رواية إنتِ لي/كامله لدكتوره منى المرشود

الحلقةالرابعةوالعشرون
*********





كلما تذكّرت الدمعة الحبيسة في عين سامر، التي كاد يطلقها لحظة عناقنا الأخير.. تفجرت عوضا عنها عشرات الدموع من محجري.

لم يكن ما فعلته شيئا يغتفر.. إنه سامر رفيق الطفولة و الصبا و المراهقة.. إنه أعز إنسان لدي.. لكنه ليس الأحب..

في صباح اليوم، عندما رأيته.. تلوّت أمعائي و أصابني مغص شديد مفاجئ للكدمات التي شوهت ما لم يكن مشوها من جسده النحيل.

حين حاولت التحدّث إليه لم يرد علي، حتى بدأت أقنع نفسي بأن اللكمات التي تلقاها فكه قد أعجزته عن النطق ، إلا أنه تحدّث مع دانة التي انفردت به مطولا في غرفتها .

بالتأكيد كان حوارهما يدور حولي و حول ما سببته من مشكلة معقدة بغبائي و تهوّري...

و كل هذا، لأنني اكتشفت أنني أحب وليد !

أحب رجلا وحشا مفترسا... لم يسبب لي منذ ظهوره في حياتي من جديد غير الألم و المعاناة...

و لو استهلكت كل كلمات الندم الموجودة على وجه الأرض، ما كفاني ذلك لأعبّر عما أشعره هذه اللحظة من الذنب...

الآن، أنا فتاة طائشة ناكرة للجميل و المعروف، حطّمت قلب الرجل الذي يحبها و يتلهف لإسعادها، من أجل رجل لم تعرف عن حقيقته شيئا أكيدا، غير أنها تحبه.. وتتمناه.. و حينما يعود والداي، و يرحل وليد، كما رحل سامر، فإن كل شيء سينتهي.. و أفقد عائلتي.. و أعود يتيمة وحيدة كما قدمت إليهم قبل 15 عاما...

بين الفينة و قرينتها تجيء ابنة خالتي نهلة لتتفقدني، فتراني كما تركتني.. أهيم في أفكار بائسة لا نهائية.. في ضياع و تشتت.
كنت أحاول النوم على سريرها، إذ أنني قضيت الليلة الماضية ساهرة سهر النجوم.. وحيدة وحدة القمر.. باكية بكاء المطر.. تعيسة تعاسة السواد المخيم على السماء... تتلاعب بي الأفكار تلاعب الرياح بورقة شجر صفراء جافة.. فقدت فرعها و أصلها و جذرها و تاهت في صحراء لا نهاية لا.. و لا بداية.


" أما زلت ِ مستيقظة ؟ "

سألتني نهلة و القلق الشديد يتملكها و يحوّل وجهها البشوش الصريح إلى مغارة من الغموض و الحيرة..

قلت:

" أنى لعيني النوم يا نهلة، و قد فعلت ُ ما فعلت ؟ .. غدا مساءا سيعود والداي.. ماذا أقول لهما ؟ يا إلهي لا أريد أن أريهما وجهي.. "

" هّوني عليك يا رغد، لستِ أول و لا آخر فتاة تحل ارتباطها من خطيبها بعد سنين من الخطوبة ! لا عليك يا ابنة خالتي.. هل تعتقدين أنهم سيطردونك من المنزل مثلا من جراء فعلتك هذه ؟؟ "

قلت:

" لا أستحق العيش تحت كنفهم بعد الآن... بل لا أجرؤ على العودة إليهم ! أوه لو رأيت الطريقة التي خاطبتني بها دانة هذا اليوم.. "

و تذكّرت كلماتها القاسية التي وجهتها إلي بعد مغادرة سامر، مكسور الخاطر...

قالت نهلة:

" و منذ متى كانت طيبة معك ! إنها دائما قاسية عليك، دعك ِ منها.. لكن عندما تعود أمك يا رغد، أخبريها بحقيقة الأمر.. أخبريها بأنك لم تحبي سامر يوما و أنك... تحبين وليد !"

قلت بأسى و اعتراض:

" مستحيل ! لا يمكن أبدا... و لا بشكل من الأشكال ! كيف يا نهلة كيف ؟؟ و ماذا سأجني من قول هذا ؟ أم تظنين أنها ستقول : لا بأس ، ننقلك من سامر إلى وليد ، بهذه البساطة ؟؟ "


و جعلت أندب حظي الذي أوقعني في مأزق كهذا..

" ليته لم يسافر و يتركني.. ليته لم يعد ! ليتني أستطيع التوقف عن التفكير به ! ليته يحس بي... ليت معجزة سماوية تجعله يرتبط بي و تجعل سامر ينساني.. ليته يختفي من حياتي و قلبي.. ليته يظهر الآن و ينتشلني من كل هذا ! "


و حشود من الأمنيات تمنيتها في عجز عن تحقيق أي منها... أو حتى تخيّل تحقيقها.. إلا أن واحدة منها تحققت فورا !

طرق الباب هاهنا و دخلت سارة و قالت:

" قريبك الكبير أتى يا رغد "


نظرت نحو سارة بقلق مفاجىء و انعقد لساني، فتحدّثت نهلة بالنيابة و قالت :

" من تعنين سارة ؟؟ "

قالت :

" وليد الطويل ! "


أنا و نهلة تبادلنا النظرات ذات المعنى، ثم قلت:

" ماذا يريد ؟؟ "

سارة قالت وهي مبتهجة:

" سأل أولا عن والدي و أخي، و كلاهما غير موجود ! ثم قال: ( هل ابنة عمي رغد هنا ؟ ) قلت ( نعم ) قال: ( هل لا استدعيتها من فضلكِ يا آنسة ؟).. قال عنّي آنسة ! "

و بدت مسرورة بهذا الاكتشاف العظيم ! إنها آنسة ! ما أشد فراغ رأس هذه الفتاة !
يبدو أنها المرة الأولى التي تسمع فيها أحدا يطلق عليها هذا اللقب !

قلت:

" أين هو ؟"

قالت:

" في الخارج ! عند الباب "

نظرت إلى نهلة و قلت:

" لا أريد العودة إلى البيت.. لابد أنه جاء لاصطحابي إلى هناك. لن أذهب "

و سرعان ما كانت سارة على وشك الذهاب إليه و هي تقول:

" سأخبره بذلك "

نهلة صرخت:

" انتظري سارة ! ما بالك ما أن تلتقط أذناك كلمة حتى أسرع لسنك ببثها ؟ اذهبي و أخبري أمي عن قدومه حتى تتصرف ! "

و انصرفت سارة مذعنة للأمر ! و بكل سرور !

بعد ثوان حضرت خالتي، و قالت:

" سأذهب للتحدث إليه، لا تقلقي "



إلا أن قلقي بدأ يتضاعف هذه اللحظة...

ذهبت خالتي ثم عادت بعد دقيقتين تقول:

" يرغب في التحدث معك، تركته واقفا في الحديقة "

هممت بالنهوض، فقالت:

" ما لم ترغبي في ذلك فسأصرفه "

قلت:

" لا داعي خالتي. سأصرفه بنفسي "

و تلوت ُ بعض الآيات في صدري لتمنحني القوة على الوقوف أمامه من جديد !

في الحديقة الصغيرة الأمامية للمنزل، وجدت وليد واقفا على مقربة من الباب. سرت إليه أجر قدميّ جرا... في خوف و اضطراب.

كنت أعلم أن خالتي و ابنتيها يراقبنني من النافذة !

حينما صرت ُ أمامه، بادر هو بإلقاء التحية ، ثم سألني :

" أ أنت بخير ؟؟ "

إنه سؤال عادي جدا يتداوله الناس عشرات المرات في اليوم لعشرات الأسباب ، إلا أنني احتجت وقتا قياسيا للتفكير في الإجابة !

هل أنا بخير ؟؟

لما رأى وليد ترددي و حيرتي قال:

" تبدين بحال أفضل.. "

نطقت لا إراديا بصوت خفيف:

" نعم "

قال:

" هل نعود إلى البيت إذن ؟؟ "

هنا تحدثت ُ بصوت عال مندفع:

" لا ! "

فوجىء وليد بردي فقال:

" لم ؟ إنها الثامنة.. هل تودين البقاء أكثر ؟؟ "

قلت:

" نعم "

" إلى متى ؟ تأخر الوقت ، دعينا نعود فقد تركت ُ دانة وحدها "

" لا ! "

بعد وهلة واصل وليد كلامه:

" هل تنوين المبيت هنا ؟؟ "

" نعم "

" هذه الليلة فقط ؟ "

" لا "

" كل ليلة ؟؟ "

" نعم "

" أتمزحين ؟؟ "

" لا "

" إذن فأنت جادّة ؟؟ "

" نعم "

" و هل تظنين أنني سأسمح بهذا ؟ "

" لا "

لم أكن أنظر إلى وليد بل إلى الحشيش الأخضر المغطي للأرض... في تشتت.. لكنه حين قال:

" لا أم نعم ؟؟ "

انتبهت ُ لسؤاله الأخير، و لجوابي الأخير... و رفعت عيني إليه بارتباك و قلت:

" نعم.. أعني بالطبع نعم "

قال:

" بالطبع لا "

كانت نظرته مليئة بالإصرار.. ، قال:

" فلنعد إلى البيت يا رغد "

قلت:

" لا "

قال :

" أليس لديك تعليق غير نعم و لا ؟ دعينا نذهب الآن لأنني لا أريد ترك دانة بمفردها أطول من هذا "

" لا أريد العودة، سأبقى هنا"

" لماذا ؟ "

" أريد البقاء مع خالتي.. أريد بعض الهدوء و الطمأنينة بعيدا عنكم "

يبدو أن كلماتي قد ضايقت وليد لأن تعبيرات وجهه الآن تغيرت .. قال:

" غدا سيعود والداي و نضع حدا لكل شيء. ستسوى الأمور بالشكل الذي تريدينه أنت ِ .. لا تقلقي و لا تضطري نفسك للتضحية.. "

قلت:

" لكن سامر لا يستحق.. لا يستحق ما سببتُه له، و لا ما فعلت َ أنت به.. مسكين سامر.. "

و حتى تعاطفي مع سامر أزعجه و زاد من حدّة تعبيرات وجهه الغاضبة.. قال:

" ستسوّى الأمور غدا أو بعده. لن أسافر قبل أن أتأكد من أن كل شيء يسير على خير ما يرام "

و كلمة أسافر هذه دقّت نواقيس الخوف في صدري... قلت بسرعة:

" تسافر ؟ هل ستسافر ؟ "

قال:

" سيعود والدي و تنتهي مهمّتي "

و كم قتلتني جملته هذه... ألا يكفيني ما أنا به حتّى يزيدني هما فوق هم ؟؟

قلت:

" و زفاف دانة ؟ "

تنهّد و نظر إلى السماء.. و لم يجب.

قال بعدها:

" هيا رغد "

لم أشأ العودة... فلأجل أي شيء أعود ؟ لأجل أن أذرف المزيد من الدموع.. لأجل أن أعيش المزيد من الحسرة ؟؟ ألأجل أن أراه و هو يرحل من جديد ؟؟ نعم، فهو قد جاء في مهمة محددة أنجزها و سيغادر..

كرر:

" هيا يا رغد ! "

قلت باعتراض:

" لن أذهب معك. سأبقى هنا لحين عودة أمي "

ازداد استياؤه و قال بما تبقى له من صبر:

" رجاءا يا رغد.. هيا فأنالا أحبذ أن تباتي خارج المنزل "

" لكنه بيت خالتي و قد اعتدت على هذا "

" عندما يعود أبي افعلي ما تشائين و لكن و أنت ِ تحت رعايتي أنا، لا أريد أن تباتي في مكان بعيد عني "

" لماذا ؟ "

" لن أشعر بالراحة لذلك و أنا متعب بما يكفي، و لا ينقصني المزيد من القلق. تعالي معي الآن "

شعرت بالغيظ من كلامه. من يظن نفسه ليتحكم بي هكذا ؟ إذا كان أبي لا يمانع من مبيتي في بيت خالتي من حين لآخر فما دخله هو ؟؟

" لن آتي "

قلتها بتحد ٍ، فنظر إلي بعصبية و صرخ بحدّة:

" رغد ! "

انتفضت ُ من جراء صرخته المخيفة هذه.. و حدّقت به مذعورة.. تتسابق نبضات قلبي لدفع الدماء خارجه عشوائيا..

عيناه كانتا متمركزتين على عيني و حاجباه مقطبين و وجهه غاضب عابس مرعب.. يثير الفزع في نفس من لا يهاب الوحوش !

تراجعت إلى الوراء خطوتين في هلع.. كنت أتمنى لو تستطيع رجلاي الركض، إلا أن الفزع صلّب عضلاتهما و جمّد حركاتهما..

وليد مد يده نحوي فارتعدت.. في خشية من أن يلطمني.. لكن يده توقفت في منتصف الطريق... قلت ُ باضطراب و ارتجاف:

" سـ .. أحضر.... حـ .. ـقيبتي "

و استدرت ُ مرعوبة و جريت بضع خطوات فارة، إلا أنه ناداني مجددا:

" رغد "

تصلبت ُ في مكاني و رجلي معلقة فوق الأرض.. ثم

التفت إليه بخوف يفوق سابقه.. ماذا الآن؟ هل ينوي صفعي أو ماذا ؟؟

أراه يقترب مني أكثر و لا أقوى على الفرار.. حين صار أمامي مباشرة نظر إلي بعمق.. و قال:

" رغد.. ما بالك فزعت ِ هكذا ؟؟ "

لم أنطق و لم يخرج من فمي غير تيارات الهواء السريعة اللاهثة..

وليد حدّق بي بانزعاج و مرارة و قال:

" رغد ! هل تظنين أنني سأؤذيك بشكل من الأشكال ؟؟ "

ثم تابع:

" أنت ِ مجنونة إن فكّرت ِ هكذا "

نظر إلى أصابعي المتوترة المرتعشة، ثم إلى عيني المفزوعة ثم تنهد بضيق و قال :

" حسنا، سوف أمر بك غدا قبل أن نذهب لاستقبال والدي ّ.. لكن إذا أردت الحضور قبل ذلك فأعلميني و لا تطلبي ذلك من ابن خالتك.. "

ما زلت أحدّق به نصف مستوعبة لما يقول...

قال بصوت خفيف دافىء:

" اعتني بنفسك.. صغيرتي "

ثم ختم:

" تصبحين على خير "

و استدار.. و سار مبتعدا.. و غادر المكان.

بقيت أنا أراقبه حتى غاب... و غاب معه قلبي و حسّي...

سرت ببطء عائدة إلى الداخل فوجدت الثلاث في انتظاري.. سألت خالتي:

" إذن ماذا ؟ "

قلت:

" سيأتي غدا... "

و صعدت ُ أنا و نهلة إلى غرفتها من جديد...

قالت:

" بدوت ِ مضطربة رغد ! ماذا قال لك ؟؟ "

أمسكت بيديها و قلت:

" نهلة.. سأجن.. لا أعرف لم أصبح هكذا ؟ إنه مخيف ! "

" رغد ! ماذا قال ؟؟ "

" لا أذكر ما قال ! ماذا قال ؟؟ لا أدري نهلة إنني أفقد تركيزي حين يكون على مقربة ! لا أعرف ما الذي يصيبني ؟؟ "

و لم أتمالك نفسي... تفجرّت عيناي بسيلين متوازيين من الدموع الدافئة تسابقا على تبليل خديّ الحزينين...

" رغد.. عزيزتي تماسكي "

" إنه سيسافر.. من جديد يا نهلة سأحرم من وجوده.. من رعايته.. من أن أراه.. و أتعلّق به.. و اسمعه يناديني ( يا صغيرتي ) كما كان يفعل منذ طفولتي.. لا أحد يناديني هكذا حتى الآن.. كيف سأتحمّل عودة حياتي خالية منه و قلبي أجوف لا يسكنه أحد ؟ سأجن يا نهلة إن تركني و غادر.. لا أحتمل ذلك.. أنا أحبه كثيرا يا نهلة كثيرا.. إنه كل شيء بالنسبة لي.. ما أنا فاعلة من بعده ؟ أخبريني ماذا أفعل ؟ ماذا ؟ "

و لم أر غير الظلام و السواد الذي غلّف حياتي و بطّنها أسفا على وليد قلبي...

و رغم الآلام و التعب.. و الإعياء الذي أعانيه.. ضل النعاس طريقه إلى عينيّ حتى ساعة متأخرة من تلك الليلة المشؤومة...





~ ~ ~ ~ ~ ~ ~





كنت أتمنى الذهاب إلى مكان واسع.. رحيب.. تعبث تيارات الهواء في سمائه بحرية..

إلى البحر.. حيث أرمي بأثقال جسدي و هموم صدري الضائق الحزن...

إلا أنني عدت إلى المنزل الكئيب و جدرانه العائقة.. لأبقى رفيقا لشقيقتي الغاضبة...

كانت في غرفتها، حمدت الله أن لم تسنح الفرصة للقائنا مجددا، فبعد الذي أثارته هذا اليوم، كرهت نفسي و كرهت انتسابي لهذا البيت..

بعدما رحل نوّارعند المغرب، أتتني و مزيج من الشرر و الغضب و الذهول و عدم التصديق يتربع على وجهها..

" سؤال واحد، أجبني عليه.. و بعدها انس أن لك أختا.. يا وليد، قل لي.. أنت.. كنت َ في السجن ؟؟ "

و تلا السؤال ( الواحد ) عشرات الأسئلة.. أسئلة بدا أنها عرفت الإجابة عليها من سامر، و الذي بالتأكيد خضع لاستجواب مكثف من قبلها قبل رحيله..

و أسئلة أخرى تهرّبت من الإجابة عليها.. فما رأيته في عينيها من الغضب و الاحتقار كان كاف لقتل أي رغبة في الدفاع أو التبرير في نفسي..

" لا أصدّق ذلك ! أخي أنا.. قاتل خرّيج سجون ؟؟ و أنا من كنت أظنه رجل أعمال كبير درس في الخارج ! أنا من كنت ُ أتباهى بك بين رفيقاتي ..! كيف أواجه خطيبي و أهله بحقيقة خاذلة كهذه ؟ لذلك كنت تتحاشى الحديث عن نفسك ! كم أنا مصدومة بحقيقتك ! "

عندما صوّبت ُ نظري إليها، أشاحت بوجهها الباكي و ركضت إلى غرفتها تواري الألم.. و تدفن الواقع المخزي..

و هاهي الآن.. منعزلة في ذات الغرفة منذ ساعات...

و بدوري، انزويت في غرفة حسام مع حشد من الأفكار الكئيبة.. تولى قيادتها و سيادتها..صغيرتي رغد..

و كلما تذكرت الخوف الذي تملكها و هي تقف أمامي.. أكره نفسي و وجودي و كياني ...

إذا لم أكن على الأقل أمثل مصدر الطمأنينة و الأمان لصغيرتي.. فماذا يعني وجودي في هذا الكون ؟؟

ماذا تبقى لي.. ؟ هاقد خسرت أهلي أيضا.. سامر و تشاجرت معه و حطمت قلبه و علاقتي به .. و دانة و وقعت من عينيها و صارت تزدريني.. و رغد.. رغد الحبيبة.. تنفر مني و ترتجف خوفا ؟؟

كيف جعلتها تذعر مني هكذا و تفقد ثقتها بي ؟؟

ما عساها تظن بي الآن ؟؟

أي موقف ستتخذ مني متى عرفت عن سجني و جريمتي ؟؟

هل ستحتقرني مثل دانة ؟؟ لا يا رغد أرجوك ..

فأنا لن أحتمل ذلك أبدا.. و أفضل الموت على العيش لحظة واحدة تنظرين فيها إلي بذرة ازدراء واحدة.. مهما كانت جريمتي و آثامي..

ليتكِ لا تعلمين..

يا رغد.. سامحيني..

ربما لم أعد وليد الذي عرفته و تعلّقت ِ به صغيرة، بفخر و معزّة و ثقة.. لكنني لا أزال وليد الذي يحبك و يتوق إليك.. يهتم بكل شؤونك بهوس...

ليتك ِ تعلمين...

نمت أخيرا على خيال الذكريات الجميلة الماضية.. فهي الشيء الوحيد الجميل في حياتي.. و الذي يمكن لقلبي المنفطر الشعور بالسعادة و الراحة حين تذكره...





فجأة...

صحوت ُ من النوم مفزوعا على دوي شديد زلزل الغرفة بما فيها..

فتحت ُ عيني ّ فإذا بي أرى الليل نهارا.. و السواد نارا.. و السكون زلزالا.. و الهدوء ضجيجا عظيما...مهولا..

و أرى الأشياء من حولي تهتز و تقع أرضا و سريري يتذبذب..

للوهلة الأولى لم أستوعب شيئا، أهو كابوس أم ماذا ؟؟

و سرعان ما صدر صوت انفجار مجلجل حرك جدران المنزل...

قفزت من على سريري أترنح مع الاهتزازات، و خرجت مسرعا من الغرفة و إذا بي أرى شقيقتي تأتي مسرعة نحوي و هي تصرخ

" ما هذا ؟ قنابل ! "

و للمرة الثالثة دوي صوت انفجار ضخم و أضيئت الدنيا بشعاع النيران.. و عبقت الأجواء بالدخان و روائح الحريق..

كانت الأرض تهتز من تحتنا فأسرعت بالإمساك بشقيقتي و انبطحنا أرضا.. و شهدنا زجاج النوافذ يتحطم و تقتحم ألسنة النيران المنزل... و تتوزع حارقة كل ما تقع عليه...

اندلع الحريق من حولنا في أماكن متفرقة فجأة.. و توالت أصوات الانفجارات مرة بعد أخرى بعد أخرى .. بشكل متواصل و مندفع ..

شيء ما اخترق السقف فجأة و هوى أرضا، و انفجر...

ركضت أنا و دانة مبتعدين بسرعة عن ذلك الشيء و هي تصرخ... و بدأ السقف يهوي فوق رأسينا..

هربنا فزعين مسرعين ناجيين بنفسينا متجهين نحو المدخل.. لا يعرف أحدنا أين تطأ قدماه..

و نحن نعبر الردهة.. توقفت ُ فجأة و صرخت:

" رغد ! "

قفزت قفزا نحو غرفة رغد و صرخت:

" رغد.. رغد "

و دون أن أنتظر فتحت ُ الباب بسرعة واقتحمت الغرفة و لم أر َ غير النيران تلتهم الأثاث... و تحرق السرير..

" رغد.. "

كاد قلبي يتوقف، بل إنه توقّف، و كدت أسلم نفسي للنيران تلتهمني.. إلا أنني فجأة تذكرت ُ أنها لم تبت هنا الليلة.. و لا أعرف ما الذي دفعني لنسيان أو تذكر هذه المعلومة..هذه اللحظة

صرخات دانة وصلتي رغم الدوي المجلل الطاغي على أي صوت في الوجود، و وجدتها مقبلة نحوي بذعر تقول:

" تهدّم السقف.. سنموت "

ثم نظرت نحو سرير رغد المشتعل نارا و صرخت:

" رغد "

و بدت و كأنها دخلت في نوبة فزع هستيرية، أمسكت بها و قلت:

" ليست هنا، لنخرج فورا "

و عوضا عن التوجه إلى الردهة ثم المخرج، توجهت إلى غرفتي إذ أن فكري قادني تلقائيا إلى مفاتيح السيارة..

سحبتها و سحبت المحفظة التي كانت بجوارها و أطلقت ساقي للرياح، ممسكا بيد شقيقتي الصارخة بذعر..

فتحنا الباب و خرجنا إلى الفناء و خرجت معنا الأدخنة التي نفثها الحريق داخل المنزل... و رأينا السماء تسبح في الدخان، و الليل نهارا ملتهبا..أحمر.. و الحجر يتساقط من حولنا كالمطر.. بينما تعج الدنيا بأصوات انفجارات متتالية.. و تتزلزل الأرض مع كل انفجار..أيما زلزلة

و عندما فتحت الباب الخارجي، رأيت ما لم تره عيناي من قبل.. و لا من بعد..

رأيت النيران مندلعة في كل الأنحاء.. و المنازل تتهدّم.. و الأرض تتصدع و تتشقق.. و الناس.. يركضون في كل الاتجاهات فارين صارخين مذعورين.. يصطدم بعضهم ببعض و يدوس بعضهم على بعض..

و من السماء المشتعلة، كانت تتساقط صواريخ و قنابل أشبه بالشهب و النيازك، ترتطم بأي ما يعترض طريقها، و تدمّره..

لقد كانت المرة الأولى التي أشهد فيها قصفا جويا.. وجها لوجه..

كنا في موعد مع الموت...

وقفت دانة مذعورة فزعة.. ترقب شعلة نارية تهوي من السماء ثم تسقط فوق منزلنا..

شددت على يدها و سحبتها مسرعا إلى خارج المنزل، نحو السيارة.. و نحن حافيي الأقدام و مجردين إلا من لباس النوم..

ما كدت أفتح باب السيارة حتى تفجّر المنزل.. و هطلت الحجارة و الشظايا و الشرار فوق رأسينا...

" اركبي بسرعة "

دفعت بشقيقتي إلى داخل السيارة و توجّهت إلى الباب الآخر، ركبت و انطلقت مسرعا مبتعدا عن المنزل.. في عكس اتجاه الطريق، أدوس على الأرصفة اصطدم بكل ما يعترض طريقي، و أحطم كل ما يصادفني..

الشوارع كانت تعج بالناس الفارين من النيران.. إلى النيران.. و القليل من السيارات التي تسير باتجاهات مختلفة عشوائية على غير هدى..

سلكت ُ أسرع طريق يؤدي إلى منزل أبي حسام، غير آبه بالشهب التي ترمي بها السماء من فوقي و من حولي، لا أرى من الأهوال الدائرة من حولي شيئا..
لا أرى إلا صورة رغد مطبوعة على زجاج النافذة أمامي..

كل ذلك كان في دقائق لا أعرف عددها و لا أمدها

وصلت أخيرا إلى منزل أبي حسام و رأيت النار تأكل رأسه...

" رغد... رغد.. لا.. لا.. "


صرخت كالمجنون.. هبطت من السيارة راكضا نحو بوابة سور الحديقة.. ضربته بعنف ٍ حطّم زجاجه ثم فتحته و اقتحمت المنزل و أنا أنادي بأعلى صوتي و بكل جنوني:

" رغد.. رغد.. "

كنت متوجها إلى باب المنزل الداخلي و الذي أراه أمامي مفتوحا... تخرج منه ألسنة النار.. و أنا أناديها بفزع.. و رهبة.. مما قد تكون الجدران تخبئه خلفها و الأقدار تخفيه على بعد خطوات..

يا رب لا تفجعني بصغيرتي و احرقني أنا قبل أن تلمس النيران شعرة منها...
يا رب إن كنت اخترتها فأنزل قنبلة فوق رأسي تفجّرني هذه اللحظة قبل أن أدخل و أراها ميتة..

" رغد.. رغد.. "

صرخت و صرخت و صرخت.. صراخا شعرت به أقوى و أفظع من دوي القنابل المتفجرة من حولي .. و أنا أركض بلا وعي نحو النيران..
نحو النهاية..
نحو الجحيم ..
نحو الموت..
نحو رغد..

وصلت إلى الباب و استقبلني لهيب النار الحار يلفح وجهي المذعور المفزوع ...كنت على وشك اقتحام الحريق، و فجأة حتى سمعت صوتا يناديني..
من عالم الأحياء..

" وليــــــــــــــد "

التفت يمنة و يسرة أبحث عن مصدر الصوت كالمجنون.. أدور حول نفسي و أصرخ بقوة:

" رغد... رغد "

و عند زاوية في طرف الحديقة، رأيت رغد و عائلة خالتها جميعا مكومين قرب بعضهم البعض متشابكي الأيدي ينتظرون المصير المجهول..

مع الإضاءة التي أحدثها انفجار قنبلة خارج المنزل، استطعت أن أرى رغد جيدا و هي تقف هناك.. ثم تأتي راكضة مسرعة نحوي ............

" رغد.. أنت ِ بخير ؟؟ حقا بخير؟؟ الحمد لله.. الحمد لله "

" وليد .. أنتما حيان ؟؟ "

و التفت للخلف فرأيت شقيقتي تصرخ:

" رغد "

و تتحرر رغد من بين ذراعي و ترتمي في حضن دانة و هي تهتف باكية:

" أنتما حيان.. أنتما حيّان "

جذبت الاثنتين و ضممتهما إلى صدري.. لا أعرف من منا نحن الثلاثة كان أكثر فزعا من الآخرين..

انفجار آخر دوي الأجواء، فانبطحنا أرضا و جعلت الأرض تهز أجسادنا كما تهز أفئدتنا المذعورة..

و أخذ الجميع يتصايح و يصرخ.. و امتزجت الأصوات و الهزات و الاصطدامات..

توقفت النوبة برهة، وقفنا و أنا ممسك بكلا الفتاتين و حثثتهما على السير بسرعة نحو المخرج...

صوت حسام يصرخ:

" إلى أين ؟؟ "

قلت:

" سنغادر المدينة بسرعة "

قال:

" الزم مكانك يا مجنون ! ستقتل "

قلت للفتاتين:

" هيا بنا "

صراخ حسام و عائلته:

" ابقوا مكانكم القصف لم ينته "

لكني مضيت في طريقي..

حسام يصرخ:

" رغد عودي إلى هنا.. عودي يا رغد.."

رغد تتشبث بي أكثر، و أنا أتمسك بيدها بقوة و أمضي بها و بدانة إلى السيارة

بابا السيارة الأماميين كانا مفتوحين، جعلت ُ رغد تدخل بسرعة إلى المقدمة ، و أنا أفتح الباب لدانة و أدخلها سريعا، ثم أقفز نحو باب المقود، فأجلس و أطير بالسيارة حتى قبل أن أغلق الباب..

لم تكن باللحظة التي يستطيع فيها دماغ أي بشر، غبي أو عبقري، أن يفكر..

انطلقت بالسرعة القصوى للسيارة أجتاز كل ما أعبر به، محاولا تحاشي الاصطدام بما يصادفني قدر الإمكان

أرى الناس يخرجون من كل ناحية أفواجا أفواجا ، رجالا و نساء و أطفالا.. متخبطين في سيرهم يركضون باتجاهات عشوائية.. يهيمون على الأرض على غير هدى.. يصرخون و يهيجون و يموجون باعتباط و فوضوية.. و في نواح متفرقة تتناثر مخلفات الدمار .. الحجارة و الأشلاء.. و الجثث.. تحرقها النيران.. و تفوح روائح كريهة لا تستطيع الأنوف إلا استنشاقها مرغمة..

و كلما انفجر شيء جديد، منزل أو مبنى أو شارع أو سيارة.. صرخت الفتاتان و ارتعشت يداي و انحرفت في سيري جاهلا.. أيهما سيكون الأسرع لتحديد مصيرنا .. قنبلة ما ؟ أم اصطدام ما ؟ أم أن النجاة ستكتب لنا بقدرة من لا تفوق قدرته قدرة، و لا يضاهي رحمته رحمة..

كنت أشهد أمامي تصادم السيارات المسرعة، التي فرت من الموت.. و إليه
و أرى أشياء ترتطم بزجاج سيارتي و تحدث تصدعات و كسور تحول دون وضوح الرؤية أمام عيني..

لم يكن باستطاعتي إلا الاستمرار في طريقي اللا محدد .. و كما تسير الحية سرنا ذات اليمين و ذات الشمال ننعطف كلما ظهر شيء أمامنا و نسلك كل تشعب نلقاه حتى انتهى بنا الطريق إلى شارع رئيسي...
حانت مني الآن التفاتة أخيرا إلى اليمين.. فرأيت الفتاة الجالسة إلى جانبي و قد انثنت بجدعها إلى الأمام حتى لامس رأسها ركبتيها و وضعت ذراعيها على جانبي رأسها لتحاشي رؤية أو سماع شيء.. بينما أنفاسها الباكية اللاهثة تكاد تلهب قدمي ّ الحافيتين..

" رغد.. "

لم تغير من وضعها ..

التفت إلى الوراء لألقي نظرة على دانة، فوجدتها هي الأخرى مكبة على وجهها تحتضن المقعد المجاور و تنوح و تصرخ ..

" يا رب.. يا رب.. يا رب.. "

هتفت بأعلى صوتي:

" يا رب.. يا رب.. يا رب "

هتفت رغد بصوتها المبحوح المرتجف:

" يا رب.. يا رب.. يا رب "

لم يكن لدينا أمل في النجاة إلا برحمة الله..




أسير في الشارع بسرعة جنونية دون هدف.. وسط قصف جوي مباغت.. و القنابل و الصواريخ تهوي من السماء كالوابل.. و الأرض تتزلزل من تحتي.. و معي فتاتان مذعورتان تصرخان بفزع و هلع.. و النيران تحاصرني و تحيط بي من جميع الاتجاهات... وسط ليلة غدر عجت سماؤها بألسن النار و الشر.. مخلفا منزلا محترقا متهدما.. و مستقبـِلا مصيرا مجهولا غامضا..



كم من الوقت مضى.. لا أعرف
كم من المسافة قطعت ؟ لا أعرف ..
ألا زالت الفتاتان على قيد الحياة ؟
لا أعرف
أنجونا من الموت ؟
أيضا لا أعرف...



الشيء الذي ألاحظه هو أنني في وسط طريق بري.. و لم أعد أرى السماء متوهجة.. و لم أعد أحس بالأرض ترتعد كما لم أعد أسمع الدوي و لا الضجيج...


" رغد.. دانة.. "

لم تجب أي منهما...

" رغد.. دانة أتسمعانني ؟؟ "

و أيضا لم تردا..

هلعت، رفعت يدي اليمنى عن المقود و مددتها نحو رغد التي لا تزال على نفس الوضع..

" رغد صغيرتي.. ردي علي.. "

ببطء تحركت رغد حتى استوت جالسة و هي تخفي وجهها خلف يديها خشية النظر .. و شيئا فشيئا فرّقت ما بين أصابعها و سمحت لنظرة منها للتسلل إلى المحيط و رؤية ما يجري..

" لقد ابتعدنا.. أأنتِ بخير ؟؟ "

نظرت رعد غير مصدقة.. إلى الشارع .. إلى السماء.. إلى الطريق من أمامنا .. إلى دانة من خلفنا.. و إلي..

لم تستطع النطق بأي كلمة.. عادت تنظر إلى الوراء تريد أن تنادي دانة الدافنة وجهها في المقعد المجاور .. إلا أنها عجزت عن ذلك..

نظرت أنا إلى دانة و هتفت بصوت عال:

" دانة.. عزيزتي.. اجلسي أرجوك "

دانة لفت برأسها إلينا و جعلت تنقل بصرها بيننا ..

ثم جلست و نظرت عبر النافذة المغلقة ثم قالت:

" أين نحن ؟؟ "

قلت و أنا أنظر إليها عبر المرآة:

" الله أعلم "

قالت:

" أين نذهب ؟؟ "

قلت:

" الله أعلم.. فقط لنبتعد عن منطقة الخطر.. "

نظرت إلى الوراء ثم إلي و قالت:

" هل سننجو ؟ "

أنى لي أن أتنبّأ ؟؟

الله الأعلم..

دانة اقتربت من مسند مقعدي حتى التصقت به و مدت يدها عبر الفتحة بين المقعدين إلى ذراعي تمسك به و تصيح:

" هل هذه حقيقة ؟؟ وليد هل أنا أحلم ؟؟ ألا زلت نائمة ؟؟ هل مت ّ ؟؟ هل أنا حية ؟؟ "

رفعت يدي فأمسكت بيدها،إن لأواسها أو لأطلب منها المواساة .. و كم كانت باردة كالثلج...

" وليد "

هذه كانت رغد التي تنظر إلي ربما طالبة المواساة و الأمان هي الأخرى.. ثم ضمّت يدها إلى أيدينا و دخلتا في نوبة طويلة و قوية من البكاء و النواح..

لقد كنت أنا أيضا بحاجة للبكاء مثلهما.. فما رأيت كان من الفظاعة و الشناعة ما يجعل الجبال الصخرية تخر منهارة..

إلا أن الدموع ستحول دون الرؤية أمامي، و أنا أقود وسط الظلام بسرعة رهيبة..
تماسكت و ركزّت على الطريق..


فجأة.. قالت دانة:

" نوّار ! "

ثم أخذت تلطم على وجهها و تنوح..

" يا إلهي ماذا جرى لنوّار ؟؟ "

و نظرت إلي و هي تسأل:

" الهاتف ؟؟ "

و لكن الهاتف لم يكن معي...

إننا نفذنا بجلودنا و الله العالم بما حلّ بمن بقي في المدينة..

لم تهدأ من نوبة النواح إلا بعد زمن... أظن القنوط غلبها و استسلمت لما يخبئه لنا القدر



انتبهت الآن إلى عبوة لمشروب غازي موضوعة إلى جانبي، و كنت ُ قد اشتريتها يوم أمس أثناء تجولي بالسيارة ثم لم أشربها.. مددت يدي إليها و لمست حرارتها التي استمدتها من حرارة السيارة..

خففت ُ السرعة و أخذت العبوة و فتحتها بيدي اليمنى، ثم مددتها نحو رغد..

" اشربي "

إذ لا بد أن حلوقنا جميعا جافة متخشبة من هول ما مررنا به..

رغد أمسكت العبوة بكلتا يديها و قربتها من فمها و رشفت مقدار ما رطب جوفها و أعادتها إلي..

" دانة.. خذي اشربي "

مدت دانة يدها و تناولت العلبة و شربت منها ثم أعادتها إلي .. و جاء دوري لأشرب..

كان ساخنا غير مستساغ المذاق إلا أن العطش اضطرنا لازدراده عن آخره دون تذوق.
 
تتمه

ساعة السيارة كانت تشير إلى الثالثة و الأربعين دقيقة فجرا.. عندما رأيت أضواء أمامي... و طابور من السيارات الواقفة خلف بعضها البعض.. ظهر لي أنها نقطة تفتيش أو ما شابه..

خففت السرعة تدريجيا حتى انضممت إلى طابور السيارات.. و بدأ القلق يزداد بسرعة في نفسي و نفسي الفتاتين..

بدأ الطابور يتحرك ببطء.. لا يتناسب و تسارع نبض قلبي و أنفاسي..

و أخيرا حان دوري..

فتحت نافذة بابي فقرّب الشرطي رأسه منها و طلب البطاقة و الاستمارة و رخصة القيادة

بعدها بدأ بطرح الأسئلة.. عن مكان قدومي و وجهتي..

" لقد فررت بعائلتي من المدينة الصناعية... حيث القصف المباغت.. سأنزل أقرب مكان آمن.. "

و يبدو أنها كانت إجابة معظم من في السيارات السائرة قبلي..

" من معك ؟ "

" شقيقتي و ابنة عمّي "

" ألديك بطاقتيهما ؟ "

" لا، لم أفكر في إحضار شيء كهذا فقد نفذنا بجلودنا فقط "

الشرطي أطل برأسه من النافذة ناظرا نحو من يركب السيارة معي.. ثم طلب مني إيقاف السيارة جانبا و النزول.

ركنت ُ السيارة جانبا، و هممت بالنزول.. الفتاتان هتفتا في وقت واحد:

" وليد "

بخوف و وجل..

إن نسيتم فسأذكركم بأنني أرتعد خوفا من الشرطة و العساكر.. بعد الذي لاقيته في السجن تلك السنين.. و إن كنت سأطمئن الفتاتين فإن على أحدهم طمأنتي بادىء ذي بدء..

قلت بصوت مضطرب :

" لا تقلقا.. سأرى ما يريدون "

نزلت من السيارة و وطأت قدماي الحافيتين الشارع.. و ذهبت إلى حيث كان رجال الشرطة يقفون مع مجموعة من سائقي السيارات المركونة إلى جانب سيارتي..

الجو كان باردا و كذلك الأرض.. لكن رعدة جسدي الحقيقية كانت من أثر القصف و منظر رجال الشرطة المهاب..

هناك، استجوبني الرجال و دونوا المعلومات ثم طلبوا مني فتح السيارة لتفتيشها

عدت إلى السيارة و معي اثنان منهم بعد قرابة العشرين دقيقة.. و فتحت الباب المجاور لرغد أولا و قلت:

" يريدون تفتيش السيارة، اهبطا "

لم تتحرك الفتاتان مباشرة، تلفتت رغد من حولها فرأت شماغا لي ملقى على مقعدي يظهر أنني نسيته في السيارة يوم أمس ، فأخذته و تلثّمت به.. ثم هبطت حافية القدمين أيضا و وقفت إلى جواري مباشرة و حين فتحت الباب الخلفي لدانة أبت الخروج.. و أشارت إلى شعرها..

لم تكن دانة ترتدي حجابا

نظرت من حولي فلم أجد شيئا أغطي به رأس شقيقتي.. فضلا عن قدميها.. فيما الشرطيان يقفان على مقربة و الناس من حولي كثر..

نزعت قميص نومي و قدّمته لها لتختمر به.. و بعدما نزلت التصقت بي من جهة بينما رغد من الجهة الأخرى..

أمسكت بيدي الفتاتين و سرت مبتعدا عن السيارة بعض الشيء لأفسح المجال لرجلي الشرطة للتفتيش.

بعد فراغهما من المهمة سألتهما:

" أيمكننا الذهاب ؟؟ "

قال أحدهما:

" ليس بعد. فمغادرة هذه المنطقة محظورة لحين إشعار آخر "

ثم أشار إلى الناحية الأخرى من الشارع و قال :

" ابقوا هناك.."

نظرت إلى تلك الناحية فرأيت مجموعة من الناس الذين أوقفهم رجال الشرطة مثلنا يقف بعضهم و يجلس البعض الآخر على حافة الشارع، متفرقين..

شددت الضغط على يدي الفتاتين و عبرت الشارع معهما تطأ أقدامنا الحافية العارية الأرض الجرداء و تستقبل أجسادنا تيارات الهواء البارد فتقشعر.. و يزداد اقترابنا من بعض و تشبثنا ببعض والناس في شغل عن النظر إلينا.. بأنفسهم و ذويهم .. و إلى السماء يرتفع البكاء و العويل و الصراخ و النواح.. من كل جانب.. و إليها أرفع بصري فأرى بدر الليلة السادسة عشر من شهر الحج يشهد فاجعة شعب غدر به عدّوه و انتهك حرمته في غفلة من أعين الناس.. و عين الله فوق كل عين ٍ شاهدة ٍ.. شاهدة
 
الحلقةالخامسةوالعشرون
********






على الرمال الناعمة بمحاذاة الشارع جلست بين الفتاتين بعدما أعيانا طول الوقوف و الانتظار..

و من حولنا أناس كثر متفرقون .. نسمع بكاء النساء و الأطفال ..

أرى رغد تفرك يديها ببعضهما البعض بقوة و باستمرار و تهف عليهما طالبة شيئا من الدفء . لقد كانت ترتجف بردا.. أكاد أسمع اصطكاك أسنانها بعضها ببعض..

أما دانة فكان وجهها مغمورا تحت ثنايا القميص و مستسلمة لصمت موحش..

لم تكن الشمس قد أشرقت بعد.. و كان التعب قد أخذ منا ما أخذ و نرى رجال الشرطة يجولون ذهابا و جيئة و أعيننا متشبثة بهم..

التفت ناحية رغد و سألتها:

" أتشعرين بالبرد؟"

الصغيرة أجابت بقشعريرة سرت في جسدها..

أنا أيضا كنت أشعر بالبرد لا يدفئ جدعي سوى سترتي الداخلية الخفيفة..

لكن إن تحمّلت أنا ذلك ، فأنّى لفتاة صغيرة تحمّله ؟؟

ألقيت ُ نظرة على مجموعة من رجال الشرطة المتمركزين قرب السيارات ثم قلت:

" دعانا نذهب إلى السيارة "

و وقفت فوقفت الفتاتان من بعدي و سرت فسارتا خلفي تمسك كل منهما بالأخرى حتى صرت قرب رجال الشرطة..

نظروا إلى بتشكك.. و سألني أحدهم عما أريد

" أود البقاء في سيارتي فقد قرصنا البرد"

" عد من حيث أتيت يا هذا "

" لكن الجو بارد ٌ جدا لا تتحمل قسوته الفتاتان "

الشرطي نظر إلى الفتاتين و لم يعلّق.

فقال آخر :

" ابقوا حيث الآخرين"

قلت بإصرار:

" ستموتان بردا! "

ثم أضفت :

" هل تعتقدون أننا سنهرب ؟ سأعطيك مفتاح السيارة لتتأكد"

و أدخلت يدي في جيبي و استخرجت ُ مفاتيحي و مددتها إليه...

الشرطي تبادل النظرة مع زملائه ثم همّ بأخذ المفاتيح بما احتواها.

لقد كانت المفاتيح مضمومة في ميدالية أهدتني إياها رغد ليلة العيد.. انتزعت مفتاح السيارة من بينها و قدّمته إلى الشرطي و احتفظت بالميدالية و بقية المفاتيح.

حين أعطيته المفتاح ، سمح لنا بالتوجه إلى السيارة.

عندما فتحت الباب الأمامي الأيمن وقفت الفتاتان عنده تنظران إلى بعضهما البعض، ثم تنحت رغد جانبا سامحة لدانة بالدخول .. و فتحت هي الباب الخلفي .

حينما جلسنا في السيارة ، أخذنا الصمت فترة طويلة.. و بدأت أجسادنا تسترد شيئا من دفئها المفقود...

لم يكن أحدنا يعرف كيف يفكر ، كنا فقط في حالة ذهول و عدم تصديق .. منتظرين ما يخبئه لنا القدر خلف ظلام الليل..

أسندنا رؤوسنا إلى المقاعد علّها تمتص شيئا من الشحنات المتعاركة في داخلها..

و من حين لآخر ، ألقي نظرة على الفتاتين أطمئن عليهما..
رغد اضطجعت على المقاعد الخلفية و ربما غلبها النوم...

أطل من خلال النافذة على السماء فأرى خيوط الفجر تتسلل خلسة.. فيلقي الله في نفسي ذكره..

" الصلاة "

قلت ُ ذلك و التفت إلى دانة التي تجلس إلى جواري ملقية بثقل رأسها على مسند المقعد. نظرت إلي، ثم أغمضت عينيها.

أما رغد فلم تتحرك.

نظرت إلى الناس فوجدت بعضهم يركعون و يسجدون..على الرمال

قلت :

" سأذهب لأصلي "

فتحت عينيها مجددا ثم أغمضتهما.

" توخيا الحذر ، دقائق و أعود"

و مددت ُ يدي إلى مقبض الباب ففتحته و خرجت.. أغلقت الباب و مشيت بضع خطى مبتعدا قبل أن أسمع صوب باب ينفتح بسرعة و أسمع من يناديني..

" وليــــد "

التفت إليها فرأيتها تخرج من السيارة مسرعة، تقصدني

أتيت إليها فأبصرت في وجهها الفزع المهول

" إلى أين تذهب ؟ "

قالت لاهثة ، فأجبت مطمئنا :

" سأصلّي مع الناس "

و أشرت إلى الطرف الآخر من الشارع حيث المصلين..

رغد هتفت بسرعة :

" لا تذهب "

قلت :

" سأصلي و أعود مباشرة "

" لا تذهب ! لا تتركني وحدي "

قلت مطمئنا :

" دانة معك ، لحظة فقط "

رغد حركت رأسها اعتراضا و إصرارا و هي تقول :

" لا تذهب .. ألا يكفي ما نحن فيه ؟ لا تبتعد وليد أرجوك "

لم أستطع إلا أن أعود أدراجي ، و أتيمم و أؤدي الصلاة ملتصقا بالسيارة.

ما إن فرغت ُ من ذلك ، حتى سمعنا ضجيجا يقتحم السماء..

نظرنا جميعنا إلى الأعلى فأبصرنا طائرة تخترق سكون الفجر...

صرخ بعض الموجودين :

" قنابل ! "

و هنا .. بدأ الناس يتصايحون و يصرخون و يركضون فارين .. محدثين ضجة و جلبة شديدين..

رأيتهم جميعا يجرون على الشارع مبتعدين.. فتحت ُ بابي السيارة بسرعة و هتفت

" هيا بنا "

و أمسكت بيدي الفتاتين و جررتهما ليركضا معي بأسرع ما أوتينا من قوّة..

" أركضا.. أركضا بسرعة "



اقتحمنا أفواج الهاربين الصارخين المستصرخين .. هذا يدفع هذا و هذا يسحب هذا و ذاك يصطدم بالآخر .. و آخر يدوس على غيره.. و الحابل مختلط بالنابل..

نحن نركض و نركض دون التعقيب.. دون أي التفات إلي الوراء.. و دوي الطائرة يعلو سماءنا.. و يجلجل أرضنا المهتزة تحت أقدامنا الراكضة..الحافية.. أسمع صراخا من كل ناحية.. أسمع صراخ دانة و رغد.. و صراخي أنا أيضا.. و أشد قبضي عليهما و أطلق ساقي ّ للريح..

يتعثر من يتعثر.. ينزلق من ينزلق.. يتدحرج من يتدحرج.. يقع من يقع و ينكسر ما ينكسر و يداس ما يداس.. لا شيء يستدعيني لأوقف انجراف رجليّ .. أسابق الزمن.. و أكاد أسبقه ..

كان ذلك من أشد الأوقات هولا و فظاعة.. لن يفوقهما شدة إلا هول يوم الحشر...

سيارات الشرطة و سيارات أخرى رأيناها تشق الطريق فرارا سابقة إيانا.. و سمعنا أصوات رشق ناري زادنا رعبا على رعب و صراخا فوق صراخ..

قطعت مسافة لا علم لي بطولها، أسحب الفتاتين خلفي و هما عاجزتان عن مجاراة خطواتي الواسعة ، تقفزان قفزا بل تطيران طيرانا..



فجأة وقعت رغد أرضا فصرت أسحبها سحبا إلى أن تمكنت ُ من إيقاف اندفاعي الشديد في الركض..

و أقبل الناس من خلفنا يرتطمون بنا و داسها أحدهم في طريقه..

صرخت :

" قومي رغد "

إلا أنها كانت تمسك بقدمها و تتلوى ألما و تصرخ :

" قدمي .. قدمي .. "

جثوت نحوها و أمسكت بقدمها الحافية فإذا بقطعة من الزجاج مغروسة فيها و الدماء تتدفق من الجرح..

لابد أنها داست عنوة على كسرة الزجاج هذه أثناء جرينا المبهم..

أمسكت بقطعة الزجاج بين إصبعي و انتزعتها بعنف و رغد تصرخ بشدة.. بعد ذلك سحبتها من يدها لنستوي واقفين و طرت راكضا ممسكا بالفتاتين.. عنوة..

رغد كانت تصرخ ألما و تركض على أطراف أصابع قدمها المصابة فيما الدماء تقطر منها و تهتف :

" لا أستطيع .. آي .. لا أستطيع "

مما أبطأ سرعة انطلاقنا ..

ثم عادت و هوت أرضا من جديد.. و ضغطت على قدمها المصابة بيدها الحرة ..

" انهضي رغد بسرعة "

" لا أستطيع .. قدمي تؤلمي .. آي.. تؤلمني بشدة .. لا أستطيع "

" هيا يا رغد لننج ُ بأنفسنا "

" لا أستطيع .. كلا "

لأن أفكر، لا مجال .. ، لأن أتردد .. لا مجال ..، لكي أنجو بحياتي و حياة شقيقتي و حبيبتي .. سأقدم على أي شيء..

انتشلت صغيرتي من على الأرض بذراعي و حملتها على كتفي.. وجهها إلى ظهري و قدماها إلى أمامي .. منكبة على رأسها..

هتفت :

" تشبثي بي جيدا "

و أنا أطبق عليها بقوة بإحدى يدي ّ خشية أن تنزلق، فيما أمسك بشقيقتي باليد الأخرى ، ثم أسابق الريح...



تارة أزيد و تارة أخفف السرعة.. ألتقط بعض الأنفاس و أسمح لشقيقتي بتنفس الصعداء..

كان الإعياء قد أصابنا و نال منا ما نال حين رفعت بصري إلى السماء فلم أبصر أية طائرة و أصغيت أذني فلم أسمع أي ضجيج... و تفلت من حولي فوجدت الناس متهالكين على الشارع و معظمهم مضطجعين هنا أو هناك.. من فرط التعب و نفاذ الطاقة..

انحرفت يسارا و خرجت عن الشارع إلى الرمال على حافته.. و هويت جاثيا على الأرض..

حررت رغد و دانة من بين يدي و ارتميت على الرمال منكبا على وجهي و أخذت أتنفس بقوّة .. تجعل ذرات الرمل و الغبار المتطايرة من حولي تقتحم فمي مع تيارات الهواء...

أخذت أسعل و أتحشرج.. و قد أغلقت عيني لأحميهما من الغبار..

لزمت وضعي هذا لدقيقتين دون حراك.. فجسدي كان منهكا جدا و بحاجة إلى كمية أكبر من الأوكسجين ليطرد غازاته الضارة خارجا..

عندما فتحت عيني ّ و نظرت يمنة و يسرة رأيت الفتاتين مرتميتين على الرمال مثلي.. دانة متمددة على ظهرتها تتنفس بسرعة ، و رغد جالسة تمسّد قدمها المصابة و تئن ألما..

لم أجد في جسدي من الطاقة ما يمكنني الآن من النهوض..

الشمس كانت قد أرسلت أول جيوش أشعتها الذهبية الباهتة لتغزو السماء و تطرد الظلام .. و شيئا فشيئا بدأت تحتل السماء.. وتنير الكون.. وتكشف ما كان خافيا و تفضح ما كان مستورا..

جلست بعدما استرددت بعض قواي.. وأنا أراقب رغد المتألمة.. المكشوفة الرأس.. يتدلى خمارها ( شماغي ) على كتفيها ...
كان الجرح لا يزال ينزف.. و الدماء سقت الرمال.. كما لطخت ملابس رغد بل و وجدت بقعا منها على ملابسي أنا أيضا..

فقد كانت تقطر و أنا أحملها..

" دعيني أرى "

قلت ذلك و قرّبت وجهي من قدمها أتأمل الجرح العميق.. و ما علق به من الرمال و الشظايا و الأتربة..

مسحت ما حولي بنظرة سريعة فلم أجد ما أغطي به هذا الجرح النازف..

نفس القميص الذي كانت دانة تختمر به ، نزعت أحد كمّيه و لففته حول قدم رغد ..

كما لففت خمارها حول رأسها بنفسي...


دانة قالت بعد ذلك بانهيار:

" ماذا يحدث برب السماء ؟؟ فليخبرني أحد.. هل هذه حقيقة؟؟ لماذا فعلوا هذا بنا؟؟ ما حلّ بنوّار؟؟ و سامر ؟؟ "

و أجهشت بكاء و نواحا.. فضممتها إلى صدري أحاول تهدئتها .. و أبقيتها بين ذراعي مقدارا من الزمن.. بينما رغد تراقبنا..

بعد ذلك رأينا الناس ينهضون و يسيرون في نفس الاتجاه.. فوجا بعد فوج.. و جماعة بعد أخرى..

قلت :

" هيا بنا "

قالت دانة :

" إلى أين ؟؟ "

" لا أعرف.. سنسير مع الآخرين"

قالت :

" سنموت في الطريق.. "

قلت :

" لو لم توقفنا الشرطة و تخرجنا من سياراتنا لربما كنا الآن قد بلغنا مكانا آمنا.. لا أريد العودة للوراء و لا التخلف عن الآخرين.. كما أنهم أخذوا مفتاح سيارتي.. أظننا على مقربة من إحدى المدن "

فقد كانت اللافتة على جانب الطريق تشير إلى ذلك..

نهضت معهما و سرنا على مهل، و رغد تعرج و تستند إلى دانة... و تتوقف من حين لآخر..

قطعنا مسافة طويلة بلا هدف ... نسير زمنا و نرتاح فترة .. و تعامدت الشمس فوق رؤوسنا و نحن تائهون في البر..

كنا نشعر بتعب شديد.. و مهما نسير نجد الطريق طويلا .. و لا تعبره أية سيارات..

توقفنا بعد مدة لنيل قسطا من الراحة.. و أي راحة ؟؟

قالت رغد :

" أنا عطشى..."

و نظرت إلي باستغاثة..

ماذا بيدي يا رغد ؟؟ لو كانت عيني عينا لسقيتك منها و إن شربتها كلها و أبقيتني جافا .. أو أعمى.. لكنني مثلك ، يكاد العطش يقتلني و ما تبقى من طاقتي لا يكفي لقطع المزيد من الطريق..

إننا سنموت حتما إذا بقينا هنا.. أنا أرى الناس ينهارون من حولي من التعب و العطش و الجوع.. و يتخلّف من يتخلّف منهم بعد مسيرتنا..

يجب أن نسرع و إلا هلكنا..


" هيا بنا "

قالت دانة :

" أنا متعبة ، دعنا نرتاح قليلا بعد "

قلت بإصرار :

" كلا .. يجب أن نسرع بالفرار قبل أن يدركنا حتفنا "

و أجبرت الفتاتين على النهوض و السير مجددا و بأسرع ما أمكنهما ..

قوى رغد يبدو أنها انتهت.. إنها تترنح في السير.. تمشي ببطء.. تجر قدميها جرا.. تئن و تلهث.. تسير مغمضة العينين متدلية الذراعين.. ثم أخيرا تقع أرضا..

أسرعت إليها و أمسكت بكتفيها و هززتها و أنا أقول :

" رغد .. رغد تماسكي .."

رغد تدور بعينيها الغائرتين النصف مغلقتين و تنطلق حروف من فيها الفاغر مع أنفاسها الضعيفة السطحية :

" ماء.. عطشى.. سأموت.. وليد.. لا تتركني "


ثم تغيب عن الوعي..

أخذت أهزها بقوة أكبر و أصرخ :

" رغد .. أفيقي.. أفيقي .. هيا يا رغد تشجعي.. "

فتفتح عينيها لثوان ، ثم تغمضهما باستسلام...


ثم أسمع صوت ارتطام فالتفت ، فأرى شقيقتي تهوي أرضا هي الأخرى..

أسرع إليها و أوقظها :

" دانة انهضي... هيا قومي سنصل قريبا "

" متعبة.. دعني أرتاح.. قليلا "


و انظر إلى الشمس فأراها تقترب من الأفق.. و تنذر بقرب الرحيل..و ختم النهار..

تركتهما ترتاحان فترة بسيطة ، ثم جعلتهما تنهضان .. دانة تسحب قدميها سحبا .. و رغد مستندة إلي.. أجرها معي ..

وصلنا بعد ذلك إلى محطة وقود .. و صار من بقي من الناس يركضون باتجاهها و يقتحمون البقالة الصغيرة التابعة لها كالمجانين بحثا عن الماء..

أسرعت أنا أيضا بدوري إلى هناك .. أسحب الفتاتين و حين اقتربت من الباب و رأيت الناس تتعارك يرصّ بعضهم بعضا قلت للفتاتين :

" انتظراني هنا "

و حررتهما من يدي وأنا أقول :

" لا تتحركا خطوة واحدة "

و هممت بالذهاب لمزاحمة الآخرين..

رغد صرخت صرخة حنجرة ميتة :

" لا تذهب "

قلت :

" سأجلب الماء .. انتظريني "

و حين سرت خطوة مدت هي يدها و أمسكت بذراعي تسحبني تجاهها و تقول في ذعر :

" لا تذهب وليد .. كلا ..كلا .. "

حررت ذراعي من يدها و زمجرت :

" دعيني أدرك الماء قبل أن يدركنا الموت.. ستموتين إن لم ألحق "

" سأموت إن ذهبت "

لا أعرف كيف أصف الشعور الذي انتابني لحظتها..

في قعر الضعف و اليأس و الاستسلام.. أرى صغيرتي متشبثة بي في خشية من أن الوحدة.. بينما الموت أولى بأن تخشاه و تهرب منه..

قلت موجها كلامي لدانة :

" أمسكي بها "

و دفعت بيدها بعيدا عني و أسرعت إلى البقالة..تلاحقني صيحاتها..

غصت وسط الزحام و لم استطع نيل أكثر من قارورتي ماء صغيرتين و علبة عصير انتشلتها انتشالا و ركلت من حاول سلبها مني..

خرجت بغنيمتي من المعركة و جريت نحو الموضع الذي تركت الفتاتين فيه فلم أجدهما..

تلفت يمنة و يسرة فلم أجدهما ...

جن جنوني و رحت أهتف مناديا :

" رغد... دانة ... أين أنتما ؟؟ "

ثم سمعت صوت دانة تهتف :

" وليد .. هنا "

و وجدتها تجلس عند خازنات الوقود و رغد ملقاة أرضا إلى جوارها..

ركضت نحوها فزعا..

" ماذا حدث ؟؟ "

" ربما ماتت ؟ لا أعرف إنها لا تستفيق "

مسكت رغد و هززتها بقوة و أنا أصرخ :

" رغد .. أفيقي.. لقد جلبت الماء.. أفيقي هيا .."

بالكاد ترمش بعينيها.. فتحت علبة العصير و أدخلت طرف الماصة بداخلها و الطرف الآخر في فم رغد و ضغطت على العلبة حتى يتدفق العصير إلى فم رغد.. رغد حركت شفتيها قليلا.. ثم أخذت تبلع العصير.. ثم تشربه..

" اشربي.. اشربي .."


أما دانة فأخذت إحدى قارورتي الماء و شربتها كاملة دفعة واحدة.. و تقاسمت أنا و رغد القارورة الأخرى..

