الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي

خالدالطيب

شخصية هامة


[font=&quot]الجامع لأحكام القرآن[/font]
[font=&quot]للإمام القرطبي[/font]

[font=&quot]وهو كتاب الجامع لأحكام القرآن، المشهور بـ "تفسير القرطبي"، تأليف أبو عبدالله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي.[/font]

[font=&quot][/font]


[font=&quot][/font]

[font=&quot]أمر الله تعالى بالاستعاذة عند أول كل قراءة فقال تعالى: "فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم" [النحل:98] أي إذا أردت أن تقرأ؛ فأوقع الماضي موقع المستقبل كما قال الشاعر:[/font]
[font=&quot]وإني لآتيكم لذكرى الذي مضى من الود واستئناف ما كان في غد[/font]
[font=&quot]أراد ما يكون في غد؛ وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، وأن كل فعلين تقاربا في المعنى جاز تقديم أيهما شئت؛ كما قال تعالى: "ثم دنا فتدلى" [النجم:8] المعنى فتدلى ثم دنا؛ ومثله: "اقتربت الساعة وانشق القمر" [القمر:1] وهو كثير.[/font]



[font=&quot]@ هذا الأمر على الندب في قول الجمهور في كل قراءة في غير الصلاة. واختلفوا فيه في الصلاة. حكى النقاش عن عطاء: أن الاستعاذة واجبة. وكان ابن سيرين والنخعي وقوم يتعوذون في الصلاة كل ركعة، ويمتثلون أمر الله في الاستعاذة على العموم، وأبو حنيفة والشافعي يتعوذان في الركعة الأولى من الصلاة ويريان قراءة الصلاة كلها قراءة واحدة؛ ومالك لا يرى التعوذ في الصلاة المفروضة ويراه في قيام رمضان.[/font]
[font=&quot]@ أجمع العلماء على أن التعوذ ليس من القرآن ولا آية منه، وهو قول القارئ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وهذا اللفظ هو الذي عليه الجمهور من العلماء في التعوذ لأنه لفظ كتاب الله تعالى. وروي عن ابن مسعود أنه قال: قلت أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا ابن أم عبد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا أقرأني جبريل عن اللوح المحفوظ عن القلم).[/font]
[font=&quot]
[/font]

[font=&quot]@ روى أبو داود وابن ماجة في سننهما عن جبير بن مطعم أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة فقال عمرو: لا أدري أي صلاة هي؟ فقال: (الله أكبر كبيراً الله أكبر كبيراً - ثلاثاً - الحمد لله كثيراً الحمد لله كثيراً - ثلاثاً - وسبحان الله بكرة وأصيلا - ثلاثاً - وأعوذ بالله من الشيطان من نفخه ونفثه وهمزه). قال عمرو: همزه المؤتة، ونفثه الشعر، ونفخه الكبر. وقال ابن ماجة: المؤتة يعني الجنون. والنفث: نفخ الرجل من فيه من غير أن يخرج ريقه. والكبر: التيه. وروى أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل كبر ثم يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك - ثم يقول: - لا إله إلا الله - ثلاثاً ثم يقول: - الله أكبر كبيراً - ثلاثاً - أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه)؛ ثم يقرأ. وروى سليمان بن سالم عن أبي القاسم رحمه الله أن الاستعاذة: أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم بسم الله الرحمن الرحيم. قال ابن عطية: "وأما المقرئون فأكثروا في هذا من تبديل الصفة في اسم الله تعالى وفي الجهة الأخرى، كقول بعضهم: أعوذ بالله المجيد، من الشيطان المريد؛ ونحو هذا مما لا أقول فيه: نعمت البدعة، ولا أقول: إنه لا يجوز".[/font]
[font=&quot]
[/font]

[font=&quot]@ قال المهدوي: أجمع القراء على إظهار الاستعاذة في أول سورة "الحمد" ألا حمزة فإنه أسرها. وروى السدي عن أهل المدينة أنهم كانوا يفتتحون القراءة بالبسملة. وذكر أبو الليث السمرقندي عن بعض المفسرين أن التعوذ فرض، فإذا نسيه القارئ وذكره في بعض الحزب قطع
[/font]
[font=&quot]وتعوذ، ثم ابتدأ من أوله. وبعضهم يقول: يستعيذ ثم يرجع إلى موضعه الذي وقف فيه؛ وبالأول قال أسانيد الحجاز والعراق؛ وبالثاني قال أسانيد الشام ومصر.[/font]



 
[font=&quot]@ حكى الزهراوي قال: نزلت الآية في الصلاة وندبنا إلى الاستعاذة في غير الصلاة وليس بفرض. قال غيره: كانت فرضاً على النبي صلى الله عليه وسلم وحده، ثم تأسينا به.[/font]
[font=&quot] روي عن أبي هريرة أن الاستعاذة بعد القراءة؛ وقاله داود. قال أبو بكر بن العربي: "انتهى العي بقوم إلى أن قالوا: إذا فرغ القارئ من قراءة القرآن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم". وقد روى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ في صلاته قبل القراءة؛ وهذا نص. فإن قيل: فما الفائدة في الاستعاذة من الشيطان الرجيم وقت القراءة؟ قلنا: فائدتها امتثال الأمر؛ وليس للشرعيات فائدة إلا القيام بحق الوفاء لها في امتثالها أمراً أو اجتنابها نهياً؛ وقد قيل: فائدتها امتثال الأمر بالاستعاذة من وسوسة الشيطان عند القراءة؛ كما قال تعالى: "وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته" [الحج:52]. قال ابن العربي: "ومن أغرب ما وجدناه قول مالك في المجموعة في تفسير هذه الآية: "فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم" [النحل:98] قال: ذلك بعد قراءة القرآن لمن قرأ في الصلاة، وهذا قول لم يرد به أثر، ولا يعضده نظر؛ فإن كان هذا كما قال بعض الناس: أن الاستعاذة بعد القراءة، كان تخصيص ذلك بقراءة أم القرآن في الصلاة دعوى عريضة، ولا تشبه أصل مالك ولا فهمه؛ فالله أعلم بسر هذه الرواية.[/font]
[font=&quot]
[/font]

[font=&quot]@ في فضل التعوذ: روى مسلم عن سليمان بن صرد قال: استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فجعل أحدهما يغضب ويحمر وجهه وتنتفخ أوداجه؛ فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب ذا عنه أعوذ بالله من الشيطان الرجيم). فقام إلى الرجل رجل ممن سمع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل تدري ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم آنفاً؟ قال: (إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب ذا عنه أعوذ بالله من الشيطان الرجيم). فقال له الرجل: أمجنوناً تراني! أخرجه البخاري أيضاً. وروى مسلم أيضاً عن عثمان بن أبي العاص الثقفي أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذاك شيطان يقال له خنزب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثاً) قال: ففعلت فأذهبه الله عني. وروى أبو داود عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فأقبل عليه الليل قال: (يا أرض ربي وربك الله أعوذ بالله من شرك ومن شر ما خلق فيك ومن شر ما يدب عليك ومن أسد وأسود ومن الحية والعقرب ومن ساكني البلد ووالد وما ولد). وروت خولة بنت حكيم قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما نزل منزلاً ثم قال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل). أخرجه الموطأ ومسلم والترمذي وقال: حديث حسن غريب صحيح. وما يتعوذ منه كثير ثابت في الأخبار، والله المستعان.[/font]
[font=&quot]
[/font]

[font=&quot]@ معنى الاستعاذة في كلام العرب: الاستجارة والتحيز إلى الشيء، على معنى الامتناع به من المكروه؛ يقال: عذت بفلان واستعذت به؛ أي لجأت إليه. وهو عياذي، أي ملجأي. وأعذت غيري به وعوذته بمعنى. ويقال: أعوذ بالله منك؛ أي أعوذ بالله منك؛ قال الراجز:[/font]
[font=&quot]قالت وفيها حيدة وذعر عوذ بربي منكم وحجر[/font]
[font=&quot]والعرب تقول عند الأمر تنكره: حجراً له (بالضم) أي دفعاً، وهو استعاذة من الأمر. والعوذة والمعاذة والتعويذ كله بمعنى. وأصل أعوذ: أعوذ نقلت الضمة إلى العين لاستثقالها على الواو فسكنت.[/font]
[font=&quot]
[/font]

[font=&quot]@ الشيطان واحد الشياطين؛ على التكسير والنون أصلية، لأنه من شطن إذا بعد عن الخير. وشطنت داره أي بعدت؛ قال الشاعر:[/font]
[font=&quot]نأت بسعاد عنك نوىً شطون فبانت والفؤاد بها رهين[/font]
[font=&quot]وبئر شطون أي بعيدة القعر. والشطن: الحبل؛ سمي لبعد طرفيه وامتداده. ووصف أعرابي فرساً لا يحفى فقال: كأنه شيطان في أشطان. وسمي الشيطان شيطاناً لبعده عن الحق وتمرده؛ وذلك أن كل عات متمرد من الجن والإنس والدواب شيطان؛ قال جرير:[/font]
[font=&quot]أيام يدعونني الشيطان من غزل وهن يهوينني إذ كنت شيطاناً[/font]
[font=&quot]وقيل: إن شيطانا مأخوذ من شاط يشيط إذا هلك، فالنون زائدة. وشاط إذا احترق. وشيطت اللحم إذا دخنته ولم تنضجه. واشتاط الرجل إذا احتد غضباً. وناقة مشياط التي يطير فيها السمن. واشتاط إذا هلك؛ قال الأعشى:[/font]
[font=&quot]قد نخضب العير من مكنون فائله وقد يشيط على أرماحنا البطل[/font]
[font=&quot]أي يهلك. ويرد على هذه الفرقة أن سيبويه حكى أن العرب تقول: تشيطن فلان إذا فعل أفعال الشياطين، فهذا بين أنه تفعيل من شطن، ولو كان من شاط لقالوا: تشيط، ويرد عليهم أيضاً بيت أمية بن أبي الصلت:[/font]
[font=&quot]أيما شاطن عصاه عكاه ورماه في السجن والأغلال[/font]
[font=&quot]فهذا شاطن من شطن لا شك فيه.[/font]
[font=&quot]
[/font]

[font=&quot]@ الرجيم أي المبعد من الخير المهان. وأصل الرجم: الرمي بالحجارة، وقد رجمته أرجمه، فهو رجيم ومرجوم. والرجم: القتل واللعن والطرد والشتم، وقد قيل هذا كله في قوله تعالى: "لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين" [الشعراء:116]. وقول أبي إبراهيم: "لئن لم تنته لأرجمنك" [مريم:46]. وسيأتي إن شاء الله تعالى.[/font]
[font=&quot]
[/font]

[font=&quot]@ روى الأعمش عن أبي وائل عن عبدالله قال قال علي بن أبي طالب عليه السلام: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم عند الصفا وهو مقبل على شخص في صورة الفيل وهو يلعنه، قلت: ومن هذا الذي تلعنه يا رسول الله؟ قال: (هذا الشيطان الرجيم) فقلت: يا عدو الله، والله لأقتلنك ولأريحن الأمة منك؛ قال: ما هذا جزائي منك؛ قلت: وما جزاؤك مني يا عدو الله؟ قال: والله ما أبغضك أحد قط ألا شركت أباه في رحم أمه. [/font]
[font=&quot]*3*القول في البسملة[/font]
[font=&quot]
[/font]

[font=&quot]@ قال العلماء: "بسم الله الرحمن الرحيم" قسم من ربنا أنزله عند رأس كل سورة، يقسم لعباده إن هذا الذي وضعت لكم يا عبادي في هذه السورة حق، وإني أفي لكم بجميع ما ضمنت في هذه السورة من وعدي ولطفي وبري. و"بسم الله الرحمن الرحيم" مما أنزله الله تعالى في كتابنا وعلى هذه الأمة خصوصا بعد سليمان عليه السلام. وقال بعض العلماء: " إن "بسم الله الرحمن الرحيم" تضمنت جميع الشرع، لأنها تدل على الذات وعلى الصفات، وهذا صحيح.[/font]
[font=&quot]
[/font]

[font=&quot]@ قال بن أبي سكينة: بلغني أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه نظر إلي رجل يكتب "بسم الله الرحمن الرحيم" فقال له: جودها فإن رجلا جودها فغفر له. قال سعيد: وبلغني أن رجلا نظر إلى قرطاس فيه "بسم الله الرحمن الرحيم" فقبله ووضعه على عينيه فغفر له. ومن هذا المعنى قصة بشر الحافي، فإنه لما رفع الرقعة التي فيها اسم الله وطيبها طيب اسمه، ذكره القشيري. وروى النسائي عن أبي المليح عن ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا عثرت بك الدابة فلا تقل تعس الشيطان فإنه يتعاظم حتى يصير مثل البيت ويقول بقوته صنعته ولكن قل بسم الله الرحمن الرحيم فإنه يتصاغر حتى يصير مثل الذباب). وقال علي بن الحسين في تفسير قوله تعالى: "وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا" [الإسراء:46] قال معناه: إذا قلت "بسم الله الرحمن الرحيم". وروى وكيع عن الأعمش عن أبي وائل عن عبدالله بن مسعود قال: من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرأ "بسم الله الرحمن الرحيم" ليجعل الله تعالى له بكل حرف منها جنة من كل واحد. فالبسملة تسعة عشر حرفا على عدد ملائكة أهل النار الذين قال الله فيهم: "عليها تسعة عشر" [المدثر: 30] وهم يقولون في كل أفعالهم: "بسم الله الرحمن الرحيم" فمن هنالك هي قوتهم، وببسم الله استضلعوا. قال ابن عطية: ونظير هذا قولهم في ليلة القدر: إنها سبع وعشرين، مراعاة للفظة "هي" من كلمات سورة "إنا أنزلناه" [القدر: 1]. ونظيره أيضا قولهم في عدد الملائكة الذين ابتدروا قول القائل: ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، فإنها بضعة وثلاثون حرفا، فلذلك قال النبي الله صلى الله عليه وسلم: (لقد رأيت بضعا وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول). قال ابن عطية: وهذا من ملح التفسير وليس من متين العلم.[/font]
 
[font=&quot]@ روى الشعبي والأعمش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكتب "باسمك اللهم" حتى أمر أن يكتب "بسم الله" فكتبها، فلما نزلت: "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن" [الإسراء:110] كتب "بسم الله الرحمن الرحيم" فلما نزلت: "إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم" [النمل:30] كتبها. وفي مصنف أبي داود قال الشعبي وأبو مالك وقتادة وثابت بن عمارة: إن النبي الله صلى الله عليه وسلم لم يكتب بسم الله الرحمن الرحيم حتى نزلت سورة "النمل".[/font]
[font=&quot]
[/font]

[font=&quot]@ روي عن جعفر الصادق رضي الله عنه أنه قال: البسملة تيجان السور.[/font]
[font=&quot] قلت: وهذا يدل على أنها ليست بآية من الفاتحة ولا غيرها. وقد اختلف العلماء في هذا المعنى على ثلاثة أقوال: (الأول) ليست بآية من الفاتحة ولا غيرها، وهو قول مالك. (الثاني) أنها آية من كل سورة، وهو قول عبدالله بن المبارك. (الثالث ) قال الشافعي: هي آية في الفاتحة، وتردد قوله في سائر السور، فمرة قال: هي آية من كل سورة، ومرة قال: ليست بآية إلا في الفاتحة وحدها. ولا خلاف بينهم في أنها آية من القرآن في سورة النمل.[/font]
[font=&quot] واحتج الشافعي بما رواه الدارقطني من حديث أبي بكر الحنفي عن عبدالحميد بن جعفر عن نوح بن أبي بلال عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قرأتم الحمد لله رب العالمين فاقرؤوا بسم الله الرحمن الرحيم إنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني وبسم الله الرحمن الرحيم أحد آياتها). رفع هذا الحديث عبدالحميد بن جعفر، وعبدالحميد هذا وثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن سعيد ويحيى بن معين، وأبو حاتم يقول فيه: محله الصدق، وكان سفيان الثوري يضعفه ويحمل عليه. ونوح بن أبي بلال ثقة مشهور.[/font]
[font=&quot]وحجة ابن المبارك وأحد قولي الشافعي ما رواه مسلم عن أبي أنس قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسما، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: (نزلت علي آنفا سورة) فقرأ: "بسم الله الرحمن الرحيم: إنا أعطيناك الكوثر. فصل لربك وانحر. إن شانئك هو الأبتر" [الكوثر: الآية]. وذكر الحديث، وسيأتي في سورة الكوثر إن شاء الله تعالى.[/font]
[font=&quot]
[/font]

[font=&quot]@ الصحيح من هذه الأقوال قول مالك، لأن القرآن لا يثبت بأخبار الآحاد وإنما طريقه التواتر القطعي الذي لا يختلف فيه. قال ابن العربي: "ويكفيك أنها ليست من القرآن اختلاف الناس فيها، والقرآن لا يختلف فيه". والأخبار الصحاح التي لا مطعن فيها دالة على أن البسملة ليست بآية من الفاتحة ولا غيرها إلا في النمل وحدها. روى مسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله عز وجل قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد "الحمد لله رب العالمين" قال الله تعالى حمدني عبدي وإذا قال العبد "الرحمن الرحيم" قال الله تعالى أثنى علي عبدي وإذا قال العبد "مالك يوم الدين" قال مجدني عبدي - وقال مرة فوض إلي عبدي - فإذا قال "إياك نعبد وإياك نستعين" قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال "اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين" قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل). فقوله سبحانه: (قسمت الصلاة) يريد الفاتحة، وسماها صلاة لأن الصلاة لا تصح إلا بها، فجعل الثلاث الآيات الأول لنفسه، واختص بها تبارك اسمه، ولم يختلف المسلمون فيها. ثم الآية الرابعة جعلها بينه وبين عبده، لأنها تضمنت تذلل العبد وطلب الاستعانة منه، وذلك يتضمن تعظيم الله تعالى، ثم ثلاث آيات تتمة سبع آيات. ومما يدل على أنها ثلاث قوله: (هؤلاء لعبدي) أخرجه مالك، ولم يقل: هاتان، فهذا يدل على أن "أنعمت عليهم" آية. قال ابن بكير: قال قال مالك: "أنعمت عليهم" آية، ثم الآية السابعة إلى آخرها. فثبت بهذه القسمة التي قسمها الله تعالى وبقوله عليه السلام لأبي: (كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة) قال: فقرأت "الحمد لله رب العالمين" حتى أتيت على آخرها - أن البسملة ليست بآية منها، وكذا عد أهل المدينة وأهل الشام وأهل البصرة، وأكثر القراء عدوا "أنعمت عليهم" آية، وكذا روى قتادة عن أبي نضرة عن أبي هريرة قال: الآية السادسة "أنعمت عليهم". وأما أهل الكوفة من القراء والفقهاء فإنهم عدوا فيها "بسم الله الرحمن الرحيم" ولم يعدوا "أنعمت عليهم".[/font]
[font=&quot] فإن قيل: فإنها ثبتت في المصحف وهي مكتوبة بخطه ونقلت نقله، كما نقلت في النمل، وذلك متواتر عنهم. قلنا: ما ذكرتموه صحيح، ولكن لكونها قرآناً أو لكونها فاصلة بين السور - كما روي عن الصحابة: كنا لا نعرف انقضاء السورة حتى تنزل "بسم الله الرحمن الرحيم" أخرجه أبو داود - أو تبركا بها، كما قد اتفقت الأمة على كتبها في أوائل الكتب والرسائل؟ كل ذلك محتمل. وقد قال الجريري: سئل الحسن عن "بسم الله الرحمن الرحيم" قال: في صدور الرسائل. وقال الحسن أيضا: لم تنزل "بسم الله الرحمن الرحيم" في شيء من القرآن إلا في "طس" "إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم" [النمل: 30]. والفيصل أن القرآن لا يثبن بالنظر والاستدلال، وإنما يثبت بالنقل المتواتر القطعي الاضطراري. ثم قد اضطرب قول الشافعي فيها في أول كل سورة فدل على أنها ليست بآية من كل سورة؛ والحمد لله. [/font]
[font=&quot] فإن قيل: فقد روى جماعة قرآنيتها، وقد تولى الدارقطني جمع ذلك في جزء صححه. قلنا: لسنا ننكر الرواية بذلك وقد أشرنا إليها، ولنا أخبار ثابتة في مقابلتها، رواها الأئمة الثقات والفقهاء الأثبات. روت عائشة في صحيح مسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين، الحديث. وسيأتي بكماله. وروى مسلم أيضا عن أنس بن مالك قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين؛ لا يذكرون "بسم الله الرحمن الرحيم" لا في أول قراءة ولا في آخرها. ثم إن مذهبنا يترجح في ذلك بوجه عظيم، وهو المعقول؛ وذلك أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة انقضت عليه العصور، ومرت عليه الأزمنة والدهور، من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زمان مالك، ولم يقرأ أحد فيه قط "بسم الله الرحمن الرحيم" اتباعا للسنة؛ وهذا يرد أحاديثكم. بيد أن أصحابنا استحبوا قراءتها في النفل وعليه تحمل الآثار الواردة في قراءتها أو على السعة في ذلك. قال مالك: ولا بأس أن يقرأ بها في النافلة ومن يعرض القرآن عرضاً.[/font]
[font=&quot] وجملة مذهب مالك وأصحابه: أنها ليست عندهم آية من فاتحة الكتاب ولا غيرها، ولا يقرأ بها المصلي في المكتوبة ولا في غيرها سراً ولا جهراً؛ ويجوز أن يقرأها في النوافل. هذا هو المشهور من مذهبه عند أصحابه. وعنه رواية أخرى أنها تقرأ أول السورة في النوافل، ولا تقرأ أول أم القرآن. وروى عنه ابن نافع ابتداء القراءة بها في الصلاة الفرض والنفل ولا تترك بحال. ومن أهل المدينة من يقول: إنه لابد فيها من "بسم الله الرحمن الرحيم" منهم ابن عمر، وابن شهاب؛ وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد. وهذا يدل على أن المسألة مسألة اجتهادية لا قطعية، كما ظنه بعض الجهال من المتفقهة الذي يلزم على قوله تكفير المسلمين؛ وليس كما ظن لوجود الاختلاف المذكور؛ والحمد لله.[/font]
[font=&quot]
[/font]

[font=&quot]@ وقد ذهب جمع من العلماء إلى الإسرار بها مع الفاتحة؛ منهم: أبو حنيفة والثوري؛ وروي ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وعمار وابن الزبير؛ وهو قول الحكم وحماد؛ وبه قال أحمد بن حنبل وأبو عبيد؛ وروي عن الأوزاعي مثل ذلك؛ حكاه أبو عمر بن عبدالبر في (الاستذكار). واحتجوا من الأثر في ذلك بما رواه منصور بن زاذان عن أنس بن مالك قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم سمعنا قراءة "بسم الله الرحمن الرحيم". وما رواه عمار بن رزيق عن الأعمش عن شعبة عن ثابت عن أنس قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر، فلم أسمع أحداً منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم.[/font]
[font=&quot] قلت: هذا قول حسن، وعليه تتفق الآثار عن أنس ولا تتضاد ويخرج به من الخلاف في قراءة البسملة. وقد روي عن سعيد بن جبير قال: هذا محمد يذكر رحمان اليمامة - يعنون مسيلمة - فأمر أن يخافت ببسم الله الرحمن الرحيم، ونزل: "ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها" [الإسراء:110]. قال الترمذي الحكيم أبو عبدالله: فبقي ذلك إلى يومنا هذا على ذلك الرسم وإن زالت العلة، كما بقي الرمل في الطواف وإن زالت العلة، وبقيت المخافتة في صلاة النهار وإن زالت العلة.[/font]
 
[font=&quot]@ اتفقت الأمة على جواز كتبها في أول كل كتاب من كتب العلم والرسائل؛ فإن كان الكتاب ديوان شعر فروى مجالد عن الشعبي قال: أجمعوا ألا يكتبوا أمام الشعر "بسم الله الرحمن الرحيم". وقال الزهري: مضت السنة ألا يكتبوا في الشعر "بسم الله الرحمن الرحيم". وذهب إلى رسم التسمية في أول كتب الشعر سعيد بن جبير، وتابعه على ذلك أكثر المتأخرين. قال أبو بكر الخطيب: وهو الذي نختاره ونستحبه.[/font]
[font=&quot]
[/font]

