاهراً بالإباء وكرم النفس :
ـ الرأي رأيكم. افعلوا ما تريدون، وأنا لا مانع لدي.
ثم أضاف معاتباً :
ـ وأعتقد أن المسألة منتهية. وأنا آخر من يعلم.
..............
جاءت جميلة إلى صديقتها مهنئة بخطوبتها، لما وصلها الخبر. فشكرتها نعيمة وقالت وهي تغمز بعينها :
ـ عسى أن نفرح بك وبـه ..... قريباً.
أطرقت الفتاة بحياء وخجل، فيما كان عبد الله يختلس النظر إليها.
قالت أمه :
ـ هيا يا عبد الله .. شدّ الهمة، وهات لك عروساً. فمن يعينني في شغل البيت بعد زواج نعيمة ؟
قال عبد الله وهو ينظر إلى جميلة، مبتسماً :
ـ من ترضى بي يا أم جاسم ؟
رفعت جميلة رأسها وشهقت. . هي تعرف أن السؤال موجه إليها. كادت أن تفلت من بين شفتيها كلمة تفصح عن الحب الذي تكنه له، والحلم الذي تتمناه. كادت أن تقول : أنا. لو لم تنتبه إلى نفسها، وتقول باستحياء :
ـ أنت زين الشباب يا عبد الله، و ألف واحدة تتمناك.
قال عبد الله :
ـ ألف ؟ أنا ( شي ) مهم إذاً ؟ هذا كثير. قولي عشرة. .مائة. أما ألف..؟
وأضاف بصوت كالهمس :
ـ وأنا لا أريد إلا واحدة.
احمر وجه الفتاة خجلاً وأغمضت عينيها حياء. فقالت أمه :
ـ أنا لا أمزح يا عبد ..
ردّ عليها بلهجة جادة :
ـ ولا أنا.
استطردت أمه قائلة :
ـ صحيح يا عبد. بعد أن أديت الخدمة العسكرية ورجعت .. لا مبرر لبقائك عازباً. ما عليك إلا أن تشير بإصبعك.
سألها : أين تقعد ابنة الناس، وبيتنا ضيق، والشتاء قادم ؟
ردت أمه : نبني غرفة ثالثة. منذ زمن وأنا أفكر بهذا الحل، وانتظرت عودتك لتتولى المهمة.
عقبت شقيقته بفرح : إذاً. البيت لم يعد مشكلة، والعروس موجودة.
ارتبكت جميلة واحمرت وجنتاها فزادتاها جمالاً وفتنة .. لم تعرف ماذا تقول .. كل الحديث عنها .. قلبها يخفق بقوة، يخيل إليها أنهم يسمعون دقاته، فقالت وكأنها تذكرت ما جاءت من أجله :
ـ نسيت أن أقول لكم أن أخي الدكتور يصل غداً، بعد أن نجح ونال شهادة الطب. وأبي هيأ له الذبيحة، وهو الآن مع بعض الرجال، يسوون الأرض أمام
البيت، ويرشونها بالماء. فقد قرر أن تعقد الدبكة ويستمر الفرح سبعة أيام.
أخذ الحديث منحى آخر. . أدخل السرور إلى قلبه، لكنه انحرف عن مساره الأول .. ذاك الذي داعب عواطفه وغمره بالبهجة وزرع الأمل في نفسه. فرغب أن يعزف مرة أخرى على الوتر ذاته، فقال موجهاً سؤاله إليها :
ـ وأنا ؟ ماذا يعنيني من الذبيحة ؟
سألته : كيف تقول ذلك ؟ ماذا تريد منها ؟
نظر إليها وقال هامساً :
ـ أريد القلب.
قالت بخجل وقد فهمت قصده :
ـ القلب لك يا عبد.
ـ قولي .. يا عبد الله .. أم أنك مازلت تحنين للماضي ؟
قالت
 
على عجل وكأنها تقسم :
ـ القلب لك يا عبد الله.
