الطوفان الأزرق

  • تاريخ البدء

خالدالطيب

شخصية هامة
الطوفان الأزرق


[FONT=&quot]وقف الدكتور هالين يتفرج من خلف الزجاج على العاصفة المتوحشة وهي تفترس مطار كيندي الدولي بنيويورك. إلى جانبه كان يقف زميله الياباني ورفيقه في السفر، الدكتور ناتاكا، يحملق في ظلام الليلة الغاضبة في عصبية لا يكاد يخفيها وجهه الشرقي الجامد ونظرته الباردة.[/FONT]
[FONT=&quot]وشعر الدكتور هالين، دون أن يدري لماذا، بخوف من نوع غريب ينتقل إليه من زميله الياباني.ولمع البرق على وجه ناكاتا النحاسي فلاحظ هالين ارتعاش عصب رقيق تحت شفته السفلى، وآخر تحت عينه اليسرى.[/FONT]
[FONT=&quot]وبعد الصمت الذي أعقب انفجارات الرعد المتداركة سمع صوت المطر المتهاطل على أرضية المطار.[/FONT]
[FONT=&quot]وأفاق الدكتور هالين من غيبوبته على صوت الأبواق وهي تعلن رقم رحلته الوشيكة القيام، وتطلب من المسافرين الاتجاه إلى بوابة الإقلاع.وانحنى الرجلان على حقيبتيهما، وانضما إلى الصف في صمت. ولاحظ الدكتور هالين باستغراب عابر انفراج أسارير زميله الياباني، فعزا انقباضه الأول إلى طول الانتظار، وليس إلى الخوف من القيام في العاصفة، كما تصور في البداية.وباستغراب عابر كذلك، فكر، وهو يعقد حزام المقعد، في سبب قيام الطائرة في هذا الجو العاصف، ولكنه، تصور أن تكون هناك علامة انفراج قريب في حالة الطقس..[/FONT]
[FONT=&quot]ووقفت النفاثة العملاقة وحيدة، على غير العادة، على رأس مدرج المطار الدائم الازدحام، تنتظر الإذن لها بالقيام.وبعد انتظار لانهائي أقلعت بشحنتها البشرية، تاركة الأرض نحو سماء كالحة مُكفهرة.[/FONT]
[FONT=&quot]وساد صمت عصيب داخل الطائرة وهي تصارع الطبيعة الغاضبة، فتهتز
[/FONT]
[FONT=&quot]وتهوى، وتنطفىء الأنوار بداخلها ثم تعود إلى الاشتعال.[/FONT]
[FONT=&quot]وأمسك الدكتور هالن بذراعي كرسيه بيد مبتلة، وهو ينظر من النافذة، محاولاً أن يرى شيئاً يستأنس به. كان الظلام خاثراً لا تخترقه إلا ومضات البرق الوهاج التي كانت تكشف عن خيوط الوابل الهاطل الذي كان يُسمع وقعه شديداً على الطائرة.[/FONT]
[FONT=&quot]وقصف الرعد فهز كيان المركبة الضخمة، وانطفأت أنوارها ثم عادت..ومرت ستون دقيقة بثوانيها في ذلك الطقس المتوحش، وركاب الطائرة وحتى مضيفاتها مسمرون إلى مقاعدهم، شاحبي الوجوه ينتظرون الضربة القاضية..وأخيراً وجدت الطائرة مخرجاً من خلال فجوة واسعة في الغيوم، فانطلقت نحو سماء زرقاء تتلألأ بالنجوم بعيداً عن غضب العاصفة.[/FONT]
[FONT=&quot]ولأول مرة سمع صوت الربان في بوق الطائرة، يرحب بالمسافرين بصوت ناعم مسترخٍ:[/FONT]
[FONT=&quot]سيداتي وسادتي، مرحباً بكم على متن طائرتنا. لابد أنكم لاحظتم أننا كنا نصارع عاصفة هوجاء طوال الستين دقيقة الفارطة. وبفضل أجهزتنا الحديثة استطعنا تفادي نقط الخطر فيها. وقد أصبحت العاصفة وراءنا، وهناك أحب أن أراها."[/FONT]
[FONT=&quot]ثم دخل في تفاصيل الرحلة.[/FONT]
[FONT=&quot]وتنهد الدكتور هالين، ونظر إلى رفيقه الدكتور ناكاتا مبتسماً، فابتسم هذا بدوره.[/FONT]
[FONT=&quot]وتحرَّكتْ المضيفات، وقد علا وجوههن بشر بعد ذُعر، وتوردُّ بعد اصفرار.[/FONT]
[FONT=&quot]ووقفت إحداهن تسوي قبعتها الأنيقة على شعرها الحريري، وتسأل زميلاتها:[/FONT]
[FONT=&quot]- هل تعرفن من معنا على متن الطائرة؟[/FONT]
[FONT=&quot]- من؟[/FONT]
[FONT=&quot]- لا أقل من الدكتور هالين، إيريك هالين.[/FONT]
[FONT=&quot]وسألت إحداهن:[/FONT]
[FONT=&quot]- ومن هو الدكتور هالين؟[/FONT]
[FONT=&quot]فأجابتها أخرى:[/FONT]
[FONT=&quot]- خبير هيأة الأمم المتحدة في مكافحة الإشعاع الذري.[/FONT]
[FONT=&quot]وعلقت الأولى:[/FONT]
[FONT=&quot]- أنفس دماغ في العالم اليوم![/FONT]
[FONT=&quot]وسألت أخرى:[/FONT]
[FONT=&quot]- هل هو متزوج؟[/FONT]
[FONT=&quot]فحملت الأولى صينيتها، وأسرعت نحو الدرجة الأولى قائلة:[/FONT]
[FONT=&quot]- أنا أسبقكن إلى لقائه![/FONT]
[FONT=&quot]وانحنت بالصينية، ونظرت إلى الدكتور هالين وهو يلتقط الكأس، فاتسعت عيناها السماويتان وفتحت فمها في دهشة سعيدة مصنوعة:[/FONT]
[FONT=&quot]- دكتور هالين؟[/FONT]
[FONT=&quot]- نعم.[/FONT]
[FONT=&quot]- أنا سعيدة بلقائك. سمعت وقرأت عنكم كثيراً في صحافتنا السويدية.[/FONT]
[FONT=&quot]- شكراً على اهتمامك. لم أكن أعتقد أن الحسان يتتبعن أحوال الشيوخ مثلى.[/FONT]
[FONT=&quot]وضحك هو ورفيقه. فقالت مستنكرة:[/FONT]
[FONT=&quot]- ماذا تقول؟ أنت ما تزال في ريعان الشباب.[/FONT]
[FONT=&quot]وتدخل الدكتور ناكاتا مادا كأسه للمضيفة:[/FONT]
[FONT=&quot]- سأشرب نخب ذلك![/FONT]
[FONT=&quot]وضحك الثلاثة.[/FONT]
[FONT=&quot]وبعد العشاء والسينما، دفع الدكتور هالين كرسيه إلى الوراء. فجاءته المضيفة بوسادة وغطاء نشرته على ركبتيه، وأطفأت النور هامسة:[/FONT]
[FONT=&quot]- ليلة سعيدة![/FONT]
[FONT=&quot]ونام الدكتور هالين ليستيقظ في مكان لم يكن يحلم به...[/FONT]
[FONT=&quot] [/FONT]

 
[font=&quot]وتهوى، وتنطفىء الأنوار بداخلها ثم تعود إلى الاشتعال.[/font]
[font=&quot]وأمسك الدكتور هالن بذراعي كرسيه بيد مبتلة، وهو ينظر من النافذة، محاولاً أن يرى شيئاً يستأنس به. كان الظلام خاثراً لا تخترقه إلا ومضات البرق الوهاج التي كانت تكشف عن خيوط الوابل الهاطل الذي كان يُسمع وقعه شديداً على الطائرة.[/font]
[font=&quot]وقصف الرعد فهز كيان المركبة الضخمة، وانطفأت أنوارها ثم عادت..ومرت ستون دقيقة بثوانيها في ذلك الطقس المتوحش، وركاب الطائرة وحتى مضيفاتها مسمرون إلى مقاعدهم، شاحبي الوجوه ينتظرون الضربة القاضية..وأخيراً وجدت الطائرة مخرجاً من خلال فجوة واسعة في الغيوم، فانطلقت نحو سماء زرقاء تتلألأ بالنجوم بعيداً عن غضب العاصفة.[/font]
[font=&quot]ولأول مرة سمع صوت الربان في بوق الطائرة، يرحب بالمسافرين بصوت ناعم مسترخٍ:[/font]
[font=&quot]سيداتي وسادتي، مرحباً بكم على متن طائرتنا. لابد أنكم لاحظتم أننا كنا نصارع عاصفة هوجاء طوال الستين دقيقة الفارطة. وبفضل أجهزتنا الحديثة استطعنا تفادي نقط الخطر فيها. وقد أصبحت العاصفة وراءنا، وهناك أحب أن أراها."[/font]
[font=&quot]ثم دخل في تفاصيل الرحلة.[/font]
[font=&quot]وتنهد الدكتور هالين، ونظر إلى رفيقه الدكتور ناكاتا مبتسماً، فابتسم هذا بدوره.[/font]
[font=&quot]وتحرَّكتْ المضيفات، وقد علا وجوههن بشر بعد ذُعر، وتوردُّ بعد اصفرار.[/font]
[font=&quot]ووقفت إحداهن تسوي قبعتها الأنيقة على شعرها الحريري، وتسأل زميلاتها:[/font]
[font=&quot]- هل تعرفن من معنا على متن الطائرة؟[/font]
[font=&quot]- من؟[/font]
[font=&quot]- لا أقل من الدكتور هالين، إيريك هالين.[/font]
[font=&quot]وسألت إحداهن:[/font]
[font=&quot]- ومن هو الدكتور هالين؟[/font]
[font=&quot]فأجابتها أخرى:[/font]
[font=&quot]- خبير هيأة الأمم المتحدة في مكافحة الإشعاع الذري.[/font]
[font=&quot]وعلقت الأولى:[/font]
[font=&quot]- أنفس دماغ في العالم اليوم![/font]
[font=&quot]وسألت أخرى:[/font]
[font=&quot]- هل هو متزوج؟[/font]
[font=&quot]فحملت الأولى صينيتها، وأسرعت نحو الدرجة الأولى قائلة:[/font]
[font=&quot]- أنا أسبقكن إلى لقائه![/font]
[font=&quot]وانحنت بالصينية، ونظرت إلى الدكتور هالين وهو يلتقط الكأس، فاتسعت عيناها السماويتان وفتحت فمها في دهشة سعيدة مصنوعة:[/font]
[font=&quot]- دكتور هالين؟[/font]
[font=&quot]- نعم.[/font]
[font=&quot]- أنا سعيدة بلقائك. سمعت وقرأت عنكم كثيراً في صحافتنا السويدية.[/font]
[font=&quot]- شكراً على اهتمامك. لم أكن أعتقد أن الحسان يتتبعن أحوال الشيوخ مثلى.[/font]
[font=&quot]وضحك هو ورفيقه. فقالت مستنكرة:[/font]
[font=&quot]- ماذا تقول؟ أنت ما تزال في ريعان الشباب.[/font]
[font=&quot]وتدخل الدكتور ناكاتا مادا كأسه للمضيفة:[/font]
[font=&quot]- سأشرب نخب ذلك![/font]
[font=&quot]وضحك الثلاثة.[/font]
[font=&quot]وبعد العشاء والسينما، دفع الدكتور هالين كرسيه إلى الوراء. فجاءته المضيفة بوسادة وغطاء نشرته على ركبتيه، وأطفأت النور هامسة:[/font]
[font=&quot]- ليلة سعيدة![/font]
[font=&quot]ونام الدكتور هالين ليستيقظ في مكان لم يكن يحلم به...[/font]
[font=&quot] [/font]
[font=&quot]وتهوى، وتنطفىء الأنوار بداخلها ثم تعود إلى الاشتعال.[/font]
[font=&quot]وأمسك الدكتور هالن بذراعي كرسيه بيد مبتلة، وهو ينظر من النافذة، محاولاً أن يرى شيئاً يستأنس به. كان الظلام خاثراً لا تخترقه إلا ومضات البرق الوهاج التي كانت تكشف عن خيوط الوابل الهاطل الذي كان يُسمع وقعه شديداً على الطائرة.[/font]
[font=&quot]وقصف الرعد فهز كيان المركبة الضخمة، وانطفأت أنوارها ثم عادت..ومرت ستون دقيقة بثوانيها في ذلك الطقس المتوحش، وركاب الطائرة وحتى مضيفاتها مسمرون إلى مقاعدهم، شاحبي الوجوه ينتظرون الضربة القاضية..وأخيراً وجدت الطائرة مخرجاً من خلال فجوة واسعة في الغيوم، فانطلقت نحو سماء زرقاء تتلألأ بالنجوم بعيداً عن غضب العاصفة.[/font]
[font=&quot]ولأول مرة سمع صوت الربان في بوق الطائرة، يرحب بالمسافرين بصوت ناعم مسترخٍ:[/font]
[font=&quot]سيداتي وسادتي، مرحباً بكم على متن طائرتنا. لابد أنكم لاحظتم أننا كنا نصارع عاصفة هوجاء طوال الستين دقيقة الفارطة. وبفضل أجهزتنا الحديثة استطعنا تفادي نقط الخطر فيها. وقد أصبحت العاصفة وراءنا، وهناك أحب أن أراها."[/font]
[font=&quot]ثم دخل في تفاصيل الرحلة.[/font]
[font=&quot]وتنهد الدكتور هالين، ونظر إلى رفيقه الدكتور ناكاتا مبتسماً، فابتسم هذا بدوره.[/font]
[font=&quot]وتحرَّكتْ المضيفات، وقد علا وجوههن بشر بعد ذُعر، وتوردُّ بعد اصفرار.[/font]
[font=&quot]ووقفت إحداهن تسوي قبعتها الأنيقة على شعرها الحريري، وتسأل زميلاتها:[/font]
[font=&quot]- هل تعرفن من معنا على متن الطائرة؟[/font]
[font=&quot]- من؟[/font]
[font=&quot]- لا أقل من الدكتور هالين، إيريك هالين.[/font]
[font=&quot]وسألت إحداهن:[/font]
[font=&quot]- ومن هو الدكتور هالين؟[/font]
[font=&quot]فأجابتها أخرى:[/font]
[font=&quot]- خبير هيأة الأمم المتحدة في مكافحة الإشعاع الذري.[/font]
[font=&quot]وعلقت الأولى:[/font]
[font=&quot]- أنفس دماغ في العالم اليوم![/font]
[font=&quot]وسألت أخرى:[/font]
[font=&quot]- هل هو متزوج؟[/font]
[font=&quot]فحملت الأولى صينيتها، وأسرعت نحو الدرجة الأولى قائلة:[/font]
[font=&quot]- أنا أسبقكن إلى لقائه![/font]
[font=&quot]وانحنت بالصينية، ونظرت إلى الدكتور هالين وهو يلتقط الكأس، فاتسعت عيناها السماويتان وفتحت فمها في دهشة سعيدة مصنوعة:[/font]
[font=&quot]- دكتور هالين؟[/font]
[font=&quot]- نعم.[/font]
[font=&quot]- أنا سعيدة بلقائك. سمعت وقرأت عنكم كثيراً في صحافتنا السويدية.[/font]
[font=&quot]- شكراً على اهتمامك. لم أكن أعتقد أن الحسان يتتبعن أحوال الشيوخ مثلى.[/font]
[font=&quot]وضحك هو ورفيقه. فقالت مستنكرة:[/font]
[font=&quot]- ماذا تقول؟ أنت ما تزال في ريعان الشباب.[/font]
[font=&quot]وتدخل الدكتور ناكاتا مادا كأسه للمضيفة:[/font]
[font=&quot]- سأشرب نخب ذلك![/font]
[font=&quot]وضحك الثلاثة.[/font]
[font=&quot]وبعد العشاء والسينما، دفع الدكتور هالين كرسيه إلى الوراء. فجاءته المضيفة بوسادة وغطاء نشرته على ركبتيه، وأطفأت النور هامسة:[/font]
[font=&quot]- ليلة سعيدة![/font]
[font=&quot]ونام الدكتور هالين ليستيقظ في مكان لم يكن يحلم به...[/font]
[font=&quot] [/font]
[font=&quot]إليه الشركة لإعلان خبر اختفاء الدكتور هالن في عرض الفضاء عبر المحيط. [/font]
 
[font=&quot]اجتذب المؤتمر عدداً كبيراً من رجال الصحافة، ولاشك من رجال البوليس الدولي وبعض عملاء المعسكرين المتنافسين، إلى مدينة الدار البيضاء، لالتقاط الأخبار وكشف أستار الغموض أو تغطية ما يعرفون عن هذا الحادث الأول من نوعه في تاريخ الاختطافات والاختفاءات الخيالية".[/font]
[font=&quot]ووضع المذيع يده على أذنه حيث يتدلى سلك من سماعة صغيرة. واستمع قليلاً ثم قال:[/font]
[font=&quot]"زميلي يناديني من داخل المبنى ليخبرني بأن المؤتمر قرب أن يبدأ".[/font]
[font=&quot]وانتقلت الكاميرا إلى وسط قاعة كبيرة احتشد فيها جمهور من الصحافيين يلغطون بجميع اللغات، ويشرئبون نحو مسرح عليه مائدة طويلة حولها كراسي وأكواب ماء ومكروفونات صغيرة. وظهر وجه المذيع وهو يتكلم بصوت ناعم:[/font]
[font=&quot]"قريباً سيظهر على هذا المسرح قبطان الطائرة وملاحه والمضيفات الأربع للإجابة على أسئلة الصحافيين. ومما يبدو أن ظهور هؤلاء للصحافيين لن يزيد المسألة إلا غموضاً. ومعلوم أن".[/font]
[font=&quot]وقاطعه صوت آخر يعلن:[/font]
[font=&quot]"أيتها السيدات، أيها السادة، أقدم لكم ربان طائرتنا ومضيفاتها للإجابة عن أسئلتكم في موضوع اختفاء الدكتور هالن أثناء هذه الرحلة".[/font]
[font=&quot]ولمعت أضواء المصورين على الوجوه والحلل الزرقاء الأنيقة، وهم يأخذون أماكنهم حول الطاولة في مواجهة الجمهور. وبدأ الأسئلة صحفي أمريكي بلهجة نيويوركية واضحة.- من اكتشف اختفاء الدكتور هالن من الطائرة، ومتى؟ورفعت مضيفة يدها:[/font]
[font=&quot]- أنا. كان ذلك حوالي الرابعة صباحاً.[/font]
[font=&quot]- هل أنت متأكدة من أنه كان على الطائرة، حين غادرتم نيويورك؟[/font]
[font=&quot]- كل التأكد![/font]
[font=&quot]وسأل صحفي سويسري.[/font]
[font=&quot]- كيف؟[/font]
[font=&quot]- أعرف الدكتور هالن. وزيادة على ذلك فقد كان يحمل تذكرة عليها الحروف (ش.ب)-شخصية بارزة- فكان عليّ أن أراقب حركاته إذا احتاج إلى شيء. وقد تحدثنا مرة باللغة السويدية، فأنا سويدية، والدكتور هالن شهير في الأوساط العلمية ببلادي.[/font]
[font=&quot]- كيف اكتشفت اختفاءه،؟[/font]
[font=&quot]- كنا قد انتهينا من توزيع العشاء على المسافرين، وطلب الدكتور هالن الغطاء لينام قليلاً، وجئته أنا بالغطاء والوسادة، ودفعت كرسيه إلى الوراء، وأسدلت ستار النافذة إلى جانبه لأنها كانت تواجه الشرق. والشمس تشرق علينا في ذلك الارتفاع في الواحدة بعد منتصف الليل بتوقيت نيويورك. وأطفأتُ الأنوار، وذهبت للكراسي الخلفية حيث قعدت مع زميلاتي. وحوالي الرابعة سمعت جرساً، ونظرت إلى رقم الكرسي، فإذا به في الدرجة الأولى، وذهبت لأجيب الطلب فلاحظت فراغ كرسي الدكتور هالن. ولم ألق بالا لذلك، إذ ظننت أنه ذهب للمرحاض.[/font]
[font=&quot]- هل رأيته أو إحدى زميلاتك يغادر مكانه؟[/font]
[font=&quot]- لا، عهدي به نائم منذ منتصف الليل، حين انطفأت جميع الأضواء الرئيسية. على كل حال، عدت من الدرجة الأولى لآتي بكوب ماء.[/font]
[font=&quot]وسأل صحفي فرنسي:[/font]
[font=&quot]- هل كان الدكتور هالن مسافراً بالدرجة الأولى؟[/font]
[font=&quot]- لا، قال لي بنفسه إنه يكره الدرجة الأولى، لأنه لا ينسجم مع ركابها![/font]
[font=&quot]وسرت قهقهة بين جمهور الصحفيين، واستأنفت المضيفة:[/font]
[font=&quot]- ولكنه كان يحمل تذكرة الدرجة الأولى، وحين عدت من هناك كان الكرسي ما يزال فارغاً. ورأيت امرأة تخرج من أحد المراحيض الأمامية وطفلاً من الآخر. وبقى المرحاضان الخلفيان مقفلين. وعدت إلى الجلوس مع زميلاتي، دون أن يكون بالي مشغولاً بشيء. ولاحظت ببطء ثقيل علامة "فارغ" على باب مرحاض خلفي وقلت في نفسي لعل الدكتور هالن دخل المرحاض ونسي أن يقفله وراءه.[/font]
[font=&quot]وفي هذه اللحظة بالذات قامت زميلتي "إيلين" ففتحته، وقبل أن أناديها لأنبهها كانت قد دخلت، وأقفلت خلفها الباب.[/font]
[font=&quot]وهنا رن جرس حاد في مخى.. وقمت بسرعة إلى المرحاض الآخر. وكانت العلامة على قفله تقول "فارغ" فدفعته ونظرت بداخله. لا أحد! وأصبت بقشعريرة..وبدأ ذهني يعمل بسرعة العداد الإلكتروني. وانثالت عليه ملايين الأسئلة:[/font]
[font=&quot]"أين ذهب الرجل؟ هل دخل قمرة الربان!".[/font]
[font=&quot]وذهبت بسرعة أقطع الممر الطويل كأنه ألف ميل، لعلي أجد الجواب عن سؤالي. وفتحت باب القمرة على الطيار والملاح، وهما يحتسيان القهوة. ونظر الملاح إلى وجهي فرأى علامة الذعر. فسأل ممازحاً:[/font]
[font=&quot]-ماذا؟ هل يطاردك شبح؟[/font]
[font=&quot]- قد تكون على حق![/font]
[font=&quot]ثم أقفلت الباب ووليته ظهري، وأنا أحاول السيطرة على أعصابي. وقلت لنفسي:[/font]
[font=&quot]"مهلاً مهلاً! لا داعي إلى فقدان أعصابك! لا يمكن أن يختفي إنسان على متن طائرة سابحة في جوف الليل. سوف أبرد أعصابي، وأمسح بعيني جميع المسافرين مرة أخرى. وبدأت بالدرجة الأولى. لم يكن هناك إلا أربعة ركاب. وخرجت منها إلى الثانية حيث بدأت بالصفوف الأولى. واخترقت الممر، أقف عند كل صف حتى أتأكد من هوية كل فرد، إلى أن وصلت النهاية، فهويت في مكاني واضعة يدي على وجهي مما أقلق زميلاتي، فانهلن عليَّ بالأسئلة:[/font]
[font=&quot]"ماذا أصابك؟ هل أنت مريضة؟[/font]
[font=&quot]وكشفت عن وجهي لأقول لهن: "لاشيء. لعلني أحلم أو أومن بالأشباح. هل نمت؟[/font]
[font=&quot]هل أغمضت عيني ورحت في إغفاءة ما؟"[/font]
[font=&quot]فقلن: -"لا، ألا تذكرين أننا تحدثا طول الوقت بعد نهاية العشاء؟ لماذا؟"[/font]
[font=&quot]فقلت: "أجبنني عن هذا السؤال، هل الدكتور هالن معنا على هذه الطائرة؟".[/font]
[font=&quot]فقالت: إيلين باستغراب: "طبعاً معنا! وأنت التي كنت تتحدثين إليه بالسويدية طول فترة العشاء للتتأكدي من أن "ش.ب" تحصل على أحسن خدمة".[/font]
[font=&quot]"فوضعت يدي على وجهي مرة أخرى وقلت لهن:[/font]
[font=&quot]"أرجو أن تبحثن عنه وتُرينني إياه".[/font]
[font=&quot]وتضاحكن. ثم بدأ الشك يخامرهن. فقمن يبحثن عنه في مكانه. وبحثن في المراحيض. والأركان ووراء الملابس المعلقة والبار والمقهى ومدخل مستودع الأمتعة. وحسبنا الركاب بالمقارنة مع لوائحنا، فوجدنا أن الدكتور هالن كان معنا، ولكننا لم نعثر له على أثر. بل اكتشفنا أن رفيقه الشرقي قد اختفى هو الآخر! وعند ذلك اجتمعنا نحن الأربعة فقررنا أن نعلن الخبر للربان".[/font]
[font=&quot]وسأل صحفي آخر موجهاً السؤال للربان:[/font]
[font=&quot]- وماذا كان رد فعلك؟[/font]
[font=&quot]- بالطبع ابتسمت غير مصدق! ولكن من أجل ألاّ أُثير أعصاب البنات، أشرت إلى جان مساعد الملاح، أن يصحبهن في البحث ويعود إلى بالنتيجة. وبعد بعض دقائق عاد "جان" وهو يحرك كتفيه مستغرباً. "البنات على حق! لا أثر للرجل! لقد نزلت إلى قسم الأمتعة. لا أثر للحياة به. وقد وجدته مقفلاً كما كان". وعند ذلك انزعجت وقمت بنفسي تاركاً عجلة القيادة للملاح. وتمشيت مع البنات في الممر حيث أوقفنني على الكرسي الفارغ. وسألتهن هل كان مع الرجل حقيبة يد ماتزال بالطائرة، فبحثت مضيفة أولاً تحت الكرسي، ووقفت لتهمس في أذني: "كانت إلى جانب الدكتور هالن محفظة أوراقه. أذكر أنه كان يصحح بعضها بعد العشاء. ولا أجدها الآن. "كل هذا وأنا أعالج الأمر بابتسامة، يعلم الله ما تحتها من قلق لكي لا يفطن الركاب لما حدث فأغرق تحت وابل أسئلتهم..".[/font]
[font=&quot]وسأل صحفي فرنسي:[/font]
[font=&quot]- "هل توقفتم في الطريق بين نيويورك والرباط" في جزيرة "سنتا مريا" مثلاً؟[/font]
[font=&quot]وأجاب الربان بالنفي.[/font]
[font=&quot]- هل لك تفسير منطقي لاختفاء الدكتور هالن ورفيقه؟[/font]
[font=&quot]- لا. وأنا حائر مثلكم.[/font]
[font=&quot]وسأل صحفي ألماني:[/font]
[font=&quot]- هل من المحتمل أن يكون الدكتور هالن والرجل الشرقي نزلاً بالمظلات؟ وضحك الحاضرون، وابتسم الربان وهو يجيب:[/font]
[font=&quot]- أية محاولة لفتح باب الطائرة على ذلك الارتفاع، ارتفاع خمس وثلاثين ألف قدم، كانت تجعل من جميع ركابها أشلاء متجمدة في الفضاء. وحتى لو أفلحا في مغادرة الطائرة عن طريق باب الأمتعة كان برد الجو القارس الذي يصل إلى الخمسين فهرنهايت تحت الصفر يحيلهما إلى قطعتي جليد في الحال!.[/font]
[font=&quot]وقاطع وجه المذيع المؤتمر وعلى وجهه علامة استفهام. "نعود بكم إلى لندن،
[/font]
[font=&quot]وسوف نوافيكم بما يجدَّ في موضوع الاختفاء الخيالي الذي يشغل بال العالم اليوم".[/font]