" اشربي المزيد.. اشربيه كله.. "

الناس كانوا يدخلون و يخرجون من البقالة كل يحمل الطعام و الشراب.. دون مراعاة لأي حقوق.. و أي لياقة.. ففي وضع كالذي كنا عليه.. ينسى المرء نفسه..

استردت رغد وعيها الكامل .. و شيئا من قوتها..

" أأنت بخير الآن رغد ؟؟ أيمكنك النهوض ؟"

أومأت برأسها إيجابا فنهضنا نحن الثلاثة و أنا مسندا إياها..

قلت :

" سأجلب طعاما يمنحنا القوة لمتابعة السير"

رغد قالت :

" أنا متعبة.. لا أستطيع السير بعد.. لا أستطيع "

و نظرت إلى دانة ، فقالت هي الأخرى :

" و لا أنا.. دعنا نرتاح ساعة "

و في الواقع ، جميع من كانوا يسيرون جلسوا للراحة و تناول ما امتدت إليه أيدهم من الطعام..

اخترنا نحن بدورنا موضعا لنجلس فيه .. بعيدا بعض الشيء عن الآخرين .. ذاك أني لم أشأ جعل الفتاتين عرضة لأعين الغير..

بعدما استقررنا هناك، أردت العودة إلى البقالة و إحضار أي طعام.. إلا أن رغد منعتني .. فالتزمت مكاني ..

كنت أراها تضغط على جرحها من حين لآخر.. و تعبيرات وجهها تتألم و أسمعها تئن..

قلت :

" أهو مؤلم جدا ؟ تحمّلي صغيرتي.. قليلا بعد"

و لا يزيدها ذلك إلا أنينا..

" أنا متعبة "

قالت و هي بالكاد قادرة على حمل رأسها و تكاد تسقطه .. و تدور بعينيها في المكان .. و تفرك يديها من البرد ..

تفطّر قلبي لرؤيتها بهذا الشكل.. و لم أعرف ما أفعل؟؟ إن صغيرتي تتألم و على حافة الموت.. ماذا أفعل ؟

هي رأتني أراقب تحركاتها و تململها .. قالت :

" أريد أن أنام "

قلت :

" اضطجعي و نامي صغيرتي.. "

حركت رأسها اعتراضا.. بينما عيناها تكادان تنغلقان رغما عنها..

رأفت بحالها البائس.. و قلت بعطف :

" اضطجعي رغد.. أنت متعبة جدا .. استرخي هيا.."

رغد نظرت إلى دانة.. ثم إلى الناس ، ثم إلي بتردد..

قلت مشجعا :

" هيا صغيرتي .. لا تخشي شيئا "

و بادرت دانة بالاضطجاع .. بدورها.. فتشجعت رغد.. و همت بالانبطاح.. لكنها قالت قبل ذلك :

" لا تذهب إلى أي مكان وليد أرجوك "

قلت مطمئنا :

" لا تقلقي، أنا باق ٍ هاهنا "

ثم تمددت على الرمال.. و أغمضت عينيها ..

أنا أيضا استلقيت على الرمال المجردة.. طالبا بعض الراحة .. و سرعان ما رأيت رغد تجلس و هي تنظر إلي و تقول :

" هل ستنام ؟ "

قلت :

" كلا.. سأسترخي قليلا "

و بدت مترددة ..

قلت :

" عودي للنوم رغد .. اطمئني "

فعادت و استلقت على الأرض .. و سكنت قليلا .. قم عادت فجلست و ألقت نظرة علي !

قلت :

" ماذا ؟؟ "

قالت :

" لا تنم وليد أرجوك "

جلست مستويا ، و قلت :

" لن أنام صغيرتي .. نامي أنت و أنا سأبقى أراقب ما حولنا .. اطمئني "

و أخيرا اطمأن قلبها أو ربما تغلّب عليها النعاس و التعب ، فاستسلمت للنوم بسرعة..




في العراء.. ننام مفترشين الأرض الجرداء... ملتحفين السماء .. تهب علينا التيارات الباردة تجمّد أطرافنا .. فنرتجف .. و تقشعر أجسادنا و قلوبنا .. ثم لا تجد ما يدفئها و يهدئ روعها..


كان الليل يمر ساعة بعد أخرى.. دون أن نحسب الزمن..

عاد البدر يراقبنا و يشهد تشردنا .. و حال لم يخلق الله مثلها حالا ..

أراقب الفتاتين فأجدهما مستغرقتين في النوم .. و أنا شديد الإعياء .. و السكون و الظلام مخيم على الأجواء.. و معظم الناس رقود..


النعاس غلبني أنا أيضا.. فقد نلت ما نلته من الإجهاد.. لكنني كنت أقاومه بتحد ٍ .. كيف لعيني أن تغفوا و فتاتاي نائمتان في العراء.. عرضة لكل شيء .. و أي شيء ؟؟

وقفت كي أطرد سلطان النوم ، و جعلت أحوم حول الفتاتين و أذرع المكان ذهابا و جيئة.. و أقترب منهما كل حين أراقب أنفاسهما.. و أطمئن إلى أنهما نائمتان و على قيد الحياة..

أنا متعب.. متعب.. أكاد أنهار.. رأسي دائخ و الكون يدور من حولي.. و عيناي تزيغان ..
يا رب.. إن عينك لا تغيب و لا تغفل.. و لطفك و رحمتك وسعا كل شيء.. فاشملنا تحت حفظك..

أ اغمض عينيّ لحظة واحدة؟ فقط لحظة.. أهدئ من تهيجهما و حرارتهما.. لحظة واحدة يا رب..

و لم تطعني عيناي كما أبى قلبي أن يغفل عنهما طرفة عين...

فيما أنا بهذه الحال.. بعد مضي فترة من الزمن.. أبصرت نورا يقترب منا قادما من آخر الشارع..

إنها سيارة ! السيارة الأولى التي تعبر هذا الشارع مذ تشرّدنا فيه ..

لم تكن سوى سيارة حوض.. ما أن رآها بعض الناس حتى أسرعوا راكضين إليها طالبين النجدة..

أسرعت إلى الفتاتين و أيقظتهما :

" رغد.. دانة .. هيا بنا بسرعة "

فتحتا أعينهما مذعورتين ، و مددت يدي و أمسكت بيديهما و سحبتهما لتنهضا جالستين ثم واقفتين في فزع..

قلت :

" لنلحق بالسيارة "

و ركضت ساحبا إياهما حتى أدركنا السيارة و انضممنا إلى أفواج الناس الذين ركبوا حوضها

سائق السيارة كان يهتف :

" انتظروا لأعبئ خزانها وقودا "

إلا أن الناس تشبثوا بها بجنون ..

بعد ذلك انطلقت السيارة بمن حملت تسير بسرعة لا بأس بها.. كان بعضنا جالسا و البعض واقفا ، و كنا نحن الثلاثة ضمن الوقوف .

كنا واقفين عند مقدمة الحوض، الفتاتان ملتصقتان برأس السيارة و أنا أكاد ألتصق بهما، فاتحا ذراعيّ حولهما أصد الناس عن ملامستهما..

بعد مسيرة ساعة أو أكثر .. لا أعلم تحديدا.. بلغنا مشارف إحدى المدن.. و أوقف السائق السيارة و قال :

" امضوا في سبلكم"

هبطنا جميعا و تفرقنا .. هذا هنا و هذا هناك .. باحثين عن ملاجئ لهم..

وقفت أنا حائرا.. إلى أين أذهب في هذا الليل الكئيب.. و معي هاتان الفتاتان المنكوبتان ؟؟

و تلفت من حولي فرأيت لا فتة تدل إلى طريق المدينة الشمالية الزراعية ، و الكائنة على مقربة..

نجحت بعد جهد في إقناع السائق بإيصالنا إلى هناك ، و تحديدا إلى مزرعة نديم ،
فهي الفكرة التي طرأت على رأسي المرهق هذه اللحظة ،.. بمقابل..
و شكرت الله أن جعلني أحمل محفظتي في جيبي مع المفاتيح..


ولم تكن المسافة طويلة ، وصلنا بعد فترة قصيرة إلى هناك..


هبطنا من السيارة و شكرت السائق .. و حثثت الفتاتين على السير معي..

قالت دانة :

" إلى أين ؟ "

قلت :

" تقطن عائلة صديقي هنا، سأسألهم استضافتنا لهذه الليلة.. فنحن متعبون جدا "

لقد كان كل ما سبق أشبه بالكابوس .. إلا أنه كان الواقع..

بوابة المزرعة كانت مفتوحة كالعادة ، مشينا متجهين نحو المنزل.. دانة تمسك بقميصي الموضوع حول رأسها، و رغد تجر قدمها المصابة.. و كلاهما تمسكان بيدي من الجانبين..

عند عتبات باب المنزل.. تركتاني لأصعد العتبات ، ثم أقرع الجرس، ثم ينفتح أسمع صوتا يسأل عن الطارق ، فأجيب :

" وليد شاكر "

ثم أرى الباب ينفتح ، و تظهر من خلفه ... أروى نديم .







~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~






اتسعت حدقتا الفتاة التي أطلت من فتحة الباب ... و ألقت علينا جميعا نظرة مذهولة و قالت :


" سيد وليد ! "

وليد قال :

" مساء الخير.. هل العم إلياس موجود ؟؟ "

ردت الفتاة :

" خالي في طريقه إلى هنا .. "

ثم عاودت النظر إلينا أنا و دانة ، ثم قالت :

" ما الأمر ؟؟ "

قال وليد :

" فررنا من القصف الجوي... نجونا بأعجوبة "

الفتاة وضعت يدها على صدرها و شهقت .. ثم قالت :

" أ ... أنت ... تقيم في المدينة الصناعية ؟؟ "

أجاب وليد :

" نعم ، مع عائلتي .. "

و أشار إلينا..

ثم قال :

" تدمرت مدينتا.. و الآن.. أصبحنا بلا مأوى.. "

سرعان ما فتحت الفتاة الباب على مصراعيه و قالت :

" هلموا بالدخول "


وليد قال :

" سننتظر العم إلياس.. "

إلا أن الفتاة أصرت :

" تفضلوا رجاء ... "

ثم التفتت إلى الداخل و أخذت تنادي :

" أمي ... "


وليد الآن التفت إلينا و قال :

" تعالا"

ترددنا قليلا إلا أننا سرنا معه إلى الداخل ...

و في النور استطعت أن أرى وجه الفتاة الذي لم يكن جليا قبل قليل...

فتاة شديدة البياض و الشقرة... زرقاء العينين حمراء الخدّين.. أجنبية الملامح..

أقبلت سيدة أخرى نحونا و حين رأت وليد تهللت و رحبت به بحرارة..

السيدة كانت شديدة الشبة بالفتاة..

قالت الفتاة :

" هربوا من المدينة الصناعية يا أمي ! "

امتقع وجه السيدة ثم قالت :

" أوه ربّاه ! حمدا لله على سلامتكم "

و أخذت الفتاة تكرر ذلك أيضا ..

قال وليد :

" سلمكما الله ، شكرا لكما و أعتذر على حضوري إلى هنا ..لكننا بحاجة لمكان آمن نبات فيه ليلتنا هذه "

السيدة الكبرى أشارت إلى وليد بالتوقف عن الحديث و عادت ترحب من جديد .. و التفتت إلينا أنا و دانة ..

وليد قال :

" شقيقتي و ابنة عمّي "

قالت السيدة :

" و أين أبواك ؟ "

قلت :

" لم يعودا من الحج بعد .. أو .. لا أعرف ما حصل معهما ! "

قالت السيدة و هي تشير بيدها نحو المقاعد :

" تفضلوا رجاء .. تفضلوا "


أنا و دانة كنا ممسكتين بيد بعضنا البعض .. واقفتين بحذر و تردد..

وليد تحدّث إلينا قائلا :

" تعالا .. لنجلس هناك "

و سرنا معه إلى المقاعد..

و جلست دانة ملتصقة به و أنا ملتصقة بها..

وليد ألقى نظرة علينا ثم قال مخاطبا الفتاة :

" هل لنا ببعض الماء من فضلك ؟؟ "

" فورا "

و ذهبت الفتاة و عادت تحمل قارورة كبيرة من الماء المعدني و كأسين اثنين..

ملأتهما ماءا و قدّمت الأول إلي و الثاني إلى دانة.. فشربنا بنهم شديد... المزيد و المزيد و المزيد... و وليد و الفتاة و السيدة يراقبوننا بشفقة !

ذهبت الفتاة و أحضرت قارورة أخرى و كأسا ثالثا و دفعتهما نحو وليد ...

" تفضّل "

وليد تناولهما و بدأ يشرب الكأس بعد الآخر حتى أفرغ معظم محتويات القارورة في جوفه..

أيّكم جرّب عطشا كهذا العطش ؟؟

ألا لعنة الله على الظالمين ...





قالت السيدة مخاطبة الفتاة :

" اذهبي و حضّري بعض الطعام.. حضّري الحساء و الشطائر "

و أسرعت الفتاة منصرفة إلى حيث أمرت ..

وليد قال :

" نحن آسفون يا سيدة ليندا .. إننا"

فقاطعته السيدة و قالت :

" لا .. لا داعي لقول شيء يا بني .. ألف حمد لله على نجاتكم .. "

ثم سمعنا صوت الباب ينفتح ، و يدخل منه رجل عجوز ...

ما إن دخل حتى وقف وليد فوقفنا أن و دانة تباعا ..

الرجل ذهل ، و قال بتعجب :

" وليد ؟؟ "

و أقبل وليد نحوه فصافحه ثم أخبره عما حصل معنا و ما دعانا للحضور إلى هنا..

و العجوز لم يقل كرما عن السيدة و الفتاة .. بل رحب بوليد و عانقه و حمد الله كثيرا على سلامته..

حتى هذه الساعة لازلت بين الإدراك و إلا إدراك .. بين الحقيقة و الحلم ، و التصديق و التكذيب...

و لازلت أشعر بتعب لا يسمح لي بالوقوف أكثر من ذلك.. خصوصا على قدم جريحة متألمة.. لذا فإنني هويت على المقعد و ألقيت برأسي على مسنده..

دانة جلست إلى جواري و ربتت على كتفي و قالت :

" رغد.. أأنت بخير ؟؟ "

أنا تنهّدت و أننت .. وليد أقبل هو الآخر نحوي قلقا .. و قال :

" أأنت على ما يرام ؟؟ "

أشرت إلى قدمي .. أنا أتألم..

وليد قال مخاطبا الرجل العجوز :

" أيوجد لديكم مطهرا و ضمادا للجروح ؟؟"

السيدة غابت ثوان ثم عادت تحمل ما يلزم .. وليد قال :

" يجب غسلها أولا .. "

السيدة قالت :

" دورة المياه من هنا "

إلا أنني هزت رأسي ممانعة.. و لزمت مكاني..

دانة قالت بصوت هامس تكلم وليد :

" أنا أريد استخدام دورة المياه "

وليد أستأذن أصحاب المنزل ، ثم نهضت دانة واقفة ، تغطي معظم وجهها بالقميص الموضوع على رأسها...

اعتقد أن الرجل العجوز انصرف هذه اللحظة .. أما السيدة الأخرى فعادت تشير إلى ناحية الحمام :

" من هنا .. "

ذهبت دانة إلى دورة المياه ، و السيدة استأذنت و غادرت لدقائق.. و بقيت أنا متهالكة على المقعد و وليد واقف إلى جواري..

قال :

" أأنت بخير صغيرتي ؟؟"

لا ! كيف لي أن أكون بخير ؟؟ إنني في حال من أسوأ الأحوال التي مرت علي ّ ... بدأت بالبكاء إلا أن دموعا لم تخرج من عيني ...

وليد جلس بقربي و قال :

" ستكونين بخير.. نجونا من الموت .. الحمد لله "

شعرت لحظتها برغبة في الارتماء في حضنه.. و البكاء على صدره.. و الاسترخاء بين ذراعيه.. أنا متعبة و أتألم.. أريد من يواسيني و يشجعني.. أريد حضنا يشملني و يدا تربت علي.. أريد أمي.. أريد أبي.. أريد وليد.. و لم أنل منه غير نظرات مشجعة..


أقبلت السيدة تحمل معها وشاحين.. قدّمتهما إلي..

نزعت ُ عن رأسي ما كنت أتحجّب به، و لففت أحد الوشاحين حول رأسي ، على مرأى من وليد ... !


و عندما عادت دانة ، و قد غسلت وجهها و قدميها الحافيتين أعطيتها الوشاح الآخر...

قالت :

" تعالي لأغسل جرحك رغد..."

و أيضا لم أتحرّك .. ففوق تعبي و إعيائي و الدوار الذي أشعر به.. أنا خائفة..
نعم خائفة..

السيدة قامت بنفسها بإحضار وعاء يحوي ماء .. و وضعته عند قدمي ّ و قالت :

" هل أساعدك ؟ "

دانة قالت :

" شكرا لك ، سأفعل ذلك "

ثم أخذت تحل الضماد ـ و الذي هو عبارة عن كم قميص وليد ـ من حول قدمي .. و غمرتها بعد ذلك في الماء النظيف الدافئ..

بدأت الأوجاع تتفاقم و تتزايد.. و أخذت أئن و أصيح .. لكنني لم أقاوم.. و استسلمت لما فعلته دانة بقدمي.. و أنا مغمضة العينين..

عندما فتحتهما كانت قد انتهت من لف قدمي بالضماد ... كما أن السيدة أحضرت ماءا نظيفا لأغسل قدمي الأخرى...

كل هذا و أنا ملتزمة الصمت و السكون إلا عن أنات و صياح ألم..

و الآن، جاءت الفتاة تحمل صينية ملآى بالشطائر بينما يتبعها العجوز حاملا صينية أخرى رُصّت علب العصير الورقية فوقها...

و وضعا الطعام و الشراب أمامنا و الفتاة تقول :

" تفضلوا هذا لحين نضج الحساء "

لم يمد أحدنا يده.. ما الذي يجعلنا نفكّر بالطعام في وقت كهذا ؟؟ فراح أصحاب المنزل يحثوننا على الطعام..

وليد تناول اثنتين من علب العصير و قدمهما لي و لدانة، فأخذت علبتي و شربت ما بها ببطء...

أصحاب المنزل الثلاثة استأذنوا منصرفين عنا، ربما لنتصرف بحرية أكبر..


وليد أيضا وزع الشطائر علينا إلا أنني رفضت تناولها..

" خذي يا رغد.. لابد أنك جائعة جدا.. كلي واحدة على الأقل"

" لا أريد "

" هيا أرجوك .. ستموتين إن بقيت بلا طعام ساعة بعد "

و لم يفلح في إقناعي.. لكنه و دانة تناولا شيئا من الطعام بصمت..


لحظات و إذا بالفتاة تقبل بأقداح الحساء الساخن.. و تقدمها إلينا ثم تنصرف..


أجبرت نفسي على رشف ملعقتين من الحساء.. ثم أسندت رأسي إلى المقعد و أغمضت عيني..
 
تتمه

كنت أسمع أصوات الملاعق .. و حركة الأواني .. و ربما حتى صوت بلعهما للطعام و هضم معدتيهما له ! و أسمع كذلك صوت نبضي يطن في أذني.. و أنفاسي تنحشر في أنفي.. و الآن .. صوت وليد يناديني ..

" رغد "

فتحت عيني فوجدته ينظر إلي بقلق.. و يعيد السؤال :

" أأنت بخير ؟؟ "

قلت :

" أنا متعبة "

قال :

" سأتحدّث معهم .. "

ثم نهض و نادى :

" أيها العم الطيب .. "

ظهر الثلاثة من حيث كانوا يختبئون عنا ..

قال وليد :

" اعذرونا رجاء ً.. إننا في غاية التعب فقد قضينا ساعات طويلة نسير في الخلاء.. أين يمكننا المبيت بعد إذنكم ؟؟ "

قالت السيدة :

" ستنام ابنتي معي في غرفتي و يمكن للفتاتين المبيت في غرفتها.. سنعد فراشا أرضيا إضافيا "

و قال العجوز مخاطبا وليد :

" و أنت غرفتك كما هي "

قال وليد :

" هذا جيّد ... "

ثم أضاف :

" أشكركم جميعا جزيل الشكر.. إنني ... "

و مرة أخرى قاطعته السيدة و قالت :

" لا داعي لكل ذلك يا سيد وليد، ألم نكن كالعائلة؟ جميعكم أبنائي.. "

ثم أضافت مخاطبة الفتاة :

" خذي الفتاتين إلى غرفتك "

الفتاة أقبلت نحونا و هي تبتسم و تقول :

" تفضلا معي .. "

كلانا نظرت إلى وليد بتردد.. فقال الأخير :

" هيا عزيزتاي "

و هز رأسه مطمئنا.. يبدو أنه على علاقة وطيدة بهم.. و يثق بهم كثيرا..

وقفت دانة و وقفت معها .. ثم قلت لوليد :

" و أنت ؟ "

قال :

" سأبات في غرفة في الخارج تابعة للمنزل "

هززت رأسي اعتراضا شديدا ... مستحيل ! و عوضا عن مرافقة الفتاة اقتربت منه هو ، و قلت :

" لن تذهب و تتركنا "

قال :

" إنها غرفة خارجية اعتدت المبيت فيها.. ملاصقة للمنزل تماما "

هززت رأسي بإصرار أشد :

" لا .. لا "

وليد نظر إلي بضيق و تعب و أسى .. كأنه يرجوني أن أطلق سراحه و أدعه يرتاح قليلا..

قال :

" ستكونين بخير.. هذه عائلتي "

إلا أنني ازددت إصرارا و رفضا و قلت :

" سأذهب معك "

وليد و دانة تبادلا النظرات .. و لم يعرف أي منهما ما يقول..

مددت يدي فأمسكت بيده مؤكدة أكثر و أكثر بأنني لن أسمح له بالابتعاد عني..

أخيرا تكلّم وليد مخاطبا أصحاب المنزل :

" إن لم يكن في ذلك ما يزعجكم .. فسنبيت في الغرفة الخارجية نحن الثلاثة.. و نحن آسفون لكل ما سببناه لكم من إزعاج .. "

العجوز تكلّم و قال :

" كما تشاءون يا بني.. سأجلب المزيد من الفرش و البطانيات لكم "

و تحرك الثلاثة ، و أحضروا البطانيات و حملوها سائرين نحو الباب، و سرنا معهم إلى خارج المنزل ..

كانت الغرفة المقصودة هي غرفة تابعة للمنزل مفصولة عنه بجدار مشترك.. و كانت صغيرة نسبيا و بداخلها سرير صغير و أثاث بسيط ، و تتبعها دورة مياه صغيرة قريبة من الباب..

الثلاثة و معهم وليد تعاونوا في تحضير فراشين أرضيين على المساحة الحرة من الغرفة.. و حالما انتهوا ، قال العجوز ..

" أتمنى لكم نوما هانئا "

و عقّبت السيدة :

" تصبحون على خير"

أما الفتاة فقد أسرعت بالذهاب ثم العودة بصينية الشطائر و بعض العصائر .. و وضعتها على المنضدة الصغيرة التابعة لأثاث الغرفة و هي تقول :

" فيم لو احتجتم أي شيء فلا تترددوا في طلبه ! "

وليد قال :

" شكرا جزيلا..هل نستطيع استخدام الهاتف ؟ "

قال العجوز :

" بكل تأكيد.. "

فشكرهم كثيرا و كذلك فعلت دانة ، ثم انصرفوا ...

و فور خروجهم أقفل وليد الباب و أقبل إلى الهاتف .. و اتصل بأحد الأرقام .. و كان أول ما نطق به بعدها و بلهفة شديدة :

" سامر يا عزيزي .. أأنت بخير ؟؟ "
 
الحلقةالسادسةوالعشرون
*********






مضطجعة على السرير.. في غرفة أناس غرباء..
مكان مظلم و بارد.. ألتحف لحافا و بطانية خفيفين.. لا يكادان يدفئان أطرافي كما ينبغي.. أتقلب يمينا و يسارا.. محاولة ضبط جسدي في وضع يريحه و يخفف آلام قدمي الممتدة لكامل الرجل و الظهر أيضا..

و كلما التفت ُّ يمنة .. وقع نظري على تلك الكومة من اللحم و الشحم البشري المتمددة على فراش أرضي.. و المدثرة بلحاف و بطانية شبيهين باللذين يغطياني، يخفيان الرأس و لا يكادان يغطيان القدمين اللتين تبرزان من تحتهما.. بحجميهما الكبيرين و شكليهما الأشبه بالسفينة !

مسكين وليد !

لابد أن عدد الخلايا الحسية في قدمه هو أكثر بكثير من قدمي أنا.. و لابد أنه تألم كثيرا و هو يركض و يمشي حافيا عليها !

أوه و لكن لم علي التفكير بقدم وليد في ساعة كهذه و حال كهذه ؟؟

أم أن الآلام التي أشعر بها في قدمي أنا جعلتني مهووسة بالأقدام؟؟

أكثر شيء أراحني ، و جعلني أستلقي بطمأنينة على هذا السرير هو تحدّثي إلى والدي ّ و اطمئناني عليهما ، و كذلك على سامر و خالتي و عائلتها..

الحمد لله إنهم جميعا بخير ...

و رغم التعب الذي كنت أعانيه، لم أنم مباشرة مثلما نام وليد و دانة على فراشيهما الأرضيين.. لقد كنت أشعر بالبرد... رغم أن جسدي متعرق..

جلست.. و أخذت أنظر نحوهما..

كانا مستغرقين في نوم عميق .. لا تصدر عن أي منهما أي حركة...

نهضت عن سريري و توجهت نحو الخزانة الصغيرة الموجودة في الغرفة، و أنا أعرج .. بحثا عن بطانية أخرى...

فتحت الخزانة و ألقيت نظرة على ما بداخلها، لم أجد أي بطانية أو لحاف ..

أثناء إغلاقي لها أصدرت صوتا ... فالتفت مباشرة إلى النائمين أستوثق من عدم استيقاظهما بسبب الصوت.. دانة لم تتحرك البتة ، أما كومة الشحم و اللحم البشرية تلك فقد تحركت .. و أُزيحت البطانية قليلا.. فظهر الرأس .. و العينان.. و الأنف المعقوف .. و الشفتان.. و الذقن الملتحي أيضا !

وليد نظر إلي برهة نظرة ساذجة، ربما كان نصف نائم.. ثم بدأ تركيزه يحتد و يشتد .. ثم حملق بي في قلق و استوى جالسا

" ما الأمر ؟ "

سألني ذلك ، فقلت :

" آسفة.. كنت أبحث عن بطانية أو ما شابه"

نظر وليد نحو السرير ليتأكد من وجود بطانية معدة لي ، ثم إلي .. فقلت موضحة :

" إنها خفيفة .. "

قال :

" أتشعرين بالبرد ؟ "

" نعم.. "

ثم رأيته ينهض، و يحمل بطانيته و يضعها فوق بطانيتي...

قال :

" ستدفئين هكذا "

شعرت بالخجل من تصرفه و الحرج .. قلت بسرعة :

" أوه كلا وليد.. "

قال :

" إنني لا أشعر بالبرد على أية حال.. اللحاف هذا يكفيني "

طأطأت رأسي خجلا و أنا أنطق بحروف الشكر ... وليد عاد إلى فراشه الأرضي و غطى جسده كاملا باللحاف !

رجعت أعرج نحو السرير و تدثرت بالبطانيتين مع اللحاف... و استمد جسمي الحرارة ، لا من الأغطية المنشورة فوقي ، بل من المدفئة الملتهبة التي تبعث حرارة و تقدح لهيبا في الغرفة ... مكومة هناك.. على ذلك المفرش الأرضي، ملفوفة باللحاف كالشرنقة !

يا إلهي ما أجمله من شعور !

و لأنه لم يعد باستطاعتي رؤية أية أقدام كلما تلفت ، فإن هوس التفكير بها غاب عنّي .. و سمح لدماغي بالصفاء.. و بالتالي بالاستسلام للنوم...


نومتي لم تكن بالنومة الطبيعية على الإطلاق.. رأيت كوابيس مزعجة جدا و استيقظت عدّة مرات فزعة.. أرى نفسي في العراء.. و الناس تركض... و النار تحيط بنا ..

أسمع صراخ الناس.. و دوي الانفجارات.. و أرى جنودا يركضون نحوي..

أحاول الوقوف لأهرب، لكن قدمي المصابة تعيقني...

أصرخ و أصرخ ... و أرى وليد يركض مع دانة مبتعدين .. فأمد يدي طالبة العون.. و ما من معين..

ثم تقترب النيران مني و تلسعني ألسنتها... فأصرخ بأعلى صوتي.. ثم يظهر سامر لا أعلم من أي مكان.. و وجهه يحترق.. و يقول :

" لماذا فعلت ِ هذا بي ؟؟ "


استيقظ من النوم فزعة مرعوبة ، أتلفت إلى ما حولي ، فأجد نفسي في غرفة صغيرة مظلمة ... مضطجعة على سرير .. و أرى وليد و دانة نائمين على مقربة مني...

أنهض عن سريري و اقترب منهما لأتأكد .. أهما وليد و دانة ؟؟ أأنا في حلم ؟؟ فأرى وجه دانة الغارق في النوم .. و شعرها المبعثر على الوسادة... نعم هي دانة..
و هي حية .. و تتنفس..

ثم التفت ناحية وليد.. المغطى باللحاف كليا ، فلا أجد ما يثبت أنه وليد..
و أنه حي .. و يتنفس !

أبقى أراقبه بتركيز حتى ألحظ حركة طفيفة يصدرها صدره .. فيطمئن قلبي إلى أنه حي .. و يتنفس .. لكن .. هل هذا وليد ؟؟

أمد يدي بحذر و بطء.. و جنون.. نحو طرف اللحاف فأزيحه قليلا عن قدمه..

كبيرة كالسفينة !

لا شيء يدعو للشك !

إنه وليد حتما !

يطمئن قلبي و أعود أدراجي إلى سريري الدافىء... نعم أنا بخير.. نعم لقد نجونا.. نعم كان كابوسا.. نعم أنا متعبة.. و بالتأكيد سأنام ...


في المرة الأخيرة التي نهضت فيها..كانت حالتي سيئة جدا ...





~ ~ ~ ~ ~





كنت غارق في النوم لأبعد الحدود ، بعد العناء الذي مررنا به .. توقعت ألا أنهض قبل مضي 20 ساعة على الأقل !

إلا أنني نهضت على صوت ما ...

فتحت عيني و بقيت لحظة في سكون ، إلى أن أفاقت جميع خلايا الوعي النائمة في دماغي ، ثم بدأت حواسي تعمل بشكل جيد ، و تميز الصوت و معناه ...

كان صوت رغد.. و كانت تناديني ..

التفت ناحية السرير الذي كانت رغد تنام فوقه فرأيتها تجلس على حافته في إعياء شديد ، بالكاد تسند جدعها

كانت عيناها شديدتي الإحمرار .. و وجهها شديد الشحوب .. تعبيراتها تنم عن التألم و الإرهاق

اجتاحني القلق بغتة ، وقفت بسرعة و قلت :

" رغد .. ما بك ؟؟ "


نبست شفتاها عن أنة .. تلتها تنهيدة وجع ... ثم قالت بوهن :

" متعبة.. دوار.. "

ثم رأيت القشعريرة تسري في جسدها ...

اقتربت منها قلقا .. و أبصرت زخات من العرق تبلل وجهها

قلت :

" سلامتك "

قالت :

" أظن أنني محمومة .. أريد مسكنا "

ثم ارتمت على السرير بضعف ...

رغد تبدو مريضة جدا..

قلت :

" أ نذهب إلى الطبيب ؟ "

رغد أنت.. أنين مريض مرهق.

قلت :

" استعدي للذهاب . سأعود في الحال "

و توجهت نحو الباب ، فنادتني بوهن :

" وليد "

التفت إليها فوجدتها عاجزة عن رفع رأسها عن السرير .. قلت :

" سأطلب من العم إعارتنا سيارته "

و قبل خروجي نظرت إلى دانة ، و ناديتها عدة مرات إلا أنها كانت في نوم عميق..

عندما خرجت من الغرفة و سرت باتجاه باب المنزل لمحت العم إلياس على مقربة.. و كان يزيل بعض الأوراق و الأغصان المتساقطة من على الأرض..

إنه الصباح الباكر و هذا الرجل معتاد على النهوض باكرا من أجل العمل ...

اقتربت منه و أنا أقول :

" صباح الخير أيها العم الطيب "

التفت إلي و ابتسم ابتسامة جميلة و رحب بي بكل بشاشة و بشر ...

قال :

" نهضت باكرا ! هل اكتفيت من النوم بهذه السرعة ؟؟ "

قلت :

" لازلت متعبا أيها العم ، بصعوبة أديت صلاتي قبل فوات وقتها.. "

" إذن لم قمت باكرا هكذا ؟ "

قلت :

" ابنة عمّي متعبة.. أريد أخذها إلى المستوصف القريب.. فهل تسمح بإعارتي سيارتك؟؟"

العم قال بسرعة :

" أيعقل أن تسأل هذا يا وليد؟ بل أنا من سيوصلكما إلى هناك.. أنسيت يوم اصطحبتنا نحن إلى هناك؟ جاء وقت رد الجميل ! "

قلت :

" لا أريد إزعاجك أيها العم "

" عن أي إزعاج تتحدّث ؟ كما و أن لي حاجة من مكان قريب من المستوصف ، أنا ذاهب لجلب السيارة أمام المنزل "

و ولى مسرعا ...

لم يكن لدى العائلة سوى سيارة حوض .. زرقاء اللون ، يستخدمونها رئيسيا لنقل الثمار إلى سوق الخضار..

و هي سيارة لا تتسع لأكثر من ثلاثة أشخاص...

قبل أن أعود إلى الغرفة ، ظهرت الآنسة أروى خارجة من المنزل ، تحمل طبقا مسطحا كبيرا حاويا كمية من حبوب الأرز...

أروى حالما رأتني بادرت بالتحية :

" صباح الخير يا سيد وليد "

قلت ببعض الحرج :

" صباح الخير سيدتي "

قالت :

" أنتمتم بشكل جيد ؟ "

" الحمد لله "

" هل نهضت الفتاتان ؟ "

" كلا ، أعني نعم.. أقصد واحدة نعم و واحدة لا "

قالت :

" الباب مفتوح لكم لدخول المنزل أنى شئتم.. سأعد لكم طعام الفطور بعد قليل "

" شكرا لكم. غمرتمونا بكرمكم "

" إنه واجبنا بل من دواعي سرورنا .. "

و هنا أقبل العم يقود سيارته... و أوقفها على مقربة ..

سألت الفتاة :

" إلى أين يا خالي ؟؟ "

قال :

" إلى المستوصف "

" المستوصف ؟؟ "

قلت موضحا :

" لأخذ ابنة عمّي فهي متعبة "

قالت :

" سلامتها "

" سلمكم الله "

شكرتها و استأذنت و عدت إلى الغرفة..

كانت رغد لا تزال على نفس الوضع الذي تركتها عليه... و مغمضة العينين

حين أحسّت باقترابي فتحتهما بإعياء ...

" صغيرتي .. هيا بنا "

بصعوبة بالغة تحركت.. و مشت خطواتها العرجاء فلما صارت قربي التفتت إلى دانة ..

حرت في أمري...

فمن جهة ، لا أريد ترك دانة وحدها هنا.. و من جهة أخرى لا أريد إفساد نومها العميق ، كما و أنا السيارة لا تتسع لها ..

في النهاية قلت :

" سندعها نائمة .. "

و لولا التعب لنطقت رغد بكلمات الاعتراض المرسومة على وجهها ، إلا أنها سارت باستسلام و عجز...

أغلقت الباب تاركا المفتاح في الداخل.. و حين أصبحنا قرب السيارة قلت مخاطبا الآنسة أروى :

" من فضلك سيدتي.. هل لا تفقدّت شقيقتي بين حين و آخر ؟ إنها لا تزال نائمة هناك .. و لا تعرف عن خروجنا "

أروى قالت :

" اطمئن .. لسوف أذهب و ألازم الغرفة لحين عودتكما ! "

قلت :

" شكرا لك ، أخبريها أننا ذهبنا للمستوصف القريب و سنعود قريبا "

التفتت بدورها إلى رغد و قالت :

" سلامتك "

رغد لم تجب و اكتفت بنظرة كئيبة نحو الآنسة أروى.

قلت أنا :

" شيء آخر يا سيدتي و استميحك عذرا على ثقل ظلّنا... "

" تفضّل دون حرج يا سيد وليد "

نظرت إلى رغد في خجل و قلت :

" عباءة .. إذا أمكن "

الآنسة أروى قالت :

" بالتأكيد "

و أسرعت إلى داخل المنزل ، و عادت تحمل عباءة .. و زوجين من الأحذية المطاطية ، التي يرتدونها عادة أثناء العمل ...

انتبهت حينها فقط إلى أنني و رغد كنا لا نزال حافيين أيضا !

بعدما ارتدينا الأحذية المطاطية تلك ، و ارتدت رغد العباءة ، تقدمنا نحو السيارة فصعدت أنا أولا ثم رغد من بعدي... و قد كادت تتعثر .. إن من شدة التعب و الدوار ، أو من علو عتبة السيارة ، أو من طول العباءة التي ترتديها !

حينما بلغنا المستوصف، دخلته و رغد فيما ذهب العم لقضاء حاجاته على اتفاق بالعودة فور فراغه منها..

هناك، استلقت رغد على سرير الفحص و أقبلت الممرضة لقياس العلامات الحيوية لها، ثم قالت :

" حرارتها مرتفعة جدا! أربعون درجة و نصف !"

و أحضرت كيسا يحوي مجروش الثلج و وضعته على رأس رغد، بينما قامت ممرضة أخرى باستدعاء الطبيب المسؤول.

ثوان و إذا بالطبيب يحضر..

و هو رجل في نحو الثلاثين من العمر.. ما أن أقبل حتى استوت رغد جالسة..

اتخذ الطبيب مجلسه على مقعده الوثير خلف المكتب، و أمسك بالقلم و إحدى الأوراق بين يديه و بدأ يسأل :

" مم تشكو الفتاة ؟ "

توليت أنا شرح حالتها مجملا .. و أخبرته عن الجرح العميق في قدمها.

الآن .. يقف الطبيب و يقبل نحو سرير الفحص و يقول :

" بعد إذنك "

وقفت أنا دون حراك ، بينما حاولت الممرضة إغلاق الستارة حول السرير.. لتحول بيني و بينه..
و بادرت الممرضة الأخرى بفتح الضماد من حول قدم رغد المصابة...

في هذه اللحظة هتفت رغد :

" وليد "

لم أتحرك من مكاني، لا للأمام و لا للخلف.. و الممرضة تنظر إلي منتظره ابتعادي..

قال الطبيب :

" أنت شقيقها ؟ "

قلت :

" تقريبا...، ابن عمّها "

و نظرت إلى رغد فقرأت على وجهها الفزع المهول...

قال الطبيب :

" استلقي يا آنسة "

و الذي فعلته رغد هو أنها همت بالنهوض فجأة...

اقتربت أنا منها فأمسكت بذراعي ...لأساعدها على النهوض...

قلت :

" رغد .. "

رغد هزت رأسها نهيا بإصرار...

قال الطبيب :

" ألا تريدين مني أن أفحصك ؟ "

رغد قفزت من السرير واقفة على قدميها ، ثم صرخت تألما ...

قلت :

" رغد اصعدي .. دعيهم يرون الجرح على الأقل "

لكنها عوضا عن ذلك تشبثت بي أكثر و قالت :

" لا "

التفت إلى الطبيب الواقف جوارنا ينظر باستغراب و قلت :

" إنها خجولة جدا "

ثم أضفت :

" ألا يوجد طبيبة امرأة ؟ "

قال :

" للأسف لا "

ثم تنحى جانبا .. و ابتعد..

تحدّثت إلى رغد الواقفة على قدمها بألم و قلت :

" أرجوك صغيرتي ، لندع الممرضة تعقم الجرح "

و لم تقتنع بسهولة..

بعدما صعدت على السرير ، و هي لا تزال متشبثة بي، و كشفت الممرضة عن الجرح.. تأملته ثم قالت موجهة الحديث إلى الطبيب :

" دكتور.. إنه ملتهب جدا "

الطبيب أقبل من جديد يريد إلقاء نظرة على الجرح فرفضت رغد ذلك و دلت رجليها أسفلا..

قال الطبيب يحدث الممرضة :

" خرّاج ؟ "

" نعم يا دكتور.. ملوث جدا "

الكلمات أقلقتني.. قلت مخاطبا رغد :

" دعيه يلقي نظرة "

لكنها أصرت على موقفها بل و همّت بالنهوض...

" هيا رغد فنحن جئنا للعلاج .. "

و خاطبت ُ الطبيب :

" أرجوكم طهروه و اعتنوا به كما يجب "

بصعوبة بالغة سمحت رغد للطبيب فقط بإلقاء نظرة عن كثب على الجرح.. و ما أن رآه حتى قال :

" بحاجة إلى تنظيف جراحي "

قلت قلقا :

" تنظيف جراحي ؟؟ "

" نعم ، في غرفة العمليات الصغرى.. و لابد من أدوية قوية لأن الجرح ملتهب للغاية "

الخوف تملكني أنا ربما أكثر من رغد المذعورة بين يدي...
رغد .. جرح .. التهاب.. عملية .. أدوية .. ؟؟
ألطف يا رب.. ألطف يا رب..


قلت :

" ماذا علينا فعله ؟؟ "

" ننقلها إلى غرفة العمليات الصغرى الآن ، و تحت المخدر الموضعي يقوم الجراح بتنظيف الجرح و تعقيمه.. "


نظرت إلى رغد .. و الذعر المخيم على وجهها .. و الرفض الصارخ من عينيها.. فقلت :

" رغد "

و لم أتم ، إذ أنها هتفت فجأة مقاطعة :

" لا "


واجهت وقتا عصيبا مع هذه الفتاة حتى وصلنا إلى غرفة العمليات المعنية ، و خرقت القوانين بدخولي رغم عدم السماح بذلك..

أنى لي أن أترك صغيرتي وحدها هكذا !؟ مستحيل

و رغم المخدر الموضعي الذي حقنت به ، إلا أنها تألمت بشدة و صرخت بعنف و هي تستنجد :

" وليد.. وليد .. "

كانت تمسك بي بقوة، تغرس أظافرها في ذراعي.. و كلّما لُمِست قدمها ، صرخت و أو عضت على أسنانها ..

و كلما فعلت ذلك صرخت أنا بهم :

" على مهلكم إنها تتألم .. أي مخدّر هذا ؟؟ "

أنظر إليها و أهدىء و أشجع ، و أنظر إليهم و أصرخ و أعنّف .. و أنظر إلى نفسي فأرى النار تكاد تندلع من أعصابي و تشب في جسدي من صراخ رغد...

كم تمنيت.. لو أن الجرح كان في قدمي أنا.. في قدمي ّ الاثنتين .. في كل جسدي .. يقطعني و يحرقني و يكويني .. و لا أن يصيب خدش واحد حتى أحد أظافر قدمها..

كم كنت قاسيا يوم جعلتها تركض حافية القدمين و عرضتها لكل هذا...

أما كان باستطاعتي حملها طوال المشوار ؟؟ أأعجز عن رفع صغيرتي عن أذى الأرض.. و هي التي تربت متعلقة بعنقي ؟؟

ما ينفعني الندم الآن .. و قد سمحت للآه بالانطلاق من صدر فتاتي .. و للدموع بالانسكاب من محجريها .. و للألم باعتصار قدمها و تعذيبها كل هذا الوقت..
يا رغد..
إنك إن تصرخين مرة تصرخ شرايين قلبي ألف مرّة ... و إن تبكين دمعة يبكي قلبي بحرا من الدم ... و إن تتلوين ألما فإن أحشائي في داخلي تتمزق إربا إربا ..
و إن تغرسين أظافرك في بدني فأنا مغروس في حبك بعمق طبقات الأرض كلها...


في نهاية الأمر اضطر الطبيب لحقنها بمخدر منوم... ثوان ٍ و إذا بي أشعر بأظافرها تخرج من جسدي.. و قبضتها تخف الضغط علي .. و عضلاتها ترتخي .. و شيئا فشيئا تسقط يديها على جانبيها و يترنح رأسها للأسفل ...

فزعت، رفعت رأسها و ناديت :

" رغد ؟؟ "

لكنها كانت غائبة عن الوعي..

التفت إلى الطبيب الجرّاح و الممرضات و قلت :

" ماذا حدث لها ؟؟ "

قال إحداهن :

" نامت تحت تأثير المخدّر "

لم أشعر بالطمأنينة ، قلت موجها كلامي إلى الطبيب :

" أهي بخير يا دكتور ؟؟ "

قال :

" نعم ، إنه مجرد مخدّر .. ستنام لساعة أو أكثر...

أسندت رأس صغيرتي إلى الوسادة.. و تأملت وجهها ببقايا من القلق.. كانت هناك دمعتان معلقتان على خديها .. آخر السيل ... و ببساطة ...مددت يدي و مسحتهما ...

بعد ذلك ظللت أراقب الطبيب و من معه و هم يعقمون الجرح ... و حالما فرغوا قال الجرّاح :

" أنصح بنقلها إلى مستشفى حيث يتم إدخالها و إعطائها الجرعات اللازمة من الأدوية الضرورية لفترة من الزمن "

ذهلت و تملكني الهلع ، فقلت :

" لم يا دكتور ؟ ما بها ؟؟ "

قال :

" الجرح ملتهب بشكل سيء .. نحن نظفناه و عقمناه جيدا و حقناها بمضادات السموم و لكنها بحاجة إلى أدوية أخرى لإتمام العلاج "

زاد قلقي

" هل هناك خطر عليها ؟ أخبرني رجاء ؟ "

" الخشية من أن ينتشر الالتهاب أعمق من ذلك . جرح عميق .. قدم حافية .. شارع طويل .. خطورة أكبر "


فيما بعد ، نقلت رغد إلى غرفة للملاحظة.. فإضافة إلى جرحها الملتهب ، هي مصابة بجفاف و انخفاض في سكر الدم ..

كانت غرفة صغيرة حاوية سريرين تفصل بينهما ستارة قماشية

لم تحس رغد بالدنيا من حولها مذ حقنت بالمخدر.. وضعناها على السرير و استبدلت الممرضة قارورة السائل الوريدي الفارغة بقارورة أخرى أكبر حجما.. ثم انصرف الجميع تاركينها نائمة و أنا جالس على مقعد إلى جوارها...

كانت هادئة جدا.. و غارقة في النوم لأبعد الحدود.. كطفل بريء..

رؤيتها هكذا قلبت في رأسي ذكريات الماضي...

كم و كم من المرات... كنت أتسلل خلسة إلى غرفة طفلتي ألقي عليها نظرة و هي نائمة بسلام... و أحيانا أجلس بقربها .. و أداعب خصلات شعرها الأمس...
و في أحيان أخرى.. كنت أطبع قبلة خفيفة على جبينها و أهمس في أذنها :

" أحلاما سعيدة صغيرتي "

لم أحتمل ألم هذه الذكرى ...

انطلقت دموعي رغما عني .. شاقة طريقها النهائي إلى الموت.. لو كان الزمان يعود للوراء تسع سنين فقط.. تسع سنين فقط.. لكنت اقتربت من صغيرتي أكثر.. و أخذتها بين ذراعي .. و ضممتها إلى صدري بقوة .. بقوة.. أواسيها .. أشجعها.. أشعرها بالأمان و الطمأنينة.. و الحنان و الحب.. بالدفء و الحرارة..

آه لو يرجع الزمان للوراء ...

آه لو يرجع ...




و فيما أنا أبكي في نوبة الذكرى الجنونية هذه ، طرق الباب ثم أقبلت إحدى الممرضات تقول :

" معذرة هل اسمك السيد وليد شاكر ؟؟ "

مسحت دموعي بسرعة و هببت واقفا مجيبا :

" نعم "

قالت و هي تنظر إلى بشيء من الاستغراب :

" هناك رجل عجوز يسأل عنك في الخارج "

و تذكرت لحظتها إلياس و اتفاقي معه !



خرجت معها فرأيت العم إلياس يقف عند الممر .. ما أن رآني حتى بادر بسؤالي عن حال قريبتي ..

" الحمد لله.. ستتحسن "

قال :

" هل تحتاج للبقاء هنا ؟ "

" أنا آسف لأنني عطّلت مشاغلك يا عمي ، إنها تتلقى سائلا وريديا الآن.. و قد يطول هذا لساعة أو ربما أكثر ... "

قال :

" لا بأس عليكم . أ هناك ما تود مني فعله يا بني ؟؟ "

" شكرا لك عمّاه ، فعلت الكثير .. أرجوك انه ِ مشاغلك و أنا سأبقى معها لحين تحسنها.. سأستقل سيارة أجرة أو أتصل بكم حين فراغنا "


و على هذا افترقنا . عمدت إلى هاتف وجدته أمامي فاتصلت بمنزل نديم و اطمأننت على دانة، و التي كما أُخبِرت ُ كانت لا تزال نائمة !

عدت من ثم إلى صغيرتي فوجدتها كما تركتها ، نائمة كالملاك... غير أنها رفعت ذراعها فوق الوسادة ، في وضع اعتقدت أنه يعيق جريان السائل الوريدي إلى عروقها..

لذا اقتربت منها و ببطء و هدوء و حذر شديد حرّكت يدها و مددت ذراعها إلى جنبها ..

في هذه اللحظة فتحت رغد عينها نصف فتحة .. فوقعت ُ في أمري و تسارعت ضربات قلبي فجأة... دافعة الدماء إلى وجهي بعنف و غزارة !
تركت ُ يدها تنزلق من بين أصابعي خجلا ..

رغد قالت بصوت خفيف غير طبيعي :

" وليد.. أنت لم تُضِع الميدالية أليس كذلك ؟؟ "

اضطربت .. و لم استوعب ما قالت ...

قلت :

" ماذا ؟ "

لكن رغد أغمضت عينيها و بدت غارقة في النوم !

" رغد ..؟؟ "

لم تجبني .. ما جعلني استنتج أنها ربما كانت تحلم .. و أنها لم تكن واعية .. و أنها لن تتذكر هذا !

الحمد لله !

ضبطت البطانية لتشمل ذراعها تحتها .. و عدت إلى مقعدي المجاور ..

مرت الدقيقة بعد الأخرى.. شعرت بالإعياء و عاودتني الأوجاع الجسدية التي تجاهلتها منذ نهوضي على صوت رغد هذا الصباح .. و غزاني النعاس...
و النوم سلطان على من لا سلطان عليه !






~ ~~~~~~~




كأنني أحلّق في عالم جميل... أطير فوق السحاب.. في قمة الراحة و الاسترخاء.. لا ألم .. لا ضيق .. لا شيء سوى شعور بالدغدغة في داخلي !

فتحت عيني لأرى الجنة التي أحس بنفسي أنعم فيها.. فرأيت جنة مختلفة لا تتفق و الشعور الجميل الذي أحسه ..

أنام على سرير أبيض الألحفة.. تحيط بي الستائر البيضاء.. و تتدلى قارورة ما من أعلى عمود ما.. موصولة بأنبوب طويل ينتهي طرفه الثاني داخل وريدي !

جلست بسرعة أتلفت من حولي.. إنني في المستشفى راقدة على سرير المرض !

متى وصلت إلى هنا ؟؟ كيف وصلت إلى هنا؟؟

أين وليد ؟؟

أصابني الروع ، دفعت باللحاف بعيدا عني و قفزت من على السرير .. و طأت الأرض مرتكزة على قدمي المصابة ، فشعرت ببعض الألم ..

سحبت ذلك العمود الحديدي ذا العجلات معي و سرت خطوة و أنا حافية ، و فتحت الستارة.. كنت أتوقع رؤية وليد خلفها.. لكنه لم يكن هناك

تزايدت خفقات قلبي و تزاحمت أنفاسي و هي تعبر مجرى هوائي...

توجهت إلى الباب مسرعة ، أعرج بشدة.. و فتحته باندفاع.. و صار مشرعا أمامي كاشفا ما خلفه .. ممر .. غرف.. انعطافات.. أناس يمشون إلى اليمين ، و أناس إلى الشمال.. و ممرضة تقف في الجوار.. تنظر إلي.. و تتحدث إلى طبيب ما .. آخرون يقفون على مبعدة.. أناس كثر..كثر.. إلا أن وليد ليس من بينهم..

كدت أنهار.. كدت أصرخ.. كدت أهتف.. لكن الشهقة التي انحشرت داخل صدري حُبست عن الخروج..

الممرضة و الطبيب الآن يقتربان نحوي.. أنا أتراجع.. داخل الغرفة.. يصلان عند الباب و يوشكان على الدخول .. تبتسم الممرضة و تقول :

" هل أنت أفضل حالا الآن ؟؟ "

يسأل الطبيب :

" كيف تشعرين ؟ "

أنا أنظر إليهما بذعر .. يداي ترتعشان.. و رجلاي أيضا.. أفقد توازني و أقع أرضا ... و ينشد الأنبوب الموصل بوريدي خارجا من يدي.. و يترنح في الهواء راشا السائل من حولي ..

الممرضة تنحني مادة يدها إلي..

أنا أصدها و أصرخ :

" ابتعدا عني "

يتبادلان النظرات .. ثم يقولان معا :

" أ أنت بخير ؟ "

أنا أصرخ مستغيثة :

" وليد .. وليد "

يتبادلان النظرات ، ثم تقول الممرضة و هي تشير بيدها نحو الستارة :

" قريبك ِ هناك ! "

التفت نحو ما أشارت إليه ، السرير الثاني في الغرفة و شبه المحجوب بالستارة..

أنظر إليها، ثم أحاول النهوض و جسدي ترتجف..

تحاول هي مساعدتي فأصرخ :

" لا "

أهب واقفة قافزة نحو الستارة .. أمسك بها و أفتحها باندفاع.. فتقع عيناي على وليد نائما فوق السرير... !

" وليد ! "

اقتربت منه أكثر و أكثر... و هتفت :

" وليد .. "

وليد لم يفق ، أمسكت بكتفه و هززته و أنا أناديه لأوقظه ...

وليد أحس أخيرا ، و فتح عينيه و نظر إلي...

الذعر كان محفورا على وجهي مما جعل وليد يجلس بسرعة متوترا و يقول باضطراب :

" صغيرتي ماذا جرى ؟ "

بجنون التصقت بذراعه و أنا أرتجف خوفا.. كنت خائفة حد الموت..

صرخت بوجهه :

" لماذا تركتني وحيدي ؟ "

و قفزت دموعي من عيني..

" لماذا وليد ؟ إنهم يريدون إيذائي .. لماذا تتركني وحدي ؟ "


وليد أمسك بيدي و حاول تهدئتي :

" بسم الله الرحمن الرحيم ، صغيرتي أنا هنا معك "

نظرت إليه وسط الدمع و صرخت :

" لماذا تركتني وحدي ؟ "

" أنا هنا رغد.. معك ! غلبني النعاس فنمت على هذا السرير.. لا تفزعي أرجوك "

قلت ُ مجهشة باكية :

" أنا أخاف من البقاء وحيدة.. متى تدرك ذلك؟ لماذا تبتعد عني ؟ أتريد أن تقتلني ؟ "

وليد جعلني أجلس على السرير .. و وقف هو أمامي يردد عبارات الأسف و التهدئة و الطمأنة ... كل هذا و الطبيب و الممرضة لا يزالان واقفين مندهشين في مكانيهما..

بعدما سكنت روحي من روعها و استرددت طمأنة نفسي .. سألني وليد :

" أتشعرين بتحسن ؟ "

" نعم "

وليد نظر إلى الساعة المعلقة على الحائط المقابل ، و كانت تشير إلى الحادية عشرة و النصف ..

ثم وجه خطابه إلى الطبيب قائلا :

" أيمكننا الانصراف الآن ؟ "

قال الطبيب:

" نعم ، سأكتب للمريضة وصفة أدوية ، إلا أنني أفضل نقلها للمستشفى "

وليد نظر إلي.. ثم إلى الطبيب و قال :

" لا يمكننا ذلك"

" أحضرها لتطهير الجرح يوميا إذن "


ثم غادرنا المكان..

في الواقع ، لم يكن يفصل بين السريرين في تلك الغرفة سوى ستارة مشتركة ، و بضع أقدام ...


عدنا إلى منزل صديق وليد في نفس السيارة التي قدمنا فيها..

العجوز أوصلنا و غادر...



حين دخلنا إلى هناك ، و على نفس المقاعد التي كنا نجلس عليها البارحة رأيت دانة جالسة مع السيدة الصغرى ، بينما الأخرى تستقبلنا و ترحب بعودتنا..

وقفت دانة و الفتاة لدى رؤيتنا..

دانة كانت ترتدي عباءة أشبه بالعباءة التي أجرها حول قدمي ّ !

قالت السيدة الكبرى :

" تفضلا رجاءا "

أقبلنا نحو المقاعد و تبادلنا التحيات، ثم تقدمت دانة مني و هي تقول بقلق :

" أأنت بخير ؟ "

قلت بهدوء :

" نعم "

لقد كان القلق الشديد ظاهرا على وجهها.. و هذا ما أدهشني ، فهي المرة الأولى التي أشعر فيها بقلق دانة علي !

تحدثت الفتاة الآن قائلة :

" سلامتك يا رغد "

ألقيت عليها نظرة حاوية لشيء من الاستغراب... فابتسمت هي و قالت :

" اسمك ِ جميل "

تأملتها بعمق.. و حدّثت نفسي ...

( بل أنت الجميلة ! ما أشد جمال هذه الفتاة !)

قلت :

" شكرا لك.. "

قال وليد مؤكدا :

" شكرا لكم جميعا "

قالت السيدة الأخرى :

" لا شكر على واجب أيها الأعزة ، تفضلوا جميعا بالجلوس "

و جلست قرب دانة.. و التي قالت مخاطبة وليد :

" اتصلت بوالدي ّ و بسامر و نوّار قبل قليل ، الجميع بخير.. لن يُسمح لأبوي ّ بدخول البلاد لحين من الزمن "

وليد قال بارتياح :

" هذا أفضل، ليبقيا بعيدا آمنين .. "

و كان والداي و جميع المسافرين قد منعوا من دخول البلدة و ألغيت جميع الرحلات القادمة إليها..

أضافت دانة :

" لكن سامر في طريقه إلينا "

توتر وليد و قال :

" مجنون .. أمرته بأن يلزم مكانه لحين استقرار الأمور.. لماذا يعرّض نفسه للخطر الآن ؟؟ "

قالت دانة :

" فليحفظه الله ... يا رب "

حل الصمت علينا برهة ، ثم قالت السيدة الكبرى :

" سيكون كل شيء بخير إن شاء الله "

ثم التفتت إلى الفتاة و قالت :

" أعدي المائدة الآن بنيتي و استدعي خالك "

وقفت الفتاة و هي تقول :

" في الحال أمي "

و همّت بالذهاب ...

وليد قال :

" اعتقد أن العم إلياس قد ذهب إلى المسجد، فهذا ما قاله و نحن في طريقنا إلى هنا "

قالت السيدة :

" هل تحب أن تنتظره أم .. ؟ "

قال وليد :

" نعم ، في الواقع سأذهب لأصلي أنا أيضا "

قلت بسرعة :

" وليد ؟؟ "

أتم جملته :

" في الغرفة .. "

وقف وليد ، فوقفت معه.. و وقف دانة و السيدة أيضا..

ثم نطق بعبارات الشكر و الاستئذان و هم بالانصراف..

قال الفتاة الجميلة مخاطبة إياي بابتسام :

" لقد وضعت بعض الملابس في الخزانة لأجلك "

و التفتت إلى وليد بنفس الابتسام و قالت :

" خالي أيضا ترك بعضها لك يا سيد وليد "

وليد قال :

" نحن ممتنون لكم .. شكرا آنسة أروى "

ثم التفت إلينا أنا و دانة قائلا :

" أتأتيان ؟ "

دانة تحركت مباشرة و سارت نحو وليد الذي سار بدوره نحو الباب.. أما أنا فبقيت محدّقة في الفتاة الحسناء برهة !

( أروى ) ؟؟

أروى ...

ألم أسمع بهذا الاسم على لسان وليد قبل أيام !؟

بلى سمعته...

إنها الفتاة التي اتصل هاتفيا ليبارك لها ليلة العيد !

إذن .. فـ ( أروى ) تلك ليست طفلة كما ظننت.. ! إنها فتاة راشدة تكبرني سنا..

فتاة أقل ما يمكن أن أصفها به هو أنها ... فاتنة الجمال !
 
الحلقةالسابعةوالعشرون
***********





جالس على السرير الوحيد في تلك الغرفة الصغيرة، بعدما فرغت من استحمامي و صلاتي ، أمسك بيدي محفظتي و أعد نقودي..

ليس لدي سوى مبلغ ضئيل لا يكفي لتوفير مأوى آخر أو طعام لنا و لفترة لا يعلم بها إلا الله..

أشعر بخجل شديد من نفسي إذ جئت بعائلتي إلى هنا ، و رغم أن عائلة إلياس هي عائلة طيبة كريمة لأبعد الحدود إلا أن وجودنا لا يجب أن يطول..

علي التصرف بشكل من الأشكال...

دانة واقفة أمام المرآة ، ثم تلتفت إلي و تراقبني دون أن اهتم لها ، ثم تسألني بقلق :

" ماذا سنفعل ؟؟ "

أفكر بعمق، و بصمت .. و في عجز عن إيجاد حل مناسب.. فقد احترق بيتنا بما حوى.. و نحن الآن مشردون و حفاة معدمون..