ثم انطلقت مسرعة، تخشى أن تفضحها عيناها.
هذا الموقف ليس هو الأول، وهذه الكلمات تكررت أكثر من مرة. وفي كل مرة يشعر أنه يلج عالماً جديداً .. لم تهيمُن الرتابة على الموقف، ولم تبهت معاني الكلمات .. بل هي تزداد ألقاً وحرارة.
قالت أمه :
ـ اسمع يا عبد .. القصة صارت معروفة ولا حاجة للإنكار. أنت تريدها وهي تريدك. أهلها طيبون ومحترمون، لا نريد أن يمسهم كلام الناس بسوء. اعتمد وتوكل، قبل أن يسبقك أحد .. نخطبها لك عندما يصل أخوها. . فماذا تقول ؟
أجاب : طيب يا أم جاسم، طيب. كما ترين.
ندّت عنها آهة حزن وقالت :
ـ جاسم ؟ الله يسامحه ويوفقه .. لو أنه ظل هنا ؟
أراد عبد الله أن يخفف من حزنها فقال مازحاً :
ـ لو أنه هنا لما فكرت بزواجي .. ها ... مازلت مصممة أم تراجعت ؟
ثم خرج من الدار ومشى صوب الساحة.
ألقى التحية على الرجال، وشدّ على يد فياض مهنئاً بحرارة، وتناول معولاً وانضم إلى العاملين، يسوي الأرض ويرفع الحجارة والأشواك.
فياض الناصر، هو الآخر يستأنس بعبد الله ويميل إليه. أحب فيه هدوءه واتزانه، كما أثر في نفسه وجهه الحزين، و ملامحه الجادة التي تذكره بملامح ابنه جمال .
..............
في اليوم الثاني كان كل شيء معداً لاستقبال الطبيب الشاب.. البيت والساحة، ومصابيح الكهرباء، وفوانيس الغاز المهيأة للطوارئ .. في حال انقطاع التيار الكهربائي ليلاً. . الخبز والقدر الكبير وموقد النار والحطب.
الحركة في بيت الناصر دائبة نشيطة، ونساء القرية وفتياتها يشاركن في تحضير ما يلزم، ويتهامسن مشيرات إلى جميلة وعبد الله، وفرح قريب قادم .
جدوع، هو الآخر، أبدى اهتماماً زائداً بهذه المناسبة، فقد كان يعطي لهم توجيهاته وإرشاداته، ويبدي ملاحظاته وهو على ظهر حماره. ثم يتنقل من بيت إلى آخر ويدعو الرجال إلى الوليمة، ويؤكد على حضورهم.
أطفال القرية .. ينظرون إلى القدر الكبير، و موقد النار، ويحلمون بوجبة دسمة، لا يرونها إلا في المناسبات.
.................
قبيل الظهيرة، انطلق فياض الناصر إلى المدينة لاستقبال ابنه، فيما انتظر الأهل والأصدقاء والجيران في بيته وفي الساحة.
خلف الحمود هيأ نفسه .. شمّر عن ساعديه، ورفع ثوبه إلى ركبتيه بحزام عريض لفه حول بطنه، عندما أسندوا إليه مهمة ذبح الخروف وسلخه وتقطيعه والإشراف على طهيه. انفرجت أساريره لأنه أول من سيتذوق اللحم و قبل أن ينضج، ثم يملأ بطنه ويرسل إلى بيته وعاءً مليئاً بالثريد والرز و بقايا اللحم والعظام بعد أن يأكل الضيوف، وينفضّ جمعهم.
في يده سكين قاطعة، منذ الصباح، وبين آونة وأخرى يشحذ شفرتها، حتى صارت تقطع الورق، وتعكس ضوء الشمس .. يشير بها حيناً نحو الصغار المجتمعين حوله مداعباً، فيبتعدون ضاحكين ثم يعيدون الكرة ويقتربون أكثر من ذي قبل، فيمسك بأحدهم ويتظاهر بأنه يهم بذبحه، فيصاب الفتى بالهلع .. يصرخ ويبكي، ثم لا يلبث أن يضحك بعد أن يفلت من بين يديه ويهرب .