 
[font=&quot]وظهر وجه المذيع المركزي يقول:[/font]
[font=&quot]"يظهر أن جيمس بوند عاد إلى فعلاته المدهشة".[/font]
[font=&quot]وانتقل إلى خبر آخر، فقالت تاج:[/font]
[font=&quot]- هل أطفئه؟[/font]
[font=&quot]وحرك الدكتور نادر رأسه موافقاً، وهو يمتص غليونه وينفث الدخان من جانب فمه. وعادت تاج لتجلس بجانبه وهي تقول:[/font]
[font=&quot]- لابد أن هناك تفسيراً سخيفاً لكل هذا الغموض. أنا متأكدة أن الدكتور هالين يشاهد هذا البرنامج ويقهقه في سره قهقهة شيطانية في ركنٍ ما، وهو سعيد للإشهار الذي ناله مجاناً.[/font]
[font=&quot]وأمسك الدكتور نادر بغليونه وقال:[/font]
[font=&quot]- لا يا عزيزتي. هالين ليس من ذلك النوع. فهو يكره الإعلان عن شخصه وعن عمله. رجل متواضع خجول يكره الضوء كما يكره العنف والتطرف. وأعتقد أن اكتشافاته وأبحاثه في مكافحة الإشعاع صادرة عن شعور عميق بالمسؤولية نحو الإنسان وحبه لهذا العالم كما هي، وخوفه أن يضغط مجنون في يوم ما على زر أحمر في واشنطن أو موسكو أو بيكين، ويتحول كل ذلك إلى رماد! لا، لا يمكن أن يكون الدكتور هالين موجوداً في مكان ما حيث يعلم بخبر اختفائه دون أن يهرع إلى أقرب تلفون ليسكت الضجة القائمة حول اسمه![/font]
[font=&quot]- وماذا تعتقد أن يكون وقع؟[/font]
[font=&quot]- اختطاف. حرب الجاسوسية والمعسكرات المذهبية والتسابق إلى تطوير الأسلحة الكيماوية التي لا تعرف عنها الشعوب شيئاً، يحيطها الكبار بسرية كاملة حتى لا يتسرب الذعر بين الناس. هل تذكرين قضية الفيتنامي الذي أحرق النابالم جلده كله فلم يعد قادراً على النوم أو الجلوس، وعاش واقفاً حتى مات من الألم والإعياء السهر؟![/font]
[font=&quot]ووضعت تاج يدها على وجهها في ألم واشمئزاز:[/font]
[font=&quot]- أرجوك![/font]
[font=&quot]- آسف يا عزيزتي! نسيت أنكِ شرقية ذات قلب رهيف.[/font]
[font=&quot]- تذكُّر الألم يضاعف مفعوله![/font]
[font=&quot]ونظرت إلى ساعتها وقالت:[/font]
[font=&quot]- يا إلهي! الحادية عشرة والنصف![/font]
[font=&quot]- هل تأخرت عن ميعاد؟[/font]
[font=&quot]- لا، بل عليَّ أن أعِدَّ بعض المذكرات قبل أن أنام. وكنت أنوي العودة في الحادية عشرة.[/font]
[font=&quot]- هل أنادي لك سيارة أجرة؟[/font]
[font=&quot]قالها الدكتور نادر وهو ينهض لينظر من النافذة، ثم قال:[/font]
[font=&quot]- توقف المطر.[/font]
[font=&quot]- في تلك الحال أفضِّلُ أن أمشي قليلاً إلى قطار النفق.[/font]
[font=&quot]- إذن سأرافقك.[/font]
[font=&quot]وعلى باب محطة النفق وقف يودعها، فاستدركت قائلة:[/font]
[font=&quot]-كدت أنسى. ماذا أقول لأبي عن موضوع دعوتك؟ سأكتب له غداً.[/font]
[font=&quot]- دعيني أنام على الفكرة.[/font]
[font=&quot]- كما تريد.[/font]
[font=&quot] [/font]

 
[font=&quot]رفع الدكتور نادر عينه إلى السماء لينظر إلى الغيوم الحمراء تعكس أضواء المدينة المكتظة كأنها تحترق. ونظر حواليه ثم تحرك ليقطع "سلون سكوير" نحو "كيكزرود". كان المشي أحسن أوضاعه حين يجنح للتفكير. وقفز خياله من موضوع في ميادين بحثه الأنثروبولوجي، وهو يحاول الخلاص وإفراغ دماغه من تلك الأفكار المتساقطة في ذهنه دون رغبة منه.[/font]
[font=&quot]وأحس أنه يرفع مظلته ويلوح بها ليطرد تلك الأفكار التي اجترها ذهنه أياماً طويلة حتى فقدت طعمها، وأفقدته الاهتمام بالميدان الأنثروبولوجي كله.[/font]
[font=&quot]ونظر حواليه ليتأكد من أن أحداً لم يلاحظ حركاته اللاإرادية وهمهماته المكتومة فيتهمه بالجنون.[/font]
[font=&quot]أحس الدكتور نادر بالقنوط والضيق يدبان إلى روحه دون أن يعرف لهما سبباً.[/font]
[font=&quot]وتردد في خياله صدى تعليق صديق زاره وهو في نوبة ضيق ويأس، فقال له، بعد نقاش طويل حول الزواج والحياة السعيدة:[/font]
[font=&quot]"شعورك بالضيق واليأس قد يكون مصدره عدم إيمانك بعالم الروح. ومن عالم الروح الحب، الحب حتى في تعبيره البدني.. البدني.. البدني.. البدني!".[/font]
[font=&quot]"ترددتِ تلك الكلمة في ذهنه بأصداءَ وأصواتٍ وأبعادٍ مختلفة حتى بدأ يحرك رأسه بعصَبية ليرميها خارجه.[/font]
[font=&quot]وأخيراً وقف وجهاً لوجه أمام فتاة طويلة ذات شعر غابي مفلفل بآلاف الخواتم، وعلى عينيها نظارة حمراء باهتة بإطار نحاسي، وهي تمضغ العلك. وأحس بالحرج فنظر حواليه ليرى جمهوراً غفيراً يغادر سينما "الكلاسيك".[/font]
[font=&quot]وأحس بالطبول التي كانت تدق داخل دماغه تسكت فجأة، وبالصمت والسلام يخيمان على روحه. وشعر برطوبة الجو تُلامس وجهه الملتهب، فأقفل عينيه واستنشق نفساً طويلاً من نسيم الليل البارد، وأخرجه ببطء والتذاذ.[/font]
[font=&quot]ولم يدرك أنه ترك وراءه "كارلايل سكوير" حيث يسكن، إلا حين وجد نفسه على شارع "ريد كليف جاردنز" فدخله ووقف ينظر إلى بوابة "مقهى الفنانين" الذي سمع عنه كثيراً ولم يزره قط. وأحس بالإعياء فجأة، فقرر أن ينزل إلى المقهى ويتناول فنجان شكلاط ساخن، ويضيع نفسه بين الناس والموسيقى.[/font]
[font=&quot]ونزع معطفه وسلمه للفتاة القابعة بدولاب المعاطف.[/font]
[font=&quot]وقصد إلى ركن قصي فقعد إلى طاولة نظيفة، وجاءه شاب ليأخذ طلبه، وحين قال له أنه يريد شكلاط ساخن كتبه على سجله ووضع السجل في حزامه، وانحنى على المائدة يرتب ما عليها، والدكتور نادر ينظر إلى وجهه الشاب الصافي البشرة، عليه مسحة من أنوثة. وذهب الشاب فإذا بفتاة تقف على طاولته لابسة معطفاً أسود ثقيلاً وقباً من فرو لماع خرج من جوانبه شعرها الأحمر، وعلى وجهها علائم تعب وبرد. انحنت على الدكتور نادر بأدب تسأله:[/font]
[font=&quot]- هل أشاركك الطاولة؟[/font]
[font=&quot]وفوجىء بالسؤال فوقف لها لتجلس:[/font]
[font=&quot]- طبعاً، تفضلي..[/font]
[font=&quot]وشكرته، وهي تسلخ عنها المعطف الثقيل وتضعه على الكرسي أمامها، ثم تنزع القب الفروي وتضعه فوقه وهي تتلكم:[/font]
[font=&quot]- آسفة أن أُثقل عليك، ولكن، كما ترى، لا توجد هناك موائد فارغة.[/font]
[font=&quot]فرد بقليل من الحرج:[/font]
[font=&quot]- لا، أبداً! أنا وحدي هنا، وليس عدلاً أن أحتكر الطاولة كلها.[/font]
[font=&quot]- شكراً على أي حال.[/font]
[font=&quot]وبدأت تبحث في حقيبتها عن علبة سجائرها ثم القدَّاحة والدكتور نادر يلاحظها بطرف عينه مستأنساً قليلاً بمخلوق بشرى إلى جانبه. وأخرجت سيجارة فوضعتها بين شفتيها، فتناول هو القداحة من بين أصابعها البادرة قائلاً:[/font]
[font=&quot]- هل تأذنين؟[/font]
[font=&quot]وأشعل سجارتها وهي تنظر إلى وجهه على ضوئها الأصفر، وكأنها فوجئت بأن النبل والرجولة ما يزالان على قيد الحياة.[/font]
[font=&quot]- شكراً يا سيدي، شكراً![/font]
[font=&quot]- العفو.[/font]
[font=&quot]ولمس في كلامها لكنة اسكوتلاندية فسألها:[/font]
[font=&quot]- من أي مكان؟ من اسكتلاندة أنت؟[/font]
[font=&quot]- كيف عرفت أنني اسكتلاندية؟[/font]
[font=&quot]- طائر صغير أوعز لي بذلك.[/font]
[font=&quot]فابتسمت وقالت:[/font]
[font=&quot]- إنَّه سؤال سخيف، لكنتي المحلية تفشي سري على بعد أميال![/font]
[font=&quot]- أحب اللهجة الاسكتلاندية، فبها خشونة البادية وجمالها.[/font]
[font=&quot]- شكراً! أنت رجل لطيف، من أين أنت؟[/font]
[font=&quot]- خمني.[/font]
[font=&quot]- إيطالي.[/font]
[font=&quot]- لا.[/font]
[font=&quot]- أعرف، أنت إسباني.[/font]
[font=&quot]- كلا! ولكنك قريبة.[/font]
[font=&quot]- عربي؟[/font]
[font=&quot]- نعم، من المغرب.[/font]
[font=&quot]- من شمال إفريقيا، إذن![/font]
[font=&quot]فصاحت وكأنها رأت أحداً تعرفه، وأشارت إليه بأصبعها، وعلى وجهها ابتسامة:[/font]
[font=&quot]- أتعرف أنني كنت على وشك أن أذهب إلى طنجة؟ لم يبق بيني وبينها إلا البوغاز.[/font]
[font=&quot]- وماذا حدث؟[/font]
[font=&quot]- أنذرنا دليلنا الإسباني بأن المغاربة لصوص وكذابون وقتلة وغشاشون في البيع والشراء، فخفت وبقيت في إسبانيا. قل لي، هل ذلك صحيح؟[/font]
[font=&quot]- بعضه، كما في إسبانيا نفسها أو إيطاليا أو أي بلد بحري.[/font]
[font=&quot]وجاء النادل فوضع فنجان الشكلاط أمامه، ونظر إلى الآنسة، فسألها الدكتور على نادر:[/font]
[font=&quot]- ماذا ستطلبين؟[/font]
[font=&quot]فطلبت "أومليت" وقهوة، وارتاحت في مقعدها تمتص دخينتها وتتحدث كأنها تعرف الدكتور نادر منذ أعوام. وأتيح له أن يتأملها فأعجبه وجهها المنمش قليلاً في أعلى الجبهة وعلى رانفة الأنف. كانت أسنانها لؤلؤية نظيفة، وشفتاها ممتلئتين.[/font]
[font=&quot]وجاءها الشاب بعشائها فأكلته بسرعة، ومسحت فمها بمنديل الورق، ثم أشعلت سجارة واتكأت إلى الخلف تدخن وتتحدث.[/font]
[font=&quot]وعاد المغني إلى الظهور على المسرح، وبدأ بأغنية كانت أغنية ذلك الموسم، فبدأت هي تتمايل معها وتردد الكلمات:[/font]
[font=&quot]"لا داعي لأن تقول إنك تحبني[/font]
[font=&quot]"ولكن ابق مني قريباً...[/font]
[font=&quot]"ولا داعي لأن تبقى إلى الأبد[/font]
[font=&quot]"فسوف أفهم".[/font]

 
[font=&quot]وكان بعض الزبناء قاموا للحلبة يرقصون، فسألها:[/font]
[font=&quot]- هل ترقصين؟[/font]
[font=&quot]فقامت في الحال مسرعة حتى لا تنتهي الأغنية دون أن ترقص عليها.[/font]
[font=&quot]ووضع الدكتور نادر يده على ظهرها، فرمت ذراعها على عنقه وجذبته نحوها وأراحت رأسها على كتفه. وأحس دفء صدرها على صدره فشعر نحوها بحنان كبير. ورفعت رأسها فجأة لتردد مع المغنى لازمة "صدقني! صدقني!" وتنظر إلى عيني الدكتور نادر مفتعلة الحزن والانفعال. وابتسم لها ابتسامته المشرقة، فهمسته في أذنه.[/font]
[font=&quot]- في ابتسامتك مرح وترحيب.[/font]
[font=&quot]- ذلك لأنني أرحب بك فعلاً.[/font]
[font=&quot]- آه! شكراً![/font]
[font=&quot]وعادت تضمه أقوى مما كانت، وهو يتحرك بها بين الراقصين الذين كان بعضهم لا يكاد يتحرك.[/font]
[font=&quot]وانتهت الأغنية. وعادا إلى مائدتهما، فالتفتت إليه قبل أن يجلسا وقالت:[/font]
[font=&quot]- اسمي آن. "آن سيسيليا ورد" فما هو اسمك؟[/font]
[font=&quot]- اسمي على نادر.[/font]
[font=&quot]وصافحته وهي تقول:[/font]
[font=&quot]- اسمك خفيف وسهل. كثير من الأسماء الأجنبية لا أستطيع أن أنطق بها، ولكن اسمك سهل.[/font]
[font=&quot]ورقصا مراراً، وتحدثا طويلاً.[/font]
[font=&quot]وفي النهاية سألها الدكتور نادر دون أن يفكر:[/font]
[font=&quot]- هل تشرفينني بشرب كأس عندي في منزلي، والاستماع إلى مجموعة أسطواناتي الجديدة؟[/font]
[font=&quot]وفوجىء بقبولها بدون تردد. كان يأمل أن ترفض، وكان متأكداً أنها ستفعل في تلك الساعة المتأخرة من الليل، ولكنه كتم المفاجأة وأظهر السرور.[/font]
[font=&quot]ومر بخياله شريط سريعة يستبق الأحداث الآتية. ومر ببطنه ألم حاد لم يشعر به منذ أيام الكتاب والامتحانات.[/font]
[font=&quot]ودفع الحساب، وألبسها معطفها وارتدى معطفه وخرجا.[/font]
[font=&quot]كانت السماء ما تزال غائمة ثقيلة، والضباب تتزاحم أمواجه الصامتة في جميع الاتجاهات. ونظر الدكتور نادر حواليه، وقال:[/font]
[font=&quot]- تبدو هذه الليلة شبيهة بإحدى ليالي الدكتور "هايد" أو "جاك السفاح".[/font]
[font=&quot]فأطلقت آن صرخة صغيرة، وأمسكت بذراعه، والتصقت به، فقال ضاحكاً:[/font]
[font=&quot]- لا تخافي يا عزيزتي. أي شبح من تلك الأشباح سيفكر مرتين قبل أن يتحرك من خلف هذا الضباب.[/font]
[font=&quot]ومشيا على رصيف "فولهام رود" الموازية ب لـ كنجزرود"، لا يسمعان إلا أصوات وقع خطواتهما، ولا يريان المارة الآخرين حتى يكاد يحدث الاصطدام... كانت السيارات تتحرك ببطء، وتغير قوة أضوائها حتى تراها السيارات القادمة. وقالت آن:[/font]
[font=&quot]- ما أكثفه من ضباب! يمكنك قصه بمقص![/font]
[font=&quot]- تصوري أنك في حمام بخار، ويزول خوفك.[/font]
[font=&quot]وعبرا الطريق إلى الرصيف المقابل، ثم دارا يمينا في شارع صغير مهجور يبدو الضباب فيه أكثف، وله وجوه وأفواه وعيون كأنها غيلان تداخلت حجومها، أو مخلوقات فضائية في طور التكوين...[/font]
[font=&quot]وأحس "بآن" تتعلق بذراعه وتلتصق به، وعيناها تحملقان في أبخرة الضباب في وجوم وتوقع..وبدأ هو يغني ويصفر ليذهب عنها الخوف ويرخي أعصابها المتوترة.[/font]
[font=&quot]وحين خرجا إلى "كنجزرود" بدا الضباب أخف، ولاحت أضواء الشارع العالية محاطة بهالات ملونة ملفوفة في الضباب كأقواس قزح.[/font]
[font=&quot]وأخيراً وصلا المنزل، وتنفست "آن" الصعداء...وفي غرفة الجلوس، علق الدكتور نادر المعطفين، وجاءها يفرك يديه ويسأل:[/font]
[font=&quot]-ماذا تريد الآنسة أن تشرب؟ بارداً أم ساخناً؟[/font]
[font=&quot]فقالت، ويمناها على خصرها، وهي تسوي شعرها من الخلف بيدها اليسرى:[/font]
[font=&quot]- ماذا عندك من البارد؟[/font]
[font=&quot]- كل ما يمكن أن يخطر على بالك.[/font]
[font=&quot]- هل عندك بيرة؟[/font]
[font=&quot]- نعم.[/font]
[font=&quot]- بيرة إذن، فأنا عطشى.[/font]
[font=&quot]- وصبَّ لها كأس بيرة، ولنفسه قدح ويسكي على مكعبات الجليد، وجاء بهما إليها من البار، وهي وسط غرفة الجلوس، تتأمل اللوحات على الحائط والتحف على الرفوف الرخامية والنوافذ الزجاجية. وناولها الكأس، فشكرته، ورشفت من رغوته فعَلِقَ بعضها بشفتيها الحلوتين، وسألت:[/font]
[font=&quot]- أين مجموعتك الموسيقية؟[/font]
[font=&quot]وأومأ لها إلى ركن به غراموفون، وحوله رزمة من الأسطوانات الكبيرة والصغيرة. فوضعت الكأس وجثت تتصفح أغلفة الأسطوانات الأنيقة. وصاحت مسرورة:[/font]
[font=&quot]- إيه! عندك "فكر فيَّ بعض الوقت"، "لساندي شو" هل ألعبها؟[/font]
[font=&quot]وتناولها منها، فوضعها على الفونغراف، وبدأت الأغنية، وارتفع صوت ساندي شو المخملي الدافىء، فقفزت إلى رجليها وواجهته.[/font]
[font=&quot]- لنرقص![/font]
[font=&quot]وطوق خصرها اللذان النحيل، فالتصقت به، وتلامست وجنتاها، ودارا في مكانهما من وسط الغرفة في صمت العبادة، يرهفان سمعهما لكلمات الأغنية الرقيقة وصوت "ساندي شو" الناعم الحالم.[/font]
[font=&quot]وحين انتهت الأغنية، رفعت آن وجهها نحوه، فتلامس أنفاهما. ونظرت إلى وجهه بعينيها الواسعتين وفيهما تأثرٍ وانفعال، وانفرجت شفتاها فوضع يده خلف رأسها وجذبه نحوه، والتحمت شفاهُهما في قبلة حارة.. وحين أرسلها تنهدت بعمق، ووضعت جبينها على صدره، وكأنها ترتاح من مجهود عاطفي جبار...[/font]
[font=&quot]وناولها كأسها فارتشفت منه وعادا إلى اختيار الأغاني الجميلة والرقص الذي كان ينتهي كل مرة بعناق وقبلة طويلتين. وعند الكأس الثالثة وضعت إحدى الأغاني الاسكتلاندية، وأخذت ترقص له وسط الغرفة على أطراف بنانها، وهو يصفق مع الموسيقى. وعند نهاية الأغنية اختفت في بيت النوم ونادته.[/font]
[font=&quot]- علي! علي![/font]
[font=&quot]- ماذا؟[/font]
[font=&quot]- تعالَ...[/font]
[font=&quot]- تعالي أنت.[/font]
[font=&quot]- أريد أن أقول لك شيئاً.[/font]
[font=&quot]ونهض فدخل حجرة النوم التي كانت معتمة لا ضوء فيها إلاّ ما ينعكس بداخلها من ضوء غرفة الجلوس، ووقف على الباب قائلاً:[/font]
[font=&quot]- هل أشعل النور؟[/font]
[font=&quot]- لا، لا، لا تفسد خلوة الظلام...[/font]
[font=&quot]واستطاع أن يراها واقفة أمام مرآته المستطيلة، تتأمل شبح وجهها، فدخل ووقف خلفها، فأخذت ذراعيه ولفتهما حول خصرها، وألصقت ظهرها بصدره. ورفعت إليه وجهها فقبل أذنها قبلة حارة ألهبتها، فاستدارت في موقفها، وطوقت عنقه بذراعيها وارتفعت على بنانها لتقبله...وبعد قبلة طويلة، خرجت من بين ذراعيه، وأشارت إلى فراشه.[/font]
[font=&quot]- تنام هنا؟[/font]
[font=&quot]- لا يوجد فراش غيره.[/font]
[font=&quot]- لماذا السرير الواسع وأنت غير متزوج؟[/font]
[font=&quot]- هناك دائماً الاحتمال...[/font]
[font=&quot]وضحكت هي، وجذبته نحو السرير:[/font]
[font=&quot]- لنسترحْ قليلاً.. يظهر أن البيرة طلعت إلى رأسي...[/font]
[font=&quot]واستلقت على ظهرها فوق السرير، وجذبته إلى جانبها وعانقته بحرارة.وبعد فترة من العناق الطويل، ابتعدت عنه قليلاً قائلة:[/font]
[font=&quot]- اسمح لي لحظة، سأخلع فستاني حتى لا ينكمش. فسوف أذهب به للعمل غدا.[/font]
[font=&quot]وقامت فخلعته داخل دولاب ملابسه وهي تقول:[/font]
[font=&quot]- ألا تخلع ملابسك أنت؟[/font]
[font=&quot]وأحس هو بغصة في حلقه، وارتعاش في ركبتيه وبرودة في يديه وقدميه. ووقف أمام المرآة يفسخ أزرار قميصه، ويخاطب نفسه سراً: "يا لك من جبان! هذه التجربة ضرورية. وقد حضرت المناسبة بنفسها وأنت تحاول الهروب.. إذا نجحت الآن، فسوف تخترق الجدار الفولاذي الذي طالما وقف بينك السعادة والحب...ستذهب أيامك، وينتهي عمرك، دون أن تعرف حرارة جسد المرأة ودفء عاطفتها وأنين استسلامها واستمتاعها بك... ستذهب بكراً كلوح ثلج بارد بدون حياة..".[/font]


