رواية خطوات على جبال اليمن

عندما يكتب الدكتور سلطان القحطاني مقالاً أو كتاباً، تقرأه ناقداً، يستخدم الأسباب والنتائج، والمناهج والوسائل، والثقافة العملية العلمية العميقة تنظيراً وتطبيقاً على فن الرواية الذي تخصص فيه.

ولكن عندما يتحوّل أمامك إلى مبدع، يكتب رواية، يدهشك في قدرته على جعلك تنسى أنه ناقد رواية، وينجح تماما في إقصاء الناقد الذي يشتغل على أعراف وقواعد وسياقات نوعه الأدبي الذي يمارسه ناقداً، لتفاجأ بروائي يبدأ الأشياء، ويسردها وينهيها، من مناطق بكر وعذراء وفطرية، إلى مناطق أكثر بساطة وعذوبة وتجلياً، ومن الأعماق، الأعماق الصادقة المتحررة، حيث كل شيء يبدأ من الصفر، ومن صفر الرؤية الفلسفية المتأملة للنفس والوجود، وإلى أن يدرك )الراوي( أو )البطل / محمد شرف الدين ان حياته تتكون من أربع بصمات، يرى أن كل بصمة منها تسند ركناً من أركان مستقبله، ولا يمكن ان يُقدم على عمل شيء قبل أن يسنده ركن أو أكثر من هذه الأركان.

في النص شعرية واضحة، أو، أكثر من تعاشق مع التقنيات الشعرية الحديثة، أو أكثر من باب يُفتح لتراسل الفنون والأجناس والأنواع الأدبية، من رموز ومجازات ومفارقات وإسقاطات فكرية واجتماعية وتوظيف باذخ للتراث.

يبدأ نص الرواية بالمفارقات، فقد كان يُصلّي صلاة حقيقية عندما ناداه الأول، بينما هو يسمع الآخر يتمتم بكلمات لم يفهم منها شيئا إلا أنها توحي بأنه يتضرّع إلى الله، وكأنه إنسان آخر لا يعرفه، وهي المرة الأولى التي ينكر فيها نفسه، وهو الذي يحس في مواقف أخرى بأنه شخص في داخل شخص آخر، وهو الذي من أجله نزل الفارس مترجلا عن حصانه دون مقاومة وسلّم السيف إلى أبيه وولّى هاربا، وهو الشخص الذي ولد من غير طفولة وبدأت حياته من هذا المكان الذي تحددت له فيه الجهات الأربع بعد ان استقلّ بنفسه وترك السائق والدليل، ولم يكن يدري أن له سابق معرفة، وان العبارات التي تثير شعورا داخليا يبعث الأمل تجعل طيات هذا الشعور مشبعة بسخرية مريحة لا يدري مصدرها

اسمه محمد شرف الدين. واسم السائق محمد، واسم الدليل محمد ) ولكن أيهم شرف الدين، قد يكون لا هذا ولا ذاك(، وخداع الأسماء واستخدامها للتضليل، وخداع الأشكال والقياسات )المظاهر( )أنا قصير، والسائق شديد الطول غير العادي، تبدو عليه علامات الغفلة وقلة النجابة والذكاء( و )السائق والدليل، وكل منهما يتلمس طريقا آمنا( و )كل منهما مشغول بنفسه وتلمس الطريق(

يقلّب بصره ذات اليمين وذات الشمال، وكان يذكر ان الشمس تكون على يده اليسرى عند الخروج لصلاة العصر، واليوم وجدها فوق رأسه، تحاول أشعتها التسلل من خلف سحابة سوداء تحاورها، تمنعها حينا وحينا تتغلب عليها، ولكن هل تزول إلى اليمين أو إلى الشمال؟ ، ويتركها تذهب كيف تشاء

قادم من المجهول، من ذاكرة مفقودة، ينكر الناس النقود التي معه، ويبدأ في إتقان إصلاح الأشياء، حتى ينشر الزبائن أخباره بين الناس، وإذ يلاحظ فيه )معلّمه( حب العمل والرغبة الشديدة في التعلّم، لا يمانع في أن ينضمّ إليه عاملاً بدون أجرة على أن يعلمه بعض أصول المهنة، وهو الذي يعرض عليه صاحب العمل أن يكون شريكا له، هو الشاب الذي ليس له ارتباط آخر غير العمل ليلا ونهارا، إضافة إلى الإقبال الشديد على الصنعة، وهو الذي يرغب في إرسال الرسائل )فكيف يرسل الآخرون رسائل وأنا لا أرسل؟!( وهو الذي أصبح فيلسوفاً يفرح بمعرفة الدورة الزمنية ولكنه يتساءل )كيف؟!( وهو الذي لا حساب للزمن في حياته، ويظن أن أحدا سيسأله ولا يجد، وهو الذي جهّز لكل سؤال إجابة، مع أنه في )في الحقيقة( لا يملك جوابا محددا لأي سؤال، هو الذي تدور في ذهنه عشرات الأسئلة ولا يجد جوابا، ويبقى دائماً، وفي كل لحظة، سؤال واحد يحيّره.

يدّعي المعرفة، ويصارح نفسه )فقط( )دع القدر يمشي ويحدد المصير( ويعرف انه )ينتظر جوابه بين الرجاء واليأس( وأنه )لا يجد أحدا( وكلما همّ بإلقاء سؤال تردد، بعد ان فقد شيئا لا يعرف ما هو، فيما يرى كل شيء أمامه يكتنفه المجهول، وحتى المهمة التي أوكلت إليه؛ وأفكاره تدور في ذهنه على شكل أسئلة، هو الذي أمامه نجمة كلما نظر إليها ابتعدت، ويدرك ان عنده مشكلة، ولكنه لا يعرفها، بل يعرف فقط: إنه على مفرق طرق صعب.

وفي النص روح مشبعة بالأسئلة ومحاولة الرؤية الاستشرافية، حتى أنني أشعر، وفي قراءتي الانطباعية هذه، ان الرواية لم تنته، فقد ترك لنا الراوي مجالا واسعا لتخيل ما يمكن ان يحدث مستقبلا

من كتاب : من أين لهم هذه القوة , ومن يكسب الرهان ؟ عبدالله سعد اللحيدان .طبعة2009 . بيروت . بيسان للنشر .
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
وفي النص روح مشبعة بالأسئلة ومحاولة الرؤية الاستشرافية، حتى أنني أشعر، وفي قراءتي الانطباعية هذه، ان الرواية لم تنته، فقد ترك لنا الراوي مجالا واسعا لتخيل ما يمكن ان يحدث مستقبلا.

ابدعت في رسم خيوط الرواية لتدعنا بشوق الى قرائتها

تقديري و احترامي لك
 
الوسوم
اليمن جبال خطوات رواية على
عودة
أعلى