جرّ الخروف، وطرحه أرضاً، وتهيأ لجزعنقه عندما سمع الصغار يصيحون بأصوات عالية : وصلوا .. وصلوا. ينظر إلى السيارة وهي تقترب، وإلى موضع السكين على رقبة الخروف، ويستعد لنحره عندما يترجل جمال، ويضع قدمه على الأرض.
وقفت السيارة، ونزل منها فياض الناصر ورأسه مرفوع عزة وشموخاً. كان في ذروة الفرح والنشوة، وقد طغى سروره على هدوئه ووقاره.
استقبلتهما النساء بالزغاريد، ونثرن النقود والسكاكر ..
عندما نزل جمال من السيارة كانت سكين حمود على رقبة الخروف تنتظر. وبحركة سريعة تدفق الدم الأحمر.. نفر من الشرا يين وسال على الأرض، وسط الأهازيج والزغاريد ..
طلقة من مسدس .. طلقتان .. ثلاث ..
توقفت الزغاريد، و صمّت الأفواه، وعم الهلع والجزع.
فتحوا عيونهم وآذانهم .. تساءل بعض منهم : ماذا حدث؟ من أطلق النار؟
سال الدم من عنق جمال في اللحظة التي سال فيها من رقبة الخروف. أصابته إحدى الطلقات في صدره، والأخرى في عنقه. فترنح الطبيب العائد تواً إلى قريته بعد تخرجه، وسقط على الأرض.
تعالت أصوات وصرخات : ابتعدوا فقد منعتم عنه الهواء .. هاتوا الماء وعلبة المناديل. اتصلوا بالإسعاف .. أوقفوا السيارة حتى ننقله إلى المشفى .. من الذي أطلق النار ؟
صرخت النساء ..
بكاء وعويل ..
انكبت أمه وأخته فوقه .. احتضنه أبوه .. رفع رأسه و وضعه في حضنه.
ضمّه إليه، بكى بحرقة وألم .. نادى : جمال .. ابني، جمال. امتلأت يداه وثيابه بالدم.
كانت العينان جامدتين .. جمدتهما الدهشة والاستغراب، فكأنهما تسألان : لماذا ؟ لماذا .. ؟
الدم يسيل من صدره وعنقه وفمه .. قواه تتلاشى، والغشاوة تحجب الأشياء عن عينيه .. تغيب الصور والوجوه .. يزحف الظلام، يزحف ويمتد .. يغمر الكون. ويظل السؤال بلا جواب .. لماذا..؟ لماذا..؟
صرخت أخته صرخة رددت صداها ضفاف الفرات وأشجار الغرب. وشقت أمه ثوبها ونثرت شعرها .. لم تأبه لصدرها ورأسها المكشوفين .. سقطت السدود والحواجز، انهار العالم، اجتاحه الطوفان .. وفي لحظة الفاجعة والانهيار تتبدل القيم وتهوي القيم والقوانين .. تسقط مثل اتهام باطل، ويظل الكون مسكوناً بالفجيعة.
قال أحد الرجال :
ـ ضعوا على المرأة ما يسترها.
وقال آخرون :
ـ ارفعوها عنه واحملوها إلى البيت.
انتزعوها عنه بصعوبة .. فقد كانت ملتصقة به .. تطوقه بيديها وتضمه إليها بقوة.
...............
المأساة التي حطت عليهم كالصاعقة، والكارثة التي لم تكن بالحسبان .. أوقعت الناس في حيرة وذهول، وأفقدتهم القدرة على التفكير والتصرف. وعندما أفاقوا من هول الصدمة كانت سيارة ( بك أب ) من صنع أمريكي تنطلق مسرعة نحو الشمال، مخلفة وراءها سحابة من الغبار، وعلى متنها رجال، بينهم حامل المسدس.