[font=&quot]@ قال الماوردي ويقال لمن قال بسم الله: مبسمل، وهي لغة مولدة، وقد جاءت في الشعر؛ قال عمر بن أبي ربيعة:[/font]
[font=&quot]لقد بسملت ليلى غداة لقيتها فيا حبذا ذاك الحبيب المبسمل[/font]
[font=&quot] قلت: المشهور عن أهل اللغة بسمل. قال يعقوب بن السكيت والمطرز والثعالبي وغيرهم من أهل اللغة: بسمل الرجل. إذا قال: بسم الله. يقال: قد أكثرت من البسملة؛ أي من قول بسم الله. ومثله حوقل الرجل، إذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. وهلل، إذا قال: لا إله إلا الله. وسبحل، إذا قال: سبحان الله. وحمدل، إذا قال: الحمد لله. وحيصل، إذا قال: حي على الصلاة. وجعفل، إذا قال: جعلت فداك. وطبقل، إذا قال: أطال الله بقاءك. ودمعز، إذا قال: أدام الله عزك. وحيفل، إذا قال: حي على الفلاح. ولم يذكر المطرز: الحيصلة، إذا قال: حي على الصلاة. وجعفل، إذا قال: جعلت فداك. وطبقل، إذا قال: أطال الله بقاءك. ودمعز، إذا قال: أدام الله عزك.[/font]
[font=&quot]
[/font]

[font=&quot]@ ندب الشرع إلى ذكر البسملة في أول كل فعل؛ كالأكل والشرب والنحر؛ والجماع والطهارة وركوب البحر، إلى غير ذلك من الأفعال؛ قال الله تعالى: "فكلوا مما ذكر اسم الله عليه". [الأنعام:118]. "وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها" [هود:41]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أغلق بابك واذكر اسم الله وأطفئ مصباحك واذكر اسم الله وخمر إناءك واذكر اسم الله وأوك سقاءك واذكر اسم الله). وقال: (لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبداً). وقال لعمر بن أبي سلمة: (يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك). وقال: (إن الشيطان ليستحل الطعام ألا يذكر اسم الله عليه) وقال: (من لم يذبح فليذبح باسم الله). وشكا إليه عثمان بن أبي العاص وجعا يجده في جسده منذ أسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل بسم الله ثلاثا وقل سبع مرات أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر). هذا كله ثابت في الصحيح. وروى ابن ماجة والترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل الكنيف أن يقول بسم الله). وروى الدارقطني عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مس طهوره سمى الله تعالى، ثم يفرغ الماء على يديه.[/font]
[font=&quot]
[/font]

[font=&quot]@ قال علماؤنا: وفيها رد على القدرية وغيرهم ممن يقول: إن أفعالهم مقدورة لهم. وموضع الاحتجاج عليهم من ذلك أن الله سبحانه أمرنا عند الابتداء بكل فعل أن نفتتح بذلك، كما ذكرنا.[/font]
[font=&quot] فمعنى "بسم الله" أي بالله. ومعنى "بالله" أي بخلقه وتقديره يوصل إلى ما يوصل إليه. وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله. وقال بعضهم: معنى قوله "بسم الله" يعني بدأت بعون الله وتوفيقه وبركته؛ وهذا تعليم من الله تعالى عباده، ليذكروا اسمه عند افتتاح القراءة وغيرها، حتى يكون الافتتاح ببركة الله جل وعز.[/font]
[font=&quot]
[/font]

[font=&quot]@ ذهب أبو عبيدة معمر بن المثنى إلى أن "اسم" صلة زائدة، واستشهد يقول لبيد:[/font]
[font=&quot]إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر[/font]
[font=&quot]فذكر "اسم" زيادة، وإنما أراد: ثم السلام عليكما.[/font]
[font=&quot] وقد استدل علماؤنا بقول لبيد هذا على أن الاسم هو المسمى. وسيأتي الكلام فيه في هذا الباب وغيره، إن شاء الله تعالى.
[/font]

[font=&quot]
[/font]

[font=&quot]@ اختلف في معنى زيادة "اسم"؛ فقال قطرب: زيدت لإجلال ذكره تعالى وتعظيمه. وقال الأخفش: زيدت ليخرج بذكرها من حكم القسم إلى قصد التبرك؛ لأن أصل الكلام: بالله. واختلفوا أيضا في معنى دخول الباء عليه، هل دخلت على معنى الأمر؟ والتقدير: ابدأ بسم الله. أو على معنى الخبر؟ والتقدير: ابتدأت بسم الله؛ قولان: الأول للفراء، والثاني للزجاج. فـ "بسم الله" في موضع رفع خبر الابتداء: وقيل: الخبر محذوف؛ أي ابتدائي مستقر أو ثابت باسم الله؛ فإذا أظهرته كان "بسم الله" في موضع نصب بثابت أو مستقر، وكان بمنزلة قولك: زيد في الدار وفي التنزيل "فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي" [النمل:40] فـ "عنده" في وضع نصب؛ روي هذا عن نحاة أهل البصرة. وقيل: التقدير ابتدائي ببسم الله موجود أو ثابت، فـ "بسم" في موضع نصب بالمصدر الذي هو ابتدائي.[/font]
[font=&quot]
[/font]

[font=&quot]@تكتب "بسم الله" بغير ألف استغناء عنها بباء الإلصاق في اللفظ والخط لكثرة الاستعمال؛ بخلاف قوله: "اقرأ باسم ربك" [العلق:1] فإنها لم تحذف لقلة الاستعمال. واختلفوا فيحذفها مع الرحمن والقاهر؛ فقال الكسائي وسعيد الأخفش: تحذف الألف. وقال يحيى بن وثاب: لا تحذف إلا مع "بسم الله" فقط، لأن الاستعمال إنما كثر فيه. واختلف في تخصيص باء الجر بالكسر على ثلاثة معان؛ فقيل: ليناسب لفظها عملها. وقيل: لما كانت الباء لا تدخل إلا على الأسماء خصت بالخفض الذي لا يكون إلا في الأسماء. الثالث: ليفرق بينها وبين ما قد يكون من الحروف اسما؛ نحو الكاف في قول الشاعر: [/font]
[font=&quot] ورحنا بكابن الماء يجنب وسطنا[/font]
[font=&quot]أي بمثل ابن الماء أو ما كان مثله.[/font]
[font=&quot]
[/font]

[font=&quot]@ اسم، وزنه إفع، والذاهب منه الواو؛ لأنه من سموت، وجمعه أسماء، وتصغيره سمي. واختلف في تقدير أصله، فقيل: فعل، وقيل: فعل. قال الجوهري: وأسماء يكون جمعا لهذا الوزن، وهو مثل جذع وأجذاع، وقفل وأقفال؛ وهذا لا تدرك صيغته إلا بالسماع. وفيه أربع لغات: اسم الكسر، واسم بالضم. قال أحمد ين يحيى: من ضم الألف أخذه من سموت أسمو، ومن كسر أخذه من سميت أسمي. ويقال: سم وسم، وينشد:[/font]
[font=&quot]والله أسماك سما مباركا آثرك الله به إيثاركا[/font]
[font=&quot]وقال آخر:[/font]
[font=&quot]وعامنا أعجبنا مقدمه يدعى أبا السمح وقرضاب سمه[/font]
[font=&quot] مبتركا لكل عظم يلحمه[/font]
[font=&quot]قرضب الرجل: إذا أكل شيئا يابسا، فهو قرضاب. "سمه" بالضم والكسر جميعا.[/font]
[font=&quot]ومنه قول الآخر:[/font]
[font=&quot] باسم الذي في كل سورة سمه[/font]
[font=&quot]وسكنت السين من "باسم" اعتلالا غير قياس، وألفه ألف وصل، وربما جعلها الشاعر ألف قطع للضرورة؛ كقول الأحوص:[/font]
[font=&quot]وما أنا بالمخسوس في جذم مالك ولا من تسمى ثم يلتزم الاسما[/font]
[font=&quot]
[/font]

[font=&quot]@ تقول العرب في النسب إلي الاسم: سموي، وإن شئت اسمي، تركته على حاله، وجمعه أسماء وجمع الأسماء أسام. وحكى الفراء: أعيذك بأسماوات الله.[/font]
[font=&quot] اختلفوا في اشتقاق الاسم على وجهين؛ فقال البصريون: هو مشتق من السمو وهو العلو والرفعة، فقيل: اسم لأن صاحبه بمنزلة المرتفع به. وقيل: لأن الاسم يسمو بالمسمى فيرفعه عن غيره. وقيل: إنما سمي الاسم اسما لأنه علا بقوته على قسمي الكلام: الحرف والفعل؛ والاسم أقوى منهما بالإجماع لأنه الأصل؛ فلعلوه عليهما سمي اسما؛ فهذه ثلاثة أقوال.[/font]
[font=&quot] وقال الكوفيون: إنه مشتق من السمة وهي العلامة؛ لأن الاسم علامة لمن وضع له؛ فأصل اسم على هذا "وسم". والأول أصح؛ لأنه يقال في التصغير سمي وفي الجمع أسماء؛ والجمع والتصغير سمي وفي الجمع أسماء؛ والجمع والتصغير يردان الأشياء إلى أصولها؛ فلا يقال: وسيم ولا أوسام. ويدل على صحته أيضا فائدة الخلاف وهي:[/font]
[font=&quot]
[/font]

[font=&quot]@ فإن من قال الاسم مشتق من العلو يقول: لم يزل الله سبحانه موصوفا قبل وجود الخلق وبعد وجودهم وعند فنائهم، ولا تأثير لهم في أسمائه ولا صفاته؛ وهذا قول أهل السنة. ومن قال الاسم مشتق من السمة يقول: كان الله في الأزل بلا اسم ولا صفة، فلما خلق الخلق جعلوا له أسماء وصفات، فإذا أفناهم بقي بلا اسم ولا صفة؛ وهذا قول المعتزلة وهو خلاف ما أجمعت عليه الأمة، وهو أعظم في الخطأ من قولهم: إن كلامه مخلوق، تعالى الله عن ذلك! وعلى هذا الخلاف وقع الكلام في الاسم والمسمى فذهب أهل الحق فيما نقل القاضي أبو بكر بن الطيب إلى أن الاسم هو المسمى، وارتضاه ابن فورك؛ وهو قول أبي عبيدة وسيبويه. فإذا قال قائل: الله عالم؛ فقوله دال على الذات الموصوفة بكونه عالما، فالاسم كونه عالما وهو المسمى بعينه. وكذلك إذا قال: الله خالق؛ فالخالق هو الرب، وهو بعينه الاسم. فالاسم عندهم هو المسمى بعينه من غير تفصيل.[/font]
[font=&quot] قال ابن الحصار: من ينفي الصفات من المبتدعة يزعم أن لا مدلول للتسميات إلا الذات، ولذلك يقولون: الاسم غير المسمى، ومن يثبت الصفات يثبت للتسميات مدلولا هي أوصاف الذات وهي غير العبارات وهي الأسماء عندهم. وسيأتي لهذه مزيد بيان في "البقرة" و"الأعراف" إن شاء الله تعالى.[/font]
[font=&quot]
[/font]

[font=&quot]@قوله: "الله" هذا الاسم أكبر أسمائه سبحانه وأجمعها، حتى قال بعض العلماء: إنه اسم الله الأعظم ولم يتسم به غيره؛ ولذلك لم يثن ولم يجمع؛ وهو أحد تأويلي قوله تعالى: "وهل تعلم له سميا" [مريم:65] أي تسمى باسمه الذي هو "الله". فالله اسم للموجود الحق الجامع لصفات الإلهية، المنعوت بنعوت الربوبية، المنفرد بالوجود الحقيقي، لا إله إلا هو سبحانه. وقيل: معناه الذي يستحق أن يعبد. وقيل: معناه واجب الوجود الذي لم يزل ولا يزال؛ والمعنى واحد.[/font]
[font=&quot]
[/font]

[font=&quot]@ واختلفوا في هذا الاسم هل هو مشتق أو موضوع للذات علم؟. فذهب إلى الأول كثير من أهل العلم. واختلفوا في اشتقاقه وأصله؛ فروى سيبويه عن الخليل أن أصله إلاه، مثل فعال؛ فأدخلت الألف واللام بدلا عن الهمزة. قال سيبويه: مثل الناس أصله أناس. وقيل: أصل الكلمة "لا" وعليه دخلت الألف واللام للتعظيم، وهذا اختيار سيبويه. وأنشد:[/font]
[font=&quot]لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب عني ولا أنت دياني فتخزوني[/font]
[font=&quot]كذا الرواية: فتخزوني، بالخاء المعجمة ومعناه: تسوسني.[/font]
[font=&quot] وقال الكسائي والفراء: معنى "بسم الله" بسم الإله؛ فحذفوا الهمزة وأدغموا اللام الأولى في الثانية فصارتا لاما مشددة؛ كما قال عز وجل: "لكنا هو الله ربي" [الكهف:38] ومعناه: لكن أنا، كذلك قرأها الحسن. ثم قيل: هو مشتق من "وله" إذا تحير؛ والوله: ذهاب العقل. يقال: رجل واله وامرأة والهة وواله، وماء موله: أرسل في الصحارى. فالله سبحانه تتحير الألباب وتذهب في حقائق صفاته والفكر في معرفته. فعلى هذا أصل "إلاه" "ولاه" وأن الهمزة مبدلة من واو كما أبدلت في إشاح ووشاح، وإسادة ووسادة؛ وروي عن الخليل. وروي عن الضحاك أنه قال: إنما سمي "الله" إلها، لأن الخلق يتألهون إليه في حوائجهم، ويتضرعون إليه عند شدائدهم. وذكر عن الخليل بن أحمد أنه قال: لأن الخلق يألهون إليه (بنصب اللام) ويألهون أيضا (بكسرها) وهما لغتان. وقيل: إنه مشتق من الارتفاع؛ فكانت العرب تقول لكل شيء مرتفع: لاهاً، فكانوا يقولون إذا طلعت الشمس: لاهت. وقيل: هو مشتق من أله الرجل إذا تعبد. وتأله إذا تنسك؛ ومن ذلك قوله تعالى: "ويذرك وإلاهتك" [الأعراف:127] على هذه القراءة؛ فإن ابن عباس وغيره قالوا: وعبادتك. قالوا: فاسم الله مشتق من هذا، فالله سبحانه معناه المقصود بالعبادة، ومنه قول الموحدين: إلا إله إلا الله، معناه لا معبود غير الله. و"إلا" في الكلمة بمعنى غير، لا بمعنى الاستثناء. وزعم بعضهم أن الأصل فيه "الهاء" التي هي الكناية عن الغائب، وذلك أنهم أثبتوه موجوداً في فطر عقولهم فأشاروا إليه بحرف الكناية عن الغائب، وذلك أنهم أثبتوه موجوداً في فطر عقولهم فأشاروا إليه بحرف الكناية ثم زيدت فيه لام الملك إذ قد علموا أنه خالق الأشياء ومالكها فصار "له" ثم زيدت فيه الألف واللام تعظيماً وتفخيماً.[/font]
[font=&quot] القول الثاني: ذهب إليه جماعة من العلماء أيضاً منهم الشافعي وأبو المعالي والخطابي والغزالي والمفضل وغيرهم، وروي عن الخليل وسيبويه: أن الألف واللام لازمة له لا يجوز حذفهما منه. قال الخطابي: والدليل على أن الألف واللام من بنية هذا الاسم، ولم يدخلا للتعريف: دخول حرف النداء عليه؛ كقولك: يا الله، وحروف النداء لا تجتمع مع الألف واللام للتعريف؛ ألا ترى أنك لا تقول: يا الرحمن ولا يا الرحيم، كما تقول: يا الله، فدل على أنهما من بنية الاسم. والله أعلم.[/font]
 
[font=&quot]@ واختلفوا أيضاً في اشتقاق اسمه الرحمن، فقال بعضهم: لا اشتقاق له لأنه من الأسماء المختصة به سبحانه، ولأنه لو كان مشتقاً من الرحمة لا تصل بذكر المرحوم، فجاز أن يقال: الله رحمن بعباده، كما يقال: رحيم بعباده. وأيضاً لو كان مشتقاً من الرحمة لم تنكره العرب حين سمعوه، إذ كانوا لا ينكرون رحمة ربهم، وقد قال الله عز وجل: "وإذ قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن" [الفرقان:60] الآية. ولما كتب علي رضي الله عنه في صلح الحديبية بأمر النبي صلى الله عليه وسلم: "بسم الله الرحمن الرحيم" قال سهيل بن عمرو: أما "بسم الله الرحمن الرحيم" فما ندري ما "بسم الله الرحمن الرحيم"! ولكن اكتب ما نعرف: باسمك اللهم، الحديث. قال ابن العربي: إنما جهلوا الصفة دون الموصوف، واستدل على ذلك بقولهم: وما الرحمن؟ ولم يقولوا: ومن الرحمن؟ قال ابن الحصار: وكأنه رحمه الله لم يقرأ الآية الأخرى: "وهم يكفرون بالرحمن" [الرعد:30] وذهب الجمهور من الناس إلى أن "الرحمن" مشتق من الرحمة مبني على المبالغة؛ ومعناه ذو الرحمة الذي لا نظير له فيها، فلذلك لا يثنى ولا يجمع كما يثنى "الرحيم" ويجمع.[/font]
[font=&quot] قال ابن الحصار: ومما يدل على الاشتقاق ما خرجه الترمذي وصححه عن عبدالرحمن بن عوف أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول: (قال الله عز وجل أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته). وهذا نص من الاشتقاق، فلا معنى للمخالفة والشقاق، وإنكار العرب له لجهلهم بالله وبما وجب له.[/font]
[font=&quot]@ زعم المبرد فيما ذكر ابن الأنباري في كتاب "الزاهر" له: أن "الرحمن" اسم عبراني جاء معه بـ "الرحيم". وأنشد:[/font]
[font=&quot]لن تدركوا المجد أو تشروا عباءكم بالخز أو تجعلوا الينبوت ضمرانا[/font]
[font=&quot]أو تتركون إلى القسين هجرتكم ومسحكم صلبهم رحمان قربانا[/font]
[font=&quot]قال أبو إسحاق الزجاج في معاني القرآن: وقال أحمد بن يحيى: "الرحيم" عربي و"الرحمن" عبراني، فلهذا جمع بينهما. وهذا القول مرغوب عنه. وقال أبو العباس: النعت قد يقع للمدح، كما تقول: قال جرير الشاعر: وروى مطرف عن قتادة في قول الله عز وجل: "بسم الله الرحمن الرحيم" قال: مدح نفسه. قال أبو إسحاق وهذا قول حسن. وقال قطرب: يجوز أن يكون جمع بينهما للتوكيد. قال أبو إسحاق: وهذا قول حسن. وفي التوكيد أعظم الفائدة، وهو كثير في كلام العرب، ويستغني عن الاستشهاد، والفائدة في ذلك ما قاله محمد بن يزيد: إنه تفضل بعد تفضل، وإنعام بعد إنعام، وتقوية لمطامع الراغبين، ووعد لا يخيب آمله.[/font]
[font=&quot]@ واختلفوا هل هما بمعنى واحد أو بمعنيين؟ فقيل: هما بمعنى واحد؛ كندمان ونديم. قاله أبو عبيدة. وقيل: ليس بناء فعلان كفعيل، فإن فعلان لا يقع ألا على مبالغة الفعل، نحو قولك: رجل غضبان، للمتلىء غضباً. وفعيل قد يكون بمعنى الفاعل والمفعول. قال عملس:[/font]
[font=&quot]فأما إذا عضت بك الحرب عضة فإنك معطوف عليك رحيم[/font]
[font=&quot]فـ "الرحمن" خاص الاسم عام الفعل. و"الرحيم" عام الاسم خاص الفعل. هذا قول الجمهور. قال أبو علي الفارسي: "الرحمن" اسم عام في جميع أنواع الرحمة، يختصر به الله. "والرحيم" إنما هو في وجهة المؤمنين؛ كما قال تعالى: "وكان بالمؤمنين رحيما" [الأحزاب:43]. وقال العرزمي: "الرحمن" بجميع خلقه في الأمطار ونعم الحواس والنعم العامة، "والرحيم" بالمؤمنين في الهداية لهم، واللطف بهم. وقال ابن المبارك: "الرحمن" إذا سئل أعطي، و"الرحيم" إذا لم يسأل غضب. وروى ابن ماجة في سننه والترمذي في جامعه عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يسأل الله يغضب عليه" لفظ الترمذي. وقال ابن ماجة: "من لم يدع الله سبحانه غضب عليه". وقال: سألت أبا زرعة عن أبي صالح هذا، فقال: هو الذي يقال له: الفارسي وهو خوزي ولا أعرف اسمه. وقد أخذ بعض الشعراء هذا المعنى فقال:[/font]
[font=&quot] الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب[/font]
[font=&quot]وقال ابن عباس: هما اسمان رقيقان، أحدهما أرق من الآخر، أي أكثر رحمة.[/font]
[font=&quot] قال الخطابي: وهذا مشكل؛ لأن الرقة لا مدخل لها في شيء من صفات الله تعالى. وقال الحسين بن الفضل البجلي: هذا وهم من الراوي، لأن الرقة ليست من صفات الله تعالى في شيء، وإنما هما اسمان رفيقان أحدهما أرفق من الآخر، والرفق من صفات الله عز وجل؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف).[/font]
[font=&quot]@ أكثر العلماء على أن "الرحمن" مختص بالله عز وجل، لا يجوز أن يسمى به غيره، ألا تراه قال: "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن" [الإسراء:110] فعادل الاسم الذي لا يشركه فيه غيره. وقال: "واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون" [الزخرف:45] فأخبر أن "الرحمن" هو المستحق للعبادة جل وعز. وقد تجاسر مسيلمة الكذاب - لعنه الله - فتسمى برحمان اليمامة، ولم يتسم به حتى قرع مسامعه نعت الكذاب فألزمه الله تعالى نعت الكذاب لذلك، وأن كان كل كافر كاذباً، فقد صار هذا الوصف لمسيلمة علماً يعرف به، ألزمه الله إياه. وقد قيل في اسمه الرحمن: إنه اسم الله الأعظم؛ ذكره ابن العربي.[/font]
[font=&quot]@ "الرحيم" صفة مطلقة للمخلوقين، ولما في "الرحمن" من العموم قدم في كلامنا على "الرحيم" مع موافقة التنزيل؛ وقيل: إن معنى "الرحيم" أي بالرحيم وصلتم إلى الله وإلى الرحمن، فـ "الرحيم" نعت محمد صلى الله عليه وسلم؛ أي وبمحمد صلى الله عليه وسلم وصلتم إلي، أي باتباعه وبما جاء به وصلتم إلى ثوابي وكرامتي والنظر إلى وجهي؛ والله أعلم.[/font]
[font=&quot]@ روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال في قوله "بسم الله": إنه شفاء من كل داء، وعون على كل دواء. وأما "الرحمن" هو عون لكل من آمن به، وهو اسم لم يسم به غيره. وأما "الرحيم"، فهو لمن تاب وآمن وعمل صالحاً.[/font]
[font=&quot] وقد فسره بعضهم على الحروف؛ فروي عن عثمان بن عفان أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير "بسم الله الرحمن الرحيم" فقال: (أما الباء فبلاء الله وروحه ونضرته وبهاؤه وأما السين فسناء الله وأما الميم فملك الله وأما الله فلا إله غيره وأما الرحمن فالعاطف على البر والفاجر من خلقه وأما الرحيم فالرفيق بالمؤمنين خاصة). وروي عن كعب الأحبار أنه قال: الباء بهاؤه والسين سناؤه فلا شيء أعلى منه والميم ملكه وهو على كل شيء قدير فلا شيء يعازه. وقد قيل: إن كل حرف هو افتتاح اسم من أسمائه؛ فالباء مفتاح اسمه بصير، والسين مفتاح اسمه سميع، والميم مفتاح اسمه مليك، والألف مفتاح اسمه الله، واللام مفتاح اسمه لطيف، والهاء مفتاح اسمه هادي، والراء مفتاح اسمه رازق، والحاء مفتاح اسمه حليم، والنون مفتاح اسمه نور؛ ومعنى هذا كله دعاء الله تعالى عند افتتاح كل شيء.[/font]
[font=&quot]@ واختلف في وصل "الرحيم" بـ "الحمد لله"؛ فروي عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الرحيم. الحمد" يسكن الميم ويقف عليها، ويبتدئ بألف مقطوعة. وقرأ به قوم من الكوفيين. وقرأ جمهور الناس: "الرحيم الحمد"، تعرب "الرحيم" بالخفض وبوصل الألف من "الحمد". وحكى الكسائي عن بعض العرب أنها تقرأ "الرحيمَ الحمد" بفتح الميم وصلة الألف؛ كأنه سكنت الميم وقطعت الألف ثم ألقيت حركتها على الميم وحذفت. قال ابن عطية: ولم ترو عن هذه قراءة عن أحد فيما علمت. وهذا نظر يحيى بن زياد في قوله تعالى: "الَم الله".[/font]
[font=&quot]*2* سورة الفاتحة[/font]
[font=&quot]*3* الباب الأول في فضائلها وأسمائها[/font]
[font=&quot]@ روى الترمذي عن أبي بن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن وهي السبع المثاني وهي مقسومة بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل). أخرج مالك عن العلاء بن عبدالرحمن بن يعقوب: أن أبا سعيد مولى (عبدالله بن) عامر بن كريز أخبره أن رسول الله صلى الله عليه سلم نادى أبيّ بن كعب وهو يصلي، فذكر الحديث. قال ابن عبدالبر: أبو سعيد لا يوقف له على اسم وهو معدود في أهل المدينة. روايته عن أبي هريرة وحديثه هذا مرسل، وقد روي هذا الحديث عن أبي سعيد بن المعلى رجل من الصحابة لا يوقف على اسمه أيضا، رواه عنه حفص بن عاصم وعبيد بن حنين.[/font]
[font=&quot] قلت: كذا قال في التمهيد: "لا يوقف له على اسم". وذكر في كتاب الصحابة الاختلاف في اسمه. والحديث خرجه البخاري عن أبي سعيد بن المعلى قال: كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه فقلت: يا رسول الله إني كنت أصلي فقال: ألم يقل الله "استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم" [الأنفال: 24] - ثم قال: - (إني لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد ثم أخذ بيدي فلما أراد أن يخرج قلت له: ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن؟ قال: الحمد لله رب العالمين هي السبع الثماني والقرآن العظيم الذي أوتيته). قال ابن عبدالبر وغيره: أبو سعيد بن المعلى من جلة الأنصار وسادات الأنصار تفرد به البخاري واسمه رافع، ويقال: الحارث بن نفيع بن المعلى، ويقال: أوس بن المعلى، ويقال: أبو سعيد بن أوس بن المعلى، توفي سنة أربع وسبعين وهو ابن أربع وستين سنة وهو أول من صلى إلى القبلة حين حوّلت وسيأتي. وقد أسند حديث أبيٍّ يزيد بن زريع قال: حدثنا روح بن القاسم عن العلاء بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي وهو يصلي فذكر الحديث بمعناه.[/font]
[font=&quot] وذكر ابن الأنباري في كتاب الرد له: حدثني أبي حدثني أبو عبيدالله الوراق حدثنا أبو داود حدثنا شيبان عن منصور عن مجاهد قال: إن إبليس - لعنه الله - رنّ أربع رنات: حين لعن وحين أهبط من الجنة وحين بعث محمد صلى الله عليه وسلم وحين أنزلت فاتحة الكتاب، وأنزلت بالمدينة.[/font]
 