 
[font=&quot]ولبس رداءه المنزلي، وخرج لغرفة الجلوس، فشرب ما تبقى من كأسه، وعاد إلى غرفة النوم حيث كانت "آن" قد دخلت تحت أغطية الفراش. وحين دخل الغرفة رفعت له الغطاء ليدخل معها، ثم اقتربت منه وعانقته في الحال بقوة. فحاول فك نفسه من ذراعيها وهي تهمس:[/font]
[font=&quot]- ماذا؟[/font]
[font=&quot]- لا أدري. ولكني متعب للغاية. أنظري إلى الساعة، إنها الثالثة تقريباً.[/font]
[font=&quot]- أنا كذلك متعبة. يظهر أن المشروبات فعلت مفعولها.[/font]
[font=&quot]وحاولت أن تعود إلى عناقه فولاها ظهره. وبعد لحظة هدوء، أخذت تمر بيدها على ظهره، وتدلك أكتافه. وفي النهاية ركزت أصابعها في لوح ظهره، وهمست في أذنه:[/font]
[font=&quot]- ألا أعجبك؟[/font]
[font=&quot]- بالعكس، تُعجبينني كثيراً...[/font]
[font=&quot]- فماذا إذن؟[/font]
[font=&quot]- ليس لي رغبة الليلة.[/font]
[font=&quot]- ياه! هذه أول مرة أسمع فيها رجلاً يقول هذا.. دائماً أجد صعوبة في دفع الرجال عني![/font]
[font=&quot]والتفت إليها وقال:[/font]
[font=&quot]- أعتقد أنه ينبغي أن تذهبي...[/font]
[font=&quot]- أذهب؟ في هذه الساعة؟ إلى أين؟[/font]
[font=&quot]- إلى شقتك.[/font]
[font=&quot]- أنا أعيش في "ريتشموند"![/font]
[font=&quot]- أعطيك أجرة التاكسي.[/font]
[font=&quot]وأشعل النور، وتناول سماعة الهاتف ونادى سيارة الأجرة. وقامت آن ترتدي ملابسها غاضبة:[/font]
[font=&quot]- أي نوع من الرجال أنت؟ لم أر في حياتي شيئاً مثيراً للحنق كتصرفك هذا! من أنت؟ أم هل ينبغي أن أقول: "ما أنت؟"[/font]
[font=&quot]وسكتت لحظة، ونظرت إليه وهو في رداء البيت قاعداً على حافة السرير ينظر إلى الأرض، ثم قالت مغيرة صوتها من الغضب إلى الشماتة:[/font]
[font=&quot]- إيه! كان ينبغي أن أعرف! يا لي من غيبة! أنت من أولئك! لست رجلاً بالمرة! لماذا بحق السماء، إذن جئت بي إلى بيتك؟[/font]
[font=&quot]ورن جرس الباب، فقام الدكتور نادر يلبسها معطفها، ويفتح لها الباب، فاختطفت منه المعطف، وبدأت ترتديه بينما هو يسأل السائق عن الأجرة إلى ريتشموند، وينقده الثمن.[/font]
[font=&quot]وصفق الباب، ووقف وراءه ينصت إلى محرك السيارة يبتعد عن بابه حتى تلاشى. وساد صمت الليل. وبقى هو واقفاً وراء الباب مقبوض اليدين في عصبية، وقد انغلق فكره عن جميع ما حوله...[/font]
[font=&quot]وبعد بعض دقائق تنبه لحاله، فعاد إلى غرفة النوم كسير القلب، واستلقى في فراشه يحاول إرخاء أعصاب عنقه وساعده المتوترة. وأخيراً غلبه القهر، فدار في مكانه، وضرب الوسادة بقبضتيه، وهو يخاطب نفسه:[/font]
[font=&quot]- عليك اللعنة! عليك اللعنة![/font]
[font=&quot]وغلبه التعب والإرهاق العاطفي فنام نوماً متقطعاً مليئاً بالكوابيس...ورأى نفسه في حلم على جزيرة استوائية جميلة كإحدى جزر الجالاباجوس. مليئة بالطيور الملونة، والنخيل الباسقة، يخترقها نهر أزرق ينعرج بين غاباتها وسهولها.[/font]
[font=&quot]وفي طريقه إلى المحيط الواسع، رأى نفسه في طوف صغير يسبح طافياً على النهر، والتيار نازل به نحو البحر. وحين حاذى الرمال نزل وأخرج الطوف، ورفع عينيه فإذا تاج محيي الدين واقفة على الشاطىء الذهبي عارية تغمر جسمها الأحمر أشعة شمس الضحى، وبشرتها الصافية تلمع صحة وأنوثة، فينطلق وراءها فتجري وشعرها الطويل الفاحم يلمع، والهواء يتخلله كشلال من الحرير الأسود.. ويجري خلفها بكل قواه، ولكن حركته تبقى بطيئة سحابية، وهو ينظر إلى جسمها الرشيق ينساب وعضلاتها الناعمة تنشد وتنطلق، وإلى ساقيها وخصرها النحيل وبطنها الملساء كغزال صحراوي أو فرس سباق...ولحق بها وارتمى على خصرها كموجة بطيئة فطوقه بذراعيه، ووقعت على الرمل الناعم، ثم استدارت وواجهته بصدر ناهد يرتفع وينخفض مع تنفسها المتلاحق، وهي تنظر إلى وجهه القريب منها، وعلى وجهها ابتسامة المهزوم المنتصر، فتطوقه بذراعيها. ويحس بأصابعها الرقيقة تنطبع على ظهره، فيدفن وجهه في صدرها.[/font]
[font=&quot]وتأتي موجة هائلة فتغطيهما، فيحس برغبته تتقلص، والبرد يسري في عظامه والألم حاداً في بطنه... وتنظر تاج إلى بدنه، وينظر هو إلى حيث تنظر فيرتاع.. ويكتشف أنه بدون جنس... فيوليها ظهره، ويعدو بكامل قواه، ودموع اليأس تتقاطر على خديه، وصرخات البؤس تمزق قلبه. وتتبعه هي مبسوطة اليدين، تناديه بلغة لا يفهمها، ولا تلبث أن تذهب بها الرياح.[/font]
[font=&quot]وأفاق من كابوسه يتقاطر عرقاً وينتفض من الانفعال والإرهاق العصبي...وقام من فراشه فذهب إلى الحمام حيث رش وجهه بماء بارد، وراح يتمشى داخل غرفة الجلوس، ويرفع أستار النوافذ ليرى ضوء الفجر الذي كان يشرف على الانبلاج.[/font]
[font=&quot]وعاد إلى غرفة النوم، فرفع سماعة الهاتف، وأدار رقم تاج، فجاءه صوتها نائماً.[/font]
[font=&quot]- تاج، هذا علي.[/font]
[font=&quot]- كم الساعة؟[/font]
[font=&quot]- لا أدري. انتظري. الخامسة صباحاً.[/font]
[font=&quot]- ماذا حدث؟[/font]
[font=&quot]- لا شيء يا عزيزتي. اغفري لي إزعاجك، ولكن لابد لي أن أتحدث إلى مخلوق بشري. وأنت نوعاً ما مسؤولة عن انزعاجي بطريقة غير مباشرة.[/font]
[font=&quot]- أنا؟![/font]
[font=&quot]- لا تنزعجي! أنا أمزح. أتذكرين حديثنا عن جزيرة واق الواق؟[/font]
[font=&quot]- آه![/font]
[font=&quot]- الليلة رأيت حلماً مزعجاً كنت أنت فيه معي في تلك الجزيرة...[/font]
[font=&quot]- ما هو هذا الحلم؟ هل يمكنك أن تقصه على؟[/font]
[font=&quot]- فيما بعد.. الآن أريد أن أقول لك، إنني مستعد للذهاب إلى "فيجي" ولا يهمني إذا لم أرجع إلى لندن أبداً...[/font]
[font=&quot]وجاءه صوت تاج مليئاً بهجة وسروراً:[/font]
[font=&quot]- لا أدري ما أقول يا علي... الآن لا يهمني أن أنام... لقد طار النوم عن عيني...[/font]
[font=&quot]- ما قولك إذن في الفطور معاً؟[/font]
[font=&quot]- سأكون عندك في ظرف نصف ساعة.[/font]
[font=&quot]ووضع السماعة وقام للاستحمام.[/font]
[font=&quot]وفي طريقهما إلى المطعم لاحظاً اسم الدكتور هالن وصورته على واجهات محلات الصحافة واسمه مكتوباً بالحروف الكبيرة على الصفحات الأولى، فاشتريا مجموعة من الصحف لفها نادر تحت إبطه ليقرأها على مائدة الفطور.[/font]
[font=&quot]ونظرت تاج إليه بعد انتهائه من قراءة الصحف متسائلة فرد:[/font]
[font=&quot]- لا جديد...[/font]
[font=&quot]وتخشب وجهه الشاحب، وساد الصمت المائدة.[/font]
[font=&quot] [/font]

 
[font=&quot]تحرك التاكسي اللندني خارجاً من "كارلايل سكوير" إلى "كنجزرود" يدرج على مهل في طريقه إلى مطار (هيثرو). ومن داخله كان الدكتور نادر وإلى جانبه تاج ينظران إلى الشوارع المكسوة بالثلج، وإلى السيارات وهي تخوض الوحل البارد، وتلقي به على الأرصفة.[/font]
[font=&quot]كان الثلج قد تساقط الليلة السابقة، وتراكم على سطوح البيوت وحيطان الحدائق المنزلية القصيرة وظهور السيارات الواقفة.[/font]
[font=&quot]وكان المارة يخوضون المزيج المتذاوب بأحذية المطاط الشتوية بحذر بالغ خوف الانزلاق.[/font]
[font=&quot]والتفتت تاج إلى الدكتور نادر:[/font]
[font=&quot]- هل أنت نادم على مغادرة لندن؟[/font]
[font=&quot]فمط شفته السفلى، ثم قال:[/font]
[font=&quot]- لندن كالزواج، من فيها يريد الخروج منها، ومن خارجها يريد الدخول إليها.[/font]
[font=&quot]واتسعت عينا تاج، ووضعت يدها على صدرها في مفاجأة واندهاش.[/font]
[font=&quot]- أهذه فكرتك عن الزواج؟[/font]
[font=&quot]- لا يا آنسة، هذا مثل فقط![/font]
[font=&quot]- لا أريد أن أقول إنه تعريف متشائم، ولا أعتقد أنه صحيح بالنسبة لجميع الزيجات.[/font]
[font=&quot]وابتسم الدكتور نادر ففركت يديها، وهي تقول في مرح صبياني يعجب الدكتور نادر:[/font]
[font=&quot]- بعد بضع ساعات ستشرق الشمس ثم لا تغرب إلا في الليل![/font]
[font=&quot]ثم أضافت:[/font]
[font=&quot]- في لندن تشرق الشمس غاربة![/font]
[font=&quot]ونظر الدكتور نادر إليها بافتتان أخجلها.[/font]
[font=&quot]قامت النفاثة الضخمة في الميعاد تاركة وراءها مدارج مطار "هيثرو" تلمع من بلل الثلج الذائب، وارتفعت شبه عمودية إلى عنان السماوات تجر وراءها ذيلاً مستقيماً من البخار والزئير الحاد.[/font]
[font=&quot]أطلَّ الدكتور نادر من النافذة، عبر صدر تاج الناهد، لينظر إلى النفاثات الضخمة الجاثمة على أرض المطار وهي تبتعد لتصبح كلعب من الورق الفضي.[/font]
[font=&quot]ووقع بصره على صدر تاج منعكساً شكله على ضوء السماء الداخل من النافذة المستديرة، فرآها عارية كما كانت في حلمه الغريب. ونش العرق جبينه، وكادت تضبطه تاج، وهو يحملق في صدرها وفي عينيه رعب، فأشاح بوجهه في اللحظة المناسبة، وكأنما أحست هي بما كان يجول في ذهنه، فوضعت يدها الدقيقة الأصابع على صدرها بحركة بناتية لا إرادية.[/font]
[font=&quot]ومرت مضيفة برزمة جرائد ومجلات، فتناولت تاج جريدة ومجلة. وحرك هو رأسه بالنفي، وهو يضغط على الزر، ويدفع الكرسي بظهره إلى الوراء ويغمض عينيه.وفسخت تاج حزامها، وسهمت بعينيها نحو الغرب.[/font]
[font=&quot]كانت الشمس على وشك الغروب حمراء كبيرة، أسفلها غارق في ضباب أزرق تجر تحتها ذيلاً ذهبياً فوق صفحة المحيط.[/font]
[font=&quot]ورغم ارتفاع الطائرة فقد ظلت حجوم الأشياء وأضواء القرى تبدو واضحة متلألئة كالجواهر في منجم طين أسود.[/font]
[font=&quot]ولم يفق الدكتور نادر إلا على صوت الوصيفة تسأله هل يريد عشاءه. فاعتدل في كرسيه ونظر من النافذة نحو الأفق الغربي. كان الشفق ما يزال يلون الفضاء بلون القرمز والبنفسج. وفي الشرق كانت النجوم تلمع كبيرة في خميلة من السندس الداكن.[/font]
[font=&quot]الطائرة ضاربة بأجنحتها الضخمة في عرض الفضاء وقوراً شامخة الأنف.[/font]
[font=&quot]وهدأت الحركة داخل الطائرة بنهاية العشاء. وانطفأت الأنوار إلا ما كان من المصابيح الفردية فوق رؤوس من فضلوا القراءة والكتابة.[/font]
[font=&quot]ودخلت الطائرة سماء الصحراء تاركة وراءها المدائن والأضواء. واختفت علائم الأنس البشري، وحلقت السمكة الفضية سابحة بين فيافي السماء والصحراء كجرم من الأجرام السماوية.[/font]

 
[font=&quot]وما نزلت الطائرة بلاجوس، عاصمة نايجيريا حتى ملأ الجو أزيز أسلاك البرق والهاتف تنقل خبر اختفاء الدكتور على نادر والآنسة تاج محيي الدين من قلب الطائرة في عرض الفضاء.[/font]
[font=&quot]ووصل الخبر لندن، كما وصلها خبر اختفاء الدكتور هالين قبل بضعة أسابيع، وما زال لم يعثر له على أثر.. وما يزال إختفاؤه سراً غامضاً يحير الشرطة الدولية.[/font]
[font=&quot]وتكرر نفس ما حدث عند اختفاء الدكتور هالن من مؤتمرات صحافية، وتخمينات تحاول كشف الغموض فما تزيده إلا غموضاً.[/font]
[font=&quot]وظهر على التلفزيون عدد من الدكاترة زملاء نادر ومعارف تاج، واستجوبتهم السلطات. ورغم كل المحاولات فقد بقى لغز الاختفاء داخل الطائرة في الفضاء محيراً للجميع.[/font]
[font=&quot]وقبل انتشار الخبر في لندن كان ثلاثة رجال من السكوتلاند يارد يفتحون منزل الدكتور على نادر بكارلايل سكوير وينتشرون في غرفه بحثاً عن جميع ما يمكن أن يؤدي إلى كشف الغموض المزدوج الآن باختفاء نادر.[/font]
[font=&quot]وعثر أحدهم كان يبحث في أدراج غرفة النوم على يومية بخط الدكتور نادر فصاح:[/font]
[font=&quot]- إيه![/font]
[font=&quot]وتجمع الاثنان حوله:[/font]
[font=&quot]- ماذا؟[/font]
[font=&quot]- أعتقد أني عثرت على شيء. ربما كانت هذه مذكرات الدكتور نادر.[/font]
[font=&quot]وتناولها أكثر الجماعة سناً فتصفحها.[/font]
[font=&quot]- هناك عقبة. المذكرات مكتوبة باللغة العربية.[/font]
[font=&quot]فقال أصغر الثلاثة:[/font]
[font=&quot]- أعرف أحداً يقرأ العربية.[/font]
[font=&quot]فصرفه الرئيس بحركة من يده، وهو ينقر على الكناش الأسود بأصابعه، ثم قال.[/font]
[font=&quot]- ناد محطة "البيبسي" القسم العربي، وأسأل عن أحد اسمه فيليب ماكنزي، ودعني أتكلم معه.وأدار الفتى قرص التلفون وتكلم فيه قليلاً، ثم ناوله رئيسه هامساً:[/font]
[font=&quot]- فيليب ما كنزي على الخط.[/font]
[font=&quot]وتناول السماعة:[/font]
[font=&quot]- فيليب.[/font]
[font=&quot]- نعم.[/font]
[font=&quot]- المفتش دُورْسي. هل تذكرني؟[/font]
[font=&quot]- طبعاً، طبعاً! خيراً إن شاء الله.[/font]
[font=&quot]- هل يمكنك أن تأخذ سيارة أجرة في الحال وتأتي إلى منزل صديقك الدكتور علي نادر؟[/font]
[font=&quot]- هل أنت المكلف بالبحث في القضية؟[/font]
[font=&quot]- نعم. هل وصلتك الأخبار؟[/font]
[font=&quot]- المحطة تضج بها.[/font]
[font=&quot]- هل من جديد في الموضوع؟[/font]
[font=&quot]- كلا، أنا أراقب الآلة كل دقيقة. الدكتور نادر صديق شخصي كما تعلم.[/font]
[font=&quot]- أعرف، لذلك أحتاج إلى مساعدتك. قل لرئيسك إنك مطلوب من السكوتلانديارد للمساعدة في القضية.[/font]
[font=&quot]- حاضر! سأكون معكم في ظرف ربع ساعة.[/font]
[font=&quot]ووصل فيليب، فناوله المفتش كراسة المذكرات، فتناولها هذا بحذر وإشفاق وتردد، ثم رفع عينيه إلى المفتش متسائلاً، فحرك هذا رأسه موافقاً:[/font]
[font=&quot]- ليس هناك وسيلة غيرها. ربما تعطينا خيطاً يقودنا إلى حل. فلا تشعر بالإثم، فهو صديقك وقد يكون أطلعك على كثير من أسراره.[/font]
[font=&quot]وبدأ فيليب يتصفح المذكرة ويقرأ في سره. وأمر المفتش أصغر مساعديه أن يُعِدَّ بعض الشاي. ثم التفت إلى المساعد الآخر وأمره أن ينادي القسم المركزي ويعلمهم بماعثروا عليه، ثم قال لفيليب.[/font]
[font=&quot]- أبدأ من النهاية وأقرأ طريقك إلى الوراء.[/font]
[font=&quot]وبدأ من النهاية يقرأ ويترجم للمفتش:[/font]
[font=&quot]"إنني اليوم متحمس للغاية. أشعر كأنني سجين مدة ثلاثين سنة يحفر في أرض السجن للهروب، وكأنني سمعت سجيناً آخر يحفر في اتجاهي من الزنزانة المجاورة، وإننا سنلتقي قريباً مثل الشاب والشيخ في قصة "مونتي كريستو" هناك جماعة تعرفت عليها من خلال النقر على الجدران. حديثنا ليس مفهوماً كله، ولكنه اتصال على الأقل. قريباً تنفتح الأبواب. إنها الثورة. سوف نتعانق على بوابات الحرية، ونمضي في طريقنا نغني الأناشيد ونلوح بالأعلام.[/font]
[font=&quot]"المد المفلسفي الجديد لم يعد تفكيراً سلبياً غاضباً رافضاً. لقد مرت مرحلة العواطف والشاعرية، وبدأت عملية البناء الحقيقية. بدأ التفكير في الحل، وليس في وضع المسائل والألغاز ثم الشكوى من صعوبة حلها.[/font]
[font=&quot]"ما عجز عنه الفلاسفة القدماء أصبح الآن حقلاً للتجارب العلمية الجديدة. مثل النظر بالميكروسكوب إلى الأشياء التي كانوا ينظرون إليها بالعين المجردة. ودخلت المحاليل الكيماوية لتحرر الإنسان من العبء الثقيل الذي رزح تحته آلاف السنين. بدأت عملية فصل الروح عن الجسد دون ضياع التعاون بينهما".[/font]
[font=&quot]وقاطع المفتش دروسي فيليب:[/font]
[font=&quot]- يا ترى ماذا يعني بالمحاليل الكيماوية وفصل الروح عن البدن؟[/font]
[font=&quot]لعله يعني محلول "النيروسين" الذي عثر عليه أحد العلماء الألمان بجامعة "هايد لبرج" والذي من شأنه أن ينشط العقل بدرجة يشعر معها متناوله بارتفاعه عن المستوى البشري، بتحوله الفجائي إلى عقل روح بلا جسد، يمكنها أن يخترق حجباً لا تراها وهي حبيسة الجسد. هكذا سمعته مرَّة يشرح تأثيره على الجهاز العصبي.[/font]
[font=&quot]- هل تعتقد أنه نوع من المخدرات في نفس درجة "ل.س.د"؟[/font]
[font=&quot]- لا أعتقد. ليست للنيروسين مضاعفات عنيفة مَرَضية على الدم والجهاز التناسلي كما لـ"ل.س.د".[/font]
[font=&quot]- هل تعتقد أن الدكتور نادر جرب ذلك المحلول بنفسه؟[/font]
[font=&quot]- هذا سؤال أعتقد أنه هو وحده يمكنه الإجابة عليه.[/font]
[font=&quot]وابتسم المفتش وقال:[/font]
[font=&quot]- لا خوف عليك، يا فيليب. اقرأ.[/font]
[font=&quot]وقلب فيليب صفحة أخرى فوجدها سطراً واحداً.[/font]
[font=&quot]"الالتزام لا يجب أن يكون إلا للحق والخير والجمال".[/font]
[font=&quot]وقلب صفحة أخرى بدأ يقرأ صامتاً، ولاحظ المفتش ذلك فقال:[/font]
[font=&quot]- صعوبة في الترجمة؟[/font]
[font=&quot]- كلا. بل هذا شيء شخصي نوعاً ما. الدكتور نادر يتكلم عن عواطفه نحو كاتبته أو مساعدته "تاج" بحرقة غريبة لا أعتقد أنه يريد أحداً أن يطلع عليها. ولا أعتقد أن فيها إشارة لشيء. بعد أن بث المذكرة آلام حبه وحرق حرمانه تكلم عن جدار سايكولوجي لم يستطع تسلقه أو اختراقه.[/font]
[font=&quot]- ماذا تظنه؟[/font]
[font=&quot]- لا أدري، ولكنه يقول هنا إنه جدار يقف بينه وبينها. والدكتور نادر لا يؤمن بالحواجز بين الأديان والأجناس، وإن كانت هي من نفس دينه، تاج باكستانية.[/font]
[font=&quot]- حب غير متبادل، ربما.[/font]
[font=&quot]- تاج تعبده... سمعتها مرة تعلق على كتابه الجديد "عصر الإنسان" بقولها إنه أهم كتاب منذ أصل الأنواع لتشارلس داروين، وأن نادر أصبح معلم العلماء، "وعصر الإنسان" كتاب الكتب... لا، الحاجز لابد أن يكون شيئاً آخر....[/font]
[font=&quot]- هل تعرف الدكتور نادر على الصعيد الشخصي؟[/font]
[font=&quot]- قليلاً.[/font]
[font=&quot]- هل يمكنك أن تصفه بأنه أعزب طبيعي؟[/font]
[font=&quot]- تعني أنه لا يحب النساء؟[/font]
[font=&quot]- أعني لا يستطيع ربط علاقة بدنية معهن.[/font]
[font=&quot]- لا أدري. هذا أيضاً سؤال...[/font]
[font=&quot]وقاطعه المفتش محاكياً:[/font]
[font=&quot]- وهو وحده يمكنه الإجابة عليه. أعرف... أولئك لأصدقائك يستحق الإعجاب...وقلب فيليب الصفحة وهو يبتسم، كانت عليها فقرة واحدة:[/font]
[font=&quot]"عقل الإنسان وعواطفه مثل رقاص الساعة، كلما دفعته في اتجاه تأرجح بنفس القوة إلى الاتجاه المعاكس ولا استقرار إلا عند الوسط".[/font]
[font=&quot]ورفع المفتش حاجبيه:[/font]
[font=&quot]- ماذا يعني؟[/font]
[font=&quot]ورفع فيليب عينيه عن الكناش ليسرح في فضاء الغرفة:[/font]
[font=&quot]- أعتقد أنه يعني شيئاً يتعلق بردود الفعل. الدكتور نادر كان له حسن أو سوء حظ النشأة مع أب من المدرسة القديمة، صعب المراس عنيد، عميق التدين أراد أن ينشئه على نفس الوتيرة، متجاهلاً عصره ورأيه ورهافة حسنه.[/font]
[font=&quot]وقد دفعه والده بتطرفه إلى التطرف في الاتجاه المعاكس فخرج يبحث عن كل ما يمكن أن ينفد مزاعم أبيه ليبرر ثورته عليه. قصة طويلة.[/font]
[font=&quot]وعاد فيليب يقرأ في صفحة أخرى:[/font]
[font=&quot]"ماذا سيكون مصير الإنسان لو ضغط مجنونه على زر أحمر وفتح أبواب جهنم على الأرض؟ ماذا يمكن أن نفعل لتلافي إبادة البشرية وما حققته من تقدم أثناء الخمسة آلاف سنة من تاريخها؟"[/font]
[font=&quot]"هل هناك "شانجريلا" لحفظ هذا التراث؟ أعتقد أن الأوان قد آن ليقوم جماعة من العلماء المسؤولين ببناء قلعة أو جزيرة منيعة عن الإشعاع حتى إذا كان الإنسان ينوي الانتحار تدخل العلماء لتقنينه والحد من مفعوله بحيث يقتصر على الساسة والعناصر التي وصلت بالإنسانية إلى حافة الإنتحار يجب الاحتفاظ بالموهوبين من العلماء والفنانين والصناع والمحترفين لبدء عالم جديد نظيف".[/font]
[font=&quot]وظل فيليب ما كنزي يقرأ ويترجم حتى منتصف الليل.[/font]
[font=&quot]وحين انتهى من القراءة كان التعب والاجتهاد قد أنهكاه فتناول المفتش الكناش بين يديه الخشنتين، وسهم بعينيه في فراغ الغرفة.[/font]
[font=&quot] [/font]
 