تكرر دانة سؤالها :

" وليد ماذا سنفعل ؟؟ "

ارفع بصري إليها ، و أرفع حاجبي ّ و أقوّس فمي للأسفل.. ماذا سنفعل ؟؟

رغد كانت في دورة المياه..

اقتربت مني دانة و قالت :

" نوّار و عائلته سيغادرون البلدة "

و صمتت... و ظلت تراقبيني قليلا ثم قالت :

" و يريدون أخذي معهم "

تغيرت تعبيرات وجهي و قلت باضطراب :

" ماذا ؟؟ "

قالت بتردد :

" إنه نوّار... يريد أن .. يبعدني عن البلدة و الخطر .. "

قلت :

" و الزفاف ؟؟ "

تنهّدت دانة و قالت :

" الزفاف ؟؟ احترق مع فستانه ! "

ثم أخذت تبكي...

و يحق لها أن تبكي بمرارة.. و هي العروس التي كانت تعد لزفافها المرتقب بعد أيام فقط..

شعرت بقهر و غيظ في داخلي فوقفت و أحطتها بذراعي ّ محاولا مواساتها..

بعد قليل قالت :

" دعنا نسافر نحن أيضا "

" إلى أين ؟ كيف ؟ الرحلات محظورة "

" سيسافرون للبلدة المجاورة بالسيارة ، ثم يطيرون إلى بلد بعيد و آمن.. دعنا ننضم إليهم وليد "

" كيف يا دانة كيف ؟؟ إننا حتى لا نملك جوازات سفر أو بطاقات شخصية ! لا أنت و لا رغد على الأقل "

و هنا سمعنا صوت المفتاح يدار في باب الحمام .. فأسرعت أنا بالخروج من الغرفة لأدع المجال لرغد للتصرف دون حرج ..

في الخارج صادفت الآنسة أروى مقبلة نحو الغرفة ..

قالت :

" مرحبا "

" مرحبا سيدتي "

" لقد أعددنا المائدة .. هللا استدعيت الفتاتين ؟ "

" شكرا.. "

" و خالي ينتظرك أيضا في المجلس "

" لا نعرف كيف نفيكم حق الشكر ؟ "

" لم عليك تكرير ذلك يا سيد وليد ؟؟ بل نحن من يتوجب علينا شكرك.. لقد قدّمت لنا الكثير من المساعدات طوال عدّة أسابيع ! أنت شخص نبيل الخلق و تستحق التكريم "

شعرت بالخجل من كلماتها و كلامها معي.. خفضت بصري حرجا نحو الأرض .. و حرت .. ماذا علي أن أقول ؟؟

هنا فتح باب الغرفة و ظهرت منه رغد ..

رغد وقفت تنظر إلي برهة في صمت ، ثم تنظر إلى الآنسة أروى بوجه جامد

الآنسة أروى ابتسمت و قالت :

" كيف حالك ألان يا رغد ؟؟ "

و لم يبد أن الصغيرة عازمة على الإجابة !

لكنها قالت أخيرا :

" بخير "

قالت أروى :

" المائدة جاهزة... أين أختك ؟ "

قالت رغد :

" دانة أخت وليد.. ابن عمي "

و لم أجد الرد مناسبا للسؤال ! قالت أروى :

" نعم أعرف ! و لكنها كانت تتحدث عنك بوصف أختي ! "

ظهرت دانة الآن من خلف رغد .. فحيتها أروى و كررت دعوتنا إلى المائدة..

ذهبنا إلى المنزل ، أنا و العم إلياس في المجلس ، و النسوة في غرفة المائدة ، و تناولنا وجبة شهية مغذية بعد طول الجوع و العطش ..

بعد ذلك تحدثت و إلياس ساردا ما حصل لنا بشيء من التفصيل.. فأبدى تعاطفه الشديد و رحّب ببقائنا في ضيافته إلى أن نجد حلا آخر.. و أنا وعدته بأن أبدأ العمل في المزرعة منذ اليوم ...
و رغم اعتراضه ، إلا أنني أصررت على ذلك و نفذته

كان ذلك بعد الغذاء بثلاث ساعات.. تركت الفتاتين نائمتين في الغرفة ، تعوّضان حرمانهما السابق من النوم ، و خرجت إلى ساحة المزرعة و باشرت العمل...

كانت هناك شتلات شجيرات صغيرة جديدة مطلوب غرسها في الأرض.. و توليت أنا هذه المهمة .. أحفر الأرض ، و أغرس الشجيرات ، و أسوي التراب ...

العم إلياس و كذلك أروى كانا أيضا يعملان من حولي..

كنت أشعر بالتعب و الإعياء فأنا لم أنل قسطي الوافي من النوم و الراحة بعد ، إلا أنني لم أطق تأجيل العمل إلى الغد..

أروى كانت تساعدني .. و تتحدث معي من حين لآخر..

إنها فتاة جريئة بالفعل !

فيما أنا جاث ٍ على الأرض أغرس إحدى الشجيرات و أهيل عليها التراب.. و أروى واقفة قربي و ممسكة بالطرف العلوي لتلك الشجيرة .. سمعتها تقول :

" أهلا رغد ! "

رفعت رأسي إليها فرأيتها تنظر في إتجاه معين ...

التفت إلى ذلك الاتجاه فرأيت رغد واقفة تنظر إلي.. و لم تكن تعبيرات وجهها مريحة... البتة

وقفت ببطء .. و نفضت يدي و ثيابي مما علق بها من التراب .. ثم قلت :

" أهلا صغيرتي .. "

النظرات التي رشقتني بها رغد جعلتني انصهر حرجا .. و أهرب ببصري بعيدا عنها..

كانت مذهولة مصعوقة.. تحدّق بي بدهشة لا تضاهيها دهشة..

آلمتني نظراتها و غرست في صدري ألف خنجر.. لم أجرؤ على إعادة بصري إليها من جديد ...

سألت بدهشة :

" وليد.. ماذا تفعل ؟؟ "

ماذا أفعل ؟؟ ماذا أفعل يا رغد؟؟

ألا ترين ؟؟

أزرع الأرض.. ألوث يدي و ملابسي و جسدي بالأتربة و السماد.. و الوحل أيضا..

نعم .. أجثو على الأرض ضئيلا منخفضا وضيع الشأن.. بسيط الحال .. عوضا عن علو السماء و المركز و المنصب ..

احتقرت نفسي لحظتها أيما احتقار..

و تمنيت لو أنني دفنت نفسي عوضا عن الأشجار..

ماذا تظنين يا رغد ؟؟

أنني أصبحت شخصا مرموقا عالي الشأن ؟ هذه هي حقيقتي .. مجرد مزارع بسيط يعمل بجد فقط من أجل وجبة طعام و مأوى ...


" وليد .. ماذا تفعل ؟؟ "

أجبرت ُ عيني على النظر إليها ، فهالني ما رأيت على وجهها ...

أرجوك كفى يا رغد.. أنت تذبحينني .. كفى ... كفى ...

اعترفت بخجل :

" أفلح الأرض .. فهذا هو عملي منذ زمن "

و لن أصف لكم كيف تحوّل وجه رغد إلى غابة ذهول مخيفة ...

من منكم جرّب هذا ؟؟ دعوه يصف لكم إذن ما أعجز أنا عن التعبير عنه ...

رغد تراجعت للوراء .. ربما لتبتعد عن صفعة الواقع الذي تكتشفه للمرة الأولى..

سارت إلى الوراء بعرج.. و عيناها المفتوحتان أوسعهما لا تزالان ترميان سهام الذبح نحو جسدي... من أعلاه إلى أسفله...

و فيما هي تسير إلى الوراء بهذا الذهول و أنا ساكن في مكاني ، رأيت العم إلياس يقبل من ناحيتها و يشير إلي ّ بيده مخاطبا الرجل الذي معه :

" هذا هو شقيقك ! "






~ ~ ~ ~ ~ ~





لدى سماعي صوت الرجل العجوز قادما من خلفي ، التفت إلى الوراء بسرعة ، فرأيت سامر يقف أمام عيني ...

شهقت :

" سامر ! "

قال :

" رغد ! "

و أسرع نحوي و جذبني إلى صدره بقوة و عانقني بحرارة شديدة ... جدا !

" أوه رغد يا حبيبتي... لا أصدق عيني .. الحمد لله .. الحمد لله .. أنت حية ؟؟ شكرا لك يا رب .. شكرا لك يا رب "

و صار يبكي و أنا أبكي معه ..

و أخذ يقبّل يدي ّ و جبيني بلهفة .. لم أعهدها عليه من ذي قبل ..

" لقد نجونا يا سامر ! كدنا نموت لكننا نجونا بأعجوبة ! "

أقول ذلك و أتذكر ما مررنا به ، فأدفن رأسي في صدره و أغلق حصار ذراعي حول جدعه...

بعدما فرغ من نوبة الشوق هذه ، التفت إلى وليد ...

" وليد .. "

أقبل وليد إليه و فتح كل منهما ذراعيه للآخر و تعانقا بحمية ...

سامر بملابسه الأنيقة و هندامه المرتب النظيف ، و وليد بلباسه الملوث و يديه المتسختين بحبيبات الرمال ...

الناظر إليهما يجد فرقا كبيرا ...

و أنا وجدت ذلك الفرق أيضا ...

كان لقاء دانة بسامر دراميا ...

دانة تحب سامر أكثر من وليد.. السبب في ذلك أن وليد غاب عنا لسنين.. سنين لا أعرف أين كان فيها و لا ما عمل ؟؟

إذا كانت الحقيقة التي أراها أمام عيني .. هي حقيقة رجل يعمل في فلاحة الأرض !

بعد فترة ، كنا نحن الأربعة في تلك الغرفة...

وليد لم يتحدّث إلي بل لم ينظر إلي مذ رأيته يغرس الشجرة قبل ساعات... و أنا بدوري تحاشيته .. و ركزت اهتمامي على سامر و ما يقوله ..

" سنذهب إلى شقتي ، سأستأجر شقة أكبر حجما تسعنا و والدي ّ جميعا "

كانت هذه فكرته ، و دانة رحبت بها بشدة :

" إذن هيا بنا الآن "

قالت ذلك ، إلا أن وليد قال :

" اصبروا قليلا .. إنه المساء و لا يصلح للسفر.. كما أن المسافة ليست قصيرة و لابد أنك متعب ألآن يا سامر "

قال سامر :

" مطلقا ، رؤيتكم أزالت عني أي أثر للتعب ... "

ثم نظر نحوي و قال :

" ألف حمد لله على نجاتكم أيها الأحبة "

قال وليد مؤكدا :

" كما أن الطريق غير آمن.. و لم يكن يجدر بك الحضور يا سامر و تعريض نفسك للخطر "

قال سامر :

" و هل تعتقد أنه كان باستطاعتي البقاء هكذا ؟؟ "

قال وليد :

" على كل ٍ .. سنبقى هنا الليلة "

قال سامر ، بعدما جال ببصره في أنحاء الغرفة بشيء من الإستهانة و أشار إلى الأرض :

" هنا ؟؟ "

قال وليد :

" معذرة فأنا لم أملك من النقود ما يكفي لاستئجار شقة "

قال سامر بثقة :

" لا تقلق بهذا الشأن.. "

قالت دانة :

" إذن لم لا نعجّل الخروج ؟ هيا سامر دعنا نبحث عن شقة مناسبة "

جميعنا ننظر إلى وليد و الذي يُظهر استياء ً في غير محله !

أليس من الطبيعي أن نغادر هذا المكان شاكرين للعائلة كرم ضيافتهم ؟؟

قال وليد أخيرا :

" كما تشاءون "

و من ثم ّ غادر الغرفة ...

أخذنا نحن الثلاثة نتحدّث عما مررنا به .. و عما نحن مقبلون عليه.. في الحقيقة ، التزمت أنا جانب الصمت و الاستماع معظم الوقت... فتفكيري كان قد خرج مع وليد لحظة خروجه..

رؤيته بالشكل الذي رأيته عليه صدمتني كثيرا ...

وليد .. ذلك العملاق الضخم .. الذي أرفع رأسي عاليا إذا نظرت إليه.. الذي أشعر به سمائي .. و نجمتي.. و شمسي .. و جبلي أيضا.. أراه جاثيا على التراب يحفر الأرض.. و يغرس الشجر.. و يلوث يديه بالطين !؟

وليد ؟؟

لطالما كنت أراه عظيما عاليا.. شيئا معلقا في السماء..

أما أن تغوص يداه في الأرض.. فهذا أشبه بالكابوس الذي مررت به يوم القصف..


فيما نحن كذلك رن هاتف سامر المحمول ، فتحدث إلى الطرف الآخر .. و من حديثه معه استنتجت أنه صديق وليد ( سيف )

أراد سامر أخذ الهاتف إلى وليد، فلما غادر الغرفة غادرت من بعده..

كان الظلام قد حل .. و ما أن فتحنا الباب حتى تدفقت أنسام عطرة منعشة قادمة من بين الأشجار و الزهور الفواحة ..

لحظتها فقط التفت إلى جمال المكان الذي كنا فيه ...
تماما كجمال أصحابه ... شكلا على الأقل !

في الخارج ، في الساحة الواسعة أمام المنزل ، رأينا أفراد العائلة المضيفة يجلسون جميعا على بساط أرضي ، و وليد معهم ...

الإنارة كانت خفيفة صفراء منبعثة من مصباح المنزل الخارجي..

كان الرجل العجوز يجلس إلى جانب وليد و يمسك في يده سلة سعفية نصف مكتملة الصنع ، و يظهر أنه يشرح له كيف يصنع مثلها..

و إلى الجانب الآخر من وليد تجلس أروى الحسناء .. تصنع سلة أخرى هي بدورها.. و تلقي بالملاحظات على الاثنين ، أما أم أروى فكانت منشغلة بتكسير بعض الثمار الصلبة ، و استخراج بذورها..

تنحنح سامر فالتفتوا نحونا.. وقف وليد و أقبل إلينا.. مد سامر الهاتف نحوه و قال :

" صديقك الحميم يود الاطمئنان عليك "

" سيف ؟ "

" نعم ! اتصل عدة مرات ... "

أخذ وليد الهاتف و تحدث معه محادثة استمرت عدة دقائق ..

و حالما انتهى و أعاد الهاتف إلي سامر قال الأخير :

" فلنذهب الآن يا وليد ... "


وليد التفت ناحية العائلة و قال :

" سأشكرهم و أودعهم ... "

نحن الثلاثة أقبلنا إليهم فوقفوا... و بدأ وليد يكرر عبارات الشكر و الامتنان ، و هم يعبرون عن سرورهم باستضافتنا بل و يصرون على بقائنا بعد..

قالت أروى :

" إذن لن تبقى معنا ؟؟ أ لن تعود إلينا ؟ "

و كان ظاهرا على وجهها الأسف...

وليد قال :

" بلى.. سأعود حالما اطمئن على سير الأمور كما يجب.. "

ثم أضاف :

" أنتم عائلتي و هنا عملي "

أروى ابتسمت بسرور... أما أنا فشعرت بغصة في حلقي ...

قالت :

" مكانك محجوز لك و غرفتك جاهزة فأهلا بك في أي وقت "

شكرها وليد .. ثم استدار نحونا و قال :

" أ ننطلق ؟ "

قال أروى :

" لحظة "

و ذهبت إلى المنزل و عادت تحمل كيسا قدمته إلى وليد و قالت :

" ملابسكم .. نظيفة و مطوية "

فتناول وليد الكيس من يدها و كرر شكرها ..

كل هذا أمام عيني .. و يشعرني بالغضب !

واضح أنها معتادة على وليد و تخاطبه و كأنه أحد أقاربها ، لا رجلا غريبا...

لا يعجبني ذلك أبدا ...

بعد وداع العائلة ، ذهبنا إلى شقة قريبة قضينا فيها ليلتنا تلك ، و من الصباح الباكر غادرنا المدينة متجهين إلى مقر سامر...

طول تلك الفترة و أنا في حالة من الذهول... لم استفق منها بعد..

و وليد لم يكن يكلمني.. بل أنه كان يتحاشاني عن عمد.. و كأن شيئا لم يكن...

استأجر سامر شقة متوسطة الحجم في نفس المبنى الذي كان يقطنه .. شقة جمعتنا نحن الأربعة تحت سقف واحد ..

والداي كانا يتصلان مرة أو مرتين في اليوم بنا ليطمئنا على أحوالنا، و الحظر عن دخول المسافرين الى البلد استمر عدة أسابيع...

شفي الجرح الذي في قدمي شيئا فشيئا.. و قد كان سامر يصطحبني كل يوم إلى المستشفى من أجل تطهيره..

كنت على اتصال مستمر بعائلة خالتي ، و التي بقيت في المدينة تعيش على ما تبقى من حطامها..

في أحد الأيام ، جاءنا نوّار خطيب دانة، يطلب أخذ دانة معه إلى الخارج.. حيث سيستقر هو و عائلته عدة أشهر إلى أن تهدأ الأوضاع ..

نوار كان قد تحدّث بهذا الشأن إلى والدي و الذي يبدو أنه أيد الفكرة من باب إبعاد دانة عن البلدة .. كما أيدها سامر و تحمّست لها دانة كثيرا ، إلا أن وليد كان معارضا

" كيف يا دانة ؟ دون زفاف ؟ دون عرس ؟؟ دون وجود والدي ّ ؟؟ "

" و هل تعتقد أنني سأعيد شراء كل ما احترق من جديد ؟ دعونا نقيم حفلة بسيطة خاصة بنا.. أنا أريد أن أغادر هذه البلدة و التعاسة المخيمة عليها "

" و والداي ؟؟ "

" إنهما يؤيدان الفكرة .. و سوف نذهب إليهما أولا ثم نغادر "

" كلا.. سننتظر حتى يسمح لهما بالعودة ، ثم نقيم حفلة عرس متواضعة.. لن ننقص من قدرك أمام ذلك المغرور "

حينما قال وليد ذلك، اغتاظت دانة و قالت بحدة :

" من هو المغرور ؟ "

لزم وليد الصمت ، فقالت :

" لا أسمح لك بإهانة خطيبي ! أي قدْر هذا الذي تتحدّث عنه ؟؟ أ بعْد حطّتي في القدر باكتشاف حقيقة مخجلة مخزية عنك ، تجرؤ على الحديث عن القدر ! "

نشبت مشاحنة حادة بين الاثنين ، و أنا و سامر نتفرج بصمت..

قال وليد في معرضها :

" لن تفعلي ما يحلو لك .. و أنا المسؤول عنك في غياب والدي شئت أم أبيت "

دانة ردت بحدّة :

" و من قال أنني أنتظر الإذن منك أو أتشرف بمسؤوليتك هذه ؟؟سأسافر مع نوار يعني سأسافر معه.. و أنت عد من حيث أتيت فذلك أنسب لحالك و مثلك "

وليد رفع يده و كاد يصفعها ، إلا أنه توقف في منتصف الطريق.. و كتم غيظه..

لم أتمالك أنا نفسي ، فقلت غاضبة :

" ألا تحترمين شقيقك الأكبر ؟ ! "

قالت :

" اخرسي أنت..إنه شخص لا يستحق الاحترام "

جميعنا ننظر إلى دانة بغضب .. و هي تدور ببصرها حولنا ..

سامر نطق أخيرا و قال غاضبا :

" دانة ! يكفي "

" أجدر بك ألا تخشى على مشاعره ! أنسيت ما فعل بك ؟ "

هتف وليد :

" دانة "

صرخت هي :

" اضربني ! أليس هذا ما يتعلمه المجرمون في السجون ؟؟ "

وليد أمسك بكتفي دانة و هزّها بعنف و هو يصرخ :

" يكفي.. إياك و قول المزيد.. أتفهمين ؟؟ إن نطقت بحرف بعد فسأقطع لسانك .. أنا خارج من حياتك فاهنئي بمن تريدين "

و حررها من بين يده و قال مخاطبا سامر :

" افعلوا ما تشاءون .. فأنا لم يعد يهمني من أمركم شيئا "

ثم التفت إلي ففزعت من نظرته المرعبة ... و زمجر هو :

" و هذه أيضا.. تزوجها بالمرة و خلصوني منكم جميعا.. "

و أسرع خارجا من الشقة ...

مرت الساعات و لم يعد.. و انتصف الليل و لم يعد.. قلقت كثيرا عليه.. خرجت من غرفتي في قلق فإذا بي أرى سامر يجلس في الصالة أيضا ...

" ألم تنم ؟ "

" أشعر بالأرق "

" هل عاد وليد ؟ "

" كلا "

" إلى أين ذهب ؟ "

" لا علم لي ... "

" ربما عاد للمزرعة ! "

قلتها و أنا أضع يدي على صدري خوفا من أن تكون حقيقة ...

سامر نهض واقفا .. و اقترب مني و قال :

" ما رأيك بما قال ؟ "

" ما ذا تعني ؟؟ "

أمسك بيدي و قال :

" بأن .. نتزوج نحن أيضا .. "

هنا احتقنت الدماء في وجهي و اضطربت تعبيراته... رأى سامر الرفض على وجهي و قال :

" أرجوك .. رغد .. "

هويت بنظري أرضا ...

لماذا يعود لفتح الموضوع الآن ؟ لماذا يا سامر لا تعتقني ..

سامر رفع وجهي بيديه كلتيهما و قال بصوت شديد الدفء و الحنان :

" كدت أجن .. لما حصل معك ..لا أريد أن تفترقي عني لحظة واحدة .. أحبك ِ بجنون "

أبعدت وجهي عنه و استدرت و أنا أقول :

" كفى .. أرجوك ... "

و انهمرت دموعي ...

حاصرني سامر .. حاولت الفرار إلا أنه لم يدع لي المجال ..

" رغد .. لماذا ؟ بالله عليك أخبريني بصدق .. لماذا ؟ "

أردت أن أعود إلى غرفتي إلا أنه منعني ... كان مصرا على مواجهتي ...
قرع الجرس الآن... لابد أنه وليد...

فتح سامر الباب فإذا به وليد بالفعل...

كان وجهه حزينا كئيبا مهموما.. منظره يثير القلق و الحيرة ..

لم يتكلم.. نظر إلينا قليلا ، ثم ذهب إلى غرفته..

ثوان و إذا به يخرج ثانية ، ممسكا بمحفظته و مفاتيحه..

و سار نحو الباب ..

سامر استوقفه سائلا :

" إلى أين ... وليد ؟ "

استدار وليد إلى سامر و قال بنبرة نامة عن الحزن و الاستسلام :

" إلى المزرعة "

دهشنا و اشرأب عنقانا عجبا ..

قال سامر :

" ماذا ؟؟ "

قال وليد :

" فقد انتهى دوري "

و فتح الباب و همّ بالخروج ...

أسرع سامر إليه و أوقفه :

" وليد ! هل تعني ما تقول ؟؟ إلى المزرعة في هذا الوقت ؟؟ "

استدار إليه و قال :

" نعم ، فهي المكان الذي يناسب أمثالي "

و خرج ...

و رغم نداءات سامر و محاولاته المستميتة لإيقافه إلا أن وليد أبعده ، واستمر في طريقه ...

الجنون أصابني أنا لحظتها... ركضت نحو الباب و صرخت :

" وليد .. لا تذهب "

إلا أن وليد لم يلتفت إلي .. و تظاهر بعدم سماعه لي ..

" وليد ... وليد عد .. "

هتفت و هتفت ، إلا أنه ابتعد... و اختفى عن أنظاري ...

سامر أغلق الباب.. و تنهّد بأسف ...

قلت بعصبية :

" ماذا تنتظر؟ الحق به ! امنعه ! "

إلا أن سامر هزّ رأسه بقلة حيلة ..

تفجرت دموعي و أغرقت وجهي كما الطوفان ، و زمجرت :

" الحق به يا سامر دعه يعود "

" لن يفعل يا رغد.. لن يفعل "

رفعت يدي و أمسكت بذراعي سامر و صحت :

" كيف تتركه يذهب ؟ ماذا إن أصابه مكروه ؟ الحق به سامر أرجوك "

سامر قال بضيق :

" ألم أفعل ؟ لا جدوى من ذلك .. أنا أعرفه "

هززت رأسي باعتراض شديد و صرخت :

" كلا .. كلا كلا ... "

نظر إلي باستغراب ...

قال :

" رغد ! ؟ "

قلت بانفعال :

" سأذهب معه "

ذهل سامر ، و قال :

" ماذا ؟؟ "

صحت :

" سأذهب معه ... لا أريد البقاء هنا .. لا أريد البقاء هنا.. لماذا ذهب و تركني .. لماذا ؟ "

سامر أمسك بذراعي بقوة و بذهول قال و هو يحدّق بي :

" تذهبين معه .. و تتركيني ؟؟ "

ابتلعت لساني و لم أنطق بأي كلمة ... سامر كان يحملق بي بحدة .. نظرات فاحصة مدققة مدركة مستنتجة .. قارئة لما اعترى وجهي من تعبيرات صارخة ...

" رغد ... تتركيني من أجله ؟؟ أليس كذلك ؟؟ "

صعقت .. و توقف قلبي عن الخفقان ... و لم أشعر بالدنيا من حولي سوى عيني سامر اللاسعتين .. و يديه القابضتين علي بعنف ..

قال :

" تكلمي يا رغد ؟؟ أهذا هو السبب ؟؟ "

لم أجبه ..

بدأ يهزني بقوة .. و آلمني كثيرا ...

" رغد تكلّمي ... قولي ما تخفينه .. اعترفي هيا "

" دعني سامر "

لكنه هزني بعنف أقوى و بحدة صاح بوجهي :

" تكلمي يا رغد هيا..ماذا لديك؟ انطقي بسرعة..لماذا قررت ِ التخلص مني؟ قولي هيا؟ "

فقد ت السيطرة على نفسي و صرخت :

" لأنني لا أحبك .. لا أحبك يا سامر .. هل ارتحت الآن ؟ "

سامر دار بي حتى رطمني بالباب .. و هتف صارخا :

" .. وليد ؟؟ "

تفجّرت لحظتها و صرخت بأعلى صوتي مطلقة سراح ما حبسته في صدري عنوة :

" نعم أحبه.. أحبه هو .. أحبه هو .. أحبه هو .. هو .. هو "

بعد هذا الانفجار .. و الذي خرج من صدري دون شعور و إدراك .. و وعي ، وعيت على الواقع بصفعتين قويتين تلقيتهما من كف سامر الثائر..

أفقت فجأة فرأيت نفسي أقف مسنودة إلى الباب .. و دموعي تجري كشلال ضخم.. و سامر يقف أمامي كأسد ثائر ... يكاد يفترسني ...

لم أدرك أنني أفصحت عمّا في قلبي إلا بعد حين ...

توقفت أنفاسي .. في حالة من الذهول مما أنا فيه ...

كالجمرة المتقدة كان وجه سامر محمرا متوهجا .. و كانت يداه توشكان على الانقضاض علي ...

قال :

" لقد كنت ُ أحمقا إذ لم أعر شكوكي اهتماما يومها ... كم كنت ُ غبيا ... لقد كنتِ تحبينه كل ذلك الوقت و تستغفلينني ؟ "

لم أستطع النطق بأي كلمة ..

تابع هو :

" نعم .. فأنت ِ ركضتِ نحوه هو يوم كنا عند الشاطئ.. و تركتني أنا واقفا كالأبله جواره تماما.. "

ثم أطبق علي ّ بيديه و قال :

" لهذا تريدين التخلص مني ؟؟ لن تفعلي هذا بي يا رغد.. لن أسمح لك ِ بهذا أبدا "

و سحبني بعنف .. و سار بي يجرني إلى غرفتي ، و دفع بي بقوة نحو السرير ... فارتطمت به بآهة ...

زمجر :

" لن أسمح لكما بذلك .. أتفهمين ؟؟ أبدا يا رغد "

و خرج من الغرفة و هو يصفع بالباب ...





~ ~ ~ ~ ~ ~





حينما وصلت ُ إلى المزرعة.. كان ذلك قبيل أذان الفجر...

دفعت مبلغا كنتُ أنا الأحوج إليه إلى السائق الذي أوصلني... و أخذتُ أعد ما تبقى لدي من جديد...

لزمت المسجد لحين ارتفاع الشمس في صدر السماء... و ناجيت ُ الله طويلا .. شاكيا له حالي و باثا إليه همومي و سائلا إياه الرحمة و اللطف ...

ذهبت إلى المزرعة بعد ذلك و استقبلني العم الطيب و ابنة أخته استقبالا حافلا ... و علمت ُ منهما أن السيدة ليندا عادت إلى المستشفى من جديد ، في نوبة جديدة ...

كلما تذكرت أنني كنت السبب في المرض التي اعترى قلب هذه السيدة كرهت ُ نفسي أكثر .. و شعرت بمسؤولية أكبر تجاهها و تجاه المزرعة و من فيها...

قمنا بزيارتها مساء ذلك اليوم.. ففرحت هي بزيارتي و طلبت مني مساعدة أخيها و ابنتها في العناية بالمزرعة ..

عملت بجد و اجتهاد في الأيام التي تلت .. و لم أتصل بأهلي إلا اليوم ..

كان العم و أروى قد ذهبا لزيارة السيدة ليندا ، وأنا بقيت في المنزل وحيدا ...
تحدّث سامر إلي و طمأنني على أحوالهم ، و أخبرني أنه و رغد ، كما نوّار و دانة سيحتفلون بزواجهم بعد ليلتين...

أقفلت ُ السماعة ، و حاولت ُ منع رأسي من التفكير في أي شيء...

فبعد اللقاء الحميم الذي جمعهما في المزرعة أول وصوله ، فقدت ُ أي اهتمام يذكر بشأن عرقلة هذا الزواج .. سواء ً كان برضا من رغد أو باضطرار منها..

أنى لها أن تجد الزوج الأنسب ؟؟

و كيف أسمح لنفسي بالتفكير بها .. و ما أنا إلا رجل فقير معدم .. لا يملك مأوى و لا قوتا ؟

و إن عشت ألف سنة بعد ، لن أنسى نظرة الازدراء التي رمتني بها يوم كنا في المزرعة ...

صدقت َ يا سامر

رغد لا تستحق الزواج من مجرم قاتل .. فقير معدم .. وحيد منبوذ مثلي ..

عاد العم و أروى من المستشفى فرأياني شاردا سارحا تائها في أفكاري ...

كما رأيا الدمعة التي هربت من مقلتي ..

رأيت في عينيهما القلق .. و سألاني عما إذا كان شيء ما قد حصل ، فأجبتهما :

" لا شيء "

الفتاة ذهبت إلى المطبخ أما العجوز فعاد يسألني :

" ما بك يا بني ؟ تبدو في غاية الحزن ؟؟ "

قلت :

" و هل ترى في حالي ما يدعو للسرور أيها العم ؟ إنني في أسوأ حال "

" قل الحمد لله يا ولدي.. "

" الحمد لله "

تنهدت ، ثم قلت بمرارة ...

" إلى متى سيظل حالي هكذا ؟؟ لسوف أبحث عن عمل من جديد .. إنني بحاجة للمال .. لتكوين نفسي و بناء مستقبلي "

" ماذا عن .. العمل معنا ؟؟ "

نظرت إلى الرجل العجوز نظرة امتنان و قلت :

" لكن إلى متى ..؟؟ إنني تائه ! بلا بيت و لا أهل ... "

" و نحن ؟؟ "

" أنتم .. عائلتي حتما و لكن .. "

و صمت ...

العم قال :

" و لكن لا يربطنا نسب أو دم .. "

لم أعلّق ، قال :

" مشكلة سهلة الحل "

نظرت إليه بحيرة ...

ابتسم العجوز و قال :

" إن كنت تريد لها هذا الحل "

قلت :

" عفوا ؟؟ "

العم إلياس أمسك بيدي و ظهر الجد على تعبيرات وجهه و قال :

" أزوّجك ابنة أختي ! "

تملّكني الذهول و المفاجأة .. رمقته بنظرة بلهاء غير واعية لحقائق الأمور ..

" ماذا ؟ "

أجاب العم :

" إذا كنت ترى ذلك طبعا ... مثلما نراه نحن .. "

تلك الليلة لم تسمح لي الفكرة هذه بالنوم.. خرجت من غرفتي أحمل علبة سجائري التي اشتريتها مؤخرا... و التي عدت استهلكها بشراهة .. سرت متجولا في المزرعة في تفكير عميق ...

قضيت وقتا في الخارج ، و لما عدت .. لمحت أروى جالسة على عتبات المنزل ...

لما رأتني نهضت واقفة ... و ألقت علي التحية ..

ارتبكت.. و رددت باضطراب ..

قالت و هي تنظر إلى السيجارة في يدي :

" ألم تقلع عن التدخين ؟؟ "

" أأ .. صعب .. "

قالت :

" أنت تضر بصحتك ! لا تستحق هذه التافهة الاهتمام ! "

تنهّدت .. و نظرت إلى السماء ثم قلت :

" لا شيء في حياتي يستحق الاهتمام ... و لا حتى أنا "

" أنت مخطئ ! "

و ندمت على مقولتي هذه !

و رأيت نظرات الاهتمام في عينيها ...

غضضت بصري و قلت :

" بعد إذنك .. سأعود إلى غرفتي "

و خطوت بضع خطوات مبتعدا ، و أنا أحس بها تراقبني ...

التفت للوراء فوجدتها بالفعل تراقبني ... و تبتسم !

لا أعرف من أين استمددت هذه الجرأة و الجنون لأسألها :

" آنسة أروى .. "

" نعم ؟"
 
الحلقةالثامنةوالعشرون
********






" تتزوجيني ؟؟ "

أروى حملقت بي لبرهة ، ثم ابتسمت و نظرت إلى الأرض بخجل !

العرق صار يتصبب مني و ملابسي تحترق من حرارة جسدي.. أما لساني فانعقد تماما !

أي جنون هذا ؟؟

ظللنا واقفين فترة هكذا ، أنا لا أجرؤ على قول شيء و لا الانصراف ، و هي لا ترفع عينيها عن الأرض...

نفحات الهواء الباردة أخذت تصافح جسدي و تطفئ اشتعاله.. و هبّت على الوشاح الذي تلفه أروى حول رأسها فتطايرت أطرافه.. كاشفة عن خصلات ذهبية ملساء انطلقت تتراقص مع النسيم ..

غضضتُ بصري بسرعة ، و استدرت جانبا و قلت :

" أنا آسف "

" لم ؟؟ "

قالتها بتعجب ، فكساني تعجبها تعجبا !

أعدت النظر نحوها فوجدتها واقفة في مكانها و قد ضبطت الوشاح حول رأسها بإحكام...

و لا تزال تبتسم بخجل !

تشجعت حينها و قلت :

" ألا تمانعين من الزواج من رجل مثلي ؟ "

قالت دون أن تنظر إلي :

" مثلك .. يعني ماذا ؟؟ "

قلت :

" فقير.. مشرد.. خريج سجون.. عاطل ! "

قالت :

" لكنك .. رجل نبيل يا وليد "

ثم ألقت علي ّ نظرة خجولة ... و انصرفت مسرعة !

في صباح اليوم التالي ، كنا أنا و العم إلياس ننظم أغصان بعض الأشجار...و كان الموضوع يلعب برأسي منذ الأمس... و كنت أحاول التقاط أي خيط من الكلام لفتحه أمام العجوز ..

و ربما هو لاحظ ارتباكي إلا أنه لم يعلّق..

قلت :

" أليس لديكم أقارب آخرون يا عمي ؟ "

قال :

" هنا ؟ لا يوجد . إنني و أختي كما تعلم من خارج البلدة و لا أهل لنا هنا . نديم رحمه الله كان يقطن المدينة الساحلية هو و عائلته قبل استقراره هنا في هذه المدينة قبل زمن طويل .. و هو الآخر لم يكن لديه أقارب كثر "

و المدينة الساحلية هي مدينتي الأم

قلت :

" و ماذا عنك ؟ ألم يكن لديك زوجة و أبناء ؟ "

قال :

" زوجة رحمها الله. لم أرزق الأبناء بقضاء من الله. الحمد لله "

ثم أضاف :

" لذلك أحب ابنة أختي حبا جما .. و أسأل الله أن يرزقها زوجا صالحا أطمئن إلى تركها معه بعد فنائي "

قلت بسرعة :

" أطال الله في عمرك عمّاه "

قال :

" فقط إلى أن أزوّجها و أرتاح "

و غمز إلي بنظرة ذات معنى !

احمر وجهي خجلا.. فصمت ، أما هو.. فنظر بعيدا مفكرا و قال :

" أنا قلق عليها و على مستقبلها .. إنها فتاة بلا سند.. أريد أن أزوجها بسرعة لرجل جدير بالثقة.. أأتمنه عليها.. "

و نظر نحوي.... يقصدني !

قلت متلعثما :

" أأ أحقا لا تمانع من زواجها من.. من .. "

أتم العم الجملة :

" منك يا وليد ؟ مطلقا.. فأنت رجل خلوق و مهذّب . بارك الله فيك "

قلت مترددا :

" لكنني .. كما تعرف "

قاطعني :

" لا يهم ، فهاهي المزرعة أمامك اعمل بها عملا شريفا نظيفا و إن كان بسيطا.. و إن كنت تود العمل في مكان آخر فاسع يا بني و الله يرزقك "

طمأنني قوله كثيرا .. تماما كما كانت كلمات نديم رحمه الله تبعث في نفسي الطمأنينة في سني السجن ...

قلت أخيرا :

" لكنني.. خرجت من السجن "

قال :

" نديم كان في السجن أيضا ، و لم أر في حياتي من هو أشرف منه و لا أحسن خلقا "

ابتسمت .. للتقدير و الاحترام اللذين يكنهما هذا الرجل لي.. و اللذين رفعا من معنوياتي المحطمة بعد كلمات دانة الجارحة ...

العم ابتسم أيضا و قال و هو يصافح يدي :

" أ نقول على بركة الله ؟؟ "





~ ~ ~ ~ ~ ~




" ماذا عنّي أنا ؟؟ تتركيني وحدي ؟؟ "

سألتُ دانة التي تقف أمام المرآة تجرّب ارتداء فستان السهرة الجديد ، الذي اشترته لارتدائه في الحفلة البسيطة ... يوم الغد

لم تكن تعيريني أي اهتمام.. و خلال الأيام الماضية عوملت معاملة جافة من قبلها و قبل سامر .. بتهمة الخيانة !

" دانة أحدّثك ! ألا تسمعين ؟؟ "

" ماذا تريدين يا رغد ؟ "

" لا أريد البقاء وحدي هنا "

" سامر معك "

قلت باستياء :

" لا أريد البقاء مع سامر بمفردنا "

الآن التفتت إلي و قالت :

" إنه خطيبك .. فإن كنت لا تثقين به فهذه مشكلتك ! "

شعرت بضعف شديد و قلة حيلة .. فوليد ، الشخص الذي كان يقف إلى جانبي و يتولى الدفاع عني قد اختفى.. و لابد لي من الرضوخ لقدري أخيرا...

خرجت من غرفتها و ذهبت إلى غرفتي، و من هناك اتصلت بوالدي ّ و طلبت منهما أن يعودا بأي وسيلة.. لأنني وحيدة و تعيسة جدا..

و يا ليتني لم أفعل ...

بعد ذلك ، جاء سامر إلى غرفتي يحمل علبة هدّية ما ...

كان يبتسم .. اقترب مني و حاول التحدث معي بلطف و كرر الاعتذار عما بدر منه تلك الليلة ، إلا أنني صددته بجفاء.

" وفر هداياك يا سامر .. فأنا لن أقتنع بفكرة الزواج بهذا الشكل مطلقا.."

غضب سامر و تحوّل لطفه إلى خشونة و نعومة حديثه إلى قسوة..

قال :

" حين يعود والداي سيتم كل شيء "

قلت :

" حين يعود والداي سينتهي كل شيء "

سامر فقد السيطرة على أعصابه و زمجر بعنف :

" كل هذا من أجل وليد ؟؟ "

ونظرت إليه نظرة تحد ٍ لم يستطع تجاهلها..

أطبق علي بقسوة و قال :

" و إن تخليت ِ عني ، لن أسمح له بأخذك مطلقا .. أتفهمين ؟؟ "

" بل سأطلب منه أن يأتي لأخذي فأنا لن أعيش معك بمفردي "

" رغد لا تثيري جنوني.. لا تجعليني أؤذيك .. إنني أحبك .. أتفهمين معنى أحبك ؟ "

هتفت :

" لكني أحب وليد .. ألم تفهم بعد ؟؟ "

سامر دفع بي نحو السرير ، و تناول علبة الهدية و رطمها بالجدار بقوة ...

قال :

" ماذا تحبين فيه ؟ أخبريني ؟؟ ماذا رأيت منه جعل رأسك يدور هكذا ؟؟ "

ثم أقبل نحوي و هزني بعنف و هو يقول :

" أ تحبّين رجلا قاتلا ؟ مجرما ؟ سفاحا ؟؟ "

صرخت بفزع :

" ما الذي تقوله ؟؟ "

قال مندفعا :

" ألا تعلمين ؟؟ إنها الحقيقة أيتها المغفلة .. كنت ِ تظنين أنه سافر ليدرس في الخارج ..طوال تلك السنين .. أتعلمين أين كان وقتها ؟؟ أتعلمين ؟؟ "

كان الشرر يتطاير من عيني سامر .. المرة الأولى في حياتي التي أرى فيها عينيه بهذا الشكل ... أصابني الروع من نظراته و كلماته ..

أتم جملته :

" لقد كان في السجن "

صعقت ، و لم أصدّق ... هززت رأسي تكذيبا ، إلا أن سامر هزني و قال بحدة :

" نعم في السجن .. ثمان سنوات قضاها مرميا في السجن مع المجرمين و القتلة.. ألا تصدقين ؟ اسألي والدي ّ .. أو اسأليه هو.. في السجن يا رغد.. السجن.. و قد أخفينا الأمر عنكما أنت و دانة لصغر سنكما "

صرخت غير مصدقة ..

" كلا .. كلا .. أنت تكذب ! "

قال بحدّة :

" تأكدّي بنفسك.. و لسوف تندمين على صرف مشاعرك على قاتل متوحّش "

دفعت سامر بعيدا عني و ركضت مسرعة نحو غرفة دانة ، التي كانت لا تزال أمام المرآة ...

" دانة "

هتفت بقوة أجبرتها على الالتفات إلي بشيء من الدهشة و الخوف ...
قلت :

" وليد .. وليد... "

فزعت دانة ، قالت :

" ما به ؟؟"

قلت :

" كان في السجن ؟؟ "

دانة تحملق بي في دهشة و عدم استيعاب .. صرخت ُ :

" وليد كان في السجن ؟؟ أخبريني ؟؟ "

ظهر سامر من خلفي فنظرت إليه دانة

قال :

" أخبريها فهي لا تصدقني "

دانة جالت ببصرها بيننا ثم قالت :

" أجل... لثمان سنين .. "

صرخت :

" لا ! "

قالت :

" بلى ، و بجريمة قتل "

" مستحيل ! "

لم أشأ أن أسمع .. أن أفهم .. أن أصدق .. أن أدرك ..

دارت بي الدنيا و تراقصت الأرض و تمايلت الجدران.. و أظلمت الأنوار.. و لم أشعر بنفسي إلا و سامر يمسكني بسرعة و يجلسني أرضا ...

بدأت الأنوار تضاء.. و بدأت أسمع نداءاتهما و أرى أعينهما القلقة حولي.. و أحس بأيديهما الممسكة بي ...

" رغد حبيبتي تماسكي "

" رغد ماذا جرى لك ؟؟ "

" ابقي مسترخية "

" اسم الله يحفظك "


حينما وعيت تماما وجدت نفسي ممدة على الأرضة و رأسي في حضن سامر و يدي بين يدي دانة ... و كنت أشعر ببلل الدموع الجارية على وجنتي...

قال سامر :

" أ أنت بخير ؟ "

أغمضت عيني بمرارة و تركت المجال لدموعي لتتدفق كيفما شاءت...

قالت دانة :

" رغد ... "

فتحت عيني و حاولت أن أتكلم، و عجزت إلا عن إصدار أنات متلاحقة... لا معنى لها و لا تفسير..

ساعدني الاثنان على النهوض و التوجه إلى غرفتي حيث استلقيت على سريري.. و جلس الاثنان قربي.. سامر يمسح على رأسي و دانة تشد على يدي...

قالت :

" لا بأس عليك.. كانت صدمة بالنسبة لي أنا أيضا "

تحشرج صوتي في حنجرتي ثم انطلق ناطقا :

" لماذا أخفيتم عني ؟؟ "

دانة نظرت إلى سامر.. كأنها تنقل السؤال إليه..

نظرت إلى سامر فرأيت وجهه متجهما حزينا...

" لماذا ؟ "

سامر حار في أمره .. و بعثر أنظاره فيما حولي ثم قال :

" كنتما صغيرتين .. ثم .. لم نشأ تقليب المواجع بعد خروجه .. "

" لا أصدق .. لا أصدٌق.. لا يمكن.. "

و انفجرت في بكاء أبكى دانة.. و كاد يبكي سامر أيضا..

قلت مخاطبة دانة :

" لماذا فعل ذلك ؟؟ "

و أيضا أحالت السؤال إلى سامر ..

قلت مخاطبة سامر :

" لماذا ؟؟ "

هذه المرّة سامر دقق النظر إلي .. نظرات عميقة غريبة ، ثم قال :

" ألا تعرفين ؟؟ "

" أنا ؟؟ "

سامر قال :

" لا نعرف الحقيقة بالضبط، لكن ... "

" لكن ماذا ؟؟ "

تردد سامر ثم قال :

" إنه يخفي سرا .. "

صمت ثوان ثم قال :

" سر على ما يبدو .. له علاقة بـ ... "

و تراجع عن إتمام جملته..

" بماذا ؟؟ "

سألت ، فظل ينظر إلي بتمعن .. و كأنه يشير إلي !

" بي أنا ؟؟!! "

و لم ينف كلامي ، فسألته دانة باستغراب :

" و ما علاقة رغد بالأمر ؟؟ "

سامر تردد و من ثم قال بنبرة غير الواثق من كلامه :

" لا أدري .. القضية غامضة .. و حزام الزي المدرسي الذي كانت رغد ترتديه ذلك اليوم – وهي نائمة في سيارة وليد - .. وجد للغرابة في مسرح الجريمة قرب القتيل مباشرة ! "


ما إن أتم سامر جملته .. حتى تهدّم في رأسي سد الذكريات فجأة .. و تدفقت شلالات الذكرى المفزعة .. و انتفضت و شهقت ثم هتفت بغتة :

" عمّار !!؟؟ "

الاثنان نظرا إلي بتعجب ..

جلست فجأة و وضعت يدي الاثنتين على صدري فاتحة عيني و فاغرة في ّ بذهول ما بعده ذهول ...

" رغد ؟؟ "

ناداني سامر ، فالتفت إليه .. ثم إلى دانة .. ثم إلى سامر فدانة بشكل تثير الشكوك ..

عاد سامر يقول :

" رغد ..؟؟ "

صرخت :

" لا "

" رغد .. هل رأيت شيئا ؟؟ "

صرخت بفزع :

" لا "

قال :

" أتذكرين شيئا ؟؟ "

" لا .. لا كلا .. "

و جذبت دانة نحوي و وضعت رأسي في حضنها و لففت ذراعي ّ حولها و أنا أصرخ بجنون :

" كلا .. كلا .. وليد.. وليد .. "

حتى غشي علي ...






~ ~ ~ ~ ~ ~ ~




في نفس اليوم ، و الذي عادت فيه السيدة ليندا من المستشفى ، عقدنا قراننا أنا و أروى ..

العائلة كانت سعيدة و مبتهجة ... و قد صنعت أروى كعكتين لذيذتين و عشاء مميزا، احتفالا بالمناسبة..

لم يشاركنا الحفلة الصغيرة سوى سيدة واحدة هي صديقة للسيدة ليندا ، و ابناها اللذين شهدا على العقد..

بالنسبة لي ، كان حدثا غريبا و أشبه بالوهم..نعم الوهم..لقد كنت هناك ، لكنني لم أكن.. و انتظرت أن أصحو من هذا الحلم الغريب.. إلا أنني لم أصح ُ ..

بعد تناولنا العشاء.. أوحت إلينا السيدة ليندا بأن نخرج للتجوّل في المزرعة.. أنا كنت أتتصبب عرقا و في غاية الخجل.. و لا أجرؤ على النظر نحو أروى.. و لا أعرف كيف هي حالتها و تعبيراتها!

خرجنا معا إلى المزرعة، و سرنا صامتين لا يلتفت أحدنا إلى الآخر..
قطعنا شوطا طويلا في السير.. و كان الجو باردا فسمعت صوت كفّي أروى يحتكان ببعضهما.. و هنا التفت و نظرت إليها لأول مرّة مذ فارقتها البارحة ..

قلت بتلعثم :

" أتشعرين بالبرد؟؟ "

أروى ابتسمت و نظرت للأسفل و قالت :

" قليلا "

" أتودين أن .. نعود ؟ "

رفعت نظرها إلي و قالت :

" لا.. "

هربت أنا بنظري إلى الأشجار و أنا أتنحنح و ألمس عنقي بيدي.. و أشعر بالحر !

حقيقة أنا لا أعرف ما أقول و لا كيف أتصرّف !

و لا حتى كيف أفكّر ! و اسمعوا ما قلت :

" هذه الأغصان بحاجة إلى ترتيب ! "

و أنا أشير إلى الشجرة التي كنت أنظر إليها..

أروى قالت :

" نعم "

" سوف أقوم بتنظيمها غدا "

" نعم "

لا أزال أحدق في الشجرة.. كأنني أفتش عن المفردات بين أوراقها !

كيف يجب أن يتصرّف رجل عقد قرانه من فتاة قبل قليل ؟؟

أنا لا أعرف بالضبط، فهي تجربتي الأولى، و لكن بالتأكيد.. ليس التحديق في أغصان الأشجار و أوراقها !

" وليد "

نادتني أروى.. فاقشعر جسدي خجلا ، التفت إليها بحرج .. و أنا أمسح قطيرات العرق المتجمعة على جبيني :

" نعم ؟ "

قال بخجل :

" هل أنت .. سعيد بارتباطنا ؟؟ "

تسارع نبض قلبي.. توترت كثيرا إلا أنني قلت أخيرا :

" نعم، و .. أتمنى أن تكوني أنت سعيدة ! "

ابتسمت هي مومئة إيجابا..

ثم قالت و هي تعبث بأصابعها بارتباك :

" أنا.. معجبة بك "

أنا سكنت تماما عن أي حركة أو كلام.. تماما كسيارة نفذ وقودها كليا ! صامت جامد في مكاني بينما الأشجار تتحرك و الأوراق تتمايل !

الآن رفعت أروى بصرها إلي بابتسامة خجولة لتستشف ردة فعلي...

تسللت من بين شفتي هذه الكلمة :

" معجبة بي .. أنا ؟؟ "

ضحكت أروى ضحكة خفيفة و هي تقول :

" نعم أنت ! "

قلت متأتئا متلعثما :

" أأ لكن .. أنا.. شخص بسيط أعني.. إنني .. خريج سجون و .. "

لم أتم ، فقد نفذت الحروف التي كانت مخزنة على لساني فجأة !

أروى قالت :

" أعرف، و لا يهمني ذلك .. "

تبادلنا الآن نظرات عميقة .. أمددتني بطاقة أحلت عقدة لساني ..

قلت :

" أروى .. ألا يهمك أن تعرفي .. لم دخلت السجن ؟؟ "

أروى هزّت رأسها سلبا..

لكنني قلت :

" يجب أن تعرفي... "

ثم قلت :

" دخلت السجن لأنني ... ... قتلت حيوانا "

دهشت أروى و ارتفع حاجباها الأشقرين للأعلى :

" ماذا ؟؟ "

قلت ، و قد تبدّلت تعبيرات وجهي من الخجل و التوتر ، إلى الجدية و الغضب :

" نعم حيوان.. حيوان بشري.. قذر.. كان يجب أن يموت ... "






~ ~ ~ ~ ~ ~








لا أزال مضطجعة على سريري أذرف الدموع الحزينة المريرة... و أعيد في رأسي تقليب الذكريات... و قد مضت ساعات و أنا على هذه الحال

كلما دخل سامر أو دانة هتفت :

" دعوني وحدي ... دعوني وحدي ... "

فالصاعقة لم تكن بالشيء الهيّن ...

أعوذ بذاكرتي للوراء.. ذكريات مغبرة غير واضحة ، لا أستطيع سبر غورها و كشف غموضها و فهم أسرارها...

مبهمة الملامح .. لا تتضح لي صورتها كما ينبغي ... فأبعدها بسرعة و أجبر رأسي على التفكير بشؤون أخرى ...

مساء الغد.. ستغادر دانة مع عريسها بعيدا.. و أظل أنا و سامر.. في الشقة وحدنا.. و مئات من الشحنات المتنافرة تتضارب فيما بيننا...

تموت الفكرة في رأسي .. تحت أقدام أفكار أقوى .. في وجه إعصار الذكريات التعيسة المشؤومة التي عشتها قبل تسع سنين ...

أتخيل نفسي و أنا في تلك السيارة .. أصرخ .. و أصرخ .. و أهتف و استنجد و أستغيث ... و ما من معين..

ما من شيء .. إلا صفعات متتالية على وجهي.. و كف تمتد إلى وجهي و تكتم أنفي و فمي مانعة إياي من الاستغاثة.. و يد تربط أطرافي الأربعة بذلك الحزام الطويل... ثم ترميني عند المدوسة .. تحت المقعد..

بح صوتي من الصراخ ... كنت وحيدة .. لا أحد من أهلي حولي.. و لا من الناس ... في طريق بري مخيف موحش ...بعيدا عن أدنى معاني الأمان و الطمأنينة
و أسمعه يقول :

" سيأتي وليد إليك فاخرسي "

أحاول أن أتحرر من القيد.. أحاول الركل و الرفس.. و العض.. و كل شيء .. دون جدوى.. فقد كنت أضعف و أوهن من أن أتغلب على ذلك الوحش القذر...

حينما ظهر وليد أخيرا .. فتح لي الباب ..

قفزت من السيارة راكضة مسرعة نحو وليد.. تعلقّت بعنقه.. أردت أن أحتمي داخل صدره.. أردته أن يبعدني بسرعة عن ذلك المكان.. أن يطير بي عاليا .. إلى حيث لا تصلني يد مؤذ و لا نظراته...

وليد...

آه وليد...

وليد...

أخذت أبكي بقوّة.. بكل ما أوتي جسدي المنهك المصعوق من قوة ..

سمعتني دانة فوافتني إلى الغرفة قلقة .. اقتربت مني و هي تراني في حالة انهيار لا مثيل لها.. أبكي دما لا دموعا ...

" رغد.. أرجوك يكفي ! إلى متى ستظلين هكذا ؟؟ لم لا تنامين فقد انتصف الليل "

" لماذا لم تخبروني بالحقيقة ؟ لماذا كذبتم علي ؟ أعيدوا وليد إلي .. أريد وليد .. أريد وليد "

دانة أمسكت بوجهي في حيرة و اضطراب ، و قالت :

" رغد ! ما الذي تهذين به ؟ أ عاودتك الحمى من جديد ؟؟ "

قلت و أنا أنظر إليها بعمق و تشتت في آن معا في تخبط و ضياع و تيه :

" لم أعتقد أنه مات .. رأيته يهوي أرضا.. لم أفهم ما حصل .. لكن وليد ضربه بسببي أنا .. أنا .. أنا "

و انهرت باكية بحدة على صدرها ...

دانة كانت تحاول إبعادي عنها ليتسنى لها النظر إلى وجهي ، و قراءة ما ارتسم عليه، إلا أنني كنت أدفن رأسي في صدرها بإصرار...

" رغد .. ما الذي تقولينه ؟؟ "

صرّحت :

" لم أفهم ذلك .. لم أع ِ شيئا.. لا أذكر ماذا فعل بي .. لكنه ضربني كثيرا .. و ربطني بالحزام .. "

" عمّ تتحدثين يا رغد بالله عليك أفصحي ما تقولين ؟؟ "

رفعت رأسي أخيرا و نظرت إليها و انفجرت قائلة :

" عمار .. الحقير .. الجبان .. اللعين .. القذر .. اختطفني و حبسني في السيارة.. وليد جاء لإنقاذي و ضربه بالصخرة .. أفهمت الآن؟؟ أفهمت ؟؟ أفهمت ؟؟ "

لم أزد على ما قلت حرفا واحدا، إذ أنني انهرت كليا .. كما انهارت دانة الجالسة قربي.. و عندما طلبت مني سرد الأحداث ، قلت :

" لا أريد أن أتذكر شيئا.. لا أريد أن أتذكر..، وليد .. أريد وليد.. أريد العودة إلى وليد"





~ ~ ~ ~ ~





الآن.. و في هذا الصباح الجميل .. و تحت أشعة هذه الشمس الجديدة ، أشعر بأنني شخص آخر .. رجل ولد من جديد...

ابتداء من هذا اليوم، دخلت عالما جديدا.. و ودعت عالمي الماضي .. للأبد

أنا اليوم ، وليد .. المزارع البسيط الذي يعمل مع خطيبته و عائلتها في مزرعة صغيرة .. في مدينة بعيدة عن مدينته و أصله و أهله ..

الحياة الماضية قد انتهت ، لا رغد و لا حب و لا جنون.. لا ألم و لا عذاب و لا معاناة.. و لا حرب...

الليلة ، ستدخل رغد عالم المتزوجين، و تصبح زوجة لأخي ، و أقطع آخر خيط أمل في استعادتها ذات يوم..

الذكرى الحزينة أجبرتها على مغادرة رأسي ،، فأنا لا أريد لدمعة واحدة أن تسيل من عيني على ما فات.. و لأعش حياتي الجديدة كما قدّر الله لها أن تكون ...

تخرج أروى من المنزل.. مقبلة نحوي ، تحمل صينية تحوي طعاما...

كنت أقف في الساحة أتنفس الصعداء و أشم رائحة الزهور الفواحة ...

إنه مكان يستحق أن يضحي المرء بأي شيء من أجل العيش فيه ...

" صباح الخير .. وليد "

تبتسم لي و يتورد خداها خجلا.. فيجعلها كلوحة طبيعية بديعة من صنع الإله..

أدقق النظر إليها .. فاكتشف أنها آية في الجمال.. جمال لم ألحظه مسبقا و لم أكن لأعره اهتماما ..

ملونة مثل الزهور.. و خصلات شعرها الذهبي تتراقص مع تيارات الهواء.. لامعة مثل أشعة الشمس..

سبحان الله ..

أحقا ..هذه الحسناء هي زوجة مستقبلي ؟

تقبل إلي و تقول :

" أعددت فطورا خاصا بنا "

ابتسم ، و أقول :

" شكرا .. "

ثم نجلس على البساط المفروش في الساحة، و ننعم بفطور شهي لذيذ.. فمخطوبتي هذه ماهرة جدا في الطهو !

ميزة أخرى تجعلني أشعر بالزهو ...

إضافة إلى كونها طيبة القلب مثل والديها و خالها..

و أكرر في نفسي :

" الحمد لله "

لقد لعبت الأقدار دورها الدرامي معي.. و حين ألقت بي في السجن لثمان سنين ، عرّفتني على رجل عظيم، أصبحت في نهاية المطاف زوجا لابنته !

أظن أن على المرء أن يشكر الله في جميع الأحوال و لا يتذمّر من شيء ، فهو لا يعلم ما الحكمة من وراء بعض الأحداث التي يفرضها عليه القدر ...

سبحان الله

أكثر ما شدّني في الأمر ، هو أنها اعترفت لي البارحة بإعجابها بي !

برغم كل عيوبي و مساوئي، و رغم جهلها بالكثير عن ماضي و أصلي .. إلا أنها ببساطة قالت :

" أنا معجبة بك ! "

اعتقد أن لهذه الجملة تأثيرها الخاص ... و خصوصا على رجل يسمعها للمرة الأولى في حياته من لسان فتاة !

تحدّثنا عن أمور كثيرة... فوجدتها حلوة المعشر و راقية الأسلوب، و اكتشفت أنها أنهت دراستها الثانوية و درست في أحد المعاهد المحلية أيضا ...

قلت :

" كان حلمي أن أدرس في الجامعة ! "

" أي مجال ؟؟ "

" الإدارة و الاقتصاد ، كنت أطمح لامتهان إدارة الأعمال .. تخيّلت نفسي رجل أعمال مرموق ! "

و ضحكت ُ بسخرية من نفسي ...

قالت :

" و هل تخلّيت عن هذا الحلم ؟؟ "

قلت بأسف :

" بل هو من تخلّى عنّي .. "

ابتسمت أروى و قالت :

" إذن فطارده ! و أثبت له جدارتك ! "

" كيف ؟؟ "

قالت :

" لم لا تلتحق بمعهد إداري محلي ؟ أتعرف.. زوج السيدة التي كانت معنا البارحة يدير أحد المعاهد و قد ييسر أمورك بتوصية من أمي ! "

بدت لكي فكرة وهمية ... كالبخار.. إلا أن أروى تحدثت بجد أكبر و جعلتني انظر للفكرة بعين الاعتبار.. و أنميها في رأسي...





~ ~ ~ ~ ~




أتتني دانة و أنا لا أزال على سريري و قالت :

" أحضر سامر الفطور... ألن تشاركينا ؟؟ "

لم أجب عليها، فانسحبت من الغرفة..