[font=&quot]@ اختلف العلماء في تفضيل بعض السور والآي على بعض، وتفضيل بعض أسماء الله تعالى الحسنى على بعض فقال قوم: لا فضل لبعض على بعض لأن الكل كلام الله وكذلك أسماؤه لا مفاضلة بينها. ذهب إلى هذا الشيخ أبو الحسن الأشعري والقاضي أبو بكر بن الطيب وأبو حاتم محمد بن حبان البستي وجماعة من الفقهاء. وروي معناه عن مالك. قال يحيى بن يحيى: تفضيل بعض القرآن على بعض خطأ، وكذلك كره مالك أن تعاد سورة أو تردد دون غيرها. وقال عن مالك في قول الله تعالى: "نأت بخير منها أو مثلها" [البقرة: 106] قال: محكمة مكان منسوخة. وروى ابن كنانة مثل ذلك كله عن مالك. واحتج هؤلاء بأن قالوا: إن الأفضل يشعر بنقص المفضول والذاتية في الكل واحدة وهي كلام الله وكلام الله تعالى لا نقص فيه. قال البستي: ومعنى هذه اللفظة (ما في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن): أن الله تعالى لا يعطي لقارئ التوراة والإنجيل من الثواب مثل ما يعطي لقارئ أم القرآن إذ الله بفضله هذه الأمة على غيرها من الأمم وأعطاها من الفضل على قراءة كلامه أكثر مما أعطى غيرها من الفضل على قراءة كلامه وهو فضل منه لهذه الأمة. قال ومعنى قوله: (أعظم سورة) أراد به في الأجر لا أن بعض القرآن أفضل من بعض. وقال قوم بالتفضيل وأن ما تضمنه قوله تعالى "إلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم" [البقرة: 163] وآية الكرسي وآخر سورة الحشر وسورة الإخلاص من الدلالات على وحدانيته وصفاته ليس موجودا مثلا في "تبت يدا أبي لهب" [المسد: 1] وما كان مثلها.[/font]
[font=&quot] والتفضيل إنما هو بالمعاني العجيبة وكثرتها لا من حيث الصفة وهذا هو الحق. وممن قال بالتفضيل إسحاق بن راهوية وغيره من العلماء والمتكلمين وهو اختيار القاضي أبي بكر بن العربي وابن الحصار لحديث أبي سعيد بن المعلى وحديث أبي بن كعب أنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبي أي آية معك في كتاب الله أعظم) قال فقلت: "الله لا إله إلا هو الحي القيوم" [البقرة: 255]. قال: فضرب في صدري وقال: (ليهنك العلم يا أبا المنذر) أخرجه البخاري ومسلم.[/font]
[font=&quot] قال ابن الحصار: عجبي ممن يذكر الاختلاف مع هذه النصوص.[/font]
[font=&quot] وقال ابن العربي: قوله: (ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها) وسكت عن سائر الكتب كالصحف المنزلة والزبور وغيرها لأن هذه المذكورة أفضلها وإذا كان الشيء أفضل الأفضل صار أفضل الكل. كقولك: زيد أفضل العلماء فهو أفضل الناس. وفي الفاتحة من الصفات ما ليس لغيرها حتى قيل: إن جميع القرآن فيها. وهي خمس وعشرون كلمة تضمنت جميع علوم القرآن. ومن شرفها أن الله سبحانه قسمها بينه وبين عبده ولا تصح القربة إلا بها ولا يلحق عمل بثوابها وبهذا المعنى صارت أم القرآن العظيم كما صارت "قل هو الله أحد" تعدل ثلث القرآن إذ القرآن توحيد وأحكام ووعظ و"قل هو الله أحد" فيها التوحيد كله وبهذا المعنى وقع البيان في قول عليه السلام لأبي. (أي آية في القرآن أعظم) قال: "الله لا إله إلا هو الحي القيوم" [البقرة: 255]. وإنما كانت أعظم آية لأنها توحيد كلها كما صار قوله: (أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له) أفضل الذكر لأنها كلمات حوت جميع العلوم في التوحيد والفاتحة تضمنت التوحيد والعبادة والوعظ والتذكير ولا يستبعد ذلك في قدرة الله تعالى.[/font]
[font=&quot]@ روى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فاتحة الكتاب وآية الكرسي وشهد الله أنه لا إله إلا هو وقل اللهم مالك الملك هذه الآيات معلقات بالعرش ليس بينهن وبين الله حجاب). أسنده أبو عمرو الداني في كتاب البيان له.[/font]
[font=&quot]@ في أسمائها - وهي اثنا عشر اسما: (الأول): الصلاة، قال الله تعالى: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين) الحديث. وقد تقدم. (الثاني): [سورة] الحمد، لأن فيها ذكر الحمد كما يقال: سورة الأعراف والأنفال والتوبة ونحوها. (الثالث): فاتحة الكتاب، من غير خلاف بين العلماء، وسميت بذلك لأنه تفتتح قراءة القرآن بها لفظا وتفتتح بها الكتابة في المصحف خطاً وتفتتح بها الصلوات. (الرابع): أم الكتاب، وفي هذا الاسم خلاف جوزه الجمهور وكرهه أنس والحسن وابن سيرين. قال الحسن: أم الكتاب الحلال والحرام، قال الله تعالى: "آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات" [آل عمران: 7]. وقال أنس وابن سيرين: أم الكتاب اسم اللوح المحفوظ. قال الله تعالى: "وإنه في أم الكتاب". [الزخرف: 4]. (الخامس): أم القرآن، واختلف فيه أيضا فجوزه الجمهور وكرهه أنس وابن سيرين والأحاديث الثابتة ترد هذين القولين. روى الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله أم القران وأم الكتاب والسبع المثاني) قال: هذا حديث حسن صحيح. وفي البخاري قال: وسميت أم الكتاب لأنه يبتدأ بكتابتها في المصاحف ويبدأ بقراءتها في الصلاة. وقال يحيى بن يعمر: أم القرى: مكة، وأم خراسان: مرو، وأم القرآن: سورة الحمد. وقيل: سميت أم القرآن لأنها أوله ومتضمنة لجميع علومه، وبه سميت مكة أم القرى لأنها أول الأرض ومنها دحيت، ومنه سميت الأم أما لأنها أصل النسل، والأرض أما في قول أمية بن أبي الصلت:[/font]
[font=&quot] فالأرض معقلنا وكانت أمنا فيها مقابرنا وفيها نولد[/font]
[font=&quot]ويقال لراية الحرب: أم، لتقدمها واتباع الجيش لها. وأصل أم أمهة، ولذلك تجمع على أمهات قال الله تعالى: "وأمهاتكم". ويقال أمات بغير هاء. قال:[/font]
[font=&quot] فَرَجْتَ الظلام بأمّاتكا[/font]
[font=&quot]وقيل: إن أمهات في الناس، وأمّات في البهائم، حكاه ابن فارس في المجمل.[/font]
[font=&quot](السادس): المثاني، سميت بذلك لأنها تثنى في كل ركعة، وقيل: سميت بذلك لأنها استثنيت لهذه الأمة فلم تنزل على أحد قبلها ذخرا لها. (السابع): القرآن العظيم، سميت بذلك لتضمنها جميع علوم القرآن وذلك أنها تشتمل على الثناء على الله عز وجل بأوصاف كماله وجلاله وعلى الأمر بالعبادات والإخلاص فيها والاعتراف بالعجز عن القيام بشيء منها إلا بإعانته تعالى وعلى الابتهال إليه في الهداية إلى الصراط المستقيم وكفاية أحوال الناكثين وعلى بيانه عاقبة الجاحدين. (الثامن): الشفاء، روى الدارمي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فاتحة الكتاب شفاء من كل سم). (التاسع): الرقية، ثبت ذلك من حديث أبى سعيد الخدري وفيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي رقى سيد الحي: (ما أدراك أنها رقية) فقال: يا رسول الله شيء ألقى في روعي... الحديث. خرّجه الأئمة وسيأتي بتمامه. (العاشر): الأساس، شكا رجل إلى الشعبي وجع الخاصرة، فقال: عليك بأساس القرآن فاتحة الكتاب، سمعت ابن عباس يقول: لكل شيء أساس وأساس الدنيا مكة لأنها منها دحيت، وأساس السماوات عَريباً وهي السماء السابعة، وأساس الأرض عجيباً وهي الأرض السابعة السفلى، وأساس الجنان جنة عدن وهي سرة الجنان عليها أسست الجنة، وأساس النار جهنم وهي الدركة السابعة السفلى عليها أسست الدركات، وأساس الخلق آدم وأساس الأنبياء نوح وأساس بني إسرائيل يعقوب وأساس الكتب القرآن وأساس القرآن الفاتحة وأساس الفاتحة بسم الله الرحمن الرحيم فإذا اعتللت أو اشتكيت فعليك بالفاتحة تشفى. (الحادي عشر): الوافية، قاله سفيان بن عيينة، لأنها لا تتنصف ولا تحتمل الاختزال، ولو قرأ من سائر السور نصفها في ركعة ونصفها الآخر في ركعة لأجزأ ولو نصفت الفاتحة في ركعتين لم يجز. (الثاني عشر): الكافية، قال يحيى بن أبي كثير: لأنها تكفي عن سواها ولا يكفي سواها عنها. يدل عليه ما روى محمد بن خلاد الإسكندراني قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أم القرآن عوض من غيرها وليس غيرها منها عوضا).[/font]
[font=&quot]@ قال المهلب: إن موضع الرقية منها إنما هو "إياك نعبد وإياك نستعين" [الفاتحة: الآية 5]. وقيل: السورة كلها رقية لقول عليه السلام للرجل لما أخبره: (وما أدراك أنها رقية) ولم يقل: أن فيها رقية، فدل هذا على أن السورة بأجمعها رقية لأنها فاتحة الكتاب ومبدؤه ومتضمنة لجميع علومه كما تقدم والله أعلم. [/font]
[font=&quot]@ ليس في تسميتها بالمثاني وأم الكتاب ما يمنع من تسمية غيرها بذلك، قال الله عز وجل: "كتابا متشابها مثاني" [الزمر: 23] فأطلق على كتابه: مثاني لأن الأخبار تثنى فيه. وقد سميت السبع الطول أيضا مثاني لأن الفرائض والقصص تثنى فيها. قال ابن عباس: أوتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعا من المثاني قال: السبع الطول. ذكره النسائي وهي من "البقرة" إلى "الأعراف" ست واختلفوا في السابعة فقيل: يونس وقيل: الأنفال والتوبة وهو قول مجاهد وسعيد بن جبير. وقال أعشى همدان:[/font]
[font=&quot] فلجوا المسجد وادعوا ربكم وادرسوا هذي المثاني والطُّوَل[/font]
[font=&quot]وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة "الحجر" إن شاء الله تعالى.[/font]
[font=&quot]@ المثاني جمع مثنى وهي التي جاءت بعد الأولى والطول جمع أطول. وقد سميت الأنفال من المثاني لأنها تتلو الطول في القدر. وقيل: هي التي تزيد آياتها على المفضل وتنقص عن المئين. والمئون: هي السور التي تزيد كل واحدة منها على مائة آية.[/font]
[font=&quot]*3* الباب الثاني - في نزولها وأحكامها:[/font]
[font=&quot]@ أجمعت الأمة على أن فاتحة الكتاب سبع آيات إلا ما روي عن حسين الجعفي: أنها ست وهذا شاذ. وإلا ما روي عن عمرو بن عبيد أنه جعل "إياك نعبد" آية وهي على عدة ثماني آيات وهذا شاذ. وقوله تعالى: "ولقد آتيناك سبعا من المثاني" [الحجر: 87] قوله: (قسمت الصلاة) الحديث يرد هذين القولين.[/font]
[font=&quot] وأجمعت الأمة أيضا على أنها من القرآن. فإن قيل: لو كانت قرآنا لأثبتها عبدالله بن مسعود في مصحفه فلما لم يثبتها دل على أنها ليست من القرآن كالمعوذتين عنده.[/font]
[font=&quot] فالجواب ما ذكره أبو بكر الأنباري قال: حدثنا الحسن بن الحباب حدثنا سليمان بن الأشعث حدثنا ابن أبي قدامة حدثنا جرير عن الأعمش قال: أظنه عن إبراهيم قال: قيل لعبدالله بن مسعود: لِمَ لَمْ تكتب فاتحة الكتاب في مصحفك قال لو كتبتها لكتبتها مع كل سورة. قال أبو بكر: يعني أن كل ركعة سبيلها أن تفتتح بأم القرآن قبل السورة المتلوة بعدها فقال: اختصرت بإسقاطها ووثقت بحفظ المسلمين لها ولم أثبتها في موضع فيلزمني أن أكتبها مع كل سورة، إذ كانت تتقدمها في الصلاة. [/font]
[font=&quot]@ اختلفوا أهي مكية أم مدنية؟ فقال ابن عباس وقتادة وأبو العالية الرياحي - واسمه رُفيع - وغيرهم: هي مكية. وقال أبو هريرة ومجاهد وعطاء بن يسار والزهري وغيرهم: هي مدنية. ويقال: نزل نصفها بمكة ونصفها بالمدينة. حكاه أبو الليث نصر بن محمد بن إبراهيم السمرقندي في تفسيره. والأول أصح لقوله تعالى: "ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم" [الحجر: 87] والحجر مكية بإجماع. ولا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة. وما حفظ أنه كان في الإسلام قط صلاة بغير "الحمد لله رب العالمين" يدل على هذا قوله عليه السلام: (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب). وهذا خبر عن الحكم لا عن الابتداء، والله أعلم.[/font]
[font=&quot] وقد ذكر القاضي ابن الطيب اختلاف الناس في أول ما نزل من القرآن فقيل: المدثر وقيل: اقرأ وقيل: الفاتحة. وذكر البيهقي في دلائل النبوة عن أبي ميسرة عمرو بن شَرَحبيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة: (إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء وقد والله خشيت أن يكون هذا أمراً) قالت: معاذ الله ما كان الله ليفعل بك فوالله إنك لتؤدي الأمانة وتصل الرحم وتصدق الحديث. فلما دخل أبو بكر - وليس رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم - ذكرت خديجة حديثه له قالت: يا عتيق اذهب مع محمد إلى ورقة بن نوفل. فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ أبو بكر بيده فقال: انطلق بنا إلى ورقة فقال: (ومن أخبرك). قال: خديجة فانطلقا إليه فقصا عليه فقال: (إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي يا محمد يا محمد فأنطلق هاربا في الأرض) فقال: لا تفعل، إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول ثم ائتني فأخبرني. فلما خلا ناداه: يا محمد! قل "بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين - حتى بلغ - ولا الضالين"، قل: لا إله إلا الله. فأتى ورقة فذكر ذلك له، فقال له ورقة: أبشر ثم أبشر، فأنا أشهد أنك الذي بشر به عيسى ابن مريم وأنك على مثل ناموس موسى وأنك نبي مرسل وأنك سوف تؤمر بالجهاد بعد يومك هذا، وإن يدركني ذلك لأجاهدن معك. فلما توفى ورقة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد رأيت القَسّ في الجنة عليه ثياب الحرير لأنه آمن بي وصدقني) يعني ورقة. قال البيهقي رضي الله عنه: هذا منقطع. يعني هذا الحديث، فإن كان محفوظا فيحتمل أن يكون خبرا عن نزولها بعد ما نزل عليه "اقرأ باسم ربك" [العلق: 1] و"يا أيها المدثر" [المدثر: 1].[/font]
 
[font=&quot]@ قال ابن عطية: ظن بعض العلماء أن جبريل عليه السلام لم ينزل بسورة الحمد لما رواه مسلم عن ابن عباس قال: بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضا من فوقه فرفع رأسه فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم فنزل منه ملك فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته. قال ابن عطية: وليس كما ظن فإن هذا الحديث يدل على أن جبريل عليه السلام تقدم الملك إلى النبي صلى الله عليه وسلم مُعْلِما به وبما ينزل معه، وعلى هذا يكون جبريل شارك في نزولها والله أعلم.[/font]
[font=&quot] قلت: الظاهر من الحديث يدل على أن جبريل عليه السلام لم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم بشيء من ذلك. وقد بينا أن نزولها كان بمكة نزل بها جبريل عليه السلام لقوله تعالى: "نزل به الروح الأمين" [الشعراء: 193] وهذا يقتضي جميع القرآن فيكون جبريل عليه السلام نزل بتلاوتها بمكة ونزل الملك بثوابها بالمدينة. والله أعلم. وقد قيل: إنها مكية مدنية نزل بها جبريل مرتين حكاه الثعلبي. وما ذكرناه أولى. فانه جمع بين القرآن والسنة ولله الحمد والمنة.
[/font]

[font=&quot]
[/font]

[font=&quot]@ قد تقدم أن البسملة ليست بآية منها على القول الصحيح، وإذا ثبت ذلك فحكم المصلي إذا كبر أن يصله بالفاتحة ولا يسكت، ولا يذكر توجيها ولا تسبيحا، لحديث عائشة وأنس المتقدمين وغيرهما وقد جاءت أحاديث بالتوجيه والتسبيح والسكوت، قال بها جماعة من العلماء فروي عن عمر بن الخطاب وعبدالله بن مسعود رضي الله عنهما أنهما كانا يقولان إذا افتتحا الصلاة: سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك. وبه قال سفيان وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي. وكان الشافعي يقول بالذي روي عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان إذا افتتح الصلاة كبر ثم قال: (وجهت وجهي) الحديث، ذكره مسلم، وسيأتي بتمامه في آخر سورة الأنعام، وهناك يأتي القول في هذه المسألة مستوفى إن شاء الله.[/font]
[font=&quot] قال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا كبر في الصلاة سكت هنيهة قبل أن يقرأ، يقول: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس اللهم أغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد) واستعمل ذلك أبو هريرة. وقال أبو سلمة بن عبدالرحمن: للإمام سكتتان فاغتنموا فيهما القراءة. وكان الأوزاعي وسعيد بن عبدالعزيز وأحمد بن حنبل يميلون إلى حديث النبي في هذا الباب.
[/font]

[font=&quot]
[/font]

[font=&quot]@ واختلف العلماء في وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة فقال مالك وأصحابه: هي متعينة للإمام والمنفرد في كل ركعة. قال ابن خويز مَنداد البصري المالكي: لم يختلف قول مالك أنه من نسيها في صلاة ركعة من صلاة ركعتين أن صلاته تبطل ولا تجزيه. واختلف قوله فيمن تركها ناسيا في ركعة من صلاة رباعية أو ثلاثية فقال مرة: يعيد الصلاة وقال مرة أخرى: يسجد سجدتي السهو، وهي رواية ابن عبدالحكم وغيره عن مالك. قال ابن خويز منداد وقد قيل: إنه يعيد تلك الركعة ويسجد للسهو بعد السلام. قال ابن عبدالبر: الصحيح من القول إلغاء تلك الركعة ويأتي بركعة بدلا منها كمن أسقط سجدة سهوا. وهو اختيار ابن القاسم. وقال الحسن البصري وأكثر أهل البصرة والمغيرة بن عبدالرحمن المخزومي المدني: إذا قرأ بأم القرآن مرة واحدة في الصلاة أجزأه ولم تكن عليه إعادة لأنها صلاة قد قرأ فيها بأم القرآن وهي تامة لقوله عليه السلام: (لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن) وهذا قد قرأ بها.[/font]
[font=&quot] قلت: ويحتمل لا صلاة لمن لم يقرأ بها في كل ركعة، وهو الصحيح على ما يأتي. ويحتمل لا صلاة لمن لم يقرأ بها في أكثر عدد الركعات، وهذا هو سبب الخلاف والله أعلم.[/font]
[font=&quot] وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي: إن تركها عامدا في صلاته كلها وقرأ غيرها أجزأه على اختلاف عن الأوزاعي في ذلك. وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن: أقله ثلاث آيات أو آية طويلة كآية الدين. وعن محمد بن الحسن أيضا قال: أسوغ الاجتهاد في مقدار آية ومقدار كلمة مفهومة نحو: "الحمد لله" ولا أسوغه في حرف لا يكون كلاما.[/font]
[font=&quot] وقال الطبري: يقرأ المصلى بأم القرآن في كل ركعة فإن لم يقرأ بها لم يجزه إلا مثلها من القرآن عدد آيها وحروفها. قال ابن عبدالبر: وهذا لا معنى له لأن التعيين لها والنص عليها قد خصها بهذا الحكم دون غيرها ومحال أن يجيء بالبدل منها من وجبت عليه فتركها وهو قادر عليها وإنما عليه أن يجيء بها ويعود إليها كسائر المفروضات المتعينات في العبادات.[/font]
[font=&quot]
[/font]