[font=&quot]أحس الدكتور علي نادر أنه يفيق من نوم ثقيل، وأن صوتاً صارخاً يترامى إلى سمعه من بعيد فيه إنذار بخطر قريب.[/font]
[font=&quot]كان يشعر كأنه في حلم من أحلام طفولته كان يرى نفسه يطير من النافذة إلى وسط الدار، أو يقفز بين السطوح، أو يقف في الفضاء فوق قبة المحكمة الزجاجية يلوح إلى جده بداخلها.[/font]
[font=&quot]وشعر بتيار هواء بارد يغمر وجهه وسائر جسده، وأنه يتأرجح من اليمين إلى اليسار معلقاً في فضاء لا نهائي.[/font]
[font=&quot]وفتح عينيه بصعوبة فلم ير شيئاً لأول وهلة. كان يطبق الأفق حوله ظلام بارد أيقظ حواسه النائمة بسرعة. وحملق في العتمة الزرقاء ليرى شبح مخلوق بشري قريباً منه يتأرجح هو الآخر في الفضاء... وحينئذ فقط أدرك أنه نازل بمظلة ورفع عينيه ليرى قبتها الهائلة تحجب عنه السماء...وترامى إليه صوت من ناحية الشبح الآدمي المعلق على بعد خطوات قليلة منه.[/font]
[font=&quot]- دكتور نادر![/font]
[font=&quot]ولم يجب، فعاد الصوت الذي ميز فيه الآن صوت أنثى مألوفاً:[/font]
[font=&quot]- دكتور نادر! هل تسمعني؟[/font]
[font=&quot]فرد هو بصوت مبحوح:[/font]
[font=&quot]- أسمعك... تاج....[/font]
[font=&quot]- نعم.. اسمع! حاول الاسترخاء التام. نحن نازلان بمظلة! قريباً سنلمس الأرض.[/font]
[font=&quot]وفي اللحظة نفسها لامست قدماه كئيب رمل ناعم فوقع على وجهه وتدحرج إلى أسفله. ووقف يحاول التخلص من شبكة الحبال التي كانت تربطه إلى المظلة وسمع صوت تاج في الظلام.[/font]
[font=&quot]- دكتور نادر! أين أنت؟[/font]
[font=&quot]فصاح:[/font]
[font=&quot]- أنا هنا.[/font]
[font=&quot]والتفت ليرى شبحها مرتسماً على الأفق الأزرق وهي واقفة على رأس التل وراءه. ونزلت نحوه تخوض الرمل الناعم وتحمل تحت ذراعيها صرة كبيرة. وحين اقتربت منه سألته.[/font]
[font=&quot]- هل أنت بخير؟[/font]
[font=&quot]- أعتقد.[/font]
[font=&quot]- هل تحس ألماً من أي نوع؟[/font]
[font=&quot]- لا، ماذا حدث؟ أين نحن؟[/font]
[font=&quot]- ألم تعرف؟ لابد أن الضغط أفقدك الوعي. يظهر أن الطائرة لاقت بعض المتاعب الميكانيكية، فوزعت الوصيفات علينا المظلات للهبوط خوفاً من انفجار الطائرة عند احتكاكها بالرمل. وقد ساعدت الوصيفات على إلباسك مظلتك ونزلت معك في نفس الدفعة.[/font]
[font=&quot]لم يكن الدكتور نادر يدرك معاني ما كانت تقول، فقد كان يمشي على الرمل نصف مخدر كأنه في حلم أو سكر شديد.[/font]
[font=&quot]وبعد فترة أحس أنها طالت سأل:[/font]
[font=&quot]- أين نحن؟[/font]
[font=&quot]وجاءه صوتها:[/font]
[font=&quot]- لاأدري. مما يظهر نحن الآن في قلب الصحراء الكبرى.[/font]
[font=&quot]- وماذا سنفعل الآن؟[/font]
[font=&quot]قالها وهو ينظر إلى تاج التي كانت بعض خصلات شعرها الأسود تتدلى على وجهها وهي تحاول إعادتها إلى تحت الشال الذي كان يغطي رأسها وتنظر حواليها في جميع الاتجاهات وهي تتكلم:[/font]
[font=&quot]- أعتقد أنه من الأفضل ألاَّ نتحرك في أي تجاه حتى الصباح لنعرف أين نحن، وحتى إذا بحثوا عنا حول المكان الذي فقدت فيه الطائرة وجدونا بسهولة. ربما كانت الريح قد أبعدتنا عن خط سير الطائرة، فلا داعي للابتعاد أكثر.[/font]
[font=&quot]ورآها تحملق في مكان مُعَيَّن، ثم ناولته الصرة الكبيرة التي كانت تحت ذراعها قائلة:[/font]
[font=&quot]- خذ هذه، وانتظر قليلاً حتى أعود.[/font]
[font=&quot]واختفت في حلكة الظلام حتى أصبحت بقعة سوداء متحركة. ورآها تنحني ثم تعود بصُرَّة أخرى تحت إبطها، قالت:[/font]
[font=&quot]- وجدت مظلتك. سنحتاجهما للغطاء. تعالَ معي. وأمسكت بيده فتبعها كطفل مطيع. وشعر بالبرد قارساً يتسرب إلى عظامه. ونظر أمامه فإذا صخرة عالية تقف وحدها وسط الرمال.[/font]
[font=&quot]وسمعت تاج قضقضة أسنانه فنشرت المظلة ووضعتها على أكتافه وظهره.[/font]
[font=&quot]وتناولت مظلته فتلفعت بها، وقادته نحو الصخرة حيث دارت حولها بسرعة ثم عادت تقوده إلى الناحية الأخرى منها.[/font]
[font=&quot]- الريح لا تمس هذه الناحية. سوف نجلس إلى جنب الصخرة حتى الصباح.[/font]
[font=&quot]وجلست داخل شق واسع بالصخرة ثم سحبت الدكتور نادر إلى جانبها فعقد القرفصاء.كان عقله المخدر نصف مشلول لا يفكر إلا فيما تحت عينيه، وما داخل دائرة شعوره المباشرة حادث الطائرة، ووجوده هائماً على وجهه في قفار الصحراء وفي جوف الليل أشياء لم تدخل بعد منطقة وعيه، ولم تترجم إلى أحداث خطيرة.[/font]
[font=&quot]وفي تلك الليلة هبت عاصفة رملية مخيفة. بدأت الرياح تهب باردة كما تعصف في أصقاع الشمال. وسرعان ما أخذت تشتد وتحرث الرمال وتصفر بين الشعاب والصخور.[/font]
[font=&quot]وقبع الدكتور نادر وتاج في شق الصخرة يستمعان إلى عُوائها وكأنها أغوال تتعارك وعماليق تتصارع وتتقاتل ممتطية جياداً من ظلام.[/font]
[font=&quot]والتصقت تاج بطريقة لا إرادية بالدكتور علي نادر، فطوق خصرها بذراعه وضمها إليه وهي ترتعش كالعصفور الصغير، بينما العاصفة تزداد هيجاناً وطغياناً.[/font]
[font=&quot]وباتت الرياح طول الليل تولول عاتية تقتلع الصخور، وغطتهما الرمال الخفيفة التي كانت تتساقط من فوق الصخرة ومن جانبها، ونادر يرفع رأسه من حين لآخر ليدخل قليلاً من الهواء إلى تحت الغطاء.[/font]
[font=&quot]وهدأت العاصفة فجأة كما بدأت دون أن يُحسَّا بها. فقد غرقا في سبات عميق بعد هدوئها التدريجي، أرهقهما التعب والسهر والفزع لغضبة الطبيعة المتوحشة.[/font]
[font=&quot]واستيقظ الدكتور علي نادر على تاج تحركه ليفيق.[/font]
[font=&quot]كانت الشمس تشرق أرجوانية هائلة الحجم من وراء التلال الشرقية، تلمس أشعتها الحريرية رؤوس الصخور والمرتفعات. والسماء كانت زرقاء كأعماق المحيط.[/font]
[font=&quot]وأخذ الدكتور علي نادر يفرك عينيه دون أن يعرف أين هو. ونظر حوله ليجد نفسه مغطى بالمظلة المثقلة بالرمل وتاج إلى جانبه تنظر إلى فوق بوجهه شاحب رسم عليه الرعب.[/font]
[font=&quot]ونظر إلى حيث كانت تنظرُ، فإذا ثلاثة وجوه سمراء ملثمة بعمائم زرقاء تنظر إليهما من فوق التل المواجه بعيون ثاقبة.[/font]
[font=&quot]ووقف ينفض التراب عن ملابسه، ومد يده إلى تاج ليساعدها على الوقوف.[/font]
[font=&quot]ولم يتحرك الرجال الثلاثة. قال الدكتور نادر وارتعاشة السرور في صوته:[/font]
[font=&quot]- السلام عليكم.[/font]
[font=&quot]وانفرجت أسارير الرجال الثلاثة، وتقدم أكبرهم سناً يرحب به باللهجة الحسانية:[/font]
[font=&quot]- أهلاً وسهلاً! كيف تتكلم العربية؟[/font]
[font=&quot]- أنا مغربي.[/font]
[font=&quot]والتفت إلى تاج وأضاف:[/font]
[font=&quot]- وهذه السيدة زوجتي. لقد نجونا من حادث طائرة كادت تحترق بنا في السماء فنجاناً الله. وكتب لنا حياة جديدة...[/font]
[font=&quot]وقال أحد الرجال:[/font]
[font=&quot]- الحمد لله على سلامتكما. نحن من قافلة مخيمة في واحة قريبة؛ عثرنا عليكما ونحن نستكشف المنطقة. العاصفة تغير وجه الصحراء، تغطي أشياء وتكشف أشياء.[/font]
[font=&quot]- نحن سعيدان بلقائكم كل السعادة. أين نحن؟ ما هي أقرب مدينة إلينا؟[/font]
[font=&quot]وماذا يجب أن نفعل لنعود إلى المغرب أو السينيغال؟[/font]
[font=&quot]- أنتما في موريتانيا، والأحسن أن تأتيا معنا إلى مضارب خيامنا، وتقابلا شيخنا المختار بن علي.[/font]
[font=&quot]ولأول مرة رأى الدكتور نادر أن تاج تحمل حقيبة أوراقه وحقيبة أشيائها فأخذهما منها، وقال لها بالإنكليزية:[/font]
[font=&quot]- لا تخافي. هؤلاء عرب موريتانيون يخيمون هنا قريباً، وسوف يأخذوننا إلى رئيسهم. يظهر أنهم لا يعرفون أين نحن من أقرب مدينة.[/font]
[font=&quot]والتفت إلى الرجال وقال:[/font]
[font=&quot]- هيا بنا إذن، كم تبعد مضارب خيامكم؟[/font]
[font=&quot]وأشار أكبرهم بيده إلى تل ناحية الشرق قائلاً:[/font]
[font=&quot]- هنالك واحة خضراء وراء ذلك التل. ونحن ضاربون بها.[/font]
[font=&quot]وحمل أصغر الجماعة حقيبة الدكتور نادر بأمر من كبيرهم، وتحركوا نحو التل.[/font]
[font=&quot]ومن فوقه أشرفوا على منظر رائع الجمال. أحقاف الرمال البيضاء واقفة عذراء في أشكال تخلب الألباب. ظلالها الطويلة ممتدة نحو الغرب تسير إلى الواحة كأنها أمواج المحيط حول جزيرة غناء. ولم تستطع تاج كبت شعورها فتنهدت بعمق وقالت:[/font]
[font=&quot]- هل ما نزال نحلم؟[/font]
[font=&quot]ولم يجب نادر، فقد كان مأخوذاً بروعة المنظر وصمت الفجر المطبق للآفاق.[/font]
[font=&quot]وما اقتربا من الواحة حتى كان الجميع يتطلعون إلى القادمين الغريبي المظهر.[/font]
[font=&quot]ومر الدكتور نادر ووراءه تاج تبتسم للسيدات وهو يحيي الرجال فيردون التحية بأصوات خفيفة فيها تردد وشك.[/font]
[font=&quot]ومن بين الخيام الوبرية الثقيلة كان يخرج أطفال سمر نحاف تلمع عيونهم الكبيرة وهم يحملقون في تاج ونادر ثم ينضمون إلى الموكب.[/font]
[font=&quot]وخرج شاب طويل القامة، قويُّ الملامح، ذو عينين شديدتي السواد وحاجبين كثيفين. ووقعت عينا تاج في عينيه فأخافتها نظرته، وأسرعت خلف نادر تتعثر في ثوبها وتكاد تلتصق به.[/font]
[font=&quot]وقاومت الرغبة في الالتفات لترى هل ما يزال يخترقها بسهامه.[/font]
[font=&quot]والتفت الدكتور نادر إلى تاج وسألها:[/font]
[font=&quot]- هل عندك منديل؟[/font]
[font=&quot]- أعتقد أنه في حقيبة يدي.[/font]
[font=&quot]وأخذت تبحث فيها حتّى أخرجته، وقالت:[/font]
[font=&quot]- لماذا تريده؟[/font]
[font=&quot]- غطي رأسك...[/font]
[font=&quot]وتغطت تاج بالمنديل وعقدته تحت ذقنها، وسارت تحت نظرات العيون النفاذة من وراء الأقنعة الزرقاء والوجوه الملوحة، والدكتور يرفع يديه بالتحية حتى وقفوا على باب خيمة كبيرة. ودخلها الرجل الصحراوي فمكث قليلاً ثم عاد يدعو الدكتور ورفيقته إلى الداخل.[/font]
[font=&quot]ودخلا ليجدا رجلاً مسناً مهيب الطلعة أبيض الشعر جالساً على حشية، وفي يده سبحة وهو يحرك شفتيه دون صوت.[/font]
[font=&quot]وتقدم الدكتور نحوه:[/font]
[font=&quot]- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.[/font]
[font=&quot]ورد الرجل بابتسامة محببة:[/font]
[font=&quot]عليكم السلام ورحمة الله وبركاته. أهلاً وسهلاً. تفضلا...[/font]
[font=&quot]وأشار بيديه إليهما ليقعدا على الحشية أمامه، وهو يتمتم بالتسبيح في خشوع لحظة دون أن ينطلق. ثم جمع السبحة في قبضة يده النحيلة المعروقة والتفت للدكتور نادر:[/font]
[font=&quot]- أهلاً بابن العرب. وما جاء بكم إلى هذه الأصقاع؟ وتنحنح الدكتور مستعداً للكلام:[/font]
[font=&quot]- يا مولانا الشيخ، لقد احترقت طائرتنا في الفضاء، ونجانا الله منها بلطفه. والآن نجد أنفسنا هنا لا علم لنا بأقرب مدينة أو طريق إلى حيث نخبر أهلنا بأننا ما نزال على قيد الحياة.ونظر الشيخ بابتسامة استغراب إلى الدكتور وسأل:[/font]

 
[font=&quot]- وكيف نزلتُما من طائرة تحترق؟[/font]
[font=&quot]فالتفت الدكتور إلى الرجل، وطلب منه أن يأتي بالمظلة ففعل، ووقف هو أمام الشيخ ونشرها على الأرض.[/font]
[font=&quot]- بهذه يا مولانا يمكن للإنسان أن يتعلق بالهواء، وينزل سالماً على الأرض.[/font]
[font=&quot]وحرك الشيخ رأسه دون أن يدري أحد هل تصديقاً أم استغراباً أم استهزاء.[/font]
[font=&quot]وفكر قليلاً ثم قال:[/font]
[font=&quot]- أتعرف أن كثيراً من الجواسيس ينزلون بهذه البقاع ليعرفوا ما يجري بها؟ الإسبانيون يمنعون عنا مناطق شاسعة بدعوى أنها خطر على القوافل. ويظهر أن ذلك من بعض أسرارهم، وهم يقبضون على كل مشتبهٍ فيه.[/font]
[font=&quot]وكانت تاج حريصة على فهم ما يقال، فكان نادر يترجم لها باختزال.[/font]
[font=&quot]وأجاب الدكتور نادر:[/font]
[font=&quot]- أنا متأكد يا مولانا أنهم سيعرفون عن الطائرة التي احترقت بطرقهم الخاصة، ويبعثون من يبحث عن بقاياها. لابد أنهم سمعوا الأخبار. وإذا أوصلتمونا إلى أقرب مركز من مراكزهم فسيمكن أن يساعدونا على العودة.[/font]
[font=&quot]وأحس بيد تاج تضغط على ركبته، فالتفت إليها:[/font]
[font=&quot]- ما رأيك يا تاج؟[/font]
[font=&quot]فقالت بالإنكليزية:[/font]
[font=&quot]- لا أعتقد أنها فكرة حسنة. البقاء مع القافلة أسلم لنا حتى نصل إلى أقرب مركز تجاري، وفيه نأخذ أقرب مواصلة. قل للشيخ إذا أراد أن يوصلنا فنحن تحت أمره.[/font]
[font=&quot]والتفت للشيخ فقال:[/font]
[font=&quot]- معذرة يا مولانا. زوجتي من دولة الباكستان المسلمة، وهي لا تعرف العربية رغم حفظها القرآن الكريم. لذلك نحن نتكلم بلسانها. وهي ترى أن نطلب ضيافتكم حتى تبلغونا إلى أقرب مركز به مواصلات.[/font]
[font=&quot]وابتسم الشيخ لها قائلاً:[/font]
[font=&quot]- على الرحب والسعة. الآن دعنا من الكلام في هذه المواضيع. لابد أنكما جائعان. ستفطران وتستريحان معنا.[/font]
[font=&quot]وشكر الدكتور نادر الشيخ الذي صفق بيديه فأدخل الخدم أواني الثريد واللبن والتمور، ومدت أمام تاج والدكتور نادر. وأكلا والشيخ يسبح في صمت ويجيب عن أسئلتهما.[/font]
[font=&quot]وبعد أن انتهيا من الأكل أحس الدكتور نادر بالتعب يفسخ عضلاته، وبالحاجة إلى النوم والاسترخاء.[/font]
[font=&quot]ولاحظ الشيخ ذبول عيونهما فقال مبتسماً:[/font]
[font=&quot]- لابد أنكما متعبان وفي حاجة شديدة إلى الراحة.[/font]
[font=&quot]وصفق بيده، فدخل أحد الخدم الواقفين على باب الخيمة، وأشار الشيخ إليه أن يصبحهما. وقال:[/font]
[font=&quot]- ستذهبان إلى خيمة ضيافتنا حيث ستجدان فراشاً أوطأ مما نمتما عليه بالأمس. وحينما تفيقان من القيلولة يمكن أن نتحدث عن إرجاعكما إلى حيث تريدان.[/font]
[font=&quot]وصافحه الدكتور وتاج وخرجا خلف الخادم الذي قادهما إلى خيمة الضيوف.[/font]
[font=&quot]كانت الخيمة مؤثتة بزربية خفيفة زاهية الألوان، وحولها ثلاث حشايا صوفية عليها وسائد وأغطية صوفية ملونة.[/font]
[font=&quot]ووقفت تاج وسط الخيمة تنظر إلى الدكتور نادر نظرة تساؤل فقال:[/font]
[font=&quot]- أعتقد أنه من الأحسن أن نتبع نصيحة الشيخ وننام.[/font]
[font=&quot]وفي هذه اللحظة سمع صوت أحد يناديه من خارج الخيمة، فخرج ليرى من، فإذا هو الخادم وعلى ذراعه بعض الأثواب. وحين رأى الدكتور نادراً ناوله الأثواب قائلاً:[/font]
[font=&quot]- يبلغك الشيخ المختار تحياته، ويرسل هذه الأثواب لك وللسيدة حرمك.[/font]
[font=&quot]واستلمها الدكتور منه شاكراً، وعاد بها إلى تاج حيث نشرها على الحشية الصدرية.[/font]
[font=&quot]جَثَتْ تاج على جانب الحشية، وأخذت تقلب الأثواب حتى وجدت أخفها ووضعته على صدرها تقيسه. قال الدكتور:[/font]
[font=&quot]- لماذا لا تلبسينه؟[/font]
[font=&quot]فنظرت إليه بحاجبين مرتفعين. فقال:[/font]
[font=&quot]- لا يمكن أن أخرج. ليس عيباً أن تلبس المرأة أمام زوجها. ثم إنهم قد يشكون في شرعية زواجنا إذا خرجت لا تركك تلبسين.[/font]
[font=&quot]- تظاهر بأنك ذاهب بين النخيل![/font]
[font=&quot]وابتسم الدكتور نادر وخرج من الخيمة. وبدأت تاج تخلع ملابسها قطعة قطعة.[/font]
[font=&quot]وعاد الدكتور علي نادر لابساً العباءة ليجد تاج جالسة تمشط شعرها أمام مرآة صغيرة معلقة بعمود الخيمة. كان شعرها الأسود الحريري يغطي ظهرها وكتفيها والمشط يمر فيه بنعومة.[/font]
[font=&quot]والتفتت حين أحست بمقدمة وابتسمت له، فأحس بأنوثتها تغزو قلبه، وتنهد بعمق، وحاول تفادي عينيها، فقالت:[/font]
[font=&quot]- تبدو شيخاً محترماً.[/font]
[font=&quot]ونظر إلى نفسه في هندامه الجديد الذي يوحي بالوقار والاحترام، ثم رفع عينيه لينظر إليها في عباءتها القمحية اللون، وقد شدت وسطها بحزام أبرز صدرها، وسرحت شعرها الفاحم إلى الوراء، فبرزت عيناها الواسعتان. ودارت حوله مقلدة عارضات الأزياء، ثم وقفت أمامه وقالت:[/font]
[font=&quot]- ما رأيك؟[/font]
[font=&quot]- أجمل جارية وقعت عليها عيناي![/font]
[font=&quot]وتورد وجهها قليلاً فأضاف:[/font]
[font=&quot]- يا ترى كم سيكون ثمنك في المزاد؟[/font]
[font=&quot]- كم تدفع لو أخرجني النخَّاس للسوق؟[/font]
[font=&quot]- ناقتين وثلاث نعاج.[/font]
[font=&quot]وصاحت فيه:[/font]
[font=&quot]- على! أهذا ما أساوي عندك؟![/font]
[font=&quot]- من أجل صداقتنا سأضيف خروفاً للثمن. ما رأيك؟[/font]
[font=&quot]والتقطت وسادة لترميهُ بها، فصاح:[/font]
[font=&quot]- غيرت رأيي.. غيرت رأيي..[/font]
[font=&quot]- هل سترفع الثمن؟[/font]
[font=&quot]- لا، بل عدلت عن الشراء![/font]
[font=&quot]ورفعت الوسادة في وجهه فأمسك بها، وطوق خصرها محاولاً تفادي المخدة الطائرة. وسقطت الوسادة على أرض الخيمة، وبقيت تاج بين ذراعي الدكتور نادر، وهما يلهثان، وقد اقترب وجهه من وجهها واختلطت أنفاسهما...وأدرك موقفه فأطلقها وقد عادت علامات الجد إلى ملامحهما. لم يقترب الدكتور نادر من طالبته هذا القرب إلا في بعض حفلات الجامعة حين رقصا معاً، وبين حشد كبير من الطلبة والأساتذة.[/font]
[font=&quot]وطارد أفكاراً وخيالات خامرت ذهنه بقوله:[/font]
[font=&quot]- لا أكاد أصدق أننا في الصحراء.[/font]
[font=&quot]فردت تاج وهي تسوي غطاء على حشيتها:[/font]
[font=&quot]- لو أتيح لنا أن نختار، لاخترنا جزيرة "فيجي" الخضراء على الضياع في الصحراء.[/font]
[font=&quot]وتمددت على الحشية، فاحتذى نادر حذوها، وتمدد على أخرى مقابلة ونظر إلى سقف الخيمة في تأمل عميق، ثم قال وكأنه يفكر جهراً:[/font]
[font=&quot]- خُيِّلَ إليَّ هذا الصباح، وأنا أنظر من فوق ذلك التل الرملي إلى الآفاق المترامية، أن الصحراء سجن هائل... حدوده هي لا حدوده... حدوده في داخلنا، في ضعفنا على السيطرة عليها، على الخروج منها أحياء إذا نحن همنا على وجوهنا.ثم قال:[/font]
[font=&quot]- بالمناسبة، نحن محظوظان بشكل عجيب. نسقط في قلب الصحراء، وبعد ليلة واحدة تحت عاصفة هوجاء بدون طعام ولا ماء، تعثر علينا قافلة عابرة تأتي بنا إلى واحة خضراء.[/font]
[font=&quot]وسألت تاج:[/font]
[font=&quot]- هل ستعود إلى الموضوع أم ستنساه؟[/font]
[font=&quot]- أي موضوع؟[/font]