بعد قليل ، طرق الباب مجددا و دخل سامر هذه المرة ، و أغلق الباب من بعده ..

أقبل نحوي حتى صار جواري مباشرة ، و قال بصوت حنون أجش :

" رغد ... هل ستبقين حبيسة الغرفة هكذا ؟؟ "

و لم أجبه ...

جلس سامر على السرير و مد يده نحو رأسي، و أخذ يمسح على شعري بحنان...

" رغد .. بالله عليك .. "

لكنني لم أتفاعل معه ..

أدار وجهي نحو وجهه و أجبرني على النظر إليه ...

نظراتنا كانت عميقة ذات معنى ...

" رغد .. أنا أتعذب برؤيتك هكذا ... أرجوك .. كفى "

و لم أجب ..

قال :

" أ تحبينه لهذا الحد ؟؟ "

لما سمعت جملته هذه لم أتمالك نفسي.. و بدأت بالبكاء ...

سامر أخذ يمسح الدموع الفائضة من محجري... بلطف و عطف .. ثم قال :

" أنا .. لا أرضى عليك بالحزن .. لا أقبل أن أكون سبب تعاسة أحب مخلوقة إلى قلبي ... "

اعترى نظراتي الآن بعض الاهتمام ..

تابع هو حديثه :

" رغد .. سوف .. اتصل به الآن ، و اطلب منه الحضور .. لأخذك معه "

ذهلت ، و فتحت جفوني لأقصى حد .. غير مصدقة لما التقطته أذناي ...

قال :

" لا تقلقي.. فأنا لن أجبرك على الزواج مني.. و بمجرد عودة والدي ّ .. سأطلق سراحك ... "

شهقت ...

نطقت :

" سامر .. !! "

سامر ابتسم ابتسامة واهنة حزينة .. ثم قرب رأسي من شفتيه، و قبّل جبيني قبلة دافئة طويلة ...

بعد ذلك قال :

" سأتصل به في الحال..، هيا.. فدانة تنتظرك على المائدة .. "


و قام و غادر الغرفة ...







~ ~ ~ ~ ~ ~






ما كدت أنتهي من وجبة فطوري اللذيذة الطويلة ، حتى أقبلت السيدة ليندا تستدعيني ...

" وليد يا بني ، اتصال لك .. "

تبادلت و أروى نظرة سريعة ، ثم وقفت و الاضطراب يعتريني...

قلت :

" من ؟؟ "

" شقيقك "

و زاد اضطرابي ...

أسرعت إلى الهاتف و التقطت السماعة و تحدثت بقلق :

" نعم ؟ هنا وليد "

" مرحبا يا وليد.. كيف أنت ؟ "

" بخير .. "

و صمت قليلا.. كنت متوجسا من سماع شيء سيئ ، فقد كان اتصالنا الأخير قبل ليلة فقط ...

" ما الأمر سامر ؟؟ "

" لا تقلق ! إنني فقط أريد أن أؤكد عليك الحضور الليلة .. "

فكرت في نفسي .. و من قال إنني أود الحضور ؟؟؟ لم يكن ينقصني إلا أن أشهد يوم تزف فيه رغد.. حبيبتي الغالية.. معشوقة قلبي الصغيرة إلى أخي .. و أنا واقف أتفرج و أبار ك؟؟

" آسف، لن يمكنني الحضور "

" لماذا ؟؟ "

" لدي ارتباطات أخرى.. كما أنني متعب و لا طاقة لي بالسفر.."

" و دانة ؟؟ ألا تريد رؤيتها قبل رحيلها ؟؟ "

لم أجد الجواب المناسب...

ثم قلت :

" إنها لن تتشرف بوجودي على أية حال "

" سأجعلها تحدّثك بنفسها "

ثم ناول الهاتف إلى دانة .. فسمعت صوتها يحييني و يسأل عن أحوالي ، ثم تقول :

" تعال يا وليد.. يجب أن تحضر عرسي "

" آسف ..لا أريد إحراجك أمام زوجك و أهله.. بانتسابك إلى رجل مجرم و خريج سجون "

هنا بدأت دانة بالبكاء و هي تقول :

" أرجوك وليد.. سامحني.."

لم أعقّب .. قالت :

" سأكون أتعس عروس ما لم تحضر .. من أجلي "

" ستكونين أسعد بدون حضوري "

عادت تبكي ثم قالت :

" حسنا ، ليس من أجلي .. بل من أجل رغد "

و شعرت برغبة مفاجئة في التقيؤ .. أ أحضر من أجل زف حبيبتي إلى عريسها ؟؟

إنني إن حضرت سأرتكب جريمة ثانية ، لا محالة ...

زمجرت :

" لن أحضر "

" و لا من أجلها ؟؟ "

" و لا من أجل أي كان ... "

" لكنها تريدك أن تحضر .. وليد .. أرجوك "

" يكفي يا دانة .. "

" وليد.. رغد مريضة "

هنا.. تفجر قلبي نابضا بعنف و توترت معدتي و تصلبت عضلاتي و اندفعت أنفاسي بقوة و هتفت :

" ما بها رغد ؟؟ "

إلا أن دانة لم تجب .. بل أجهشت بكاء..

و يظهر أن سامر تناول السماعة من يدها

كنت أهتف :

" دانة اخبريني ما بها رغد ؟؟ تكلمي ؟؟ "

جاءني صوت سامر قائلا :

" لا تقلق ، إنها متوترة بعض الشيء "

هتفت بقوة :

" سامر اصدقني القول .. ما بها رغد ؟؟ "

" لا تخشى شيئا يا وليد.. "

" إياكما أن يكون أحدكما قد أذاها في شيء أو أجبرها على شيء ؟؟ "

" لا ، شقيقك ليس وغدا ليجبر فتاة على الزواج منه، و هي كارهة "


كأن كتلة كبيرة من الثلج وقعت فوق رأسي.. أفقدتني السيطرة على لساني و على أطرافي بل و عيني كذلك...

كأنه أغشى علي ... كأني فقدت الوعي و الإدراك .. كأنني سبحت في فضاء رحيب من الوهم و الخيال ...

إنني فعلا على وشك إفراغ كل ما ابتلعته على الفطور خارجا من معدتي... و من فمي ...

و الشيء الذي خرج من فمي كان صوتا مبحوحا ضعيفا مخنوقا سائلا :

" ألن .. تتزوجا الليلة ؟ "

سامر لم يجب مباشرة ، ثم قال :

" إلا إذا عادت العروس و غيّرت رأيها قبل المساء ... "


بعدما أنهيت المكالمة تهالكت على معقد قريب.. و أغمضت عيني ..

كنت أريد فقط أن أتنفس .. كان صدري يتحرك بقوة ، تماما كقوة اندفاع الدم خارجا من قلبي ...

رغد لن تتزوج الليلة ...

رغد لا تزال طليقة ..

رغد لا تزال بين يدي ...

و شعرت بشيء يلامس يدي ...

فتحت عيني و لساني يكاد يصرخ :

" رغد ! "

فوقعت عيناي على أروى .. واقفة أمامي مباشرة تلامس يدي .. و تقول بابتسامة ممزوجة ببعض القلق :

" ما الأمر وليد ؟؟ "

كدت أضحك !

نعم إنني أريد الآن أن أضحك لسخرية القدر مني !

بل بدأت بالضحك فعلا ...

و أروى ضحكت لضحكي .. و هي تجهل ما حقائق الأمور ...

قالت :

" ما يضحكك وليد ؟ أضحكني معك ؟؟ "

حدّقت بها فرأيت ما لم أتمنى أن أراه ...

قلت :

" أختي دانة ستتزوّج الليلة .. "

اتسعت ابتسامتها و قالت :

" صحيح ؟ أين ؟ مبروك ! "

هززت رأسي ساخرا من حالي المضحك ، و قلت :

" حفلة صغيرة جدا ، في الشقة التي يسكنون فيها.. و هي تريد مني الحضور "

اتسعت ابتسامتها أكثر و قالت مبتهجة :

" عظيم ! رائع ! أيمكنني الذهاب معك ؟؟ "
 
الحلقةالتاسعةوالعشرون
********





أعد الدقائق واحدة تلو الأخرى ، في انتظار وصول وليد...

رغم أنها مجرد أيام، تلك التي فصلت بيننا مذ لقائنا الأخير ، إلا أنني أشعر بها كالشهور ...لا بل كالسنين ... نعم كالسنين التي قضيتها محرومة من رؤيته ، و معتقدة بأنه سافر يدرس.. بينما كان ...

كلما جالت هذه الخاطرة برأسي طردتها مسرعة ، و أجبرت نفسي على الفرح .. فهو سيصل اليوم في أية لحظة...

سامر تحاشى الحديث معي منذ الصباح، إنه فقط مهتم بالإعدادات للحفلة البسيطة ، و قد قام هو و دانة بترتيب مائدة في الصالة ، لاستقبال الرجال ، و أخرى في غرفة المجلس ، لاستقبال السيدات .

حاولت مساعدتهم إلا أنني كنت متعبة من آثار الصدمة التي تلقيتها مؤخرا و لم تسعفني قواي البدنية على فعل شيء أكثر من المراقبة عن كثب..

بعد تأدية صلاة العشاء ، أتتني دانة لتتحدث معي الحديث الأخير... قبل فراقنا..

ابتداء من هذه الليلة ، سوف لن يكون لدي أخت ٌ أتشاجر معها ! من سيعلّق على مظهري كلما ارتديت شيئا جديدا، من سيوبّخني كلما أخطأت ! من سيغار مني و أغار منه؟؟

من سيعلمني أشياء أجهلها و يفتح عيني على الحياة... دانة كانت بالنسبة لي .. الباب إلى الحياة ، فأنا لم أعرف من هذه الدنيا شيئا إلا عن طريقها...

و رغم أن الفرق بين عمرينا هو سنتان و نصف ، إلا أنني أشعر بنفسي صغيرة جدا أمامها .. و أحسها أختي الكبرى و معلّمتي الحبيبة ...

لذا ، عندما دخلت الغرفة و أنا لا أزال مرتدية حجاب الصلاة و قالت :

" سأتخلص منك أخيرا ! "

انفجرنا ضحكا ، ثم بكاء ... شديدا جدا .. جعل سامر يقف عند الباب مذهولا حائرا !

" لمن ستتركينني دانة ؟ سأبقى وحيدة منعزلة عن العالم من بعدك ! "

" هنيئا لك ! ستنفردين برعاية أبي و تدليله ! أنت مثل القطة رغد ! مهما كبرت تظلين تعشقين الدلال ! كان الله في عون الرجل الذي ستتزوجينه ! "

الآن صارت تشير إليه بالمجهول ! لم تذكر اسم سامر .. فهي إذن اقتنعت أخيرا بأن سامر لم يعد لي ...

نظرت أنا نحو سامر فوجدت وجهه المشوه غارقا في الحزن ... و كرهت نفسي...
كرهت قدري.. و ظروفي التي انتهت بي و به إلى هذه الحال...

أعدت نظري إلى دانة .. نظرة استغاثة.. استنجاد.. أريد من ينقذني من هذا كله.. فوجدت على وجهها ابتسامة خفيفة ، و سمعتها تهمس :

" على كل ٍ ، هو يحب تدليلك كثيرا ! "

ابتسمت ُ ، و ضممتها إلي ، و أنا أشعر بأنها المرة الأولى التي تفهمني فيها...

رباه ! كيف تغيّرت بهذا الشكل بين ليلة و ضحاها ؟؟

هل يعني أنها موافقة على و راضية عن انفصالي عن سامر ، و ارتباطي بوليد؟؟ هل تدرك هي أنني أحب وليد و وليد فقط؟؟

وليد قلبي ...

آه كم أنا متلهفة لرؤيتك ...

عد بسرعة .. اظهر فورا .. فقد أضناني الشوق و الحرمان ...

قمت بعد ذلك و لبست فستانا أهداني إياه سامر من أجل الحفلة ، و ووضعت بعض الحلي ، و التي أيضا أهداني إياها سامر... و ارتديت حذاء عالي الكعب جدا ، كالعادة ، و بصراحة .. أهداني إياه سامر أيضا !

إلا أنني لم أضع أيا من المساحيق على وجهي ، فأنا أريد مقابلة وليد قلبي وجها لوجه ...
بدوت مسرورة ، أحوم حولهما كالفراشة ... و عندما حضر الضيوف أحسنت استقبالهم و قدت النساء إلى المجلس ... كانت أم نوار و أخواته، في غاية الأناقة و الجمال.. يرتدين ملابس مبهرة و حلي كثيرة .. و قد تلوّنت وجوههن بالماكياج المتقن جدا !

شعرت ببعض الخجل من نفسي لكوني بلا ألوان ! مع ذلك ، أبدو جميلة فلا تلتفتوا لهذا الأمر !

حضرت العروس بعد ذلك ، في قمة الأناقة و الروعة .. و أخذنا نلتقط العديد من الصور التذكارية ، و سأظهر جميلة رغم كل شيء !

مر الوقت .. و مع انقضاء كل ساعة ينقضي خيط أمل في حضور وليد.. لماذا لم يحضر بعد ؟؟ أحقا سيأتي أم أنه ...

ذهبت إلى المطبخ لجلب المزيد من العصائر فإذا بي أصادف سامر هناك ، يحمل أطباق الجلي ...

قلت :

" ألم يحضر وليد ؟؟ "

سامر تظاهر بالابتسام و قال :

" ليس بعد "

قلت :

" هل أنت واثق من حضوره ؟ هل قال أنه آت ٍ بالفعل ؟؟ "

" قال إن لديه ارتباطات و مشاغل أخرى ، لكنه سيحاول الحضور ... "

نظرت إلى الساعة المعلقة على جدار المطبخ بيأس...

قال سامر :

" لا يزال الوقت مبكرا ... لا تقلقي... "

ثم غادر المطبخ ...





~ ~ ~ ~ ~ ~




اعتقد إن من حقّي أن آخذ هذه المساحة بين السطور .. لأصف لكم مشاعري المجروحة ...

إذا كان هناك رجل تعيس في الدنيا فهو أنا.. كيف لا و أنا أرى مخطوبتي.. محبوبتي رغد.. تعد الدقائق بلهفة في انتظار عودة وليد.. حبيب قلبها الغالي..

أصبت بجنون ما بعده جنون ، حين اعترفت لي و بلسانها أنها تحبه هو.. و أنه السبب في قرارها الانفصال عني ، بعد خطوبة استمرت أربع سنوات أو يزيد...

أربع سنوات من الشوق و اللهفة.. و الحب و الهيام.. في انتظار الليلة التي تجمعنا أنا و هي.. عريسين في عش الزوجية.. ثم يأتي وليد.. و في غضون شهور أو ربما أيام .. يسرق قلبها مني !

رغد لم تقل لي في السابق : ( أنا أحبك ) ، و لكنها لم تقل : ( أنا لا أحبك ) ..
بل كانت الأمور فيما بيننا تجري على خير ما يرام .. حتى أخبرني وليد نفسه ذات ليلة بأنها ترغب في تأجيل زواجنا...

الشيء الذي لا أعرفه حتى هذه اللحظة ، ما إذا كان وليد يعرف بحبها له أو يبادلها الشعور ذاته ، أم لا ...

أنا أعرف أنه يحبها و يهتم بها كأخت.. أو ابنة عم .. أما كحبيبة.. كزوجة .. فهذا ما لا أعرفه و لن أحتمل صدمة معرفته ، إن كان يحبها بالطريقة التي أحبها أنا بها..

أتذكر أنها في اليوم الذي عرض عليها ارتباطنا قبل سنين قالت : ( لننتظر وليد أولا )

و لأنه كان من المفترض ألا يعود إلا بعد أكثر من عشر سنين من ذلك الوقت، فإننا عقدنا قراننا بموافقة الجميع...

و أنا أنظر إليها هذه اللحظة و هي تراقب الساعة ، أشعر بأن خلايا قلبي تتمزّق خلية خلية ، بل ... و أنويتها تنشطر .. و ذراتها تتبعثر حول المجرّة بأكملها ...

لماذا فعلت ِ هذا بي يا رغد ؟؟

إن كنت تجهلين ، فأنا أحبك حبا لا يمكن لأي رجل في الدنيا أن يحمل في قلبه حبا مثله..

حبا يجعلني أدوس على مشاعري و أحرق أحاسيسي رغما عنها ، لأجعلك تحيين الحياة التي تريدينها مع الشخص الذي تختارينه..

و ليته كان أنا...

و إن اكتشفت أن وليد لا يكترث لك ، فإنني لن أقف صامتا ، و أدعك تبعثرين مشاعرَ أنا الأولى بها من أي رجل على وجه المعمورة ، بل سآخذك معي.. و أحيطك بكل ما أودع الله قلوب البشر من حب و مودة ، و أحملك إلى السحاب .. و إن شئت ِ .. أتحوّل إلى وليد .. أو إلى أي رجل آخر تريدين أن تصبي مشاعرك في قلبه ... فقط.. اقبلي بي...

غادرت المطبخ على عجل ، لئلا أدع الفرصة لرغد لرؤية العبرة المتلألئة في محجري...

نعم ، سأبكي لتضحكي أنت ... و سأحزن لتفرحي أنت .. و سأنكسر لتنجبري أنت .. و سأموت ... لتحيي أنت... يا حبيبة لم يعرف الفؤاد قبلها حبيبة .. و لا بعدها حبيبة .. و لا مثلها حبيبة... و سيفنى الفؤاد ، و تبقى هي الحبيبة .. و هي الحبيبة .. و هي الحبيبة ...

عندما وصل وليد، كانت الساعة تشير إلى الحادية عشر و خمس و أربعين دقيقة، أي قبل ربع ساعة من ولادة يوم جديد.. خال من رغد ...

قرع الجرس ، فأقبلت نحو الباب و سألت عن الطارق ، فأجاب :

" أنا وليد "

جمّدت مشاعري تحت طبقة من الجليد ، لا تقل سماكة عن الطبقات التي تغطي المحيط المتجمّد الجنوبي... و فتحت الباب ..

تلك الطبقة انصهرت شيئا فشيئا ، لا بل دفعة واحدة حين وقعت عيناي على الشخصين الواقفين خلفه ، وليد ، و الفتاة الشقراء !

" مرحبا ، سامر ... "

بصعوبة استطعت رد التحية و دعوتهما للدخول ...

وليد كان يرى الدهشة الجلية على وجهي مجردة من أي مداراة مفتعلة !

قال ، و هو يشير إلى الفتاة الواقفة إلى جانبه تبتسم بهدوء :

" أروى نديم ، تعرفها "

قلت :

" أأ .. أجل ... "

قال :

" خطيبتي "

و من القطب الجنوبي ، إلى أفريقيا الاستوائية !

اعتقد أنكم تستطيعون تصوّر الموقف خيرا من أي وصف أنقله لكم !

" خـ ... ــطيبتك !! "

" نعم ، ارتبطنا البارحة "

نظرت إلى الفتاة غير مصدّق ، أطلب منها تأكيدا على الكلام ، ابتسمت هي و نظرت نحو وليد ..

وليد قال :

" أ لن تبارك لنا ؟؟ "

" أأ ... نعم ...طبعا ... لكنني تفاجأت ، تفضلا على العموم ، مبروك لكما .. "

و قدتهما أولا إلى المجلس ، حيث النسوة...

طرقت الباب و أنا أنادي أختي دانة... ، فتحت هذه الأخيرة لي الباب و خرجت من فتحته الضيقة ، و حالما أغلقته انتبهت لوليد ...

" وليد ! "

أشرق وجهها و تفجرت الأسارير عليه .. ثم فتحت ذراعيها و أطبقت عليه معانقة إياه عناقا حميما...

" نعم .. كنت أعلم بأنك ستأتي و لن تخذلني ، فأنت لم تخذلني ليلة خطوبتي.. أنا سعيدة جدا.. "

وليد قال :

" مبروك عزيزتي... أتم الله سعادتك و بارك لك زواجك .. "

بعد ذلك ، رفعت رأسها لتنظر إليه ، ثم دفنته في صدره و هي تقول :

" سامحني... لم أكن أعلم .. سامحني يا أخي الحبيب .. أنا فخورة بك.. و أتباهى أمام جميع المخلوقات .. بأن لي أخا مثلك.. سامحني .. "

وليد ربت على ظهر دانة بحنان ، و إن كانت الدهشة و الحيرة تعلوان وجهه ، و قال مواسيا :

" لا بأس عزيزتي .. لا تبكي و إلا أفسدت ِ زينتك ، و غير المغرور رأيه بك ! "

رفعت دانة رأسها و انفجرت ضحكا ، و وكزته بمرفقها و هي تقول :

" لم تتغير ! سوف أطلب من نوّار أن يضربك قبل خروجنا ! "

قلت أنا :

" احذري ! و إلا خرج عريسك بعاهة مستديمة ! "

و ضحكنا بانفعال نحن الثلاثة...

التفت وليد للوراء حتى ظهرت خطيبته الجديدة ، و التي كانت تقف على بعد خطوات ...

قال :

" اقتربي أروى "

اقتربت الفتاة و هي تنظر نحو العروس ، و تحييها ..

" مبروك دانة ! كم أنت جميلة ! "

دانة حملقت في الفتاة قليلا ثم قالت محدثة وليد :

" هل حضرت عائلة المزارع ؟؟ "

وليد قال :

" أروى فقط.. "

فتعجبت دانة ، فوضّح :

" خطيبتي "

طغى الذهول على وجهها ربما أكثر مني ، قالت باستغراب شديد :

" خطيبتك !! "

قال وليد :

" نعم ، عقدنا قراننا البارحة... باركي لنا "

الاضطراب تملّك دانة ، و حارت في أمرها و لزمت الصمت لوهلة ، إلا أنها أخيرا تحدّثت :

" فاجأتماني ...بشدّة ! ... مبروك على كل حال "

و كان واضحا لنا، أو على الأقل واضحا لي استياؤها من المفاجأة...

قلت :

" فلتتفضل الآنسة ... "

دانة التفتت إلى أروى و قالت :

" تفضلي "

و فتحت الباب لتسمح لها بالدخول ... و قالت مخاطبة إيّاي :

" رغد في غرفتها .. ذهبت لاستبدال فيلم الكاميرا ... "

و كان القلق جليا على ملامحها ...

قال وليد :

" جيد ! أ أستطيع رؤيتها ؟؟ "

تبادلنا أنا و دانة النظرات ذات المعنى .. و قالت هي :

" نعم ، سأدخل لأقدّم أروى للجميع "

و دخلت الغرفة و أغلقت الباب تاركة إياي في المأزق بمفردي !

وليد التفت إلي و قال :

" أريد إلقاء التحية عليها.. إن أمكن "

أنا يا من كنت أدرك أنها تنتظره بلهفة منذ ساعات... و أنها ستطير فرحا متى ما رأته .. لم أملك من الأمر شيئا ..

قلت باستسلام :

" أجل ، تفضل ... "

و قدت ُ بنفسي ، حبيب خطيبتي إلى غرفتها لكي تقابله ...

طرقت ُ الباب و قلت :

" رغد .. وليد معي "

قاصدا أن أنبهها لحضوره ، لكي ترتدي حجابها..

إلا أنني ما كدت ُ أتم الجملة ، حتى انفتح الباب باندفاع سريع ، و ظهرت من خلفه رغد على حالها .. و هتفت بقوة :

" وليد ! "

أي رجل في هذا العالم ، يحمل ذرة حب واحدة لخطيبته ، أو حتى ذرة شعور بالملكية و الغيرة ، فإنه في لحظة كهذه سيرفع كفيه و يصفع وجهي الشخصين الماثلين أمامه في مشهد حميم كهذا ... إلا أنني أنا ... سامر العاشق المسلوب الحبيبة .. المغطّي لمشاعره بطبقة من الجليد .. وقفت ساكنا بلا حراك و بلا أي ردّة فعل .. أراقب خطيبتي و هي ترتمي في حضن أخي بقوة .. و تهتف بانفعال :

" وليد .. لماذا لم تخبرني .. لماذا .. لماذا .. "





~ ~ ~ ~ ~





و إن كنت أتظاهر بالبرود و الصمود ، إلا أن ما بداخلي كان يشتعل كالحمم...

و إن كنت أتظاهر بأنني فقط أود إلقاء التحية ، فإن حقيقة ما بداخلي هي أنني متلهف لرؤية صغيرتي الحبيبة و الإحساس بوجودها قريبة مني ...

لقد كنت أسير خطوة خطوة.. و مع كل خطوة أفقد مقدارا من قوتي كما يفقد قلبي السيطرة على خفقاته ، فتأتي هذه الأخيرة عشوائية غير منظمة .. تسبق الواحدة منها الأخرى...

و حين فتح الباب.. كنت ُ قد أحرقت آخر عصب من جسدي من شدة التوتر.. لدرجة أنني لم أعد أحس بشيء..

أي شيء ..

لم أع ِ إلا و قذيفة ملتهبة قوية تضرب صدري .. تكاد تكسر ضلوعي و تخترق قلبي...

بل إنها اخترقته ..

فرغد لم تكن تقف أمامي بل .. كانت تجلس في قلبي متربعة على عرش الحكم.. تزيد و تنقص ضرباته قدر ما تشاء .. تعبث بأعصابه كيفما تشاء.. تسيّر أحاسيسه حسبما تريد...

و لأنني كنت مذهولا و فاقدا للسيطرة على حركاتي تماما ، فقد بقيت ُ ساكنا.. دون أي ردّة فعل ...

كان صدري مثل البحر .. غاصت صغيرتي في أعماقه و قطعته طولا و عرضا .. و خرجت منه مبللة بالدموع و هي تنظر إلي و تهتف :

" لماذا لم تخبرني ؟؟ لماذا يا وليد ؟ لم أخفيت عنّي كل هذه السنين ؟؟ "

شيء ما بدأ يتحرّك في دماغي المغلق .. و يفتح أبواب الوعي و الإدراك لما يدور من حولي ...

بدأت أنتبه لما تقوله صغيرتي .. و بدأت أحس بأظافرها المغروسة في لوحي كتفي ّ كالمسامير ... و بدأت أرى اللآليء المتناثرة من محجريها ... أغلى ما في كوني ...

لا شعوريا رفعت يدي إلى وجهها أردم سيل العبر ...

" لا تبكي صغيرتي أرجوك .. "

فأنا أتحمّل أي شيء في هذه الدنيا ، إلا أن أرى دموع غاليتي تتبعثر سدى...

إنني أشعر بحرارة شديدة أجهل مصدرها الحقيقي ...

أهو داخلي ؟ أم حضن صغيرتي ؟ أم الشرر المتطاير من عيني ّ أخي، اللتين تحملقان بنا بحدّة..

رغد أزاحت يديها عني ، و ابتعدت خطوة.. و ذلك أثار توترا في المسافة التي بيننا.. تماما كالتوتر الذي يولّده ابتعاد قطعة حديد صغيرة عن مغناطيس !

قالت :

" لقد اكتشفت ذلك الآن فقط .. لماذا لم تخبرني بأنك .. بأنك .. كنت في السجن ؟؟ "

و إن كانت مشاعري قبل قليل مخدّرة من تأثير قرب رغد ، فإنها استيقظت كلها دفعة واحدة فجأة.. و تهيّجت .. فصرت أشعر بكل شيء ، حتى بحرارة البراكين الخامدة في اليابان !

نقلت نظري من رغد ، إلى سامر ، إلى رغد ، إلى سامر ... و حين استقرّت عيناي عليه، رأيت قنبلة متوهجة ، على وشك الانفجار...

لطفك يا رب ... !

قلت ُ أخيرا :

" أنت من أخبرها ؟؟ "

سامر لم يجب بكلمة ، بل بإيماءة و تنهيدة قوية نفثها صدره .. و شعرت أيضا بحرارتها...

أعدت ُ النظر إلى رغد.. فاسترسلت في سؤالي :

" لماذا لم تخبرني؟؟ "

أخبرك ؟؟ بأي شيء يا رغد ؟؟ أ لم تري الطريقة التي عاملتني بها دانة ، بل و الناس أجمعون؟

أتراك تنظرين إلي ّ الآن مثلهم ؟؟

لا يا رغد .. أرجوك لا ..

قلت بلا حول و لا قوة :

" ما حصل..، لكن... أرجو ألا يغيّر ذلك أي شيء ؟؟ "

و انتظرت إجابتها بقلق...

قالت :

" بل يغيّر كل شيء ... "

و أذهلتني هذه الإجابة بوضوحها و غموضها المقترنين في آن واحد...

قالت:

" وليد ... وليد أنا ... "

و لم تتم ، إذ أن دانة ظهرت في الصورة الآن مقبلة نحو غرفة رغد.. و تكسوها علامات القلق...

جالت بمقلتيها بيننا نحن الثلاثة و استقرت على سامر...
شعرت أنا بأن هناك شيء يدور في الخفاء أجهله ...

سألت :

" ما الأمر ؟؟ "

لم يجب أي منهم بادىء ذي بدء إلا أن دانة قالت أخيرا، مديرة دفة الحديث لمنعطف آخر:

" رغد ! الكاميرا ! سنستدعي نوّار الآن ! "

ثم التفتت نحو سامر :

" إنه منتصف الليل ! هيا استدعه ! "

و يبدو أن ترتيباتهم كانت على هذا النحو ، أن يدخل العريس إلى تلك الغرفة لالتقاط بعض الصور مع العروس و مع قريباته قبل المغادرة .

سامر نطق أخيرا :

" سأستدعيه... أخبريهن "

و رغد تحرّكت الآن من أمامي متجهة نحو المنضدة و من فوقها تناولت الكاميرا و أقبلت نحو دانة و مدّت الكاميرا إليها ، فقالت دانة:

" أعطها لسامر الآن .. "

التفتت رغد نحو سامر .. و قدّمتها إليه...

سامر نظر إلى رغد نظرة عميقة.. جعلتها تطأطىء رأسها أرضا ...

أخذ سامر الكاميرا منها.. و قال ..

" سنلتقط له معنا بعض الصور ثم نعيدها إليكن .. "

قال ذلك و وجه خطاه نحو الصالة...

هممت ُ أنا باللحاق به... إلا أنني توقفت ، و التفت إلى رغد ... و قلت :

" كيف قدمك الآن ؟ "

رغد و التي كانت لا تزال مطأطئة برأسها رفعته أخيرا و نظرت إلي مبتسمة و قالت :

" طاب الجرح... "

قلت :

" الحمد لله "

ثم أوليتها ظهري منصرفا إلى حيث انصرف أخي ...





~ ~ ~ ~ ~ ~




كنت ُ مجنونة، لكنني لم أتمالك نفسي بعدما رأيت وليد يقف أمامي... بطوله و عرضه و شحمه.. جسده و أطرافه... و عينيه و أنفه المعقوف أيضا ...

كأن سنينا قد انقضت مذ رأيته آخر مرة ، ينصرف من هذه الشقة جريحا مكسور الخاطر ...

اندفعت إليه بجنون... و أي جنون !

ظللت أراقبه و هو يولّي .. حتى اختفى عن ناظري.. و بقيت محدّقة في الموضع الذي كان كتفاه العريضان يظهران عنده قبل اختفائه، و كأنني لازلت أبصر الكتفين أمامي !

" رغد ! "

نادتني دانة ، فحررت أنظاري من ذلك الموضع و التفت إليها... و رأيتها تحدّق بي و علامات غريبة على وجهها...

أنا ابتسمت .. لقد قرّت عيني برؤية وليد قلبي.. و لأنه هنا ...، فقط لأنه هنا ، فإن هذا يعطيني أكبر سبب في الحياة لأبتسم !

لا أعرف لم كانت نظرة دانة غريبة.. ممزوجة بالأسى و القلق.. قلت :

" ما بك ؟ "

" لا ... لا شيء "

" سأغسل وجهي و أوافيكن... "

و أسرعت قاصدة الحمّام ... طائرة كالحمامة !

بعد ذلك ، ذهبت إلى غرفة المجلس...مرتدية حجابي ، إذ أنني سأبقى لأتفرج على العريسين و لمياء - شقيقة نوار - تلتقط الصور لهما..

جميعهن كن يجلسن في أماكنهن كما تركتهن قبل قليل، نظرن إلي ّ جميعا حالما دخلت.. فابتسمت في وجوههن...

فجأة لمحت وجها غريبا في غير موقعه !

وجه أروى الحسناء !

دُهشت و علاني التعجب ! وقفت هي مبتسمة و قائلة :

" مرحبا رغد ! كيف حالك ؟ و كيف صحتك ؟؟ "

" أروى ! "

" مفاجأة أليس كذلك ؟؟ "

اقتربت منها و صافحتها و الدهشة تتملكني...و نظرت في أوجه الأخريات بحثا عن وجه أم أروى ... أو حتى وجه العجوز !

قلت :

" أهلا بك ِ ! أحضرت ِ بمفردك ؟؟ "

ابتسمت و قالت :

" مع وليد "

مع من ؟؟ مع وليد ؟؟ ماذا تقصد هذه الفتاة ؟؟

" مع وليد ؟؟ "

ازدادت ابتسامتها اتساعا و حمرة وجنتيها حمرة و بريق عينيها بريقا ... و التفتت نحو دانة ثم نحوي و قالت :

" ألم تخبرك ِ دانة ؟؟ "

التفت نحو دانة و أنا في غاية الدهشة و القلق.. و رميتها بنظرات متسائلة حائرة..
دانة أيضا نظرت إلي بنفس القلق.. ثم قالت :

" إنها ... إنها و وليد... "

و لم تتم...

نظرت إلى أروى ، فسمعتها تقول متمة جملة دانة ، تلك الجملة التي قضت علي و أرسلتني للهلاك فورا :

" ارتبطنا .. البارحة "


عفوا ؟؟ عفوا ؟؟ فأنا ما عدت أسمع جيدا من هول ما سمعت أذناي مؤخرا ! ماذا تقول هذه الفتاة ؟؟

" ماذا ؟؟ "

و رأيتها تبتسم و تقول :

" مفاجأة ! أ ليس كذلك ؟؟ "

نظرت إلى دانة لتسعفني ...

دانة أنقذيني مما تهذي به هذه ... ما الذي تقوله فلغتها غريبة.. و شكلها غريب.. و وجودها في هذا المكان غريب أيضا...

دانة نظرت إلي بحزن ، لا ... بل بشفقة ، ثم أرسلت أنظارها إلى الأرض...

غير صحيح !

غير ممكن .. مستحيل ... لا لن أصدّق ...

" أنت و .. وليد ماذا ؟؟ ار... تبطـ.. ـتما ؟؟ "

" نعم ، البارحة .. و جئت ُ معه كي أبارك للعريسين زواجهما.."


خطوة إلى الوراء، ثم خطوة أخرى.. يقترب الباب مني، ثم ينفتح.. ثم أرى نفسي أخرج عبره.. ثم أرى الجدران تتمايل.. و السقف يهوي.. و الأرض تقترب مني.. و الدنيا تظلم.. تظلم.. تظلم..و يختفي كل شيء...


" سامر .. تعال بسرعة"

هتاف شخص ٌ ما.. يدوي في رأسي.. أيدي أشخاص ما تمسك بي.. أذرع أشخاص ما تحملني.. و تضعني فوق شيء ما.. مريح و واسع..
أكفف تضرب وجهي.. أصوات تناديني.. صياح.. دموع.. لا ليست دموع.. إنها قطرات من الماء ترش على وجهي.. أفتح عيني.. فأرى الصورة غير واضحة.. كل شيء مما حولي يتمايل و يتداخل ببعضه البعض.. الوجوه، الأيدي.. السقف.. الجدران.. أغمض عيني بشدة.. أحرّك يدي و أضعها فوق عيني ّ .. لا أتحمل النور المتسلل عبر جفنيّ .. أشعر بدوار.. سأتقيأ.. ابتعدوا.. ابتعدوا...







~ ~ ~ ~ ~





عندما استردّت رغد وعيها كاملا، كان ذلك بعد بضع دقائق من حضورنا إلى الممر و رؤيتنا لها مرمية على الأرض...

كنا قد سمعنا صوت ارتطام ، شيء ما بالأرض أو الجدران ، ثم سمعنا صوت دانة تهتف :

" سامر ..تعال بسرعة"

قفزنا نحن الاثنان، أنا و سامر هو يهرول و أنا أهرول خلفه تلقائيا حتى وصلنا إلى هناك..
دانة كانت ترفع رأس رغد على رجلها و تضرب وجهها محاولة إيقاظها.. و رغد كانت مغشي عليها...

أسرعنا إليها ، و مددت أنا يدي و انتشلتها عن الأرض بسرعة و نقلتها إلى سريرها و جميعنا نهتف

" رغد.. أفيقي... "

صرخت :

" ماذا حدث لها ؟؟ "

دانة أسرعت نحو دورة المياه، و عادت بمنديل مبلل عصرته فوق وجه رغد، و التي كانت تفتح عينيها و تغمضهما مرارا...

استردت رغد وعيها و أخذت تجول ببصرها فيما حولها.. و تنظر إلينا واحدا عقب الآخر...

قال سامر :

" سلامتك حبيبتي... هل تأذيت ؟؟ "

قالت دانة :

" أأنت على ما يرام رغد ؟؟ "

قلت أنا :

" ما ذا حدث صغيرتي ؟؟ "

نظرت رغد إلي نظرة غريبة.. ثم جلست و صاحت :

" سأتقيأ "



بعدما هدأت من نوبة التقيؤ ، وضعت رأسها على صدر سامر و طوقته بذراعيها و أخذت تبكي ...

سامر أخذ يمسح على رأسها المغطى بالحجاب... و يتمتم :

" يكفي حبيبتي، اهدئي أرجوك.. فداك أي شيء..."

قلت :

" صغيرتي ؟؟ "

رغد غمرت وجهها في صدر سامر... مبللة ملابسه بالدموع..

" صغيرتي ..؟؟ "

" دعوني وحدي.. دعوني وحدي .. "

و أجهشت بكاء شديدا...

لم أعزم الحراك و لم استطعه، إلا أن دانة قالت لي :

" لنخرج وليد "

قلت بقلق :

" ماذا حدث يا دانة ؟؟ "

قالت :

" قلت لك... إنها مريضة! هذه المرة الثالثة التي يغشى عليها فيها منذ الأمس... "

صعقني هذا النبأ..

قلت مخاطبا رغد:

" رغد هل أنت بخير..؟؟ "

لم تلتف إلي ، بل غاصت برأسها أكثر و أكثر في صدر سامر و قالت :

" دعوني وحدي... دعوني وحدي.."

يد دانة الآن أمسكت بيدي ، و حثّتني على السير إلى الخارج، ثم أغلقت الباب...

حاولت التحدث معها إلا أنها اعترضت حديثي قائلة :

" سوف أعود لأطمئن ضيفاتي.. وليد استدع نوّار ... "

و انصرفت...

بقيت واقفا عند باب غرفة رغد غير قادر على التزحزح خطوة واحدة.. ماذا حل ّ بصغيرتي ؟؟ و لماذا تتشبث بسامر بهذا الشكل ؟؟ هل صحتها في خطر؟ هل عدلت عن فك ارتباطها به ؟ ماذا يحدث من حولي..؟؟

لحظات و إذا بي أرى دانة تظهر من جديد

" وليد أ لم تتحرك بعد ! هيا استدعه "

" حسنا.. "

و عدت إلى صالة الرجال، و رأيتهم أيضا متوترين يتساءلون عما حدث، طمأنتهم و استدعيت العريس و قدته إلى مجلس النساء.. حيث قامت والدته أو إحدى شقيقاته بالتقاط الصور التذكارية لهن مع العريسين...

أروى كانت بالداخل أيضا..

عدت إلى بقية الضيوف و أنا مشغول البال .. بالكاد ابتسم ابتسامة مفتعلة في وجه من ينظر إلي...

فيما بعد، جاء نوّار و قال :

" سننطلق إلى الفندق الآن.."

و كان من المفروض أن يسير موكب العريسين إلى أحد الفنادق الراقية، حيث سيقضي العريسان ليلتهما قبل السفر يوم الغد مع بقية أفراد عائلة العريس إلى البلدة المجاورة و من ثم يستقلون طائرة راحلين إلى الخارج...

سامر كان من المفترض أن يقود هذا الموكب..

ذهبت إلى غرفة رغد.. و طرقت الباب..

" سامر.. العريسان يودان الذهاب الآن.."

فتح الباب، و خرج سامر.. ينظر إلي بنظرة ريب ..

قلت:

" كيف رغد؟؟ "

قال بجمود :

" أفضل قليلا"

أردت ُ أن أدخل للاطمئنان عليها، لكن سامر كان يقف سادا الباب.. حائلا دون تقدّمي و تحرجت من استئذانه بالدخول..

قلت :

" إنهما يودان الانصراف الآن... "

سامر نظر إلي ّ بحيرة .. ثم قال :

" أتستطيع مرافقتهما ؟؟ "

" أنا ؟؟ "

" نعم يا وليد، فرغد لن تتمكن من الذهاب معنا و علي البقاء معها "

فزعت، و قلت:

" أهي بحالة سيئة؟ "

" لا، لكنها لن ترافقنا ، بالتالي سأبقى هنا "

" إنني أجهل الطريق.. "

" اطلب من أحد أخوته مرافقتكم..."

لم تبد لي فكرة حسنة، قلت معترضا:

" اذهب أنت يا سامر، و أنا باق هنا مع رغد و أروى..."


أقبلت دانة الآن، و سألت عن حال رغد، ثم دخلت إلى غرفتها...





~ ~ ~ ~ ~
 
تتمه

" أنا تعيسة جدا "

كان هذا جوابي على سؤال دانة التي أتتني بقلق لتطمئن علي..

دانة جلست إلى جواري على السرير و أخذت تواسيني.. إلا أن شيئا لا يمكنه مواساتي في الصاعقة التي أحلّت بي...

" أرجوك يا رغد.. كفى عزيزتي.. ألن تودّعينني ؟ إنني راحلة عنك للأبد ! "

و جاءت جملتها قاصمة لظهري...

" لا ! لا تذهبي و تتركيني ! سأكون وحيدة ! أريد أمي .. أريد أمي..."

و بكيت بتهيج..

" يكفي يا رغد ستجعلينني أبكي و أنا عروس في ليلة زفافي التعسة ! "

انتبهت لنفسي أخيرا.. كيف سمحت لنفسي بإتعاس أختي العروس في أهم ليالي عمرها؟ ألا يكفي أنها حرمت من حفل الزفاف الضخم الذي كانت تعد له منذ شهور... و خسرت كل ملابسها و حليها و أغراض زفافها.. و احترق فستان العرس تحت أنقاب المدينة المدمّرة !؟

طردت بسرعة الدموع المتطفلة على وجهي، و أظهرت ابتسامة مفتعلة لا أساس لها من الصحة و قلت :

" عزيزتي سأفتقدك ! ألف مبروك دانة "

تعانقنا عناقا طويلا.. عناق الفراق.. فبعد أكثر من 15 عاما من الملازمة المستمرة 30 يوما في الشهر، نفترق..و دموعنا مختلطة مع القبل...

قدم سامر.. و قال :

" هيا دانة .. "

صافحتها و قبلتها للمرة الأخيرة... ثم جاء دور سامر، و من ثمّ الرجل الضخم الذي كان يقف في الخارج عند الباب مباشرة...

لم استطع أن ألقي عليه و لا نظرة واحدة.. لم أشأ أن أنهار من جديد.. اضطجعت على سريري، و سحبت الغطاء حتى أخفيت وجهي أسفل منه...

سمعت سامر يقول :

" سآخذهما للفندق و أعود مباشرة.. وليد و خطيبته سيبقيان معك "

و لم تهز في ّ هذه الجملة شعرة واحدة ، بل أغمضت عيني و أنا أقول :

" سأنام.."

أحسست بالجميع يغادرون الغرفة و يغلقون الباب، ثم اختفت الأصوات و الحركات.. لقد غادر جميع الضيوف.. و في الشقة لم يبق إلا أنا.. و وليد.. و الأجنبية الدخيلة...

دخلت في نوم عميق أشبه بالغيبوبة.. إلا أنني في لحظة ما..أحسست بدخول شخص ما إلى الغرفة.. و اقترابه مني.. ثم شعرت بيد تمتد إلى لحافي فتضبطه فوقي، ثم تمسح على رأسي من فوق حجابي الذي لم أنزعه، ثم توهمت سماع همس في أذني ...

" أحلام سعيدة يا حبيبتي"

و ابتعد المجهول.. و سمعت صوت انغلاق الباب..

فتحت عيني الآن فوجدت الغرفة غارقة في السكون و الظلام.. هل كان ذلك وهما؟؟ هل كان تهيؤا ؟؟ حلما؟؟
لست أكيدة..
و إن كان حقيقة ، فالشيء الذي سأكون أكيدة منه ، هو أن الشخص كان سامر...






~ ~ ~ ~ ~ ~





استخدمت غرفتي السابقة بينما جعلت أروى تستعمل غرفة العروس، للمبيت تلك الليلة...

لقد كنت شديد القلق على صغيرتي .. و لم أنم كما يجب..

كنا قد قررنا البقاء ليومين قبل معاودة الرحيل، و كان هذان اليومان من أسوأ أيام حياتي !

رغد كانت مريضة جدا و ملازمة للفراش، و سامر كان يمنعني من الدخول إلى غرفتها أغلب المرات، و في المرات القليلة التي سمح لي بإلقاء نظرة، كنت أرى رغد شاحبة جدا و مكتئبة للغاية ، ترفض الحديث معي و تطلب منا تركها بمفردها
ضاق صدري للحالة التي كانت عليها و سألت سامر:

" ماذا حدث لها ؟ هل حدث شيء تخفونه عني؟ لم هي كئيبة هكذا؟؟ هل آذاها أحد بشيء ؟؟ "

قال سامر :

" إنها كئيبة لفراق دانة ، فكما تعرف كانت تلازمها كالظل... "

" لكن ليس لهذا الحد.. أنا أشعر بأن في الأمر سر ما.. "

نظر إلي شقيقي نظرة ارتياب و قال :

" أي سر؟؟ "

قلت :

" ليتني أعرف... "

كنا خلال هذين اليومين نتناول وجباتنا أنا و أروى في المطاعم، و في الليلة الأخيرة، عندما عدنا من المطعم ، وجدنا رغد و سامر في غرفة المائدة يتناولان العشاء...

فرحت كثيرا، فهي علامة جيدة مشيرة إلى تحسّن الصغيرة..

قلت :

" صغيرتي.. حمدا لله على سلامتك، أتشعرين بتحسّن ؟؟ "

رغد نظرت نحوي بجمود ، ثم نحو أروى ، ثم وقفت ، و غادرت الغرفة ذاهبة إلى غرفة نومها...

وقف سامر الآن و نظر إلي بعصبية :

" أ هذا جيّد؟ ما كدت أصدق أنها قبلت أخيرا تناول وجبة.. "

قلت ُ بانزعاج :

" هذه حال لا يصبر عليها، لسوف آخذها إلى الطبيب.. "

و سرت ُ مسرعا نحو غرفتها ، فأقبل شقيقي من بعدي مسرعا :

" هيه أنت.. إلي أين ؟؟ "

التفت ُ إليه و قلت :

"سآخذ الفتاة للمستشفى "

قال بغيظ :

" من تظن نفسك؟ ألا تراني أمامك؟؟ خطيبتك هي تلك و ليست هذه "

قلت مزمجرا :

" قبل أن تكون خطيبتك هي ابنة عمّي ، و إن كنت نسيت فأذكرك بأنها ستنفصل عنك، و لتعلم إن كنت جاهلا بأن أمورها كلها تهمني و أنا مسؤول عنها كليا ، مثل والدي تماما "

و هممت بمد يدي لطرق الباب و من ثم فتحه ، إلا أن سامر ثار... و أمسك بيدي و أبعدها بقوة..

تحررت من مسكته و هممت بفتح الباب ألا أنه صرخ :

" ابتعد "

و قرن الصرخة بانقضاض على ذراعي، و سحب لي بقوة...

دفعت به بعيدا عني فارتطم بالجدار، ثم ارتد إلي و لكمني بقبضته في بطني لكمة عنيفة...

اشتعلت المعركة فيما بيننا و دخلنا في دوامة جنونية من الضرب و الركل و اللطم و الرفس.. أتت في غير أوانها !

أروى واقفة تنظر إلينا بذهول.. و باب غرفة رغد انفتح .. و ظهرت منه رغد مفزوعة تنظر إلينا باستنكار و توتّر

" سامر... وليد... يكفي ... "

إلا أن أحدنا لم يتوقّف...

في العراك السابق كان سامر يستسلم لضرباتي .. أما الآن ، فأجده شانا الهجوم علي و يضربني بغيظ و بغض.. كأن بداخله ثأرا يود اقتصاصه مني...

بعد لحظات من العراك، و يد الغلبة لي، و أنا ممسك بذراع أخي ألويها للوراء و أؤلمه ، جاءت رغد تركض نحوي صارخة :

" أترك خطيبي أيها المتوحّش "

و رأيت يديها تمتدان إلي ، تحاولان تخليص سامر من بين يدي...

أمسكت بذراعي و شدّتني بقوة، فحررت أخي من قبضتي و استدرت لأواجهها...

صرخت بوجهي :

" وحش.. مجرم.. قاتل.. أكرهك.. أكرهك.. أكرهك "

و بقبضتيها كلتيهما راحت تضربني على صدري بانفعال ضربة بعد ضربة بعد ضربة... و أنا واقف كالجبل بلا حراك.. أشاهد.. و اسمع.. و أحس.. و أتألم..
و أحترق... و أتزلزل ... و أموت..
 
الحلقةالثلاثون
********






بعد سيل الضربات القوية التي وجهتها إلى صدر وليد ، بانفعال و ثورة.. بغضب و غيظ و قهر.. شعرت بألم في يدي ّ كان هو ما جعلني أوقف ذلك السيل...

رفعت رأسي إليه، فرأيته ينظر إلي بجمود .. لم تهزه ضرباتي و لم توجعه!
من أي نوع من الحجر أنت مخلوق؟؟ من أي نوع من المعادن صدرك مصنوع؟؟ ألا تحس بي؟؟

عيناي كانتا مغرورقتين بالعبرات الحارقة.. تمنيت لو يمسحها.. تمنيت لو يضمني إلى صدره..

تمنيت.. لو أصحو من النوم ، فأكتشف أن أروى هي مجرد حلم.. وهم .. لا وجود له.. و كم كانت أمان ٍ مستحيلة التحقق...

كان وليد ينظر إلي بعمق، كانت نظراته تنم عن الحزن.. و الاستسلام... فهو لم يقاومني و لا يبعدني.. بل تركني في ثورة غضبي أفرغ على صدره دون إدراك.. كل ما كتمته من غيظ مذ علمت بنبأ ارتباطه...

ابتعدت عنه، التفت إلى سامر، ثم إلى أروى، ثم إلى وليد مجددا... ثم ركضت داخلة غرفتي و صافعة الباب بقوة...

لم أسمح لسامر بالدخول عندما أراد ذلك بعد قليل، و بقيت أبكي لساعات...

في اليوم التالي، عندما خرجت من غرفتي قاصدة المطبخ، لمحت غرفة دانة سابقا ، الدخيلة حاليا مفتوحة الباب...

اقتربت منها بحذر .. و ألقيت نظرة شاملة عليها كانت خالية من أي أحد ..

أسرعت نحو غرفة وليد.. فوجدتها الأخرى مفتوحة و لا وجود لأي شيء يشير إلى أن وليد لم يرحل...

ركضت بسرعة نحو الصالة، رأيت سامر يجلس هناك شاردا ..
حين رآني ، ابتسم و وقف و ألقى علي تحية الصباح ..

قلت بسرعة :

" أين وليد ؟؟ "

ألقى علي سامر نظرة متألمة ثم قال :

" رحل "

صعقت ... هتفت :

" رحل ؟؟ متى ؟؟ "

قال :

" قبل قليل.. "

مستحيل ! لا ... غير ممكن ...

صرخت :

" لماذا تركته يرحل ؟؟ "

نظر إلي سامر بحيرة ..صرخت مجددا :

" لماذا تركته يرحل ؟؟ "

قال سامر مستاء ً :

" و هل كنت تتوقعين مني أن أربطه إلى المقعد حتى لا يذهب ؟ أخذ خطيبته و أغراضهما و ولا خارجين دون سلام "

صرخت :

" كان يجب أن تمنعه ! الحق به.. دعه يعود .. أعده إلي حالا "

سامر هتف بعصبية :

" لا تثيري جنوني يا رغد.. ماذا تريدين به ؟ لقد تزوّج من أخرى و قضي الأمر "

صرخت بقوة :

" لا "

" رغد ! "

" لن أصدّق.. إنكم تكذبون ... كلكم تكذبون.. وليد لم يرتبط بأحد.. وليد لم يدخل السجن.. وليد لم يقتل أحدا.. وليد لن يتخلّى عني...لن يبتعد عني.. أعده إلي.. أعده إلي..أعده إلي.. "

و انهرت باكية..حسرة على وليد قلبي

و على هذه الحال بقيت أياما... اشتد علي المرض و السقم.. و تدهورت حالتي النفسية كثيرا..كما ساءت حالة سامر و أصبح عصبيا جدا..و صرنا نتشاجر كل يوم..و الحال بيننا لا تطاق..

ما زاد الأمر سوءا هو أننا كلما اتصلنا بوالدي ّ وجدنا الهاتف مغلقا، و عندما اتصلنا بالفندق الذي كانا ينزلان به أُبلغنا بأنهما قد غادراه...

انقطعت أخبارهما عنا عدة أيام و حلّ التوتر الفظيع علينا و امتزجت المشاكل و المخاوف و المشاجرات مع بعضها البعض، و تحوّلت حياتنا أنا و سامر إلى جحيم... و جحيمنا صار يتفاقم و يتضاعف يوما بعد يوم، إلى أن طغى الطوفان المدمّر و حلّت الصاعقة الكبرى...أخيرا...





~ ~ ~ ~ ~




التحقت بمعهد إداري في مبنى قريب من المزرعة، و بتوفيق من الله أولا ، ثم بمساعدة من العم إلياس و السيدة ليندا، أصبحت طالبا رسميا في المعهد.

الحياة بدت مختلفة، و كل شيء سار على خير ما يرام، حظيت أخيرا بشيء من الراحة و السعادة..
خطيبتي..كانت إنسان رائع جدا.. في الأخلاق و الطيبة و المشاعر و الجمال و كل شيء... نعمة من رب السماء ..

حاولت جاهدا أن أصرف مشاعري نحوها... و أودع فيها ما يكنه قلبي من الحب و الحنان ، إلا أن رغد.. لم تسمح لي بذلك...

فقد كانت محتلة القلب من أول وريد إلى آخر شريان...و بُعدها و صحتها المتدهورة ما زاداني إلا تعلقا بها و لهفة إليها... و كلما تسللت يداي إلى الهاتف، و أدارتا رقم الشقة، ذكرني عقلي بكلماتها الأخيرة القاتلة... فوضعت السماعة و ابتعدت ...

لم أتصل للسؤال عن أي فرد من أسرتي، و أقنعت نفسي بأنني لم أعد أنتمي إليهم.. و أن عائلتي الحقيقية هي عائلة نديم رحمه الله...

لذلك ، حين وردتني مكالمة من سامر بعد أيام حاولت اصرافها، إلا أن أروى ألحّت علي بالإجابة .. و هي تقول :

" لو كان لدي أخ أو أخت لكنت فعلت أي شيء من أجلهما مهما تعاركا معي أو حتى قتلاني ! "

تناولت السماعة من يدها و أنا أشعر بالخجل من هروبي هذا... قربتها من أذني و فمي و تحدّثت :

" نعم يا سامر؟؟ "

" كيف حالك؟ "

" بخير.."

و ساد صمت استمر عدة ثواني ...

قلت :

" أهناك شيء ؟؟ "

فأنا لا أتوقع أن يتصل ليسأل عني فقط ، خصوصا بعد شجارنا الأخير...

قال سامر :

" يجب أن تحضر إلى هنا يا وليد "

ذهلت من عبارته، قلت متوترا و قد انتابني القلق المفاجئ :

" خير؟ هل حصل شيء ؟؟ "

" نعم، و لابد من حضورك "

هوى قلبي على الأرض..من القلق ، قلت و أنا بالكاد أحرك شفتي ّ :

" رغد بخير ؟؟ أ أصابها مكروه ؟؟ "

سامر صمت ، ما جعلني أوشك على الموت... قلت :

" ما بها رغد أخبرني ؟؟ "

قال :

"على ما هي عليه، أريدك حضورك فورا "

التقطت بعض أنفاسي و قلت :

" لم سامر؟ أخبرني ماذا حصل ؟؟ "

" لن أخبرك على الهاتف ، تعال بأسرع وقت يا وليد.. الأمر غاية في الأهمية "


لم استطع بعد تلك المكالمة السكون برهة واحدة ، تحركت بعصبية كالمجنون .. و من فوري ذهبت لأبحث عن سيارة أجرة، إذ أنني لم أكن أملك واحدة كما تعلمون...

أرادت أروى مرافقتي إلا أنني عارضت ذلك، و خلال ساعة، كنت أشق طريقي نحو شقة سامر.. و قلبي شديد الانقباض.. لابد أن مكروها قد حل ّ بصغيرتي و إن كان كذلك، فلن أسامح نفسي على البقاء بعيدا بينما هي مريضة...

قطعت المسافة في زمن قياسي، و حين وصلت أخيرا إلى الشقة، قرعت الباب بشكل متواصل إلى أن فتحه أخي أخيرا...

من النظرة الأولى إلى وجهه أدركت أن الموضوع أخطر مما تصوّرت.. كانت عيناه حمراوان و جفونه وارمة ، و وجهه شديد الكآبة... و السواد أيضا...
منظره أوقع قلبي تحت قدمي ّ في الحال...

و قبل أي كلمة أخرى هتفت مفزوعا :

" أين رغد ؟؟ "

و ركضت إلى الداخل مسرعا و أنا أنادي :

" رغد ... رغد ... "

و حين بلغت غرفتها طرقت الباب بقوة... و أنا أهتف بفزع...

" رغد... أأنت هنا ؟ "

فتح الباب و ظهرت رغد .. و ما أن وقعت أعيننا على بعضها البعض حتى كدت أخر صريعا..

" رغد ! "

" وليد ... "

" أنت ِ بخير صغيرتي ؟؟ أنت بخير ؟؟ "


انفجرت رغد باكية بقوة ، التفت إلى الوراء فإذا بسامر يقف خلفي ، هتفت :

" ماذا حصل ؟ "

رغد ازداد بكاؤها ..

قلت منفعلا :

" أخبراني ماذا حدث ؟؟ "

و نظرت إلى سامر في انتظار ما سيقول ...
سامر حرّك شفتاه و قال أخيرا :

" أصيب والدانا في الغارة على الحدود"

صعقت ، شهقت :

" ماذا ؟؟ "

طأطأ سامر رأسه للأسفل ، فقلت بسرعة :

" سامر ؟؟ "

لم يرفع عينيه في البداية، إلا أنه حين رفعهما كانتا غارقتين في الدموع، و قال أخيرا :

" قتلوهما.."







شهر كامل قد مضى، و أنا مقيم مع أخي و رغد في هذه الشقة... نسبح في بحر الدموع و الألم...

لا يقوى أحدنا حتى على النهوض من المقعد الذي يجلس عليه... أسوأ اللحظات.. كانت تلك اللحظات التي رأيت فيه رغد تلطم وجهها و تصرخ و تنوح و تصيح...

" لماذا كتب علي أن أيتّم مرتين؟؟ من بقي لي بعدهما؟؟ أريد أن ألحق بهما.. أمي .. أبي .. أنا مدللتكما العزيزة.. كيف تفعلان هذا بي ؟؟ كيف تتركاني يتيمة من جديد؟ و أنا في أمس الحاجة إليكما.. ليتني متّ منذ صغري..ليتني احترقت مع المنزل و لم أعش هذا اليوم... وا حسرتاه"

كانت تجول في الشقة و تصرخ و تنادي كالمجنونة.. و تصفع رأسها بأي شيء تصادفه في طريقها..

و كنت أمشي خلفها، محاولا تهدئتها و مواساتها ، بينما أنا الأكثر حاجة للمواساة..

أبعد حرماني منهما لثمان سنين.. ثمان سنين كان من الممكن أن أقضيها تحت رعايتهما و حبهما.. اللذين مهما كبرت سأبقى بحاجة إليهما، أفقدهما بهذا الشكل؟؟

حينما أتذكر يوم وداعهما...

آه يا أمي.. و يا أبي..

لو كنت أعرف أنه اللقاء الأخير.. ما كنت تركتكما تخرجان...

أتذكر وصايا أمي... (اعتني بشقيقتيك جيدا لحين عودتنا).. أماه.. هاأنا قد اعتنيت بهما و إن قصّرت.. فأين عودتك ؟؟

لو كنت أعلم أنه آخر العهد لي بكما... ما فارقتكما لحظة واحدة حتى أموت دونكما أو معكما..

لكنه قضاء الله.. و مشيئة الله..

يا رب.. فكما جاءاك ملبيين طائفين حول بيتك المشرّف، يا رب فأكرمهما بنعيم الجنة التي وعدت بها عبادك المؤمنين...

و لا حول و لا قوّة إلا بالله...