[font=&quot]@ وأما المأموم فإن أدرك الإمام راكعا فالإمام يحمل عنه القراءة لإجماعهم على أنه إذا أدركه راكعا أنه يكبر ويركع ولا يقرأ شيئا وإن أدركه قائما فإنه يقرأ ولا ينبغي لأحد أن يدع القراءة خلف إمامه في صلاة السر فإن فعل فقد أساء ولا شيء عليه عند مالك وأصحابه. وأما إذا جهر الإمام فلا قراءة بفاتحة الكتاب ولا غيرها في المشهور من مذهب مالك لقول الله تعالى: "وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا" [الأعراف: 204] وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما لي أنازع القرآن) وقول في الإمام: (إذا قرأ فأنصتوا) وقول: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة). [/font]
[font=&quot] وقال الشافعي فيما حكى عنه البويطي وأحمد بن حنبل: لا تجزئ أحدا صلاة حتى يقرأ بفاتحة الكتاب في كل ركعة، إماما كان أو مأموما، جهر إمامه أو أسر. وكان الشافعي بالعراق يقول في المأموم: يقرأ إذا أسر ولا يقرأ إذا جهر كمشهور مذهب مالك. وقال بمصر: فيما يجهر فيه الإمام بالقراءة قولان: أحدهما أن يقرأ والآخر يجزئه ألا يقرأ ويكتفي بقراءة الإمام. حكاه ابن المنذر. وقال ابن وهب وأشهب وابن عبدالحكم وابن حبيب والكوفيون: لا يقرأ المأموم شيئا جهر إمامه أو أسر لقوله عليه السلام: (فقراءة الإمام له قراءة) وهذا عام ولقول جابر: من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل إلا وراء الإمام.
[/font]

[font=&quot]
[/font]

[font=&quot]@ الصحيح من هذه الأقوال قول الشافعي وأحمد ومالك في القول الآخر وأن الفاتحة متعينة في كل ركعة لكل أحد على العموم لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب) وقوله: (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القران فهي خداج) ثلاثا. وقال أبو هريرة: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنادي أنه: (لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد) أخرجه أبو داود. كما لا ينوب سجود ركعة ولا ركوعها عن ركعة أخرى فكذلك لا تنوب قراءة ركعة عن غيرها، وبه قال عبدالله بن عون وأيوب السختياني وأبو ثور وغيره من أصحاب الشافعي وداود بن علي، وروي مثله عن الأوزاعي وبه قال مكحول.[/font]
[font=&quot] وروي عن عمر بن الخطاب وعبدالله بن عباس وأبي هريرة وأبي بن كعب وأبي أيوب الأنصاري وعبدالله بن عمرو بن العاص وعبادة بن الصامت وأبي سعيد الخدري وعثمان بن أبي العاص وخوّات بن جُبير أنهم قالوا: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب. وهو قول ابن عمر والمشهور من مذهب الأوزاعي، فهؤلاء الصحابة بهم القدوة وفيهم الأسوة كلهم يوجبون الفاتحة في كل ركعة.[/font]
[font=&quot] وقد أخرج الإمام أبو عبدالله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني في سننه ما يرفع الخلاف ويزيل كل احتمال فقال: حدثنا أبو ريب حدثنا محمد بن فضيل وحدثنا سويد بن سعيد حدثنا علي بن مسهر جميعا عن أبي سفيان السعدي عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد لله وسورة في فريضة أو غيرها). وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أنه عليه السلام قال للذي علمه الصلاة: (وأفعل ذلك في صلاتك كلها) وسيأتي. ومن الحجة في ذلك أيضا ما رواه أبو داود عن نافع بن محمود بن الربيع الأنصاري قال: أبطأ عبادة بن الصامت عن صلاة الصبح فأقام أبو نعيم المؤذن الصلاة فصلى أبو نعيم بالناس وأقبل عبادة بن الصامت وأنا معه حتى صففنا خلف أبي نعيم وأبو نعيم يجهر بالقراءة فجعل عبادة يقرأ بأم القرآن، فلما انصرف قلت لعبادة: سمعتك تقرأ بأم القرآن وأبو نعيم يجهر؟ قال: أجل! صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة فالتبست عليه فلما انصرف أقبل علينا بوجهه فقال: (هل تقرؤون إذا جهرت بالقراءة) فقال بعضنا: إنا نصنع ذلك قال: (فلا. وأنا أقول ما لي ينازعني القرآن فلا تقرؤوا بشيء من القرآن إذا جهرت إلا بأم القرآن). وهذا نص صريح في المأموم. وأخرجه أبو عيسى الترمذي من حديث محمد بن إسحاق بمعناه وقال: حديث حسن. والعمل على هذا الحديث في القراءة خلف الإمام عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي والتابعين وهو قول مالك بن أنس وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق يرون القراءة خلف الإمام. وأخرجه أيضا الدارقطني قال: هذا إسناد حسن، ورجاله كلهم ثقات، وذكر أن محمود بن الربيع كان يسكن إيلياء، وأن أبا نعيم أول من أذن في بيت المقدس. وقال أبو محمد عبدالحق: ونافع بن محمود لم يذكره البخاري في تاريخه ولا ابن أبي حاتم ولا أخرج له البخاري ومسلم شيئا. وقال فيه أبو عمر: مجهول. وذكر الدارقطني عن يزيد بن شريك قال: سألت عمر عن القراءة خلف الإمام فأمرني أن اقرأ قلت: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا، قلت: وإن جهرت، قال: وإن جهرت. قال الدارقطني: هذا إسناد صحيح. وروي عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإمام ضامن فما صنع فاصنعوا). قال أبو حاتم: هذا يصح لمن قال بالقراءة خلف الإمام وبهذا أفتى أبو هريرة الفارسي أن يقرأ بها في نفسه حين قال له: إني أحيانا أكون وراء الإمام، ثم استدل بقوله تعالى: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقرؤوا يقول العبد الحمد لله رب العالمين) الحديث.[/font]
[font=&quot]
[/font]

[font=&quot]@ أما ما استدل به الأولون بقول عليه السلام: (وإذا قرأ فأنصتوا) أخرجه مسلم من حديث أبي موسى الأشعري وقال: وفي حديث جرير عن سليمان عن قتادة من الزيادة (وإذا قرأ فأنصتوا) قال الدارقطني: هذه اللفظة لم يتابع سليمان التيمي فيها عن قتادة، وخالفه الحفاظ من أصحاب قتادة فلم يذكروها، منهم شعبة وهشام وسعيد بن أبي عروبة وهمام وأبو عوانة ومعمر وعدي بن أبي عمارة. قال الدارقطني: فإجماعهم يدل على وَهَمِه. وقد روي عن عبدالله بن عامر عن قتادة متابعة التيمي ولكن ليس هو بالقوي تركه القطّعان. وأخرج أيضا هذه الزيادة أبو داود من حديث أبي هريرة وقال: هذه الزيادة (إذا قرأ فأنصتوا) ليست بمحفوظة. وذكر أبو محمد عبدالحق: أن مسلما صحح حديث أبي هريرة وقال: هو عندي صحيح.[/font]
[font=&quot] قلت: ومما يدل على صحتها عنده إدخالها في كتابه من حديث أبي موسى وإن كانت مما لم يجمعوا عليها. وقد صححها الإمام أحمد بن حنبل وابن المنذر. وأما قوله تعالى: "وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا" [الأعراف: 204] فإنه نزل بمكة وتحريم الكلام في الصلاة نزل بالمدينة - كما قال زيد بن أرقم فلا حجة فيها فإن المقصود كان المشركين على ما قال سعيد بن المسيب. وقد روى الدارقطني عن أبي هريرة أنها نزلت في رفع الصوت خلف رسول الله. وقال: عبدالله بن عامر ضعيف. وأما قوله عليه السلام: (ما لي أنازع القرآن) فأخرجه مالك عن ابن شهاب عن ابن أكيمة الليثي، واسمه فيما قال مالك: عمرو وغيره يقول عامر وقيل يزيد وقيل عمارة وقيل عباد، يكنى أبا الوليد توفي سنة إحدى ومائة وهو ابن تسع وسبعين سنة، لم يرو عنه الزهري إلا هذا الحديث الواحد وهو ثقة وروى عنه محمد بن عمرو وغيره. والمعنى في حديثه: لا تجهروا إذا جهرت فإن ذلك تنازع وتجاذب وتخالج اقرؤوا في أنفسكم. يبينه حديث عبادة وفتيا الفاروق وأبي هريرة الراوي للحديثين. فلو فهم المنع جملة من قوله: (ما لي أنازع القرآن) لما أفتى بخلافه، وقول الزهري في حديث ابن أكيمة: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقراءة حين سمعوا ذلك من رسول الله يريد بالحمد على ما بينا وبالله توفيقنا.[/font]
[font=&quot] وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) فحديث ضعيف أسنده الحسن بن عمارة وهو متروك، وأبو حنيفة وهو ضعيف، كلاهما عن موسى بن أبي عائشة عن عبدالله بن شداد عن جابر. أخرجه الدارقطني وقال: رواه سفيان الثوري وشعبة وإسرائيل بن يونس وشريك وأبو خالد الدالاني وأبو الأحوص وسفيان بن عيينة وجرير بن عبدالحميد وغيرهم عن موسى بن أبي عائشة عن عبدالله بن شداد مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصواب. وأما قول جابر: من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل إلا وراء الإمام، فرواه مالك عن وهب بن كيسان عن جابر قوله. قال ابن عبدالبر: ورواه يحيى بن سلام صاحب التفسير عن مالك عن أبي نعيم وهب بن كيسان عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم وصوابه موقوف على جابر كما في الموطأ. وفيه من الفقه إبطال الركعة التي لا يقرأ فيها بأم القرآن، وهو يشهد لصحة ما ذهب إليه ابن القاسم ورواه عن مالك في إلغاء الركعة والبناء على غيرها ولا يعتد المصلي بركعة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب. وفيه أيضا أن الإمام قراءته لمن خلفه قراءة، وهذا مذهب جابر وقد خالفه فيه غيره.[/font]

 
[font=&quot]@ قال ابن العربي: لما قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) واختلف الناس في هذا الأصل هل يحمل هذا النفي على التمام والكمال أو على الإجزاء؟ اختلفت الفتوى بحسب اختلاف حال الناظر، ولما كان الأشهر في هذا الأصل والأقوى أن النفي على العموم كان الأقوى من رواية مالك أن من لم يقرأ الفاتحة في صلاته بطلت. ثم نظرنا في تكرارها في كل ركعة، فمن تأول قول النبي صلى الله عليه وسلم: (افعل ذلك في صلاتك كلها) لزمه أن يعيد القراءة كما يعيد الركوع والسجود. والله أعلم. [/font]
[font=&quot]@ ما ذكرناه في هذا الباب من الأحاديث والمعاني في تعيين الفاتحة يرد على الكوفيين قولهم في أن الفاتحة لا تتعين، وأنها وغيرها من آي القرآن سواء. وقد عينها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله كما ذكرناه، وهو المبين عن الله تعالى مراده في قوله: "وأقيموا الصلاة". وقد روى أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال: أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر. فدل هذا الحديث على أن قوله عليه السلام للأعرابي: (اقرأ ما تيسر معك من القرآن) ما زاد على الفاتحة، وهو تفسير قوله تعالى: "فاقرؤوا ما تيسر منه" [المزمل: 20] وقد روى مسلم عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القران - زاد في رواية - فصاعدا". وقوله عليه السلام: (هي خداج - ثلاثا - غير تمام) أي غير مجزئة بالأدلة المذكورة. والخداج: النقص والفساد. قال الأخفش: خدجت الناقة إذا ألقت ولدها لغير تمام، وأخدجت إذا قذفت به قبل وقت الولادة وإن كان تام الخلق.[/font]
[font=&quot] والنظر يوجب في النقصان ألا تجوز معه الصلاة، لأنها صلاة لم تتم ومن خرج من صلاته وهي لم تتم فعليه إعادتها كما أمر، على حسب حكمها. ومن أدعى أنها تجوز مع إقراره بنقصها فعليه الدليل، ولا سبيل إليه من وجه يلزم والله أعلم.[/font]
[font=&quot]@ روي عن مالك أن القراءة لا تجب في شيء في الصلاة وكذلك كان الشافعي يقول بالعراق فيمن نسيها، ثم رجع عن هذا بمصر فقال: لا تجزئ صلاة من يحسن فاتحة الكتاب إلا بها ولا يجزئه أن ينقص حرفا منها فإن لم يقرأها أو نقص منها حرفا أعاد صلاته وإن قرأ بغيرها. وهذا هو الصحيح في المسألة، وأما ما روي عن عمر رحمه الله أنه صلى المغرب فلم يقرأ فيها فذكر ذلك له فقال: كيف كان الركوع والسجود قالوا: حسن قال: لا بأس إذاً، فحديث منكر اللفظ منقطع الإسناد، لأنه يرويه إبراهيم بن الحارث التيمي عن عمر، ومرة يرويه إبراهيم عن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن عمر، وكلاهما منقطع لا حجة فيه وقد ذكره مالك في الموطأ وهو عند بعض الرواة وليس عند يحيى وطائفة معه، لأنه رماه مالك من كتابه بأخرة، وقال ليس عليه العمل لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج) وقد روي عن عمر أنه أعاد تلك الصلاة وهو الصحيح عنه. روى يحيى بن يحيى النيسابوري قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم النخعي عن همام بن الحارث أن عمر نسي القراءة في المغرب فأعاد بهم الصلاة. قال ابن عبدالبر: وهذا حديث متصل شهده همام من عمر، روي ذلك من وجوه. وروى أشهب عن مالك قال: سئل مالك عن الذي نسي القراءة، أيعجبك ما قال عمر؟ فقال: أنا أنكر أن يكون عمر فعله - وأنكر الحديث - وقال: يرى الناس عمر يصنع هذا في المغرب ولا يسبحون به! أرى أن يعيد الصلاة من فعل هذا.[/font]
[font=&quot]@ أجمع العلماء على أن لا صلاة إلا بقراءة، على ما تقدم من أصولهم في ذلك. وأجمعوا على أن لا توقيت في ذلك بعد فاتحة الكتاب إلا أنهم يستحبون ألا يقرأ مع فاتحة الكتاب إلا سورة واحدة لأنه الأكثر مما جاء عن النبي. قال مالك: وسنة القراءة أن يقرأ في الركعتين الأوليين بأم القرآن وسورة، وفي الأخريين بفاتحة الكتاب. وقال الأوزاعي: يقرأ بأم القرآن فإن لم يقرأ بأم القران وقرأ بغيرها أجزأه، وقال: وإن نسي أن يقرأ في ثلاث ركعات أعاد. وقال الثوري: يقرأ في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة ويسبح في الأخريين إن شاء، وإن شاء قرأ وإن لم يقرأ ولم يسبح جازت صلاته، وهو قول أبي حنيفة وسائر الكوفيين. قال ابن المنذر: وقد روينا عن علي بن أبى طالب رضي الله عنه أنه قال: اقرأ في الأوليين وسبح في الأخريين وبه قال النخعي. قال سفيان: فإن لم يقرأ في ثلاث ركعات أعاد الصلاة لأنه لا تجزئه قراءة ركعة. قال: وكذلك إن نسي أن يقرأ ركعة في صلاة الفجر. وقال أبو ثور: لا تجزئ صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب في كل ركعة، كقول الشافعي المصري وعليه جماعة أصحاب الشافعي، وكذلك قال ابن خويز منداد المالكي قال: قراءة الفاتحة واجبة عندنا في كل ركعة، وهذا هو الصحيح في المسألة. روى مسلم عن أبي قتادة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا فيقرأ في الظهر والعصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورتين، ويسمعنا الآية أحيانا، وكان يطول في الركعة الأولى من الظهر ويقصر الثانية وكذلك في الصبح. وفي رواية: ويقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب وهذا نص صريح وحديث صحيح لما ذهب إليه مالك. ونص في تعيّن الفاتحة في كل ركعة خلافا لمن أبى ذلك، والحجة في السنة لا فيما خالفها. [/font]
[font=&quot]@ ذهب الجمهور إلى أن ما زاد على الفاتحة من القراءة ليس بواجب، لما رواه مسلم عن أبي هريرة قال: في كل صلاة قراءة فما أسمعنا النبي صلى الله عليه وسلم أسمعناكم، وما أخفى منا أخفينا منكم، فمن قرأ بأم القرآن فقد أجزأت عنه ومن زاد فهو أفضل. وفي البخاري: وإن زدت فهو خير. وقد أبى كثير من أهل العلم ترك السورة لضرورة أو لغير ضرورة، منهم عمران بن حصين وأبو سعيد الخدري وخوات بن جبير ومجاهد وأبو وائل وابن عمر وابن عباس وغيرهم قالوا: لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب وشيء معها من القرآن، فمنهم من حد آيتين، ومنهم من حد آية، ومنهم من لم يحد، وقال: شيء من القرآن معها وكل هذا موجب لتعلم ما تيسر من القرآن على كل حال مع فاتحة الكتاب، لحديث عبادة وأبي سعيد الخدري وغيرهما. وفي المدونة: وكيع عن الأعمش عن خيثمة قال: حدثني من سمع عمر بن الخطاب يقول: لا تجزئ صلاة من لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب وشيء معها. واختلف المذهب في قراءة السورة على ثلاثة أقوال: سنة فضيلة واجبة.[/font]
[font=&quot]@ من تعذر ذلك عليه بعد بلوغ مجهوده فلم يقدر على تعلم الفاتحة أو شيء من القرآن ولا علق منه بشيء، لزمه أن يذكر الله في موضع القراءة بما أمكنه من تكبير أو تهليل أو تحميد أو تسبيح أو تمجيد أو لا حول ولا قوة إلا بالله، إذا صلى وحده أو مع إمام فيما أسر فيه الإمام، فقد روى أبو داود وغيره عن عبدالله بن أبي أوفى قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئا فعلمني ما يجزئني منه قال: (قل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله) قال: يا رسول الله هذا لله، فما لي؟ قال: (قل اللهم ارحمني وعافني واهدني وارزقني).[/font]
[font=&quot] فإن عجز عن إصابة شيء من هذا اللفظ فلا يدع الصلاة مع الإمام جهده فالإمام يحمل ذلك عنه إن شاء الله، وعليه أبدا أن يجهد نفسه في تعلم فاتحة الكتاب فما زاد إلى أن يحول الموت دون ذلك وهو بحال الاجتهاد فيعذره الله.[/font]
[font=&quot] من لم يواته لسانه إلى التكلم بالعربية من الأعجميين وغيرهم ترجم له الدعاء العربي بلسانه الذي يفقه لإقامة صلاته، فإن ذلك يجزئه إن شاء الله تعالى. [/font]
[font=&quot] لا تجزئ صلاة من قرأ بالفارسية وهو يحسن العربية في قول الجمهور. وقال أبو حنيفة: تجزئه القراءة بالفارسية وإن أحسن العربية لأن المقصود إصابة المعنى. قال ابن المنذر: لا يجزئه ذلك، لأنه خلاف ما أمر الله به وخلاف ما علم النبي صلى الله عليه وسلم وخلاف جماعات المسلمين. ولا نعلم أحدا وافقه على ما قال.[/font]
[font=&quot]@ من افتتح الصلاة كما أمر وهو غير عالم بالقراءة، فطرأ عليه العلم بها في أثناء الصلاة ويتصور ذلك بأن يكون سمع من قرأها فعلقت بحفظه من مجرد السماع فلا يستأنف الصلاة، لأنه أدى ما مضى على حسب ما أمر به فلا وجه لإبطاله. قاله في كتاب ابن سحنون.[/font]
[font=&quot]*3* الباب الثالث: في التأمين:[/font]
[font=&quot]@ ويسن لقارئ القرآن أن يقول بعد الفراغ من الفاتحة بعد سكتة على نون "ولا الضالين": آمين ليتميز ما هو قرآن مما ليس بقرآن.[/font]
[font=&quot]@ ثبت في الأمهات من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أمن الإمام فأمنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه). قال علماؤنا رحمة الله عليهم: فترتبت المغفرة للذنب على مقدمات أربع تضمنها هذا الحديث: الأولى: تأمين الإمام، الثانية: تأمين من خلفه، الثالثة: تأمين الملائكة، الرابعة: موافقة التأمين، قيل في الإجابة وقيل في الزمن وقيل في الصفة من إخلاص الدعاء لقوله عليه السلام: (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه).[/font]
[font=&quot]@ روى أبو داود عن أبي مصّبِّح المَقراني قال: كنا نجلس إلى أبي زهير النميري وكان من الصحابة، فيحدث أحسن الحديث فإذا دعا الرجل منا بدعاء قال: اختمه بآمين. فإن آمين مثل الطابع على الصحيفة. قال أبو زهير ألا أخبركم عن ذلك، خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فأتينا على رجل قد ألح في المسألة فوقف النبي صلى الله عليه وسلم يسمع منه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أوجب إن ختم) فقال له رجل من القوم: بأي شيء يختم؟ قال: (بآمين فإنه ختم بآمين فقد أوجب) فانصرف الرجل الذي سأل النبي فأتى الرجل فقال له: اختم يا فلان وأبشر. قال ابن عبدالبر: أبو زهير النميري اسمه يحيى بن نفير روى عن النبي صلى الله عليه وسلم (لا تقتلوا الجراد فإنه جند الله الأعظم). وقال وهب بن منبه: آمين أربعة أحرف يخلق الله من كل حرف ملكا يقول: اللهم اغفر من قال آمين [في النسخة: آمني]. وفي الخبر (لقنني جبريل آمين عند فراغي من فاتحة الكتاب، وقال إنه كالخاتم على الكتاب) وفي حديث آخر: (آمين خاتم رب العالمين). قال الهروي قال أبو بكر: معناه أنه طابع الله على عباده، لأنه يدفع به عنهم الآفات والبلايا، فكان كخاتم الكتاب الذي يصونه ويمنع من إفساده وإظهار ما فيه. وفي حديث آخر (آمين درجة في الجنة). قال أبو بكر: معناه أنه حرف يكتسب به قائله درجة في الجنة.[/font]
[font=&quot]@ معنى آمين عند أكثر أهل العلم: اللهم استجب لنا، وُضِع موضع الدعاء. وقال قوم: هو اسم من أسماء الله، روي عن جعفر بن محمد ومجاهد وهلال بن يساف، ورواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصح، قاله ابن العربي. وقيل معنى آمين: كذلك فليكن، قاله الجوهري. وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما معنى آمين؟ قال: (رب افعل). وقال مقاتل: هو قوة للدعاء واستنزال للبركة. وقال الترمذي: معناه لا تخيب رجاءنا. [/font]
[font=&quot]@ وفي آمين لغتان: المد على وزن فاعيل كياسين. والقصر على وزن يمين. قال الشاعر في المد:[/font]
[font=&quot] يا رب لا تسلبني حبها أبدا ويرحم الله عبدا قال آمينا[/font]
[font=&quot]وقال آخر:[/font]
[font=&quot] آمين آمين لا أرضى بواحدة حتى أبلغها ألفين آمينا[/font]
[font=&quot]وقال آخر في القصر:[/font]
[font=&quot] تباعد مني فطحل إذ سألته أمين فزاد الله ما بيننا بعدا[/font]
[font=&quot]وتشديد الميم خطأ، قاله الجوهري. وقد روي عن الحسن وجعفر الصادق التشديد، وهو قول الحسين بن الفضل، من أمّ إذا قصد، أي نحن قاصدون نحوك ومنه قوله: "ولا آمين البيت الحرام" [المائدة: 2]. حكاه أبو نصر عبدالرحيم بن عبدالكريم القشيري. قال الجوهري: وهو مبني على الفتح مثل أين وكيف لاجتماع الساكنين. وتقول منه: أمن فلان تأمينا.[/font]
[font=&quot]@ اختلف العلماء هل يقولها الإمام وهل يجهر بها، فذهب الشافعي ومالك في رواية المدنيين إلى ذلك. وقال الكوفيون وبعض المدنيين: لا يجهر بها. وهو قول الطبري وبه قال ابن حبيب من علمائنا. وقال ابن بكير: هو مخير. وروى ابن القاسم عن مالك أن الإمام لا يقول آمين وإنما يقول ذلك من خلفه، وهو قول ابن القاسم والمصريين من أصحاب مالك. وحجتهم حديث أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبنا فبين لنا سنتنا وعلمنا صلاتنا فقال: (إذا صليتم فأقيموا صفوفكم ثم ليؤمكم أحدكم فإذا كبر فكبروا وإذا قال غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين يجبكم الله) وذكر الحديث، أخرجه مسلم. ومثله حديث سُمَيّ عن أبي هريرة وأخرجه مالك. والصحيح الأول لحديث وائل بن حجر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ "ولا الضالين" قال: "آمين" يرفع بها صوته، أخرجه أبو داود والدارقطني وزاد "قال أبو بكر: هذه سنة تفرد بها أهل الكوفة هذا صحيح والذي بعده". وترجم البخاري "باب جهر الإمام بالتأمين".[/font]
[font=&quot] وقال عطاء: "آمين" دعاء، أمن ابن الزبير ومن وراءه حتى إن للمسجد للجّة. قال الترمذي: وبه يقول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم، يرون أن يرفع الرجل صوته بالتأمين ولا يخفيها. وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق. وفي الموطأ والصحيحين قال ابن شهاب: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "آمين". وفي سنن ابن ماجه عن أبي هريرة قال: ترك الناس آمين وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال: "غير المغضوب عليهم ولا الضالين" قال: "آمين" حتى يسمعها أهل الصف الأول فيرتج بها المسجد. وأما حديث أبي موسى وسمي فمعناهما التعريف بالموضع الذي يقال فيه آمين، وهو إذا قال الإمام: "ولا الضالين" ليكون قولهما معا ولا يتقدموه بقول: آمين لما ذكرناه والله أعلم. ولقوله عليه السلام: (إذا أمن الإمام فأمنوا). وقال ابن نافع في كتاب ابن الحارث: لا يقولها المأموم إلا أن يسمع الإمام يقول: "ولا الضالين". وإذا كان ببعد لا يسمعه فلا يقل. وقال ابن عبدوس: يتحرى قدر القراءة ويقول: آمين.[/font]
[font=&quot]@ قال أصحاب أبي حنيفة: الإخفاء بآمين أولى من الجهر بها لأنه دعاء وقد قال الله تعالى: "ادعوا ربكم تضرعا وخفية" [الأعراف: 5]. قالوا: والدليل عليه ما روي في تأويل قوله تعالى: "قد أجيبت دعوتكما" [يونس: 89]. قال: كان موسى يدعو وهارون يؤمن فسماهما الله داعيين.[/font]
[font=&quot] الجواب: أن إخفاء الدعاء إنما كان أفضل لما يدخله من الرياء. وأما ما يتعلق بصلاة الجماعة فشهودها إشهار شعار ظاهر وإظهار حق يندب العباد إلى إظهاره، وقد ندب الإمام إلى إشهار قراءة الفاتحة المشتملة على الدعاء والتأمين في آخرها فإذا كان الدعاء مما يسن الجهر فيه فالتأمين على الدعاء تابع له وجار مجراه وهذا بيّن.[/font]
[font=&quot]@ كلمة آمين لم تكن قبلنا إلا لموسى وهارون عليهما السلام. ذكر الترمذي الحكيم في (نوادر الأصول): حدثنا عبدالوارث بن عبدالصمد قال حدثنا أبي قال حدثنا رزين مؤذن مسجد هشام بن حسان قال حدثنا أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أعطى أمتي ثلاثا لم تعط أحدا قبلهم السلام وهو تحية أهل الجنة وصفوف الملائكة وآمين إلا ما كان من موسى وهارون) قال أبو عبدالله: معناه أن موسى دعا على فرعون وأمن هارون فقال الله تبارك اسمه عندما ذكر دعاء موسى في تنزيله: "قد أجيبت دعوتكما" [يونس: 89] ولم يذكر مقالة هارون، وقال موسى: ربنا، فكان من هارون التأمين، فسماه داعيا في تنزيله، إذ صير ذلك منه دعوة. وقد قيل: إن آمين خاص لهذه الأمة لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين) أخرجه ابن ماجة من حديث حماد بن سلمة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال. ..، الحديث. وأخرج أيضا من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما حسدتكم اليهود على شي ما حسدتكم على آمين فأكثروا من قول آمين). قال علماؤنا رحمة الله عليهم: إنما حسدنا أهل الكتاب لأن أولها حمد لله وثناء عليه ثم خضوع له واستكانة، ثم دعاء لنا بالهداية إلى الصراط المستقيم ثم الدعاء عليهم مع قولنا آمين.[/font]
[font=&quot]*3*الباب الرابع - فيما تضمنته الفاتحة من المعاني والقراءات والإعراب وفضل الحامدين:[/font]
 