 
[font=&quot]- موضوع الصحراء والسجن. أعتقد أنها فكرة حية.[/font]
[font=&quot]- آه! عفواً يا عزيزتي.. ذلك أحد أعراض المرض العربي، الفوضى العقلية، الاستطراد. تلك الفوضى معششة في عقلي ورثتها عن الأجداد مؤلفي المصنفات والحواشي والشروح وشروح الشروح وهوامشها وطررها، إلخ، إلخ..[/font]
[font=&quot]وتنهد وهو يستعرض صفوف الكتب الصفراء على رفوف مكتبة أبيه القديمة ونقوشها الذهبية وسطورها التي لا تقاطعها نقطة أو فاصلة أو أول سطر كأنها صفوف النمل.[/font]
[font=&quot]وسمع أنفاس تاج عميقة، فأدرك أنها نامت عنه وهو يتفلسف، فابتسم وتغطى وأغمض عينيه.[/font]
[font=&quot]ولما أفاق سمع أصواتاً وغناء ودق دفوف آتية من بعيد، وبقي لحظة ينظر إلى عمود الخيمة ويتساءل أين هي.[/font]
[font=&quot]المغامرة كلها كانت كابوساً طويلاً بالنسبة إليه. ولكنه أفاق ليجد، لخيبة أمله، أن الحلم هو الحقيقة وأنه ليس في غرفة نومه بشقته بلندن، حيث يخرج يده من تحت الغطاء ليشعل الراديو ويستمع إلى آخر الأخبار، قبل أن يغادر الفراش.[/font]
[font=&quot]وتساءل يا ترى ماذا تقوله الصحف والإذاعات والتلفزيون عنه في لندن. إذا كانوا أخبروا أنه مات فلابد أن الخبر واصل إلى أهله بالمغرب، وأنهم سيعانون أحزاناً وآلام لا داعي لها.[/font]
[font=&quot]ومن جهة أخرى، حين يظهر هو بنفسه في لندن، سيحدث انفجاراً في الصحافة ووسائل الإعلام كلها. وسيعامل كشبح عاد من عالم الأموات. ولم يفته أن مثل هذه الشهرة ستجعل الناشرين يتهافتون على كتبه، حتى التافه منها! لذلك عليه أن يعود سريعاً.[/font]
[font=&quot]وسمع نحنحة على باب الخيمة ثم ندا رجل باسمه، فصاح:[/font]
[font=&quot]- نعم![/font]
[font=&quot]- الشيخ يطلبك. صلاة المغرب قريبة.[/font]
[font=&quot]وخرج فتيمم على صخرة ملساء، ثم لبس حذاءه وتبع دليله إلى حيث أقبل على جميع غفير من رجال القافلة في دائرة كبيرة حول شيخهم وهو يتحدثون.[/font]
[font=&quot]وصافح الشيخ الدكتور الذي سلم مبتسماً على الجماعة، وجلس إلى جانب الشيخ.[/font]
[font=&quot]كانت الشمس تكاد تلمس الكثبان الممتدة غرباً وهي تنزل في بطء وجلال إلى مغربها.[/font]
[font=&quot]والتفت إليه الشيخ متفقداً:[/font]
[font=&quot]- لعلك ارتحت الآن قليلاً.[/font]
[font=&quot]- ذلك بفضلكم وحسن ضيافتكم يا مولانا. السيدة وأنا في أحسن حال، ولا يقلقنا إلا انزعاج أهالينا وربما يأسهم علينا.[/font]
[font=&quot]وحرك الشيخ رأسه وأشار بيديه معاً مصبراً له بحركة رشيقة.[/font]
[font=&quot]- لابد من الصبر الآن. أنتما في أمان، وحين تعودان إلى بلدكما سيفرح أهلكما. ولكننا هنا محدودون بقوانين الصحراء. لا يمكن أن نتحرك حتى نأخذ الإذن منها. وأنت ما تزال تذكر العاصفة الرملية التي أحرقت طائرتكم. إنها تنقل الجبال، وتغير وجه الأرض فتضلنا عن الطريق.[/font]
[font=&quot]- لاشك عندي أن خبرتكم يا مولانا بالصحراء وخباياها وتغير وجوهها لا يمكن أن تخدعها زوبعة أو إعصار. رجل الصحراء يشم الاتجاه ويحسه...[/font]
[font=&quot]ورفع الشيخ رأسه فجأة لينظر إلى ناحية الخيام، والتفت جميع من كان في الحلقة من رجال معممين ملثمين بعمائم زرق، ونظر الدكتور نادر فلم يجد شيئاً غير عادي، ولم تمض بضع ثوان حتى ظهر رجل يجري نحو خيمة الشيخ.[/font]
[font=&quot]- مولانا! مولانا![/font]
[font=&quot]- ماذا؟[/font]
[font=&quot]- ولدكم فارس![/font]
[font=&quot]- ماذا أصابه؟[/font]
[font=&quot]- لقد هرب! فكَّ القيد وهرب![/font]
[font=&quot]وبدا التذمر على وجه الشيخ، فصاح بالرجل:[/font]
[font=&quot]- وماذا تنتظر؟ اتبعوه واقبضوا عليه. لن يذهب بعيداً.[/font]
[font=&quot]- لقد خرج حارسان للبحث عنه![/font]
[font=&quot]وظهر على وجه الرجل القلق والألم. فقال الدكتور مستفسراً:[/font]
[font=&quot]- مولانا! أرجو أن يكون بخير. هل يمكن أن أساعد بشيء؟[/font]
[font=&quot]وحرك الشيخ رأسه في حسرة، وقال:[/font]
[font=&quot]- فارس ولدي كان فتى نجيباً منذ صغره. بهرني ذكاؤه وسرعة حفظه للقرآن. حين كان سنه إحدى عشرة سنة كان يكتب القرآن بدون أخطاء، ويحفظ عدداً من المصنفات كالألفية والأجرومية وبعضا من الشيخ خليل. ونصحني بعض أصدقائي من سوس أن أبعث به إلى القرويين بفاس، فانتظرت حتى بلغ السادسة عشرة، وأرسلته إلى صديق لي هناك. وكنت أذهب كل صيف لزيارته أنا وأمه. وبعد أربع سنوات بدأ الولد يتغير. وشعرت بخطر ذلك التغير، فطلبت منه أن يعود معنا تلك السنة حتى لا ينسى عادات قومه وأصدقاءه الذين عاش بينهم.[/font]
[font=&quot]ولم تمض فترة على وجوده هنا حتى بات الآباء يشتكون من تسرب أفكاره إلى عقول أبنائهم وإفسادها. وانفردت به لأسأله هل ذلك حقيقة، فوجدت أنه ملحد ينكر تقاليد قومه، ويدعو علماءنا بالمشعوذين، وينعتُ شيخ طريقتنا بمضل المسلمين، ويقول إن الطرق بدع وضلالات مصيرها النار.[/font]
[font=&quot]وخفق قلب الدكتور نادر لرومانسية قصة الشاب الهارب.... وهمس لنفسه:[/font]
[font=&quot]"هذا ولي آخر يبعث في قلب الصحراء..."[/font]
[font=&quot]ثم التفت إلى الشيخ سائلاً:[/font]
[font=&quot]- ومنذ متى هو أسير عندكم؟[/font]
[font=&quot]- منذ ستة أشهر وهذه ثالث مرة يحاول فيها الهروب. لقد أقسمت بأغلظ الأيمان أنني لن أفك قيده حتى يعود عن ضلاله وإلحاده، ويتراجع عن افتراءاته أمام الجماعة، فرفض الملعون وفضل القيد! لولا أمه.... لولا أمه لقتلته![/font]
[font=&quot]- مولانا، أرجو أن يكون ما تسميه إلحاداً هو فقط تطرف في أفكار الشاب الذي يدخل المدارس والجامعات العصرية. والإلحاد تهمة كبيرة لا ينبغي أن تلقى جزافاً. لذلك أرجو أن تستعمل الرحمة في حقه.[/font]
[font=&quot]وبَدَا الأسى على الوجه الأسمر القوي الملامح، وخَبَا البريق الحاد في عينيه وهو يقول:[/font]
[font=&quot]- كدت أيأس، وكم دعوت الله أن يهديه، ولكن "إنك لا تهدي من أحببت، ولكن الله يهدي من يشاء".[/font]
[font=&quot]ووضع الدكتور يدا ناعمة على كتف الرجل، وقال:[/font]
[font=&quot]- مولانا، إذا أعاده الرجال من مهربه هل تعدني أن تتركني معه ساعة لأرى دخيلة نفسه؟ أنا غريب، وأفهم عقلية الشباب القرويين. وربما فتح لي قلبه فأضع يدي على مرض نفسه. وأنتم تعلمون أن للنفس أمراضاً كالجسد تماماً. فهل تأذنون لي..؟[/font]
[font=&quot]وحرك الرجل رأسه موافقاً، وقال:[/font]
[font=&quot]- إذا أفلحت معه، فستكون توبته أعظم هدية تقدمها إليَّ، وسوف أخرج عن طريقي لأُوصلك إلى مقصدك.[/font]
[font=&quot]وبعد لحظة كان الشيخ فيها يلعب بسبحته بعصبية ظاهرة سأله الدكتور نادر:[/font]
[font=&quot]- هل تعتقد أنهم سيلحقون به؟[/font]
[font=&quot]- دائماً يلحقون به. حين عاد من فاس عاد أعمى البصر البصيرة. لم تعد غريزته الصحراوية ماضية كما كانت. لذلك لا يستطيع أن يذهب بعيداً دون أن يترك آثاراً تدل على اتجاهه كأية ناقة أو بعير.[/font]
[font=&quot]وترامى إلى سمع الدكتور نادر صوت مؤذن يدعو لصلاة المغرب. كانت السماء ما تزال زرقاء، تزداد زرقتها عمقاً ناحية الشرق. وفي الأفق الغربي كانت آثار سحائب رقيقة برتقالية ترصع الشفق كأمواج الذهب.[/font]
[font=&quot]وفوق الكثيب وراء مضارب الخيام وقف المؤذن يدعو إلى الصلاة وقد ارتسمت صورته على الأفق. وأحس الدكتور نادر وهو ينظر إليه ويسمع أصوات الماشية والجمال، ويشم روائح الصحراء ممزوجة بدخان الكوانين، وسعف النخيل ورائحة اللبن الدافيء، أحس بعدم واقعية وجوده، وبدأ يتساءل هل يحلم أم هو هناك فعلاً.[/font]
[font=&quot]ووقف الجماعة للصلاة، وتقدم الشيخ للإمامة، وشعر الدكتور بالراحة لأنه لم عرض عليه الإمامة. كان فعلاً قد نسي كم ركعة في صلاة المغرب. وتصور الحرج الذي يمكن أن يقع فيه لو زاد أو نقص عن العدد المفروض أو تردد.[/font]
[font=&quot]وأحس للصلاة معنى جديداً في الصحراء. وفكر أن الصلاة لا ينبغي أن تكون مجرد روتين للهبوط والصعود وتلاوة الآيات والأدعية، ولكن للتفكير المستمر في الهدف من الحياة والمصير. وردد في نفسه الآية القرآنية "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"، وحرك رأسه رافضاً أن يكون الهدف من وجوده هو العبادة، إلا إذا كانت العبادة تعني التفكير والتأمل. وفكر إن الله لابد أن يكون "فكرة" نسبية تتفق وعصر الفرد ومستوى ثقافته وذكائه. وإله هذا العصر هو بدون شك أرقى وألطف من آلهة العصور القديمة، وأن إله الإنسان الواعي المفكر، أعلى وأوسع أفقاً وأبعد عن الفهم من إله رجل الشارع البسيط الذي لا يملأ الدين فراغاً مهماً من حياته.وسلم الإمام والتفت يميناً وشمالاً ثم استدار. وبعد لحظة من التسبيح الصامت، قرئت الفاتحة، وقام بعض الرجال لبعض أعمالهم، وبقت جماعة من حفظة القرآن اجتمعوا في حلقة يقرأون "الحزب".[/font]
[font=&quot]وأثناء القراءة جاء شاب وانحنى على الشيخ، وهمس في أذنُه، فحرك هذا رأسه، ونظر ناحية الدكتور نادر.[/font]
[font=&quot]وبعد نهاية الحزب انحنى الشيخ على الدكتور نادر، وهمس في أذنه شيئاً، فقام رأسه، ونظر ناحية الدكتور نادر.[/font]
[font=&quot]وبعد نهاية الحزب انحنى الشيخ على الدكتور نادر، وهمس في أذنه شيئاً، فقام هذا معه تاركاً الحلقة مستمرة في الذكر.[/font]
 
[font=&quot]وتوجه الاثنان إلى خيمة بين المضارب. والتفت الشيخ إلى الدكتور نادر وقال:[/font]
[font=&quot]- هل تريد أن تنفرد به أم تريدني حاضراً؟[/font]
[font=&quot]- الأحسن أن أنفرد به. سوف يشعر بحرية أكثر مع غريب مثلي فيفضي بذات نفسه.[/font]
[font=&quot]وعلى باب الخيمة نادى الشيخ باسم امرأة، فخرجت زوجته والدموع في عينيها، ونظرت إلى زوجها متوسلة إليه ألا يعذبه، فلم ينظر إليها، بل أشار للدكتور أن يدخل.[/font]
[font=&quot]ورفع هذا ستار الخيمة وسلم ودخل، فإذا بشاب في حوالي العشرين، طويل الشعر، نحيفٍ، حاد النظرات. وحين رأى الدكتور نادر سمر فيه عينيه ولم يُردَّ التحية.[/font]
[font=&quot]قال الدكتور:[/font]
[font=&quot]- "وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها." وقد قلت السلام عليكم! [/font]
[font=&quot]- من أنت؟ وماذا تريد؟[/font]
[font=&quot]- اسمي نادر. علي نادر.[/font]
[font=&quot]- من أين جئت؟[/font]
[font=&quot]وابتسم الدكتور وهو يقول:[/font]
[font=&quot]- سقطت من السماء! هل تصدق ذلك؟[/font]
[font=&quot]- هل تريدني أن أضحك؟![/font]
[font=&quot]- أريد أن أقول لك إنني جئت لأتحدث إليك، وأنك لا ينبغي أن تخاف مني. لقد أقنعت والدك بأن العنف والضغط لا يخلقان إلا الحنق والتمرد. وهو يعتقد أنك خرجت عن الجماعة، وأصبحت ملحداً منذ عودتك من فاس. هل هذا صحيح؟[/font]
[font=&quot]وسكت الشاب. وتقدم الدكتور نادر منه، فلاحظ السلاسل، فعاد إلى خارج الخيمة ونادى الشيخ:[/font]
[font=&quot]- مولانا. هل تسمح لي بمفاتيح القيد؟ أعتقد أن فكه سيكون عربوناً على حسن النية والرغبة في التفهم.[/font]
[font=&quot]وأعطاه الشيخ المفتاح، فعاد إلى الخيمة، وفك القيد عن ساقي الشاب ويديه، ورمى به في جنب الخيمة قائلاً:[/font]
[font=&quot]- أرجو حين أخرج من هذه الخيمة أن آخذ ذلك القيد لأرمي به في زريبة البهائم! والآن أرجو أن تصدق أني هنا لأساعدك على فهم والدك، وأساعده على فهمك. فقد كنت مرة شاباً في مثل سنك، وكان لي أب مثل أبيك. أنا أعيش في القرن العشرين، وهو في العصر الجاهلي، وما أجده أنا من المسلمات التي لا تحتاج إلى مناقشة، يجدها هو كفراً وإلحاداً.وبدأ وجه الفتى يتغير، ويبدو عليه الاهتمام والاستجابة. واستأنف الدكتور:[/font]
[font=&quot]- أتعرف أن أبي ما يزال يعتقد أن الأرض مسطحة؟ ولو أخذته في طائرة ودرت به الأرض لحرك رأسه وقال: "والأرض بساط" و"الأرض دحاها" و"جعلنا الأرض مهادا" صدق الله العظيم! وحين كبرت بدأت أفهم أن عقلية الإنسان تتحجر حين يبلغ سناً معينة، ولا تبقى لينة تتقبل الأفكار الجديدة، كما كانت حين كانوا صغاراً في مثل سنك. وسوف تكبر أنت ويصعب عليك أن تتنازل عن أفكار كثيرة آمنت بها في شبابك![/font]
[font=&quot]ونظر الفتى إلى الدكتور، وتكلم لأول مرة متأثراً:[/font]
[font=&quot]- حين أصبح مثل هؤلاء سأقتل نفسي![/font]
[font=&quot]- بالعكس، تذكر ما قاله المتنبي:[/font]

[font=&quot]ونظر الفتى إلى الأرض، وقال:[/font]
[font=&quot]- أحياناً أتمنى لو لم يكن والدي بعث بي إلى فاس، لكنت هنا واحداً منهم، أُومنُ بما يؤمنون به، أقول بسطحية الأرض، وأرقص على الأذكار، وأنتظر المهدي المنتظر، وأمجد مولاي عبد القادر الجيلالي، لكنت أسعد مما أنا![/font]
[font=&quot]قال الدكتور: هل من أجل خلافك معهم في هذا وضعك والدك في القيود؟[/font]
[font=&quot]- قلت لهم أن يعودوا إلى الله، لا يمكن أن تصدق ما يملأ عقول هؤلاء الناس من وثنية وشعوذة. كلمة الله لم تعد شيئاً بالنسبة إليهم. إنهم لا يرونه. وقد ارتدوا في وثنية الجاهلية الأولى، فخلقوا الأضرحة والأولياء وعلقوا التمائم والعقارب حول أعناقهم. وتوجه النساء نحو الحجارة فطلوها بالجير وقدسوها، وإلى الأشجار فعلقوا عليها قطعاً من ملابسهم بدرجة مخجلة. حين قرأت عن المجتمع الجاهلي قبل الإسلام لم أجد فرقاً بينه وبين هذا. وشعرت بالرغبة في دعوة قومي إلى الإسلام والعودة إلى الله. وليتني لم أفعل. ليتني بقيت أعمى مثلهم![/font]
[font=&quot]- أبداً، يا ولدي! لقد أنعم الله عليك بالبصيرة! ولن ترضى بها بديلاً.[/font]
[font=&quot]ونظر إليه لحظة وقال:[/font]
[font=&quot]- أتعرف أن وضعيتك هذه تذكرني بقصة مشهورة لكاتب إنجليزي، عنوانها "مدينة العميان" وموضوعها باختصار أن رجلاً هام على وجهه في منطقة عذراء لم يصل إليها مستكشف، فعثر على مدينة كل سكانها عميان. وحين دخل المدينة وأعلن لهم أنه مُبصرٌ، وأن هناك حاسة إبصار، وأن هناك سماء وشمساً وليلاً ونهاراً، وأن المدينة ليست مسقفة بسقف علوه ست قامات، كما يعتقدون، قبضوا عليه بتهمة مخالفة التقاليد والعقائد الموروثة، وخيروه بين أن يفقأوا عينيه حتى يصبح أعمى مثلهم، أو يغادر المدينة. ورغم أنه كان وقع في حب أجمل فتاة هناك وكان يريد الزواج بها، فقد فضل الخروج من دفء المدينة إلى برد الأصقاع الموحشة. فضل أن يموت مبصراً على أن يعيش أعمى. هل تجد مقارنة بين بطل القصة وبينك؟[/font]
[font=&quot]وانشرح وجه الفتى، ونظر بإعجاب إلى الدكتور نادر، وقال:[/font]
[font=&quot]- إذن المسألة دورية، أعني أن الإنسانية كلها تقع على وجهها من حين لآخر، وتحتاج إلى أنبياء لإيقافها على رجليها![/font]
[font=&quot]وحرك الدكتور رأسه موافقاً، وأضاف الفتى:[/font]
[font=&quot]- وماذا ينبغي أن يفعل البصراء؟ ماذا يكون مصير الإنسانية لو أن كل من أبصر غادر مدينة العميان دون أن يحاول فتح عيون أهلها؟[/font]
[font=&quot]ورد الدكتور:[/font]
[font=&quot]- هناك اعتبارات تقلل من أهمية الإبصار. مثل ظروف قومك، أي تغيير في معتقداتهم وعاداتهم معناه تحلل مجتمعهم، وإذا تحلل مجتمعهم صارت حياتهم مستحيلة. لأن استمرارهم يعتمد على وحدة كيانهم.وصمت قليلاً ثم قال:[/font]
[font=&quot]- هناك أشياء أهم عند السياسيين والزعماء، مثل والدك، من المعرفة والإبصار، وهي السعادة الجماعية والرضا بطريقتهم في الحياة وأتباع ما جاء به الأولون دون تغيير كبير.[/font]
[font=&quot]وأحس الفتى بسرور عميق فقال:[/font]
[font=&quot]- لم أفكر في كل هذا. أنا الآخر كنت أعمى بطريقة أخرى. المعرفة لا معنى لها بدون حكمة.[/font]
[font=&quot]- أنا سعيدبحل قيودك.[/font]
[font=&quot]- ماذا تقترح أن أفعل؟[/font]
[font=&quot]فقال الدكتور نادر مازحاً:[/font]
[font=&quot]- لنتظاهر بأننا لا نرى شمساً ولا قمراً، وأن على المدينة سقفاً يبعد ست قامات، وأن الإبصار جنون ما سمع به الأولون ولا الآخرون.[/font]
[font=&quot]ورفع الفتى عينيه، وهو يضحك فاختفت الابتسامة من وجهه. ورفع نادر عينيه فرأى الشيخ واقفاً على باب الخيمة، ينظر إليهما بوجه بارد كشفرة سيف![/font]
[font=&quot] [/font]