مات جمال .. قتل انتقاماً لجريمة لم يرتكبها .. هدر دمه منذ أنْ كان صغيراً وأقدم عمه سعيد الناصر على قتل ابن الشيخ .. وقال الشيخ في ذلك اليوم : ولدي بعشرة. انتظر سنوات طويلة حتى كبر جمال وصار طبيباً , فيكون انتقامه أكثر قسوة، وضربته أشد إيلاماً.
الهروب لم يكن مجدياً، وتقادم الزمن لم يلق ستاراً على الماضي .. ظلت النار تحت الرماد سنوات طويلة، لم تضعف جذوتها ولم يخمد أوارها.
ينسى الناس أموراً كثيرة، أو يتناسونها. أما الثأر فلا ينسى .. يظل كامناً في النفس .. يعشش في الذاكرة ويتبلور في الوجدان، منتظراً فرصته المناسبة.
اغتال الحقد لحظة الفرح، وهوت راية العلم ضحية الجهل ..
وفي الساحة التي أعدّوها لحلقات الدبكة والفرح، نصبوا خيمة العزاء.

 
حزن قاتل في بيت الناصر، وليل حالك السواد ..
لا الليل ليل ولا النهار نهار .. لا يعرفون للنوم طعماً، يقضونه مؤرقين ذاهلين.

ينفرد فياض الناصر بنفسه ساعات طويلة، ويغرق في دوامة الصمت والأسى، يعاني من مرارة القهر واللوعة .. تنفر الدموع من عينيه، ويسأل مستغرباً مستنكراً : جمال .. ؟ لماذا ؟ لماذا يضيع منا هكذا ؟ أ صحيح أننا فقدناه إلى الأبد، ولن نراه ثانية ؟
صورته مطبوعة في الذاكرة، محفورة في القلب، لا تغيب عن الوجدان لحظة واحدة.
عيناه المفتوحتان بدهشة .. نظرة الذهول والاستغراب، تلك النظرة لن ينساها أبداً. دمه المسفوح المتدفق من العنق والصدر والفم .. بقعة حمراء. كم هي واسعة كبيرة !. هدر الدم رخيصاً واختلط بتراب الأرض. . ثم وطئته الأقدام ومسحت أثره.
لماذا .. ؟ لماذا؟
يضج السؤال في أذنيه، فيرد الصدى .. لماذا .. لماذا .. .؟ ويظل السؤال بلا جواب.
أهالي الناصرية كلهم يسألون. أينما التفت وتوجّه. أفراد عائلته الذين كانوا يتلهفون للقائه. صديقه عبد الله، غرفته وكتب الطب المكدسة، ملاعب الطفولة، ومرابع الصبا والشباب .. البيوت والسواقي، أشجار التوت والغرب، والنهر الذي لم يتوقف عن اغتيال الناس.
يناديه بصمت .. يناجيه، يهمس همساً ناعماً. وعندما يتفجر الحزن يصرخ باسمه عالياً، ثم يبكي كطفل صغير.
يتظاهر بالصبر والجلد أمام الناس، وما إن يخلو مع نفسه حتى يتحول إلى شبح إنسان مهزوم، مسحوق حتى العظم.
الأم والأخت غارقتان في السواد .. تذويان كشجرتين تساقطت أوراقهما، وسرى الجفاف في فروعهما .. تذوبان يوما ً بعد يوم، تبكيان بحرقة وألم. بكاؤهما يمزق القلوب ويدمي العيون.
شاخت أمه بسرعة، تقوس ظهرها، وبرزت عروق يديها وتجاعيد وجهها، كأنها كبرت سنين عدة. وفقد وجه شقيقته جماله ونضارته.
لا شيء يعوضهما عنه .. كل ما في الكون لا يعادل خسارتهما.