شهر كامل قد انقضى و لم تتحسن أحوالنا النفسية شيئا يذكر..
و هل يمكن أن يندمل جرح كهذا؟؟
لقد كانا في حافلة مع مجموعة من الحجيج عائدين إلى البلد، بعدما نفذ صبر الجميع و دفعهم الحنين لأهلهم للإقدام على السفر برا...و كانت مجازفة أودت بحياتهم جميعا ...
نحن.. و يا من كنا غارقين في بحر الحزن و المآسي.. و يا من تشردنا..و تشتتنا..و تفرّقنا و انتكست أحوالنا و تنافرت قلوبنا..و كنا ننتظر عودة والدينا لعل ّ الله يصلح الحال.. يأتينا نبأ مصرعهما المفاجئ المفجع.. و ينسف ما بقي لنا من قوة أيما نسف...

السلطات اتصلت بأخي سامر و أبلغته الخبر المفجع، ليذهب لاستلام الجثتين من إحدى المستشفيات، التي نقل إليها جميع راكبي الحافلة، و الذين قتلوا جميعا دون استثناء..

كنت أريد الذهب..فقط لألقي نظرة..فقط لأقبّل أي شيء منهما.. رأسيهما.. جبنيهما.. أيديهما..إقدامهما..أو حتى ملابسهما..أي شيء منهما و لهما.. لكني بقيت رغما عني ملازما رغد في المستشفى.. متوقعا أن أفقدها هي الأخرى.. بين لحظة و أخرى..

كانت أفظع أيام حياتي..

كانت نائمة معظم الوقت، و كلنا أفاقت سألتني :

" أين أبي؟؟ أين أمي ؟؟ ألا أزال حية ؟؟ متى سأموت؟؟"

و لا أجد شيئا أواسيها به غير آهات تنطلق من صدري ، و شلالات تتدفق من عيني.. ونيران تحرق جسدي و ترديني فتاتا.. رمادا..غبارا..

عندما عاد أخي.. كنت أنظر إلى عينيه بتمعن..أحدق بهما بجنون..علّ صورة والدي ّ قد انطبعت عليهما.. علّني أرى طيف ما رأتاه..

أخذت أضمه، و أشمه و أقبّله.. فقد كان معهما.. و ربما علق به شيء منهما..أي شيء... أي شيء...

و حين سألني عن رغد.. قلت باكيا :

" ستموت! إنني أراها تموت بين يدي.. ماذا أستطيع أن أفعل؟ ليتني متّ قبل هذا "

و حين تحدث معها ، سألته بلهفة :

" أين هما؟؟ هل عادا معك؟؟ هل عادا للمنزل؟ أعدني إليهما..فأنا أريد أن يشهدا عرسي..ليس مثل دانة !"


أي عرس يا رغد..أي فرح..أي لقاء تتحدثين عنه ؟؟

لقد انتهى كل شيء.. و الحبيبان اللذان كانا يدللانك و يحيطاننا جميعا بالحب و الرعاية.. ذهبا في رعاية من لا يحمد على مكروه قضى به سواه...

اللهم لا اعتراض على قضائك...

و إنا لله .. و إنا إليه راجعون....








اليوم، و كما قررت أخيرا، سأذهب إلى المزرعة.. فلا بد لي من مواصلة العمل، و الدراسة في ذلك المعهد.. و العودة إلى أهلي بعدما حصل.. أصبحت ضربا من المحال..

فمن يريد العودة إلى جحيم الذكريات... ؟؟

سامر..كان قد أهداني سيارة قبل أيام، جاءت منقذة لي في وقت الحاجة الحقيقية.. شكرته كثيرا.. و أذكر أنه يومها ابتسم ابتسامة واهية و قال :

" و لم كل هذا الشكر ! إنها مجرّد سيارة.. بلا روح و لا مشاعر !"

استغربت من ردّه، إلا أنه غير الحديث مباشرة...

زرت المزرعة مرتين اثنتين فقط مذ قدمت إلى هنا.. فقد كان بقائي قرب رغد هو مركز اهتمامي و بؤرته... أما أحوال العائلة هناك كانت مستقرة..

أجمع أشيائي في حقيبة أضعها على السرير، باب الغرفة مفتوح، يطل منه أخي سامر... و يتحدّث ...

" أحقا سترحل وليد؟؟ "

استدير إليه و أقول :

" كما ترى "

مشيرا إلى الحقيبة.. و أضيف :

" سأعود إلى عملي، و دراستي"

يظل واقفا عند الباب ، ثم يخطو خطوتين إلى الداخل و يقول بصوت خافت :

" أنا أيضا سأعود إلى عملي... انتهت إجازاتي الممددّة "

التفت إليه و أنا أدرك ما يعني، بل هو أكثر ما يشغل تفكيري على الإطلاق، لكنني أقول :

" و إذا ؟؟ "

يقول :

" رغد... "

نعم ، لا زلنا و منذ زمن..نقف عند هذه النقطة.. رغد...

قال :

" لا يمكن تركها وحيدة..، خذها معك "

و فاجأني هذا الطلب، فهو آخر ما كنت أتوقع أن يطلبه أخي مني...

لقد كنت أنا من سيطرح الفكرة، و خشيت أن أعقد الأمور أكثر في وقت نحن فيه في غنى تام عن أي تشويش يزيدنا ألما فوق ألم...

قلت :

" معي أنا ؟؟ "

" نعم يا وليد.. فهناك حيث تقيم، لديك عائلة يمكن لرغد أن تظل تحت رعايتهم أثناء غيابك.. لكن هنا في هذه الشقة..."

لم يتم كلامه..

لقد كان هذا الموضوع هو شغلي الشاغل منذ قررت العودة للمزرعة، ألا أنني لم أكن أعرف الطريق لفتحه أمام سامر، خطيب رغد...

قلت :

" ما كنتَ فاعلا لو أنكما تزوجتما إذن؟ "

قال :

" ربما ..أتركها في بيتنا مع والدي ّ "

و الكلمة قرصت قلبينا... و عصرت شعورنا...

تابع :

" ألا أنه .. لا والدين لنا الآن .. و لا بيت.."

" يكفي أرجوك.."

قلت ذلك محاولا إبعاد غيمة الهم عني، فقد اكتفيت من كل ذلك.. اكتفيت من الهموم التي حملتها على صدري مذ ارتكبت جريمتي و حتى هذا اليوم...

بددت أشباح الذكرى المؤلمة بعيدا عن رأسي.. و قلت :

" أتظنها ترحب بذلك ؟؟ "

ابتسم ابتسامة مائلة للسخرية و قال :

" جرّب سؤالها بنفسك..."

و رمقني بنظرة حادة، ثم غادر الغرفة...

بعدما انتهيت من جمع أشيائي، ذهبت ُ إلى غرفة رغد...

طوال الأيام الماضية لم تكن تغادرها .. حتى القليل من الطعام الذي كانت تعيش عليه، تتناوله على سريرها.. حالتها كانت سيئة جدا ولازمت المستشفى وقتا طويلا، و كنا نتناوب أنا و سامر على رعايتها...إلا أنها تحسّنت في الآونة الأخيرة.. و أحضرناها إلى هنا.. و الحمد لله

فلو أصابها شيء..هي الأخرى، فسوف أموت فورا لا محالة...لن يقوى قلبي على تحمّل صدمة أخرى.. و خصوصا للحبيبة رغد..لا قدّر الله ..

طرقت الباب و ذكرت اسمي، ثوان، ثم أذنت لي بالدخول...

دخلت، فرأيتها جالسة على السرير، كالعادة، إلا أنها ترسم شيئا ما في كراستها...

اقتربت لألقي نظرة على ما ترسم، كانت صورتين وهميتين لوالدي ّ رحمهما الله.. مرسومتين بالقلم الرصاصي، و بمعالم غامضة مبهمة...

" كيف أنت صغيرتي؟ "

لم ترفع عينيها عن الرسمة، قالت :

" كما أنا "

و هو جواب يقتلني...إن كنتم لا تعلمون...

قلت :

" أنت بخير، الحمد لله .."

قالت :

" نعم ، بخير.. يتيمة مرتين، وحيدة و بلا أهل.. و لا من يتولى رعايتي .. عالة على ابن عمّي ... "

مزقتني كلماتها هذه، قلت :

" عالة على خطيبك !؟ "

قالت مصححة :

" ابن عمّي.. فأنا لن أتزوّجه.. ما لم يحضر والداي و يباركا زواجنا.."

كادت الدمعة تقفز من عيني... اقتربت منها أكثر.. و قلت محاولا المواساة :

" حتى لو لم تتزوجيه، يبقى ابن عمّك و مسؤولا عنك.. فلا تأتي بذكر كلمة عالة هذه مرة أخرى "

الآن، قامت بالخربشة على الصورتين بخطوط عشوائية حادة، ثم .. نزعت الورقة من الكراسة، ثم مزّقتها..

أخيرا نظرت إلي :

" لم لا ترسلاني إلى دار لرعاية الأيتام ؟ "

" رغد بالله عليك.. لم تقولين ذلك ؟؟ "

" نعم فهو المكان الأنسب لي، سامر يريد العودة للعمل و أنا أعيقه "

قلت بألم :

" و أنا ؟ "

رمقتني بنظرة مبهمة ، ثم قالت :

" و أنت ستعود إلى عملك، و فتاتك..، و دانة تزوجت و استقرت مع زوجها في الخارج..، بلا بيت و لا والدين .. و لا أهل.. إما أن ترسلاني لبيت خالتي، أو لدار الأيتام "

اغتظت، و قلت بعصبية :

" كفّي عن ذلك يا رغد، بالله عليك... أتظنين أنني سأتخلى عنك بهذه السهولة ! "

رغد حدقت بي، متشككة مرتابة...

قلت :

" أبدا يا رغد ! لا تظني .. أنه بوفاة والدي رحمه الله.. لم يعد لك ولي مسؤول.. إنك من الآن فصاعدا، لا .. بل من يوم وفاته فصاعدا... بل و من يوم وفاة والديك الحقيقيين فصاعدا.. تحت مسؤوليتي أنا.."

لا تزال تحملق بي بريبة..

قلت :

" و من هذه اللحظة، اعتبريني أمك و أباك و أخاك و كل شيء.. "

شيء من التصديق ظهر على وجهها.. أرادت التحدث إلا أنها منعت نفسها .. قلت مؤكدا :

" نعم صغيرتي، و لتكوني واثقة مائة بالمائة.. من أنك ستبقين ملازمة لي كعيني هاتين.. و لسوف أفقأهما قبل أن أبعدك عني مترا واحدا ! "


الآن رغد راحت تنظر إلى المسافة التي تفصل بيننا، بضع خطوات تتجاوز المتر.. ثم تنظر إلي...

نظرت أنا إلى حيث نظرت، ثم خطوت خطوتين للأمام، و قلت :

" متر ! أليس كذلك ؟؟ "

هنا .. انطلقت ضحكة غير متوقعة من حنجرة رغد.. ضحكة صغيرة كصغر حجمها و حجم حنجرتها.. و قصيرة كقصر المسافة التي بيننا هذه اللحظة... و مبهجة كبهجة العيد !

لم أستطع منع نفسي من الابتسام.. و هل هناك أجمل من ابتسامة أو ضحكة عفوية تشق طريقها بين الدموع و الهموم؟؟

لما رأيت منها هذا التجاوب، فرحت كثيرا.. فضحكة رغد ليست بالأمر السهل..إنها أعجوبة حصلت في زمن المرض و المآسي...

قلت :

" بما أن سامر سيبدأ العمل و سينشغل ثمان ساعات من النهار خارج الشقة، و أنا لابد لي من العودة لعملي، فأنا سآخذك معي.. فهل تقبلين ؟؟ "

قالت :

" و سامر؟ يبقى وحيدا ؟ "

قلت :

" سنأتي أسبوعيا لزيارته أو يأتينا هو.. ربما تتغير ظروفنا فيما بعد.. و نستقر جميعا في مكان واحد.. ما رأيك ؟ "

نظرت إلى الأرض، ثم قالت :

" حسنا "

أثلج صدري، ارتخت عضلاتي و ارتاح قلبي من توتره.. قلت :

" إذن اجمعي أشياءك الآن، سنذهب عصرا "

وقفت رغد مباشرة، و بدأت بجمع قصاصات الورقة التي مزقتها قبل قليل..

أخذت تنظر إليها، و شردت...

قلت مداعبا :

" اطمئني يا رغد.. سترين..أي نوع من الآباء و الأمهات سأكون ! "

ابتسمت رغد، و ألقت القصاصات في سلة المهملات...





~ ~ ~ ~ ~





لم يكن لدي الكثير من الأشياء، لذا لم احتج أكثر من حقيبة صغيرة جمعت حاجياتي فيها، و وضعتها قرب الباب..

وليد ذهب إلى الحلاق، و حينما يعود .. سنغادر..

سوف لن أتحدث عن فاجعة موت والدي ّ لأنني لا أريد لدموعي و دموعكم أن تنهمر.. فقد اكتفيت..تشبّعت للحد الذي لم تعد فيه الدموع تحمل أي معنى...

لقد كنت أنا من أصرّ عليهما للحضور بأية وسيلة.. فقد كنت في حالة سيئة كما تعلمون.. و ربما هذا ما دفعهما لسلك الطريق البري الخطر..

أنا الآن فتاة يتيمة مرتين.. بلا ولي و لا أهل، غير خطيب لن أتزوجه يوما.. و ابن عم لن يتزوجني يوما.. لكنه لن يتخلى عني..

أجهل طبيعة الحياة التي سأعيشها من الآن فصاعدا.. إلا أنني لا أملك من الأمر شيئا

و إذا ما كتبت لي العودة إلى المدينة الصناعية ذات يوم، فلسوف استقر في بيت خالتي..

حتى يومنا هذا، و الحظر الشديد مستمر على المدينة الصناعية و مجموعة من المدن التي تعرضت أو لا تزال تتعرض للقصف و التدمير من قبل العدو...

أما هذه المدنية، و كذلك المدينة الزراعية، فهما بعيدتان عن دائرة الحرب...

ارتديت عباءتي، مستعدة للخروج .. و لمحت سامر يقبل نحوي..

وقفت أنظر إليه و هو ينظر إلي.. و كانت النظرات أبلغ من الكلمات..

قال :

" سأفتقدك"

قلت :

" و أنا كذلك.. سنأتي لزيارتك كل أسبوع"

ابتسم ابتسامة واهنة و من ثم قال :

" هل ستكونين على ما يرام هناك ؟؟"

لم أرد.. فأنا لا أعلم ما الذي ينتظرني..

" أينما كنت يا رغد..أتمنى لك السعادة و الراحة "

نظرت إليه نظرة امتنان..

أمسك يدي بحنان و قال :

" سأكون هنا.. متى ما احتجتني.. دائما في انتظارك و رهن إشارتك.."

لم أملك إلا أن طوّقته بيدي الأخرى.. و قلت :

" يا عزيزي..."

و تعانقنا عناقا هادئا صامتا.. طويلا..

بعد مدّة ، عاد وليد..

ودّعنا سامر.. و ركبنا السيارة، وليد في المقدمة و أنا خلفه.. وانطلقنا...

لكي يقطع الوقت و يقتل الملل، أدار المذياع.. فأخذت أصغي إلى كل شيء و أي شيء.. كما كنت أراقب الطريق... و رغم الصمت الذي كان رفيق لسانينا، إلا أنني شعرت به يكلّمني...

أكاد أسمع صوته، و أحس بأنفاسه.. و الحرارة المنبعثة من جسده الضخم... كان هو مركزا على الطريق.. بينما أنا أغلب الأحيان مركزة عليه هو...

الآن، و بعد كل الأحداث التي مررت بها..أعترف بأنني لا أزال أحبه..


وصلنا إلى نقطة تفتيش.. ما أن لمحتها حتى أصبت بالهلع.. فبعد الذي عشته تلك الفترة.. صرت أرتجف خوفا من مثل هذه الأمور...

الشرطي طلب من وليد البطاقة و رخصة القيادة..

ثم سأله عني..

" ابنة عمي "

" أين بطاقتها ؟ "

" إنها لا تحمل بطاقة خاصة، فهي صغيرة "

" إذن بطاقة والدها "

" والدها متوف، ووالدي الكافل كذلك، توفي مؤخرا..إلا أنها مضافة إلى بطاقة شقيقي، خطيبها حاليا "

قال الشرطي متشككا :

" هل هذا صحيح ؟؟ "

قال وليد :

" طبعا ! "

الشرطي التفت إلي أنا و قال :

" هل هذا ابن عمّك ؟ "

قلت بوجل :

" أجل "

" أهو خطيبك ؟ "

" لا ! شقيق خطيبي.."

" و أين خطيبك أو ولي أمرك ؟ "

" لم يأت ِ معنا، لكنه على علم بسفرنا "

" صحيح ؟ "



وليد قال بعصبية وضيق :

" و هل تظنني اختطفتها مثلا ؟ بربّك إنها مثل ابنتي "

ابتعد الشرطي مترددا ثم سمح لنا بالعبور...

أنا كنت أنظر إلى وليد عبر المرآة.. مندهشة و مستنكرة جملته الأخيرة !

ابنته !؟ أنا مثل ابنته ؟؟

فارق السن بيننا لا يتجاوز التسع سنين !

وليد أبي !

بابا وليد !

و شعرت ُ برغبة مفاجئة في الضحك !

لكن هذه الرغبة تحوّلت إلى حرج شديد جدا..عندما أصدرت معدتي نداء الجوع !

مباشرة نظر وليد عبر المرآة فالتقت أنظارنا.. و أبعدت عيني بسرعة في خجل شديد...

تكلم وليد قائلا :

" لم تأكلي شيئا منذ الصباح..أليس كذلك؟ "

تحرجت من الرد عليه..و علتني حمرة الخجل.. لم أكن في الآونة الأخيرة أتناول أكثر من وجبة واحدة في اليوم.. و كنت أجبر نفسي على أكلها فقط لأبقى حية..

أتذكر الآن.. الطبخات اللذيذة التي كانت أمي، و دانة تعدّانها..
آه أماه..
إنني مشتاقة لأي شيء من يديك.. حتى و لو كان السمك المشوي الذي تعدّينه، و اهرب أنا من المائدة كرها له...
كنت سأدخل متاهة الذكرى المؤلمة، لكن صوت وليد أغلق أبواب المتاهة حين سمعته يقول :

" سآخذك إلى مطعم جيد في المدينة الشمالية الزراعية .. سيعجبك طعامه "

المشوار كان طويلا.. و الهدوء جعل النعاس يطغى علي.. فمنت لبعض الوقت..

صحوت من النوم على صوت وليد يهمس باسمي...

" رغد.. رغد صغيرتي.."

فتحت عيني.. فوجدته ملتفتا إلى الوراء يناديني.. و تلفت من حولي فرأيت السيارة واقفة ..

قال وليد:

" وصلنا "

قلت :

" المزرعة ؟ "

و أنا أطالع ما حولي.. باستغراب..

قال :

" المطعم "

قلت :

" ماذا ؟ "

" المطعم صغيرتي.. نتناول عشاءنا ثم نذهب إلى المزرعة "

و تذكرت أنني كنت جائعة ! كانت الوقت لا يزال باكرا..

وليد فتح بابه و خرج من السيارة، ثم فتح الباب لي..

هبطت و صافحتني أنسام الهواء الباردة.. فضممت ذراعي ّ إلى بعضهما البعض..

" أتشعرين بالبرد؟ "

" قليلا"

" المكان دافئ في الداخل.. هيا بنا "

سرنا جنبا إلى جنب، أنا بقامتي الصغيرة و رأسي المنحني للأسفل، و هو بجسده العملاق.. و رأسه العالي فوق هامته الطويلة ! ثنائي عجيب متناقض ! دخلنا المطعم .. كان تصميم مدخله جميل.. و الكبائن متباعدة و متقنة الهندسة..

اختار وليد كبينة بعيدة، و جلسنا متقابلين، لكن ليس وجها لوجه!

شغلنا نفسينا بتقليب صفحات الكتيب الصغير، الحاوي لقوائم الأطعمة و المشروبات...

قال وليد :

" ماذا تودين ؟ "

في هذه اللحظة ، و أنا في توتري الشديد هذا، و الإحساس بقرب وليد يشويني.. قلت :

" دورة المياه "

" عفوا ! ؟ "

تركت الكتيب من يدي، قام وليد و قال :

" تفضلي.."

كانت دورة المياه النسائية في الطرف الآخر..على مقربة من الباب توقّف وليد.. و تركني أمشي وحدي..

التفت إليه.. قال :

" سأنتظر هنا "

لم أشعر بالطمأنينة.. تراجعت .. قلت:

" لنعد "

قال :

" هيا رغد ! سأبقى واقفا في مكاني.. "

" لا.."

وليد نظر إلى ما حولنا ثم قال :

" حسنا، سأقترب أكثر"

و مشى معي حتى بلغنا الباب...

نظرت إليه بشيء من التردد، إلا أنه قال :

" لا تتأخري رجاء ً "

و أنا أفتح الباب قلت :

" إياك أن تبتعد ! "

قال مطمئنا :

" لا تقلقي.. "

و عندما خرجت وجدته واقفا بالضبط عند نفس النقطة !

عدنا إلى تلك الكابينة و طلب لي وليد وجبة كبيرة، مليئة بالبطاطا المقلية !

لا أعرف أي شهية تلك التي تفجرت في جوفي، و التهمتها تقريبا كاملة..!

و لو كان طلب طبقا آخر بعد ، لربما التهمته أيضا عن آخره.. يكفي أن يكون وليد قريبا مني، حتى أشعر برغبة في التهام الدنيا كلها...

بعد العشاء.. قام وليد بجولة في المنطقة، بين المزارع.. و أراني بعض معالم المدينة، و كذلك المعهد الذي يدرس فيه، و السوق الذي تباع فيه الخضراوات...

منذ زمن.. و أنا حبيسة الشقة و المستشفى، لا أرى الشمس و لا أتنفس الهواء النقي.. لذلك فإن الجولة السريعة هذه روحت عن نفسي كثيرا...

كان كلما تحدّث عن أو أشار إلى شيء، أصغيت له باهتمام.. ودققت بتمعن، و كأنه درس علي حفظه قبل الامتحان!

قبيل وصولنا إلى المزرعة، سألني :

" أتودين بعض البوضا..؟"

و كان ينظر إلي عبر المرآة ...

قلت منفعلة مباشرة :

" ماذا !؟ البوضا مجددا ! كلا أرجوك ! أنا يتيمة بلا مأوى الآن !؟؟ "

و ليد، حدق بي برهة ، ثم انفجر ضاحكا !

أنا كذلك، لم أقو على كبت الضحكة في صدري، فأطلقتها بعفوية...

نعم ! فلن تغريني البوضا مرة أخرى و لن أنخدع بها!





عندما وصلنا إلى المزرعة كانت الساعة تقريبا التاسعة مساءا...

مباشرة توجهنا إلى المنزل، و قرع وليد الجرس، ففتح العجوز الباب...

تهلل وجهه لدى رؤية وليد و صافحه و عانقه، ثم رحب بي ترحيبا كريما...

قال وليد :

" ابنة عمي .. تحت وصايتي الآن.. و إن لم يكن في ذلك أي إزعاج.. فهي ستبقى معي هنا حتى نجد حلا آخر.."

شعرت أنا بالحرج، لكن ترحيب العجوز خفف علي ذلك، قال :

" عظم الله أجرك يا بنيتي، على الرحب و السعة، و إن لم تتسع المزرعة لكما نحملكما على رؤوسنا.."

ابتسمت للعجوز و شكرته..

قال العجوز مخاطبا وليد، الذي كان يجول ببصره فيما حوله :

" في المطبخ.. تفضلا "

لم يتغيّر في ذلك المنزل أي شيء... سرت تابعة لوليد الذي تقدّم نحو إحدى الغرف، و التي يبدو أنها المطبخ... و العجوز خلفنا

هناك.. وجدنا أروى و أمها تجلسان على الأرض حول سفرة العشاء... و بادرتا بالنهوض بمجرد رؤيتنا...

و حانت اللحظة التي كنت أخشى حينها... ما أن وقع نظري على أروى... حتى شعرت بشيء ما يتفجر في صدري... شيء حارق موجع..
 
تتمه

كانت تجلس ببساطة على الأرض، مرتدية بنطالا ضيقا و بلوزة قصيرة الكمين واسعة الجيب، و شعرها الذهبي الأملس الطويل مربوط بخصلة منه، و ينساب على كتفيها و ظهرها كذيل الفرس !

رحبت الاثنتان بنا ، ثم توجهت أروى نحو المغسل، و غسلت يدها و نشفتها ، ثم أقبلت نحو وليد و مدّت يدها لتصافحه !

وليد ببساطة مدّ يده و صافحها !

" حمدا لله على سلامتكما ! كيف حالكما ؟ "

قالت ذلك و هي تشد على يد وليد، و وليد يبتسم و يطمئنها، و أنا أسلط أنظاري على يديهما ، ثم عينيهما ، ثم أعود إلى يديهما، ثم أعض على شفتي السفلى بغيظ...

إلى متى ستظل هذه ممسكة بيد ابن عمّي؟؟ هيا ابتعدي !

" مرحبا بك يا رغد، عظم الله أجرك "

رفعت بصري عن يديهما و نظرت إليها ببغض، و مددت يدي لأصافحها.. أعني لأجبرها على ترك يد وليد...

" أجرنا و أجركم، غفر الله لنا و لكم "

قالت :

" كيف صحتك الآن ؟ "

" بخير و لله الحمد "

عادت تنظر إلى وليد ، و تخاطبه :

" هل كانت رحلتكما متعبة ؟ "

قال :

" لا ، كانت ممتعة "

نظرت إلى وليد فرأيته ينظر إلي و يبتسم...

قالت أروى :

" تفضلا.. شاركانا العشاء "

و كررت أمها الجملة ذاتها

قال وليد :

" بالهناء و العافية، تناولنا عشاءنا في أحد المطاعم.. أتموا أنتم طعامكم و نحن سنجلس في المجلس "

و على هذا ذهبنا إلى المجلس، وبقي الثلاثة حول السفرة.. و يبدو أن وليد صار يتحرك في المنزل بحرية كيفما يشاء...

جلس على أحد المقعدين الكبيرين المتقابلين الموجودين في المجلس، فجلست أنا إلى جواره.. و سكنا عن أي كلام أو حركة لبضع دقائق... ثم قال وليد :

" رغد"

نظرت إليه.. فرأيت ملامح الجدية و القلق على وجهه... قال :

" أنا آسف و لكنني في الوقت الحالي لا أستطيع توفير سكن آخر.. كما و أن الظروف لن تمكننا من العيش في شقة مستقلة، لأن عملي هنا و أقضي كل ساعات النهار هنا.. "

لم أعلّق ، فقال :

" هل هذا يروق لك ؟ "

قلت :

" أخشى أن يسبب وجودي الضيق لهم .."

قال :

" لا ، إنهم أناس طيبون جدا.. و كرماء لأقصى حد..، لن يزعجهم وجودك، أريد أن أعرف .. هل يزعجك أنت ذلك؟؟ "

قلت :

" سأبقى حيث ما تبقى أنت..، ألست المسؤول عني الآن؟ "

بدا الضيق جليا على وليد، مال بجدعه للأمام و قال :

" رغد يا صغيرتي.. الأمر ليس متروكا لظروفي بل هو حسب رغبتك أنت.. إذا رغبت بأي شيء آخر فأبلغيني و سأنفذه حتما "

قلت :

" حقا وليد ؟؟ "

قال :

" طبعا، بدون شك.. تعرفين أنني من أجلك أفعل أي شيء..."

شعرت بالصدق ينبع من عينيه.. و آه من عينيه ..

لو تعرف يا وليد.. أنا لا أريد من هذه الدنيا غيرك أنت.. لقد فقدت كل شيء.. والداي ماتا. .و تيتّمت مرتين.. و أختي رحلت.. و سامر تركته جريحا متألما.. و خالتي و عائلتها ظلوا بعيدين عني.. لم يبق لي إلا أنت..

أنت الدنيا في عيني..

أنا أريد أن أبقى معك، قريبة منك و تحت رعايتك و حبك ما حييت.. أينما كنت.. هنا أو في أي مكان في المجرّة.. فقط أبقني قربك.. و أشعرني باهتمامك و حبك..

" وليد .."

همست بصوت أجش... وليد أجابني مسرعا :

" نعم صغيرتي ؟ "

قلت :

" أنا.. أنا..."

و لم أتم، إذ أن أروى أقبلت الآن، تحمل أقداح الشاي...

" تفضلا.."

لم تكن لدي أدنى رغبة في احتساء الشاي لكنني فعلت من باب المجاملة..

أروى جلست على المقعد المجاور، قرب وليد...

تبادلا حديثا قصيرا، ثم قالت مخاطبة إياي :

" يمكنك استخدام غرفتي، و أنا سأنام مع أمي لحين ترتيب غرفة خاصة بك "

نظرت إلى وليد و قلت :

" و أنت ؟ "

قال :

" في غرفتي ذاتها "

هززت رأسي اعتراضا..

وليد قال :

" لا تخشي شيئا يا رغد.. المكان آمن هنا و موثوق كبيتنا تماما "

" لا ! لن أبقى وحدي هنا "

قال :

" يمكن لأروى البقاء معك في الغرفة.. "

قلت :

" إذن خذني لمكان آخر "

تبادل وليد و أروى النظرات، ثم نظر إلى المقعد الذي نجلس عليه، ثم قال :

" حسنا.. سأبات أنا على هذا.. داخل المنزل"

لم تعجبني الفكرة أيضا.. فنظرت إليه باعتراض و عدم اقتناع..

قال :

" هذه الليلة على الأقل.. ثم نجد حلا آخر"

فاستسلمت للأمر...

ذهبت أروى بعد ذلك لإعداد فراش لي في غرفتها... عندها قلت لوليد :

" وليد.. لا تبتعد عني أرجوك "

وليد نظر إلي بعطف و قال :

" لا تخشي شيئا صغيرتي.. أتظنين أنه، لو كان مكانا غير آمن، كنت تركتك تباتين فيه ؟ "

قلت :

" لكني أخاف.. أخاف كثيرا.. المكان غريب و الناس كذلك.. لا تبتعد عني "

كنت أقول ذلك و أنا متوترة.. و لما لحظ وليد حركة أصابعي المضطربة..

قال :

" اطمئني رغد.. و لسوف أبقي الباب مفتوحا "

ذهبنا أنا و وليد و أروى للتعرف على أرجاء المنزل و انتهينا إلى غرفة أروى..

غرفة بسيطة كسائر المنزل، لا تحوي شيئا مميزا ...

كان الفراش دافئا.. و جسدي متعبا لكن القلق لم يسمح لي بالنوم..

أروى نامت بسرعة.. أما أنا فتلاعبت بي الهواجس حتى بدأت أوصالي ترتعد خوفا..

ارتديت عباءتي.. و خرجت من الغرفة بحذر.. شققت طريقي بهدوء تام نحو المجلس.. كان الباب شبه مغلق، و وليد كان نائما على المقعد الكبير.. و بصيص خفيف من الضوء يتسلل إلى الغرفة عبر فتحة الباب.. و عبرها تسللت أنا أيضا إلى الداخل...و أوصدت الباب من بعدي !

لأنه طويل جدا، فإن قدميه الكبيرتين كانتا تبرزان من فوق ذراع المقعد.. أما ذراعاه فقد كانتا مرفوعتين فوق رأسه، إذ أن مساحة المقعد لا تكفي لضمهما على جانبيه !
مسكين وليد! لابد أن جسده غير مرتاح في نومته هذه البتة !

و مع ذلك كان يغط في نوم عميق... !

جلست أنا على المعقد الكبير الآخر... لبضع دقائق.. شاعرة بالأمان و الطمأنينة، و الدفء أيضا.. فبقرب وليد يطيب لقلبي البقاء و لعضلاتي الاسترخاء و لعيني الإغماض..
استلقيت على المعقد.. و سمحت للنوم بالسيطرة علي.. بكل سهولة !






~ ~ ~ ~ ~




وضعت المنبه على المنضدة قرب المقعد، و نمت بعد أرق، لأنني كنت قلقا على رغد.. أفكر..هل ستتقبل الحياة هنا..؟ هل ستألف الأوضاع و ترضى بها؟ هل سيسرّها العيش في منزل متواضع، و حال متوسطة، و هي ابنة العز و الدلال و الغنى ..؟؟
إن علي ّ أن أجد أكثر من أجل تحسين وضعي المالي و العام..فرغد لم تعتد حياة الفقر و الحاجة... و لا تستحق حياة كهذه...

استيقظت بسرعة على رنين المنبه المزعج...

كنت قد ضبطته لإيقاظي وقت الفجر لأصلي...

حينما جلست، لمحت شيئا يتحرك على المقعد الكبير الآخر و الموازي للمقعد الذي نمت عليه ..! و ذلك الشيء جلس أيضا

دققت النظر فيه ..أظنه خيال رغد! أو ربما هوسي بها جعلني أتهيأ خيالها في كل مكان !؟ في اليقظة و المنام !

قلت متسائلا :

" رغد ؟"

ذلك الشيء تكلم مصدرا صوتا ناعسا ، يشبه صوت رغد !

" نعم "

قلت :

" رغد صغيرتي ! أهذه أنت ؟؟ "

" نعم، أريد أن أنام "

و استلقت على المقعد مجددا !

نهضت أنا عن مقعدي و وقفت أمدد أطرافي.. شاعرا بالإعياء ... إن هذا المقعد صغير و لا يتسع لجسد رجل مثلي !
تقدمت نحوها

" رغد ! ما الذي تفعلينه هنا ؟ "

قالت و هي شبه نائمة :

" كنت خائفة "

" مم ؟ "

" من الأشباح "

ماذا !؟ أهي نائمة أم تهذي ؟؟

" أي أشباح ؟؟ "

جلست رغد فجأة و نظرت من حولها يمينا و شمالا... و هي تقول :

" أشباح؟؟ أين ؟ أين ؟ "

و يبدو أنها استفاقت أخيرا .. ثم نظرت إلي .. ثم قالت :

" وليد .. "

قلت :

" نعم.. "

قالت :

" نحن في منزل أروى أليس كذلك ؟ "

" نعم صغيرتي، هل كنت تحلمين ؟ "

أخذت تفرك عينيها...

قلت :

" لم أنت هنا ؟ "

قالت :

" لم أشعر بالطمأنينة هناك.. "

" لم صغيرتي؟ "

قالت و هي تنظر إلي برجاء :

" أريد أن أبقى معك .. المكان غريب علي.."

" ستعتادينه.. لا تقلقي "

" لكن يا وليد... "

هنا طرق الباب و سمعت صوت العم يناديني...

" وليد .. انهض بني ..الصلاة "

و كاد يفتح الباب، إلا أنه كان موصدا ! إنها رغد !

صغيرتي المجنونة !

أجبت :

" نعم عمي أنا مستيقظ "

قال :

" هيا إذن "

قالت رغد :

" إلى أين ؟ "

" إلى المسجد "

قالت معترضة :

" و تتركني وحدي ؟؟ سآتي معك "

كنت أعرف أنها ستقول ذلك !

ذهبت إلى الباب مسرعا و فتحته فرأيت العم إلياس يسير نحو المخرج... و كنا قد اعتدنا الذهاب للصلاة في المسجد المجاور سيرا على الأقدام...

قلت :

" عمّي .. اذهب أنت سأصلي هنا "

تعجّب العم و قال :

" لم يا ولدي ؟ "

" أخبرك لا حقا.. تقبل الله منكم "

جعلت الباب شبه مغلق

و عدت إلى رغد التي بادرتني بالسؤال :

" الحمام قرب الغرفة أليس كذلك ؟ "

" بلى "

و همّت بالخروج قاصدة إياه ...

" انتظري رغد "

نظرت إلي باستغراب...

قلت :

" حتى يخرج العم ... "

و عدت أنظر من فتحة الباب حتى إذا ما غادر العم خارجا، فتحته و استدرت إلى رغد قائلا :

" تفضلي ... "

رغد سارت ببطء و هي تنظر إلى الأرض بخجل.. تنحيت أنا جانبا .. و لما صارت قربي .. رفعت رأسها إلي و قالت :

" أنا آسفة " ...

توترت، و لم يتجرأ لساني على النطق بشيء... فأخفيت نظري تحت الأرض.. منتظرا منها الخروج...

إلا أنها بقيت واقفة قربي هكذا لوهلة... و أنا شديد الحرج، ثم قالت :

" لكنك..أصبحت أبي الآن ! أليس كذلك ! "

رفعت نظري إليها بسرعة مندهشا، و ارتفع حاجباي تعجبا !

كانت تنظر إلي، و الآن.. ابتسامة مرسومة على شفتيها أستطيع أن أرى عذوبتها رغم الظلام...

قالت :

" بابا وليد ! "

و أسرعت خارجة من الغرفة ... تاركة إياي في ذهول و جنون !

إذا كانت ..هذه الفتاة.. اليتيمة المدللة.. الحبيبة الغالية.. ستعيش معي و تحت رعايتي أنا في بيت واحد.. فإنني و بدون أدنى شك.. سأفقد عقلي و أتحول خلال أيام، بل خلال ساعات.. إلى مجنون لم يخلق الله مثل جنونه جنونا...
و أنتم الشاهدون !
 
الحلقةالواحدةوالثلاثون
*********




رغم أنني كنت نعسى في البداية، إلا أن النوم خاصمني ذلك الصباح..
وليد جلس في الصالة يقرأ القرآن، و جلست أنا على مقربة أنصت إليه..
إلى أن عاد الرجل العجوز بعد طلوع الشمس.. فختم وليد قراءته و راح يتحدّث معه..

كانا يتحدثان بشأن المزرعة و ما سيفعلانه هذا اليوم.. و كنت أستمع إليهما ببلاهة ! فأنا لا أفقه كثيرا مما يذكرون !

وليد التفت إلي ّ الآن و قال :

" سوف أخرج للمزرعة الآن، أتأتين معي ؟؟ "

وقفت من فوري و تقدّمت ناحيته.. قال متما عبارته السابقة ببطء :

" أم.. تفضلين العودة للنوم ؟ "

" سآتي معك.."

و خرجت معه إلى المزرعة..

الهواء كان باردا و كنت أرتدي العباءة فوق ملابس النوم، لذا شعرت بالبرودة تخترق عظامي

قال وليد :

" سنبدأ بجولة تفقدية "

حذائي كان عالي الكعب و لا يصلح للسير على الرمال، لذلك طلب مني وليد ارتداء أحد الأحذية المطاطية الموجودة عند مدخل المنزل...

سرنا في اتجاه شروق الشمس.. و كم كان منظرا جميلا لم أر مثله منذ زمن...
الرياح كانت في مواجهتنا، تغزو أنفي رغما عني ، و تزيد من شعوري بالبرد..

أخذت أفرك يدي بتكرار.. أما وليد فكان يسير بثبات في وجه الريح ، و لا يبدو على جسمه أنه يتأثر بها !

كالجبل تماما !

قال لي:

" الجو بارد.. أتفضلين العودة للمنزل ؟ "

" ماذا عنك ؟ "

قال :

" سأبدأ حرث منطقة معينة هنا، سنقوم بزرع بذور حولية جديدة فيها.. "

و أشار إلى المنطقة المقصودة...

قلت :

" أنت تحرثها ؟؟ "

و يبدو أن سؤالي هذا ضايقه أو أحرجه.. نظر إلي برهة صامتا ثم قال و هو يحدّق في تلك المنطقة :

" نعم أنا يا رغد.. فهذا هو عملي هنا.. و من هذا العمل أعيش و أعيل نفسي.. و صغيرتي .."

ثم التفت إلي و قال :

" فهل يصيبك هذا بخيبة أمل أو .. اشمئزاز ؟ "

قلت بسرعة :

" لا ! لم أٌقصد ذلك.. "

" إذن ؟ "

" تعرف يا وليد.. فخلال التسع سنين الماضية كنت أعتقد أنك... "

و بترت جملتي.. فقد أحسست أن هذا يؤلمه.. و إذا تألم وليد قلبي فأنا أموت ..

قلت :

" لكن ، ألا يمكنك مواصلة الدراسة الآن ؟؟ "

قال :

" إنني أدرس الآن في معهد محلي، و إن تخرجت منه بشهادة معتبرة فستكون لدي فرص أفضل للعمل ، لكن إلى ذلك الوقت سأظل مزارعا "

لم يعجبني ذلك، فأنا لا أريد لوليد أن يغمر يديه في التراب ..، بل أن يعلو السحاب، لكني لم أشأ إحراجه، فقلت :

" أتمنى لك التوفيق "

ابتسم وليد ابتسامة رضا، و تابعنا الطريق...

بقيت أراقبه و هو يعمل، تارة شاعره بإعجاب به ، و تارة شاعرة بشفقة عليه ، و تارة بغضب من الأقدار التي أوصلت ابن عمّي إلى هذا المستوى..

ليتني أستطيع منحه ثمان سنين من عمري، تعويضا عما خسر.. بل ليتني أهديه عمري كله.. و كل ما أملك..

الحماس الذي تملكني أثناء مراقبة وليد ، و الحرارة التي تنبعث من جسده و هو يعمل بجهد، و من صدره و هو يتنفس بعمق، و من عينيه و هو ينظر إلي ، كل هذه تجمعت معا متحدة مع أشعة الشمس التي ترتفع في السماء، و أكسبتني دفئا و حيوية لا نظير لهما !...

بعد فترة ، أقبلت أروى..

و الآن، لست فقط أشعر بالدفء ، بل و بالاشتعال ، و الاحتراق أيضا ...

" صباح الخير رغد ! نهضت باكرة ! "

باكرة جدا ! كم تبدين حيوية و نشطة بعد نوم هانىء ! أنا لم أنم كما ينبغي ..

قلت :

" صباح الخير"

وليد كان موليا ظهره إلينا هذه اللحظة ، رفعت أروى صوتها ، و كذلك يدها و هتفت و هي تلوّح :

" صباح الخير يا وليد "

وليد استدار و نظر إليها و رد التحية...

هتفت :

" تعال ، فقد أعددنا الفطور "

قال :

" حسنا ، أمهليني دقيقتين اثنتين "

و أتم ما كان يقوم به ...

أروى التفت إلي و قالت :

" أعددت فطورا مميزا من أجلك ! آمل أن يعجبك طهو يدي ! الجميع يصفني بالطاهية الماهرة ، و وليد يعشق أطباقي ! "

وليد ماذا ؟

يعشق أطباقها ؟؟ يا للمغرورة !

قلت :

" وليد يعشق أطباق والدتي فهي لا تقارن بشيء ! "

أروى قالت :

" رحمها الله "

و تذكرت أنه لم يعد لدي والدة ! و لم يعد بإمكان وليد تذوّق تلك الطبخات اللذيذة التي يلتهمها عن آخرها...

ضاق صدري لهذه الذكرى.. و أحنيت رأسي إلى الأسفل بحزن..

أورى لاحظت ذلك فقالت :

" آسفة.. "

لم أتجاوب معها... ، قالت :

" كم كنت متشوقة للتعرف إليها فقد حدّثني وليد عنها كثيرا.. و كان ينتظر عودتها بفارغ الصبر .. "

رفعت نظري الآن إليها، ليس الحزن هو البادي على وجهي بل الغيظ !

لماذا تتحدّث عن وليد أمامي ؟؟ و لماذا يتحدّث إليها وليد عن أمي ؟ أو عن أي شيء آخر في الدنيا ؟؟ هذه الدخيلة لا تمت إلينا بصلة و لا أريد لمواضيعنا أن تذكر على مسمع منها ...

وليد كان يمشي مقبلا نحونا.. و حين وصل ، شبكت أروى ذراعها اليمنى بذراعه اليسرى و هي تبتسم بسرور ...

وقفت أنا أنظر إليهما بغيظ و تحذير ! ما لم تفرقا ذراعيكما عن بعض فسأقطعهما !

لم يفهما تحذيري، بل سارا جنبا إلى جنب على هذا الوضع.. سرت أنا إلى الجانب الأيمن من وليد... و سرنا و نحن ندوس على ظلالنا.. و التي يظهر فيها جليا تشابك ذراعيهما ..

حسنا ! من تظن هذه نفسها ؟ وليد ابن عمّي أنا و ولي أمري أنا!

و بدون تفكير، رفعت أنا ذراعي و أمسكت بذراع وليد اليمني بنفس الطريقة ، و بكل تحدي !

وليد نظر إلي بسرعة و بنفس السرعة أضاع أنظاره في الرمال التي نسير فوقها... و بدا وجهه محمرا ! لكنه لم يسحب ذراعه مني ..

تابعنا السير و أنا أراقب الظل أمامي... و لم أترك يده حتّى فعلت هي ذلك... !

صحيح أن الفطور كان شهيا إلا أنني أصبت بعسر هضم من مشاهدة العلاقة الحميمة بين وليد و أروى.. كانا يجلسان متقابلين، و تجلس أم أروى على رأس المائدة، و أنا إلى جانب وليد، أما العجوز فلم يكن معنا بطبيعة الحال...

لا أريد منهما أن يجلسا متقابلين، و لا متجاورين، و لا في نفس المنزل، و لا حتى على نفس الكوكب..

فيما بعد، عاد وليد للعمل في المزرعة و أروى تشاركه ، و أنا أتفرّج عليهما بغضب.. و أحاول الإنصات جيدا لكل ما يقولان..

أراد وليد بعد ذلك الذهاب إلى مكان ما لإحضار بعض الأشياء، و سألني إن كنت أرغب في مرافقته، أجبت بسرعة :

" طبعا سأذهب معك ! هل ستتركني وحدي ؟؟"

أتذكرون سيارة الحوض الزرقاء التي ركبتها ذات يوم، للذهاب إلى المستوصف ؟
إنها هي.. نفس السيارة التي يحتاجها وليد في مشواره. فيما كنا نقترب منها أقبلت أروى مرتدية عباءتها و وشاحها الملون، قائلة :

" أوصلني للسوق سأشتري بعض الحاجيات "

و اقتربت من الباب و فتحته، فسار وليد نحو باب المقود.. و قبل أن ترفع أروى رجلها إلى العتبة، أسرعت أنا و ركبت السيارة لأجلس فاصلا بينهما! هذا ابن عمي أنا.. و أنا الأقرب إليه من كل بنات حواء ، و أبناء آدم أيضا ... أليس كذلك ؟؟

و من السوق اشتريت أنا أيضا بعض الأشياء، من ضمنها عدّة للرسم ، فالمزرعة و مناظرها البديعة أعجبتني كثيرا .. و لسوف أقضي صباح الغد في رسم مناظر خلابة منها ، عوضا عن مراقبة وليد و هو يعمل...

عندما عدنا ، وجدنا ترتيب أثاث الصالة قد تغيّر، لقد قام العجوز و أخته بنقل المقاعد من المجلس إلى الصالة، و نقل سرير وليد من الغرفة الخارجية إلى المجلس !

استغرب.. أي قوّة يملك هذا العجوز ليحرك هذه الأثقال !

ما شاء الله !

قالت أم أروى :

" ها قد أصبحت لديك غرفة داخلية يا وليد.. هل تحس بالاطمئنان على ابنة عمّك الآن ؟؟ "

وليد ابتسم، و وجهه متورد .. و شكر الاثنين .. ثم التفت إلي و قال :

" أيريحك هذا أكثر ؟ "

كنت أقف إلى جواره .. رفعت رأسي و همست في أذنه :

" لكن ابق الباب مفتوحا "

وليد ابتسم، و قال :

" حاضر "

همست :

" و اطلب منهم إعادة أحد المقعدين الكبيرين للداخل، أو قم أنت بذلك "

وليد تعجّب و قال :

" لم ؟ "

قلت :

" احتياط ! ربما تظهر الأشباح ثانية "

ضحك وليد، و البقية أخذوا ينظرون إليه باستغراب !

قال :

" حاضر ! "

قلت هامسة :

" قبل الليل "

قال :

" حاضر سيدتي ! كما تأمرين .."

و حين يقول وليد قلبي ذلك.. فأنا أشعر بدغدغة ناعمة تسري في جسدي ابتداء من باطن قدمي ّ و حتى رموش عيني ّ !

و من أطراف تلك الرموش ألقيت بنظرة حادة على أروى و أنا أخاطبها في رأسي :

" أرأيت ِ ؟ ستعرفين من تكون رغد بالنسبة لوليد.. و لن أكون رغد ما لم أزيحك عن طريقي ! "






~ ~ ~ ~ ~ ~






مضت الأيام هادئة و مستقرة ، و انشغالي بالعمل جعلني أتناسى وفاة والدي ّ و الحزن الذي خلّفه...

بصعوبة تمكنت من إقناع رغد بالبقاء في المزرعة أثناء غيابي كل يوم في فترة الدراسة.. و لأنها كانت فترة صباحية، و لخمسة أيام في الأسبوع، فإننا لم نعد نلتقي إلا عند الظهيرة...

و أثناء عملي في الحقل، تقوم هي بمراقبتي أو برسم بعض اللوحات.. بينما أروى تساعدني أو تساعد أمها في شؤون المنزل..

أنا كنت أقوم بعمل مضاعف و بأقصى ما أمكنني ، و لساعات أطول.. و رسمت بعض الخطط لتطوير المزرعة و الاستعانة ببعض العماّل الثابتين..

رغد بدأت تتأقلم مع العائلة و تشعر بالانتماء إليها بعد فترة من الزمن.. و صارت تساهم في بعض أعمال المنزل البسيطة، و التي لم أكن أنا أريد تحميلها عبئها، لولا أن الظروف قضت بذلك..

تعذّر علينا زيارة سامر نهاية الأسبوع الأول، إلا أننا زرناه في الأسبوع التالي، و في الواقع.. خرجت من تلك الزيارة متضايقا لما أثارته في قلبي من الذكرى الأليمة .. ذكرى والدي ّ..

سامر لم يبد أنه خرج من الأزمة بعد.. بل كان غارقا في الحزن.. و حتى زيارتنا له لم تحرز تقدما معه..

أما دانة ، فاتصلت بها مرات ثلاث خلال الأسبوعين، و أعطتني الانطباع بأنها امتصت الصدمة و في طور النقاهة.. عدا عن ذلك ، فهي سعيدة و مرتاحة مع زوجها و عائلته في تلك البلد..

أوضاع بلادنا لم تتحسن، بل بقيت بين كر و فر..مد و جزر.. أمدا طويلا..

الشيء الذي بدأ يقلقني هو الملاحظة التي أبدتها لي أروى إذ قالت :

" يبدو أن رغد تعاني اضطرابا نفسيا يا وليد.. إنها لا تنام بسهولة.. بل تبقى لما لا يقل عن الساعة تتقلب في الفراش، و أحيانا تجلس.. و تنهض.. و تذرع الغرفة جيئة و ذهابا في توتر.. و في أحيان أخرى، أسمعها تتحدّث أثناء النوم.. أو تصحو و تبكي و تنادي أمها ! أعتقد أن وفاة والدتها قد أثرت عليها كثيرا .. "

سألتها يومها :

" هل يتكرر ذلك كثيرا ؟؟ "

" تقريبا كل ليلة ! كما و أنها تصر على إبقاء مصباح النوم مضاء ً بينما أنزعج أنا من النوم مع وجود النور ! "

هذه الأمور لاحظتها أروى التي تشارك رغد في الغرفة، و التي يبدو أنها تعاني منها منذ فترة دون أن يلحظها أحد...

و هذه الأمور جعلتني أقلق بشأنها.. و أفكر في طريقة تجعلها تنام بطمأنينة و نوما هادئا.. و هداني الله إلى هذه الفكرة...

عندما كانت صغيرة ، رغد كانت تعشق سماع القصص.. و تطالبني بها كل ليلة حتى تنام بهدوء و قرّة عين..

و لأنها كبرت الآن، فلم يعد هناك مجال لتك القصص! و لكن.. لدينا كتاب هو أجل و أعظم من أي كتاب، و بذكر ما فيه تطمئن القلوب.. إنه القرآن.

في كل ليلة، قبيل نومهما أبقى مع رغد و أروى في غرفتهما و أتلو ما تيسر من آيات الذكر الحكيم .. و تظل رغد منصتة إلي، إلى أن يغلبها النعاس فتنام بهدوء و سكينة..

في إحدى الليالي، و بعدما نامت رغد، خرجنا أنا و أروى من الغرفة ..

لم نكن نشعر بالنعاس وقتها، فطلبت مني أروى القيام بجولة قصيرة معها في المزرعة ..

" لكن.. رغد تمانع خروجي و هي بالداخل، أو دخولي و هي بالخارج.. "

" لكنها نائمة الآن "

" نعم و لكن .. "

" هيا يا وليد ! إننا لم نتحدّث مع بعضنا منذ حضورها ! لم تفارقك ساعة واحدة إلا للنوم ! "

استأت من كلام أروى و قلت :

" أرجو ألا يكون وجودها قد أزعجك بشيء ؟ "

" لا لا ، لا تسىء فهمي، أقصد أنني أريد التحدث معك حديثا خاصا بنا أنا و أنت ! كأي خطيبين.. "

و أمسكت بيدي و حثّتني على السير معها إلى الخارج...

حديثنا كان في بعض شؤوننا الخاصة.. و كانت أروى تتكلم بسرور .. بل كانت في قمّة السعادة.. و أخذنا الحديث لساعة من الزمن..

فجأة ، سمعت صوت رغد يناديني ...

" وليــــــــــد "

سحبت يدي من يد أروى و ركضت مسرعا نحو المنزل ...

رغد كانت تقف في الساحة الأمامية تتلفت يمنة و يسرة..

" أنا هنا رغد "

و لوّحت بيدي، و أنا راكض باتجاهها...

لما رأتني رغد... وضعت يدها على صدرها و تنهدّت بقوة...

و حين صرت أمامها مباشرة، أمكنني رؤية علامات الفزع على وجهها و الذعر المنطلق من عينيها...

" صغيرتي ماذا حصل ؟؟ "

" إلى أين ذهبت ؟؟ "

" هنا في المزرعة، أتمشى قليلا "

و ظهرت الآن أروى فألقت عليها رغد نظرة .. ثم نظرت إلي .. و بدأت تعبيرات وجهها تتغير حتى صارت إلى الحزن و البكاء ..

" صغيرتي ما بك ؟ "

قالت رغد فجأة :

" إذن هذا ما تفعله ؟ تتركني أنام وحدي و تخرج للتنزه مع خطيبتك ؟؟ "

فوجئت بقولها ، أردت أن أوضّح لها أنها المرة الأولى التي نخرج فيها .. لم تعطني المجال، بل قال و هي مجهشة بكاء:

" إذا لم تكن متفرغا لرعايتي فارسلني إلى خالتي.. إذا كنت ُ عبئا يعوق دون تنزّهك مع خطيبتك فخذني لبيت خالتي و تخلّص منّي "

و انفجرت بكاء ً...

لم استوعب كلامها أول الأمر..

قلت مذهولا :

" رغد ! ما الذي تقولينه !؟ "

قالت :

" كنت أعرف أنها نهايتي.. ضعت ُ بعد والدي ّ .. لماذا ذهبا و تركاني؟ لمن تركتماني يا أمي و يا أبي ؟ يا لهواني على الناس أجمعين .. خذني يا رب إليهما.. خذني يا رب إليهما "

لم أتحمّل سماعها تدعو على نفسها هكذا .. صرخت :

" كفى يا رغد أرجوك.. ماذا حصل لكل هذا ؟؟ "

" و تسأل ؟؟ "

" فقط لأنني خرجت من المنزل و أنت بداخله ؟ "

قالت أروى :

" أنا من طلب منه ذلك، لم أكن أتوقع أن يضايقك الأمر لهذا الحد "

رغد نظرت إلى أروى نظرة غضب و صرخت :

" اسكتي أنت ِ "

قالت أروى :

" أنا آسفة "

لكن رغد عادت تصرخ :

" قلت اسكتي أنت.. ألا تسمعين ؟؟ "

أروى شعرت بالحرج، فغادرت الساحة عائدة إلى المنزل...

لم يكن تصرفا لائقا.. و أعرف أنه ليس بالوقت المناسب لأعاتب رغد عليه.. لكنني قلت :

" إنها قلقة بشأنك "

و يبدو أنها لم تكن الجملة المناسبة, لأن وجه رغد ازداد غضبا ، و قالت بحدّة :

" هل تخشى على مشاعرها لهذا الحد ؟ إذن هيا اذهب و طيّب خاطرها .. و دعني أنا أناجي الميتين، فلربما سمعاني و أحسا بهواني و ضياعي بعدهما ، و خرجا من قبريهما و أتيا إلي.. و أخذاني معهما .. و أرحتك مني "

و مرّة أخرى تدعو على نفسها بالموت أمامي .. قلت بحدّة :

" كفى يا رغد كفى.. "

رغد صرخت :

" لا تصرخ بوجهي "

" أنت تثيرين جنوني.. كيف تدعين على نفسك و أمامي ؟؟ "

و عوضا عن التراجع ، رفعت بصرها و يديها إلى السماء و راحت تهتف بصوت عال :

" يا رب خذني إليهما.. يا رب خذني إليهما .. يا رب خذني إليهما "

ثم جثت على الأرض و صارت تبكي بقوة و مرارة... مخفية وجهها خلف يديها

لم أعرف لم كل ذلك.. إلا أنني لم أحتمل.. هويت إلى جانبها، و ناديتها بلطف ، و لم تجبني...

أبعدت ُ يديها عن وجهها و قلت بعطف :

" كفى أرجوك.. "

نظرت إلي ّ نظرة لم أفهم طلاسمها... مددت يدي و مسحت على رأسها من فوق الحجاب، و قلت :

" أنا آسف يا صغيرتي.. أعدك بألا أخرج من المنزل ما دمت ِ فيه دون علمك و رضاك.. "

لم يتوقف سيل الدموع..

قلت :

" أرجوك رغد.. لا تجعلي المزيد من اللآليء تضيع هباء ً .. آسف و لن أكررها ثانية .. "

تحدّثت أخيرا و قالت :

" و إن طلبت منك الشقراء ذلك ؟ "

قلت :

" لا تهتمي.. "

قالت :

" وليد .. أنا أرى كوابيس مفزعة.. أمي.. أبي.. الحرب.. النار .. الحريق.. الجمر.. عمّار.. كلهم يعبثون بأحلامي.. لا أحد ليشعرني بالأمان.. سأموت من الخوف ذات ليلة.. سيتوقف قلبي و أموت فزعا.. و لا أحد قربي.. "

جذبتها إلي بسرعة، و أمسكتها بقوّة.. كحصن منيع يعوق أي نسمة عابرة من أذيتها...

" أعوذ بالله.. بعد ألف شر و شر يا عزيزتي.. لا تذكري الموت ثانية أرجوك يا رغد.. رأيت منه ما يكفي.. حاشاك أيتها الغالية "

نعم، رأيت من الموت ما يكفي.. ابتداءً بعمّار.. و مرورا بنديم و رفقاء السجن.. و عبورا على المدينة المدمّرة .. و انتهاء ً بوالدي ّ الحبيبين...

أبعدتها و قلت :

" أنا آسف، سامحيني هذه المرّة .."

رغد مسحت بقايا الدموع .. و قالت :

" لقد قلت مترا ، ألم تقل ذلك ؟ "

نظرت إليها بتعجّب.. و عدم فهم !

" أي متر ؟ "

قالت :

" هذا الذي ستفقأ عينيك إذا ما ازداد طوله فيما بيننا"

و تذكّرت حينها الجملة التي قلتها قبل أسابيع ، في آخر يوم لنا في شقة سامر قبل الرحيل !

و الآن ماذا ؟؟

رغد تمد يدها اليمنى ، و قد أبرزت إصبعيها السبابة و الوسطى ، و ثنت الأصابع الأخرى، و تحرّكها بسرعة نحو وجهي و توقفها أمام عيني مباشرة ، و تقول :

" أ أفقأهما لك الآن ؟؟ "


قلت لكم.. ستصيبني هذه الفتاة.. بالجنون !






~ ~ ~ ~ ~






هذه كانت البداية، أول شحنة متوترة بيني و بين الدخيلة الشقراء...

لكن الأمور بدأت تضطرب شيئا فشيئا.. و دائرة المشاحنات فيما بيننا آخذة بالتوسع... حتى استرعت اهتمام الجميع...

لم أكن أسمح لهما بالبقاء بمفرديهما إلا نادرا و لأوقات قصيرة.. فأنا جزء تابع من وليد و أذهب معه حيثما يذهب.. و خصوصا إذا كانت الشقراء معه..

وليد هو ابن عمي أنا... نعم أنا...

في أحد الأيام، و كان يوم أربعاء، و كنا في الحقل، وليد و أروى يعملان، و أنا أراقبهما، و الوقت كان المغرب.. إذا بي أسمع من يناديني من خلفي، و ألتفت فإذا به سامر !

كنا نزور سامر مرة كل أسبوع أو أسبوعين، و كان يفترض أن نذهب إليه غدا إلا أنه فاجأني بحضوره !

" سامر ! "

سامر فتح ذراعيه و هو يبتسم.. فابتسمت أنا و عانقته عناقا خفيفا...قصيرا باردا من ناحيتي..

" إنها مفاجأة ! كيف حالك ؟ "

" بخير.. هكذا أكون عندما أراك "

تجاهلت عبارته هذه ، و قلت :

" لم تعلمنا بقدومك ! كنا سنوافيك غدا "

" أحببت أن أزور المكان الذي فيه تعيشين و أرى أحوالك هنا "

ابتسمت و قلت :

" الحمد لله بخير "

قال و قد علاه الجد و القلق :

" هل أنت مرتاحة هنا ؟ "

قلت :

" نعم .. طبعا "

و لا أدري إن كان ردي هذا أراحه أم أزعجه ، لأن التعبيرات التي كست وجهه كانت غريبة و غامضة ...