 
[font=&quot]وقبل أن يفتح الدكتور نادر فمه بادره الشيخ:[/font]
[font=&quot]- أرجو ألا يزعجك ما سأقول لك. السيدة زوجتك تحس بتعب خفيف.[/font]
[font=&quot]ووقف نادر بسرعة، فقال الشيخ:[/font]
[font=&quot]- لا تقلق، إنها الآن بخير، أعتقد أن طعامنا لم يوافق معدتها. وقد أعطيناها عصير بعض الأعشاب لتسهيل وتنظيف جوفها. وهي الآن في خيمة الضيافة تسأل عنك.[/font]
[font=&quot]وخرج نادر بخطوات واسعة نحو خيمته. وحين دخل على تاج، كانت عيناها مغمضتين، وإلى جانبها امرأة عجوز، قامت عند دخوله وخرجت. وركع هو إلى جانب فراشها، وأمسك بيدها ففتحت عينيها.[/font]
[font=&quot]- عزيزتي، كيف تحسين؟[/font]
[font=&quot]وابتسمت ابتسامة ذابلة وقالت:[/font]
[font=&quot]- زال الألم.[/font]
[font=&quot]- فزعت جداً من أن يكون شيء يحتاج إلى طبيب. وأين تجد الطبيب هنا؟[/font]
[font=&quot]- الشربة التي أعطتني العجوز كان لها مفعول مدهش. لابد أنهم عرفوا سبب الألم.[/font]
[font=&quot]- القوافل عوالم قائمة بذاتها. لا تحتاج إلى أطباء ولا أدوية كل شيء تنتجه بنفسها. لابد لها من الاكتفاء الذاتي للبقاء![/font]
[font=&quot]وبعد صمت قصير قالت تاج: أليس سخيفاً أن أمرض في مثل هذه الظروف؟[/font]
[font=&quot]قال مطمئناً: لا تقلقي. كل شيء سيكون على ما يرام.[/font]
[font=&quot]ثم تذكر الشاب وأضاف:[/font]
[font=&quot]- لقد اكتسبت صديقاً جديداً...فنظرت تاج مستغربة:[/font]
[font=&quot]- من يكون؟[/font]
[font=&quot]- ابن الشيخ المختار.[/font]
[font=&quot]- هل وجدوه؟ كان هرب من سجنه.[/font]
[font=&quot]- لحقّوا به وأعادوه، فليست هذه أول مرة يهرب فيها.[/font]
[font=&quot]- لماذا يهرب من أهله؟ وإلى أين؟ إلى الصحراء؟ لابد أن يكون يطوي أحشاءه على جرح دام.[/font]
[font=&quot]- ذلك ما ظننت. وقد طلبت من أبيه الشيخ أن يسمح لي برؤيته والحديث إليه ففعل.[/font]
[font=&quot]- هل تحدثت إليه؟[/font]
[font=&quot]- حديثاً قصيراً. قاطعني الشيخ في نهايته ليقول لي عن إصابتك. ولكن أعتقد أنني نفذت إليه.[/font]
[font=&quot]قالت: ما مشكلته؟[/font]
[font=&quot]وشَرَدَ الدكتور نادر مفكراً، ثم قال ببطء وهو يبحث عن الكلمات:[/font]
[font=&quot]-مشكلته. هل سأقول البحث عن الطريق؟ أي طريق؟ كل الطرق توصل إلى نفس الجدار الجبار الذي تصطدم به عقولنا الواهنة، وتسقط تتخبط في أوحال الخيبة.. ولكن الولد ما يزال في مرحلة المجد. مرحلة الإيمان. قال لي إنه يريد أن يعود بقومه إلى الله![/font]
[font=&quot]قالت، وهي تضغط على يده لتوقظه من سرحته:[/font]
[font=&quot]- وماذا قلت له؟[/font]
[font=&quot]- قلت له إن وحدة قومه أهم من رجعتهم إلى الله.[/font]
[font=&quot]- وهل اقتنع؟[/font]
[font=&quot]- أعتقد. ولكن لا أضمن أن آثار حديثي إليه ستدوم طويلاً. ضمير الولد يحترق. وعقله يركض بسرعة الضوء. لابد أن سيجد في منطقتي ثقوباً كثيرة، ويثور مرة أخرى ليوضع في القيود من جديد لكني أعتقد أنني كسبت صديقاً وخسرت آخر.[/font]
[font=&quot]قالت: ماذا تعني؟[/font]
[font=&quot]قال: بينما أنا أتحدث إليه دخل علينا والده الشيخ. لا أدري كم سمع من حديثنا، ولكن وجه كان جامداً كالصخرة حين التفتُّ إليه.[/font]
[font=&quot]قالت: ربما كان مهتماً بما حدث لي، وكان يفكر في الأسلوب الذي ينبغي أن يعلن به الخبر إليك...[/font]
[font=&quot]قال: أرجو أن تكون تلك هي الحقيقة. ولكن ما يهم الآن هو أنت. كيف تشعرين؟[/font]
[font=&quot]قالت: أحسن، أحسن كثيراً...[/font]
[font=&quot]وترامى إليهما من خارج الخيمة صوت الطبول مصحوباً بالتهليل والتكبير وقراءة ورد الطريقة. ثم بدأت الحضرة، ووقف الرجال صفاً واحداً، وبدأوا يتحركون على مهل يميناً ويساراً مع الألحان...ورفعت تاج رأسها تريد أن ترى ما يحدث من فتحة باب الخيمة، فقام الدكتور نادر ورفع الستار كله، ثم عاد إلى تاج فوضع بعض الوسائد وراء ظهرها لترى أحسن.[/font]
[font=&quot]قالت: ماذا يفعلون؟ يرقصون؟[/font]
[font=&quot]قال: ليس تماماً. إنهم "يتحيرون"![/font]
[font=&quot]قالت: يتحيرون؟ وما معنى ذلك؟[/font]
[font=&quot]قال: الحيرة نتجت عن جلسات مفكري الصوفية وحلقات مناقشتهم. كانوا يجتمعون كل مساء لدراسة التوحيد والجدل والتفلسف في وجود الله، خلوده، ووحدانيته، القضاء والاختيار، النبوة، بقية الأديان، كل شيء يتعلق بمكافحة الشك الذي كان يستشري بين طبقات المثقفين حينئذٍ. وإرجاع الطمأنينة إلى الضمائر والإيمان إلى القلوب.[/font]
[font=&quot]قالت: ولكن كيف نتجت "الحيرة" عن جلسات معقدة المواضيع، وهي مجرد حركات تعبدية وطقوس بدائية؟[/font]
[font=&quot]قال: الحيرة معناها فيها... هي الذهول الناتج عن اصطدام العقل البشري الضعيف بالحائط الجبار. وفي لغتنا الدارجة مثل هذا المعنى أعتقد أنه نزل إلينا من أيام الصوفية، وهو "اللي حقق يحمق ويغيب عن عقله!" لابد أن هذا ما كان يحدث عندما تنغلق الأبواب، ويتيه العقل في المجهول. يبدأ الجميع بالتوسل إلى الله وطلب الهداية، وتتحول الحلقة إلى ندوة أشعار وغناء، وكلها تعبير عن حب الله والفناء في ذاته، ويتحول المجلس إلى مرقص صاخب ظاهره تمجيد الله، وحقيقته احتجاج على العجز الفطري المورث في الكيان البشري.[/font]
[font=&quot]قالت فاتحة فمها وهي تشير بأصبعها إلى حلقة الذكر والحضرة وعيناها تتألقان:[/font]
[font=&quot]- أتعني أن هذا كله نتيجة لذلك؟![/font]
[font=&quot]وحرك رأسه موافقاً، فقالت:[/font]
[font=&quot]- هذا يفسر كثيراً من طقوس المجتمعات المتخلفة. لابد أن لرقصاتهم وحركاتهم المعقدة أصلاً في الحضارت الأولى قبل فسادها وعودتها إلى الخمود. لابد أن كثيراً من العقول اصطدمت بنفس ما تسميه بالحائط الجبار قبل آلاف السنين. حتى قبل أن تجىء الأديان لتنقذ الإنسان من إحراق عقله![/font]
[font=&quot]وربت نادر يدها الرخصة قائلاً:[/font]
[font=&quot]- من يدري؟![/font]
[font=&quot]وبعد صلاة العشاء التفت الشيخ إلى نادر وقال:[/font]
[font=&quot]- أعتقد أنه من الأليق أن تتعشى مع السيدة حرمك. فقد أمرت لكما العشاء في الخيمة.[/font]
[font=&quot]وشكره الدكتور نادر وودعه وعاد إلى الخيمة حيث كانت تاج تنتظرهُ بالعشاء.وبعد الأكل أحس الدكتور برأسه يثقل وبأجفانه تقفل وحدها، ولم يشعر حين أخذه النوم.[/font]
[font=&quot]وجاء الصباح مبكراً. أرسلت الشمس من خلف التلال والكثبان أشعتها في سماء واسعة الآفاق. وإلى الغرب كانت النجوم ما تزال بيضاء تلمع كدنانير البلاتين.[/font]
[font=&quot]فتح الدكتور نادر عينيه ونظر من تحت غطائه إلى السماء. كانت رجلاه باردتين، فانكمش ليدفئهما. وفجأة أحس إحساساً قوياً بالوحشة. كان الصمت مطبقاً حواليه، وبدأت القشعريرة تسرى إلى بدنه. فأزاح الغطاء عن وجهه ليجد أن الخيمة ذهبت، وأن الواحة مقفرة موحشة لا أثر فيها لإنسان...[/font]
[font=&quot]ووقف ليمسح ببصره الأفق لعله يرى أثراً للقافلة. لاشيء يتحرك على مد البصر. وأحس بالرعب يمسك قلبه بيد نحاسية باردة! وكاد يقفز حين مست كتفه يد تاج، فالتفت محاولاً تفادي عينيها.[/font]
[font=&quot]ودار في مكانه، ثم ضرب برجله الأرض قائلاً بمرارة:[/font]
[font=&quot]- أنا ومواعظي![/font]
[font=&quot]وواجهته تاج بأعصاب هادئة وقالت:[/font]
[font=&quot]- لا تلم نفسك![/font]
[font=&quot]- لو لم أتطوع أن أعمل كطبيب نفسي لابن الشيخ لما كنت أنزلت غضبه علي وعليك أنت البريئة![/font]
[font=&quot]- الشيخ كان خائفاً من مسؤولية وجودنا في القافلة على كل حال. كان يعتقد أننا جواسيس مغاربة على موريطانيا. وربما بتركه لنا هنا قدم لنا خدمة. من يدري ماذا كان في نيته؟[/font]
[font=&quot]- لقد وعدني بتوصيلي إلى السينغال، إذا أقنعت ابنه بالعودة إليه وعدم محاولة الهروب. وأنا متأكد أنه سمع حديثي إلى ابنه، فقرر أن يتركنا هنا تحت رحمة الصحراء ووحوشها وجهلنا بموقعنا فيها.[/font]
[font=&quot]- لا فائدة من الندم على ما فات. ماذا الآن؟[/font]
[font=&quot]وحرك نادر رأسه:[/font]
[font=&quot]- سؤال وجيه.[/font]
[font=&quot]ومشى نحو الكانون ووقفت تاج تنظر حواليها.[/font]
[font=&quot]كان هدوء الصباح وبرودة الجو وخلو الواحة توحيان بشعور غريب. كان الندى يثقل جذوع النخيل المتشابكة حول البئر وفي غرب الواحة.[/font]
[font=&quot]وتمشى الدكتور نادر على حافة الأرض المعشبة ينظر إلى آثار الأقدام وحوافر البهائم. وحين عاد إلى تاج كانت هذه تقفل حقيبتها بسرعة وتجمع الأغطية والألحفة وتطويها.[/font]
[font=&quot]قال نادر وهو يقف وراءها:[/font]
[font=&quot]- هل تعتقدين أن هناك خطراً في اللحاق بالقافلة؟[/font]
[font=&quot]ووقفت تاج والتفتت إليه:[/font]
[font=&quot]- لاأدري. ولو كان للرجل رغبة في مساعدتنا لما تركنا خلفه هنا. ومعنى اللحاق به هو الارتماء عليه، وربما اضطراره إلى البحث عن طريقة أخرى للتخلص منا. قد لا تكون أسلم لنا من هذه![/font]
[font=&quot]قال مقتنعاً:[/font]
[font=&quot]- فكرت في ذلك.[/font]
[font=&quot]وأشار إلى الجنوب:[/font]
[font=&quot]ذهبت القافلة من هناك. كل آثار الأقدام والحوافر تشير إلى تلك الناحية، لا يمكن أن يكونوا بعيداً وراء الكثبان.[/font]
[font=&quot]ونظر حوله وسأل:[/font]
[font=&quot]- ما ذلك؟[/font]
[font=&quot]- بعض الطعام. قديد ودقيق محمص بالسمن وتمر وعسل. لابد أن السيارات أشفقن من حالنا وتركن ذلك.[/font]
[font=&quot]- على الأقل لن نموت جوعاً.[/font]
[font=&quot]قالت تاج: لا تُفكِّرْ في الموت الآن. بعد أن نجونا من حادث الطائرة، ووجدنا الواحة والقافلة لا أعتقد أن أجلنا قد وصل. كانت هناك مناسبات أهم لهلاكنا من الوجود على واحة خضراء. ثم لا شك في أن البحث عنا قائم على قدم وساق. وربما لن نبقى هنا يوماً أو يومين حتى تصل مروحية أو طائرة استكشاف. علينا فقط أن نترك علامة على وجودنا هنا.[/font]
[font=&quot]- ماذا تقترحين؟[/font]
[font=&quot]- لنشعل ناراً دائمة.[/font]
[font=&quot]- النار لليل فقط. بالنهار لن يروها، خصوصاً إذا لم تترك دخاناً، وحتى لو تركته هناك دائماً حرائق بالواحات.[/font]
[font=&quot]- المظلات إذن![/font]
[font=&quot]- ماذا نفعل بها؟[/font]
[font=&quot]- ننشرها على أعلى كثيب. وسوف تجلب انتباه أي طيار من أي ارتفاع بألوانها الصارخة.[/font]
[font=&quot]- عندي فكرة أحسن.[/font]
[font=&quot]- ما هي؟[/font]

 
[font=&quot]- نصنع بها خيمة في وسط هذه القاعة حيث يمكن أن ترى من الجو بسهولة، وحيث نقيم.[/font]
[font=&quot]- وظيفة مزدوجة.[/font]
[font=&quot]- تماماً.[/font]
[font=&quot]وتعاونا على رفع المظلة على قوائم من سعف النخيل وسيقانه، وشداها إلى الأرض بأوتاد من خيوطها الحريرية.[/font]
[font=&quot]ووقف نادر ينظر إلى الخيمة بإعجاب لما صنعت يداه، ثم نظر إلى تاج، كانت تنظر إليه بوجه جهم وعينين فيهما قلق خفي. وأحس برغبة في ضمها إليه، ولكنه تراجع في نفس الثانية... وضع يده على يدها وقال:[/font]
[font=&quot]- عزيزتي، لا حاجة إلى ذهابك معي. ابقي هنا، فأنت ما تزالين ضعيفة من الأمس. لقد حدث كل شيء بسرعة فاقت تفكيري، فلم أقف حتى لأسألك عن حالك.[/font]
[font=&quot]فابتسمت وقالت:[/font]
[font=&quot]- الخطر يفتح مخازن الطاقة الموفورة. حينما تنهض الروح يتبعها الجسد.[/font]
[font=&quot]وضغط على يدها في حنان وقال:[/font]
[font=&quot]- سأعود حالاً.[/font]
[font=&quot]- سأعد شيئاً للفطور.[/font]
[font=&quot]وعند الزوال عاد نادر مبهور الأنفاس عطشان، ومدت تاج إليه كوب ماء وهي تسأله:[/font]
[font=&quot]- هل رأيت شيئاً؟[/font]
[font=&quot]وحرك رأسه نافياً وهو يمسح شفتيه:[/font]
[font=&quot]- لا شيء بالمرة. الواحة محاطة ببحر هائل من الرمال. ولا أثر للحياة على مد البصر. لا شيء يتحرك غير السراب المتراقص. كدت أظنه ماء يتماوج والواحة جزيرة في وسطه.[/font]
[font=&quot]- تعال ادخل الخيمة لتبترد قليلاً، لابد أن الشمس أثرت على مخك ودخل الخيمة واستلقى على لحاف، وأغمض عينيه. ودخلت تاج فجلست إلى جانبه تنظر إليه وتتكلم.[/font]
[font=&quot]- حاولت أن أسأل النساء عن موقعنا فلم أفلح. وقد فهمت منهم أننا على بعد أسبوع من أقرب مركز تجاري بالشمال على حدود المغرب الجنوبية، وشواطىء الصحراء.[/font]
[font=&quot]- ماذا عن ناحية الغرب؟ ناحية البحر؟[/font]
[font=&quot]- أظن أنهم لا يعرفون البحر. طريق قافلتهم هذه لم يغيروها منذ كانوا.[/font]
[font=&quot]وفكر الدكتور نادر قليلاً ثم قال:[/font]
[font=&quot]- لو أننا قط عرفنا الطريق إلى البحر.. هناك فرص أكثر للنجاة من هذه الواحة الملعونة.[/font]
[font=&quot]وأجابت تاج مواسية:[/font]
[font=&quot]- لا تقلق. الواحات بالنسبة للقوافل أهم من شواطىء البحر، وهذه يظهر أنها في طريقهم وإحدى مراحلهم المهمة للراحة والتزود بالماء.[/font]
[font=&quot]ووقف يمسح وجهه المحتقن بيده فقالت:[/font]
[font=&quot]- كيف تحس الآن؟[/font]
[font=&quot]- رأسي يغلي من الحر.[/font]
[font=&quot]- لماذا لا تستحم بالماء البارد؟[/font]
[font=&quot]وحين عاد كان شعره يلمع من بلل الماء الذي تعلقت منه قطرات صافية على رؤوس الشعر الأسود الذي بدأ يغطي ذقنه. ووجد أن تاجاً قد أعدت بعض الطعام فقعد متربعاً قبالتها وعيناه تحملقان في الفراغ:[/font]
[font=&quot]- ماذا يشغل بالك؟[/font]
[font=&quot]وأفاق من شروده فحرك رأسه وقال:[/font]
[font=&quot]- لا أفهم.[/font]
[font=&quot]- ماذا؟[/font]
[font=&quot]- قضينا بهذه الواحة ما يقرب من ثمان وأربعين ساعة دون أن نرى أحداً من ركاب طائرتنا الذين نزلوا بالمظلات. المفروض أنهم نزلوا في بقعة واحدة وعلى مسافات متقاربة.[/font]
[font=&quot]وفكرت تاج قليلاً ثم قالت:[/font]
[font=&quot]- فكرت أنا الأخرى في ذلك أثناء غيابك. قلت في نفسي يا ترى هل سيكفي الزاد الذي تركته لنا القافلة غيرنا إذا اتفق أن وجدوا الطريق للواحة.[/font]
[font=&quot]وعاد الدكتور نادر يقول:[/font]
[font=&quot]- ثم ليس هناك أثر لبعثة إنقاذ. لم نسمع أو نر طائرة واحدة تمر من هنا. وهذا يعني شيئاً واحداً، وهو أننا ابتعدنا كثيراً عن طريق سير الطائرات. ولاشك أنهم يمسحون مناطق أخرى دون أن يخطر ببالهم أننا هنا.[/font]
[font=&quot]وسرت ارتعاشة خفيفة في جسد تاج، لاحظها الدكتور علي نادر، فمد يده ليربت على يدها مواسياً:[/font]
[font=&quot]- لا تخافي يا عزيزتي. لابد أن تصل بعثة إنقاذ قريباً.[/font]
[font=&quot]وأكلا ما وضعته تاج على منديل بينهما. وخرج الدكتور نادر من الخيمة فمسح بعينيه أركان الواحة بنخيلها الباسق، وظلالها الطويلة وكثبانها المخضرة. ثم أظل عينيه بكفه وجال بهما كثبان الصحراء التي كانت تبدو متأججة بيضاء كالسعير.[/font]
[font=&quot]وعاد إلى داخل الخيمة ليجد تاجاً مستلقية تستريح، وعيناها مفتوحتان تنظر إلى سقف المظلة الكبيرة منتفخة بالهواء الساخن، ومن خلفها الشمس تبرز ألوانها الزاهية.[/font]
[font=&quot]قال وهو ينظر إلى الخيمة دارساً:[/font]
[font=&quot]- ينبغي أن ننتقل من هنا قبل نزول الليل.[/font]
[font=&quot]- إلى أين؟[/font]
[font=&quot]- إلى جنب صخرة للاحتماء من العواصف والحيوانات. هنا سنكون عرضة لكليهما.[/font]
[font=&quot]ووافقت تاج دون أن تقول شيئاً. ثم أغمضت عينيها، وتمدد هو في طرف الخيمة المقابل،[/font]
[font=&quot]وسرعان ما تعاقبت أنفاسه وغرق في نوم ثقيل. وعندما تأكدت تاج أنه نام خرجت من الخيمة[/font]
[font=&quot]وتوجهت نحو أطراف الواحة الجنوبية، فأخرجت من حقيبتها منظاراً مكبراً صغيراً، وأخذت [/font]
[font=&quot]تمسح الأفق الجنوبي من فوق تل عال.[/font]
[font=&quot]وأفاق الدكتور نادر وهو يحس بتجدد في نشاطه وانتعاش في بدنه. ونظر إلى حيث كانت تاج [/font]
[font=&quot]فلم يجدها فخرج يبحث عنها.[/font]


 
[font=&quot]ومن ناحية البئر سمع صوتها الرقيق وهي تغني أغنية باكستانية لم يفهم كلماتها، ولكنه أحس [/font]
[font=&quot]أنغامها قريبة من قلبه. ووقف ينصت في حذر تام ساعد على تعميقه صمت المساء وهدوء [/font]
[font=&quot]الواحة الشامل.[/font]
[font=&quot]وفي لحظة قصيرة عادت به الأغنية إلى صباه حين كان يقرأ ألف ليلة وليلة ويصحب السندباد [/font]
[font=&quot]في أسفاره إلى بلاد الهند والسند. ومر في مخيلته شريط ملون عجيب.[/font]
[font=&quot]ولكنه عاد إلى واقعه ليدرك أنه واقف في نصف الطريق من الخيمة والبئر، فخطا خطوات [/font]
[font=&quot]أخرى ليفاجىء تاج... وعند اقترابه من زرب النخيل الكثيف المحيط بالبئر سمع صوت الماء [/font]
[font=&quot]مع الغناء. و نظر من بين جذوع النخيل فإذا تاج عارية وشمس المساء تلمع على جلدها الخمري الناعم، وهي تصب دلو الماء على رأسها مستلذة برودته.[/font]
[font=&quot]واحمر وجه الدكتور نادر، فأغمض عينيه، وعاد إلى الخيمة وفي خياله صورة تاج حية رائعة كحلم من بين صفحات ألف ليلة وليلة..وفي ذلك المساء نقلا الخيمة ونصباها على ثغرة كبيرة في صخرة، ثم تفرقا يجمعان الحطب ويتأملان الغروب الذي أصبغ على الصحراء جواً أسطورياً مخدراً.[/font]
[font=&quot]ونزل الليل سريعاً، ولم يبق من آثار الشمس إلا شفق أحمر قرمزي كانشقاق كومة فحم هائلة على لهب جديد...واقتربت النجوم من أحقاف الرمل المترامية كدنانير فضية متراقصة في قبة زرقاء باردة..وأوقد الدكتور نادر أمام الخيمة ناراً متأججة، جلس يطعمها هو وتاج من كومة الحطب، ويتأملان اللهب المتراقص في غياب عن وجودهما، وقد خدَّر أحاسيسهما مفعول اللهب المغناطيسي.[/font]
[font=&quot]وذاب الحطب على النار. وهبت ريح باردة شعرت تاج لها بقشعريرة فاقترحت دخول الخيمة ودفن المتبقي من النار حتى لا تجرفه الريح نحو الخيمة.[/font]
[font=&quot]قال الدكتور نادر:[/font]
[font=&quot]- يظهر أن عاصفة في طريقها نحو الواحة.[/font]
[font=&quot]ودفنا النار إلا بعض الجمر الكبير الذي جمعه الدكتور نادر على حجر مجوف وأدخله الخيمة للتدفئة.[/font]
[font=&quot]واتكأت تاج على باطن الصخرة، وسهمت بعينيها خارج باب الخيمة، ولم تلبث أن ثقل جفناها فراحت في نوم عميق.[/font]
[font=&quot]وطال الليل..[/font]
[font=&quot]ولم يغمض لنادر جفن حتى أنهكه السهر والتعب والتفكير في مصيرهما. وظل ينصب إلى أصوات الصحراء الغامضة، وينظر من فتحة الخيمة إلى تلالها البعيدة تقترب وتبتعد أو تعلو وتنخفض كصدور هائلة تنتهد... وجاءت الريح تعوي عواء الذئاب وتهرُّ هرير وحوش الليل... وحين أنهطه التوقع والتوتر استسلم لسبات عميق أشبه ما يكون بالإغماء.[/font]
[font=&quot]وقبيل الفجر استيقظ على صوت أنثى تحركه وتنادي باسمه، ففتح عينيه ليرى شبح وجه تاج وسوالف من شعرها تتدلى على وجهها.[/font]
[font=&quot]- علي... علي.. أفق..![/font]
[font=&quot]- ماذا؟[/font]
[font=&quot]- أفق، اسمع...[/font]
[font=&quot]وجلس هو في مكانه يفرك عينيه ويرهف سمعه، وهو ما يزال تحت تخدير النوم. فقالت تاج:[/font]
[font=&quot]- هل سمعت؟[/font]
[font=&quot]- ماذا؟[/font]
[font=&quot]- صوت آلة ميكانيكية، لعلها طائرة أو مروحية، تأتي به الريح...[/font]
[font=&quot]وزحف الدكتور نادر خارجاً من تحت المظلة، ورفع وجهه يُحملق في السماء ويرهف سمعه. وارتفع صوت المحرك آتياً من ناحية الجنوب، فالتفت بسرعة وركز بصره إلى الأفق. وفجأة ظهر شبح ملتف في زرقة الليل العميقة صاعداً من وراء التلال، فتبين من حركات مروحته الضخمة أنه طائرة عمودية تكاد بطنها تلمس رؤوس الكثبان الرملية...[/font]
[font=&quot]وبدون تفكير وقف الاثنان يلوحان للطائرة، ويقفزان ويصيحان بأعلى صوتهما بحماس هستيري.[/font]
[font=&quot]واقترب الشبح فحلق فوق النخيل وارتفع زئيره فأغرق أصواتهما في دويَّه الهائل... وانتفض سعف النخيل وجذوعه بقوة، وتبعثرت الرمال، وتماوج شعر تاج وعباءة الدكتور نادر تحت الزوبعة التي أثارتها مروحة العنقاء الحديدية.[/font]
[font=&quot]ومرت الطائرة سريعة دون أن تلوي على شيء، واختفت في الأفق الشمالي بالسرعة التي ظهرت بها.[/font]
[font=&quot]وارتجفت تاج، وهبط قلب الدكتور نادر من خيبة الأمل، وهو ينظر إلى الشبح يختفي في حلكة الليل ويسمع صوته يتلاشى شيئاً فشيئاً...[/font]
[font=&quot]ولم تمض دقيقة على مرور الطائرة حتى سمع الاثنان صفيراً حاداً فوق رؤوس النخيل، ورأيا شهاباً نارياً أشبه ما يكون بسهم يحترق يمرق بارقاً في نفس اتجاه الطائرة العمودية... ولم تمض إلى لحظة قصيرة حتى لاح لعينيهما برق خاطف تلاه صوت انفجار هائل...والتفتا نحو الشمال فإذا ضوء وهاج ينير الأفق خلف التلال.[/font]
[font=&quot]وظهر الفزع على وجه تاج، ففتحت فمها دون أن تنطق، وتساءل الدكتور نادر:[/font]
[font=&quot]- أرأيت؟ لابد أن السهم الناري الذي مرق كان صاروخاً أسقط الطائرة. يا ترى ماذا يجري هنا في قلب الصحراء؟[/font]
[font=&quot]ولم تجب تاج فقد كانت ترتعش في موقفها، فلم يدر الدكتور نادر هل من البرد أم من الخوف، فأحاطها بذراعه وضمها إلى جنبه لينزل على نفسها بعض الطمأنينة...[/font]
[font=&quot]ثم قال:[/font]
[font=&quot]- لابد أن حرباً سرية دائرة في هذا القفر السحيق ونحن في خط النار.[/font]
[font=&quot]وارتجفت تاج فقادها نحو الخيمة.[/font]
[font=&quot]- تعالي ندخل الخيمة. على الأقل نتستر من البرد.[/font]
[font=&quot]واستلقى الاثنان دون أن يغمض لأيهما جفن. ومرت لحظات ظناها ساعات وهما يتسمعان إلى الأصوات الغريبة. كانت في نية الدكتور نارد أن يستوقف أي جندي يمر عبر الواحة ويطلب منه أن يدلهما على مكان هيأة الأركان.[/font]
[font=&quot]ومرت ساعة وهو ينصت بتركيز كبير لعله يسمع صوت وقع أقدام على الرمال خارج الخيمة.. ومرت ساعة أخرى أفقده فيها النعاس والتعب القدرة على التركيز فأغمض عينيه ونام...[/font]