عبد الله هو الآخر، فاجعته كبيرة، وحزنه بلا حدود. لازمه الحزن منذ طفولته، وفي صباه وشبابه .. كبرا معاً. لم يعرف طعم الفرح منذ أن فرًق خاله بينهم وبين أبيه .. لحظات السعادة القصيرة، التي سرقها في غفلة من الزمن انقضت، وانطفأ بريق الأمل الذي أضاء ظلام حياته عندما أحب جميلة.
لا وقت للحب، لا وقت للفرح والسعادة .. هذه محظورات لا يجوز انتهاك حرمتها .. طقوس وثنية يقام الحد على من يحاول أن يتسلق أسوارها، ويرجم من يمارسها. عالمها أغلقت دونه الأبواب، وسدّت المنافذ.
ما الذي بقي له ؟
العلاقة المتوترة الجافة بينه وبين خاله، والعمل الذي قلّت فرصته، والحبيبة التي أقامت الفاجعة بينه وبينها حاجزاَ من الحزن والألم ... مساحات واسعة مقفرة، فراغ كبير .. وهو وحيد غريب بين الناس هكذا يشعر.
كل من أحبهم يغادرون ..
أبوه الذي بهتت ملامحه، أخوه، صديقه، وحبه الذي وئد قبل أن تتفتح براعمه.
ضاقت به الدنيا .. محاصر هو أينما اتجه. هدّ الحزن جسده. يقضي معظم أوقاته وحيداً شارداً هائماً في بحر من الخيالات والأوهام .. يذهب صوب النهر ويندفع نحو الماء، يطفئ النار في أعماقه، يسترخي، وعندما تهدأ نفسه يعود إلى البيت.
قالت له أمه :
ـ أنت تقتل نفسك حزناً يا عبد الله. جمال صديقك وأنت تحبه، ولكن .. انظر إلى نفسك في المرآة. ألا ترى كيف أصبحت ؟ إن لنفسك عليك حقاً.
صمت عبد الله .. ماذا يقول لها ؟ هل يقول أن حزنه ليس على صديقه جمال وحده. بل على كل شيء ؟ على نفسه، وعليهم، وعلى الدنيا بأسرها.
كيف يوضح لها أن القهر يتجاوز حدود قريتهم، ويمتد شرقاً وغربا ً وشمالاً وجنوباً، بعد أن استوطن القلب وأجهز عليه !. وكيف يشرح لها أن كأس المر صار شرابه الوحيد في هذا الزمن !.
أضافت أمه :
ـ عندما نأخذ نصيبنا من أجرة الأرض نبني غرفة أخرى.
وقبل أن ينطق، استطردت :
ـ لا تقل شيئاً. الحياة أخذ وعطاء، يوم لك وآخر عليك. مات جمال وموته ليس علينا بهين. ومع هذا فإن الحياة لا تتوقف .. سيأتي يوم نزوجك ونفرح بك.
همّ أن يقاطعها، فاستطردت تقول :
ـ لا تقل شيئاً. هذه سنة الحياة. وجميلة لك. صحيح أن الوقت الآن غير مناسب، ولكن .. بعد شهور، بعد سنة. لن تبقى الصبية بدون زواج إلى الأبد.
وقبل ذلك يجب أن تكون لك غرفتك الخاصة .. بيتنا ضيق، وقد يعود أخوك في أي وقت .. لذلك سوف نبني غرفة أخرى.
..............

 
وصلت رسالة من جاسم .. جاءت متأخرة.
كان الصيف في أواخره، وعبد الله منصرف إلى إنجاز الغرفة الجديدة .. يشرف على العمال ويساعدهم .. يقدم لهم الطعام والشاي وعلب التبغ، بعد أن اشترى الحديد والإسمنت من السوق السوداء .. فالبناء بدون ترخيص، ولا يحق له أن يشتري المواد من مؤسسة العمران بالسعر النظامي، هذا إن استطاع تجاوز العقبات والعراقيل.
كان مع العمال عندما جاءه جدوع على حماره، والفتيان في إثره، ينادون عليه. وقال له :
ـ المختار يسأل عنك. يريدك في الحال.