سمعنا الآن صوت ضحكات قادمة من ناحية وليد و أروى، و اللذين كانا وسط الحقل، فالتفتنا إليهما..

شعرت أنا بالغيظ، و لا شعوريا قلت :

" تبا "

ثم انتبهت إلى أن سامر يقف قربي...

خجلت من نفسي، و لأبدد الخجل رحت أنادي :

" وليـــــــد، تعال... حضر سامر "

التفت وليد إلينا، و لما رأى سامر تهلل وجهه و ترك المعول من يده و جاء مسرعا ، و صافحه و عانقه ...

أروى أيضا جاءت ، و هي تضبط وشاحها الملوّن حول رأسها ... لم تكن أروى تخرج من المنزل إلا محجبة.. حتى أثناء العمل الشاق في المزرعة ! لكنها في الداخل، تتصرف بحرية و ترتدي ما تشاء و تتزين كيفما تشاء.. و يزداد حنقي كلما رأيتها تفعل ذلك، فيما أنا ملفوفة بالسواد من رأسي إلى قدمي كإصبع بسكويت مغطى بالشيكولا !

حالما صارت قربنا ألقت التحية على سامر، ثم ذهبنا نحن الأربعة إلى المقاعد الموجودة حول طاولة على مقربة ، و جلسنا سوية نتبادل الأحاديث...

أنا عملت هذه الساعة كبرج مراقبة ، أراقب الجميع ابتداء من أروى الحسناء، و انتهاء بسامر المشوّه ! كل حركة، كل كلمة ، أو حتى كحة تصدر من أي من الثلاثة ألتقطها بعيني و أذني و قلبي أيضا... و أستطيع أن أخبركم، بأن أروى كانت مسرورة، و وليد فرح جدا، و سامر.. حزين و مكتئب ، رغم كل الضحكات و الابتسامات التي يتبادلونها...

أروى، حسابي معها سأصفيه لاحقا، الآن .. سأصب جل اهتمامي على سامر إذ أن حدسي ينبئني بأنه يخفي شيئا.. شيئا يجعل صدره متكدرا كما هو واضح أمام عيني ...

وجود سامر اعتبر مناسبة تستحق الاحتفال ! و لذا ، صنعت أروى و أمها أطعمة خاصة من أجله على العشاء، و لأنني لا أجيد الطهو، و لا أجيد أعمال المزرعة، كما لا أجيد أعمال المنزل، و واقعا لا أجيد شيئا غير الرسم، فقد ساعدت فقط في الأكل، و تنظيف بعض الصحون !

ألحت العائلة على سامر لقضاء الليلة معنا، رغم اعتراضه إلا أن إصرارنا أحرجه فقبل أخيرا...

و تعرفون أين سينام !

طبعا في الغرفة الخارجية تلك !

بعد العشاء، اقترحت أروى أن نذهب جميعا للتنزه عند الكورنيش ... بالنسبة لي كانت فكرة جميلة، فأيدتها، إلا أنني ندمت على ذلك حينما وجدتها أروى فرصة ذهبية للاختلاء بوليد بعيدا عني، ذهبا يسيران معا، و تركاني و سامر وحدنا...

الأمر في أعين الجميع يبدو طبيعيا.. إذ أنهما خطيبان، و نحن خطيبان، إلا أنني اشتططت غضبا و صرت أراقبهما بعين ملؤها الشرر ...

سامر كان يتحدّث معي، لكنني لم أكن مركّزة معه، بل على ذينك اللئيمين..
و سوف ترى أروى ما سأفعل انتقاما لهذه اللحظات...

" هل تسمعينني ؟؟ "

التفت إلى سامر.. فوجدته يحدّق بي بحزن .. لم أكن قد انتبهت لآخر جملة قالها قلت :

" عفوا.. ماذا قلت سامر ؟ "

سامر رمقني بنظرة ذات معنى ، شديدة الكآبة ثم قال :

" لا، لا شيء"

" أرجوك سامر..أعد ما قلت فقد كنت..."

أتم هو الجملة :

" كنت ِ تراقبينهما بشغف "

خجلت من نفسي، و نظرت إلى البساط الذي كنا نجلس فوقه..

سامر قال :

" ألا زلت ِ تفكرين به ؟ "

تسارعت ضربات قلبي و توترت، و لم أجرؤ على رفع بصري إليه كما لم أقدر على التفوه بأي كلمة...

قال سامر :

" تؤذين نفسك يا رغد، و تهذرين مشاعرك... ألا ترين أنه رجل مرتبط و لديه زوجة.. و زوجة حسناء تغنيه عن التفكير بأي امرأة أخرى "

بانفعال و بدون تفكير قلت بسرعة :

" و هل يجب أن تكون المرأة بكل هذا القدر من الجمال حتى يلتفت إليها ؟ أنا لست أقل منها جمالا لهذا الحد.. فهل يجب أن أصبغ شعري و أضع عدسات زرقاء، و ألوّن وجهي حتى أنال إعجابه ؟؟ "

و انتبهت لخطورة ما قلت ، بعد فوات الأوان ...

سامر أخذ ينظر إلي بألم.. نعم بألم.. إن بسبب تجاهلي له و اهتمامي بوليد ، أو بسبب المرارة التي يراها منبعثة من صدري و أنا أراقبهما في حسرة...

لكن عطفه علي غلب عطفه على نفسه، فقال مواسيا :

" ليس الأمر كذلك، لا أظن وليد خطبها من أجل جمالها.. بل ربما لأنه يعمل هنا و أراد توثيق علاقته بأصحاب المزرعة... "

التفت إليهما، و نظرت و أنا أضيق فتحة عيني و أعض على أسناني :

" أو ربما... "

و تابعت :

" لأنه يحبها "

و هذه الفكرة تجعلني أصاب بالجنون، و أتحوّل إلى لبؤة تريد الانقضاض على القطط الجميلة الملونة.. الناعمة الشقراء.. و نتف وبرها شعرة شعرة، و تمزيق أعضائها بمخالبها و أسنانها الحادة، قطعة قطعة...

سامر قال :

" أ تريدين أن أتحدث معه ؟ "

التفت إليه بسرعة و أنا مندهشة ، و قلت :

" ماذا ؟؟ "

نظر إلي نظرة تأكيد... فقلت مسرعة :

" لا ! كلا ، كلا "

فلم يكن ينقصني إلا أن يتدخل سامر ليلفت انتباه وليد إلي !

قال :

" ما الجدوى إذن.. في صرف مشاعرك عليه.. إن كان سيتزوّج من أخرى ؟ "

قلت بحدة :

" لن يتزوّج منها "

سامر شعر بالقلق ، و نظر إلي بحيرة و خوف ، و قال :

" كيف ؟ "

قلت بتحد ٍ:

" لن أسمح لأي امرأة بالزواج من وليد.. أبدا "

سامر قال :

" رغد ! "

" مهما كانت "

" الأمر ليس متروكا لسماحك من عدمه ! ليس حسبما ترغبين أنت ! "

وقفت بعصبية ، و قلت بحدة و انفعال :

" بل حسبما أريد أنا.. فوليد ابن عمّي أنا.. و هو لي أنا.. و سوف لن يتخلّى عنّي.. و إن حاولت أي امرأة سرقته مني فسوف أشوه وجهها.. و إن حاول هو التخلّص منّي فسوف أفقأ عينيه ! "

اعتقد أنني بالغت في التعبير عن مشاعري المكبوتة، خصوصا أمام سامر الذي أدرك تماما أنه يعشقني بهوس...

التفت إليه شاعرة بالندم على تهوّري ، فرأيت آثار الصدمة المؤلمة مرسومة على وجهه.. تزيده كآبة فوق كآبة..

ما كان علي التفوّه بما تفوّهت به على مسمع منه... لكن.. لمن أعبّر عن مشاعري؟؟

لم يعد لدي شخص مقرب صديق أتحدّث معه... فدانة رحلت، و نهلة بعيدة ، و أمي... في عالم الأموات...

لمن أبث همومي و أعبر عما يختلج صدري من مشاعر ثائرة ، و أنا أرى وليد قلبي يلهو مع تلك الحسناء الدخيلة.. و أعيش علاقتهما لحظة بعد أخرى ..؟؟

قلت ، محاولة تبديد أثر تهديدي الجنوني ذاك :

" دعنا نمشي بمحاذاة البحر نحن أيضا "

و مشينا سوية، في الاتجاه الآخر مبتعدين عن الثنائي المزعج !

سمحت لنفسي بالهدوء، و أجّلت انفعالي لما بعد، فهي لحظات جميلة لا تستحق الإهمال.. الجو لطيف، يداعب الوجوه ، و أمواج البحر رائعة .. تدغدغ الأقدام.. و صوت البحر عذب، يطرب الآذان.. فترقص القلوب مبتهجة و فرحة ..
وقفت أتأمل جمال الكون.. و طبيعته الخلابة، و بديع صنع الله ، متحاشية قدر الإمكان النظر في أي شيء يعكر صفو هذه اللحظة، خصوصا وجوه البشر، و بالأخص من النوع ذوي الأنوف المعقوفة، أو العيون الزرقاء !


أمضينا وقتا، سأعترف بأنه كان ممتعا ، مع الكثير من الشوائب ! و كانت الساعة قد تجاوزت الواحدة و النصف ليلا حين قررنا العودة إلى المزرعة.. وليد يقود سيارته و سامر إلى جانبه، و أنا خلفه ، و الحسناء إلى جانبي.. أكاد أعصب عينيها بعصابة سوداء داكنة سميكة جدا، لأمنعها من النظر إلى وليد عبر المرآة !.
 
تتمه

في اليوم التالي، لم يعمل وليد في المزرعة إلا لوقت قصير، و قضى بقية النهار معنا ..

و في العصر، قبيل مغادرة سامر، خرجنا جميعا إلى المزرعة نتجول مثنى مثنى !

و ليد و الحسناء في المقدمة، نتبعهما أنا و سامر على بعد عدة أمتار، يتبعنا العجوز و أم أروى على مبعدة... و سيري خلفهما جعلني أعود لممارسة جولات عيني الاستطلاعية بل التدقيقية التفتيشية على أقل حركة تصدر من أي منهما...

عادت البغيضة لتشبيك ذراعيهما ببعضهما البعض !

يا إلهي ! هل أركض نحوهما و أقف جدارا بينهما؟

قلت مخاطبة سامر :

" دعنا نسرع "

قال متعجبا :

" لم ؟ "

اخترعت أي سبب ، و لا سبب !

" أريد أن أعطي شيئا لأروى "

" أي شيء ؟؟ "

نظرت من حولي، فوجدت مجموعة من الزهور الجميلة الملونة، أسرعت باقتطاف بعضها و قلت :

" هذه ، فهي ملونة مثلها و تصلح طوقا على شعرها الذهبي ! "

و ناديتها مباشرة !

التفت كل من وليد و أروى استجابة لندائي، فحثثت السير إليهما حتى إذا ما بلغتهما قلت و أنا أرسم ابتسامة مفتعلة على شفتي :

" انظري يا أروى ! هذه الورود تشبهك ! "

أروى بدت مستغربة من مقولتي، ثم ابتسمت و شكرتني بعفوية !

قلت :

" اصنعي منها تاجا لشعرك ! ستبدين لوحة مذهلة ! "

أورى ابتسمت ثانية، و كررت شكرها و إن علاها بعض الشك !

التفت إلى وليد و قلت :

" أليس كذلك يا وليد ؟؟ "

وليد قال :

" بلى ، بالتأكيد "

بالتأكيد ؟؟ بالتأكيد يا وليد ؟؟

أنا بالتأكيد سأفقأ عينيك !

أخذت أورى بعض الورود، و تركت في يدي البعض الآخر...ثم استدارا ليتابعا طريقهما...

وقفت أنا على الجمر المتقد.. ازداد اشتعالا و احتراقا.. و أرمقهما بنظرات حادة خطره و هما يبتعدان... و ربما ذبلت الورود التي في يدي من شدة حرارتي !

شعرت بشيء يلمس كتفي فاستدرت بسرعة ، كان سامر...

سامر أوقف يده معلقة في الهواء.. لا أعرف لماذا ؟ ربما لأنها احترقت من ملامستي ؟؟

لكني لمحت عينيه تركزان في الساعة...

قال :

" يجب أن أذهب الآن.."

أعدت النظر إليهما ، ثم إليه.. ثم إلى الثنائي الأخير الذي يقترب منا، العجوز و أخته...ثم عدت أنظر إلى سامر :

" الآن ؟ "

" نعم ، قبل حلول الظلام "

نظرت بيأس نحو الورود التي بين يدي.. و لأنها أصبحت تمثّل أروى في نظري، كدت أرميها و أدوسها من الغيظ.. إلا أن سامر أخذها من بين أصابعي و قال :

" هذه تصلح لك أنت ِ .. أنت فقط "

رفعت بصري إليه و أبديت استيائي من جملته، و لما رأى هو ذلك قال :

" أو ربما لي أنا ! لمعادلة قبح وجهي ! سأحتفظ بها ذكرى "

ابتسمت.. لطالما كان سامر خفيف الظل ، لكنه في الفترة الأخيرة، بعد كل الذي حصل معنا، تغير كثيرا !

قلت :

" أنت لست قبيحا يا سامر! هذه الندبة لا تؤثر عليك مطلقا! إنها أجمل من هذه الورود "

ابتسم سامر بامتنان:

" شكرا ! "

عدت أنا فألقيت نظرة على الثنائي المزعج اللئيم، ثم نظرت إلى سامر...

سامر كان يشعر بتوتري، و يلحظ انجراف أنظاري نحو وليد و أروى.. و هو شيء لا أملك منع نفسي من الانقياد له !

سامر الآن نظر إلي نظرة جدية كئيبة، أخفت أي أثر وهمي للابتسامة التي كانت على وجهه قبل برهة، و قال :

" رغد .. "

من نبرته، شعرت بأنه سيقول شيئا مهما.. أصغيت أذني.. و ركزت معه..

قال :

" ابتداء ً من اليوم.. اعتبري نفسك حرة طليقة.."

دهشت.. أوقفت أنفاسي.. و حملقت به بعيني المفتوحتين لحد الحاجبين !

قال :

" بدأت ُ إجراءات انفصالنا.. و تستطيعين الارتباط بمن تريدين متى شئت ِ "

مأخوذة بهول المفاجأة و غير مصدقة لما تسمع أذناي.. سامر حررني من رباطنا؟؟

أحقا فعل ذلك؟؟

قلت لا شعوريا :

" طلّقتني ؟ "

سامر ابتسم بسخرية و قال :

" و هل تزوّجتك حتى أطلّقك ؟؟ "

و نظر إلى الزهور التي في يده ، ثم قال :

" سيتعين على وليد مراجعة الشؤون المدنية لنقل اسمك إلى بطاقته ، باعتباره ولي أمرك الجديد "

و سكت برهة ، ثم قرّب الزهور من أنفه و شمها، و تنهّد ، ثم نظر إلي و قال :

" أتمنى لك حياة سعيدة ، مليئة بالزهور الجميلة .. الرائعة مثلك "

لم أتمالك نفسي، و كادت الدمعة تقفز من عيني لكنني كبتها بصعوبة..

امتدت يده الآن إلى يدي ، فأمسك بي بلطف .. و قال بصوت أجش :

" حبيبتي... "

و سكت، ثم تابع :

" أتسمحين بأن .. أعانقك للمرة الأخيرة ؟؟ "

حملقت بعينيه، فرأيت الرجاء الشديد ينبع من بؤبؤيهما... لم أحتمل، انطلقت العبرة المكبوتة من عيني فجأة و هتفت :

" سامر ! "

و ارتميت في حضنه و أحطته بذراعي .. في عناق حميم.. حقيقي.. طويل.. مليء بالمشاعر و الدموع... و متوّج .. بالورود التي امتزج عبيرها الأخاذ بأنفاس صدرينا الملتهبة.. و محفوف بأنسام الهواء العليلة و أوراق الشجر المتطايرة من حولنا.. و التي حضرت لتشهد آخر لحظات وجودي في قفص سامر.. قبل أن أنطلق في الهواء حرة .. و أحلق في السماء مرفرفة بجناحي .. ميممة وجهي شطر الشجرة الضخمة الطويلة.. التي امتدت جذورها في قلبي منذ الطفولة.. و التي عليها سأعشش و أقيم لآخر العمر، طاردة بعيدا أي فراشة ملوّنة دخيلة تحاول الاقتراب من بيتي، ليبقى وليد.. وليد قلبي.. لي وحدي أنا.. و أنا فقط..
 
الحلقةالثانيةوالثلاثون
********

لأن الظروف لم تسمح لنا قبل الآن بشراء خاتمي الخطوبة، و أقصد بذلك ظروف وليد ، فإنني فتحت الموضوع معه مؤخرا، بعدما مضت فترة على وفاة والديه، رحمهما الله.

قررنا أن نذهب لشراء الخاتمين و الشبْكة غدا.. لن نقيم أي احتفال، إنما عشاء خاص بي معه...

وليد، هو رجل رائع بكل المقاييس.. ربما كان التعويض الذي أرسله الله لي عوضا عما فقدت.

في مظهره، وسم، جذاب ! طويل القامة، عريض المنكبين، ممتلىء الجسم و الوجه!
في أخلاقه، كريم.. لطيف..نبيل.. متفان، مقدام !
في عمله، مخلص، صادق.. أمين.. مجتهد، نشيط جدا!

في أول مرة التقينا، كان ذلك قبل عدة أشهر، حين دخل رجل غريب إلى المنزل و هو يستنجد!

عندما أتذكر ذلك اليوم ، و رغم المرارة التي كانت فيه، أضحك !

لقد خرجت من المنزل راكضة .. بملابسي المجردة !

حينما عرض علي الزواج ، فرحت كثيرا.. أمي و خالي كانا يمدحانه أمامي باستمرار، و أنا كنت ألحظ إعجابهما بخلقه و طبعه، و أعجبت به مثلهما ...

علاقتي بوليد كانت بالكاد قد بدأت تتطور، ألا أن تطوّرها أخذ منحى آخر حين حضرت رغد للعيش معنا...

و هذه الرغد فتاة غريبة الأطوار !

أول الأمر كانت غارقة في الحزن، ثم بدأت تتفتح للحياة، و الآن بفرض وجودها في ساحة وليد !

إنه يهتم بها كثيرا جدا، و يعاملها و كأنها ملكة ! تصدر الأوامر و هو ينفّذ .. حتى أنه يفكر جديا في شراء طقم غرفة النوم الباهظ الذي أشارت إليه اليوم .. !

و يريد تحويل إحدى غرف المنزل إلى غرفة خاصة بها، بعدما طلبت هي مؤخرا أن تنام في غرفة مستقلة !

أنها فتاة مدللة جدا، و وجودها أبعد وليد عني ، و جعله يصرف جل الاهتمام لها هي .. و يهملني ...

اليوم ذهبنا إلى الأسواق تنفيذا لرغبتها، حيث اختارت طقم غرفة النوم ذاك، و اشترت العديد من الأشياء .. بمبالغ كبيرة !

أنا أخشى أن أتحدّث معها أو مع وليد حول هذه النقطة، حتى لا أسبب مشكلة و يتهمني أحد بشيء، لكن...

نحن في وضع مالي متواضع ! و هي، كانت من عائلة ثرية معتادة على نيل ما تريد بسهولة...و لا أعلم، متى سيمكنها أن تدرك تماما أن والديها قد توفيا... و أنها لم تعد تتربى في عزّهما و دلالهما!

و رغم ما أنفقته رغد هذا اليوم، فأنا لم أتنازل عن رغبتي في شراء خاتمي الخطوبة و طقم الشبكة، فهي من حقّي، و قد وعدني وليد بالذهاب لأسواق المجوهرات و شرائها...





~ ~ ~ ~ ~ ~




العلاقة بين رغد و أروى تزداد اضطرابا مرة بعد أخرى، و هذا يقلقني كثيرا...

رغد، في أحيان ليست بالقليلة تتصرف بغرابة، لا أعرف وصفا دقيقا أذكره لكم، لكن.. إنها .. تتدلل كثيرا !

و لأنها معتادة على الدلال، و تنفيذ جميع رغباتها دون استثناء، و لأنني الشخص الوحيد المتبقي أمامها من العائلة، فإنها .. باختصار تتدلل علي !

نعم حينما كانت صغيرة كنت أعشق تدليلها و أقبل على ذلك بشغف، ألا أن الأمر تغيّر الآن..إنها لم تعد طفلة كما أنني... إنني...
ماذا أقول ؟؟
لست أباها، أو أخاها، أو زوجها أو حتى ابنها لأستطيع مجاراتها ببساطة في كل تصرفاتها... أنا حائر.. حائر جدا!

البارحة، و بعدما عدنا من السوق، و قد اشترت هي العديد من الأشياء، فوجئت بها قادمة نحوي، و قد تغيّر لون عينيها إلى الأزرق ! و إذا بها تسألني :

" كيف أبدو ؟ "

كنت أجلس و أروى في الصالة، نتحدّث عن الخاتمين اللذين تصر أروى على شرائهما، و أظن هذا من حقّها فهي تود وضع خاتم للخطوبة مثل أي فتاة !
اعتقد أن الفتيات يهتممن بأمور تبدو في نظر الرجال، أو لنقل في نظري أنا كواحد من معشر الرجال ... لا تغضبن ! سخيفة أحيانا !

نظرت ُ إلى أروى ثم إلى رغد مندهشا.. و كانت لا تزال تنتظر رأيي في لون عينيها الجديد ! شعرت بالحرج الشديد .. فقلت :

" هل صبغتيهما بالفرشاة ؟! "

قاصدا أن تبدو دعابة خفيفة تلطّف الجو، ألا أن رغد نظرت إلى أروى و قالت :

" و هل أنت ِ صبغتِ عينيك بالفرشاة ؟ "

قالت أروى :

" لا ، صبغهما الله لي هكذا ، لذا فهما تناسباني تماما "

الجملة أزعجت رغد ، فقالت بغيظ :

" تعنين أن لون عيني الآن لا يناسبني ؟ "

صمتت أروى، و نظرت إلي، تقصد تحويل السؤال إلي .. ، و لذا نظرت رغد نحوي و أنا أرى الغضب يتطاير من عينيها هاتين.. و لم أجد جوابا مناسبا ألا أنني لم أشأ إحراجها فقلت :

" و إن ناسباك ، فالأصل هو الأنسب دائما "

و إجابتي الغبية هذه لم تزد الطين إلا بللا !

قالت غاضبة :

" نعم الأصل هو الأنسب دائما، هذا ما يجب أن تدركه أنت ! "

و لم أفهم ما ترمي إليه ! ثم أضافت :

" لو كان سامر هنا، لصفّر إعجابا "

ثم استدارت و غادرت الصالة...

تضايقت أنا من هذا الموقف.. و التزمت الصمت مدّة ، ألا أن أروى قطعت الحديث قائلة :

" ألم أقل لك !؟ إنها تغار مني "

التفت إليها و قلت :

" لا ، ليس الأمر كذلك ! لكنك لا تعرفين كم كانت مدللة تفعل ما تشاء في بيت أبي... كان رحمه الله يدللها كثيرا "

قالت أروى :

" و ها أنت ورثته ! "

التفت إلى أروى، فأشاحت بوجهها عني.. و كأنها غاضبة مني ..

قلت :

" ما بك أروى ؟ ماذا يزعجك ؟ "

التفتت إلي و أجابت :

" ألست تدللها أنت أيضا ؟ "

قلت :

" أ لأنني سمحت لها بشراء كل ما أرادت ؟ تعلمين أن أغراضنا احترقت في بيتنا و هي بحاجة لأشياء عدّة ! "

" أشياء عدّة كالملابس الباهظة التي اشترتها و الحلي أيضا ؟؟ بربّك ما هي فاعلة بها و هي باقية في هذا البيت بالحجاب و العباءة ! "

سكتت قليلا و قالت :

" لم لا ترسلها إلى خطيبها لبعض الوقت ؟ أظنها في حنين إليه "

وقفت منزعجا و رميت أروى بنظرة ثاقبة ، جعلتها تعتذر

" لم أقصد شيئا يا وليد إنما ..."

قلت مقاطعا :

" يجب أن تعرفي يا أروى.. أن رغد هي جزء من مسؤولياتي أنا، الجزء الأكبر.. و متى ما شعرت بالضيق من وجودها فأعلميني، و في الحال سآخذها و نرحل "

ظهر الذهول على ملامح أروى ، فوقفت و قالت :

" وليد ! "

قلت :

" نعم ، نرحل سوية.. لأنه لا يوجد سبب في هذا العالم يجعلني أتخلى عن ابنة عمي ساعة واحدة، مهما كان "

و كان هذا بمثابة التحذير ...

قالت أروى :

" و .. حين نتزوّج ؟ "

صمت فترة ، ثم قلت :

" لن يكون زواجنا قبل زواجها هي ، بحال من الأحوال "

" و .. متى ستتزوج هي و أخوك ؟ "

قلت بسرعة و بغضب :

" ليس الآن، لا أعرف ، ربما بعد عام أو عشرة .. أو حتى مئة ، لكن ما أعرفه هو أنني لن أتزّوج قبلها مطلقا "

و تركت أورى، و انصرفت قاصدا رغد...
نعم رغد، فهي من يشغل تفكيري هذه الساعة، و كل ساعة..


كنت أعرف أنني سأراها باكية.. و هكذا رأيتها بالفعل.. و قد نزعت العدستين الزرقاوين، و تحول بياض عينيها إلى احمرار شديد...

" صغيرتي.. يكفي ! "

طالعتني بنظرة غاضبة ، و قالت :

" كنتما تسخران مني ، أليس كذلك ؟ "

" لا أبدا ! لا يا رغد ! "

قالت بانفعال :

" لو كان سامر هنا ، لقال قولا لطيفا و لو من باب المجاملة.. "

و ذكر اسم سامر يجعلني أتكهرب !

قلت بدون تفكير :

" أنت ِ رائعة إن بهما أو بدونهما يا رغد "

و ابتلعت لساني بسرعة !

رغد تأملت عيني، و ربّما سرّها ما قلت.. فمسحت الدمعتين الجاريتين على خديها ، و قالت :

" حقا ؟ هل بدوت رائعة ؟ "

اضطربت، حرت في أمري.. بم أجيب ..؟؟

يا رغد أنت تثيرين جنوني.. ماذا تتوقعين مني ؟ أنا.. و للأسف، و بكل أسف.. لست زوجك حتى يحل لي أعجب بك و أبدي إعجابي لك.. كيف لي أن أصرّح أمامك : أنت رائعة، و أنت لست ِ ملكي..؟ أنى لي أن أتأملك و أنت لست ِ زوجتي أنا ؟؟
يا رغد.. أنت لستِ امرأتي و أنا لا أستطيع تخطي الحدود التي يجب أن تبقى بيننا..
و إن لم أر روعتك، و لم أتأملها و لم أعلّق عليها، فلتعلمي بأنك في قلبي أروع مخلوقة أوجدها الله في حياتي.. مهما كان مظهرك ..

لا تزال تنظر إلي منتظرة الإجابة.. كطفلة صغيرة بحاجة إلى كلمة طيبة من أحد.. قلت :

" بالطبع ! أنت دائما رائعة منذ صغرك ! "

رغد ابتسمت، أظن بفرح.. ثم قامت و اتجهت إلى أحد الأكياس التي تحوي ما اشترته من السوق، و أخرجت بعض الأشياء لتريني إياها !

أرتني أحد الفساتين، و هي تقول :

" هذا سيدهشك ! انظر .. ما رأيك ؟؟ "

الفستان كان أنيقا، و في الواقع أنا لست خبيرا بمثل هذه الأمور ، لكني أظن أنه من النوع الذي يعجب النساء !

قالت :

" سيغدو أجمل حين أرتديه ! "

و قربته من جسمها و ذهبت لتشاهد ذلك أمام المرآة..

كانت تبدو سعيدة ..

قالت تخاطب المرآة :

" متأكدة سيبهر دانة حين تراه ! و ستشعر بالغيظ ! "

ثم اكفهر وجهها فجأة .. و شردت برهة ، و استدارت إلي .. و رمت بالفستان على السرير..

قلت :

" ما الأمر ؟ "

قالت :

" أريد أن أرتديه "

قلت :

" إذن افعلي ! "

قالت و بريق من الدموع لمع في عينيها :

" أرتديه لأبقى حبيسة في هذه الغرفة ؟ "

و صمتت قليلا ثم قالت :

" لو كان والداي حيين.. لكنا الآن هناك، في بيتنا.. أريهما أشيائي هذه، و أسمع تعليقاتهما.. "

" رغد .. "

" و لكنت ارتديت ما أشاء.. و تزيّنت كيفما أريد .. بكل حرية.. "

" رغد صغيرتي ... "

" و لكنت اشتريت ما يحلو لي دون حساب.. و لطلبت من والدي تجديد طقم غرفة نومي .. لم يكن ليتضايق من طلباتي.. فقد كان يحبني كثيرا.. و يدللني كثيرا.. و يحرص على مشاعري كثيرا.. أكثر من أي أب آخر في الدنيا .. "

و ارتمت فوق الفستان المرمي على السرير، و أخذت تبكي بحرقة...

تمزّق قلبي أنا .. خلية خلية..لهذا الموقف الأليم المرير.. و رغما عنّي تمخّضت مقلتي عن دمعة كبيرة...

اقتربت منها محاولا المواساة :

" أرجوك يا رغد.. كفى عزيزتي .. "

رغد استمرت في البكاء ، و لم تنظر إلي ، لكنها قالت وسط الآهات :

" لن يشعر أحد بما أشعر به.. حبيسة و مقيّدة في هذا المكان..
ليتهما يعودان للحياة.. و يعيداني معهما إلى البيت.. و أنا سأتخلى عن كل شيء فقط لأعيش معهما ! "

مسحت دمعتي ، و قلت بصوت ألطف و أحن :

" بالله عليك يا رغد.. يكفي فقد تفطّر قلبي "

رغد استدارت نحوي، و أخذت تنظر إلي مطولا..

ثم قالت :

" هل تحس بما أحسّه يا وليد ؟؟ أتعرف معنى أن تفقد والديك، و مرتين، و بيتك و عائلتك، و مدينتك و جامعتك، و تبقى مشردا عالة متطفلا على غرباء ؟ في مكان لا يوفر لك أبسط حقوقك ؟ أن ترتدي ما تشاء ! "

" رغد ! ماذا بيدي ؟ أخبريني ؟ ماذا أستطيع أن أفعل ؟ و حتى لو خرجنا من هذا المنزل و سكنا منزلا آخر... لا حل للمشلكة ! "

" بلى ! "

قالت رغد ذلك بسرعة ، فقلت أنا مسرعا :

" ما هو ؟ "

رغد الآن.. عقدت لسانها و هي تنظر إلي نظرات عميقة، كأنها تفكّر فيما تود قوله ثم قالت للقهر :

" أرسلني إلى بيت خالتي "

ذهلت لسماع هذه الجملة ، و ترنحت قليلا ، ثم سألت :

" إلى بيت خالتك ؟؟ كيف ؟ و زوج خالتك ؟ و حسام ؟؟ "

قالت :

" أتزوّجه "

هنا .. توقّف قلبي عن النبض، و توقفت عيناي عن الرؤية، و أذناي عن السمع، و كل حواسي عن العمل ، بل و الساعة عن الدوران...

لم أسترد شيئا من حواسي المفقدوة إلا بعد فترة، و أنا في المزرعة ..
و كان أول شيء استعدته هو الشم، إذ غزت رائحة السيجارة أنفي و أيقظت إحساسه عنوة ...

قلبتني جملتها هذه رأسا على عقب... و بعد أن كنت شديد الحزن و التعاطف معها، أصبحت أرغب في خنقها..

حسام ؟ نعم حسام.. إنه الحبيب السري الذي يعيش في قلب رغد منذ الطفولة.. ليس في قلبها فقط، بل و في صندوق أمانيها الذي لم أنسه يوما...

أهذا ما تريدين يا رغد ؟؟




لم تمض تلك الليلة بسلام.. ظل قلبي ينزف ..من الطعنة العميقة التي سددتها رغد إلى صدري...

لذا فإنني عاملتها بشيء من الجفاء في اليوم التالي، و حين هممنا أنا و أروى بالذهاب إلى السوق لشراء الخاتمين و العقد، و سألتني إذا كنا نسمح بذهابها ، أجبت :

" أروى تريد أن نشتريهما بمفردينا "

" و تتركاني وحدي ؟؟ "

" لا ، بل مع الخالة ليندا "

و لم أسمح لها بإطالة الحديث، بل انصرفت مباشرة...





~ ~ ~ ~ ~




و ليته أحضرها عوضا عن كل هذا !

فبدلا من تأمل المجوهرات، يتأمل الساعة بين الفينة و الأخرى.. و اتصل مرتين لسؤال أمي عنها !

بصراحة، وليد يبالغ في اهتمامه بها و أنا منزعجة من هذا الأمر.. و أتمنى لو يأتي خطيبها و يعتني بها لبعض الوقت، حتى نتنفّس !

تجوّلنا كثيرا، بحثا عن طقم يناسبنا.. و وليد لم يكن مركزا معي جيدا، بل كان يقول عن أي كل عقد أسأله عن رأيه به :

" جميل، دعينا نشتريه ! "

اخترنا في النهاية طقما جميلا مناسبا، بالإضافة إلى خاتمي الخطوبة .. و أراد وليد أن نعود للمزرعة لكنني ألححت علي بالذهاب إلى مطعم و تناول العشاء هناك..
إنها فرصة ذهبية بالنسبة لي، لا وجود لرغد معنا!

" فيم تفكّر ؟ "

سألته و أنا أراه شاردا، قال :

" أأ .. في المزرعة ، تعرفين أننا تركنا عمل اليوم غير منجز .. حالما أعود فسأنجزه "

قلت :

" أوه وليد ! أتفكّر بالعمل حتى و أنت معي هنا ؟ دع عنك المزرعة و شؤونها و لنتحدّث في أمور تخصّنا "

لم تظهر عليه أمارة مشجعة ، تضايقت من شروده عني ، قلت :

" وليد ! أنا معك ! هل تراني ؟ "

الآن ابتسم و قال :

" طبعا أروى ! أنا آسف..، فيم تودّين الحديث ؟ "

قلت ببعض الخجل :

" في أمور بيتننا و خطط مستقبلنا ! "

قال وليد :

" أخبرتك بأننا لن نتزوّج قبل رغد "

رميت بالملعقة التي كانت بين أصابعي ، أتناول بها طبق المهلبية الباردة .. و قلت بانفعال :

" رغد ثانية ! أوه .. رغد ، رغد ، رغد ! وليد ! هللا توقفت عن ذكرها أمامي كل ساعة ؟؟ "

قال وليد و هو مرتبك :

" أروى ! ما حلّ بك ؟؟ "

قلت :

" ما حلّ بك أنت ؟؟ ألا تشعر بأنك تهملني من أجلها ؟ إنني خطيبتك ! "

قال :

" أنا آسف يا أروى، لكنك .. لا تعلمين ما تعنيه رغد بالنسبة لي .. "

قلت :

" ماذا تعني ؟؟ "

وليد غيّر الجملة و قلب السؤال ، إلى ما يعنيه هو بالنسبة لها ، إذ قال :

" إنها فتاة يتيمة، و بلا بيت و لا عائلة و لا ولي غيري، إن أهملتك أنت، فباستطاعتك اللجوء إلى أمك أو خالك، أما إن قصّرت مع ابنة عمي اليتيمة الوحيدة ، فإلى من ستلجأ ؟؟ "

أنا قلت مباشرة :

" إلى خطيبها "

و لا أدري لم انزعج وليد فجأة و قال :

" لنغيّر الحديث، ماذا كنت تودين قوله بشأن المزرعة ؟؟ "

قلت :

" أي مزرعة ؟؟ "

" المزرعة ! ألم تتحدثي عن المزرعة و مستقبلنا فيها ؟ "

اشتططت غضبا و قلت :

" بل عن عش الزوجية و خططنا المستقبلية فيه "

احمرّ وجه وليد ، و تمتم بجمل الاعتذار...

لكن ، أي اعتذار يا وليد؟ إنني أشعر بأنك لا تشعر بوجودي ... و كأنني لست خطيبتك.. و كأننا لن نتزوّج ذات يوم !

عندما عدنا إلى المزرعة ، و لم أكن أنا سعيدة بالقدر الذي تمنيت، دخلت إلى المنزل مباشرة ، أما وليد فذهب لينجز أعمال اليوم التي اضطر لتركها من أجل مرافقتي...

في الصالة، وجدت رغد جالسة تقرأ أحد الكتب..

" تأخرتما "

" نعم، فقد ذهبنا إلى المطعم.. و تنزهنا لبعض الوقت "

و ظهر الاستياء على وجهها، و قالت :

" و هل اشتريتما الخاتمين ؟ "

" أجل "

" هل أستطيع رؤيتهما ؟ "

قلت بحنق :

" نعم طبعا ، لكن غدا ، بعدما نلبسهما أنا و وليد لبعضنا البعض "

قالت :

" و أين وليد ؟ "

" في المزرعة ، سيعمل لبعض الوقت "

و استأذنت و ذهبت إلى غرفتي...






~ ~ ~ ~ ~ ~ ~





تركتني في غيظي ، اشتعل نارا كجهنم.. أكاد أحرق أوراق المجلة التي بين يدي
و لكن لا
لن أفوّت هذا بسهولة ! و لسوف أفسد عليهما سهرة الغد و أحرمهما من الهناء بخاتميهما !

نزعت الخاتم الذي ظل بنصري الأيمن محبوسا به لأربع سنين...
لم أكن قد نزعته قبل الليلة، كما لم أكن قد أبلغت وليد عن انفصالي الشرعي عن سامر.. رغم أن فترة قد مضت على ذلك..

لم أكن أريده أن يشعرني بأنه مهتم بي فقط و فقط لأنه ليس لدي من يهتم بي غيره.. كنت أود أن أشعر.. بأنه يهتم بي و يحبني و يريد بقائي معه حتى لو كان والداي على قيد الحياة ، ليس فقط حتى مع وجود خطيب لي..


عندما سألني :

" ماذا بيدي ؟ ما حل المشكلة "

كدت أقول :

" تزوّجني ! "

و كم كنت سأبدو بلهاء غبية و أنا أعرض على ابن عمّي ، و المرتبط، و الذي نعيش في بيت خطيبته أن يتزوّجني !

أردت أن ألفت نظره إلى وجود حل اسمه الزواج ، فقلت :

" أتزوج حسام "

و انتظرت ردة فعله، انتظرت أن أرى مقدار اهتمامه بي .. و رغبته في بقائي معه..كم تمنيت لو يهتف :

" مستحيل ! "

إلا أنه التزم الصمت، ثم غادر...

أحيانا.. أشعر بأنه يهتم بي و يحبني كثيرا.. لكن.. مثل حبه لدانة.. و أنا أريده أن يحبّني مثلما أحبه أنا.. و أن يعجب بي أنا.. و ألا ينظر إلى عيني امرأة غيري أنا !
و إن كان يريد رؤية عيون زرقاء، أو خضراء، أو حتى صفراء.. فأنا سأغير لون عيني و شعري و وجهي و كل شيء لإرضاء ذوقه !

لقد قال إنني رائعة منذ الطفولة ! كم أشعر بالسعادة كلما تذكرت هذه الجملة ! إنها كنزي الثمين الذي أفتحه و أنعش مشاعري به كلما أصابني اليأس ..

وليد و أروى يخططان لقضاء سهرة خاصة بهما ليلة الغد، للبس الخاتمين.. و أنا .. أخطط لأن أمرض غدا، و أقلق وليد بشأني، و أصرف تفكيره عن السهرة الخاصة، و أحرم أروى مما تصبو نفسها إليه !

سترين يا أروى !






~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~





لأنني لا أحب تأجيل عمل اليوم إلى الغد، و لأنني سأضطر لاختصار ساعات العمل غدا أيضا، من أجل السهرة التي تريدها أروى احتفالا بوضع الخاتمين ، فإنني قررت أن أقضي ساعات في العمل بالمزرعة الآن...

كنت متعبا، فقد قمت بعدة أشياء منذ الصباح، و كان يوما حافلا بالمهام التي كان علي إنجازها.. عدا عن هذا ، فهناك فتاة صغيرة تلعب في دماغي منذ الأمس، و تسبب لي صداعا رهيبا !

انتصف الليل، و أنا لا أزال في المزرعة أبذل مجهودا بدنيا لا يتناسب و الظلام و التوقيت، ألا أنني لم أشأ المغادرة قبل إتمامه...

كنت سأنقل بعض الأشياء إلى السيارة الحوض، إلا أنني حين وجدتها على مبعدة ، تقاعست عن تحريكها، فآخر شيء أفكر به هو قيادة سيارة الآن، اذا قمت بحمل بعض تلك الأشياء بجهد إلى الحوض، و تركت البقية لأنقلها في اليوم التالي، فقد أرهقت كثيرا جدا...

كنت أتصبب عرقا، و أشعر بإعياء شديد، و بحاجة ماسة و فورية للاستحمام ، و النوم مباشرة...

عدت إلى المنزل منهك القوى شديد التعب، متوقعا أن يكون الجميع نيام في مثل هذا الوقت ، لذا دهشت حين رأيت رغد جالسة في الصالة تقرأ كتابا !

" ألم تنامي بعد ؟ "

رفعت رغد عينيها عن الكتاب ، و قالت :

" ليس بعد "

و كانت نظراتها حادة توحي برغبة منها في الشجار !

و هو شيء أفضل الغرق في المحيط عليه، خصوصا و أنا بهذا الحال و التعب !

" تصبحين على خير "

قلت ذلك، و توجهت نحو غرفة نومي، لأنفذ بجلدي، و لكنني ما كدت أخطو بضع خطوات حتى سمعتها تناديني :

" وليــــد "

يا رب !

لست بمزاج جيّد لتلقي أي لوم و عتاب على تركك وحدك كل هذه الساعات ! أجّلي كل هذا للغد يا رغد ! و أعدك بأنني سأتلقى هجومك بأوسع صدر !

التفت إلى الوراء ، و لم أجب ... لكن لسان حالي أجاب : نعم ؟

أغلقت الكتاب الذي بين يديها، و وقفت ..

إنه التأهّب للهجوم ! رغد أرجوك الرحمة ! هذه الليلة فقط !

" أنا جائعة "

هل سمعتم شيئا كالذي سمعت ؟؟ تقول جائعة !

" ماذا ؟ "

" أنا جائعة ! "

تلفت يمينا و شمالا.. أبحث عن شخص يؤكد لي ما سمعت !

" ألم تتناولي عشاءا ؟ "

" كلا "

" حسنا ، لم لا تذهبين للمطبخ و تحضّرين وجبة لك ؟؟ "

قالت :

" أشتهي البيتزا "

" البيتزا ؟ "

" نعم ! البيتزا "

قلت :

" و لكن تحضيرها سيستغرق وقتا ! لم َ لم تعدّيها قبل الآن ؟ "

" لا أعرف طريقة لتحضيرها، و لا أريد أن أعرف، كما و أنني شعرت بالجوع الآن فقط "

و بالتالي ماذا ؟؟

قلت :

" حسنا ، حضّري شيئا آخر .. "

" أريد بيتزا "

" رغد ! و هل تعتقدين أنني أستطيع تحضير بيتزا ؟؟ "

" تستطيع شراءها من المطعم "

نظرت إلى الساعة ، كانت الواحدة ليلا !

" مطعم ؟ الآن ؟؟ "

" نعم ، لابد أنه يوجد مطعم واحد على الأقل مفتوح الآن "

و هذا يعني أن علي ّ أنا الذهاب للبحث عن مطعم و جلب البيتزا ! آخر عمل أفكّر في القيام به على الإطلاق !

" حضّري لك أي وجبة من الطبخ ، الوقت متأخر و أنا متعب .. "

" لا أشتهي غير البيتزا ! "

" كلي أي شيء الآن ، و غدا آخذك إلى المطعم "

قالت :

" معكما أنت و أروى ؟ "

و رمقتني بنظرة حادة .. ثم أضافت :

" هل تقبل العروس ؟ "

تنهّدت ، و قلت خاتما الموضوع :

" أمامك المطبخ بما حوى ... تصبحين على خير "

و استدرت و تابعت طريقي، و لما بلغت الباب و فتحته سمعتها تقول :

" لو كان سامر هنا ، لما سمح بأن أنام و أنا جائعة ! و لكان لفّ العالم ليحضر لي ما أريد "

أفلتت أعصابي، صفعت الباب بقوّة و أنا أستدير إليها ، و أراها تجلس على المقعد و تحني رأسها إلى الأرض، و تبدأ بالبكاء...

سرت إليها و وقفت قربها و قلت بعصبية :

" حسنا.. أنا ذاهب لإحضار ما تريدين "

و سكت لأتنفس، ثم تابعت :

" لا تستفزّيني هكذا ثانية ! "

رفعت رأسها و نظرت إلي، ربما نظرة استغراب أو اعتذار ، لم أكد أميّزها لأنني سرعان ما استدرت و ذهبت نحو الباب، و ما أن فتحت الباب حتى وصلني صوتها و هي تقول:

" مع عيدان البطاطا المقلية... ! "

التفت إليها فوجدتها تبتسم ! نعم تبتسم !

أتعرفون أي نوع من الابتسامات ؟؟ تلك التي تنسي المرء أنه يتصبب عرقا و أن عضلاته مرهقة حد الشلل ، و مشاعره متهيجة حد الغليان !

يا لهذه الفتاة !


لم يكن العثور على مطعم مفتوح أمرا سهلا، لكنني اشتريت لصغيرتي المدللة هذه ما تريد، و خلال 40 دقيقة ، عدت إلى المنزل ...

كانت لا تزال جالسة على نفس المقعد ، و الكتاب في حضنها و يداها موضوعتين على صفحتيه ...

لم تنهض لدى دخولي...

قلت :

" وصل عشاؤك ! "

لم ترد... اقتربت منها ، فوجدت عينيها مغمضتين... و ببساطة كانت نائمة !

" رغد .. "

لم تجب، اقترب أكثر و همست :

" رغد هل نمت ِ ؟ "

و لم تستفق.

ماذا أفعل بهذه الفتاة ؟؟

في منتصف الكتاب المفتوح، لمحت شيئا يلمع.. اقتربت أكثر، إنه ليس إلا خاتم خطوبة رغد.. ! مددت يدي و أخذت الخاتم...و دققت النظر فيه.. محفور بباطنه الحرفان الأولان من اسمي رغد و سامر، مع تاريخ الخطوبة...

بقيت واقفا في مكاني أعبث بذلك الخاتم، و أتمنى أن امحيه من الوجود، و أمحي معه كل علاقة ربطت بين سامر و رغد.. حتى رابطة الدم !

في آخر مرّة زارنا فيها سامر.. في آخر لحظة قضاها معنا.. في المزرعة ، و آخر صورة التقطتها عيناي لهما هو و رغد، كانا في عناق حميم.. حلل كل خلايا الدم الجارية في عروقي.. و أصابني بأنيميا حادة فتّاكة...

لكني حتى هذه اللحظة، أجهل مصير هذه العلاقة و لا أجسر على التحدّث مع رغد بشأنها...

التفت الآن إلى رغد، نائمة بعمق و هدوء... و تعرفون كم تطيب لي مشاهدتها هكذا.. و تعرفون كم أعاني و أجاهد نفسي أقف عند الحدود فيما بيننا..

اقتربت منها أكثر، و همست :

" رغد.. قومي إلى غرفتك "

لكنها لم تتحرك، ناديت :

" رغد انهضي يا صغيرتي.. هل ستنامين هنا ؟؟ "

و مددت يدي و ربت بخفة على يدها ، رغد تحركت، و مالت بجدعها على المقعد حتى أسندت رأسها عليه و هي تقول :

" أوه أروى حلّي عني ، أكرهك ! "

و صمتت !

دهشت ! بم تحلم صغيرتي هذه اللحظة ؟؟ و لم تقول شيئا كهذا ؟ و ماذا يعني ذلك؟؟

" هذا أنا وليد، أنت تنامين في الصالة رغد، قومي إلى غرفتك "

ابتسمت رغد، و هي نائمة ، ثم قالت :

" بابا .. أحبك .. "

و غطت في سكون عميق !

ليتني أدخل حلمك و أرى... بما و من تحلمين !

نوما هنيئا...صغيرتي..






~ ~ ~ ~ ~
 
تتمه

عندما نهضت، و على صوت منبه مزعج ، رأيت نفسي نائمة على المقعد في وضع غير مريح ! و على المنضدة الموضوعة أمام المقعد ، وجدت كيسا يبدو أنه لأحد المطاعم !
نهضت و نظرت من حولي فلم أر أحدا، لكنني كنت أسمع صوت المنبه القوي قادما من ناحية غرفة وليد !

مددت يدي نحو الكيس أولا و تفقّدت ما به

" إنها البيتزا ! "

و صوّبت نظري ناحية غرفة وليد، فوجدت الباب مفتوحا على مصراعيه ... و كان المنبه يرن باستمرار ... دون أن ينهض وليد...

قمت أنا و تسللت إلى الغرفة، و أوقفته، و ألقيت نظرة على وليد...

كان مستلق ٍ على السرير و أطرافه الأربعة موزعة على جميع الزوايا ! كان يبدو غارقا في النوم جدا !

و مع ذلك ما أن نطقت باسمه :

" وليد "

حتى فتح عينيه بسرعة، ثم نهض جالسا باندفاع !

هل صوتي مفزع لهذا الحد ؟؟ لقد كان المنبه يرن حد البحة!

وليد تلفت يمينا و شمالا ثم نظر إلي

" رغد ؟ ما بك ؟ "

إنه بالفعل فزع !

قلت :

" لا شيء ! إنه وقت الصلاة ! "


خرجت من غرفته، و ذهبت إلى غرفة أروى،التي لا أزال أشاركها فيها، حاملة معي كيس المطعم !

وجدت الباب موصدا من الداخل !

" أروى! تبا لك ! سأعتبره طردا ! "

بعد قليل، و قد خرج وليد مع العجوز كالعادة للصلاة للمسجد، حملت كيسي و البطانية ، و ذهبت إلى غرفة وليد و تابعت نومي على المقعد !

وجدتها فرصة ذهبية لتوسيع دائرة الخلاف بيننا، أنا و أروى.. قلت مخاطبة وليد بعد عدة ساعات :

" إنها لا تريدني في غرفتها، و لا في بيتها و لا مزرعتها، أخرجني من هذا المكان "

وليد كان متضايقا جدا، قال :

" لا يمكن أن تتعمّد أروى إيصاد الباب دونك! ربما أقفلته خطأ ً "

" طبعا ستقول هي أنه خطأ، لكني متأكدّة من أنه مقصود ، وليد لا أريد العيش في هذا المكان.. "

امتقع وجه وليد و كأبت ملامحه بشدّة... و فرك جبينه براحة يده ثم قال :

" إلى أين نذهب إذن ؟ "

قلت :

" دعنا نعود إلى شقة سامر "

لم ترق الفكرة لوليد، و قال :

" و عملي ؟ "

" فتّش عن عمل آخر، إنه عمل متعب و لا يستحق اهتمامك و مجهودك على أية حال "

وليد حزن من قولي هذا، كما ظهر جليا على وجهه، ألا أنه قال :

" سأحاول إيجاد حل آخر..."

و صمت قليلا ، ثم تابع و هو يضيق فتحة عينيه :

" ألا أنني لن أسمح لك بالزواج قبل الخامسة و العشرين ! "

ذهلت من كلامه، و من نظرته فحملقت به بفضول ، و سألت :

" و لم الخامسة و العشرين بالذات ؟ "

" هذا على الأقل، فأنت لا تزالين صغيرة ، و ستظلين صغيرة لبضع سنين ! "

بشكل تلقائي، رفعت يدك اليمنى مبرزة إصبعي البنصر، لأثبت بأنني مخطوبة يعني كبرة ! و للدهشة ، لم أجد الخاتم !

تبدّلت ملامحي ، و أخذت أقلب كفي ظهرا و بطنا و أفتش عن الخاتم في أصابعي العشرة ! لا ، بل العشرين !

وليد كان يراقبني، و رآني و أنا أضطرب، ثم أذهب نحو المقعد و أفتّش ما حوله..

أقبل وليد يسير ببطء ، حتى وقف خلفي مباشرة، و كنت أنا جالسة على الأرض محنية رأسي للأسفل ، أتحسس بيدي الأرضية تحت المقعد ...

يا إلهي أين اختفى !؟

" عمّ تبحثين ؟ "

رفعت نظري إلى الجبل الطويل الواقف خلف، فرأيت ميلا بسيطا لإحدى زاويتي فمه للأعلى، يعني ، شبه ابتسامة ماكرة !

قلت و أنا لا أزال في وضعي أنظر إليه كمن ينظر للسقف !

" هل رأيته ؟ "

" ما هو ؟؟ "

" محبسي ! "

" أي محبس ؟؟ "

" خاتم خطوبتي يا وليد ، تركته على الكتاب البارحة ! "
تغيّرت تعبيرات وليد و قال :

" هل يعني لك فقده شيئا مهما ؟؟ "

قلت مستغربة :

" طبعا ! إنه ليس مجرّد خاتم ! "

وليد عبس بعض الشيء، ثم مد يده في أحد جيوبه، و أخرج الخاتم... و وضعه على المنضدة ...

نهضت أنا و نظرت إلى الخاتم، ثم إلى وليد... و حرت في أمره...

ولى وليد مدبرا خارجا من المنزل ألا أنه حين بلغ الباب استدار و قال :

" لن تضعي شيئا كهذا في يدك اليسرى قبل مضي سنين ! مهما كان الطرف الآخر ! لن أسمح بذلك ..."


و انصرف !





~ ~ ~ ~ ~ ~





أخيرا حلّ الليل! كم أنا مسرورة و في قمة السعادة.. فالليلة سنرتدي أنا و وليد خاتمي الخطوبة أخيرا !

قضيت فترة طويلة على غير العادة أمام المرآة أتزيّن !
أعددت لسهرة جميلة و رومانسية مع خطيبي، في الغرفة الخارجية...
و الإعداد يشمل العشاء، و طبق التحية، و الشموع الحمراء، و فستاني الأزرق الداكن، و تسريحتي الجميلة، و خاتمي الخطوبة، و طقم الشبكة، و أيضا الكلام اللطيف الذي حضّرته لأقوله لوليد!

و هو أهم ما في السهرة، فإن في قلبي مشاعر أود التعبير عنها...
بصراحة حتى الآن لا أشعر بأنني كبقية الفتيات المخطوبات، لأن ظروف وليد لم تسمح لنا بالاستمتاع بأيام خطوبتنا كما ينبغي... كيف نهنأ و والداه توفيا قبل فترة تعتبر وجيزة...؟؟
و الآن بعدما استرد كيانه، و اجتاز الصدمة، حلّت رغد.. كعائق دون انفرادي بخطيبي!

و اليوم هي مستاءة منّي لأنني نسيت باب غرفتي مغلقا، بعد استبدال ملابسي، و أويت للنوم !

على كل ٍ استياؤها هذا جاء بفائدة ألا وهي بقاؤها بعيدة بعض الشيء !

فتح الباب أخيرا و دخل وليد.. خطيبي العزيز..

و انبهر بكل ما حوله، فقد صنعت جوا رومانسيا رائعا !

" جميل ! ذوقك جميل ! "

" شكرا وليد! تفضّل بالجلوس ! "

اتخذنا مجلسينا متقابلين تفصلنا مائدة العشاء المميز... و إلى جانبنا منضدة صغيرة وضعت عليها علبة الخاتمين و العقد...

تبادلنا أطراف الحديث، الهادىء اللطيف، و الابتسامات الناعمة ! و بمجرّد أن نلبس الخاتمين، سأقول له : ( أحبك يا وليد ! )

كم تتخيلون كان مقدار سعادتي؟؟

و ماذا تتصوّرون لون وجهي ؟؟

و هل لديكم فكرة عن سرعة دقّات قلبي ؟؟

ليتكم كنتم معنا...

تناول وليد علبة الخاتمين، و أمسك بخاتمي الذهبي، و هم ّ بإلباسي إياه...

إنها اللحظة الحاسمة التي كنت انتظرها ...

حينها، سمعنا طرقا سريعا على الباب جعلنا نفزع و ننهض واقفين بسرعة...

" وليد.. "

و انفتح الباب ، فإذا بها أمي تقبل مسرعة ...

" أمي .. ماذا حدث ؟؟ "

أمي كانت تنظر إلى وليد و هي مقبلة نحوه و مخاطبة له بقول :

" وليد.. أسرع .. رغد متعبة جدا ! "

وليد ، لم ينتظر حتى إلى أن تنهي أمي جملتها، رمى بالخاتم بسرعة فوقع في كأس العصير... و قفز خارجا من الغرفة يركض بقوة... كمتسابق في الماراثون...

لم تكن غير ثانية ، أو ربما عشر الثانية أو حتى جزء من مئة جزء منها ، إلا و اختفى وليد.. و تلاشى كل شيء...!

و خيّم سكون على الغرفة.. لا يعكّره إلا رنين الخاتم المصطدم بالكأس..
و ظلام لا يوتّره إلا لهيب الشمع المنصهر أمام عيني ...
و بقايا أمسية..انتهت قبل أن تبدأ..
و سعادة اختفت قبل أن تظهر..
و لسان خرس قبل أن ينطق...
( أحبك يا وليد ) ..
 
الحلقةالثالثةوالثلاثون
**********


بعد الانتصار الذي حقّقته، ليلة أن أفسدت ُ على أروى سعادتها، شعرت بنشوة كبيرة!

كيف لا، و ليلتها.. بقى وليد قلبي معي في المستشفى ، يحيطني بالرعاية و العطف !

لقد زالت جميع الآلام المفتعلة التي أرغمت معدتي على التظاهر و الإحساس بها ، بمجرد أن رأيت وليد مقبلا نحوي بقلق !

و تحوّلت إلى رقص عندما رأيه أصابع يده خالية من أي محابس !

سألته بعد ذلك، و نحن في المستشفى، و أنا أنظر إلى يده اليمنى :

" أين خاتمك ؟ "

وليد فكّر قليلا ثم قال :

" في علبته ! "

شعرت بسعادة كدت معها أضحك بقوة ! لكنني منعت نفسي بصعوبة لئلا يكتشف وليد بأنني لا أشكو من أي شيء !
إلا من غيرتي من الدخيلة، و رغبتي في إبعادها عني نهائيا

أخفضت نظري لئلا يقرأ وليد ما بعيني من فرح و مكر .. و بقيت كذلك بضع ثوان، ، إلى أن سمعته يقول :

" و أنت ؟؟ "

رفعت نظري إليه ، في بلاهة ! ماذا يعني ؟؟

قال :

" أين خاتمك ؟ "

و من عينيه إلى يدي اليمنى مباشرة ! لم أرتده مذ خلعته تلك الليلة !

قال :

" لا تقولي أنك أضعته مجددا ! "

قلت مداعبة :

" هل وجدته ؟؟ "

وليد اندهش و قال مستغربا :

" أحقا أضعته ثانية ؟؟ أي فتاة أنت ِ ! "

قلت مباشرة :

" أنا رغد ! "

ابتسم و قال :

" حقا !؟ كدت ُ أنسى ! كنت ِ تضعين ألعابك و تأتين إلي طالبة مني البحث عنها ! "

ابتسمت ُ بخجل...

قال :

" لكنها كانت ألعاب .. أما هذا .. "

و بتر جملته...

و ظل ينظر إلي بصمت برهة.. ثم وجه عينيه نحو الجدار...

قلت :

" وليد .. "

بصوت خافت هامس، التفت إلي و أجاب :

" نعم ؟ "

" هل.. ستظل تعتني بي .. فيما لو بقيت ُ دون زواج عشر سنين أخرى ؟ "

استغرب وليد من سؤالي، ثم قال :

" و عشرين، و خمسين ، و مئة ! "

قلت بخجل :

" حقا وليد ؟ "

" طبعا صغيرتي ! إنك جزء مني ! "

كدت ُ أقول بسرعة :

" و أنت كلّي ! "

و لكنني خدّرت الجملة في لساني لئلا تصحو !

قلت و أنا أعبث بأصابعي :

" وليد ... "

و أتممت :

" تخلّصت ُ من الخاتم "

و نظرت إليه لأرى تعبيرات وجهه

بدا مستغربا حائرا

قلت موضّحة أكثر :

" سامر حل ّ رباطنا و لذلك .. خلعته "

هي تعبيرات غاية في الغموض ، تلك التي ارتسمت على وجه وليد لحظتها... ذهول مفاجأة ، صدمة، استياء... عدم تصديق، أو .. لا أدري.. لا أدري ما كان معناها...

بعد صمت الاستيعاب و التفكير ، قال :

" إذن .. إذن ... أنت و سامر ... "

أتممت ُ جملته :

" لم نعد مرتبطين ! "

وليد وقف فجأة ، و أخذ يحوم...في الغرفة ، يفكّر .. ثم استدار إلى فجأة و سألني :

" لماذا يا رغد ؟ "

تبادلنا نظرة عميقة، ثم أحنيت رأسي و أخفضت عيني نحو الأسفل.. خشية أن تصرخ الجملة من عيني : ( لأني أحبك أنت ! )

التزمت الصمت، و لم أرفع بصري إليه مجددا... فما كان منه إلا أن أقبل نحو الستارة ليغلقها

بعدما أغلقها حول سريري، قال جملة أخيرة :

" مهما كان السبب، و لأنك ِ تحت رعايتي الآن، فاحذفي فكرة الزواج من رأسك ِ نهائيا.. طوال السنين المقبلة "






~ ~ ~ ~ ~ ~




الآن، و أخيرا..أصبحت رغد حرّة !