 
[font=&quot]واستيقظ الدكتور نادر من حلم غريب رأى نفسه خلاله في ركن حمام بخاري ساخن، تتصاعد الأبخرة من أرضه الرخامية، وقد وقف عدد من الرجال عراة حليقي الرؤوس، رافعي الأيدي والأوجه إلى السماء بالدعاء والاستغفار. وتلاشت الجدران من حوله، وتكاثر عدد الرجال، واتسعت القاعة حتى لم تعد لها حدود.. ووقف هو في ركن مظلم يحاول اختراق الطوفان البشري للخروج منه دون جدوى.[/font]
[font=&quot]وانحبست أنفاسه، وأحس بالضيق حتى كاد ينفجر.. وحينئذ فتح عينيه ليجد نفسه في الخيمة متكئاً إلى جوف الصخرة، وقد تصبب العرق من جميع مسام جلده.[/font]
[font=&quot]وفتح عينيه لينظر حوله. وبعد لحظة من استرجاع الذاكرة تبين أنه في الواحة وأن الوقت ضحى والشمس حامية اللهب.[/font]
[font=&quot]كانت تاج قد سبقته إلى البئر، فعلقت عباءتها على مدخله حتى يعرف أنها هناك، ووقفت تصب على جسدها الملتهب من دلو الماء بارد وتستلذ كل قطرة منه تقع على وجهها وعينيها ورأسها ونهديها، وتتنفس بعمق وانتعاش، ورداء الماء الشفاف يعانقها بشغف...[/font]
[font=&quot]ووضعت الدول على حافة البئر، ووقفعت على الصخرة الملساء تنظر إلى قطرات الماء تترقرق على جلدها الخمري كالجواهر، لتستقر في البركة المتجمعة على الصخرة. وخطر لها أن تنظر إلى جسدها في صفحة الماء، فقد اشتاقت غريزتها الأنثوية إلى النظر في مرآة...[/font]
[font=&quot]وبينما هي كذلك، إذ خامرها إحساس غريب بأن أحداً يراقبها، فتوتر بدنها ورفعت يدها بحركة غريزية لتغطى ثدييها...[/font]
[font=&quot]ونظرت حواليها من خلال سعف النخيل، فإذا رجل صحراوي ذو عباءة وعمامة زرقاوين، لا تبدو من وجهه إلا عيناه الثاقبتان ينظر إليها دون حركة.[/font]
[font=&quot]وأطلقت شهقة، وهمت بالفرار، فانقض الرجل عليها كالفهد، وطوق خصرها بيمناه وأقفل فمها بيسراه، وجذبها نحو زرب النخيل قائلاً:[/font]
[font=&quot]- لا تخافي! لا حاجة بك إلى إيقاظه. هل تذكرينني؟ أنا الذي رأيتك حين جئت للقافلة، ومن ثم عشقتك. وقلت في نفسي لا يمكن أن أعيش بدونك! وقد انفصلت عن القافلة وعدت لآخذك.[/font]
[font=&quot]واستطاعت تاج أن تعض كفه وتصرخ:[/font]
[font=&quot]- علي! علي![/font]
[font=&quot]ولكنه بادرها بإقفال فمها بإدخال حافة يده فيه بقوة بحيث لا تستطيع إقفاله وسمع الدكتور نادر صرختها فخرج من الخيمة مسرعاً ينادي:[/font]
[font=&quot]- تاج! تاج! أين أنت!؟[/font]
[font=&quot]ولما لم تجب، قصد البئر حيث خيل إليه أن الصوت جاء من تلك الناحية. وعلى باب البئر رأى عباءتها، فوقف يتسمع وينادي بصوت خفيض.[/font]
[font=&quot]- تاج! تاج! أنت هنا؟[/font]
[font=&quot]وحين لم تجب أزاح العباءة وهم بالدخول. وقبل أن يدرك الموقف، أطلق عليه البدوي نار مسدسه فاندفع بقوة هائلة إلى الوراء، ووقع على ظهره فوق حقف رمل، والدم يفور من ثقب رصاصة في صدره...[/font]
[font=&quot]وأطلق الرجل سراح تاج فقفزت نحو العباءة بسرعة، ثم أسرعت نحو الدكتور نادر، فأمسكت بوجهه بين يديها وحركته وهي تصرخ فيه:[/font]
[font=&quot]- علي! علي! لا تمت، أرجوك! لن أغفر لنفسي موتك ما حييت![/font]
[font=&quot]ثم أمسكت بكوعه وتحسست نبضه، وانحنت فوضعت أذنها اليمنى على صدره منصتة إلى دقات قلبه. ثم انهارت على جسده تبكي بدموع غزيرة.[/font]
[font=&quot]وأحست بالرجل الملثم يقف وراءها، وقد ركز المسدس في حزامه، فالتفتت إليه وقد تحول حزنها إلى غضب، فصرخت في وجهه:[/font]
[font=&quot]- أرأيت ما فعلت؟ قتلته أيها المجرم..! قتلت رجلاً لا يعوض بمليون من أمثالك أيها الحيوان![/font]
[font=&quot]ووقفت مواجهة له تلعنه وتدق علي صدره بكلتي يديها في هسترية عنيفة لم توقظها منها إلا صفعة قوية من يده الخشنة على خدها. فسكتت وقد اصفر وجهها ونزل عليها حزن ثقيل.[/font]
[font=&quot]واقتادها الرجل من يدها نحو الكهف صامتاً....[/font]
[font=&quot]وعلى بابه دفعها فألقاها على الأرض داخله، ووقف عند قدميها ينزع ملابسه مبتدئاً بعمامته وطيلسانه. وظهر وجهه كاملاً كأنه منحوت نحاسي أو برونزي إلا ما كان من النظرة الحادة البارقة في عينيه...[/font]
[font=&quot]وحينئذ فقط أحست تاج بالخطر... فدق قلبها بعنف، وبدأت تردد بداخلها كلمة لم تكن رددتها منذ دخولها الجامعة.[/font]
[font=&quot]- يا إلهي! يا إلهي![/font]
[font=&quot]وانحنى الرجل عليها، فأمسك بصدر العباءة وشقها حتى النهاية، وأخرجها منها كما تخرج الموزة من قشرها، وقد التهبت عيناه بشرر الشهوة الحيوانية في أعنف مظاهرها...[/font]
[font=&quot]ومر شريط سريع في مخيلها لينذرها: "لا تقاومي.. استرخي تماماً... لا تتوتري حتى لا يمزق الوحش... استسلمي فتلك أفضل طريقة لمقاومة الاغتصاب!".[/font]
[font=&quot]كان الاغتصاب أشنع شيء يمكن أن تتصوره العذراء... ولم يكن يُخفيها الموت بقدر ما كان يخفيها أن يمزق جسمها وحش بشري...[/font]
[font=&quot]ورمى هو عباءته بركن الخيمة، وركز عينيه المتوقدتين عليها، فأحست بالضعف الشديد وأغمي عليها...[/font]
[font=&quot]وحين أفاقت أحست بضيق كبير، وأن حملاً كبيراً يثقل جسدها. وفتحت عينيها لتجد وجه الرجل على وجهها ساكناً لا يتحرك، وعينيه مفتوحتين بدون بريق حياة.[/font]
[font=&quot]وارتعدت فرائضها! وبدون أن تدري انسحبت من تحت الجثة الباردة، وتركتها تقع على الأرض. وزحفت على يديها وركبتيها خارجة من الخيمة وقد لامس الرعب قلبها بقبضة باردة.[/font]
[font=&quot]وركضت نحو البئر حيث كان الدكتور نادر يتخبط في دمه. ولكنها أدركت أنها عارية فعادت إلى الخيمة، ووقفت ببابها تحجب بيدها صدرها وتنظر إلى جثة الصحراوي الهامدة غير مصدقة أن صاحبها ميت... وانحنت فسحبت عباءتها من تحته وخرجت تعدو وتلبسها. وإلى جانب نخلة حول البئر لمحت شيئاً لم تره من قبل... ووقفت تركز عليه، فإذا هو حقيبة أوراق جلدية من نوع مألوف عندها. ووضعت وجهها بين يديها وكأنها تجمع أفكارها أو تطرد حلماً.[/font]
[font=&quot]واقتربت من الحقيبة لترى "شارة" تعرفها جيداً كانت عبارة عن سفينة قديمة فوق كرة أرضية ملفوفة في ضباب أزرق.[/font]
[font=&quot]وفتحت فمها للمفاجأة، وكأن ذاكرتها عادت فجأة إليها...[/font]
[font=&quot]وأسرعت نحو النخلة فجثت، وتناولت الحقيبة لتجدها مصابة بحروق سطحية، وفتحتها وأخرجت محتوياتها فإذا هي منامة حريرية وفرشة أسنان وأدوات حلاقة، وغيرها من حاجات السفر القصير.[/font]
[font=&quot]وأفرغت الحقيبة كلها لعلها تعثر على رأس خط لتبديد غموض وجود تلك الحقيبة فلم تجد. وقلبتها بين يديها فسقطت قطعة من الجلد المحروق لتكشف عن ورقة مكتوبة في جيب سري داخلها... وبدأت تقشر الجلد المحروق حتى كشفت عن الورقة فإذا هي طرف من رزمة أوراق مكتوبة برموز غريبة...[/font]
[font=&quot]وتصفحت الأوراق ثم أعادتها إلى مكانها، فلمست أصابعها شيئاً بداخل الجيب السري. وأخرجته فإذا هو غلاف مستطيل مقفل بداخله لوح مرن... ومزقت الغلاف فإذا به بطاقة مستطيلة من البلاستيك بها ثقوب مستطيلة صغيرة...[/font]
[font=&quot]وعادت تتصفح الأوراق بعناية هذه المرة، وكأنها تقرأ ما جاء فيها بنية حفظه. وفي النهاية وضعت البطاقة المثقبة وسط مساحة رمل أملس ووضعت كفيها حول عينيها وركزت عليها ما يقرب من تسعين ثانية وكأنها تصور وثيقة تحت الظلام.[/font]
[font=&quot]وفي النهاية رفعت وجهها، ونظرت إلى السماء، ثم أغمضت عينيها، وعادت فراجعت البطاقة على مهل، وقد ارتعشت يداها من الانفعال.[/font]
[font=&quot]وأعادت الأوراق والبطاقة إلى الجيب السري، ثم أعادت بقية الأشياء إلى داخل الحقيبة، وأقفلتها ووضعتها جانباً. وأخذت تحفر في الرمل حتى بدأ العرق يتقاطر من جبينها وذقنها، ووضعت الحقيبة في جوف الحفرة ثم بدأت تهيل الرمل عليها.[/font]
[font=&quot]وفي نفس اللحظة قفز قلبها ودق بعنف وهي ترى قدمين يدخلان دائرة بصرها، ثم يقفان على حافة الحفرة. وارتجفت وهي ترفع عينيها نحو القادم بمهل وقد تجمدت قبضتاها على الرمل...[/font]
[font=&quot]ووقعت عيناها على وجهه الملتحي وقد كسا الرمل جانبه الأيمن، وهرب عنه الدم واسودت محاجره، وكأنه شبح أوميت لفظه قبره... نظرت إليه وهي جامدة في مكانها دون أن تميزه. وأخيراً لاحظت خط الدم على صدره فارتعشت شفتاها وهي تحاول الكلام وقد اغرورقت عيناها، ثم ارتمت على ساقيه وانفجرت باكية بحرفة:[/font]
[font=&quot]- علي! علي! حبيبي! شكراً لله! أنت ما زلت على قيد الحياة! شكراً لله![/font]
[font=&quot]وانخرطت في نحيب متقطع وهي ممسكة بساقيه تقبلهما وتبللهما بدموعها وهو واقف لا يتحرك كالتمثال.[/font]
[font=&quot]وبردت حرقتها، فرفعت عينيها لترى من خلال دموعها وجهه الخشبي البارد. وتراجعت قليلاً، فمسحت دموعها بكمها، وعادت تنظر إليه وقد بدأت علامة استغراب تكسو وجهها الباكي وقالت:[/font]
[font=&quot]- كيف تحس؟[/font]
[font=&quot]وفتح فمه لأول مرة ليقول:[/font]
[font=&quot]- ماذا فعل بك ذلك الوحش؟[/font]
[font=&quot]وارتعشت بعض أعصاب وجهه وهو يجاهد لكتم انفعاله. كانت الغيرة القاتلة تحرق قلبه.[/font]
[font=&quot]وطأطأت نحو الأرض وهي تقول:[/font]
[font=&quot]- لاشيء يا علي، لاشيء بالمرة...[/font]
[font=&quot]- لا تزيدي الطين بلة! لا تكذبي علي![/font]
[font=&quot]- أقسم لك يا علي! أقسم لك أنه لم يضع أصبعا عليَّ! وأنا طاهرة كما عرفتني. ثم رفعت رأسها إليه بعينين فيهما عتاب واستعطاف:[/font]
[font=&quot]- علي، أرجوك... لا تضاعف آلامي! فقد ذقت ما فيه الكفاية. لقد كدت أخرج عن عقلي حين رأيتك طريحاً هناك والدم يفور من صدرك! فلا تفسد سعادتي بعودتك حياً إلي بغيرتك التي لا أساس لها...[/font]
[font=&quot]- لا أساس لها؟ هل أطلق الرجل النار عليّ وانفرد بك لتقصيِّ عليه الأقاصيص؟[/font]
[font=&quot]- الرجل الأزرق ميت![/font]
[font=&quot]- ميت؟![/font]
[font=&quot]وحركت رأسها دون أن تنطلق، فسأل:[/font]
[font=&quot]- من قتله؟[/font]
[font=&quot]- لا أدري.[/font]
[font=&quot]- ألم تسمعي طلقة نار أو تري أحداً؟[/font]
[font=&quot]وحركت رأسها بالنفي، ثم قالت:[/font]
[font=&quot]- لقد أغمي علي حين طرحني أرضاً. وحين أفقت وجدته جثة هامدة.. لا أثر للدم في جسده. لابد أن أصيب بسكتة قلبية.[/font]
[font=&quot]ورفعت عينيها فرأته يضع كفه على مكان الجرح، ويزم شفتيه مقاوماً سهام ألم حاد، فوقفت ومدت يدها نحو الجرح تريد تضميده فدفعها عنه باليد الأخرى، ومشى نحو الخيمة بخطوات مرتبكة كأنه تحت مفعول مخدر.[/font]
[font=&quot]ودخل الخيمة فنظر إلى جثة الرجل العاري ثم أدخل قدمه تحت بطنه وقلبه على ظهره لينظر إليه. وحين لم يجد أثراً بجسده لجرح أو دم عاد إلى حيث تاج، ووقف وراءها وهي ما تزال في جلستها مسمرة عينيها على الأرض.[/font]
[font=&quot]- ماذا كت تدفنين في تلك الحفرة؟[/font]
[font=&quot]وفجأة أحس بضعف شديد، ووقع على ركبتيه حين عجزت ساقاه عن حمله.[/font]
[font=&quot]والتفتت هي لتنظر إليه، وقد ظهر على وجهها الجد والعزم، وقالت:[/font]
[font=&quot]- علي، أعتقد أن الوقت قد حان لأشرح لك بعض الغموض الذي أحاط بحياتك منذ لقائنا. وأكشف لك عن أسرار رحلتك هذه والهدف الحقيقي منها.[/font]
[font=&quot]ونظر الدكتو نادر إليها بعينين شبه مقفلتين، فرأى وجهها يتماوج ويلفه ضباب كثيف، وشفتيها تتحركان دون أن يصله منهما صوت، ثم غابت عنه بانسدال ستار إغماء عميق عليه.[/font]

 
[font=&quot]وما إن أغمض عينيه حتى عاوده حلم قديم ظل يطارده ويلاحقه، ليفيق منه في كل مرة بقلب يثقله الإحباط والألم الممزق... أما هذه المرة فقد كان هناك فرق.[/font]
[font=&quot]رأى الدكتور نادر نفسه على شاطىء نفس الجزيرة الغناء، الباسقة النخيل الذهبية الرمال، يطارد تاجاً وهما عاريان تماماً. هي كفرس عذراء يلاحقها حصانها الفحل.. كانا يطفوان معاً بحركات تماوجية بطيئة كأنما يعدوان على سطح القمر بدون جاذبية.. ويمد الدكتور نادر يده فيكاد يلمس شعر تاج الحريري... وبعد لحظات استطاع تطويق خصرها بذراعيه.. وهوى الاثنان معاً على أرض واد معشب كثيف الكلأ، شديد الخضرة.. ودارت تاج لتواجهه وعلى وجهها ضحكة ساحرة تكشف عن أسنانها اللؤلؤية، وتملأ عينيها سعادة وترحيباً.. وتلامس جسماها، فشعت من ظهره حرارة سرعان ما غلفت جسمه بأكمله... وعانقها فدافعته عنها بضعف الأنثى المستسلمة، وهي تغطى وجهها بستار شعرها الليلي في دلال فتان... وأحس أن جلده قد رهف وتجدد، وجوارحه كلها استيقظت وسرت فيها الحياة... فإذا به يحس ويرى ويلمس ويستنشق ويسبح بروحه وبدنه داخل روح تاج وبدنها... تاج العذراء الملائكية التي أحبها بكل قطرة من دمه، ونبضة من عروقه... وأحس أنه لم يكن في حياته أقرب إليها مما هو الآن، وأن الهوة التي كانت تفرقهما قد اختفت، وأن الجدار الفولاذي الذي كان يقف عنيداً بينهما قد تذاوب كالشمع على النار.[/font]
[font=&quot]وأزاح بيده خصلات الشعر عن وجهها الحيي، وأداره نحوه، ففتحت عينيها في عينيه كنوافذ على روحها لتنفذ إليها روحه..واقترب بوجهه منها، وتلامست شفتاهما تلامساً خفيفاً، تلاحما بعده في عناق ملتهب وكأنهما يرقصان على أصوات جوقة من ملايين عصافير الفردوس...[/font]

 
[font=&quot]فتح الدكتور نادر عينيه على ضباب كثيف بدأ يرق مع سريان الانتعاش في إحساسه، فلاح له شبح وجه إنسان قريب منه للغاية... ولم يلبث أن بدأ الوجه يتماوج كأنه ينظر إليه في بركة ماء. وانقشع الضباب تماماً عن الوجه، فبرزت ملامحه قوية واضحة ترتسم عليها ابتسامة مشجعة... كان وجه أنثى شابة واسعة العينين زرقاءهما تكاد رانفةُ أنفها تلمس أنفه.[/font]
[font=&quot]وتحركت شفتاها فسمع أصواتاً متداخلة مع أصداء عالية بعيدة... وابتعد عنه وجه الأنثى قليلاً فاستطاع أن يراه بأكمله.ورآها تخرج من تحت الغطاء فأدرك أنها كانت نائمة معه في فراشه، وأن جسدها العاري كان ملتصقاً بجسده.[/font]
[font=&quot]وغابت في ركن ثم عادت تحمل صينية عليها كأس به عصير برتقال. وجلست على طرف السرير، ووضعت الصينية على طاولة جنب الفراش، وضغطت زراً إلى جانب رأس نادر فارتفع نصف الفراش الأعلى، ومعه رأس نادر وصدره فناولته الكأس، وساعدته على شرب ما فيه. وأحس بالمشروب بارداً عذباً يداعب حنجرته الجافة.[/font]
[font=&quot]وسرى مفعول العصير السحري في عروقه في الحال، فأحس باليقظة والتجدد في نشاطه... ونظر حواليه ليجد نفسه في غرفة مستديرة في منتهى الأناقة والغرابة كأنها إحدى غرف عصر الفضاء. الحيطان من زجاج مزخرف بأشكال متداخلة متشابكة كأحلام المخدرين، والسقف قبة زجاجية زرقاء، تصفي أشعة الشمس اللاهبة بالخارج لتُدخل ضوء بارداً فيه راحة للبصر والأعصاب.[/font]
[font=&quot]ونظر إلى الفتاة التي كانت ما تزال عارية، دون ارتباك أو خجل، ودون أن يكون في جسدها الشاب ما يدعو إلى الخجل أو الاستحياء.. كان شعرها الرملي اللون يتدلى وراءها قوياً كذيل فرس أشقر في تناسق مع بشرتها الذهبية.[/font]
[font=&quot]وأحس بفقدان حاسة الزمن، وأنه في تلك اللحظة بدون ذاكرة ولا ماض...[/font]
[font=&quot]ورفع عينيه فوقعتا في زرقة عينيها الواسعتين المليئتين صراحة وقوة، وسأل:[/font]
[font=&quot]- أين أنا؟[/font]
[font=&quot]- ستعرف قريباً..[/font]
[font=&quot]قالتها بلكنة ويلز الجميلة، فسأل:[/font]
[font=&quot]- من أنت؟[/font]
[font=&quot]- أنا ممرضتك ومرافقتك. كيف تحس الآن؟[/font]
[font=&quot]- تائه.!.[/font]
[font=&quot]فابتسمت لتنفرج شفتاها عن أعذب ثغر رآه، ثم قالت، وهي تنزع عن جسده الغطاء وتشعل نوراً مستطيلاً معلقاً فوق فراشه:[/font]
[font=&quot]- سوف تجد نفسك سريعاً. هذه حالة عارضة.[/font]
[font=&quot]ثم أشارت إلى الضوء قائلة:[/font]
[font=&quot]- حمامك الشمسي. بعد قليل سيأتي الطبيب لفحصك.[/font]
[font=&quot]ثم غابت بغرفة جانبية وعادت لابسة قميصاً أبيض قصير الأكمام يعانق صدرها وخصرها، وبنطلوناً في نفس اللون واسع الفتحتين، فأمسكت بيده وطلبت منه أن ينبطح على وجهه ليأخذ ظهره نصيبه من الشعاع.
وعند نهاية الحمام عاد إلى وضعه السابق، وغيرت الممرضة الأزُر تحته، ثم جاءت بأدوات الحلاقة، واقتربت بوجهها من وجهه:[/font]