ثم أخذ الليرات الخمس وانصرف.
وجد لدى المختار رسالة له من أخيه أرسلها بالبريد وتأخر وصولها.
قرأ سطورها وكلماتها ..
العبارات والتحيات والأشواق ذاتها، و وعد بإرسال مبلغ من المال في مّرة قادمة.
في اليوم التالي كتب له رداً على رسالته، وراح يودعه البريد في المدينة. ولما عاد إلى القرية، فوجئ بالغرفة الجديدة، وقد هدمت جدرانها، وتناثرت حجارتها على الأرض.
أمه وأخته ذاهلتان جامدتان، صعقهما وقع الحدث .. شاحبتان كأن الدم جفّ في عروقهما، وبقايا دموع تسيل على وجهيهما.
سأل هلعاً :
ـ ما ذا جرى ؟ من فعل هذا؟
ردت أخته :
ـ عمال البلدية .. جاؤوا وهدموها.
ـ كيف ؟ ولماذا؟
ـ يقولون إن القرية تخضع للتنظيم، والبناء تم بدون ترخيص.
قال بغضب :
ـ البيت كله بدون ترخيص .. بيوت القرية جميعها بدون ترخيص. القصور والفيلات بدون ترخيص. فما معنى أن النظام لا يطبق إلا علينا فقط ! ثم .. إن القرية خاضعة للتنظيم منذ سنين، والمخططات مازالت قيد الدرس.. كلما سألنا قالوا : انتظروا. إلى متى ننتظر ؟
وأضاف بسخرية تنضح مرارة : ( هات عمر ).
قالت نعيمة : لاشك أن أحداً بلّغهم.
وبصرخة غضب قال :
ـ هو لا أحد غيره، رجب الصالح، أخوك يا أمي .
قالت أمه وقد رأته يخرج عن طوره :
ـ لا تظلم الرجل. خالك لا يفعلها.
ـ بلى. هو. من غيره إذاً ؟
ـ أولاد الحرام كثيرون.
لم يسكت عبد الله بل ظل يصرخ في ثورة غضبه :
ـ هل وصلت المسألة إلى هذا الحد ! و الله لن أتركها له.
همّ بالخروج، فتعلقتا به وأكّدت أمه أن شقيقها لا يمكن أن يقدم على عمل كهذا، فقد جاء إليهم عندما سمع بالخبر، وأبدى استياءه وغضبه، وقال لها : لماذا لم ترسلي في طلبي ؟ كنت أتدارك الأمر لو أنني علمت به قبل وقوعه.
قال عبد الله وهو يشعر بالهزيمة والخذلان :
ـ كل يوم تبنى في القرية غرف وبيوت .. لماذا نحن من دون الناس جميعاً ؟ لماذا..؟
أجابت أمه :
ـ أهلها يا بني .. يدفعون، كما يقول خالك. بالمال يسدون الأفواه، ويغلقون العيون. لو أنك كنت موجوداً تدبرت الأمر معهم. أما نحن فلم نعرف ماذا نفعل، وقد غاب عن ذهني أن أستدعي خالك.
تهالك عبد الله على الحجارة المتناثرة، وأطرق برأسه إلى الأرض. وبعد فترة من الصمت هبّ واقفاً وقال بنبرة حادة :
ـ سأعيد بناءها، وسأعرف كيف أتصدى لهم في المرة القادمة. . حتى لو دفعت حياتي ثمناً لها
بعد الظهيرة صارت الشمس كرة نارية ..
أواخر الصيف ترتفع درجة الحرارة فوق المعدل أحياناً. والناس الذين تحرقهم بأشعتها، يطمئنون أنفسهم قائلين : الصيف يودع. لكن الوداع قد يطول ويمتد أياماً وأسابيع.