[font=&quot]@قوله سبحانه وتعالى: "الحمد لله" روى أبو محمد عبدالغني بن سعيد الحافظ من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال العبد الحمد لله قال صدق عبدي الحمد لي). وروى مسلم عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها). وقال الحسن: ما من نعمة إلا والحمد لله أفضل منها. وروى ابن ماجة عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أنعم الله على عبد نعمة فقال الحمد لله إلا كان الذي أعطاه أفضل مما أخذ). وفي (نوادر الأصول) عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أن الدنيا كلها بحذافيرها بيد رجل من أمتي ثم قال الحمد لله لكانت الحمد لله أفضل من ذلك). قال أبو عبدالله: معناه عندنا أنه قد أعطي الدنيا ثم أعطي على أثرها هذه الكلمة حتى نطق بها، فكانت هذه الكلمة أفضل من الدنيا كلها لأن الدنيا فانية والكلمة باقية، هي من الباقيات الصالحات قال الله تعالى: "والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا" [مريم: 76]. وقيل في بعض الروايات: لكان ما أعطى أكثر مما أخذ. فصير الكلمة إعطاء من العبد، والدنيا أخذا من الله فهذا في التدبير. كذاك يجري في الكلام أن هذه الكلمة من العبد والدنيا من الله وكلاهما من الله في الأصل الدنيا منه والكلمة منه أعطاه الدنيا فأغناه وأعطاه الكلمة فشرفه بها في الآخرة. وروى ابن ماجة عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم: (أن عبدا من عباد الله قال يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك فعَضَلت بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها فصعدا إلى السماء وقالا يا ربنا إن عبدك قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها، قال الله عز وجل وهو أعلم بما قال عبده، ماذا قال عبدي؟ قالا يا رب إنه قد قال يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، فقال الله لهما اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها).[/font]
[font=&quot] قال أهل اللغة: أعضل الأمر: اشتد واستغلق، والمعضّلات [بتشديد الضاد): الشدائد. وعضّلت المرأة والشاة: إذا نشِب ولدها فلم يسهل مخرجه، بتشديد الضاد أيضا فعلى هذا يكون: أعضلت الملكين أو عضلت الملكين بغير باء. والله أعلم. وروي عن مسلم عن أبي مالك الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض) وذكر الحديث.[/font]
[font=&quot]@ اختلف العلماء أيما أفضل قول العبد: الحمد لله رب العالمين، أو قول لا إله إلا الله؟ فقالت طائفة: قوله الحمد لله رب العالمين أفضل لأن في ضمنه التوحيد الذي هو لا إله إلا الله، ففي قوله توحيد وحمد، وفي قوله لا إله إلا الله توحيد فقط. وقالت طائفة: لا إله إلا الله أفضل لأنها تدفع الكفر والإشراك وعليها يقاتل الخلق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله). واختار هذا القول ابن عطية قال: والحاكم بذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له).[/font]
[font=&quot]@ أجمع المسلمون على أن الله محمود على سائر نعمه وأن مما أنعم الله به الإيمان فدل على أن الإيمان فعله وخلقه والدليل على ذلك قوله: "رب العالمين". والعالمون جملة المخلوقات ومن جملتها الإيمان لا كما قال القدرية: إنه خلق لهم على ما يأتي بيانه. الحمد في كلام العرب معناه الثناء الكامل، والألف واللام لاستغراق الجنس من المحامد فهو سبحانه يستحق الحمد بأجمعه إذ له الأسماء الحسنى والصفات العلا وقد جمع لفظ الحمد جمع القلة في قول الشاعر:[/font]
[font=&quot] وأبلج محمود الثناء خصصته بأفضل أقوالي وأفضل أحمدي[/font]
[font=&quot]فالحمد نقيض الذم، تقول: حمدت الرجل أحمده حمدا فهو حميد ومحمود والتحميد أبلغ من الحمد. والحد أعم من الشكر والحمد: الذي كثرت خصال المحمودة. قال الشاعر:[/font]
[font=&quot] إلى الماجد القرم الجواد المحمد[/font]
[font=&quot]وبذلك سمي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الشاعر:[/font]
[font=&quot] فشقّ له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد[/font]
[font=&quot]والمحمدة: خلاف المذمة. وأحمد الرجلُ: صار أمره إلى الحمد. وأحمدته: وجدته محمودا، تقول: أتيت موضع كذا فأحمدته، أي صادفته محمودا موافقا، وذلك إذا رضيت سكناه أو مرعاه. ورجل حُمَدَة - مثل هُمَزة - يكثر حمد الأشياء ويقول فيها أكثر مما فيها. وحَمَدة النار - بالتحريك - : صوت التهابها.[/font]
[font=&quot]@ ذهب أبو جعفر الطبري وأبو العباس المبرد إلى أن الحمد والشكر بمعنى واحد سواء وليس بمرضي. وحكاه أبو عبدالرحمن السلمي في كتاب "الحقائق" له عن جعفر الصادق وابن عطاء. قال ابن عطاء: معناه الشكر لله إذ كان منه الامتنان على تعليمنا إياه حتى حمدناه. واستدل الطبري على أنهما بمعنى بصحة قولك: الحمد لله شكرا. قال ابن عطية: وهو في الحقيقة دليل على خلاف ما ذهب إليه لأن قولك شكرا إنما خصصت به الحمد لأنه على نعمة من النعم. وقال بعض العلماء: إن الشكر أعم من الحمد لأنه باللسان وبالجوارح والقلب والحمد إنما يكون باللسان خاصة. وقيل: الحمد أعم لأن فيه معنى الشكر ومعنى المدح، وهو أعم من الشكر لأن الحمد يوضع موضع الشكر ولا يوضع الشكر موضع الحمد. وروي عن ابن عباس أنه قال: الحمد لله كلمة كل شاكر، وإن آدم عليه السلام قال حين عطس: الحمد لله. وقال الله لنوح عليه السلام: "فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين" [المؤمنون: 28] وقال إبراهيم عليه السلام: "الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق" [إبراهيم: 3]. وقال في قصة داود وسليمان: "وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين" [النمل: 15]. وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: "وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا" [الإسراء: 111]. وقال أهل الجنة: "الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن" [فاطر: 34]. "وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين" [يونس: 10]. فهي كلمة كل شاكر.[/font]
[font=&quot] قلت: الصحيح أن الحمد ثناء على الممدوح بصفاته من غير سبق إحسان، والشكر ثناء على المشكور بما أولى من الإحسان. وعلى هذا الحد قال علماؤنا: الحمد أعم من الشكر، لأن الحمد يقع على الثناء وعلى التحميد وعلى الشكر، والجزاء مخصوص إنما يكون مكافأة لمن أولاك معروفا فصار الحمد أعم في الآية لأنه يزيد على الشكر. ويذكر الحمد بمعنى الرضا يقال: بلوته فحمدته، أي رضيته. ومنه قوله تعالى: "مقاما محمودا" [الإسراء: 79]. وقال عليه السلام: (أحمد إليكم غسل الإحليل) أي أرضاه لكم. ويذكر عن جعفر الصادق في قوله "الحمد لله": من حمده بصفاته كما وصف نفسه فقد حمد، لأن الحمد حاء وميم ودال، فالحاء من الوحدانية، والميم من الملك، والدال من الديمومية، فمن عرفه بالوحدانية والديمومية والملك فقد عرفه، وهذا هو حقيقة الحمد لله. وقال شقيق بن إبراهيم في تفسير "الحمد لله" قال: هو على ثلاثة أوجه: أولها إذا أعطاك الله شيئا تعرف من أعطاك. والثاني أن ترضى بما أعطاك. والثالث ما دامت قوته في جسدك ألا تعصيه، فهذه شرائط الحمد.[/font]
[font=&quot]@ أثنى الله سبحانه بالحمد على نفسه وافتتح كتابه بحمده، ولم يأذن في ذلك لغيره بل نهاهم عن ذلك في كتابه وعلى لسان نبيه عليه السلام فقال: "فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى" [النجم: 32]. وقال عليه السلام: (احثوا في وجوه المداحين التراب) رواه المقداد. وسيأتي القول فيه في "النساء" إن شاء الله تعالى.[/font]
[font=&quot] فمعنى "الحمد لله رب العالمين" أي سبق الحمد مني لنفسي أن يحمد نفسه أحد من العالمين، وحمدي نفسي لنفسي في الأزل لم يكن بعلة، وحمدي الخلق مشوب بالعلل. قال علماؤنا: فيستقبح من المخلوق الذي لم يعط الكمال أن يحمد نفسه ليستجلب لها المنافع ويدفع عنها المضار. وقيل: لما علم سبحانه عجز عباده عن حمده حمد نفسه بنفسه لنفسه في الأزل فاستفراغ طوق عباده هو محمل العجز عن حمده. ألا ترى سيد المرسلين كيف أظهر العجز بقوله: (لا أحصي ثناء عليك). وأنشدوا:[/font]
[font=&quot] إذا نحن أثنينا عليك بصالح فأنت كما نُثني وفوق الذي نثني[/font]
[font=&quot]وقيل: حَمِد نفسه في الأزل لما علم من كثره نعمه على عباده وعجزهم على القيام بواجب حمده فحمد نفسه عنهم، لتكون النعمة أهنأ لديهم، حيث أسقط به ثقل المنة.[/font]
[font=&quot]@ وأجمع القراء السبعة وجمهور الناس على رفع الدال من "الحمد لله". وروي عن سفيان بن عيينة ورؤبة بن العجّاج: "الحمد لله" بنصب الدال وهذا على إضمار فعل. ويقال: "الحمد لله" بالرفع مبتدأ وخبر وسبيل الخبر أن يفيد فما الفائدة في هذا؟ فالجواب أن سيبويه قال: إذا قال الرجل الحمد لله بالرفع ففيه من المعنى مثل ما في قولك: حمدت الله حمدا، إلا أن الذي يرفع الحمد يخبر أن الحمد منه ومن جميع الخلق لله، والذي ينصب الحمد يخبر أن الحمد منه وحده لله. وقال غير سيبويه. إنما يتكلم بهذا تعرضا لعفو الله ومغفرته وتعظيما له وتمجيدا، فهو خلاف معنى الخبر وفيه معنى السؤال. وفي الحديث: (من شغل بذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين). وقيل: إن مدحه عز وجل لنفسه وثناءه عليها ليعلم ذلك عباده فالمعنى على هذا: قولوا الحمد لله. قال الطبري: "الحمد لله" ثناء أثنى به على نفسه وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه فكأنه قال: قولوا الحمد لله، وعلى هذا يجيء قولوا إياك. وهذا من حذف العرب ما يدل ظاهر الكلام عليه كما قال الشاعر:[/font]
[font=&quot] وأعلم أنني سأكون رمسا إذا سار النواعج لا يسير[/font]
[font=&quot] فقال السائلون لمن حفرتم فقال القائلون لهم وزير[/font]
[font=&quot]المعنى: المحفور له وزير، فحذف لدلاك ظاهر الكلام عليه وهذا كثير. وروي عن ابن أبي عبَلة: "الحمد لله" بضم الدال واللام على إتباع الثاني الأول وليتجانس اللفظ وطلب التجانس في اللفظ كثير في كلامهم نحو: أجودك وهو منحدر من الجبل بضم الدال والجيم. قال:[/font]
[font=&quot] ... اضرب الساقينُ أُمّك هابل[/font]
[font=&quot]بضم النون لأجل ضم الهمزة. وفي قراءة لأهل مكة "مُرُدفين" بضم الراء إتباعا للميم، وعلى ذلك "مُقُتلين" بضم القاف. وقالوا: لإمِّك، فكسروا الهمزة اتباعا للاّم، وأنشد للنعمان بن بشير:[/font]
[font=&quot] ويلِ امِّها في هواء الجو طالبة ولا كهذا الذي في الأرض مطلوب[/font]
[font=&quot]الأصل: ويلٌ لأمها، فحذفت اللام الأولى واستثقل ضم الهمزة بعد الكسرة فنقلها للأم ثم أتبع اللام الميم. وروي عن الحسن بن أبي الحسن وزيد بن علي: "الحمدِ لله" بكسر الدال على اتباع الأول الثاني.[/font]
 
[font=&quot]@قوله تعالى: "رب العالمين" أي مالكهم، وكل من ملك شيئا فهو ربه، فالرب: المالك. وفي الصحاح: والرب اسم من أسماء الله تعالى ولا يقال في غيره إلا بالإضافة، وقد قالوه في الجاهلية للملك قال الحارث بن حِلِّزة:[/font]
[font=&quot] وهو الرب والشهيد على يوم الحيارين والبلاء بلاء[/font]
[font=&quot]والرب: السيد: ومن قوله تعالى: "اذكرني عند ربك" [يوسف: 42]. وفي الحديث: (أن تلد الأمة ربتها) أي سيدتها وقد بيناه في كتاب (التذكرة). والرب: المصلح والمدبر والجابر والقائم. قال الهروي وغيره: يقال لمن قام بإصلاح شيء وإتمامه: قد ربه يربه فهو رب له وراب، ومنه سمي الربانيون لقيامهم بالكتب. وفي الحديث: (هل لك من نعمة تربُّها عليه) أي تقوم بها وتصلحها. والرب: المعبود ومنه قول الشاعر:[/font]
[font=&quot] أربٌّ يبول الثعلبان برأسه لقد ذل من بالت عليه الثعالب[/font]
[font=&quot]ويقال على التكثير: رباه ورببه وربته، حكاه النحاس. وفي الصحاح: ورب فلان ولده يربه ربا ورببه وترببه بمعنىً، أي رباه. والمربوب: المربى.[/font]
[font=&quot]@ قال بعض العلماء: إن هذا الاسم هو اسم الله الأعظم لكثرة دعوة الداعين به، وتأمل ذلك في القرآن كما في آخر "آل عمران" وسورة "إبراهيم" وغيرهما، ولما يشعر به هذا الوصف من الصلاة بين الرب والمربوب مع ما يتضمنه من العطف والرحمة والافتقار في كل حال.[/font]
[font=&quot] واختلف في اشتقاقه فقيل: إنه مشتق من التربية، فالله سبحانه وتعالى مدبر لخلقه ومربيهم ومنه قوله تعالى: "وربائبكم اللاتي في حجوركم" [النساء: 23]. فسمى بنت الزوجة ربيبة لتربية الزوج لها.[/font]
[font=&quot] فعلى أنه مدبر لخلقه ومربيهم يكون صفة فعل، وعلى أن الرب بمعنى المالك والسيد يكون صفة ذات.[/font]
[font=&quot]@ متى أدخلت الألف واللام على "رب" اختص الله تعالى به، لأنها للعهد وإن حذفنا منه صار مشتركا بين الله وبين عباده، فيقال: الله رب العباد وزيد رب الدار فالله سبحانه رب الأرباب يملك المالك والمملوك، وهو خالق ذلك ورازقه وكل رب سواه غير خالق ولا رازق، وكل مملوك فمُمَلَّك بعد أن لم يكن، ومنتزع ذلك من يده وإنما يملك شيئا دون شيء وصفة الله تعالى مخالفة لهذه المعاني فهذا الفرق بين صفة الخالق والمخلوقين.[/font]
[font=&quot]@قوله تعالى: "العالمين" اختلف أهل التأويل في "العالمين" اختلافا كثيراً، فقال قتادة: العالمون جمع عالم وهو كل موجود سوى الله تعالى ولا واحد له من لفظه مثل رهط وقوم. وقيل: أهل كل زمان عالم قاله الحسين بن الفضل، لقوله تعالى: "أتأتون الذكران من العالمين" [الشعراء: 165] أي من الناس. وقال العجاج:[/font]
[font=&quot] فخِنْدِفٌ هامة هذا العأْلَمِ[/font]
[font=&quot]وقال جرير بن الخَطَفي:[/font]
[font=&quot] تَنَصَّفُه البرية وهو سامٍ ويُضحي العالَمون له عيالا[/font]
[font=&quot] وقال ابن عباس: العالمون الجن والإنس، دليله قوله تعالى: "ليكون للعالمين نذيرا" [الفرقان: 1] ولم يكن نذيرا للبهائم. وقال الفراء وأبو عبيدة: العالم عبارة عمن يعقل، وهم أربعة أمم: الإنس والجن والملائكة والشياطين. ولا يقال للبهائم: عالم، لأن هذا الجمع إنما هو جمع من يعقل خاصة.[/font]
[font=&quot]قال الأعشى:[/font]
[font=&quot] ما إن سمعت بمثلهم في العالمينا[/font]
[font=&quot] وقال زيد بن أسلم: هم المرتزقون، ونحوه قول أبي عمرو بن العلاء: هم الروحانيون. وهو معنى قول ابن عباس أيضا: كل ذي روح دب على وجه الأرض. وقال وهب بن منبه: إن لله عز وجل ثمانية عشر ألف عالم، الدنيا عالم منها. وقال أبو سعيد الخدري: إن لله أربعين ألف عالم، الدنيا من شرقها إلى غربها عالم واحد. وقال مقاتل: العالمون ثمانون ألف عالم، أربعون ألف عالم في البر وأربعون ألف عالم في البحر. وروى الربيع بن أنس عن أبي العالية قال: الجن عالم والإنس عالم وسوى ذلك للأرض أربع زوايا في كل زاوية ألف وخمسمائة عالم خلقهم لعبادته. [/font]
[font=&quot] قلت: والقول الأول أصح هذه الأقوال، لأنه شامل لكل مخلوق وموجود دليله قوله تعالى: "قال فرعون وما رب العالمين. قال رب السماوات والأرض وما بينهما" [الشعراء: 23] ثم هو مأخوذ من العلم والعلامة لأنه يدل على موجده. كذا قال الزجاج قال: العالم كل ما خلقه الله في الدنيا والآخرة. وقال الخليل: العلم والعلامة والمعلم: ما دل على الشيء، فالعالم دال على أن له خالقا ومدبرا وهذا واضح. وقد ذكر أن رجلا قال بين يدي الجنيد: الحمد لله فقال له: أتمها كما قال الله قل رب العالمين فقال الرجل: ومن العالمين حتى تذكر مع الحق؟ قال: قل يا أخي؟ فإن المحدث إذا قرن مع القديم لا يبقى له أثر.[/font]
[font=&quot]@ يجوز الرفع والنصب في "رب" فالنصب على المدح والرفع على القطع، أي هو رب العالمين.[/font]
[font=&quot]@قوله تعالى: "الرحمن الرحيم" وصف نفسه تعالى بعد "رب العالمين" بأنه "الرحمن الرحيم" لأنه لما كان في اتصافه بـ "رب العالمين" ترهيب قرنه بـ "الرحمن الرحيم" لما تضمن من الترغيب، ليجمع في صفاته بين الرهبة منه والرغبة إليه، فيكون أعون على طاعته وأمنع كما قال: "نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم. وأن عذابي هو العذاب الأليم" [الحجر: 49، 50]. وقال: "غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول" [غافر: 3]. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد). وقد تقدم ما في هذين الاسمين من المعاني فلا معنى لإعادته.[/font]
[font=&quot]@قوله تعالى: "مالك يوم الدين" قرأ محمد بن السَّمَيقع بنصب مالك، وفيه أربع لغات: مالك ومَلِك ومَلْك - مخففة من مَلِك - ومَليك. قال الشاعر:[/font]
[font=&quot] وأيام لنا غر طوال عصينا الملك فيها أن ندينا[/font]
[font=&quot]وقال آخر:[/font]
[font=&quot] فاقنع بما قسم المليك فإنما قسم الخلائق بيننا علامها[/font]
[font=&quot] الخلائق: الطبائع التي جبل الإنسان عليها. وروي عن نافع إشباع الكسرة في "مَلِكِ" فيقرأ "ملكي" على لغة من يشبع الحركات وهي لغة للعرب ذكرها المهدوي وغيره.[/font]
[font=&quot]@ اختلف العلماء أيما أبلغ: ملك أو مالك؟ والقراءتان مرويتان عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر. ذكرهما الترمذي فقيل: "ملك" أعم وأبلغ من "مالك" إذ كل ملك مالك وليس كل مالك ملكا ولأن الملك نافذ على المالك في ملكه حتى لا يتصرف إلا عن تدبير الملك قال أبو عبيدة والمبرد. وقيل: "مالك" أبلغ لأنه يكون مالكا للناس وغيرهم فالمالك أبلغ تصرفا وأعظم إذ إليه إجراء قوانين الشرع، ثم عنده زيادة التملك. وقال أبو علي: حكى أبو بكر بن السراج عن بعض من اختار القراءة بـ "مالك" أن الله سبحانه قد وصف نفسه بأنه مالك كل شيء بقول: "رب العالمين" فلا فائدة في قراءة من قرأ "مالك" لأنها تكرار. قال أبو علي: ولا حجة في هذا لأن في التنزيل أشياء على هذه الصورة تقدم العام ثم ذكر الخاص كقوله: "هو الله الخالق البارئ المصور" فالخالق يعم. وذكر المصور لما فيه من التنبيه على الصنعة ووجود الحكمة وكما قال تعالى: "وبالآخرة هم يوقنون" بعد قوله: "الذين يؤمنون بالغيب". والغيب يعم الآخرة وغيرها ولكن ذكرها لعظمها والتنبيه على وجوب اعتقادها والرد على الكفرة الجاحدين لها وكما قال: "الرحمن الرحيم" فذكر "الرحمن" الذي هو عام وذكر "الرحيم" بعده لتخصيص المؤمنين به في قوله: "وكان بالمؤمنين رحيما". وقال أبو حاتم: إن مالكا أبلغ في مدح الخالق من "ملك" و"ملك" أبلغ في مدح المخلوقين من مالك، والفرق بينهما أن المالك من المخلوقين قد يكون غير ملك، وإذا كان الله تعالى مالكا كان ملكا، واختار هذا القول القاضي أبو بكر بن العربي وذكر ثلاثة أوجه، الأول: أنك تضيفه إلى الخاص والعام فتقول: مالك الدار والأرض والثوب كما تقول: مالك الملوك. الثاني: أنه يطلق على مالك القليل والكثير وإذا تأملت هذين القولين وجدتهما واحدا. والثالث: أنك تقول: مالك الملك ولا تقول: ملك الملك. قال ابن الحصار: إنما كان ذلك لأن المراد من "مالك" الدلالة على الملك - بكسر الميم - وهو لا يتضمن "الملك" - بضم الميم - و"ملك" يتضمن الأمرين جميعا فهو أولى بالمبالغة. ويتضمن أيضا الكمال ولذلك استحق الملك على من دونه، ألا ترى إلى قوله تعالى: "إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم" [البقرة: 247] ولهذا قال عليه السلام: (الإمامة في قريش) وقريش أفضل قبائل العرب والعرب أفضل من العجم وأشرف. ويتضمن الاقتدار والاختيار، وذلك أمر ضروري في الملك، إن لم يكن قادرا مختارا نافذا حكمه وأمره، قهره عدوه وغلبه غيره وازدرته رعيته، ويتضمن البطش والأمر والنهي والوعد والوعيد، ألا ترى إلى قول سليمان عليه السلام: "ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين. لأعذبنه عذابا شديدا" [النمل: 20، 21] إلى غير ذلك من الأمور العجيبة والمعاني الشريفة التي لا توجد في المالك. [/font]
[font=&quot] قلت: وقد احتج بعضهم على أن مالكا أبلغ لأن فيه زيادة حرف فلقارئه عشر حسنات زيادة عمن قرأ ملك.[/font]
[font=&quot] قلت: هذا نظر إلى الصيغة لا إلى المعنى، وقد ثبتت القراءة بملك وفيه من المعنى ما ليس في مالك على ما بينا والله أعلم.[/font]
[font=&quot]@ لا يجوز أن يتسمى أحد بهذا الاسم ولا يدعى به إلا الله تعالى، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض) وعنه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك - زاد مسلم - لا مالك إلا الله عز وجل) قال سفيان: مثل: شاهان شاه. وقال أحمد بن حنبل: سألت أبا عمرو الشيباني عن أخنع فقال: أوضع. وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه رجل ل[كان] يسمى ملك الأملاك لا ملك إلا الله سبحانه). قال ابن الحصار: وكذلك "ملك يوم الدين" و"مالك الملك" لا ينبغي أن يختلف في أن هذا محرم على جميع المخلوقين كتحريم ملك الأملاك سواء، وأما الوصف بمالك وملك فيجوز أن يوصف بهما من اتصف بمفهومهما، قال الله العظيم: "إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا" [البقرة: 247]. وقال صلى الله عليه وسلم: (ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة).[/font]
[font=&quot]@ إن قال قائل: كيف قال "مالك يوم الدين" ويوم الدين لم يوجد بعد، فكيف وصف نفسه بملك ما لم يوجده؟ قيل له: اعلم أن مالكا اسم فاعل من ملك يملك، واسم الفاعل في كلام العرب قد يضاف إلى ما بعده وهو بمعنى الفعل المستقبل، ويكون ذلك عندهم كلاما سديدا معقولا صحيحا، كقولك: هذا ضارب زيد غدا، أي سيضرب زيدا. وكذلك: هذا حاج بيت الله في العام المقبل، تأويله سيحج في العام المقبل أفلا ترى أن الفعل قد ينسب إليه وهو لم يفعله بعد، وإنما أريد به الاستقبال، فكذلك قول عز وجل: "مالك يوم الدين" على تأويل الاستقبال، أي سيملك يوم الدين أو في يوم الدين إذا حضر. [/font]
[font=&quot] ووجه ثان: أن يكون تأويل المالك راجع إلى القدرة، أي إنه قادر في يوم الدين، أو على يوم الدين وإحداثه، لأن المالك للشيء هو المتصرف في الشيء والقادر عليه والله عز وجل مالك الأشياء كلها ومصرفها على إرادته، لا يمتنع عليه منها شيء.[/font]
[font=&quot] والوجه الأول أمس بالعربية وأنفذ في طريقها، قاله أبو القاسم الزجاجي.[/font]
[font=&quot] ووجه ثالث: فيقال لم خصص يوم الدين وهو مالك يوم الدين وغيره؟ قيل له: لأن في الدنيا كانوا منازعين في الملك مثل فرعون ونمروذ وغيرهما وفي ذلك اليوم لا ينازعه أحد في ملكه، وكلهم خضعوا له كما قال تعالى: "لمن الملك اليوم" [غافر: 16] فأجاب جميع الخلق: "لله الواحد القهار" [غافر: 16] فلذلك قال: مالك يوم الدين، أي في ذلك اليوم لا يكون مالك ولا قاض ولا مجاز غيره سبحانه لا إله إلا هو. إن وُصِف الله سبحانه بأنه ملك كان ذلك من صفات ذاته، وإن وصف بأنه مالك كان ذلك من صفات فعله.[/font]
 