[font=&quot]- ساعة الحلاقة![/font]
[font=&quot]واستسلم هو ليديها الناعمتين وهي تحلق لحيته، وأنفاسها العطرة تمتزج بأنفاسه، وهو ينظر إلى عينيها الواسعتين، ويسأل:[/font]
[font=&quot]- ما معنى كل هذا الغموض؟[/font]
[font=&quot]- غموض مؤقت![/font]
[font=&quot]- إذا لم يكن مسموحاً لي بمعرفة أين أنا، فهل يمكن أن أعرف من أنت؟[/font]
[font=&quot]- أنا كاثي، كاثي استيوارت.[/font]
[font=&quot]- ذلك لا يكفي. لماذا نمت معي في فراشي؟[/font]
[font=&quot]فتوقفت عن الحلاقة، وابتعدت قليلاً لتنظر إليه:[/font]
[font=&quot]- نومي معك عارية لم يكن لأي سبب غرامي. الحقيقة أنه أحد طرق العلاج لمن هم في مثل حالتك.[/font]
[font=&quot]- علاج؟[/font]
[font=&quot]- نعم، لقد كنت في حالة نوم معلق، إذا أمكن استعمال هذا التعبير. كان جسدك منوماً. كل خلاياك كانت حية، ولكنها واقفة عن الحركة الحيوية. بمعنى أنه لا تسن، هل تفهمني؟[/font]
[font=&quot]وحرك نادر رأسه طالباً الاستزادة:[/font]
[font=&quot]- استمري، لماذا كل هذا؟[/font]
[font=&quot]- لأنك تعرضت للمسة إشعاع خفيفة أحرقت بعض خلاياك الداخلية، فاضطررا إلى تبريد جسدك إلى درجة الجمود، وإجراء عملية إفسال خلايا بديلة عن تلك التي احترقت.[/font]
[font=&quot]- هل نجحت العملية؟[/font]
[font=&quot]- مائة في المائة.. اليوم آخر كشف لإطلاق سراحك.[/font]
[font=&quot]- لي سؤال قد يكون محرجاً بالنسبة لك..[/font]
[font=&quot]- لا شيء يحرجني... اسأل![/font]
[font=&quot]- قبل أن أستيقظ لأجد نفسي وجهاً لوجه معك، كنت أرى حلماً شديد الواقعية، حلمت أني أضاجع فتاة أحبها. هذا شيء في غاية الأهمية بالنسبة لي... هل كان بيننا أي اتصال؟[/font]
[font=&quot]فقاطعته:[/font]
[font=&quot]- اتصال بدني كامل... وإذا كان في بالك أنك خنت أحداً فلا تقلق.. فقد كان فكرك كله معها..وعادت إلى إلى تمام حلاقته، فأغمض عينيه منتشياً لما قالته، وكأن عبئاً هائلاً نزل عن كاهله.[/font]
[font=&quot]وتذكر تاجاً، قفزت إلى وعيه فجأة كأنها لم تكن هناك من قبل... واغرورقتْ عيناه فابتعدت الممرضة عنه لتنظر إلى وجهه. وفتح عينيه فترقرقت دمعتان ساخنتان على خديه، ووقفت في حلقه غصة حامية.[/font]
[font=&quot]ولامست أنامل كاثي الرقيقة خديهِ بمنديل رهيف، تمسح بح الخطوط الملتهبة وعلى وجهها نظرة إشفاق.[/font]
[font=&quot]واعتدل في مكانه قائلاً:[/font]
[font=&quot]- سامحيني.. ليس من عادتي الانتحاب بمحضر السيدات.[/font]
[font=&quot]- لابأس عليك من ذلك... الدموع علامة على الصحة العاطفية.[/font]
[font=&quot]ومدت يدها لتجمع أدوات الحلاقة، فأمسك بها.[/font]
[font=&quot]- أتعرفين تاجاً؟[/font]
[font=&quot]- تاج؟[/font]
[font=&quot]- نعم... رفيقتي التي وجدتموني معها في الواحة. أين هي؟[/font]
[font=&quot]- لا أدري. ولكن إذا انتظرت فسوف يأتي الدكتور مورينو ليكشف عنك. وربما كانت عنده بعض الأخبار.[/font]
[font=&quot]وغابت ثم عادت لتقول:[/font]
[font=&quot]- لابد أن تاجاً هذه تعني كثيراً بالنسبة إليك... فقد دأبت على تكرار اسمها منذ بدأت تعود إلى الوعي. كانت تملأ مشاعرك حتى وأنت بين ذراعي...[/font]

 
[FONT=&quot]ولاح وجه رجل في ملابس طبية بيضاء على لوح زجاجي معلق أمام سرير الدكتور نادر. ونظر الرجل إلى نادر نظرة فاحصة ثم قال:[/FONT]
[FONT=&quot]- كاثي.[/FONT]
[FONT=&quot]- نعم يا دكتور.[/FONT]
[FONT=&quot]- كيف مريضك؟[/FONT]
[FONT=&quot]- في حالة حسنة.[/FONT]
[FONT=&quot]- أنا قادم الآن.[/FONT]
[FONT=&quot]واختفى الوجه من الشاشة الزجاجية. وبعد بعض لحظات انفتح باب في جانب الغرفة المستديرة، ودخل نفس الرجل. كانت في وجههى الأسمر الوسيم ابتسامة مشجعة. وسعى نحو الدكتور نادر بخطوات واسعة، ويده مبسوطة بالتحية، وصافحة وهو يضغط على أحد أزرار بلوح السرير، ليرفع نصفه الأعلى. وبادره الدكتور نادر:[/FONT]
[FONT=&quot]- أين أنا يا دكتور؟[/FONT]
[FONT=&quot]- ستعرف قريباً. لا تدع ذلك يقلقك، مهمتي هي إرجاعك إلى الصحة التامة.[/FONT]
[FONT=&quot]ونظر إلى ساعته وهو يجسُّ نبضه، ثم وضع السماعة على صدره وظهره، وضرب بأصابعه هنا وهناك، وضغط على زر آخر ونظر إلى الشاشة الناصعة التي ارتسمت عليها خطوط متعددة الألوان. ثم أعاد نظارته إلى جيبه، وقال:[/FONT]
[FONT=&quot]- لقد أصبح شفاؤك كاملاً! عليك الآن أن تستريح لتسترجع وزنك العادي ونشاطك وسوف تقوم كاثي بالإشراف المباشر عليك طوال فترة النقاهة.[/FONT]


[FONT=&quot]وفي عصر ذلك اليوم استيقظ الدكتور نادر من قيلولته، فأحس بنشاط كبير وصحة متجددة. وجاءته كاثي بقهوة وبعض الحلويات، وجلست تشاركه أكلته المسائية.[/FONT]
[FONT=&quot]ورن جرس موسيقي خافت، فضغطت كاثي على احد الأزرار إلى جانب السرير، وقالت شيئاً ثم عادت إلى ضغطه مرة أخرى، ثم التفتت إلى نادر قائلة:[/FONT]
[FONT=&quot]- المفاجأة التي وعدك بها الدكتورمورينو، هل أنت مستعد؟[/FONT]
[FONT=&quot]وخفق قلبه معتقداً أنها تاج...[/FONT]
[FONT=&quot]وانفتح الباب، فدخل رجل طويل على عينيه نظارة ذهبية الإطار وابتسامة مألوفة لدى الدكتور نادر. ولم يكد هذا يصدق عينيه، فاعتدل في جلسته، ومد كلتي يديه للترحيب بزائره.[/FONT]
[FONT=&quot]- الدكتور هالن... إيريك هالن![/FONT]
[FONT=&quot]ووضع الرجل يديه في يدي الدكتور نادر، وضغطهما بحرارة، وهو يقعد على كرسي إلى جانب السرير.[/FONT]
[FONT=&quot]- علي، كيف أنت الآن؟[/FONT]
[FONT=&quot]- أنا بخير... هذا الصباح قال الطبيب أنني شفيت تماماً... ولكن من أي مرض؟ لا أدري! قالت لي الممرضة أنني أصبت بالإشعاع كيف؟ لا أحد يريد الإجابة عن أسئلتي. وأنت؟ متى عدت إلى الظهور؟ لقد أثار اختفاؤك ضجة عالمية![/FONT]
[FONT=&quot]وأجاب الدكتور هالن:[/FONT]
[FONT=&quot]- ستعرف كل شيء في حينه. أعرف أن برأسك ألف سؤال تريد الجواب عليها... وعندما تعرف أين أنت ستتوالد الأسئلة لتصبح ملايين.[/FONT]
[FONT=&quot]- لقد أيقظت فضولي بغموضك.. وإذا كنت تخاف أن تفاجئني أو تصدمني بما سوف تقوله فلا تقلق.. لقد مررت خلال الأيام القلائل الماضية بتجربة عمر كامل... ولم يعد هناك ما يفاجئني..ومسح الدكتور هالن نظارته، ووضعها على عينيه، ونظر إلى نادر بتأمل صامت. ثم لَعَقَ شفتيه بلسانه، وقال ساهماً بعينيه في الفراغ:[/FONT]
[FONT=&quot]- من أين سأبدأ؟ أعتقد أن البداية أحسن نقطة... وينبغي أن أنبهك إلى أن ما سأقوله شيء غير عادي... ولكنه حقيقة لا خيال فيها، وإن كانت أشبه ما تكون بالخيال...[/FONT]
[FONT=&quot]وفتحت هذه المقدمة شهية الدكتور نادر، فأمسك بطرفي اللحاف في توقع متوتر. واستأنف الدكتور هالن:[/FONT]
[FONT=&quot]- سألتني متى عدت للظهور، في الحقيقة أنا لم أظهر، بل أنت الذي اختفيت. اختفيت بنفس الطريقة التي اختفيت بها أنا من الطائرة بين نيويورك والمغرب...[/FONT]
[FONT=&quot]وفتح الدكتور نادر فمه ليسأل، فاستوقفه الدكتور هالن بحركة من يده.[/FONT]
[FONT=&quot]- تم الاختفاء بالتعاون مع الطيار والملاح المنتميين للهيأة التي أنت ضيف عليها الآن. تنزل الطائرة إلى ارتفاع مناسب يقل معه الضغط الجوي، ويلقى بك منها بمظلة ليلتقطك أعوان الهيأة في نقطة معينة بالبحر أو الصحراء[/FONT]f[FONT=&quot]أبدأ[/FONT][FONT=&quot]. وتتم العملية تحت تخدير شامل لبقية الركاب.[/FONT]
[FONT=&quot]- كان ينبغي أن تسمع الضجة التي قامت حول اختفائك بلندن! كان لها نفع مباشر لناشر كتبك، فقد اختفت كلها من السوق، والمطابع تحسك ضلوعها لتجيب رغبة الجمهور الجائع لأخبارك وأفكارك.[/FONT]
[FONT=&quot]- وما هي هذه الهيأة التي لها كل هذه القوة؟ وما هو قصدك من اختطافي أنا؟[/FONT]
[FONT=&quot]فلست خبيراً في الإشعاع ولا أي علم مربح تجارياً.[/FONT]
[FONT=&quot]- سأشرح لك. منذ بعض وعشرين سنة، أي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، قررت هيأة من العلماء الفرار بمواهبهم وبحوثهم من أوربا إلى مكان مجهول يدفنون فيه كنزر نتاج العقل البشري وتراث الإنسان منذ بدأ يقلب وجهه في السماء.. كان خوفهم حقيقياً من قيام حرب ثالثة ذرية تمسح البشرية من الأرض وتقضي على خمسة آلاف سنة من الكدح العقلي.. فوقع اختيارهم على جبل في جوف واد شاسع بقلب الصحراء بعيد عن كل طريق، أطلقوا عيه اسم جبل الجودي.وبقي اتصالهم بالعالم الخارجي دائماً بطرق معقدة للحصول على المجلدات المهمة والسجلات القيمة والأشرطة الموسيقية والسينمائية التي تسجل حياة الإنسان وذخائر مواهبه. وبالتقدم السريع الذي حدث في العشرين سنة الأخيرة أمكن فيها إلى حد بعيد. وكبر المشروع ومعه الهيأة. وتم استقدام عدد كبير من العلماء الرواد في ميادينهم، والفنانين والأدباء والصناع المهرة في جميع المهن. وينبغي أن أعترف أن استقدام بعض أولئك لم يكن بالطرق التقليدية...[/FONT]
[FONT=&quot]وابتسم وهو يشير للدكتور نادر ولنفسه ويقول:[/FONT]
[FONT=&quot]- مثل استقدامنا نحن! ولكن بعد الاطلاع على ما يحدث في جبل الجودي يقرر الجميع البقاء، وينسون العالم الخارجي في خضم ما يحدث هنا من خوارق واكتشافات تجعل حياتهم السابقة شبحاً ضحلاً ميتاً.. وأنت رشحتك أبحاثك الطليعية في علم الإنسان لعضوية الهيأة. وبترشيحك هذا أصبحت شريكاً في أعظم مشروع! مشروع الإشراف على تشكيل مستقبل الإنسان.. بل على كتابة "سفر تكوين" جديد، لايَدَ للصدفة أو العشوائية فيه.[/FONT]
[FONT=&quot]وسكت قليلاً ليجمع أفكاره، ويترك لكلامه فرصة لأخذ مفعوله، ثم استأنف:[/FONT]
[FONT=&quot]- الإنسان كما تعرف أصبح الآن على مفترق الطرق بين طفرة تطور جديدة كالتي أخرجته من عصر الحلقة المفقودة إلى عصره البشري. القرائن كلها تدل على أن عقله قد نضج لقفز المرحلة. وقد استطاع علماء البيولوجيا هنا عن طريق بعض المواد الكيماوية الجديدة، وخاصة "النيروسين" أن ينشطوا بقية أجزاء المخ التي ظلت كسولة منذ تطور الإنسان الأول. وقد فتح هذا الكشف طاقات جديدة وعوالم وآفاق ضاربة في المجهول... ويمكن أن أقول إنه في عقل الإنسان من التقدم ما يوازي تقدمه المادي ألف سنة من الآن. هذا أصعب للشرح بدون تمثيل، وسوف ترى بنفسك حين تبدأ العمل، وتتعلم استعمال "معاذ".[/FONT]
[FONT=&quot]وقاطع الدكتور نادر مستفسراً:[/FONT]
[FONT=&quot]- "معاذ؟"[/FONT]
[FONT=&quot]-نعم. "معاذ" ليس اسم شخص، بل اسم عقل اليكتروني بناه العلماء لخزن الكنوز البشرية في أصغر مساحة ممكنة، وبالتالي الإطلاع عليها في أسرع مدة ممكنة، وسوف أمثل لك على ذلك.[/FONT]
[FONT=&quot]ونادى:[/FONT]
[FONT=&quot]- كاثي![/FONT]
[FONT=&quot]ودخلت كاثي فأشار لها أن تجلس وراء مكتب على جانب السرير الآخر به مفاتيح كالتي على آلة الكتابة، فجلست مستعدة للضرب عليها. وأملى الدكتور هالن السؤال:[/FONT]
[FONT=&quot]- المكتبة. نادر علي. عصر الإنسان.[/FONT]
[FONT=&quot]وتحركت أصابع كاثي في صمت فإذا صور سريعة تشع على اللوح المعلق في مواجهة السرير في نهايتها يبدو مجلد العنوان: "عصر الإنسان، تأليف الدكتور علي نادر". والتفتت كاثي إلى الدكتور هالن الذي كان كان يحك جبينه بأصابعه كأنما يحاول أن يتذكر شيئاً، ثم قال:[/FONT]
[FONT=&quot]- صفحة 130.[/FONT]
[FONT=&quot]وانفتح الكتاب على الصفحة المطلوبة، والدكتور نادر فاغر فمه من الاستغراب والسرور. وقرأ هالن من الصفحة الفقرة الآتية:[/FONT]
[FONT=&quot]"نحن نشعر أن هناك شيئاً حقيقياً بداخلنا هو نواتنا التي نقوم حولها. أجسادنا وحواسنا ودوافعنا كلها قشور لها. وقد حير الفلاسفة مصدرها وكيانها حتى لكأنها منفصلة عنا كأجساد. وحتى ولو أغرقنا أنفسنا في ظلام حالك وصمت عميق، وركزنا كل ما نملك من قوى عقلية عليها، فلن يزال هناك غبار كثيف يحيط بذلك الشيء الحاد اللماع الذي هو جوهرنا، والذي غطته العصور بغلاف سميك من الحاجات والدوافع المادية والبدنية أصبحت قبراً متحركاً دفن فيه الجوهر حياً، وما يزال يصرخ في أعماقنا للخروج والتحرر والانطلاق، فلا تجد صعوبة كبيرة في كبت صراخه أو الصمم عنه.[/FONT]
[FONT=&quot]في فترات قليلة من حياة بعض الأفراد تطل تلك النواة، ذلك النور الوامض من وراء جدران جسده وجوارحه المثلمة البكماء، وذلك حين ينتصر عليه الإيمان. الإيمان بفكرة أو بقضية أو بموهبة. وعند ذلك تنتصر الروح وتنعتق من أسر البدن وتنطلق عارية تدفع بالجسد إلى الأخطار والهوايا لأنها أصبحت سيدته ولم يعد هو سيدها.[/FONT]
[FONT=&quot]"وهذا ما دعا كثيراً من الفلاسفة إلى الانتحار وإعتاق أرواحهم من سجونها وسلاسلها البدنية.".[/FONT]
[FONT=&quot]والتفت الدكتور هالن إلى نادر وقال بصوت حالم:[/FONT]
[FONT=&quot]- ما يزال هذا المقطع يثير في نفسي أحاسيس غريبة مختلطة، منذ قرأته لأول مرة يوم وصلتني نسخة الكتاب هدية منك. ربما لأنه كان صدىً لما كنت أحس به حينئذ. وربما لأنه كان تعبيراً حياً عن شعور غامض ما كنت أستطيع التعبير عنه بهذا الوضوح.[/FONT]
[FONT=&quot]وأشرق وجه الدكتور نادر بابتسامة وهو ينظر إلى الدكتور هالن، وقال:[/FONT]
[FONT=&quot]- ما تزال الرجلَ اللطيفَ، صاحب الروح الشفافة...[/FONT]
[FONT=&quot]فابتسم هالن، وفرك يديه وعاد إلى الحديث:[/FONT]
[FONT=&quot]- ماذا كنا نقول؟ آه! كنت أحكي لك عن "معاذ". العقل الإلكتروني. المثال الذي أعطيتك ليس إلا جانباً صغيراً من وظائف معاذ. ويمكنني أن أصفه بأنه أكمل آلة صنعها مخلوق ناقص هو الإنسان! ومعاذ هو اختصار الإسم المطول: "مُجمَّع العلاقات الإلكترونية الذاتية". ويوجد بجبل الجودي هذا أكثر من خمسة آلاف عالم وعالمة في جميع ميادين المعرفة الإنسانية العقلية منها والعملية.. وكل هؤلاء موكلون بإطعام معاذ جميع ما في ميادينهم من معلومات، وما يضاف إليها كل يوم من بحوث واكتشافات جديدة. ويسمى هؤلاء "مبرمجون" لاختصاصهم في تصفية البحوث وإرجاعها إلى أبسط أصولها. وقد أصبحت أحشاؤه الآن تحتوي على مجمل المعرفة البشرية منذ بدأ الإنسان يفكر ويسجل. أطعمَهُ المبرمجون تاريخ الإنسان من فجر ميلاده حتى الآن. وكذلك فلسفته وأديانه.. أحلك عصوره وأبهاها، وعلوم المال والاقتصاد وأسواق الأسهم والأوراق المالية، وبه بدأنا نعرف مسبقاً ما سيحدث في العالم الرأسمالي من التغيرات، وبذلك أصبحت للمنظمة ثروة هائلة من الاستثمارات التي ينصح بها "معاذ". وقد أطعمناه ترجمات حياتنا وأسرارنا الشخصية وأحوالنا الصحية، فتنبأ بأمراضنا قبل أن تصيبنا، ووصف لنا الوقاية قبل العلاج، وأحاط بما يشغل عواطفنا وعقولنا، ونبهنا إلى عيوننا ونقائصنا، وأصبح الحجة الأولى والعقل المسير الأعلى للمنظمة. وقد أصبح طبيب نفسه، يكتشف أمراضه ويصحح ما يصيب بعض أعضائه من عطب أو خلل. فيغير قطعه، وينتج الجديد منها، ويشحم دواليبه ويزيت أنابيبه...[/FONT]
[FONT=&quot]كان الدكتور نادر ينصب مبهور الأنفاس، وحين سكت هالن قال:[/FONT]
[FONT=&quot]- لا أصدق كل هذا..![/FONT]
[FONT=&quot]- لم أتوقع منك ذلك.. أنا نفسي لم أصدقه حتى تأكدت بنفسي. معاذ الآن أصبح خارجاً عن كل سيطرة خاصة. سرعة آلياته الهائلة، وقدرته على مزج العلوم المتباعدة التي هضمها، والخروج من خليطها بنتائج مدهشة لا تَخْطُر على عقل عالم من أي ميدان، جعلته في مقدمة الجميع، وجعلت العلماء يلهثون خلفه، يحاولون اللحاق بالكشوف الجديدة التي ما يزال يلقي بها كل ثانية سواء في الطب أو الفضاء أو المعادن أو الكيمياء...[/FONT]
[FONT=&quot]- هذا معناه أنكم هنا تسبقون العالم الخارجي بمراحل..[/FONT]
[FONT=&quot]- أحياناً أفكر أنني سأستيقظ بعد لحظة لأجد نفسي أحلم أو أقرأ قصة خيالية...[/FONT]
[FONT=&quot]- سمعتك تذكر "جبل الجودي"، أليس ذلك رمزاً إلى الجبل الذي رست عليه سفينة نوح؟[/FONT]
[FONT=&quot]- بَلَى سمى العلماء الأولون هذا المكان بجبل الجودي للشبه الكبير بين قصتهم وقصة نوح.. هربوا من عالم أوشك على الغرق، هذه المرة في طوفان الإشعاع النووي! وأملهم أن يبقى هذا الجبل جزيرة آمنة داخل طوفان الموت القادم عند اندلاع الحرب الثالثة... جبل الجودي إذن رمز له دلالته![/FONT]
[FONT=&quot]- سؤال آخر، من المسؤول عن اختطافنا، أواستقدامنا إلى هنا؟[/FONT]
[FONT=&quot]- يمكن أن أقول معاذ. ولكن مواهبنا هي المسؤولة الأولى في الحقيقة. تخصصي أنا في مقاومة الإشعاع، والتزامك الفلسفي بإنهاء عصر التضامن الديني وإعداد البشرية للطفرة التطوريه الجديدة. ثم نظر إلى ساعته ووقف باسطاً كفه لنادر:[/FONT]
[FONT=&quot]- على أنا سعيد للغاية بوجودك بيننا .. سأعود إلى عملي وسوف أراك غداً، ينبغي أن ترتاح الآن.[/FONT]
[FONT=&quot]وصافحه وهم بالخروج، فاستوقفه نادر قائلاً:[/FONT]
[FONT=&quot]- إيريك.[/FONT]
[FONT=&quot]- نعم.[/FONT]
[FONT=&quot]- عندي سؤال أخير. أرجوك أن تجيبني عنه بكل صراحة.[/FONT]
[FONT=&quot]- ما هو؟[/FONT]
[FONT=&quot]- تاج، أين هي؟[/FONT]
[FONT=&quot]- تاج تحت الإشراف الطبي. كانت أصيبت هي الأخرى بلمسة إشعاع.[/FONT]
[FONT=&quot]- هل ستعيش؟[/FONT]
[FONT=&quot]- الأطباء ساهرون عليها.[/FONT]
[FONT=&quot]- هل ستشفى؟[/FONT]
[FONT=&quot]- لا أدري. ولكن لا ينبغي أن تيأس، فعندنا من وسائل مقاومة الإشعاع ما لا يتوافر في العالم الخارجي مجتمعاً..ثم ألقى عليه نظرة عطف وأضاف:[/FONT]
[FONT=&quot]- أرجوك، لا تقلق.. سأعملُ جهدي![/FONT]
[FONT=&quot]وأقفل الباب خلفه وترك نادراً وقد انسدلت غيمة حامية من الدمع على عينيه، فأشاح بوجهه حتى لا تراه "كاثي".[/FONT]

 
الوسوم
الأزرق الطوفان
عودة
أعلى