وقبل أن يغادر عبد الله البيت، نظر إلى الحجارة المتناثرة وقد شغلت حيزاً من فناء الدار. أمه تخشى من أنه مازال حاقداً على خاله، شاكاًَ بضلوعه في مسألة التبليغ والهدم، فسألته :
ـ إلى بيت خالك ؟
قال : لا. أشعر بالاختناق .. أشم الهواء قليلاً وأعود.
ـ والغداء ؟
ـ لن أتأخر عليكم.
...........
كلما ضاقت به الدنيا يذهب صوب النهر. وهذا اليوم يشعر أن الدنيا قد أطبقت عليه بكل همومها.
أعوام خلّفها وراءه .. سنوات جدب وجفاف. لم يعرف للسعادة طعماً، يقتات بالفتات ويعيش على البقايا، رغم التعب والبذل والعطاء.
تعلّقت بثيابه أشواك تحاصر الطريق .. فروعها تطاول قامته، وتمتد إلى كل الجهات. وإلى جانبها ذوت شجيرات صغيرة ذابلة.
حدّث نفسه : الأشواك قوية دائماً، وهذا زمن القوة.
سار على حافة الساقية العالية، ومرّ بالغراف القديم الذي نخر السوس أخشابه. توقف عند شجرة التوت الكبيرة وقد جفّت بعض فروعها. رفع رأسه إلى الأعلى .. ثمة غربان سوداء وقفت على أغصانها. لوّح لها بيديه، قذفها بحجر. ظلت في مكانها ولم تتحرك.
راقب الظلال التي تمسح الطريق وتجتاز المسافات ..
صور تسكن الذاكرة ..
رسوم حفرت بسكين على جذع شجرة. والشجرة تنمو .. تتفرّع، تتشابك أغصانها .. وكذلك الذكريات، لا يمحوها الزمن، ولا يطويها النسيان.
أيتها الظلال الرمادية ..
يا لون الماضي والحاضر ..
يا طعم البؤس المتغلغل في مسامات الجلد والخلايا ..
يا عقد النفس ..
هل أنت قادرة على مسحها ؟
انحدر نحو النهر .. مساحات كبيرة من الشاطئ غزاها الزل بسرعة عجيبة، وعرشت عليها الأعشاب المائية والطحالب.
خلع ثيابه وخطا نحو الماء، فأثارت خطواته رواسب الشاطئ .. تعكّر لونه وفاحت منه رائحة كريهة.
حرارة الشمس تدفعه نحو الماء، والنار التي تستعر في صدره تشدّه إليه. تراجع خطوة أو خطوتين ثم تقدّم وقذف بجسده في أحضان النهر.
شعر برعشة وبشيء من النشوة .. يغريه الماء بالابتعاد عن الشاطئ، شوق جامح يدفعه للسباحة عكس التيار وتحدّيه وقهره.
ضرب الماء بيديه بقوة .. أراد أن يفرغ شحنة الغضب والقهر والحرمان. عام على بطنه وظهره .. غاص في الأعماق ثم طفا على السطح.
ابتعد وابتعد، وعندما توسّط المسافة بين الشاطئين أحس بوخزات من الألم تضرب القلب .. تهاجم الصدر واليد اليسرى. فأدرك أنه قد تجاوز الحد، ودخل منطقة الخطر.
منذ سنوات لم يبتعد عن الشاطئ كثيراً. لم يسبح في مياه عميقة، فهو لم يعد يافعاَ كما أن للنهر طقوسه ومحرماته، ولا يجوز انتهاكها.
في صغره كان يعبر النهر سباحة إلى الجانب الآخر مرة أو مرتين. أما اليوم فقد ارتكب خطأً لم يقدّر عواقبه.
أحس بخوف ورهبة ..
استدار إلى الوراء ..
الشاطئ بعيد، وتيار النهر يدفعه بقوة يعجز عن مقاومتها ..