خالد
الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي

 
[font=&quot]@ اليوم: عبارة عن وقت طلوع الفجر إلى وقت غروب الشمس، فاستعير فيما بين مبتدأ القيامة إلى وقت استقرار أهل الدارين فيهما. وقد يطلق اليوم على الساعة منه، قال الله تعالى: "اليوم أكملت لكم دينكم" [المائدة: 3] وجمع يوم أيام وأصله أيوام فأدغم،[/font]
[font=&quot]وربما عبروا عن الشدة باليوم يقال: يوم أيوم كما يقال: ليله ليلاء. قال الراجز:[/font]
[font=&quot] نعم أخو الهيجاء في اليوم اليمي[/font]
[font=&quot] وهو مقلوب منه أخر الواو وقدم الميم ثم قلبت الواو ياء حيث صارت طرفا، كما قالوا: أدْلٍ في جمع دلو.[/font]
[font=&quot]@ الدين: الجزاء على الأعمال والحساب بها، كذلك قال ابن عباس وابن مسعود وابن جريج وقتادة وغيرهم، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويدل عليه قوله تعالى: "يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق" [النور: 25] أي حسابهم. وقال: "اليوم تجزى كل نفس بما كسبت" [غافر: 17] و"اليوم تجزون ما كنتم تعملون" [الجاثية: 28] وقال: "أئنا لمدينون" [الصافات: 53] أي مجزيون محاسبون. وقال لبيد:[/font]
[font=&quot] حصادك يوما ما زرعت وإنما يدان الفتى يوما كما هو دائن[/font]
[font=&quot] آخر:[/font]
[font=&quot] إذا رمونا رميناهم ودناهم مثل ما يقرضونا[/font]
[font=&quot] آخر:[/font]
[font=&quot] وأعلم يقينا أن ملكك زائل وأعلم بأنّ كما تدين تدان[/font]
[font=&quot] وحكى أهل اللغة: دِنته بفعله دينا (بفتح الدال) ودينا (بكسرها) جزيته، ومنه الديان في صفة الرب تعالى أي المجازي، وفي الحديث: (الكيس من دان نفسه) أي حاسب. وقيل: القضاء، وروي عن ابن عباس أيضا ومنه قول طرفة:[/font]
[font=&quot] لعمرك ما كانت حمولة معبد على جدها حربا لدينِك من مضر[/font]
[font=&quot] ومعاني هذه الثلاثة متقاربة. والدين أيضا: الطاعة، ومنه قول عمرو بن كلثوم:[/font]
[font=&quot] وأيام لنا غر طوال عصينا المَلْك فيها أن ندينا[/font]
[font=&quot]فعلى هذا هو لفظ مشترك وهي:[/font]
[font=&quot]@ قال ثعلب: دان الرجل إذا أطاع، ودان إذا عصى، ودان إذا عز، ودان إذا ذل، ودان إذا قهر، فهو من الأضداد. ويطلق الدين على العادة والشأن كما قال:[/font]
[font=&quot] كدينك من أم الحويرث قبلها[/font]
[font=&quot]وقال المثقب [يذكر ناقته]:[/font]
[font=&quot] تقول إذا درأتُ لها وضيني أهذا دينُه أبدا وديني[/font]
[font=&quot]والدين: سيرة الملك. قال زهير:[/font]
[font=&quot] لئن حللت بجو في بني أسد في دين عمرو وحالت بيننا فدَك[/font]
[font=&quot]أراد في موضع طاعة عمرو. والدين: الداء عن اللحياني. وأنشد:[/font]
[font=&quot] يا دين قلبك من سلمى وقد دينا[/font]
[font=&quot]@قوله تعالى: "إياك نعبد" رجع من الغيبة إلى الخطاب على التلوين، لأن من أول السورة إلى ههنا خبرا عن الله تعالى وثناء عليه كقوله "وسقاهم ربهم شرابا طهورا" [الإنسان: 21]. ثم قال: "إن هذا كان لكم جزاء". وعكسه: "حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم" [يونس: 22] على ما يأتي. و"نعبد" معناه نطيع والعبادة الطاعة والتذلل. وطريق معبد إذا كان مذللا للسالكين قال الهروي. ونطق المكلف به إقرار بالربوبية وتحقيق لعبادة الله تعالى، إذ سائر الناس يعبدون سواه من أصنام وغير ذلك. "وإياك نستعين" أي نطلب العون والتأييد والتوفيق.[/font]
[font=&quot] قال السلمي في حقائقه: سمعت محمد بن عبدالله بن شاذان يقول: سمعت أبا حفص الفرغاني يقول: من أقرَّ بـ "إياك نعبد وإياك نستعين" فقد برئ من الجبر والقدر.[/font]
[font=&quot]@ إن قيل: لم قدم المفعول على الفعل؟ قيل له: قدم اهتماما، وشأن العرب تقديم الأهم. يذكر أن أعرابيا سبَّ آخر فأعرض المسبوب عنه، فقال له الساب: إياك أعني: فقال له الآخر: وعنك أعرض، فقدما الأهم. وأيضا لئلا يتقدم ذكر العبد والعبادة على المعبود فلا يجوز نعبدك ونستعينك ولا نعبد إياك ونستعين إياك، فيقدم الفعل على كناية المفعول وإنما يتبع لفظ القرآن. وقال العجاج:[/font]
[font=&quot] إياك أدعو فتقبل مَلَقي واغفر خطاياي وكثّر ورقي[/font]
[font=&quot] ويروى: وثَمِّر. وأما قول الشاعر:[/font]
[font=&quot] إليك حتى بَلَغَتْ إياكا[/font]
[font=&quot]فشاذ لا يقاس عليه. والورق بكسر الراء من الدراهم، وبفتحها المال. وكرر الاسم لئلا يتوهم إياك نعبد ونستعين غيرك.[/font]
[font=&quot]@ الجمهور من القراء والعلماء على شد الياء من "إياك" في الموضعين. وقرأ عمرو بن قائد: "إياك" بكسر الهمزة وتخفيف الياء، وذلك أنه كره تضعيف الياء لثقلها وكون الكسرة قبلها. وهذه قراءة مرغوب عنها، فإن المعنى يصير: شمسك نعبد أو ضوءك وإياة الشمس (بكسر الهمزة): ضوءها وقد تفتح. وقال:[/font]
[font=&quot] سقته إياة الشمس إلا لِثاتِه أُسِفّ فلم تَكدِم عليه بإثمد[/font]
[font=&quot] فإن أسقطت الهاء مددت. ويقال: الإياة للشمس كالهالة للقمر وهي الدارة حولها. وقرأ الفضل الرقاشي: "أياك" (بفتح الهمزة) وهي لغة مشهورة. وقرأ أبو السَّوار الغَنَوي: "هياك" في الموضعين وهي لغة قال:[/font]
[font=&quot] فهِيّاك والأمر الذي إن توسعت موارده ضاقت عليك مصادره[/font]
[font=&quot]@قوله تعالى: "وإياك نستعين" عطف جملة على جملة. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش: "نِستعين" بكسر النون وهي لغة تميم وأسد وقيس وربيعة ليدل على أنه من استعان، فكسرت النون كما تكسر ألف الوصل. وأصل "نستعين" نستعون قلبت حركة الواو إلى العين فصارت ياء، والمصدر استعانة والأصل استعوان، قلبت حركة الواو إلى العين فانقلبت ألفا ولا يلتقي ساكنان فحذفت الألف الثانية لأنها زائدة، وقيل الأولى لأن الثانية للمعنى ولزمت الهاء عوضا.[/font]
[font=&quot]@قوله تعالى: "اهدنا الصراط المستقيم" اهدنا دعاء ورغبة من المربوب إلى الرب، والمعنى: دلنا على الصراط المستقيم وأرشدنا إليه وأرنا طريق هدايتك الموصلة إلى أنسك وقربك. قال بعض العلماء: فجعل الله جل وعز عظم الدعاء وجملته موضوعا في هذه السورة، نصفها فيه مجمع الثناء ونصفها فيه مجمع الحاجات، وجعل هذا الدعاء الذي في هذه السورة أفضل من الذي يدعو به [الداعي] لأن هذا الكلام قد تكلم به رب العالمين فأنت تدعو بدعاء هو كلامه الذي تكلم به، وفي الحديث: (ليس شيء أكرم على الله من الدعاء). وقيل المعنى: أرشدنا باستعمال السنن في أداء فرائضك وقيل: الأصل فيه الإمالة ومنه قوله تعالى: "إنا هُدنا إليك" [الأعراف: 156] أي ملنا، وخرج عليه السلام في مرضه يتهادى بين اثنين، أي يتمايل. ومنه الهدية لأنها تمال من مِلك إلى مِلك. ومنه الهدي للحيوان الذي يساق إلى الحرم، فالمعنى مل بقلوبنا إلى الحق. وقال الفضيل بن عياض: "الصراط المستقيم" طريق الحج، وهذا خاص والعموم أولى. قال محمد بن الحنفية في قوله عز وجل "اهدنا الصراط المستقيم": هو دين الله الذي لا يقبل من العبادة غيره. وقال عاصم الأحول عن أبي العالية: "الصراط المستقيم" رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه من بعده. قال عاصم فقلت للحسن: إن أبا العالية يقول: "الصراط المستقيم" رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه قال: صدق ونصح.[/font]
[font=&quot]@ أصل الصراط في كلام العرب الطريق، قال عامر بن الطفيل:[/font]
[font=&quot] شحنَّا أرضهم بالخيل حتى تركناهم أذل من الصراط[/font]
[font=&quot] وقال جرير:[/font]
[font=&quot] أمير المؤمنين على صراط إذا أعوج الموارد مستقيم[/font]
[font=&quot] وقال آخر: فصدّ عن نهج الصراط الواضح[/font]
[font=&quot]حكى النقّاش: الصراط الطريق بلغة الروم، فقال ابن عطية: وهذا ضعيف جدا. وقرئ: السراط (بالسين) من الاستراط بمعنى الابتلاع، كأن الطريق يسترط من يسلكه. وقرئ بين الزاي والصاد. وقرئ بزاي خالصة والسين الأصل. وحكى سلمة عن الفراء قال: الزراط بإخلاص الزاي لغة لعُذرة وكلب وبني القَيْن قال: وهؤلاء يقولون [في أصدق]: أزدق. وقد قالوا: الأزْد والأسْد، ولسق به ولصق به. و"الصراط" نصب على المفعول الثاني لأن الفعل من الهداية يتعدى إلى المفعول الثاني بحرف جر، قال الله تعالى: "فاهدوهم إلى صراط الجحيم". [الصافات: 23]. وبغير حرف كما في هذه الآية. "المستقيم" صفة لـ "الصراط" وهو الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف ومنه قوله تعالى: "وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه" [الأنعام: 153] وأصله مستقوم، نقلت الحركة إلى القاف وانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها.[/font]
[font=&quot]@قوله تعالى: "صراط الذين أنعمت عليهم" صراط بدل من الأول بدل الشيء من الشيء، كقولك: جاءني زيد أبوك. ومعناه: أدم هدايتنا، فإن الإنسان قد يهدى إلى الطريق ثم يقطع به. وقيل: هو صراط آخر، ومعناه العلم بالله جل وعز والفهم عنه، قاله جعفر بن محمد. ولغة القرآن "الذين" في الرفع والنصب والجر وهذيل تقول: اللذون في الرفع، ومن العرب من يقول: اللذو، ومنهم من يقول الذي، وسيأتي.[/font]
[font=&quot] وفي "عليهم" عشر لغات، قرئ بعامتها: "عليهُم" بضم الهاء وإسكان الميم. "وعليهِم" بكسر الهاء وإسكان الميم. و"عليهمي" بكسر الهاء والميم وإلحاق ياء بعد الكسرة. و"عليهمو" بكسر الهاء وضم الميم وزيادة واو بعد الضمة. و"عليهمو" بضم الهاء والميم كلتيهما وإدخال واو بعد الميم. و"عليهم" بضم الهاء والميم من غير زيادة واو. وهذه الأوجه الستة مأثورة عن الأئمة من القراء. وأوجه أربعة منقولة عن العرب غير محكية عن القراء: "عليهمي" بضم الهاء وكسر الميم وإدخال ياء بعد الميم، حكاها الحسن البصري عن العرب. و"عليهُمِ" بضم الهاء وكسر الميم من غير زيادة ياء. و"عليهِمُ" بكسر الهاء وضم الميم من غير إلحاق واو. و"عليهم" بكسر الهاء والميم ولا ياء بعد الميم. وكلها صواب، قاله ابن الأنباري.[/font]
[font=&quot]@ قرأ عمر بن الخطاب وابن الزبير رضي الله عنهما "صراط من أنعمت عليهم". واختلف الناس في المنعم عليهم، فقال الجمهور من المفسرين: إنه أراد صراط النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وانتزعوا ذلك من قوله تعالى: "ومن يطع الله والرسول فأولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا" [النساء: 69]. فالآية تقتضي أن هؤلاء على صراط مستقيم، وهو المطلوب في آية الحمد وجميع ما قيل إلى هذا يرجع، فلا معنى لتعديد الأقوال والله المستعان.[/font]
[font=&quot]@ في هذه الآية رد على القدرية والمعتزلة والإمامية، لأنهم يعتقدون أن إرادة الإنسان كافية في صدور أفعال منه طاعة كانت أو معصية، لأن الإنسان عندهم خالق لأفعاله فهو غير محتاج في صدورها عنه إلى ربه، وقد أكذبهم الله تعالى في هذه الآية إذ سألوه الهداية إلى الصراط المستقيم فلو كان الأمر إليهم والاختيار بيدهم دون ربهم لما سألوه الهداية، ولا كرروا السؤال في كل صلاة وكذلك تضرعهم إليه في دفع المكروه وهو ما يناقض الهداية حيث قالوا: "صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين" [الفاتحة: الآية]. فكما سألوه أن يهديهم سألوه ألا يضلهم، وكذلك يدعون فيقولون: "ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إن هديتنا" [آل عمران: 8] الآية.[/font]
[font=&quot]@قوله تعالى: "غير المغضوب عليهم ولا الضالين" اختلف في "المغضوب عليهم" و"الضالين" من هم؟ فالجمهور أن المغضوب عليهم اليهود والضالين النصارى، وجاء ذلك مفسرا عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عدي بن حاتم وقصة إسلامه، أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده والترمذي في جامعه. وشهد لهذا التفسير أيضا قوله سبحانه في اليهود: "وباؤوا بغضب من الله" [البقرة: 61 وآل عمران: 112]. وقال: "وغضب الله عليهم" [الفتح: 6] وقال في النصارى: "قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل" [المائدة: 77]. وقيل: "المغضوب عليهم" المشركون. و"الضالين" المنافقون. وقيل: "المغضوب عليهم" هو من أسقط فرض هذه السورة في الصلاة و"الضالين" عن بركة قراءتها. حكاه السلمي في حقائقه والماوردي في تفسيره وليس بشيء. قال الماوردي: وهذا وجه مردود، لأن ما تعارضت فيه الأخبار وتقابلت فيه الآثار وانتشر فيه الخلاف لم يجز أن يطلق عليه هذا الحكم. وقيل: "المغضوب عليهم" باتباع البدع و"الضالين" عن سنن الهدى.[/font]
[font=&quot] قلت: وهذا حسن، وتفسير النبي صلى الله عليه وسلم أولى وأعلى وأحسن. و"عليهم" في موضع رفع لأن المعنى غضب عليهم. والغضب في اللغة الشدة. ورجل غضوب أي شديد الخلق. والغضوب: الحية الخبيثة لشدتها. والغضبة: الدرقة من جلد البعير، يطوى بعضها على بعض، سميت بذلك لشدتها. ومعنى الغضب في صفة الله تعالى إرادة العقوبة، فهو صفة ذات وإرادة الله تعالى من صفات ذاته أو نفس العقوبة ومنه الحديث: (إن الصدقة لتطفئ غضب الرب) فهو صفة فعل.[/font]
 