اتصلت بسامر و علمت منه بالتفاصيل، و الجملتان اللتان ظلتا معلقتين في رأسي كانت أولاهما :

" لا داعي لأن تأتيا لزيارتي ، لا أريد أن أراها "

أما الثانية، فهي :

" تستطيع أن تتزوّج الآن ممن أرادت "

" من تعني ؟ "

" اسألها ! "


كل هذا أكد لي ، أن رغد بالفعل انفصلت عن سامر من أجل رجل آخر... و هذا الآخر لن يكون غير حسام، و أنا لن أكون وليد إن سمحت لها بالزواج من أي مخلوق على وجه الأرض.. فرغد من هذه اللحظة أصبحت لي ! نعم لي !
و مهما كانت العقبات، و مهما عاندت الظروف، فسوف لن أسمح لأي رجل بدخول حياتها و سرقتها مني مجددا.. و لن تكون في النهاية إلا لي أنا..

توالت الأيام، و رفع الحظر أخيرا عن المدينة الصناعية و صار بإمكان الناس التحرك منها و إليها دون خطورة .. و ما أن حدث ذلك ، حتى طالبتي رغد بأخذها إلى بيت خالتها و ألحّت علي بالطلب ، الأمر الذي جعل الشكوك في رأسي تكبر و تتفاقم و أصبحت مهووسا باسم حسام حتى صرت أراه في الكوابيس...
و بعد إلحاح شديد منها وافقت على اصطحابها لزيارة عائلة خالتها بمجرد انتهاء موسم الحصاد .






~ ~ ~ ~ ~




بعد أيام، سيأخذني وليد أخيرا لرؤية خالتي و نهلة و الجميع ... كم اشتقت إليهم ! كم من الشهور مضت مذ افترقنا في تلك الليلة الحمراء ...

كنت رغم ذلك على اتصال شبه يومي بنهلة أخبرها عن كل شيء يدور من حولي و داخلي ...

في أحد الأيام، كان وليد يعمل في المزرعة كالعادة، و كنت أراقبه و أرسم منظرا جميلا على مقربة منه، الشقراء كانت داخل المنزل مشغولة ببعض الأمور مع والدتها

فجأة ، إذا بي أرى أناس غرباء يدخلون المزرعة، و يعبرون الممر و يقتربون منّي !

كانوا أربعة رجال... تقدّم أحدهم نحوي أكثر و سأل :

" أأنت الآنسة أروى نديم ؟؟ "

قال آخر مقاطعا :

" أرأيت ؟ كما توقّعت ! إنها فتاة قاصر ! "

قال الرجل الأول و هو يقترب أكثر :

" أنت هي ؟ "

تراجعت أنا للوراء، و ألقيت بالفرشاة و علبة الألوان جانبا و هتفت :

" وليـــــد "

وليد كان يعمل بالجوار.. ، و حين سمع ندائي أقبل مسرعا .. فلما ظهر أمام عيني ركضت إليه في ذعر ...

" رغد .. ماذا هناك ؟ "

و نظر إلى الرجال الغرباء ...

ثم سألهم :

" من أنتم ؟؟ "

قال الرجل الذي تحدّث إلي :

" أنا المحامي يونس المنذر، و هؤلاء رجال قانون أتباعي ، أتينا بحثا عن الآنسة أروى نديم "

و نظر باتجاهي أنا

اختبأت أنا خلف وليد، و أطللت برأسي لأراهم !

قال المتحدّث :

" أهي هذه ؟ "

قال وليد :

" لا ، لكن هل لي أن أعرف ماذا تريدون منها ؟ "

قال المتحدّث :

" أهي هنا ؟ أ هذه مزرعة المرحوم نديم وجيه ؟ "

" نعم . فماذا تريدون منها ؟ "

" عفوا من تكون يا سيد ؟ "

" وليد شاكر، زوج أروى نديم "

تبادل الرجال جميعهم النظرات ، ثم قال المتحدّث :

" هل يمكننا التحدث إلى السيدة أروى ؟ فالأمر مهم "

قال وليد :

" هل لي أن أعرف .. الموضوع ؟؟ "

قال الرجل :

" الموضوع يتعلق بإرثها، و لكن لا أريد مناقشته دون حضورها شخصيا و مع البطاقة المدنية ، بعد إذنك "

وليد استدار ليتحدّث معي ...

" رغد، من فضلك، استدعي أروى، و اطلبي منها إحضار بطاقتها ، و احضري بطاقتي من محفظتي ، تجدينها في أول أدراج الخزانة في غرفتي "

أذعنت للأمر و ذهبت مسرعة نحو أروى ، و أخبرتها بالأمر، ثم أسرعت إلى غرفة وليد أفتّش عن محفظته

استخرجت المحفظة من أحد أدراج الخزانة، و أخرجت البطاقة منها و أثناء ذلك ، لمحت شيئا داخل المحفظة أثار فضولي !

مجموعة من قصاصات الورق مرصوصة خلف بعضها البعض و مدسوسة خلف البطاقة !

بفضول سحبت واحدة منها فاكتشفت أنها جزء ممزق من صورة فوتوغرافية ما !

استخرجت القصاصة الثانية ، و الثالثة ، و الجميع، حتى وجدت قطعة حاوية على وجه شخص !

رتبت القصاصات .. حتى اكتملت الصورة ، و صارت جليّة أمامي ...

صورة لفتاة صغيرة، تجلس على الأرض، و أمامها علبة ألوان و دفتر تلوين تلّون رسومه ... صورة لا يقل عمرها عن 13 عاما كما لا يزيد عمر الطفلة الظاهرة فيها عن 5 سنين !
إنها صورتي أنا !!


" رغد "

سمعت صوت أروى مقبل نحوي فأعدت القصاصات بسرعة كيفما اتفق، و أخذت البطاقة و خرجت مسرعة من الغرفة ...

" ها أنا "

خرجنا سوية من المنزل إلى المزرعة، فوجدنا وليد و الرجال الأربعة و قد جلسوا على المقاعد الموجودة حول طاولة موضوعة على مقربة من المنزل ...

حينما أقبلنا.. وقف الجميع .. و قال وليد مشيرا إلى أروى :

" هذه هي أروى نديم وجيه "

و بعد أن استوثق الرجال من البطاقة ، قال ذلك الرجل نفسه :

" إذن فأنت لست فتاة قاصر كما اعتقدنا "

قالت أروى :

" أنا في الرابعة و العشرين من العمر ! "

قال الرجل :

" هذا سيسهّل مهمّة استلامك للإرث "

أورى و وليد تبادلا نظرة التعجب ، ثم قالت :

" الإرث ؟ أي إرث ؟ والدي رحمه الله لم يترك لنا غير هذه المزرعة ! "

و أشارت بيدها إلى ما حولها ...

الرجل تحدّث قائلا :

" لا أتحدّث عن إرث والدك رحمه الله "

تعجبت أروى ، و سألت :

" من إذن ؟؟ "

قال الرجل :

" عمّك المرحوم عاطف وجيه "

حملقنا نحن الثلاثة في وجوه بعضنا البعض، في منتهى الدهشة و الاستغراب ، و إن كنت أنا أقلهم استغرابا !

قال وليد :

" عاطف وجيه ؟؟ أبو عمّار ! "

أجاب الرجل :

" نعم أبو عمّار ، رحمهما الله "

وليد و أروى نظرا إلى بعضهما .. ثم إلى الرجل الغريب ...

سألت أروى :

" عمّي عاطف ! عجبا ! لقد مات قبل عام ! هل ذكرني في وصيته !؟ "

الرجل قال :

" لم يترك المرحوم وصية، كما لم يترك وريثا ، لكنه ترك ثروة ! "

ازداد تحديق وليد و أروى في بعضهما البعض ، ثم سألت أروى :

" ثروة ؟ "

قال الرجل :

" نعم ، و لك منها نصيب كبير "

حلّ الصمت برهة ، ثم قالت أروى :

" ما يصل إلى كم تقريبا ؟ "

قال الرجل بصوت تعمّد أن يكون واضحا رنانا :

" ما يصل إلى الملايين يا سيدتي ! "

فغرت أروى ، و كذلك وليد و أنا.. كلنا فغرنا أفواهنا من الذهول ... و قالت أروى غير مصدّقة :

" ملا...يين ؟؟ تركها لي ..!! "

قال الرجل :

" نعم ملايين ! "

هزّت أروى رأسها غير مصدّقة... و هي تضع يدها على صدرها من الذهول ...

قال الرجل :

" يبدو أنك لم تكوني على علم ٍ يا سيّدتي.. بأن عمّك المرحوم عاطف وجيه كان مليونيرا فاحش الثراء ! "





~ ~ ~ ~ ~








لقد كانت مفاجأة هزّت كياننا جميعا ...

عاطف وجيه، هو والد عمّار القذر، الذي قتلته بيدي قبل تسع سنين ..

و عاطف هذا ، كان رجلا شديد الثراء و يملك العديد من الأملاك ... و من بينها مصنع كبير كان يضاهي معظم مصانع المدينة الساحلية، و هو مصنع لم تلمسه يد الحرب، كما فعلت بمصانع أخرى ، منها مصنع والدي السابق ...

حقيقة، كان حدثا مزلزلا شل ّ حركتنا و أفكارنا طوال عدّة أيام...

و الفتاة الفقيرة التي ارتبطت بها ، و التي قبلت بي على حالي و عللي ، و فتحت قلبها و بيتها و كل ما لديها من أجلي، و التي كنت أفكر بالانسحاب من حياتها من أجل رغد... أصبحت الآن..مالكة لثروة كبيرة !

يا للأيام ...

يا للزمن .. الذي يؤرجحنا و مصائرنا إيابا و ذهابا... علوا و هبوطا... مستقبلا و ماض ٍ !

كان يفترض عليها السفر إلى المدينة الساحلية من أجل إتمام الإجراءات اللازمة شخصيا.. و استلام نصيبها العظيم من تلك الثروة...

و كان علي أنا ترتيب الأمور من أجل هذه الرحلة، إلى المدينة الساحلية، مدينتي الأصلية، و التي لم أزرها منذ زمن..

" هل تصدّق يا وليد ؟؟ إنني لا أكاد أصدّق ! كأنه حلم ! آخر شيء كنت أتوقعه في الوجود على الإطلاق..هو أن أرث شيئا و من ثروة عمّي الذي لم أره في حياتي غير بضع مرّات عابرة ! "

قالت ذلك ، و هي بين التصديق و التكذيب.. تشع عيناها فرحا و ابتهاجا..

قلت :

" سبحان الله ! "

أروى، مدت يديها و أمسكت بيدي و قالت :

" شدّ على يدي ّ بقوّة يا وليد ! دعني أحس بالألم لأتأكّد من أنها حقيقة "

ابتسمت لها و قلت :

" إنها حقيقة مذهلة ! صدّقي يا أروى ! أصبحت ِ ثرية ! "

أروى نظرت إلي بسعادة، و اغرورقت عيناها بالدمع، ثم ارتمت في حضني ...

" ضمّني بقوّة يا وليد.. فأنا أريد أن أشعر بأنها الحقيقة..بأنني لا أحلم..بأنني في الواقع..وبأنك معي ! "

أحطتها بذراعي مشجعا ..و مؤكدا لها ما أعجز أنا نفسي عن تصديقه... و مكررا :

" سبحان الله...سبحان الله "

أغمضت عيني، و نحن متعانقان، و سبحت في بحر الذكرى البعيدة... استعرض شريط حياتي و المفاجآت التي اختزنها القدر لي ، و صدمني بها مرة تلو أخرى ...

قالت أروى :

" ماذا سنفعل الآن؟؟ "

" لا أعرف ! لازلنا في أول الطريق ! "

ابتعدت أروى عن صدري قليلا، و نظرت إلي مطولا، و ابتسمت و قالت :

" لا حاجة للقلق..ما دمت معي "

ابتسمت لها، فعادت و غمرت رأسها في صدري بارتياح...

أما أنا فأغمضت عيني في ألم...و مرارة ..في حيرة و ضياع.. ماذا سأفعل الآن؟؟ ماذا ينتظرني بعد ؟؟ ماذا تخبئين لي أيتها الأقدار ؟؟

و عندما فتحتهما..لمحت عينين حمراوين..ملأتهما الدموع..تنظران إلي بألم، مطلتين من فتحة الباب.. و ما أن رأيتهما ..حتى انسحبت صاحبتهما مبتعدة .. تاركة إياي في بحر من الضياع..

لم استطع البقاء مكاني لحظة بعد.. أبعدت أروى عني قليلا و قلت :

" دعيني أذهب لترتيب بعض الأمور.. من أجل السفر "

أروى ابتسمت و قالت :

" و أنا أيضا سأرتب بعض أموري... لا أدري كم سنغيب هناك ! "


و تركتها و تسللت نحو غرفة رغد..

طرقت الباب مرارا لكنها لم تجبني، و حين هممت بالانصراف رأيت مقبض الباب يتحرك أخيرا...

في الداخل، وجدت رغد غارقة في الدموع المريرة..فتصدّع فؤادي و طار عقلي خوفا عليها...

" ما بك صغيرتي؟؟ ماذا حصل ؟"

رمتني رغد بنظرة ثاقبة .. لم يكفها تمزيق أحشائي بل و صهرت الجدار الذي خلفي من حدّتها...

" رغد !؟ "

قالت :

" متى ستسافران ؟ "

قلت :

" خلال أيام معدودة "

قالت :

" هل يجب أن تذهب أنت ؟ "

استغربت سؤالها و أجبت :

" طبعا ! فأروى ستكون بحاجة إلي بالتأكيد ! "

قالت بنبرة حزينة :

" و أنا ؟ "

نظرت إليها بتعجّب ، و قلت :

" بالطبع ستكونين معنا ! "

رغد لم تعقّب، بل أحنت رأسها للأسفل بحزن...

اقتربت منها أكثر ، ثم قلت :

" رغد ! و هل تظنين أنني سأترك هنا و أذهب ؟؟ "

رغد رفعت رأسها و نظرت إلي نظرة جعلت قواي تخور فجأة ...

قلت بصوت ضعيف واهن :

" أرجوك يا رغد.. ماذا تقصدين ؟ أخبريني بلسانك فلغة العيون هذه ..ترسلني إلى الجنون "

قالت رغد :

" ستصبحان ثريين ! "

ثم أضافت :

" هنيئا لكما ! "

و غطت وجهها بيديها كلتيهما و بكت بكاء ً مؤلما...

" أرجوك يا رغد، لم كل هذا ؟؟ ماذا يجول برأسك الآن ؟؟ "

رغد قالت و هي على وضعها هذا :

" دعني وحدي "

لم أقبل، قلت مصرا :

" ما بك الآن ؟ أخبريني أرجوك ؟؟ "

أزاحت رغد يديها و رمقتني بنفس الناظرة ، و قالت :

" أريد الذهاب إلى خالتي ! هلا ّ أخذتني إلى هناك ؟ "



رتبنا الأمور للسفر برا ، أنا و رغد و أروى و الخالة ليندا ، فيما ظل العم إلياس في المزرعة، يهتم بأمورها بمساعدة الأشخاص الذين عيّنتهم أنا للعمل عندنا قبل مدّة.

خطة سفرنا كانت تقتضي منا التعريج على المدينة الصناعية أولا ، من أجل زيارة عائلة أم حسام، كما ترغب رغد و تلح، و من ثم الذهاب إلى المدينة الساحلية.

في السيارة، كانت أروى تجلس على المقعد المجاور لي، و كنا نتبادل الأحاديث معظم الوقت، بينما يخيم صمت غريب على المقعدين الخلفيين، رغد و الخالة !

الخالة سرعان ما غلبها النعاس فنامت، أما الصغيرة الحبيبة، فكلما ألقيت نظرة عبر المرآة إليها وجدتها تحدّق بي بحدّة ! و كلما حاولت إشراكها في الحديث معنا ردت ردا مقتضبا سريعا ، باترا !

المشوار إلى المدينة الصناعية المنكوبة لم يكن طويلا، لكن الشارع كان خاليا من أية سيارات، الأمر الذي يثير الوجل في قلوب عابريه !

عبرنا على نفس محطة الوقود التي بتنا عندها تلك الليلة.. و نحن مشردون في العراء !

المحطة كانت مهجورة، و البقالة مقفلة... المكان ساكن و هادىء ، لا يحركه شيء غير الريح الخفيفة تعبث بأشياء مرمية على الأرض ...

كم كان يومنا مأساويا...

خففت السرعة، و جعلت أراقب ما حولي و أستعرض شريط الذكريات... لقد نجونا بأعجوبة ! سبحان الله ...

" وليد .. "

كان هذا صوت رغد، تناديني بوجل.. و كأن الذكرى أثارت في قلبها الفزع... التفت إليها فوجدتها تكاد تلتصق بمقعدي ! و علامات التوتر و الخوف مستعمرة تقاسيم وجهها الدائري...

قلت مشجعا :

" نجونا.. بفضل الله .."

و سبحنا في بحر عميق من الهدوء الموحش ...

تابعنا طريقنا ، و الذكرى تجول في رأسينا... هنا مشينا حفاة.. هنا ركضنا... هنا وقفنا... هنا حملت رغد... هنا وقعت رغد ... هنا أصيبت رغد ! آه ..ما كان أفظع ذلك الجرح ! ...
و هنا ...
هنا ...
ماذا تتوقعون هنا ؟؟
إنها سيارتي !

" وليد ! "

نادتني رغد و هي ترى سيارتي القديمة واقفة إلى جانب الطريق ، مع سيارات أخرى في نفس المكان !

أوقفت السيارة ، و أخذت أتفرج على سيارتي القديمة هناك !

التفت إلى رغد فوجدتها تنظر إلي ...

يا للأيام ! بل يا للشهور ! أما زالت سيارتي القديمة واقفة في انتظار عودتي في مكانها !

فتحت الباب و هممت بالنزول ، ناو الذهاب و تفحصها عن كثب !

" إلى أين وليد ؟؟ "

سألني رغد ، قلت :

" سألقي نظرة ! "

و قبل أن أخرج كانت رغد قد فتحت بابها و سبقتني !

وقفت إلى جانبها ، و قلت :

" سأتفحصها عن قرب ! "

" سآتي معك "

و طبعا لا داعي لأن اعترض !

ذهبنا إلى السيارة و فتحت الأبواب الغير موصدة، و تفحصت ما بالداخل ...و رغد إلى جانبي..

" كما هي ! لم يتغير شيء ! أ رأيت يا رغد ؟؟ "

لم تعقّب ، بل ظلت تتفحصها بعينيها ، و ربما تستعيد الذكرى المرعبة ..

ركبت مقعدي الأمامي ، فأسرعت هي لركوب المقعد المجاور...و أغلقت الباب.



" كما هي ! رغد .. أتصدّقين ذلك ! سبحان الله ! "

رغد قالت :

" هيا بنا..ننطلق للخلف، و نعود من حيث أتينا تلك الليلة، و نعود بالزمان للوراء، و ننسى ما حصل انطلاقا من هذه النقطة ! "

ابتسمت و قلت :

" يا ليت ... "

و تنهّدت و أضفت :

" يا ليتنا بعدما وصلنا إلى هذه النقطة، رجعنا للوراء ، و رجع كل شيء كما كان... "

و أسندت رأسي إلى مسند المقعد.. و أغمضت عيني ...

لست أريد العودة للوراء بضعة أشهر، بل تسع سنين ، بل عشر... بل 15 ...
إلى ذلك اليوم الذي اقتحمت فيه مخلوقة صغيرة حياتي فجأة ! و ملأتها صراخا ، و بكاء ، و دموعا.. و ألما...

فتحت عيني و التفت إلى رغد، فوجدتها تنظر إلي بقلق..

إنها هي ذاتها... المخلوقة التي غزت عالمي منذ سنين .. ذاتها التي تجلس قربي الآن ، لا يفصلني عنها سوى بضع بوصات...

تنظر إلي نظرتها للعالم بأسره، و أمثّل بالنسبة لها كل الناس...

" رغد .. "

" نعم ؟ "

" كيف تشعرين الآن ؟؟ "

قالت :

" الآن الآن ؟"

" نعم الآن ! ؟ "

ابتسمت و قالت :

" بالسرور ! "

عجبا ! أمر هذه الصغيرة كله محيّر !


بعد ذلك، أغلقت أبواب السيارة، و ودعناها على أمل العودة لها ذات يوم، و تابعنا مشوارنا نحو المدينة...

ما إن أطللنا على مشارفها، حتى رأينا الدمار و الخراب يعشش على شوارعها و أجوائها...

اضطررت لسلك طرق ملتوية و معقّدة لأصل إلى قلبها...

المباني المتهدّمة ، الأشجار المحترقة، الشوارع المدمّرة، و الأشياء المبعثرة هنا و هناك ...

كلها ، مناظر تثير الرعب في قلب الصخر...

عبرنا أخيرا على الشارع المؤدي إلى منزلنا... و آه من ألم المنظر .. آه بعد ألف آه و آه...

بيتنا.. كتلة من الفحم الأسود... محاطة بطبقة من الرماد و الغبار...

تحوّل ذلك المنزل الصغير الهادئ، الحبيب .. إلى شبح ميت.. لا أثر فيه و لا معلم من معالم الحياة و الروح...

" يا إلهي ! "

قالت رغد ذلك ، و وضعت يدها على وجهها لتحاشي رؤية المنظر المؤلم...
و تخفي الدموع التي ساحت على الجانبين.. رثاء و عزاء ...

لم أستطع أن أمر من هنا مرور الكرام ، أوقفت سيارتي عند الباب ، المكان الذي اعتدت أن أوقف سيارتي فيه.. و نظرت من حولي ...

شعرت باختناق شديد في صدري، و كأن الغبار و الرماد قد سدّت حويصلاته ، و منعت جزيئات الهواء من الدخول...

مع ذلك، لم أتمالك منع نفسي من المضي قدما...

فتحت الباب، وقلت :

" سألقي نظرة"

و التفت إلى رغد.. كانت لا تزال تخفي وجهها خلف يديها...

قلت :

" رغد.. أتأتين ؟؟ "

أردتها أن تأتي معي.. شيء حي يتحرك معي في سكون ذلك الشبح الميت، أردت أن أشعر ببعض الحياة.. ببعض الأمان..بأن هناك من لا زال حيا معي .. رغم موت من مات.. و فناء من فني...

أروى قالت :

" سآتي معك ! "

رغد بسرعة أبعدت يديها عن وجهها و فتحت الباب !

خالتي الأخرى أيضا تبعتنا... و سرنا نحن الأربعة نحو الداخل...

الأبواب كانت مفتوحة، كما تركناها أنا و دانة ليلة هروبنا ...

سرنا ندوس على الرماد، و نتنفس الغبار.. و رائحة الخراب و الوحشة... تقرصنا الذكريات و تصفعنا المناظر المؤسفة، و تحني ظهورنا الحسرة على ما كان و ما لم يعد...

رغد أمسكت بيدي، و كلما سرنا خطوة شدت ضغطها علي.. و كلما رأت شيئا أغمضت عينيها بقوّة و عصرت الدموع المتجمعة في محجريها...

حتى إذا ما بلغنا الردهة المؤدية إلى غرفة والدي ّ ، حررت يدي من بين أصابعها، و هرولت نحو الباب و فتحته باندفاع...

" أمي... أبي ... "

حينها فقط، أدركت كم كنت مجنونا حين سمحت للفضول بالتغلب علي ... و وقفت عند المنزل...

اقتحمت رغد الغرفة و هي تهتف

" أمي .. أبي .. "

و انهارت على السرير ، تحضن الوسائد و تبكي بحرارة و مرارة .. بكاء عاليا صدّع الحجر ... و أدمع الجدران.. و زلزل الأرض...

" أنا أنتظركما ! لماذا لا تعودان ؟ أي حج هذا الذي لا يعود الحجيج فيه من بيت الله ! .. الله ! يا الله .. أنت ترى بيتي الآن ! أنت رب البيت و أنا لا بيت لي... و أنت رب الناس و أنا لا ناس لي ! أتاك جميع الآباء و الأمهات.. و أنا لا أب لي و لا أم ! يا رب.. لا أب لي و لا أم ! يتّمتني مرتين يا رب .. مرتين يا رب .. مرتين أفقد فيهما أعظم ما أعطيتني إياه .. بل أربع مرّات ! أمان و أبان ! أربع أيتام في بيت خرب محروق ! "

كيف احتمل أنا ..وليد .. كلاما كهذا من رغد ؟؟

انهرت باكيا معها بلا شعور... و أي شعور يبقى للمرء و هو يرى ما نراه...؟
حسبنا الله و نعم الوكيل ...

من وسادة إلى وسادة، و من زاوية إلى زاوية، و من شيء إلى شيء، أخذت صغيرتي تتنقل و هي تهتف

" أمي .. أبي "

تفتش حطام الخزائن، و تستخرج الخرق المحروقة المتبقية من ملابسهما و تحضنها و تقبّلها و تصرخ .. و قلبي يصرخ معها .. و تتمزق، و قلبي يتمزّق معها .. و تنهار و قلبي ينهار معها أيما انهيار...

" يكفي رغد.. بالله عليك، دعينا نرحل "

أبت رغد الحراك، بل زاد تشبثها حتى ببقايا الستائر.. و شباك النوافذ..

أروى و الخالة بكتا لبكاء رغد، و وقفتا في الخارج في حزن و أسف على ما حلّ ببيتنا.. و بوالدينا..

رغد ، أقبلت فجأة نحو الأدراج الموجودة أسفل المرآة.. و أخذت تفتح الواحدا تلو الآخر... و تستخرج أشياء أمي ، ما تبقى منها و تضم ما تضم، و تقبّل ما تقبّل ، و تضع في حقيبتها ما تضع..

" هنا كانت أمي تجلس كل يوم تسرّح شعرها ! "
" وليد انظر ! هذا سوار أمي المفضل ! "
" وليد هل تعتقد أنها قد تغضب إن احتفظت به !؟"
" أريد أن آخذ هذا معي !، و هذا .. و هذا و هذا و هذا ! "
" وليد ..لا أريد أن أخرج من هنا ! ليتني كنت هنا و احترقت قبل رحيلهما "

و مرة أخرى أسمعها تدعو على نفسها بالموت.. هتفت متوسلا :

" يكفي يا رغد ، هيا نغادر المكان أرجوك فلم أعد أحتمل المزيد "

اقتربت منها و أمسكت بذراعها و أرغمتها على الخروج من الغرفة، رغم مقاومتها..

كانت رغد تبكي بكاءا شديدا ، و استمرّت في نوبتها هذه و نحن واقفان عند الباب، لا توافق على التزحزح عنه خطوة بعد...

" رغد .. صغيرتي ... "

ناديتها بأتعس صوت صدر من حنجرتي الكئيبة...على الإطلاق..

نظرت إلي و قالت بأسى :

" من بقي لي بعدهما؟ من بقي لي ؟ "

قلت :

" أنا يا رغد .. لك و معك دائما..أنا يا رغد.. أنا ... "

رغد نظرت إلي نظرة حزينة قاتلة، و فكها الأسفل يرتجف من البكاء.. و الدموع تقطر منه ...

" رغد ... "

" وليد ... ضمّني "

وقفت كالأبله ، لا أفهم و لا أفكر و لا أتصرف !

قالت و فكها لا يزال ترتجف :

" ضمّني .. ألست أبي و أمي الآن ؟ ألست من بقي لي ؟ "
 
تتمه

لحظتها.. تمنيت لو أتحوّل إلى جدار ، يكون أكثر نفعا مني .. كأي جدار عانقته و تشبثت به.. كأي جدار ربما، و مع كونه جمادا لا روح فيه و لا حياة، أشعرها بالدفء و العطف و الأمان... أما أنا.. و أنا واقف أمامها كالشبح الميت، الغير مجدي .. فلم يكن مني إلا أن أحنيت رأسي للأمام في عجز عن فعل شيء أكثر أهمية و حرارة و نفعا من الجدران ...

لن أسامح نفسي ما حييت، على خذلاني لصغيرتي في لحظة كهذه...

بعد ذلك ، و رغم أنني كنت مصرا على المغادرة فورا، إلا أن رغد كانت مصرّة على دخول غرفتها و تفقّد أشيائها...

السرير كان محروقا، و لا زلت أشكر الله ألف مرة لأن رغد ليلتها كانت نائمة في بيت خالتها..
ألف حمد لك يا رب..

الأثاث، في موضعه السابق، لكنه مكتس باللون الأسود المتفحم.. و مغطى بذرات الرماد و فتات المحروقات...

لم أشأ دخول الغرفة، وقفت عن الباب أراقب رغد و هي تتحسس أشياءها المحروقة... حتى إذا ما انتهت إلى مجموعة لوحاتها الكبيرة ، جعلت تتفقدها بسرعة و وله ، و تهتف بألم :

" لا ، لا .. لا ... "

ثم نظرت إلي و قالت بين دموعها :

" وليد .. لقد احترقت َ ! "

و أخذت تحضن الرماد... و البقايا... أخيرا قررت الدخول، و حين صرت قربها مباشرة قالت و هي تنثر الرماد من حولها :

" أنظر.. لقد احترقت حتى الصورة ! لماذا ؟ يا إلهي ماذا تبقى لي ؟ ماذا تبقى لي ؟؟ "


" دعونا نغادر المكان و نختصر الألم أرجوكما "

كان ذلك صوت أروى التي كانت واقفة عند الباب.. قالت رغد

" ارحلوا و اتركوني.. أريد الموت هنا.. آه يا رب.. لماذا عشت أنا و ماتا هما ؟ حتى الصورة احترقت ! ماذا تبقى لي ؟؟ "

أروى تقدمت نحونا و أمسكت بيد رغد محاولة مواساتها و تشجيعها، إلا أن رغد نهرتها بقوة، و رمتها ببعض الكلمات الجارحة، ربما من شدة حزنها ...

و لم تسمح لنا رغد بمغادرة المنزل حتى تفقدته غرفة غرفة و ممرا ممرا و زاوية زاوية...
حتى المطبخ جلست فيه فترة طويلة تستعيد الذكرى و تقلّب المواجع ، و تكرر

" هنا كانت أمي تطهو الطعام ، و هنا كان أبي يدوّن ملاحظاته في المفكرة ! ، و هناك كانت دانة تزين كعكاتها بالشيكولا ! ... و سامر يقف هناك، يتحدّث عبر الهاتف، و عند هذه الطاولة كنت أنا أجلس لأقشر البطاطا !
ليت ذلك يعود...
و لو يوما واحدا فقط..
أعيش فيه وسط عائلتي .. بين أمي و أبي، و أختي و أخي.. يوما واحدا فقط.. عسى أن يكون آخر أيام حياتي... "

بل إن هذا سيكون آخر أيام حياتي أنا، ما لم تتوقفي عن ذلك يا رغد ... ارحميني...

حملت رغد معها تذكارا من كل مكان و عن كل شخص.. حتى سامر...كما أخذت حليها و حلي دانة، بل و ما بقي من فستان زفافها المحروق أيضا !

" سأعطيه لأختي حين تعود ! كانت مهووسة به .. و تعتبره كنزها الثمين ! مسكينة يا دانة ! "


خرجنا من ذلك الحطام الكئيب بعدما أغرقناه بالدموع و ملأناه بالألم... إن كنت، الشخص الذي لم يعش في هذا المنزل فترة طويلة، و لم يحمل معه سوى القليل من الذكريات، و أنا أكاد أنصهر من حرارة ما بداخلي، فكيف برغد ...؟؟

ابتعدنا عنه و قلوبنا معلقة عنده، و أنظارنا متشبثة به حتى اللحظة الأخيرة...و أخذنا معنا ما غلا مما نجا، و ما نجا مما غلا

لم تتوقف سيل الدموع حتى بعدما وصلنا إلى منزل أبي حسام، و كان الآخر محترقا ، إلا انه أحسن حالا من بيتنا المدمّر...

حين قرعنا الباب، فُتح و ظهر من خلفه أفراد العائلة أجمعون، و الذين كانوا في انتظارنا منذ ساعات...

ما إن رأت رغد خالتها حتى صرخت.. و انهارت في حضنها بحرارة ...

اللقاء كان من أقسى اللقاءات التي مررت بها في حياتي.. لا يضاهيه أي لقاء، عدا لقائي بأهلي بعد خروجي من السجن، مع فارق ضخم، هو أنه لا أهل أمامي لأعود إليهم و أعانقهم و أبكي فوق صدورهم...

استهلكنا كمية كبيرة من الدموع حتى أوشكنا على الجفاف، صعدت رغد بعد ذلك مع ابنة خالتها إلى الطابق العلوي، و ذهبت النساء إلى غرفة أخرى، و بقينا نحن الرجال في غرفة المعيشة نقلّب الأحزان و نتجرّع الآهات و نتبادل التعازي...

حينما حل الظلام، أردت أخذ عائلتي إلى فندق لقضاء الليلة قبل متابعة السير غدا، مع أنني لست واثقا من العثور على مكان مناسب، و طلبت من حسام استدعاء الثلاث...

ذهب حسام و عاد بعد قليل مع أمه و أروى و أمها ، فسألت عن رغد ، فأخبرتني أم حسام أنها أرسلت ابنتها الصغرى لاستدعائها...

لحظات و إذا بالفتاة الصغيرة ( سارة ) تأتي نحونا و تقول :

" تقول رغد إنها ستبقى معنا و لن ترحل مع وليد و خطيبته الشقراء الدخيلة و أمها ! "

تبادلنا جميعا النظرات المتعجبة، و حملقنا في الفتاة الصغيرة ... ثم سألتها أمها :

" سارة ! هل هذا ما قالته ؟؟ و هل طلبت منك نقل هذا إلينا ؟؟ "

و هنا أقبلت الآنسة نهلة، و نظرت إلى أختها بغضب، ثم إلينا أنا و أروى و قالت :

" رغد ستبات معي الليلة "

شعرت بالضيق الشديد من ذلك، فقلت :

" أين هي ؟ أود ا لتحدّث معها فهلا ّ استدعيتها ؟ "

قالت :

" إنها لا تريد الخروج الآن... "

ضقت أكثر و قلت :

" أرجوك آنستي، هلا استدعيتها "

و ما كدت أنهي الجملة حتى طارت الصغيرة سارة لاستدعائها !

ثوان و إذا بها تعود قائلة :

" لن تذهب معك ! ارحل و اتركها و شأنها "

هتفت الآنسة نهلة :

" سارة ! تبا لك ! لا تتدخلي أنت و ابقي في مكانك "

قلت :

" هل أخبرتها بأنني أريد التحدّث معها ؟؟ "

موجها الخطاب إلى الفتاة الصغيرة، فابتسمت الأخيرة و قالت :

" نعم ! و قالت إنها لا تريد التحدث معك، و إن علي إخبارك بأنها لن تذهب معكم فارحلوا ! "

أم حسام ذهبت الآن إلى غرفة ابنتها و عادت بعد قليل قائلة :

" دعها تنام هنا الليلة ، إنها في حالة سيئة "

و عبارة ( حالة سيئة ) أزعجتني و أقلقتني أكثر...

" أرجوك يا سيدتي ، استدعيها لأتحدّث معها الآن "


و ما إن أنهيت جملتي هذه حتى رأيت رغد تظهر أمامي، ثم تقول :

" سأبقى هنا في بيت خالتي ! لن أرحل معكم "

اجتاحني الهلع، فقلت :

" تعنين الليلة ؟ "

قالت :

" بل كل ليلة ، سوف أعيش هنا بقية عمري "

نظرت إليها، و إلى جميع من حولي في عدم تصديق .. ثم سألتها :

" ماذا تعنين يا رغد ؟ لا يمكنك ذلك ! "

قالت بصوت متحد ٍ :

" بلى ، يمكنني "

" رغد ! مستحيل ! "

قالت بتحد أكبر :

" بلى يا وليد، سأبقى أنا مع عائلتي الحقيقية، و ارحل أنت مع عائلتك الجديدة.. و في أمان الله "
 
الحلقةالرابعةوالثلاثون
*********






لأنني كنت أريد أن أبتعد عنه، و عن أروى التي تقترب منه أكثر يوما بعد يوم، و لأنني أصبحت بإحباط شديد بعد نزول الثروة المفاجئة على أروى، و تعلّقها أكثر و أكثر بوليد، رفضت متابعة سفري معه...

لم أعد أحتمل المزيد، إن الذي ينبض بداخلي هو قلب و ليس محرك سيارات! لا أحتمل رؤية أروى معه، أختنق كلما أبصرتها عيني، أريدها أن تتحول إلى خربشة مرسومة بقلم الرصاص، حتى أمحوها من الوجود تماما بممحاة فتّاكة!

وليد ، و أروى و أمها، و أفراد عائلة خالتي ، كانوا جميعا يقفون ناظرين إلي، و أنا أكرر :

" سأبقى هنا بقية عمري "

وليد وقف أولا صامتا، ذلك الصمت الذي يستلزمه استيعاب الأمور، ثم قال :

" مستحيل ! "

نشبت مشادة فيما بيننا، وتدخلت خالتي، و حسام و نهلة، واقفين إلى صفي، يطلبون من وليد تركي معهم..إلا أن وليد قال بغضب :

" هيا يا رغد فأنا متعب ما يكفي و أريد أن أرتاح "

بدأت العبرات تتناثر من مقلتي على مرأى من الجميع، و رقت قلوب أقاربي لي، و ساورتهم الشكوك بأنني غير مرتاحة مع ، أو لا ألقى معاملة حسنة من قبل وليد !

قالت خالتي :

" دعها تبات عندنا الليلة على الأقل، و غدا نناقش الأمر "

قال وليد :

" رجاء ً يا خالتي أم حسام، إنه أمر مفروغ منه "

قالت خالتي :

" و لكنها تريد البقاء هنا ! هل ستأخذها قهرا ؟ "

قال وليد :

" نعم إذا لزم الأمر "

و هي جملة رنت في الأجواء و أخرست الجميع، و أقلقتهم !

حتى أنا، ( ابتلعت ) دموعي و حملقت فيه بدهشة منها !

يأخذني معه رغما عني ؟ يمسك بي قهرا و يشدني بالقوة، أو يحملني على ذراعيه عنوة، و يحبسني في السيارة !

تبدو فكرة مضحكة ! و مثيرة أيضا !
و لكن يا لسخافتي ! كيف تتسلل فكرة غبية كهذه إلى رأسي في لحظة كهذه !

حسام قال منفعلا :

" ماذا تعني ؟؟كيف تجرؤ !؟ "

رمقه وليد بنظرة غاضبة و قال بحدة :

" لا تتدخّل أنت "

قال حسام مستاء :

" كيف لا ؟ أ نسيت أنها ابنة خالتي ؟ نحن أولى برعايتها منك فأمي لا تزال حية أطال الله في عمرها "

تدخّل أبو حسام قائلا :

" ليس هذا وقت التحدّث بهذا الشأن "

التفت إليه حسام و قال :

" بلى يا والدي، كان يجب أن تحضر إلى هنا منذ شهور ، لولا الحظر الذي أعاق تحركنا "

وليد تحدّث بنفاذ صبر قائلا :

" هل تعتقد أنني سأقبل بهذا ؟ "

حسام قال حانقا :

" ليست مسألة تقبل أم لا تقبل ! هذا ما يجب أن يحدث شئت أم أبيت، كما و أنها رغبة رغد "

و التفت إلي، طالبا التأييد، كما التفت إلي وليد و الجميع !
قلت بتحد:

" نعم، أريد العيش هنا مع خالتي "

وجه وليد تحوّل إلى كتلة من النار... الأوداج التي تجانب عنقه و جبينه انتفخت لحد يخيل للمرء إنها على وشك الانفجار !
عيناه تقذفان حمما بركانية حامية !
رباه !
كم هو مرعب ! يكاد شعر رأسي يخترق حجابي و يشع من رأسي كالشمس السوداء !

قال :

" و أنا، لن أبتعد عن هذا المكان خطوة واحدة إلا و أنت معي "

في لحظة حاسمة مرعبة هذه، يتسلل تعليق غبي من ابنة خالتي الصغرى، حين تقول :

" إذن .. نم معنا ! "

جميعنا نظرنا إلى سارة نظرة مستهجنة، تلتها نظرة تفكير، تلتها نظرة استحسان !
قال خالتي :

" تبدو فكرة جيّدة ! لم لا تقضون هذه الليلة معنا ؟ "

وليد اعترض مباشرة، و كذلك أروى ... و بعد نقاش قصير، نظر إلي وليد و قال :

" لهذه الليلة فقط "

معلنا بذلك موافقته على المبيت في بيت خالتي، و إصراره على عدم الخروج من الباب إلا و أنا معه !

يا لهذا الوليد ! من يظن نفسه ؟؟ أبي ؟ أمي ؟ خطيبي ؟؟
لو كان كذلك، ما تركني تائهة وسط دموعي في بيتنا المحروق، بحاجة لحضن يضمني و يد تربّت على كتفي، و وقف كالجبل الجليدي، يتفرّج علي ...

أخرجت لنهلة كل ما كبته في صدري طوال تلك الشهور...حتى أثقلت صدرها و رأسها، و نامت و تركتني أخاطب نفسي!

كذلك نام الجميع، و مضى الوقت... و أنا في عجز كلي عن النوم، و وليد يلعب فوق جفني ّ ، لذا نهضت عن السرير، و ذهبت إلى الطابق السفلي، بحثا عن وليد !
كنت أدرك أنني لن أتمكن من النوم و لن يهدأ لي بال حتى أراه...

لمحته جالسا في نفس المكان الذي كان يجلس فيه أثناء ( شجارنا ) و كان يبدو غارقا في التفكير العميق...

انسحبت بحذر، إذ إنني لم أكن أريد الظهور أمامه.. فظهوري سيفتح باب للمشادة !
لكني، بعدما رأيته، أستطيع أن أنام قريرة العين !
( نوما هنيئا..يا وليد قلبي ! )
جملة أكررها كل ليلة قبيل نومي , مخاطبة بها صورة وليد المحفورة في جفنيّ...
و التي أعجز عن محوها و لو اقتلعت جفني من جذورهما...





~ ~ ~ ~





وافقت كارها على قضاء الليلة في بيت أبي حسام، و لم أنم غير ساعتين، لأن أفكاري كانت تعبث بدماغي طوال الوقت.

ماذا إن قررت صغيرتي البقاء هنا ؟
أتعتقد هي أنني سأسمح بهذا ؟؟
مطلقا يا رغد مطلقا .. و إن كان آخر عمل في حياتي، فأنا لن أدعك تبتعدين عني...
ما كدت أصدّق، أنك ِ تحررت ِ من أخي... الطيور.. يجب أن تعود إلى أعشاشها...
مهما ابتعدت، و مهما حلّقت...
مهما حدث و مهما يحدث يا رغد.. أنت ِ فتاتي أنا...

تناولنا فطورنا في وقت متأخر، الرجال في مكان و النساء في مكان آخر... و حين فرغنا منه، طلبت أم حسام أن تتحدّث معي حديثا مطوّلا، فجلسنا أنا و هي، و ابنتها الصغيرة في غرفة المجلس... و كنت أعلم مسبقا عن أي شيء سيدور الحديث !

" وليد يا بني.. إن ما مرّت به رغد لهي تجربة عنيفة، احترق بيتها، و تشردت ، ثم مات والداها، ثم انفصلت عن خطيبها، و عاشت في مكان غريب مع أناس غرباء ! هذا كثير على فتاة صغيرة يا بني ! "

التزمت الصمت في انتظار التتمة

" إنه لمن الخطأ جعلها تستمر في العيش هناك، إنها بحاجة إلى رعاية (أمومية و أبوية).. لذلك يجب أن تبقى معنا "

هزت رأسي اعتراضا مباشرة... فقالت أم حسام :

" لم لا ؟ "

" لا يمكنني تركها هنا "

" و لكن لماذا ؟ إنه المكان الطبيعي الذي يجب أن تكون فيه بعدما فقدت والديك، مع خالتها و عائلة خالتها، التي تربت بينهم منذ طفولتها"

قلت مستنكرا :

" لا يمكن ذلك يا أم حسام، الموضوع منته "

استاءت أم حسام و قالت :

" لماذا ؟ أترى تصرّفك حكيما ؟؟ تعيش معك أنت، ابن عمّها الغريب، و زوجته و أمها الأجنبيتين، و تترك خالتها و ابنتي خالتها !؟ "

وقفت من شدة الانزعاج من كلامها ... كيف تصفني بالغريب ؟؟

" أنا ابن عمّها و لست بالرجل الغريب "

" و ابن عمّها ماذا يعني ؟ لو كان سامر لكان الأمر مختلفا .. بل إنه حتى مع سامر لا يمكنها العيش بعدما انفصلا . أنت لست محرما لها يا وليد "

استفزّتني الجملة، فقلت بغضب:

" و لا حسام و لا أباه ! "

أم حسام ابتسمت ابتسامة خفيفة و هي تقول :

" لكنني هنا ! "

" و إن ْ ؟ ... أروى و أمها أيضا هناك "

" لا مجال للمقارنة ! إنهما شخصان غريبان ، و أنا خالة رغد ، يعني أمها "

قلت بنفاذ صبر :

" لكنك لست ( المحرم ) هنا ! لن يغيّر وجودك و ابنتيك شيئا ! "

أم حسا صمتت برهة ثم قالت :

" إن كانت المشكلة في ذلك، فحلّها موجود، و إن كان سابقا لأوانه "

الجملة دقّت نواقيس الخطر في رأسي، فقلت بحذر و بطء :

" ماذا ... تقصدين ؟ "

أم حسام قالت :

" كان يحلم بالزواج منها منذ سنين، فإن هي وافقت على ذلك، أصبح حسام و رغد زوجين يعيشان معا في بيت واحد ! "

كنت أتوقع أن تقول ذلك ، و أخشاه.. اضطربت و تبدّلت تعبيرات وجهي ، و استدرت فورا مغادرا الغرفة

حين بلغت الباب سمعتها تناديني :

" وليد ! إلى أين ! ؟ "

استدرت إليها و النار مشتعلة من عيني و صدري، لم أكن أريد أن أفقد أعصابي لحظتها و أمام أم حسام.. لكنني صرخت :

" سآخذها و نغادر فورا "

و تابعت طريقي دون الاستجابة إلى نداءاتها من خلفي

و من أمامي، رأيت حسام، واقفا على مقربة، ينتظر نتاج اللقاء الودي بيني و بين أمه

لما رآني في حال يوحي للناظر بشدة انفعالي، و رأى أمه مقبلة من بعدي تناديني ، سأل بقلق :

" ماذا حصل ؟ "

لم يجب أينا، الجواب الذي كان بحوزتي لحظتها هي لكمة عنيفة توشك على الانطلاق من يدي رغما عني، كبتها عنوة حتى لا أزيد الموقف سوء ً

التفت ّ الآن إلى الصغيرة سارة و طلبت منها استدعاء رغد و أروى و الخالة ليندا

" اخبريهن بأننا سنغادر الآن "

و ركضت الفتاة إلى حيث كن ّ يجلسن .. في إحدى الغرف .

أم حسام قالت :

" وليد ! يهديك الله يا بني ، ما أنت فاعل ؟ "

أجبت بحنق :

" راحل مع عائلتي ، و شكرا لكم على استضافتنا و جزيتم خيرا "

حسام خاطب أمّه :

" هل أخبرتِه ؟ "

أجابت :

" نعم ، و لكن ... "

و نظرت إلي، فحذا هو حذوها ، و قال :

" هل أخبرتك أمي عني و عن رغد ؟ "

اكتفيت هذه المرّة بنظرة حادة فقأت بها عينيه...

بدا مترددا، لكنه قال :

" منذ زمن كنت أفكّر في ... "

و هذه المرّة صرخت في وجهه بشدّة :

" لا تفكّر في شيء و ابق حيث أنت "

الاثنان تبادلا النظرات المتعجّبة ... و المستنكرة

ثم نطق حسام :

" و لتبق رغد معي أيضا، فأنا أرغب في الزواج منها بأسرع ما يمكن، و بما أنك هنا.. يمكننا أن ... "

و في هذه المرة، و بأسرع ما يمكن ، و بعد انفلات أعصابي تماما، تفجرت اللكمة الدفينة في يدي، نحو وجه حسام ، بعنف و قسوة...

ربما الصدمة مما فعلتـُه فاجأت حسام أكثر من الضربة نفسها، فوقف متسمرا محملقا في ّ في دهشة و ذهول !

كنت لا أزال أشعر بشحنة في يدي بحاجة إلى التفريغ ! و ليتني أفرغتها فورا في أي شي.. حسام، الجدار، الأرض ، الشجر، الحجر ، الحديد ... أي شيء.. و لا أن أكبتها لذلك الوقت... ...

عادت سارة، و معها أروى و أمها
نقلت نظري بين الثلاث و لم أكد أسأل ، إذ أن الصغيرة قالت :

" رغد تقول : ارحلوا ، فهي لن تأتي معكم أبدا ! "

تحدّثت أروى الآن قائلة :

" إنها مصرّة على البقاء هنا و اعتقد، أنها تشعر بالراحة و السعادة مع خالتها و ابنتيها ! "

و استدارت إلى أمها متممة :

" أليس كذلك أمي ؟ "

قالت خالتي ليندا :

" بلى، مسكينة ، لقد مرّت بظروف صعبة جدا، لم لا تتركها هنا لبعض الوقت يا وليد ؟ "

عند هذا الحد، و ثار البركان...
الجميع من حولي يقفون إلى صفها ضدّي، الكل يطلب مني ترك رغد هنا.. و يرى أنه التصرف السليم، و قد يكون كذلك، و قد يصدر من إنسان عاقل ، أما أنا..في هذه اللحظة فمجنون، و حين يتعلّق الأمر برغد فأنا أجن المجانين...

سألت الصغيرة سارة :

" أين هي ؟ "

أشارت إلى الغرفة التي كانت النساء يجلسن فيها

قلت :

" أ أستطيع الدخول ؟ "

فنظرت إلي الصغيرة سارة ببلاهة ، أشحت بأنظاري عنها و نظرت إلى أروى محوّلا السؤال إليها ، و كررت :

" أ أستطيع الدخول ؟ "

قالت أروى :

" أجل ... "

و سرت ُ نحو الغرفة ، و أنا أنادى بصوت عال مسموع :

" رغد ... رغد "

حتى أنبهها و ابنة خالتها إلى قدومي..
طرقت الباب، ثم فتحته بنفسي، و أنا مستمر في النداء...
الجميع تبعني، و رموني بنظرات مختلفة المعاني، لا تهمني، كما لا يهمكم سردها هنا
وجدت صغيرتي واقفة و إلى جانبها ابنة خالتها، و على وجهيهما بدا التوتر و القلق...

قلت :

" رغد، هيا بنا ... "

هزّت رأسها اعتراضا و ممانعة ، فقلت بصوت جعلته أكثر حدّة و خشونة :

" رغد ، هيا بنا، سنرحل فورا "

رغد تكلّمت قائلة :

" لن أرحل معكم ، اذهبوا و اتركوني و شأني "

رفعت صوتي أكثر و قلت بلهجة الإنذار الأخير :

" رغد، أقول هيا بنا ، لأنه حان وقت الرحيل، و أنا لن أخرج من هنا إلا و أنت معي "

قالت رغد بتحد ٍ :

" لن أذهب ! "

في هذه اللحظة، استخدمت بقايا الشحنة المكبوتة في يدي ..التي حدّثتكم عنها.. على حبيبة قلبي ، رغد
أسرعت نحوها، و أمسكت بذراعها بعنف، و شددتها رغما عنها و أجبرتها على السير معي نحو الباب ...
من حولي كان الجميع يهتف و يستنكر و يعترض ، و لكنني أبعدت ُ كل من حاول اعتراض طريقي بعنف، و دفعت حسام دفعة قوية صفعته بالجدار
أم حسام حاولت استيقافي و صرخت في وجهي ، و مدّت رغد ذراعها الأخرى و تشبثت بخالتها، و بابنة خالتها ، و بكل شيء...إلا أنني سحبتها من بين أيديهم بقسوة
أروى و أمها حاولتا ثنيي عما أقدمت عليه فكان نصيبها زجرة قوية مرعبة فجّرتها في وجهيهما كالقنبلة...
نحو المخرج سرت و لحق بي حسام و البقية من بعده فأنذرته :

" عن طريقي ابتعد لأنني لا أريد أن تصيبك كسور أنت في غنى عنها "

" من تظن نفسك !؟ اترك ابنة خالتي و إلا .. "

استخرجت المفتاح من جيبي و فتحت باب السيارة المجاور لمقعد السائق، و دفعت رغد عنوة إلى الداخل ، و أقفلته من بعدها .

و الآن.. علي ّ أن ألقّن حسام درسا ، ليعرف جزاء من يتجرّأ على خطبة حبيبتي منّي ...

كنت أنوي إيساعه ضربا، إلا أن تدخّل من حولي جعلني أكتفي ببعض اللكمات التي لا تسمن و لا تغني من جوع، و لا تخمد بركانا جنونيا ثار في داخلي بلا هوادة .
وسط المعمة و البلبلة و الصراخ و الهتاف، و استغاثة رغد و ضرباتها المتتالية لنافذة السيارة ، و الفوضى التي عمّت الأجواء، التفت أنا إلى أروى و الخالة ليندا و هتفت بقوة :

" ماذا تنتظران ؟ هيا إلى السيارة "

و توجّهت إليها باندفاع، فركبتها و فتحت الأقفال لتركب الاثنتان، و أوصدها مجددا، و أنطلقت بسرعة ...

قطعنا مسافة طويلة، و نحن في صمت يشوبه صوت محرّك السيارة، و صوت الهواء المتدفق من فتحة نافذتي الضيقة، و صوت بكاء رغد المتواصل...

لم يتجرّأ أحد على النطق بكلمة واحدة... فقد كنا جميعا في ذهول مما حصل..

لم أتخيّل نفسي... أقسو على صغيرتي بهذا الشكل..ولكن .. جن جنوني لفكرة أنها باقية مع حسام، أو صائرة إليه...

و إن كان آخر عمل في حياتي، فأنا لن أسمح لأحد بأخذ رغد منّي مهما كان..و مهما كانت الظروف.. و مصيرك يا رغد لي أنا...


" أما اكتفيت ِ بكاء ً ؟ هيا توقّفي فلا جدوى من هذر الدموع ... "

قلت ذلك بأسلوب جاف ، جعل أروى تمد يدها من خلفي، و تلامس كتفي قاصدة أن أصمت و أدع رغد و شأنها...
صمت ّ فترة لا بأس بها، بعدها فقدت أي قدرة لي على التركيز في القيادة، و أنا أرى رغد مستمرة في البكاء إلى جانبي...
أوقفت السيارة على جانب الطريق، و التفت إليها ...
كانت تسند رأسها إلى النافذة، في وضع تخشع له قلوب الجبابرة..فكيف بقلب وليد ؟؟

" صغيرتي ... "

ألقت علي نظرة إحباط و خيبة أمل أوشكت معها أن أستدير و أعود أدراجي و أوصلها إلى بيت خالتها ... إلا أنني تمالكت نفسي ...

" رغد ... أنا آسف ... "

لم تعر جملتي أية أهمية، و ظلت على ما كانت عليه...

" أرجوك يا رغد.. قدّري موقفي، لا أستطيع تركك في مدينة و أسافر أنا إلى أخرى ! إنك تحت مسؤوليتي و لا يمكنني الابتعاد عنك ليلة واحدة "

لم أر منها أي تجاوب، مددت يدي بعد تردد و أمسكت ُ بيدها ، فسحبت يدها بقوة و غضب :

" اتركني ... "

قلت :

" لا أستطيع أن أتركك في أي مكان ... "

رغد أجابت بانفعال :

" و أنا لا أريد الذهاب معك ! أهو جبر ؟ أهو تسلّط ؟ لا أريد السفر معك ... أعدني إلى خالتي .. أعدني إلى خالتي .. "

و أجهشت بكاء قويا ...