ألم القلب هذا أحس به أول مرة، عندما كان يرفع أكياس الإسمنت والحجارة إلى الأدوار العليا في المدينة. إلا أن الألم هذه الساعة يهاجم بقوة، يضرب الصدر ويعصر القلب ويشل حركة اليدين. والشاطئ بعيد، وتيار النهر جارف لا يقاوم.
قاوم الألم وقاوم التيار ..
كان وحيداً أمام خصمين قويين.
في الماضي كان هو والنهر صديقين .. سنوات العشق و الألفة بينها تجاوزت عقدين من الزمن .. والآن انقلبا إلى عدوين.
ولما أحس أنه سيغلب ارتسمت في ذاكرته صور الناس الذين أحبهم والأصحاب الذين فارقوه .. أبوه، أخوه، صديقه الغالي بعينيه المفتوحتين بدهشة، وقد استقرّت رصاصات غدر في عنقه وصدره، والدم الذي يسيل من فمه، والسؤال الذي ظلّ بلا جواب.
وفي لحظة اليأس تساءل : هل هذه هي النهاية ؟
ما زال قوس صغير ينقص الدائرة، و وجود بأكمله ينقص الوجود.
صوّب بصره نحو الشاطئ ..
البيوت تتوارى .. حجبها عن ناظريه دغل الزل وأشجار الغرب.
ضرب الماء بيديه .. بذل ما استطاع من جهد وقوة. ومع كل حركة يقوم بها يتصاعد ألمه ويطبق على صدره.
الصور تتلاشى أمام ناظريه. ما عاد يرى سوى قطرات الماء المتطايرة أمام وجهه , ومع هذا ظل ّ يقاوم.
وعندما اقترب من الشاطئ منهكاً، التفت حوله الأعشاب والطحالب، وقيدته كسمكة في شبكة صياد. شدّته إلى الأسفل .. حاول أن يتعلّق بأي شيء دون جدوى.
قلّت حركته، ثم توقفت تماماً.
لقد غلب التيار لكن الطحالب والأعشاب غلبته. أراد أن يتحرر منها لكنها أحكمت حصارها حوله.
المكان فضاء واسع .. لا أثر لكائن من بني البشر ..
شهق مرتين أو ثلاث، ثم غاص إلى القاع. وعلى السطح ظهرت فقاعات صغيرة من الهواء، لم تلبث أن انفقأت وتلاشت. وعاد الماء ساكناً تغطيه الأعشاب والطحالب.
بعد الظهيرة شاهد بعض الفتيان ثياباً مرمية على الشاطئ، ولم يروا أحداً يسبح في النهر. فهرعوا إلى القرية يصرخون ويستنجدون.
هب أهل القرية مذعورين .. جاؤوا من كل صوب، يركضون فزعين غير عابئين بالأشواك التي تخز أقدامهم .. بعضهم جاء حافياً، والآخر بثيابه الداخلية، والنساء سافرات حاسرات الرؤوس.
قفز الشباب وبعض الرجال إلى النهر .. غاصوا في الماء وبين الطحالب والزل.
قلوب الواقفين تخفق بهلع، وعيونهم تنظر بقلق وخوف ..
رفع أحد الرجال رأسه من الماء قائلاً : وجدته .. هيا ساعدوني.
جرّوه إلى الشاطئ. تهامسوا بهلع : عبد الله .. ما أكبر مصيبة أمه وأخته!
حملوا الجسد المسجى على الدرب الترابية صعوداً إلى القرية، وابتعدوا عن النهر الذي عرّش الزل على شاطئه و غطته الأعشاب والطحالب، ولم ينتبهوا إلى لون الماء الضارب إلى الحمرة.
عمّ المكان سكون ما بعد الظهيرة في يوم صيفي قائظ. وعلى شجرة التوت الكبيرة، المحفورة من الداخل، حطّت غربان أخرى .. كانت تقف متراصة على الفروع التي امتد الجفاف إليها .. تلوي أعناقها وتنظر نحو الماء بصمت.

انتهت
 
الوسوم
بلا روايـة شطآن نهر
عودة
أعلى