[font=&quot]@قوله تعالى: "ولا الضالين" الضلال في كلام العرب هو الذهاب عن سنن القصد وطريق الحق، ومنه: ضل اللبن في الماء أي غاب. ومنه: "أئذا ضللنا في الأرض" [السجدة: 10] أي غبنا بالموت وصرنا ترابا، قال:[/font]
[font=&quot] ألم تسأل فتخبرك الديار عن الحي المضلَّل أين ساروا[/font]
[font=&quot]والضُّلَضِلَة: حجر أملس يردده الماء في الوادي. وكذلك الغضبة: صخرة في الجبل مخالفة لونه قال: أو غضبة في هضبة ما أمنعا[/font]
[font=&quot]@ قرأ عمر بن الخطاب وأبي بن كعب "غير المغضوب عليهم وغير الضالين" وروي عنهما في الراء النصب والخفض في الحرفين، فالخفض على البدل من "الذين" أو من الهاء والميم في "عليهم" أو صفة للذين والذين معرفة ولا توصف المعارف بالنكرات ولا النكرات بالمعارف، إلا أن الذين ليس بمقصود قصدهم فهو عام فالكلام بمنزلة قولك: إني لأمر بمثلك فأكرمه أو لأن "غير" تعرفت لكونها بين شيئين لا وسط بينهما كما تقول: الحي غير الميت والساكن غير المتحرك والقائم غير القاعد، قولان: الأول للفارسي والثاني للزمخشري. والنصب في الراء على وجهين: على الحال من الذين أو من الهاء والميم في عليهم كأنك قلت: أنعمت عليهم لا مغضوبا عليهم. أو على الاستثناء كأنك قلت: إلا المغضوب عليهم. ويجوز النصب بأعني، وحكي عن الخليل.[/font]
[font=&quot]@قوله تعالى: "لا" في "ولا الضالين" اختلف فيها فقيل هي زائدة، قاله الطبري. ومنه قوله تعالى: "ما منعك ألا تسجد" [الأعراف: 12]. وقيل: هي تأكيد دخلت لئلا يتوهم أن الضالين معطوف على الذين، حكاه مكي والمهدوي. وقال الكوفيون: "لا" بمعنى غير وهي قراءة عمر وأبي وقد تقدم.[/font]
[font=&quot]@ الأصل في "الضالين": الضاللين حذفت حركة اللام الأولى ثم أدغمت اللام في اللام فاجتمع ساكنان مدة الألف واللام المدغمة. وقرأ أيوب السختياني: "ولا الضالين" بهمزة غير ممدودة كأنه فر من التقاء الساكنين، وهي لغة. حكى أبو زيد قال: سمعت عمرو بن عبيد - يقرأ: "فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جأَنّ" [الرحمن: 39] فظننته قد لحن حتى سمعت من العرب: دأبة وشأبة. قال أبو الفتح: وعلى هذه اللغة قول كُثَيّر: إذا ما العوالي بالعبيط احمأرت[/font]
[font=&quot] نُجز تفسير سورة الحمد، ولله الحمد والمنة.[/font]
[font=&quot]*2*سورة البقرة[/font]
[font=&quot]*3*مقدمة السورة[/font]
[font=&quot]@وأول مبدوء به الكلام في نزولها وفضلها وما جاء فيها، وهكذا كل سورة إن وجدنا لها ذلك، فنقول: سورة البقرة مدنية، نزلت في مُدَدٍ شتى. وقيل: هي أول سورة نزلت بالمدينة، إلا قوله تعالى: "واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله" [البقرة: 281] فإنه آخر آية نزلت من السماء، ونزلت يوم النحر في حجة الوداع بمنى، وآيات الربا أيضا من أواخر ما نزل من القرآن.[/font]
[font=&quot] وهذه السورة فضلها عظيم وثوابها جسيم. ويقال لها: فسطاط القرآن، قاله خالد بن معدان. وذلك لعظمها وبهائها، وكثرة أحكامها ومواعظها. وتعلمها عمر رضي الله عنه بفقهها وما تحتوي عليه في اثنتي عشرة سنة، وابنه عبدالله في ثماني سنين كما تقدم.[/font]
[font=&quot] قال ابن العربي: سمعت بعض أشياخي يقول: فيها ألف أمر وألف نهي وألف حكم وألف خبر. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا وهم ذوو عدد وقدم عليهم أحدثهم سنا لحفظه سورة البقرة، وقال له: (اذهب فأنت أميرهم) أخرجه الترمذي عن أبي هريرة وصححه. وروى مسلم عن أبي أمامة الباهلي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اقرؤوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة)، قال معاوية: بلغني أن البطلة: السحرة. وروي أيضا عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة). وروى الدارمي عن عبدالله قال: ما من بيت يقرأ فيه سورة البقرة إلا خرج منه الشيطان وله صراط. وقال: إن لكل شيء سناما وإن سنام القرآن سورة البقرة، وإن لكل شيء لباباً وإن لباب القرآن المفصل. قال أبو محمد الدارمي. اللباب: الخالص. وفي صحيح البستي عن سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لكل شيء سناما وإن سنام القرآن سورة البقرة ومن قرأها في بيته ليلا لم يدخل الشيطان بيته ثلاث ليال ومن قرأها نهارا لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام). قال أبو حاتم البستي: قوله صلى الله عليه وسلم: (لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام) أراد: مردة الشياطين. وروى الدارمي في مسنده عن الشعبي قال قال عبدالله: من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة حتى يصبح، أربعا من أولها وآية الكرسي وآيتين بعدها وثلاثا خواتيمها، أولها: "لله ما في السموات" [البقرة: 284]. وعن الشعبي عنه: لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان ولا شيء يكرهه، ولا يقرأن على مجنون إلا أفاق. وقال المغيرة بن سبيع - وكان من أصحاب عبدالله - : لم ينس القرآن. وقال إسحاق بن عيسى: لم ينس ما قد حفظ. قال أبو محمد الدارمي: منهم من يقول: المغيرة بن سميع. وفي كتاب الاستيعاب لابن عبدالبر: وكان لبيد بن ربيعة بن عام بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة من شعراء الجاهلية، أدرك الإسلام فحسن إسلامه وترك قول الشعر في الإسلام، سأل عمر في خلافته عن شعره واستنشده، فقرأ سورة البقرة، فقال: إنما سألتك عن شعرك، فقال: ما كنت لأقول بيتا من الشعر بعد إذ علمني الله البقرة وآل عمران، فأعجب عمر قوله، وكان عطاؤه ألفين فزاده خمسمائة. وقد قال كثير من أهل الأخبار: إن لبيدا لم يقل شعرا منذ أسلم. وقال بعضهم: لم يقل في الإسلام إلا قوله:[/font]
[font=&quot] الحمد لله إذ لم يأتني أجلي حتى اكتسيت من الإسلام سربالا[/font]
[font=&quot]قال ابن عبدالبر: وقد قيل إن هذا البيت لقردة بن نفاثة السلولي، وهو أصح عندي. وقال غيره: بل البيت الذي قال في الإسلام:[/font]
[font=&quot] ما عاتب المرء الكريم كنفسه والمرء يصلحه القرين الصالح[/font]
[font=&quot]وسيأتي ما ورد في آية الكرسي وخواتيم البقرة، ويأتي في أول سورة آل عمران زيادة بيان لفضل هذه السورة، إن شاء الله تعالى.[/font]
[font=&quot]*3*الآية :1 {الم}[/font]
 
[font=&quot]@قوله تعالى: "الم" اختلف أهل التأويل في الحروف التي في أوائل السورة، فقال عامر الشعبي وسفيان الثوري وجماعة من المحدثين: هي سر الله في القرآن، ولله في كل كتاب من كتبه سر. فهي من المتشابه الذي انفرد الله تعالى بعلمه، ولا يجب أن يتكلم فيها، ولكن نؤمن بها ونقرأ كما جاءت. وروي هذا القول عن أبي بكر الصديق وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما. وذكر أبو الليث السمرقندي عن عمر وعثمان وابن مسعود أنهم قالوا: الحروف المقطعة من المكتوم الذي لا يفسر. وقال أبو حاتم: لم نجد الحروف المقطعة في القرآن إلا في أوائل السور، ولا ندري ما أراد الله جل وعز بها.[/font]
[font=&quot] قلت: ومن هذا المعنى ما ذكره أبو بكر الأنباري: حدثنا الحسن بن الحباب حدثنا أبو بكر بن أبي طالب حدثنا أبو المنذر الواسطي عن مالك بن مغول عن سعيد بن مسروق عن الربيع بن خثيم قال: إن الله تعالى أنزل هذا القران فاستأثر منه بعلم ما شاء، وأطلعكم على ما شاء، فأما ما استأثر به لنفسه فلستم بنائليه فلا تسألوا عنه، وأما الذي أطلعكم عليه فهو الذي تسألون عنه وتخبرون به، وما بكل القرآن تعلمون، ولا بكل ما تعلمون تعملون. قال أبو بكر: فهذا يوضح أن حروفا من القرآن سترت معانيها عن جميع العالم، اختبارا من الله عز وجل وامتحانا، فمن آمن بها أثيب وسعد، ومن كفر وشك أثم وبعد. حدثنا أبو يوسف بن يعقوب القاضي حدثنا محمد بن أبي بكر حدثنا عبدالرحمن بن مهدي عن سفيان عن الأعمش عن عمارة عن حريث بن ظهير عن عبدالله قال: ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ: "الذين يؤمنون بالغيب" [البقرة: 3].[/font]
[font=&quot] قلت: هذا القول في المتشابه وحكمه، وهو الصحيح على ما يأتي بيانه في (آل عمران) إن شاء الله تعالى. وقال جمع من العلماء كبير: بل يجب أن نتكلم فيها، ويلتمس الفوائد التي تحتها، والمعاني التي تتخرج عليها، واختلفوا في ذلك على أقوال عديدة، فروي عن ابن عباس وعلي أيضا: أن الحروف المقطعة في القرآن اسم الله الأعظم، إلا أنا لا نعرف تأليفه منها. وقال قطرب والفراء وغيرهما: هي إشارة إلى حروف الهجاء أعلم الله بها العرب حين تحداهم بالقرآن أنه مؤتلف من حروف هي التي منها بناء كلامهم، ليكون عجزهم عنه أبلغ في الحجة عليهم إذ لم يخرج عن كلامهم. قال قطرب: كانوا ينفرون عند استماع القرآن، فلما سمعوا: "الم" و"المص" استنكروا هذا اللفظ، فلما أنصتوا له صلى الله عليه وسلم أقبل عليهم بالقرآن المؤتلف ليثبته في أسماعهم وآذانهم ويقيم الحجة عليهم. وقال قوم: روي أن المشركين لما أعرضوا عن سماع القرآن بمكة وقالوا: "لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه" [فصلت: 26] نزلت ليستغربوها فيفتحون لها أسماعهم فيسمعون القرآن بعدها فتجب عليهم الحجة. وقال جماعة: هي حروف دالة على أسماء أخذت منها وحذفت بقيتها، كقول ابن عباس وغيره: الألف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: الألف مفتاح اسمه الله، واللام مفتاح اسمه لطيف، والميم مفتاح اسمه مجيد. وروى أبو الضحى عن ابن عباس في قوله: "الم" قال: أنا الله أعلم، "الر" أنا الله أرى، "المص" أنا الله أفضل. فالألف تؤدي عن معنى أنا، واللام تؤدي عن اسم الله، والميم تؤدي عن معنى أعلم. واختار هذا القول الزجاج وقال: اذهب إلى أن كل حرف منها يؤدي عن معنى، وقد تكلمت العرب بالحروف المقطعة نظما لها ووضعا بدل الكلمات التي الحروف منها، كقوله:[/font]
[font=&quot] فقلت لها قفي فقالت قاف[/font]
[font=&quot]أراد: قالت وقفت. وقال زهير:[/font]
[font=&quot] بالخير خيرات وإن شرا فا ولا أريد الشر إلا أن تا[/font]
[font=&quot]أراد: وإن شرا فشر. وأراد: إلا أن تشاء.[/font]
[font=&quot]وقال آخر:[/font]
[font=&quot] نادوهم ألا الجموا ألا تا قالوا جميعا كلهم ألا فا[/font]
[font=&quot] أراد: ألا تركبون، قالوا: ألا فاركبوا. وفي الحديث: (من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة) قال شقيق: هو أن يقول في أقتل: أقْ، كما قال عليه السلام (كفى بالسيف شا) معناه: شافيا.[/font]
[font=&quot] وقال زيد بن أسلم: هي أسماء للسور. وقال الكلبي: هي أقسام أقسم الله تعالى بها لشرفها وفضلها، وهي من أسمائه، عن ابن عباس أيضا ورد بعض العلماء هذا القول فقال: لا يصح أن يكون قسما لأن القسم معقود على حروف مثل: إن وقد ولقد وما، ولم يوجد ههنا حرف من هذه الحروف، فلا يجوز أن يكون يمينا. والجواب أن يقال: موضع القسم قوله تعالى: "لا ريب فيه" فلو أن إنسانا حلف فقال: والله هذا الكتاب لا ريب فيه، لكان الكلام سديدا، وتكون "لا" جواب القسم. فثبت أن قول الكلبي وما روي عن ابن عباس سديد صحيح.[/font]
[font=&quot] فإن قيل: ما الحكمة في القسم من الله تعالى، وكان القوم في ذلك الزمان على صنفين: مصدق، ومكذب، فالمصدق يصدق بغير قسم، والمكذب لا يصدق مع القسم؟. قيل له: القرآن نزل بلغة العرب، والعرب إذا أراد بعضهم أن يؤكد كلامه أقسم على كلامه، والله تعالى أراد أن يؤكد عليهم الحجة فأقسم أن القرآن من عنده. وقال بعضهم: "الم" أي أنزلت عليك هذا الكتاب من اللوح المحفوظ. وقال قتادة في قوله: "الم" قال اسم من أسماء القرآن. وروي عن محمد بن علي الترمذي أنه قال: إن الله تعالى أودع جميع ما في تلك السورة من الأحكام والقصص في الحروف التي ذكرها في أول السورة، ولا يعرف ذلك إلا نبي أو ولي، ثم بين ذلك في جميع السورة ليفقّه الناس. وقيل غير هذا من الأقوال، فالله أعلم.[/font]
[font=&quot] والوقف على هذه الحروف على السكون لنقصانها إلا إذا أخبرت عنها أو عطفتها فإنك تعربها. واختلف: هل لها محل من الإعراب؟ فقيل: لا، لأنها ليست أسماء متمكنة، ولا أفعالا مضارعة، وإنما هي بمنزلة حروف التهجي فهي محكية. هذا مذهب الخليل وسيبويه. ومن قال: إنها أسماء السور فموضعها عنده الرفع على أنها عنده خبر ابتداء مضمر، أي هذه "الم"، كما تقول: هذه سورة البقرة. أو تكون رفعا على الابتداء والخبر ذلك، كما تقول: زيد ذلك الرجل. وقال ابن كَيسان النحوي: "الم" في موضع نصب، كما تقول: اقرأ "الم" أو عليك "الم". وقيل: في موضع خفض بالقسم، لقول ابن عباس: إنها أقسام أقسم الله بها.[/font]
[font=&quot]*3*الآية: 2 {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} [/font]
 
[font=&quot]@قوله تعالى: "ذلك الكتاب" قيل: المعنى هذا الكتاب. و"ذلك" قد تستعمل في الإشارة إلى حاضر، وإن كان موضوعا للإشارة إلى غائب، كما قال تعالى في الإخبار عن نفسه جل وعز: "ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم" [السجدة: 6]، ومنه قول خُفاف بن نُدبة:[/font]
[font=&quot] أقول له والرمح يأطر متنه تأمل خفافا إنني أنا ذلكا[/font]
[font=&quot] أي أنا هذا. فـ "ذلك" إشارة إلى القرآن، موضوع موضع هذا، تلخيصه: الم هذا الكتاب لا ريب فيه. وهذا قول أبي عبيدة وعكرمة وغيرهما، ومنه قوله تعالى: "وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم" [الأنعام: 83] "تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق" [البقرة: 252] أي هذه، لكنها لما انقضت صارت كأنها بعدت فقيل تلك. وفي البخاري "وقال معمر ذلك الكتاب هذا القرآن". "هدى للمتقين" بيان ودلالة، كقوله: "ذلكم حكم الله يحكم بينكم" [الممتحنة: 10] هذا حكم الله.[/font]
[font=&quot] قلت: وقد جاء "هذا" بمعنى "ذلك"، ومنه قوله عليه السلام في حديث أم حرام: (يركبون ثبج هذا البحر) أي ذلك البحر، والله أعلم. وقيل: هو على بابه إشارة إلى غائب.[/font]
[font=&quot] واختلف في ذلك الغائب على أقوال عشرة، فقيل: "ذلك الكتاب" أي الكتاب الذي كتبتُ على الخلائق بالسعادة والشقاوة والأجل والرزق لا ريب فيه، أي لا مبدل له. وقيل: ذلك الكتاب، أي الذي كتبتُ على نفسي في الأزل (أن رحمتي سبقت غضبي). وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما قضى الله الخلق كتب في كتابه على نفسه فهو موضوع عنده أن رحمتي تغلب غضبي) في رواية: (سبقت). وقيل: إن الله تعالى قد كان وعد نبيه عليه السلام أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء، فأشار إلى ذلك الوعد كما في صحيح مسلم من حديث عياض بن حِمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب وقال إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان) الحديث. وقيل: الإشارة إلى ما قد نزل من القرآن بمكة. وقيل: إن الله تبارك وتعالى لما أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم بمكة: "إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا" [المزمل: 5] لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مستشرفا (وفي النسخة: مستسرفا) لإنجاز هذا الوعد من ربه عز وجل، فلما أنزل عليه بالمدينة: "الم. ذلك الكتاب لا ريب فيه" [البقرة: 1 - 2] كان فيه معنى هذا القرآن الذي أنزلته عليك بالمدينة، ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أوحيه إليك بمكة. وقيل: إن "ذلك" إشارة إلى ما في التوراة والإنجيل. و"الم" اسم للقرآن، والتقدير هذا القرآن ذلك الكتاب المفسر في التوراة والإنجيل، يعني أن التوراة والإنجيل يشهدان بصحته ويستغرق ما فيهما ويزيد عليهما ما ليس فيهما. وقيل: إن "ذلك الكتاب" إشارة إلى التوراة والإنجيل كليهما، والمعنى: الم ذانك الكتابان أو مثل ذينك الكتابين، أي هذا القرآن جامع لما في ذينك الكتابين، فعبر بـ "بذلك" عن الاثنين بشاهد من القرآن، قال الله تبارك وتعالى: "إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك" [البقرة: 68] أي عوان بين تينك: الفارض والبكر، وسيأتي. وقيل: إن "ذلك" إشارة إلى اللوح المحفوظ. وقال الكسائي: "ذلك" إشارة إلى القرآن الذي في السماء لم ينزل بعد. وقيل: إن الله تعالى قد كان وعد أهل الكتاب أن ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم كتابا، فالإشارة إلى ذلك الوعد. قال المبرد: المعنى هذا القرآن ذلك الكتاب الذي كنتم تستفتحون به على الذين كفروا. وقيل: إلى حروف المعجم في قول من قال: "الم" الحروف التي تحديتكم بالنظم منها.[/font]
[font=&quot] والكتاب مصدر من كتب يكتب إذا جمع، ومنه قيل: كتيبة، لاجتماعها. وتكتَّبت الخيل صارت كتائب. وكتبتُ البغلة: إذا جمعت بين شُفْري رَحِمِها بحلقة أو سير، قال:[/font]
[font=&quot] لا تأمنن فَزاريا حللت به على قَلوصك واكتبها بأسيار[/font]
[font=&quot] والكتبة (بضم الكاف): الخرزة، والجمع كتب. والكتب: الخزر. قال ذو الرمة:[/font]
[font=&quot] وفراء غرفية أثأى خوارزها مُشَلشِل ضيَّعتْه بينها الكتبُ[/font]
[font=&quot]والكتاب: هو خط الكاتب حروف المعجم مجموعة أو متفرقة، وسمي كتابا وإن كان مكتوبا، كما قال الشاعر:[/font]
[font=&quot] تؤمِّل رجعة مني وفيها كتاب مثل ما لصق الغراء[/font]
[font=&quot]والكتاب: الفرض والحكم والقدر، قال الجَعدِي:[/font]
[font=&quot] يا ابنة عمي كتاب الله أخرجني عنكم وهل أمنعنَّ الله ما فعلا[/font]
[font=&quot]@قوله تعالى: "لا ريب" نفي عام، ولذلك نصب الريب به. وفي الريب ثلاثة معان:[/font]
[font=&quot] أحدها: الشك، قال عبدالله بن الزبعرى:[/font]
[font=&quot] ليس في الحق يا أميمة ريب إنما الريب ما يقول الجهول[/font]
[font=&quot] وثانيها: التهمة، قال جميل:[/font]
[font=&quot] بثينة قالت يا جميل أربتني فقلت كلانا يا بثين مريب[/font]
[font=&quot] وثالثها: الحاجة، قال:[/font]
[font=&quot] قضينا من تهامة كل ريب وخيبر ثم أجمعنا السيوفا[/font]
[font=&quot]فكتاب الله تعالى لا شك فيه ولا ارتياب، والمعنى: أنه في ذاته حق وأنه منزل من عند الله، وصفة من صفاته، غير مخلوق ولا محدث، وإن وقع ريب للكفار. وقيل: هو خبر ومعناه النهي، أي لا ترتابوا، وتم الكلام كأنه قال ذلك الكتاب حقا. وتقول: رابني هذا الأمر إذا أدخل عليك شكا وخوفا. وأراب: صار ذا ريبة، فهو مريب. ورابني أمره. وريب الدهر: صروفه.[/font]
[font=&quot]@قوله تعالى: "فيه هدى للمتقين" الهاء في "فيه" في موضع خفض بفي، وفيه خمسة أوجه، أجودها: فيهِ هدى. ويليه فيهُ هدى (بضم الهاء بغير واو) وهي قراءة الزهري وسلام أبي المنذر. ويليه فيهي هدى (بإثبات الياء) وهي قراءة ابن كثير. ويجوز فيهو هدى (بالواو). ويجوز فيه هدى (مدغما) وارتفع "هدى" على الابتداء والخبر "فيه". والهدى في كلام العرب معناه الرشد والبيان، أي فيه كشف لأهل المعرفة ورشد وزيادة بيان وهدى. [/font]
[font=&quot]@ الهدى هُديان: هدى دلالة، وهو الذي تقدر عليه الرسل وأتباعهم، قال الله تعالى: "ولكل قوم هاد" [الرعد: 7]. وقال: "وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم" [الشورى: 52] فأثبت لهم الهدى الذي معناه الدلالة والدعوة والتنبيه، وتفرد هو سبحانه بالهدى الذي معناه التأييد والتوفيق، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: "إنك لا تهدي من أحببت" [القصص: 56] فالهدى على هذا يجيء بمعنى خلق الإيمان في القلب، ومنه قوله تعالى: "أولئك على هدى من ربهم" [البقرة: 5] وقوله: "ويهدي من يشاء" [فاطر: 8] والهدى: الاهتداء، ومعناه راجع إلى معنى الإرشاد كيفما تصرفت. قال أبو المعالي: وقد ترد الهداية والمراد بها إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان والطرق المفضية إليها، من ذلك قوله تعالى في صفة المجاهدين: "فلن يضل أعمالهم. سيهديهم" [محمد: 4 - 5] ومنه قوله تعالى: "فاهدوهم إلى صراط الجحيم" [الصافات: 23] معناه فاسلكوهم إليها. [/font]
[font=&quot]@ الهدى لفظ مؤنث. قال الفراء: بعض بني أسد تؤنث الهدى فتقول: هذه هدى حسنة. وقال اللحياني: هو مذكر، ولم يعرب لأنه مقصور والألف لا تتحرك، ويتعدى بحرف وبغير حرف وقد مضى في "الفاتحة"، تقول: هديته الطريق وإلى الطريق والدار وإلى الدار، أي عرفته. الأولى لغة أهل الحجاز، والثانية حكاها الأخفش. وفي التنزيل: "اهدنا الصراط المستقيم" و"الحمد لله الذي هدانا لهذا" [الأعراف: 43] وقيل: إن الهدى اسم من أسماء النهار، لأن الناس يهتدون فيه لمعايشهم وجميع مأربهم، ومنه قول ابن مُقبل:[/font]
[font=&quot] حتى استبنت الهدى والبيد هاجمة يخشعن في الآل غلفا أو يصلينا[/font]
[font=&quot]@قوله تعالى: "للمتقين" خص الله تعالى المتقين بهدايته وإن كان هدى للخلق أجمعين تشريفا لهم، لأنهم آمنوا وصدقوا بما فيه. وروي عن أبى رَوق أنه قال: "هدى للمتقين" أي كرامة لهم، يعني إنما أضاف إليهم إجلالا لهم وكرامة لهم وبيانا لفضلهم. وأصل "للمتقين": للموتقيين بياءين مخففتين، حذفت الكسرة من الياء الأولى لثقلها ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين وأبدلت الواو تاء على أصلهم في اجتماع الواو والتاء وأدغمت التاء في التاء فصار للمتقين. [/font]
[font=&quot]الخامسة: التقوى يقال أصلها في اللغة قلة الكلام، حكاه ابن فارس. قلت ومنه الحديث (التقي مُلْجَم والمتقي فوق المؤمن والطائع) وهو الذي يتقي بصالح عمله وخالص دعائه عذاب الله تعالى، مأخوذ من اتقاء المكروه بما تجعله حاجزا بينك وبينه، كما قال النابغة:[/font]
[font=&quot] سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد[/font]
[font=&quot] وقال آخر:[/font]
[font=&quot] فألقت قناعا دونه الشمس واتقت بأحسن موصولين كف ومعصم[/font]
[font=&quot]وخرج أبو محمد عبدالغني الحافظ من حديث سعيد بن زَربي أبي عبيدة عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود قال قال يوما لابن أخيه: يا ابن أخي ترى الناس ما أكثرهم؟ قال: نعم، قال: لا خير فيهم إلا تائب أو تقي ثم قال: يا ابن أخي ترى الناس ما أكثرهم؟ قلت: بلى، قال: لا خير فيهم إلا عالم أو متعلم. وقال أبو يزيد البسطامي: المتقي من إذا قال قال لله، ومن إذا عمل عمل لله. وقال أبو سليمان الداراني: المتقون الذين نزع الله عن قلوبهم حب الشهوات. وقيل: المتقي الذي اتقى الشرك وبرئ من النفاق. قال ابن عطية: وهذا فاسد، لأنه قد يكون كذلك وهو فاسق. وسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أُبيا عن التقوى، فقال: هل أخذت طريقا ذا شوك؟ قال: نعم: قال فما عملت فيه؟ قال: تشمرت وحذرت، قال: فذاك التقوى. وأخذ هذا المعنى ابن المعتز فنظمه:[/font]
[font=&quot] خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى[/font]
[font=&quot] واصنع كماش فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى[/font]
[font=&quot] لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى[/font]
[font=&quot] السادسة: التقوى فيها جماع الخير كله، وهي وصية الله في الأولين والآخرين، وهي خير ما يستفيده الإنسان، كما قال أبو الدرداء وقد قيل له: إن أصحابك يقولون الشعر وأنت ما حفظ عنك شيء، فقال:[/font]
[font=&quot] يريد المرء أن يؤتى مناه ويأبى الله إلا ما أرادا[/font]
[font=&quot] يقول المرء فائدتي ومالي وتقوى الله أفضل ما استفادا[/font]
[font=&quot] وروى ابن ماجة في سننه عن أبى أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خير له من زوجة صالحة إن أمرها أطاعته وإن نظر إليها سرته وإن أقسم عليها أبرته وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله).[/font]
[font=&quot] والأصل في التقوى: وَقْوَى على وزن فعلى فقلبت الواو تاء من وقيته أقيه أي منعته، ورجل تقي أي خائف، أصله وقي، وكذلك تقاة كانت في الأصل وقاة، كما قالوا: تجاه وتراث، والأصل وجاه ووراث.[/font]
[font=&quot]*3* الآية: 3{الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون}[/font]
 