قلت أنا :

" سنعود لزيارتها حين ننهي مهمتنا ، و سنبقى هناك القدر الذي تريدين "

صرخت رغد :

" أريد العيش معهم مدى الحياة ! ألا تفهم ذلك ؟ "

اشتط غضبي من هذه الجملة، فأمسكت بيدها مجددا و شددت قبضتي عليها و قلت بحدة و أنا أضغط على أسناني كأني أمزّق حقيقة أكرهها بين نابي ّ :

" لن أدع لك الفرصة لتحقيق ما يدور برأسك.. و أقسم يا رغد.. أقسم بأنه ستمضي سنون خمس على الأقل، قبل أن أسمح لأي رجل بالزواج منك .. و إن كان ابن خالتك يطمع بك، فلينتظر هو بالذات عشر سنوات حتى أسمح له بطرح الفكرة ، و إن تجرأ على إعادة عرضه ثانية قبل ذلك .. فوالذي لم يخلق في داخلي قلبين اثنين، لأقننه درسا يُنسيه حروف اسمه ... و دون ذلك، لن يبعدك شيء عني ّ غير الموت.. الموت و الموت فقط "

لم أدرك تماما خطورة ما تفوّهت به ، إلا بعد أن رأيت رغد تحملق بي بذهول شديد، و قد تبخّرت الدموع التي كانت تجري على وجنتيها.. و ألجم حديثي لسانها و منعها حتى عن التأوّه من شدة قبضي على يدها...
ربما أكون قد كسرت أحد عظامها أو حرّكت أحد مفاصلها .. لقد كنت أضغط بقوة شديدة... أصابت عضلات يدي أنا بالإعياء...
سكون تام خيّم علينا، ما عاد هناك صوت للمحرك، و لا للهواء ، و لا لرغد، و لا لأي شيء آخر..
حررت يد رغد من قبضتي، فرأيتها محمرّة.. و بالتأكيد مؤلمة...
إلا أن رغد لم يظهر عليها الألم، و لم تسحب يدها بعيدا عني ، كما لم ترفع عينيها المذهولتين عن عيني ...






~~~~~~~~






طوال الأشهر الماضية، كنت أنظر إلى خطيبي وليد نظرة إعجاب شديد، أكاد معها أجزم بأنه أفضل رجل على وجه الأرض، و لا أرى منه أو فيه أي عيب أو نقص...
و كانت جميع خصاله و طباعه تعجبني، و سلوكه و تصرفاته كلها مثار إنبهاري ..
و في هذا اليوم، رأيت شيئا أذهلني و فاجأني...
لم أتصوّر أن يكون وليد بهذا التسلّط أو هذه القسوة ! لم أتوقع أن يصدر منه أي تصرّف وحشي.. كنت أراه إنسانا هادئ الطباع و مسالما... و عظيم الخلق...

الطريقة التي سحب بها رغد رغما عنها، و الطريقة التي زجرنا بها حين حاولنا ثنيه عما كان مقبلا عليه، و الطريقة التي لكم بها حسام بوحشية، و الطريقة التي خاطب بها رغد و نحن في طريقنا الطويل إلى المدينة الساحلية، كلها أثارت في قلبي الخوف و الحذر...
و ذكّرتني، بأن خطيبي هذا قد قتل شخصا ما ذات يوم ... !

كان الطريق إلى المدينة الساحلية طويلا جدا، و مملا جدا ... و قد سيطر الصمت الموحش علينا نحن الأربعة ...
والدتي سرعان ما نامت، و بقيت أنا أراقب الطريق، و أحاول النظر إلى وليد ، إلا أنه كان مركزا على الطريق تركيزا تاما، و كان يسير بسرعة مخيفة !

" هللا خففت السرعة يا وليد ! "

طلبت منه ذلك، فقد شعرت بالخوف من انفعاله ... لكنه لم يخففها بل قال :

" طريقنا طويل جدا ... أجدر بي زيادتها "

ثم التفت إلى رغد، و التي كانت مشيحة بوجهها نحو النافذة و مسندة رأسها إليها ، و خاطبها قائلا :

" اربطي حزام الأمان "

لم أر من رغد أي حركة ، أهي نائمة ؟ أم لم تسمع ؟ أم ماذا ؟؟

عاد وليد يقول :

" رغد .. اربطي حزام الأمان "

رأيتها تتحرك، ثم سمعتها تقول :

" لماذا ؟ هل تنوي أن تصدمنا بشاحنة أو جبل ؟ "

بدا على وليد ، من نبرة صوته ، نفاذ الصبر و الاستياء، إذ قال :

" لا قدّر الله ، فقط اربطيه للسلامة "

قالت رغد :

" لا تخش على سلامتي ! مرحبا بالموت في أي وقت .. أنا انتظره بشوق "

الجملة هذه أربكت وليد فانحرف في مسيره قليلا و أفزعنا ! ثم خفف السرعة تدريجيا، حتى أوقف السيارة... و التفت إلى رغد قائلا :

" توقّفي عن ذكر الموت يا رغد.. تجرّعت منه ما يكفي.. إياك و تكرار ذلك ثانية "

لم تعقّب رغد، بل أسندت رأسها إلى النافذة من جديد...

قال وليد :

" اربطي الحزام "

قالت :

" لن أفعل ! "

" رغد ! هيا ! "

" لن أربطه ! "

" إذن، أنا سأربطه ! "

و رأيت وليد يمد يده باتجاه الحزام، ثم رأيتها ترتد بسرعة إليه! أظن أن رغد دفعتها بعيدا ، ثم سمعت صوت اصطكاك لسان الحزام بفكّه !
لقد ربطته بنفسها !
ثم سمعت وليد يقول :

" فتاة مطيعة "

و يعاود الانطلاق بالسيارة بأقصى سرعة !

بعد فترة، توقّف وليد عند إحدى محطّات الوقود، من أجل الوقود، و الطعام، و الصلاة...

خاطبنا مشيرا إلى مبنى على جانبنا :

" يوجد هنا مصلى للسيدات، حينما تفرغن عدن إلى السيارة ، ثم نذهب إلى المطعم "

أنا و والدتي فتحنا البابين الخلفيين، و نزلنا...
وليد فتح بابه.. ثم التفت إلى رغد... و التي كانت لا تزال جالسة مكانها لا تصدر منها أي حركة تشير إلى عزمها على النهوض ! ..

" ألن تنزلي ؟ "

سألها ، فسمعتها ترد بسؤال :

" إلى أين ستذهب أنت ؟ "

قال وليد :

" إلى المسجد "

و أشار بيده إلى نفس البناية، و التي تحوي مصلى صغيرا خاصا بالرجال، و آخر بالنساء ، يفصلهما جدار، و يقع باباهما في الطرفين المتضادين ..
يظهر أن الفكرة لم ترق لرغد ( هذه المدللة المدلّعة ) و أبت إلا أن يقف وليد عند مدخل المصلى النسائي، حارسا على الباب !

بعد ذلك، اقترح وليد أن ندخل إلى المطعم المجاور لتناول الطعام، فلم يعجبها الاقتراح، فاقترح أن يذهب هو لإحضاره و نبقى نحن في السيارة، و أيضا لم يعجبها الاقتراح ! يا لهذه الفتاة ... لقد بدأت أشعر بالضيق من تصرفاتها ! إنها بالفعل مجرد طفلة كبيرة !

أتدرون ما فعلت في النهاية ؟
أصرّت على الذهاب معه، و تركتنا أنا و أمي نعود للسيارة !
ركبت أنا المقعد الأمامي، و أمي خلفي مباشرة، و قلت مستاءة :

" إنه يدللها بشكل يثير سخطي يا أمي .. أستغرب.. لم َ لم ْ يتركها في بيت خالتها كما أرادت و أصرّت ! إنه ينفذ جميع رغباتها بلا استثناء! فلم عارض هذه الرغبة ؟؟ "

قالت والدتي :

" هذا لأنه يشعر بالمسؤولية الكاملة تجاهها، لا تنسي يا ابنتي أنها يتيمة و وحيدة "

قلت :

" هل سمعت ِ ما قاله ؟ يبدو أن ابن خالتها يخطط للزواج منها، بعدما انفصلت عن خطيبها السابق ! أظنه حلا ممتازا لمثل وضعها ! لم يعارضه وليد ؟ "

قالت :

" هو الأدرى بالمصلحة يا أروى، لا تتدخلي في الموضوع بنيّتي "

و في الواقع، الموضوع كان يشغل تفكيري طوال الساعات الماضية...

لقد قال وليد و هو في قمّة الثورة و العصبية ، مخاطبا رغد أنه لن يسمح لها بالزواج من أي رجل قبل مرور سنين ! ... هذه الجملة تثير في داخلي شكوكا و أفكارا خطيرة ...

بعد قليل، أقبل وليد يحمل كيسا حاويا للطعام، و إلى جانبه تسير مدللته الصغيرة ..
من خلال النافذة، ألقت رغد علي نظرة غيظ حادة لم أفهم لها سببا، ثم ركبت السيارة إلى جوار والدتي...
وليد بعدما جلس، أخذ يوزّع علينا حصصنا من الطعام، و الذي كان عبارة عن ( هامبرجر ) و بعض العصير...

و حين جاء دور (المدللة) ، التفت إليها مادا يده، مقدّما علبة البطاطا المقلية ...

" تفضلي رغد.. طبقك "

الفتاة التي تجلس خلف وليد مباشرة قالت ببساطة :

" لا أريد ! كله أنت ! "

وليد بدا مستغربا ! و قال :

" ألم تطلبي بطاطا مقلية !؟ "

قالت :

" بلى، غيّرت رأيي، احتفظ به "

وليد مدّ إليها بعلبة ( الهامبرجر ) الخاصة به...

" خذي هذه إذن "

قالت :

" لا أريد ! شكرا "

" و لكن هل ستبقين دون طعام ؟ ماذا تريدين أن أحضر لك ؟؟ "

" لا شيء ! لا أشتهي شيئا و لا أريد شيئا ! "

" و هذه البطاطا ؟؟ "

" كلها ! أو ... أطعمها مخطوبتك ! "

و أسندت رأسها إلى النافذة، معلنة نهاية الحوار !

وليد أعاد علبتي البطاطا و الهامبرجر إلى داخل الكيس، و انطلق بالسيارة ...
باختصار، أنا و أمي كنا الشخصين اللذين تناولا وجبتيهما !

عدّة مواقف حصلت أثناء الرحلة الطويلة الشاقة، و رغد إذا خاطبتني ، تخاطبني بطريقة جافة و خشنة، كأنها تصب جم غضبها علي أنا !
بعد مرور ساعات أخرى، و وسط الظلام، استسلمت أنا للنوم..
حينما أفقت بعد مدة لم أحسبها، وجدت السيارة موقفة، و وجدت وليد و رغد يجلسان في الخارج، على الرمال، و أمي نائمة خلفي، و يتحدّثان فيما لا يعلم به إلا الله ...






~ ~ ~ ~ ~ ~





لأن النعاس غلبني، كما غلب جميع من معي، أوقفت السيارة و في نيتي الخروج و الاسترخاء قليلا ، و تجديد نشاطي...

استدرت للخلف، فرأيت رغد تنظر إلي مباشرة !

" لماذا توقّفت ! ؟ "

" ألم تنامي ؟ أشعر بالتعب، سأمشي قليلا ... "

و ما إن سرت بضع خطوات، حتى تبعتني صغيرتي ...
لم نتحدّث، و أخذت أسير ببطء... على الرمال مبتعدا عن السيارة عدّة أمتار... و أشعر بها تسير خلفي، دون أن ألتفت إليها...
بعد مسافة قصيرة، استدرت قاصدا العودة، فوقعت عيناي على عينيها مباشرة...

أعتقد أن الزمن توقّف عن السير تلك اللحظة... لو تعرفون ما الذي تفعله، نظرة واحدة إلى عيني رغد بي ... لربما بررتم التصرفات الغريبة التي تصدر مني !
إنها ترسلني إلى الجنون... فهل يلام مجنون على ما يفعل ؟؟

بعد أن تابع الزمن سيره، تقدّمت نحوها... عائدا إلى حيث السيارة... رغد بقيت واقفة مكانها، إلى أن تجاوزتها ببضع خطوات، ثم أحسست بها تسير خلفي...

مشاعر كثيرة شعرت بها و أنا أغرس حذائي في الرمال..خطوة بعد خطوة...
الشعور بالقلق..لما يخبئه القدر لي، الشعور بالغيظ من رغبة رغد في البقاء مع خالتها.. و ابن خالتها، و بالندم من قسوتي معها.. بالرغبة في الاعتذار.. و بالشوق لأن أواسيها و أعيد إلى نفسها الطمأنينة و الأمان و الثقة بي.. و بالحزن مما قد يكون الآن دائرا في رأسها حولي.. و برغبة جنونية ، في أن أستدير إليها الآن و أهتف في وجهها :
( أنا أحبك ! ) ...
ماذا سيحدث حينها ؟؟
و أخيرا.. بشعور ٍ مسيطر...إن تمكّنت من السيطرة على جميع مشاعري و كبتها ، لا يمكنني الصمود في وجه هذا الشعور بالذات !
إنه قارس و قارص !
أنا جائع !

صدر نداء استغاثة من معدتي، سألت الله عشر مرات ألا يكون قد وصل إلى مسامع رغد !

حينما وصلت إلى السيارة، أسرعت الخطى إلى ( نافذتي ) المفتوحة فمددت يدي و استخرجت كيس الطعام، قبل أن تصل رغد ...

عدت ُ إلى الرمال، و جلست عليها.. و فتحت الكيس و استخرجت العلب الثلاث المتبقية فيه، علبة البطاطا المقلية، و الهامبرجر، و العصير !
رغد وقفت على مقربة تنظر إلي ! لابد أنها متعجبة مني ! رفعت رأسي إليها و قلت :

" تعالي و شاركيني ! "

و قمت بتقسيم الشطيرة ( الهامبرجر) إلى نصفين... و مددت ُ يدي بأحدهما إليها..

كانت لا تزال تنظر إلي باستغراب... قلت :

" صحيح باردة ، و لكنها تبقى طيبة المذاق "

ترددت رغد، ثم جاءت، و جلست إلى جانبي... و تناولت ( نصف الشطيرة ) من يدي...
قرّبت منها علبة البطاطا، و كذلك العصير، فرفضتهما...
بدأت أقضم حصتي من الشطيرة، و أبتلع أصابع البطاطا الباردة، و أشرب العصير، و أتلذذ بوجبتي هذه !
إنه الجوع ، يصيّر الرديء لذيذا !

قلت و أنا أمضغ إصبع بطاطا :

" لذيذ ! جرّبيه ! "

و أمسكت أحدها و قرّبته منها... كنت أنتظر أن تمد يدها لتمسكه بأصابعها، إلا أنها مدّت رأسها و أمسكته بأسنانها ! و بدأت تمضغه، و يبدو أنه أعجبها لذلك ابتسمت !
أن أراها تبتسم، و إن كانت ابتسامة خفيفة باهتة سطحية، بعد كل الذي حصل، لهو أمر يكفي لأن يجعلني أنسى عمري الماضي...
الماضي... آه ... الماضي...
في الماضي، كنت أطعمها أصابع البطاطا بهذه اليد... نفس اليد كانت تمد إليها بإصبع البطاطا قبل ثوان...
نفس اليد، التي تتوق لأن تمسح على رأسها و تطبطب على كتفيها و تضمها إلى صدري...
نفس اليد، التي شدّتها بعنف وقسوة، و أجبرتها على ركوب السيارة رغم مقاومتها...
إنها نفس اليد التي قتلت بها عمّار... و ضربت بها سامر ... و لكمت بها حسام... و سأذبح بها أي رجل يحاول الاقتراب منك يا رغد...
و بهذه اليد ذاتها، سأبقى ممسكا و متمسكا بك لآخر نسمة هواء تدخل إلى صدري، أو تخرج منه...
يا رغد... ليتك تعلمين...

" رغد ... "

نظرت إلي، فبقيت صامتا برهة، بينما عيناي تتحدثان بإسهاب... ألا ليتك تفهمين...

" نعم ؟؟! "

" سامحيني..."

جاء دورها الآن لتنظر إلي نظرة مليئة بالكلام... إلا أنني عجزت ُ عن ترجمته...

قلت :

" سامحيني.. أرجوك "

لم ترد إيجابا و لا سلبا، لكنها مدّت يدها إلى علبة البطاطا، و تابعت أكلها... على الأقل، هي إشارة حسنة و مطمئنة...

انهينا وجبتنا الباردة ، و في داخلي شعور غريب بالسعادة و الرضا، و الاسترخاء ، و الشبع أيضا !

و عوضا عن تجديد نشاطي، تملّكتني رغبة عارمة في النوم !

( فرشت ) الكيس على الرمال، و تمددت واضعا رأسي فوقه.. و أغمضت عيني..

أنا متأكد من أنني لو بقيت على هذا الوضع دقيقتين اثنتين، لدخلت في سبات عميق و فوري...

الذي حصل هو أن صغيرتي و بمجرد أن أغمضت عيني نادتني بقلق :

" هل ستنام وليد ؟؟ "

قلت و أنا أتثاءب :

" أنا نعسان بالفعل ! سوف أسترخي لدقائق "

" وليـــد ! اجلس ! "

صدر هذا الأمر من صاحبة الدلال و السيادة ، جعلني انهض فورا ، و أصحو تماما !
التفت إليها فوجدتها تنظر إلي بقلق...

" دعنا نعود إلى السيارة و نم هناك "

" حسنا... إذن هيا بنا "

و نهضنا و عدنا إلى مقعدينا...

" هل يضايقك أن أزيح مسند مقعدي للوراء يا رغد ؟ "

" كلا .. خذ راحتك "

" شكرا "

صمت برهة ثم عدت أقول :

" أنا متعب بالفعل، قد أنام طويلا ! إذا نهضت ِ و وجدت ِ الشمس توشك على الشروق، فلتوقظيني "

" حسنا "

" نوما هنيئا، صغيرتي "

" لك أيضا "





~ ~ ~ ~ ~





لم ينته الأمر هنا...

صحيح أن وليد قد نام بسرعة، إلا أن رغد ظلت تتحرك، و أشعر بحركتها لفترة...

كنت أتظاهر بالنوم.. و من حين لآخر أفتح عيني ّ قليلا ، خصوصا إذا أحسست بحركة ما...
هذه المرّة فتحتها فتحة صغيرة، فرأيت يد رغد تمتد إلى مقعد وليد، و رأسها يستند عليه...
هذا لا شيء...!
فالشيء.. الذي أيقظ كل الخلايا الحسية و العصبية و الوجدانية في جسدي، في ساعة كنت فيها في غاية التعب و النعاس، و أرسل أفكاري إلى الجحيم ...هو جملتها الهامسة التالية :

" ( نوما هنيئا... يا وليد قلبي ...) "
 
الحلقةالخامسةوالثلاثون




لم أكن أريد أن يدركنا الظلام ، سرت بأقصى سرعة ممكنة ، لكن الشمس سبقتني بالغياب ...

حين وصلت إلى المدينة الساحلية ، مسقط رأسي ، كان الظلام قد غطى الأجواء ...

تسارعت نبضات قلبي و أنا أسير في الطريق المؤدي إلى بيتنا... كلما وقفت عند إشارة مرور ، توقفت الذكريات عند حدث معيّن ...
شوارع المدينة لم تتغير... الكثير من الحفريات و الإصلاحات مبعثرة على الشوارع... لا تزال بعض المباني منهارة كما خلّفتها يد الحرب... و لا تزال المناظر تثير الرهبة في قلوب الناظرين...

" هنا مدينتنا "

قلت ذلك ، مخاطبا أروى التي كانت تشاهد المناظر من حولها... و كأنه واقع مخيف مرير أخشى تلقيه بمفردي...

" إنها آثار الحرب ! "

عقّبت أروى ، فقلت :

" و أي آثار ... ! تحمل هذه المدينة من ألم الذكرى و بصمات الماضي ما يجعل قلبي يتصدّع من مجرد ذكر اسمها ... "

و أي ذكرى أقسى من ... ذلك اليوم المشؤوم... الذي غيّر مجرى حياتي نهائيا ...
كأني به يعود للوراء...
كأني بعمار اللعين ... ينبعث من قبره...
كأني أراه يبتسم ابتسامته الشرسة القذرة... و يرمي بالحزام في الهواء...
كأني ... برغد تصرخ... تركض إلي... تتشبث بي... تخترق صدري ، و خلايا جسدي ... تمزّق قلبي ... تحرق أعصابي عصبا عصبا ... و تفجّر في داخلي رغبة عارمة مزلزلة ... منطلقة بعنف و سرعة ... ككتلة نارية قذفها بركان ثائر هائج... آبية إلا أن تنتهي بضربة بشعة فتاكة على رأس عمّار... خاتمة بها آخر أعماله القذرة ...

لم أتمالك نفسي ، دست بقدمي بقوة ... انطلقت السيارة بشكل جنوني... كنت ُ أراه أمامي... و كنت أريد أن أدوسه و أسحقه تحت العجلات ... مرة بعد مرة ... بعد مرة ...

" وليد ! خفف رجاء ً ! "

هذه المرة كانت أم أروى هي المتحدثة ، أعادتني إلى الواقع ، فوجدت نفسي أقود سيارة في شارع داخلي لا يخلو من النتوءات و الحفر ...

خففت السرعة ، و ألقيت نظرة على رغد من خلال المرآة ... كانت هي الأخرى مشغولة بمراقبة الطريق ...

أتراها تذكر ؟؟

الآن انتقل بصرها إلي ... أشارت إلى الخارج عبر النافذة و قالت :

" إنها مدرستي ! "

نعم إنها هي !

نعم إنها تذكر ... حاولت أن استشف من عينيها مدى تأثرها... و إلى أين وصلت بها الذكرى...
حدّقت في مبنى المدرسة... ثم حدّقت بي...

كيف تشعرين يا رغد ؟؟

هل يؤلمك شيء كما يؤلمني ؟؟

هل تطوف في مخيلتك ذكريات ذلك اليوم النحس، كما هي مسيطرة علي الآن ...؟؟

لو أملك يا رغد ... لمحوت ذلك الماضي من ذاكرتك نهائيا ...

لو أملك يا رغد ... لاستئصلت ذلك اليوم من عمرك ... و اقتلعته من أصل جذوره ...

لو أملك يا رغد ... لقتلت عمّار قبل أن تلده أمه ... و ما تركت له الفرصة ليؤذي أغلى مخلوقة لدي ... بأبشع طريقة ....


المسافة تقصر... النهاية تقترب ... المباني تمر بنا و تنصرف ... واحدا تلو الآخر... إلى أن ظهر أخيرا ... مبنى كبير قديم ... مهجور و غارق في الظلام ... موصد الأبواب و النوافذ ... كئيب ميت و مرعب... تحف به أشجار جافة بلا أوراق و لا ثمر ... أشجار ماتت واقفة... و بعثرت الريح أوراقها على المجرّة منذ سنين ... و ظلّت واقفة ... و قامت الحرب... و قعدت الحرب ... و ظلت هي واقفة ... في انتظار عودة سيدي المنزل ... لتنحني أمامهما ... محيية مرحبة ...
يا أشجار بيتي العزيز ...
ستظلين واقفة ما امتد بك الدهر ...
لأن السيدين ... اللذين تنتظرين عودتهما... لن يعودا أبدا ...

عند الباب مباشرة ، أوقفت سيارتي أخيرا...
بقيت قابعا في مكاني لا أجرؤ على الحراك ... مركزا بصري على البوابة... كأنني أستأذنها بالدخول ... كأنها تستغرب عودتي ... كأنها نسيتني !

مرت لحظات ليست كاللحظات، و أنا في سكون شارد ...

تحدّثت أروى قائلة بعد أن طال بنا البقاء :

" أليس هذا هو المنزل ؟ ألن ننزل ؟؟ "

التفت إليها و منها إلى الوراء ، حيث تجلس صغيرتي بتعبيرات وجهها المضطربة و نظراتها المتوجسة ...

قلت بصوت يكاد يختنق في حنجرتي :

" منزلنا يا رغد ! "

رأيت يدها تمتد من موضعها على صدرها إلى عنقها ... كأنها تمنع صرخة من الانبثاق قهرا من أعماق حنجرتها الصغيرة ...


تحدّثت خالتي أم أروى الآن قائلة :

" هل سننزل هنا ؟ هل تملك مفاتيح للمنزل ؟؟ "

أجبتها بتحريك المفاتيح المتدلية من مقود السيارة ، و التي تضم مفاتيح المنزل المهجور ...

عدت بنظراتي إلى رغد ... فهي أهم ما يعنيني في الأمر ... لطالما كانت هي الأهم ... قلت :

" هيا بنا ... توكّلنا على الله "

بدا على صغيرتي المزيد من التوتر و القلق ، كانا جليين لي ...

أخيرا فتحنا الأبواب و هبطنا أرضا ...
صغيرتي وقفت و سارت شبه ملتصقة بي ، و كأنها تخشى شيئا ...
فتحت البوابة الرئيسية أخيرا ... و سمحت لطوفان الذكريات باجتياحنا ....

الحديقة الخارجية ... التي لطالما كانت غناء خضراء زاهية ... هي الآن مجرد صحراء موحشة تعذّر حتى على الأشواك البرية العيش في رحابها ...

لم أكن أشعر بقدمي و هي تسير خطوة بعد خطوة نحو الداخل ... اقتربنا من الساحة المرصوفة بقطع الرخام ......

في هذه الساحة ... كانت فيها رغد تقود دراجة سامر فيما مضى ...

تجاوزنا الباب الخارجي للمنزل ، و سرنا متابعين طريقنا ... حتى بلغنا الساحة الخلفية للمنزل ... و من خلال بصيص خفيف للضوء ، وقعت أنظارنا على أدوات الشواء المركونة هناك في زاوية الساحة منذ سنين ...

ما أن رأتها رغد ، حتى رفعت يدها اليمنى و أمسكت بذراعها الأيسر...كأنها شعرت بلسعة الجمر تحرق ذراعها ... مكان الندبة القديمة ...

قلت بعطف :

" رغد ! أأنت على ما يرام ؟؟ "

و بالرغم من الظلام ، استطعت أن ألمح القلق المرسوم على وجهها الصغير ...

قلت أخيرا :

" دعونا ندخل إلى الداخل "

و رأيت يد رغد اليمنى و هي تترك ذراعها الأيسر... و تقترب شيئا فشيئا من يدي ، و تلتحم بها !

أظنها كانت للشعور ببعض الأمان ، فقد كان المكان موحشا ، عدا عن الذكريات الأليمة التي يثيرها ...

تركت يدي أسيرة يديها حتى بلغنا الباب الداخلي ، و أردت استخدام يدي في فتح الباب ، إلا أنها لم تطلق سراحها ...

بيدي الأخرى فتحت القفل و الباب ، و خطوت الخطوة الأولى نحو الداخل ... وظلت يدي اليسرى مسحوبة إلى الوراء ، مربوطة بيد رغد ...

كان المنزل غارقا في الظلام ... مددت يدي نحو الجدار متحسسا المكابس ، حتى أضأت المصباح ... و لحسن الحظ ، بل للعجب ، كان يعمل ... !

الإنارة سمحت لنا برؤية ذرات الغبار التي تغطي الأرضية الرخامية عند المدخل...

شددت ُ يدي اليسرى و معها شددت ُ صغيرتي نحو الداخل و أنا أقول :

" ادخلن ... "

رغد خطت خطوة نحو الداخل و أخذت تدور برأسها في المكان ... و تشد ضغطها على يدي ، و على صدرها من فرط التأثر...

إن قضيت الوقت في وصف المنزل فإنني لن أنتهي ...

لكن ... و إن تجاهلت وصفي للمنزل و ذكرياته ، فهل أجسر على تجاهل وصف تعبيرات رغد ؟؟

إنها وقفت على مقربة من الدرج ... و هي لا تزال ممسكة بيدي ، و قالت :


" يا إلهي ... إنه بيتنا ! لم يتغيّر يا وليد ! أنا أذكره ! "

ثم قفزت الدموع من عينيها فجأة ...

أتذكرين يا رغد ؟؟

أتذكرين هذا المنزل ، الذي تربينا فيه سوية ؟؟

أتذكرين حين كنت أحملك على كتفي و أجول بك أرجاء المنزل ، و أنت تضحكين بفرح ؟؟

كم و كم و كم من الذكريات أحمل في صدري ... ذكريات طفلتي الحبيبة المدللة التي تركتها نائمة على سريرها ذات يوم ، و عدت ُ بعد 8 سنين ، و لم أجدها ...

ثمان سنين يا رغد ... كان يمكن أن أعيشها معك لحظة بلحظة يوما بيوم و سنة بسنة ... قضيتها هناك في السجن ... برفقة المجرمين المذنبين ، أُضرب و أهان و يُكسر أنفي ، و آكل الطعام الرديء الممزوج بالحشرات ، و أنام على سرير خشبي قاس و وسادة أشبه بالحجر ، بينما أنت في حضن شقيقي ... تنعمين بالحب و الرفاهية !


آه يا رغد ...
آه ثم آه ثم آه ...

قطع سيل الذكريات صوت أروى قائلة :

" أين غرف النوم ؟ أود أن أستلقي فأنا مرهقة جدا "

طبعا ، جميعنا مصابون بالإرهاق بعد سفر طويل و شاق ...

قلت "

" في الأعلى "

وهممت بالصعود ...

كلما صعدت ٌ خطوة تصاعدت الدماء إلى وجهي ، و تزايدت نبضات قلبي ، و كلما أنرت مصباحا تفجرت ذكريات أخرى في رأسي ... حتى إذا ما بلغت الردهة الرئيسية ... شعرت ُ بمفاصلي تتساقط أرضا من هول ما أنا فيه ...

وجها لوجه ، أمام البابين المتجاورين ... لغرفتي أنا و غرفة رغد ...

وجها لوجه ، و على بعد خطوات معدودة من بؤرة الذكريات ...

لهذا الحد و توقفت كل شيء عن الحركة من حولي ... و تجمّد الكون ... و تصلّبت الأشياء ...

وخز قوي شعرت به أخيرا في راحة يدي ، سببه ضغط أظافر رغد الشديد على يدي ...

هنا ...التفت إليها ... رأيت نهرا من الدموع ينساب من بين رموشها ... و على شفتيها كلمة لا تكاد تنطلق ...

" غرفتي ! غرفتي يا وليد ! "

حاولت تحريك يدي ، و تقريب ميدالية المفاتيح من عيني لاختيار المفتاح المناسب ، ألا أن رعشة قوية سرت ببدني .. جعلت الميدالية تنزلق من بين أصابعي و تسقط أرضا ، محدثة رنينا تخلخل عظامي و زلزلها ....

وقفت متسمرا في مكاني عاجزا عن الانثناء و التقاط المفاتيح



رغد تحرّكت و التقطت المفاتيح بنفسها و مدّت يدها إلي ...

تحشرج صوتي عن كلمة :

" افتحيه "

لا أعرف كيف ظهرت حروفها !

نظرت رغد إلي بتردد ، ثم التفتت نحو باب غرفتها ، و تقدّمت خطوة ... و بدأت تجرّب المفاتيح ...

و أخيرا انفتح القفل ... و حركت رغد الباب للأمام قليلا ، بتردد

كانت الغرفة غاطة في السبات العميق المظلم ، منذ تسع سنين !

لم تتحرك رغد ، بل توقفت في مكانها لا تملك من الشجاعة ما يكفي لأن تدخل

أما أنا ، فقد أصاب ركبتي تصلب حاد عجزت معه تحريك أي منهما

" أنا خائفة ! "

قالت ذلك رغد و هي تلتفت نحوي ...

" لا تقلقي ! لا يوجد أشباح ! "

قلت ذلك ، و أنا أرتجف خوفا من أشباح الماضي ...

و لما رأيت في عينيها التردد ... أجبرت قدمي على السير للأمام ... و وقفت إلى جانبها مباشرة ... أمام الباب

دفعت ُ به بهدوء حتى فتحته ... و أنا مغمض العينين !

من سأرى في الداخل ؟؟ لابد أنها طفلتي الصغيرة الحبيبة ، نائمة على سريرها ... كالملاك !

فتحت عيني ... كانت الغرفة تسبح في الظلام ... مددت يدي و أضأت المصباح ... و أخيرا ... رأيت كل شيء ...

و آه مما رأيت ...

هناك ... إلى اليمين ، ترقد سرير رغد القديم ، تماما كما تركته منذ سنين ...

لقد كنت أنا من وضع السرير في مكانه ، كما رتّبت أثاث الغرفة بنفسي ...

شمعت شهقة ضعيفة انطلقت من صدر رغد ... الواقفة إلى جواري

لكنني لم التفت إليها ... لقد كنت مأخوذا بسحر الذكرى الماضية ...

تقدّمت نحو سرير رغد ... أجر قدمي ّ جرا ... حتى إذا ما بلغته انثنيت عليه و أخذت أتحسسه ...

طافت بي الذكرى ... و تخيلت رؤية رغد نائمة هناك ... و هيء لي أنني لمست شعرها الناعم ... و أحسست بأنفاسها القصيرة ... شعرت بجسمها الضئيل يتحرك !

" رغد صغيرتي ! "

انطلق الاسم من لساني عفويا ... كما انطلقت عبرة حارقة من مقلتي ...

يا للأيام !

بعد كل هذه السنين ... أعود إليك !

داهمتني رغبة جنونية في أن أحتضن السرير برمته ... في أن أطوّقه بذراعي ... في أن أقبّل دعائمه ...

" هل كانت هذه غرفتك يا رغد ؟ "

كان هذا صوت أروى ، أيقظني من سبات الذكريات ، فهو صوت لم أعتد على سماعه في هذا البيت !

" نعم "

أجابت رغد و هي تتقدم نحوي ...

التفت إليها فإذا بي أراها تحدّق في شيء ما و هي تقول :

" وليد ! "

التفت إلى ذلك الشيء ، فإذا به ورقة صغيرة ... ملصقة بالجدار بشريط لاصق ، مرسوم عليها صورة لشخص ما ، و قد امتد خط طويل تحت أنفه !

إنها الصورة التي رسمتها لي رغد عندما كنا هنا ، قبل زمن !

و هذا الخط الطويل ... هو ( الشارب ) الذي تخيلته ينبت لي ، عندما أكبر !


مددت ُ يدي و انتزعت الورقة و نظرت إليها مليا ...

رباه ! ألا تزال هذه الصورة حيّة حتى الآن !

نظرت إلى رغد ... أعساها تذكرها ؟؟

سمعتها تقول :

" تشبهك ! أليس كذلك ؟ "

و تبتسم !

رفعت يدي إلى شاربي أتحسسه ، ثم قلت :

" إلى حد ما ! "

ثم نظرت إليها ...

و تعرفون ما حصل ؟؟

انفجرنا ضاحكين ...

ذلك الضحك الذي أعاد الحياة فجأة إلى بيت ميّت منذ سنين ....

بدت الأجواء الآن أكثر حيوية ، و جالت رغد في غرفتها بمرح تتحسس الأشياء من حولها و تنفض يديها من الغبار !

" لا شيء تغيّر وليد ! "

" لا شيء ! "

سوى أن تسع سنوات قد أضيفت إلى عمرك ِ و منعتني من أن أحملك ِ على ذراعي و أدور بك في الغرفة كما كنت أفعل سابقا !


" دعنا نرى غرفتك ! "

قالت ذلك رغد فالتفت ّ إلى الباب ، و حينها فقط تذكرت أن أروى و أمها كانتا موجودتين معنا !

بعد ذلك ، فتحت ُ باب غرفتي الملاصقة لغرفة رغد و ما إن أضأت المصباح حتى وقعت عيني مباشرة على ذلك الشيء المجعّد الملقى هناك عند تلك الزاوية !

التفت إلى رغد ... أتراها رأته ؟ أتراها تذكّرته ؟؟ أتراها تذكر الأمنيات التي ... حبستها فيه قبل 11 عام أو يزيد ؟؟

لكن رغد لم يبد ُ عليها أنها انتبهت لوجوده ، و هو محشور عند تلك الزاوية ...


تسللت رغد إلى الداخل و جالت ببصرها في أنحاء الغرفة جولة سريعة ثم وضعت يديها على وجهها و تنهّدت ...

" يا إلهي !! "

و عندما رفعت يديها ، كانت الدموع قد بللتهما

مسحت دموعها و أعادت تأمل الغرفة ، ثم قالت :

" لقد منعتني أمي من دخولها بعد رحيلك ! لا أصدق أنني دخلتها مجددا ! "

ثم التفتت فجأة ناحية الباب و قالت :

" لقد تركت ُ رسالة هاهنا ! "

قلت :

" نعم . لقد رأيتها ! لم أكن لأصل إليكم لولاها يا رغد ! شكرا لك ! "

و كانت رغد قد كتبت رسالة وضعتها أسفل الباب ، تذكر فيها انتقالهم إلى المدينة الصناعية ، و اكتشفت أنا وجودها ليلة عودتي إلى المنزل ، بعد خروجي من السجن ، العام الماضي !


رغد عادت تتأمل الغرفة إلا أنها لم تلمح ذلك الصندوق ...

و يبدو أنه لم يكن ليخطر لها على بال ...

بل و ربما لم تعد تذكره ...

و هذا ، جعلني أتألم كثيرا ... و كنت سأنبهها إليه لولا أن الخالة ليندا قالت لحظتها :

" أضنانا التعب يا بني ، أرنا أين يمكننا المبيت ؟ "

قالت رغد مباشرة :

" أنا سأنام في غرفتي ! "

و رُتّب الأمر بحيث أنام أنا في غرفتي ، و ورغد في غرفتها ، و أروى و الخالة في الصالة ...

كان التعب قد نال منا ما نال ، للدرجة التي ، و رغم كل ما أثارته الذكريات من الآلام ، نمت ُ فيها بسرعة ...

أظن أنني كنت أحلم بشيء ما ... و أظنه كان شيئا جميلا ... و أظن أن رغد كانت هي مضمون حلمي ...

فجأة سمعت نقرا على الباب ... استويت جالسا و أخذت أحدق في الظلام من حولي ... تذكّرت أنني أنام على سريري في منزلي القديم ... لم أصّدق أنها الحقيقة ... النقر كان يصل أذني ... أستطيع أن أسمعه جيدا ... إنه ليس بالحلم ... و حين أنهض ... و أفتح الباب ... سوف لن أجد خيال رغد الطفلة الصغيرة ... و أسمعها تقول ...

" وليد أنا خائفة ! دعني أنام معك ! "

تقدّمت نحو الباب و دقات قلبي تتسارع ...

أحقا ستظهر رغد ؟

أ أنت ِ خلف الباب يا رغد ؟

أعدت ِ للظهور كما في السابق ؟

هل رجع الزمن للوراء ... فقط تسع سنين ؟ ...

أمسكت بمقبض الباب ... و أدرتها ...

و أنا أنظر إلى الأسفل ... إلى حيث أتوقع أن أجد عيني صغيرتي الخائفة ...

يا رب ... حقق حلمي و لو لحظة واحدة ...

و لو لمرة أخيرة ... أرى فيها صغيرتي الحبيبة و آخذها إلي ...


فتحت الباب ... فوقعت عيناي على اليد التي كانت تطرق الباب ...

رفعتها للأعلى قليلا ... فإذا بي أرى وجها كالذي تمنيت رؤيته ...

أغمضت عيني برهة و عدت أحدق بعينيها

أأنا أحلم ؟ أم هذه حقيقة ؟؟

" رغد !!! "

همست بصوت لم أكد أن أسمعه ...

ارتفعت يد رغد قرب عنقها ، و تنهّد صدرها ثم سمعتها تقول :

" وليد ... أنا خائفة ... ابقني قربك ! "
 
الحلقةالسادسةوالثلاثون










وقفت غير مصدّق لما أرى... متوهما أنه الحلم الذي لطالما راودني منذ سنين...

لكن... بالتأكيد فإن الشيء الذي يقف أمامي هذه اللحظة ... يضم ذراعيه إلى بعضهما البعض ... و يقشعر بدنه إن خوفا و بردا ... هذا الشيء
الملفوف في السواد ... هو بالتأكيد كائن بشري ...
و ليس أي كائن ...
تحديدا هي رغد !


" وليد ... أنا خائفة ! أبقني معك "


لا أعرف من الذي حرّك يدي ، نحو مكبس المصباح ، و أناره ...
هل يمكن أن أكون قد فعلت ذلك بلا وعي ؟؟

الإنارة القوية المفاجئة أزعجت بؤبؤي عيني ، فأغمضت جفوني بسرعة

و من ثم فتحتها ببطء...

رأيت وجه رغد بعينيها المتورمتين الحمراوين ، و اللتين تدلان على طول البكاء و مرارته ...



" رغد ... أأنت على ما يرام صغيرتي ؟؟ "

" أنا أشعر بالخوف ... وليد ... المكان موحش و ... ويثير الذكريات ... المؤلمة ! "

و سرعان ما انخرطت رغد في بكاء أجش بصوت مبحوح ...

" حسنا... عزيزتي يكفي ... لا تبكي صغيرتي ... تعالي اجلسي هنا "


و أشرت إلى مقعد بالجوار ، فجلست رغد عليه ... و بقيت واقفا برهة ... ثم جلست على طرف سريري ...

كنت في منتهى التعب و الإرهاق و أشعر برغبة ملحة جدا في النوم... لابد أن رأسي سيهوي على السرير فجأة و أغط في النوم دون شعور !


نظرت إلى الفتاة الجالسة على مقربة جاهلا ما يتوجب علي فعله !

سألتها :

" صغيرتي ... ألا تشعرين بالنعاس ؟ ألست ِ متعبة ؟ "

" بلى ... لكن ... لا أشعر بالطمأنينة ! لا أستطيع النوم ... أنا خائفة ! "

و رفعت يدها إلى صدرها كمن يريد تهدئة أنفاسه المرعوبة

قلت :

" لا تخشي شيئا صغيرتي ... ما دمت ُ معك "

و لا أدري من أين و لا كيف خرجت هذه الجملة في مثل هذا الوقت و الحال !
و هل كنت أعنيها أم لا ... و هل كنت جديرا بها أم لا !

لكن فتاتي ابتسمت !

ثم تنهدت تنهيدة عميقة جدا

ثم أسندت رأسها إلى المقعد و أرخت ذراعيها إلى جانبيها ...ا و أغمضت عينيها !


و أظن ... و الله الأعلم ... أنها نامت !


" رغد ! ... رغد ؟ "


فتحت رغد عينيها ببطء و نظرت إلي ...


" إنك بحاجة للنوم ! "


ردت ، بشيء لا يتوافق و سؤالي البسيط :


" غرفتك لم تتغير أبدا وليد ! كم أنا سعيدة بالعودة إليها ! "

و أخذت تدور بعينيها في الغرفة ...

كان الهدوء الشديد يسيطر على الأجواء ... فالوقت متأخر ... و العالم يغط في الظلام و السبات ...

قالت و هي تشير إلى موضع في الغرفة :


" كان سريري هنا سابقا ! هل تذكر يا وليد ؟ "


ثم وقفت و سارت نحو الموضع الذي كان سرير رغد الصغير يستلقي فيه لسنين ... قبل زمن ...

قالت :

" و أنت كنت تقرأ القصص الجميلة لي ! كم كنت أحب قصصك كثيرا جدا يا وليد ! ليت الزمن يعود للوراء ... و لو لحظة ! "


عندها وقفت أنا ... و قد استفقت فجأة من نعاسي الثقيل ... و قفزت إلى قمة اليقظة و الصحوة ... و كأن نهرا من الماء البارد قد صب فوق رأسي ...


التفتت إلي ّ صغيرتي و قالت :


" كنت ... كنت أحتفظ بالقصص التي اشتريتها لي في بيتنا الثاني ... لكن ... أحرقتها النيران ! "

و آلمتني ... جملتها كثيرا ...

رجعت بي الذكرى إلى البيت المحترق ... فإذا بالنار تشتعل في معدتي ...

أضافت رغد بصوت أخف و أشجى :

" تماما كما احترقت الصورة ... "

" رغد ... "



إنه ليس بالوقت المناسب لاسترجاع ذكريات كهذه ... أرجوك ... كفى !

نظرت من حولها ثم قالت :

" لا تزال كتبك منثورة ! أتذكر ... ؟ كنت تستعد للذهاب إلى الجامعة لإجراء امتحان ما ! أليس كذلك ؟؟ أليس هذا ما أخبرتني به ؟؟ أتذكر ؟؟ "


لا أريد أن أتذكّر !

أرجوك أيتها الذكرى .. توقفي عند هذا الحد ..

أرجوك ...

لا تعودي إلى ذلك اليوم المشؤوم ...

لو كان باستطاعتي حذفه نهائيا ... لو كنت ُ ... ؟؟؟


كنت ُ أريد الهروب السريع من تلك الذكرى اللعينة ... لكنها كانت تقترب ... و تقترب أكثر فأكثر ... حتى صارت أمامي مباشرة ...

عينان تحدّقان بعيني بقوة ... تقيّدان أنظاري رغم عني ...

عينان أستطيع اختراقهما إلى ما بعدهما ...

خلف تينك العينين ، تختبئ أمر الذكريات و أبشعها ...

أرجوك يا رغد ...

لا تنظري إلي هكذا ...

لا ترمني بهذه السهام الموجعة ...

لم لا تعودين للنوم ؟؟


" وليد ... "

" إه ... نعم ... صـ ... غيرتي ؟؟ "

" لماذا ... لم تخبرني بالحقيقة ؟ "

قلت بصوت متهدرج :

" أي ... أي حقيقة ؟ "

" إنك ... قتلته ! "




آه ...

آه ...

إنه فأس يقع على هامتي ...

لقد فلقتها يا رغد ...

ما عدت قادرا على الوقوف ...

نصفاي سينهاران ...

أرجوك كفى ...



" وليد ... لماذا لم تخبرني ؟؟ أنا يا وليد ... أنا... لم أدرك شيئا ... كنت ُ صغيرة ... و خائفة حد الموت ... لا أذكر ما فعلتَ به ... و لا ...
و لا أذكر ... ما فعله بي ! "


عند هذه اللحظة ... و فجأة ... و دون شعور مني و لا إدراك ... مددت يدي بعنف نحو رغد و انقضضت على ذراعيها بقوّة ... بكل قوّة ...


انتفضت فتاتي بين يدي هلعا ... و حملقت بي بفزع ...

لابد أن قبضتي كانتا مؤلمتين جدا آنذاك ، و لابد أنها كانت خائفة ...

خرجت هذه الجملة من لساني كالصاروخ في قوّة اندفاعها ... مخلفة خلفها سحابة غبار هائلة تسد الأنوف و تكتم الأنفاس ... و تخنق الأفئدة ...


كررت ُ بجنون :

" ماذا فعل بك يا رغد ؟؟ ...
حتى... حتى لو كان قد ... لامس طرف حزامك فقط ... بأطراف أظافره القذرة ... كنت سأقتله بكل تأكيد ... بكل تأكيد ..."


فجأة رفعت رغد يديها و غطّت وجهها ... و هي تطلق صيحة قصيرة ...

كانت قبضتا يدي ّ لا تزالان تطبقان على ذراعيها بعنف ... و بنفس العنف انقضتا فجأة على يديها ... و أبعدتهما بسرعة عن وجهها ، فيما عيناي تحملقان بعينيها بقوة ....



صرخت ُ :

" ماذا فعل بك ؟؟ "



كانت رغد تنظر إلي ّ بذعر ...

نعم إنه الذعر ...

أشبه بالذعر الذي قرأته في عينيها ذلك اليوم ...


تملّصت رغد من بين يدي و ابتعدت بسرعة ، و اتجهت نحو المقعد الذي كانت تجلس عليه قبل قليل ... و ارتمت عليه ... و هتفت :

" لا أريد أن أذكر ذلك ... لا أريد ... لا أريد "

و عادت لإخفاء وجهها خلف كفيّها .

دارت بي الدنيا آنذاك و شعرت برغبة شديدة في تمزيق أي شيء ... أي أي شيء !

التفت يمنة و يسرة في اضطراب باحثا عن ضحية تمزيقي ... و بعض زخات العرق تنحدر من جبيني بينما أشعر باختناق ... و كأن تجويف حنجرتي لم يعد يكفي لتلقي كمية الهواء المهولة و الممزوجة بذلك الغبار و التي يرغمها صدري الشاهق على الاندفاع إليه ...


تحركت خطوة في كل اتجاه ... و بلا اتجاه ...

بعثرت نظراتي في كل صوب ... و بلا هدف ...

و أخيرا وقع بصري على شيء مختبئ عند إحدى زوايا الغرفة ...
يصلح للتمزيق !


توجهت إلى ذلك الشيء ، و التقطته عن الأرض ... تأمّلته برهة ... و استدرت نحو رغد ...


إنه صندوق الأماني القديم ... الذي جمع أمنيات صغرنا منذ 13 عاما !

ها قد آن أخيرا ... أوان استخراج الأماني ...

و لم علينا الاحتفاظ بها مخبأة أطول ما دامت الأقدار ... أبت تحقيقها ؟

على الأقل ... أمنياتي أنا ...

يجب أن يتمزّق أخيرا ....

و الآن يا رغد ... جاء دورك !


" رغد "

ناديتها فلم تستجب مباشرة . اقتربت منها أكثر فأكثر حتى صرت ُ أمامها مباشرة

هي جالسة على المقعد مطأطئة الرأس ... تداري الدموع

و أنا واقف كشجرة بلا جذور في انتظار اللحظة التي تهب فيها الرياح ، فتقلعها ...

" رغد ... أتذكرين هذا ؟ "

و ازدردت ريقي ...

إنها اللحظة التي لطالما انتظرتها ... سنين و سنين و سنين ، و أنا أتوق شوقا و أحترق لهفة لمعرفة أمنيتك يا رغد ...

رفعت رغد رأسها و أخذت تنظر إلى الشيء المحمول بين يدي ...

نظرت إليه نظرة مطوّلة ... ثم اتسعت حدقتا عينيها و انفغر فاها و شهقت شهقة مذهولة !

إذن ، فأنت تذكرينه ؟؟

إنه صندوق أمانيك يا رغد ... أيتها الطفلة العزيزة ... أنا صنعته لك منذ 13 عاما ... في ذلك اليوم الجميل ... حين قدمت ِ إلي ّ منفعلة و أنت ِ تحملين كتابك الصغير و تهتفين :

" وليد ... وليد اصنع لي صندوقا "

تحركت عينا رغد من على الصندوق إلى عيني ّ ...

كانت آخر دمعة لا تزال معلقة على رموشها ، في حيرة .... أ تنحدر أم تتراجع ؟؟

شفتاها الآن تحركتا و رسمتا ما يشبه الابتسامة المترددة ...

و أخيرا نطق لسانها :


" صندوقي !! "

ثم هتفت متفاجئة :

" صندوقي ! أوه ... إنه صندوقي ! "

و هبّت واقفة و التقطته من بين يدي !


" يا إلهي ! "

قلت :

" أتذكرينه ؟ "

رفعت عينيها عن الصندوق مجددا و قالت بانفعال :

" نعم ! أذكره ! إنه صندوق الأماني "

قالت ذلك و هي تؤشر بإصبعها على كلمة (( صندوق الأماني )) المكتوبة على الصندوق الورقي ...

ثم أخذت تقلّبه ، و من ثم عبس وجهها فجأة و نظرت إلي ّ بحدّة و وجس :


" هل ... فتحته ؟؟ "

" ماذا ؟ "

" فتحتَه ؟؟ "


إنه سؤال بسيط ! و عادي جدا ! أليس كذلك ؟؟

و لكن ... لم لم أستوعبه ؟؟ و لم تطلّب مني الأمر كل هذا التركيز و الجهد البليغين حتى أفهمه ؟؟

هل فتحته ؟؟

أوتسألين ؟؟

رغد !

ألم أقطع لك العهد بألا أفتحه دون علمك ؟؟

أتشكين في أنني ... قد أخون عهدي معك ذات يوم ؟

ألا تعرفين ما سببه لي و ما زال يسببه لي صندوق أمانيك هذا مذ صنعته و حتى اليوم ؟؟

هل تعتقدين إنه اختفى من حياتي بمجرّد أن علّقته هناك فوق رف المكتبة ؟؟

إنه لم يكن في الحياة ... صندوق أهم من صندوقك !


قلت :

" لا ... مستحيل ! "

أخذت تقلّبه في يدها ثم نظرت إلي بتساؤل :

" ماذا حدث له إذن ؟ "


إن كنتم قد نسيتم فأذكركم بأنني ذات مرّة و من فرط يأسي و حزني جعّدت الصندوق في قبضتي ...

قلت :

" إنه الزمن ! "

من الصندوق ، إلى عيني ّ إلى أنفي ، ثم إلى عيني ، انتقلت نظرات الصغيرة قبل أن تقول :

" إذن الزمن ... لا يحب أن تبقى الأشياء مستقيمة ! "

" عفوا ؟؟ "

ابتسمت رغد و قالت :

" أليس الزمن هو أيضا من عقف أنفك ؟ "

رفعتُ سبابتي اليمنى و لامست أنفي المعقوف ... و عندها تذكّرت ُ أنني عندما التقيت برغد أول مرّة بعد خروجي من السجن ، سألتني عما حدث لأنفي فأجبتها :

( إنه الزمن ! )

" نعم ! إنه الزمن ... "

و صمتّ قليلا ثم واصلت :

" ألن تفتحيه ؟ "

و كنت في قمة الشوق لأن أستخرج سر رغد الدفين و أعرف ... من هو ذلك ( الصبي ) الذي كانت تتمنى الزواج منه عندما تكبر ؟؟

نظرت إليها بنفاذ صبر ... هيا يا رغد ! افتحيه أرجوك ! أو اسمحي لي و أنا سأمزقه فورا ... و افضح مكنونه !

لكن رغد أومأت برأسها سلبا ...

كررت ُ السؤال :

" ألن تفتحيه ؟ "

" لا ! "

" لم ؟ ألا تتوقين لمعرفة ما بالداخل ؟ بعد كل هذه السنين ؟؟ "

" لا ! "

و طأطأت برأسها ... و قد علت خديها حمرة مفاجئة ... ما زادني فضولا فوق فضول لمعرفة ما تحويه !

قلت :

" هل ... تذكرين ... أمنيتك ؟ "

لم ترفع رأسها بل أجابت بإيماءة بسيطة موجبة .

" مادام الأمر كذلك ... فما الجدوى في إبقائها داخل الصندوق ؟ "

رفعت رغد أخيرا نظرها إلي و قالت :

" لأنها لم تتحقق بعد "

شعرت بنبضات قلبي تتوقف برهة ، ثم تندفع بسرعة جنونية ...و تخترق قدمي ّ و تصطدم بالأرض !

و استطردت ْ، و قد بدا الجد و الإصرار على ملامح وجهها فجأة :


" و سأعمل على تحقيقها من كل بد ... و بأي وسيلة ... و مهما كان الثمن "


و أضافت و هي تلوح بسبابتها نحوي و تحد من صوتها أكثر :


" ... و لن أسمح لأي شيء باعتراض طريقي "




الكلمات التي خرجت بحدّة من لسان رغد ، مقرونة بالنظرة القوية و اللهجة الجدية ، و المليئة بمعاني التحدّي ، جعلت تلك النبضات تقفز من باطن الأرض ، و تعود أدراجها متخللة قدمي ّ المرتجفتين ، و تضرب قلبي بعنف ... محدثة تصدّع خطير ...


اعتقد ... أنني أنا ( الشيء ) الذي لن تسمح له باعتراض طريقها ... و أعتقد أن اسم ( حسام ) مكتوب على قصاصة قديمة مختبئة داخل هذا الصندوق ... و اعتقد أنني أتلقى الآن تهديدا من حبيبة قلبي ... بألا أعترض طريق زواجها من الرجل الذي تمنت الارتباط به منذ الصغر ...

غضبي ثار ... نعم ثار ...

لازالت تنظر إلي ّ بتحد ...

حسنا يا رغد ...

قبلت ُ التحدي ...

قلت :

" و أنا أيضا لم أحقق أمنيتي بعد "

و بحدّة أضفت :

" و سأعمل على تحقيقها مهما كلّفني ذلك ... و أي شيء يعترض طريقي ... "

و صمت ّ برهة ، ثم أضفت :

" سأقتله ! "


و سحبت الصندوق من يدها بغتة ، و أكّدت :

" إنه حلمي ... و الموت وحده ما قد يحول دون نيله ... عدا عن هذا يا رغد ... عدا عن الموت ... فإنني لن أسمح لأي شيء بأن يبعده عنّي ... لن أتخلى عن حلمي أبدا ... إنه دائما أمامي ... و قريبا ... سيصبح بين يدي ... و لي وحدي ... "


لم أشعر بمدى قوة الضغط الذي كنت أمارسه على ذلك الصندوق الورقي المخنوق في قبضتي ، حتى أطلقت رغد صيحة اعتراض

كانت تنظر إلى الصندوق برثاء ... و مدّت يدها لتخلّصه منّي ... إلا أنني سحبت يدي بعيدا عنها ... ثم سرت ُ مبتعدا ... و اتجهت إلى مكتبتي و وضعت الصندوق المخنوق في نفس الموضع الذي كان يقف فيه قبل سنين ...


و حين استدرت ُ إلى رغد رأيتها تراقبني بنظرات اعتراض غاضبة .

قلت بتحدٍَ أكبر :


" سنرى من منّا سيحقق أمنيته ! "






..........................





لم أفهم معنى تلك النظرة القوية التي رمقني بها وليد !

كانت أشبه بنظرة تحد و إصرار ... و كانت مرعبة !

و ... في الحقيقة ... جذّابة !

أكاد أجن من هذا الـ وليد ! إن به مغناطيسا قويا جدا يجعل أي شيء يصدر منه ... نظرة ، إشارة ، إيماءة ، حركة ... ضحكة أو حتى صرخة ، أو ربما ركلة ، أي شيء يصدر منه يجذبني !

لا تسخروا منّي !

إنه وسط الليل و أنا شديدة التعب أكثر مما تعتقدون ، لكن الخوف جعلني أطرق باب وليد...



كان واقفا قرب المكتبة ، استدار إلي :

" بعد إذنك "

و ذهب إلى دورة المياه

جلست ُ أنا على المقعد الذي كنت أقف أمامه ، و أسندت رأسي إليه و شعرت بموجة قوية من النعاس تجتاحني ... انتظرت وليد ... لكن تأخر ...


في المرة التالية التي فتحت فيها عيني ّ ... كانت أشعة الشمس تتسلل عبر النافذة و الستار و جفوني !

شعرت بانزعاج شديد فأنا لازلت راغبة في النوم ... لكنني تذكرت فجأة أنني في غرفة وليد في بيتنا القديم ...

فتحت عيني ّ أوسعهما سامحة للضوء باختراق بؤبؤي و استثارة دماغي و إيقاظه بعنف !


مباشرة جلست و نظرت من حولي ...


وليد كان نائما في فراشه !


باب الغرفة كان مفتوحا كما تركته ليلة الأمس ...

نهضت عن مقعدي و شعرت بإعياء في مفاصلي ... ألقيت نظرة على وليد ، و كان يغلف جسده الضخم بالشرشف و بالكاد تظهر إحدى يديه !


عندما خرجت من الغرفة ، توجهت لإلقاء نظرة سريعة على الصالة ، حيث كانت الشقراء و أمها تنامان ...

ما إن ظهرت ُ في الصورة حتى رأين أعين أربع تحدّق بي !

لقد كانتا هناك تجلسان قرب بعضهما البعض ... و تنظران إلي !


" ص... صباح الخير ! "

قلت ذلك ثم ألقيت نظرة على ساعة يدي ، و عدّلت الجملة :

" أو ... مساء الخير "



لم تجب أي منهما مباشرة ... لكن الخالة قالت بعدها :

" مساء الخير . نوم الهناء "


لم أرتح للطريقة التي ردّت بها علي ، و شعرت أن في الأمر شيء ...

قالت أروى :

" مساء الخير. هل نهض ابن عمّك ؟؟ "


تعجّبت من الطريقة التي كلّمتني بها ، و من كلمة ( ابن عمّك ) هذه !

و لم تبد لي نظرتها طبيعية ...

قلت :

" لا ! إنه ... لا يزال نائما ! "



تبادلت الاثنتان النظرات ... وعادتا للصمت...


ذهبت بعدها إلى غرفتي الملاصقة لغرفة وليد ... و عندما خرجت للصالة بعد قرابة النصف ساعة أو يزيد ، رأيت الثلاثة ، وليد و الشقراء و أمها يجلسون سوية في الصالة ...


لا أعرف في أي شيء كانوا يتحدثون ... و بمجرّد أن لمحوني لاذوا بالصمت !

ألا يشعركم ذلك بأنني أنا موضوع حديثهم ؟؟؟

إلى وليد وجهت نظراتي و كلماتي ، بل و حتى خطواتي :

" مساء الخير "

" مساء النور ... "

و جلست ُ على مقربة .

نظرت ُ إلى الأشياء من حولي ، فأنا لم أتأملها البارحة ... الصالة كما تركناها قبل 9 سنين ... حسبما أذكر ، و الغبار يغطي أجزاءها !
قلت :

" سنحتاج وقتا طويلا و جهدا مكثفا لتنظيف كل هذا ! "

أروى قالت معترضة :

" و هل سيكون علينا تنظيف هذا ؟ إننا لن نسكن هنا على أية حال "

استغربت ، و نظرت إلى وليد متسائلة ... و هذا الأخير لم يعقّب !

قلت :

" وليد ... ألن نسكن هنا ؟ "

أجاب :

" سنبقى هنا في الوقت الراهن . لا نعرف كم من الوقت ستستغرق مسألة استلام الإرث . سأستعين بوالد صديقي سيف . آمل أن تسير الأمور بسرعة"

قلت :

" أتعني ... أننا بعد إتمام هذه المهمّة سنعود إلى المزرعة ؟؟ "

تولت الشقراء الرد بسرعة :

" بالطبع ! ماذا تعتقدين إذن ؟؟ سنعود للمزرعة و نجري بعض التعديلات في المنزل ... ثم ... "

و نظرت إلى وليد و قالت مبتسمة :

" نتزوّج ! "

تخيلوا كيف يكون شعور فتاة تسمع أي امرأة أخرى تقول لها :

( سأتزوج حبيبك ) ؟؟

رميت سهام نظراتي الحارقة نحو الشقراء البغيضة ، ثم نحو وليد ... و اجتاحتني رغبة عارمة في تمزيقهما سوية !

أهذا ما يخططان له ؟؟

يستلمان الإرث الضخم ، و يذهبان للمزرعة ليعدا عشهما و يتزوجان !

ماذا عنّي أنا ؟؟

مجرّد هامش زائد لا أهمية له و لا معنى لوجوده ؟

كنت أريد أن أسمع من وليد أي تعليق ، لكنه ظل صامتا شاردا ... ما أثار جنوني ...

مازالت الابتسامة معلقة على شفتي الحسناء الدخيلة ، و هاهي تحرّكهما من جديد و تقول بصوت شديد النعومة :

" فيم شردت ... عزيزي ؟ "

مخاطبة بذلك الرجل الوحيد معنا في الصالة ، و الذي يجلس على مقربة منّي ، و الذي يجري حبّه في عروقي تماما كما تجري دماء قرابتنا ...

وليد قال :

" كنت أفكّر في أن ذهب إلى أحد المطاعم ! لابد أننا جائعون الآن ! "



....................







في الحقيقة كان الطعام هو آخر ما أفكر به ، و لكنه أول ما قفز إلى ذهني عندما تلقيت سؤال أروى و أنا شارد ذلك الوقت ...

و ما حدث هو أننا ذهبنا إلى المطعم ثم إلى السوق و اشترينا بعض الحاجيات و من ثم عدنا إلى المنزل ...

كما و اتصلنا بالعم إلياس و كذلك بأم حسام – تحت إصرار من رغد – و طمأنا الجميع على وصولنا سالمين .

بعدها اتصلت بصديقي القديم و رفيق دراستي و محنتي ... سيف و اتفقت معه على أن يحضر إلى منزلي ليلا .

تعاونا نحن الأربعة في تنظيف غرفة الضيوف قدر الإمكان من أجل استقبال سيف .

حاولت جاهدا أن أتجاهل أي ذكرى تحاول التسلل إلى مخيلتي من جراء رؤيتي لأجزاء المنزل من حولي ... إلا إن هذه الذكرى الأليمة اخترقتني بكل إصرار !

كان ذلك عندما قمنا بنقل بعض قطع السجاد إلى الخارج ... إلى مؤخرة المنزل ، حيث تقع الحديقة الميتة و التي أصبحت مقبرة للحشائش الجافة و مأوى للرمال الصفراء ...

عند إحدى الزوايا ... كانت عدّة الشواء القديمة تجلس بكل صمود ... متحدية الزمن !

لا أعرف لماذا يقشعر بدني كلما رأيت هذه بالذات !
و لم أكن أعرف أن لها نفس التأثير على أي مخلوق إلى أن رأيت رغد ... و التي كانت تحمل السجادة معي تقف فجأة ، و تسند طرف السجادة إلى الأرض ... و تمد يدها اليمنى لتلامس ذراعها الأيسر !


صحيح أنها كانت صغيرة آنذاك ، و لكن حادثة السقوط على الجمر المتقد هي حادثة أقسى على قلب الطفل من أن ينسى آثارها ...

إن أثر الحرق ظل محفورا في ذراعها الأيسر ... و كنت أراه كل يوم فيما مضى !

ترى ...

ألا يزال كما هو ؟؟

وضعنا السجادة الملفوفة قرب أدوات الشواء تلك ، ثم جلسنا فوقها نلتقط أنفاسنا !


" ثقيلة جدا ! أراهن أنهما لن تتمكنا من حمل الأخرى ! "

قالت رغد ذلك ... و كانت أروى الخالة تحملان سجادة ملفوفة أصغر حجما و في طريقهما إلينا

قلت :

" بل ستفعلان ! لا تعرفين كم هما قويتان ! "

و أنا أعرف كيف كانتا تعملان الأعمال الشاقة في المزرعة !

قالت :

" إنهما متشابهتان جدا "

" نعم ... صحيح "

" و جميلتان جدا ! "

استغربت ... لكنني قلت :

" نعم ! صحيح ! "

واصلت رغد :

" و أنت محظوظ جدا ! "

صمت ، و علتني الريبة ! ما الذي تعنيه صغيرتي ؟؟

رمقتها بنظرة استفسار فتطوّعت هي بالإيضاح مباشرة :

" لديك خطيبة جميلة جدا ... و ثرية جدا ! ... سوف تعيشان سعيدين جدا "

و صمتت ثوان ثم استطردت :

" أما أنا ... "

ظهرت أروى و الخالة في مرآنا فالتفتنا إليهما ...

كانتا تجران السجادة بتثاقل ... و سرعان ما هببت ُ أنا لمساعدتهما .
 
الوسوم
إنتِ المرشود رواية لدكتوره لي or كامله منى
عودة
أعلى