[font=&quot]@قوله تعالى: "الذين" في موضع خفض نعت "للمتقين"، ويجوز الرفع على القطع أي هم الذين، ويجوز النصب على المدح. "يؤمنون" يصدقون. والإيمان في اللغة: التصديق، وفي التنزيل: "وما أنت بمؤمن لنا" [يوسف: 17] أي بمصدق، ويتعدى بالباء واللام، كما قال: "ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم" [آل عمران: 73] "فما آمن لموسى" [يونس: 83] وروى حجاج بن حجاج الأحول - ويلقب بزقّ العسل - قال سمعت قتادة يقول: يا ابن آدم، إن كنت لا تريد أن تأتي الخير إلا عن نشاط فإن نفسك مائلة إلى السأمة والفترة والملة، ولكن المؤمن هو المتحامل، والمؤمن هو المتقوي، والمؤمن هو المتشدد، وإن المؤمنين هم العجاجون إلى الله الليل والنهار، والله ما يزال المؤمن يقول: ربنا في السر والعلانية حتى استجاب لهم في السر والعلانية.[/font]
[font=&quot]
[/font]

[font=&quot]@قوله تعالى "بالغيب" الغيب في كلام العرب: كل ما غاب عنك، وهو من ذوات الياء يقال منه: غابت الشمس تغيب، والغيبة معروفة. وأغابت المرأة فهي مغيبة إذا غاب عنها زوجها، ووقعنا في غيبة وغيابة، أي هبطة من الأرض، والغيابة: الأجمة، وهي جماع الشجر يغاب فيها، ويسمى المطمئن من الأرض: الغيب، لأنه غاب عن البصر.[/font]
[font=&quot] واختلف المفسرون في تأويل الغيب هنا، فقالت فرقة: الغيب في هذه الآية: الله سبحانه. وضعفه ابن العربي. وقال آخرون: القضاء والقدر. وقال آخرون: القرآن وما فيه من الغيوب. وقال آخرون: الغيب كل ما أخبر به الرسول عليه السلام مما لا تهتدي إليه العقول من أشراط الساعة وعذاب القبر والحشر والنشر والصراط والميزان والجنة والنار. قال ابن عطية: وهذه الأقوال لا تتعارض بل يقع الغيب على جميعها.[/font]
[font=&quot] قلت: وهذا الإيمان الشرعي المشار إليه في حديث جبريل عليه السلام حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم: فأخبرني عن الإيمان. قال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره). قال: صدقت. وذكر الحديث. وقال عبدالله بن مسعود: ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ: "الذين يؤمنون بالغيب" [البقرة: 3].[/font]
[font=&quot] قلت: وفي التنزيل: "وما كنا غائبين" [الأعراف: 7] وقال: "الذين يخشون ربهم بالغيب" [الأنبياء: 49] فهو سبحانه غائب عن الأبصار، غير مرئي في هذه الدار، غير غائب بالنظر والاستدلال، فهم يؤمنون أن لهم ربا قادرا يجازي على الأعمال، فهم يخشونه في سرائرهم وخلواتهم التي يغيبون فيها عن الناس، لعلمهم بإطلاعه عليهم، وعلى هذا تتفق الآي ولا تتعارض، والحمد لله. وقيل: "بالغيب" أي بضمائرهم وقلوبهم بخلاف المنافقين، وهذا قول حسن. وقال الشاعر:[/font]
[font=&quot] وبالغيب أمنا وقد كان قومنا يصلّون للأوثان قبل محمد[/font]
[font=&quot]
[/font]

[font=&quot]@قوله تعالى: "ويقيمون الصلاة" معطوف جملة على جملة. وإقامة الصلاة أداؤها بأركانها وسننها وهيئاتها في أوقاتها، على ما يأتي بيانه. يقال: قام الشيء أي دام وثبت، وليس من القيام على الرجل، وإنما هو من قولك: قام الحق أي ظهر وثبت، قال الشاعر:[/font]
[font=&quot] وقامت الحرب بنا على ساق[/font]
[font=&quot]وقال آخر:[/font]
[font=&quot] وإذا يقال أتيتم لم يبرحوا حتى تقيم الخيل سوق طعان[/font]
[font=&quot] وقيل: "يقيمون" يديمون، وأقامه أي أدامه، وإلى هذا المعنى أشار عمر بقوله: من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع.[/font]
[font=&quot]
[/font]

[font=&quot]@ إقامة الصلاة معروفة، وهي سنة عند الجمهور، وأنه لا إعادة على تاركها. وعند الأوزاعي وعطاء ومجاهد وابن أبي ليلى هي واجبة وعلى من تركها الإعادة، وبه قال أهل الظاهر، وروي عن مالك، واختاره ابن العربي قال: لأن في حديث الأعرابي (وأقم) فأمره بالإقامة كما أمره بالتكبير والاستقبال والوضوء.[/font]
[font=&quot] قال: فأما أنتم الآن وقد وقفتم على الحديث فقد تعين عليكم أن تقولوا بإحدى روايتي مالك الموافقة للحديث وهي أن الإقامة فرض. قال ابن عبدالبر قوله: (وتحريمها التكبير) دليل على أنه لم يدخل في الصلاة من لم يحرم، فما كان قبل الإحرام فحكمه ألا تعاد منه الصلاة إلا أن يجمعوا على شيء فيسلم للإجماع كالطهارة والقبلة والوقت ونحو ذلك. وقال بعض علمائنا: من تركها عمدا أعاد الصلاة، وليس ذلك لوجوبها إذ لو كان ذلك لاستوى سهوها وعمدها، وإنما ذلك للاستخفاف بالسنن، والله أعلم.[/font]
[font=&quot]
[/font]

[font=&quot]@ واختلف العلماء فيمن سمع الإقامة هل يسرع أو لا؟ فذهب الأكثر إلى أنه لا يسرع وإن خاف فوت الركعة لقوله عليه السلام: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وأتوها تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا). رواه أبو هريرة أخرجه مسلم. وعنه أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا ثوب بالصلاة فلا يَسْعَ إليها أحدكم ولكن ليمش وعليه السكينة والوقار صل ما أدركت واقض ما سبقك). وهذا نص. ومن جهة المعنى أنه إذا أسرع انبهر فشوش عليه دخوله في الصلاة وقراءتها وخشوعها. وذهب جماعة من السلف منهم ابن عمر وابن مسعود على اختلاف عنه أنه إذا خاف فواتها أسرع. وقال إسحاق: يسرع إذا خاف فوات الركعة، وروي عن مالك نحوه، وقال: لا بأس لمن كان على فرس أن يحرك الفرس، وتأوله بعضهم على الفرق بين الماشي والراكب، لأن الراكب لا يكاد أن ينبهر كما ينبهر الماشي. [/font]
[font=&quot] قلت: واستعمال سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل حال أولى، فيمشي كما جاء الحديث وعليه السكينة والوقار، لأنه في صلاة ومحال أن يكون خبره صلى الله عليه وسلم على خلاف ما أخبر، فكما أن الداخل في الصلاة يلزم الوقار والسكون كذلك الماشي، حتى يحصل له التشبه به فيحصل له ثوابه. ومما يدل على صحة هذا ما ذكرناه من السنة، وما خرجه الدارمي في مسنده قال: حدثنا محمد بن يوسف قال حدثنا سفيان عن محمد بن عجلان عن المقبري عن كعب بن عُجْرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا توضأت فعمدت إلى المسجد فلا تشبكن بين أصابعك فإنك في صلاة). فمنع صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وهو صحيح مما هو أقل من الإسراع وجعله كالمصلي، وهذه السنن تبين معنى قوله تعالى: "فاسعوا إلى ذكر الله" [الجمعة: 9] وأنه ليس المراد به الاشتداد على الأقدام، وإنما عنى العمل والفعل، هكذا فسره مالك. وهو الصواب في ذلك والله أعلم.[/font]
[font=&quot]
[/font]

[font=&quot]@ واختلف العلماء في تأويل قوله عليه السلام: (وما فاتكم فأتموا) وقوله: (واقض ما سبقك) هل هما بمعنى واحد أو لا؟ فقيل: هما بمعنى واحد وأن القضاء قد يطلق ويراد به التمام، قال الله تعالى: "فإذا قضيت الصلاة" [الجمعة: 10] وقال: "فإذا قضيتم مناسككم" [البقرة: 200]. وقيل: معناهما مختلف وهو الصحيح، ويترتب على هذا الخلاف خلاف فيما يدركه الداخل هل هو أول صلاته أو أخرها؟ فذهب إلى الأول جماعة من أصحاب مالك - منهم ابن القاسم - ولكنه يقضي ما فاته بالحمد وسورة، فيكون بانيا في الأفعال قاضيا في الأقوال. قال ابن عبدالبر: وهو المشهور من المذهب. وقال ابن خويز منداد: وهو الذي عليه أصحابنا، وهو قول الأوزاعي والشافعي ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل والطبري وداود بن علي. وروى أشهب وهو الذي ذكره ابن عبدالحكم عن مالك، ورواه عيسى عن ابن القاسم عن مالك، أن ما أدرك فهو آخر صلاته، وأنه يكون قاضيا في الأفعال والأقوال، وهو قول الكوفيين. قال القاضي أبو محمد عبدالوهاب: وهو مشهور مذهب مالك. قال ابن عبدالبر: من جعل ما أدرك أول صلاته فأظنهم راعوا الإحرام، لأنه لا يكون إلا في أول الصلاة، والتشهد والتسليم لا يكون إلا في أخرها، فمن ههنا قالوا: إن ما أدرك فهو أول صلاته، مع ما ورد في ذلك من السنة من قوله: (فأتموا) والتمام هو الآخر.[/font]
[font=&quot] واحتج الآخرون بقوله: (فاقضوا) والذي يقضيه هو الفائت، إلا أن رواية من روى "فأتموا" أكثر، وليس يستقيم على قول من قال: إن ما أدرك أول صلاته ويطرد، إلا ما قاله عبدالعزيز بن أبي سلمة الماجِشون والمزني وإسحاق وداود من أنه يقرأ مع الإمام بالحمد وسورة إن أدرك ذلك معه، وإذا قام للقضاء قرأ بالحمد وحدها، فهؤلاء اطرد على أصلهم قولهم وفعلهم، رضي الله عنهم.[/font]
[font=&quot]
[/font]

[font=&quot]@ الإقامة تمنع من ابتداء صلاة نافلة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة) خرجه مسلم وغيره، فأما إذا شرع في نافلة فلا يقطعها، لقوله تعالى: "ولا تبطلوا أعمالكم" [محمد: 33] وخاصة إذا صلى ركعة منها. وقيل: يقطعها لعموم الحديث في ذلك. والله أعلم.[/font]
[font=&quot]
[/font]

[font=&quot]@ واختلف العلماء فيمن دخل المسجد ولم يكن ركع ركعتي الفجر ثم أقيمت الصلاة، فقال مالك: يدخل مع الإمام ولا يركعهما، وإن كان لم يدخل المسجد فإن لم يخف فوات ركعة فليركع خارج المسجد، ولا يركعهما في شيء من أفنية المسجد - التي تصلى فيها الجمعة - اللاصقة بالمسجد، وإن خاف أن تفوته الركعة الأولى فليدخل وليصل معه، ثم يصليهما إذا طلعت الشمس إن أحب، ولأن يصليهما إذا طلعت الشمس أحب إلي وأفضل من تركهما وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن خشي أن تفوته الركعتان ولا يدرك الإمام قبل رفعه من الركوع في الثانية دخل معه، وإن رجا أن يدرك ركعة صلى ركعتي الفجر خارج المسجد، ثم يدخل مع الإمام وكذلك قال الأوزاعي، إلا أنه يجوز ركوعهما في المسجد ما لم يخف فوت الركعة الأخيرة. وقال الثوري: إن خشي فوت ركعة دخل معهم ولم يصلهما وإلا صلاهما وإن كان قد دخل المسجد. وقال الحسن بن حي ويقال ابن حيان: إذا أخذ المقيم في الإقامة فلا تطوع إلا ركعتي الفجر. وقال الشافعي: من دخل المسجد وقد أقيمت الصلاة دخل مع الإمام ولم يركعهما لا خارج المسجد ولا في المسجد. وكذلك قال الطبري وبه قال أحمد بن حنبل وحكي عن مالك، وهو الصحيح في ذلك، لقوله عليه السلام. (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة). وركعتا الفجر إما سنة، وإما فضيلة، وإما رغيبة، والحجة عند التنازع حجة السنة. ومن حجة قول مالك المشهور وأبي حنيفة ما روي عن ابن عمر أنه جاء والإمام يصلي صلاة الصبح فصلاهما في حجرة حفصة، ثم إنه صلى مع الإمام. ومن حجة الثوري والأوزاعي ما روي عن عبدالله بن مسعود أنه دخل المسجد. وقد أقيمت الصلاة فصلى إلى أسطوانة في المسجد ركعتي الفجر، ثم دخل الصلاة بمحضر من حذيفة وأبي موسى رضي الله عنهما. قالوا: (وإذا جاز أن يشتغل بالنافلة عن المكتوبة خارج المسجد جاز له ذلك في المسجد)، روى مسلم عن عبدالله بن مالك ابن بُحَينة قال: أقيمت صلاة الصبح فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يصلي والمؤذن يقيم، فقال: (أتصلي الصبح أربعا) وهذا إنكار منه صلى الله عليه وسلم على الرجل لصلاته ركعتي الفجر في المسجد والإمام يصلي، ويمكن أن يستدل به أيضا على أن ركعتي الفجر إن وقعت في تلك الحال صحت، لأنه عليه السلام لم يقطع عليه صلاته مع تمكنه من ذلك، والله أعلم.
[/font]

[font=&quot]
[/font]

[font=&quot]@ الصلاة أصلها في اللغة الدعاء، مأخوذة من صلى يصلي إذا دعا، ومنه قوله عليه السلام: (إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب فإن كان مفطرا فليطعم وإن كان صائما فليصل) أي فليدع. وقال بعض العلماء: إن المراد الصلاة المعروفة، فيصلي ركعتين وينصرف، والأول أشهر وعليه من العلماء الأكثر. ولما ولدت أسماء عبدالله بن الزبير أرسلته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قالت أسماء: ثم مسحه وصلى عليه، أي دعا له. وقال تعالى: "وصل عليهم" [التوبة: 103] أي ادع لهم. وقال الأعشى:[/font]
[font=&quot] تقول بِنتي وقد قرُبتُ مرتحلا يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا[/font]
[font=&quot] عليكِ مثلَ الذي صليتِ فاغتمضي نوما فإن لجنب المرء مضطجعا[/font]
[font=&quot]وقال الأعشى أيضا:[/font]
[font=&quot] وقابلها الريح في دِنِّها وصلّى على دنها وارتسم[/font]
[font=&quot]ارتسم الرجل: كبر ودعا، قال في الصحاح، وقال قوم: هي مأخوذة من الصلا وهو عرق في وسط الظهر ويفترق عند العجب فيكتنفه، ومنه أخذ المصلي في سبق الخيل، لأنه يأتي في الحلبة ورأسه عند صَلْوَي السابق، فاشتقت الصلاة منه، إما لأنها جاءت ثانية للإيمان فشبهت بالمصلي من الخيل، وإما لأن الراكع تثنى صلَواه. والصلاة: مغرز الذنب من الفرس، والاثنان صلوان. والمصلي: تالي السابق، لأن رأسه عند صلاه. وقال علي رضي الله عنه: سبق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى أبو بكر وثلّث عمر. وقيل: هي مأخوذة من اللزوم، ومنه صلي بالنار إذا لزمها، ومنه "تصلى نارا حامية" [الغاشية: 4]. وقال الحارث بن عُباد:[/font]
[font=&quot] لم أكن من جُناتها علم اللـ ـه وإني بحرها اليوم صال[/font]
[font=&quot] أي ملازم لحرها، وكأن المعنى على هذا ملازمة العبادة على الحد الذي أمر الله تعالى به. وقيل: هي مأخوذة من صليت العود بالنار إذا قومته ولينته بالصلاء. والصلاء: صلاء النار بكسر الصاد ممدود، فإن فتحت الصاد قصرت، فقلت صلا النار، فكأن المصلي يقوم نفسه بالمعاناة فيها ويلين ويخشع، قال الخارزنجي:[/font]
[font=&quot] فلا تعجل بأمرك واستدمه فما صلى عصاك كمستديم[/font]
[font=&quot]والصلاة: الدعاء والصلاة: الرحمة، ومنه: (اللهم صل على محمد) الحديث. والصلاة: العبادة، ومنه قوله تعالى: "وما كان صلاتهم عند البيت" [الأنفال: 35] الآية، أي عبادتهم. والصلاة: النافلة، ومنه قوله تعالى: "وأمر أهلك بالصلاة" [طه: 132]. والصلاة التسبيح، ومنه قوله تعالى: "فلولا أنه كان من المسبحين" [الصافات: 143] أي من المصلين. ومنه سبحة الضحى. وقد قيل في تأويل "نسبح بحمدك" [البقرة: 30] نصلي. والصلاة: القراءة، ومنه قوله تعالى: "ولا تجهر بصلاتك" [الإسراء: 110] فهي لفظ مشترك. والصلاة: بيت يصلّى فيه، قاله ابن فارس. وقد قيل: إن الصلاة اسم علم وضع لهذه العبادة، فإن الله تعالى لم يخل زمانا من شرع، ولم يخل شرع من صلاة، حكاه أبو نصر القشيري.[/font]
[font=&quot] قلت: فعلى هذا القول لا اشتقاق لها، وعلى قول الجمهور وهي: -
[/font]

[font=&quot]
[/font]

[font=&quot]@ اختلف الأصوليون هل هي مبقاة على أصلها اللغوي الوضعي الابتدائي، وكذلك الإيمان والزكاة والصيام والحج، والشرع إنما تصرف بالشروط والأحكام، أو هل تلك الزيادة من الشرع تصيرها موضوعة كالوضع الابتدائي من قبل الشرع. هنا اختلافهم والأول أصح، لأن الشريعة ثبتت بالعربية، والقرآن نزل بها بلسان عربي مبين، ولكن للعرب تحكم في الأسماء، كالدابة وضعت لكل ما يدب، ثم خصصها العرف بالبهائم، فكذلك لعرف الشرع تحكم في الأسماء، والله أعلم.[/font]
[font=&quot] واختلف في المراد بالصلاة هنا، فقيل: الفرائض. وقيل: الفرائض والنوافل معا، وهو الصحيح، لأن اللفظ عام والمتقي يأتي بهما.[/font]
[font=&quot]
[/font]

[font=&quot]@ الصلاة سبب للرزق، قال الله تعالى: "وأمر أهلك بالصلاة" [طه: 132] الآية، على ما يأتي بيانه في "طه" إن شاء الله تعالى. وشفاء من وجع البطن وغيره، روى ابن ماجة عن أبي هريرة قال: هجّر النبي صلى الله عليه وسلم فهجّرت فصليت ثم جلست، فالتفت إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أشكمت درده) قلت: نعم يا رسول الله، قال: (قم فصل فإن في الصلاة شفاء). في رواية: (أشكمت درد) يعني تشتكي بطنك بالفارسية، وكان عليه الصلاة والسلام إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.[/font]
[font=&quot]@ الصلاة لا تصح إلا بشروط وفروض، فمن شروطها: الطهارة، وسيأتي بيان أحكامها في سورة النساء والمائدة. وستر العورة، يأتي في الأعراف القول فيها إن شاء الله تعالى. وأما فروضها: فاستقبال القبلة، والنية، وتكبيرة الإحرام والقيام لها، وقراءة أم القرآن والقيام لها، والركوع والطمأنينة فيه، ورفع الرأس من الركوع والاعتدال فيه، والسجود والطمأنينة فيه، ورفع الرأس من السجود، والجلوس بين السجدتين والطمأنينة فيه، والسجود الثاني والطمأنينة فيه. والأصل في هذه الجملة حديث أبي هريرة في الرجل الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة لما أخلّ بها، فقال له: (إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة ثم كبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا ثم افعل ذلك في صلاتك كلها) خرجه مسلم. ومثله حديث رفاعة بن رافع، أخرجه الدارقطني وغيره. قال علماؤنا: فبين قوله صلى الله عليه وسلم أركان الصلاة، وسكت عن الإقامة ورفع اليدين وعن حد القراءة وعن تكبير الانتقالات، وعن التسبيح في الركوع والسجود، وعن الجلسة الوسطى، وعن التشهد وعن الجلسة الأخيرة وعن السلام. أما الإقامة وتعيين الفاتحة فقد مضى الكلام فيهما. وأما رفع اليدين فليس بواجب عند جماعة العلماء وعامة الفقهاء، لحديث أبي هريرة وحديث رفاعة بن رافع. وقال داود وبعض أصحابه بوجوب ذلك عند تكبيرة الإحرام. وقال بعض أصحابه: الرفع عند الإحرام وعند الركوع وعند الرفع من الركوع واجب، وإن من لم يرفع يديه فصلاته باطلة، وهو قول الحميدي، ورواية عن الأوزاعي. واحتجوا بقوله عليه السلام: (صلوا كما رأيتموني أصلي) أخرجه البخاري. قالوا: فوجب علينا أن نفعل كما رأيناه يفعل، لأنه المبلغ عن الله مراده. وأما التكبير ما عدا تكبيرة الإحرام فمسنون عند الجمهور للحديث المذكور. وكان ابن قاسم صاحب مالك يقول: من أسقط من التكبيرة في الصلاة ثلاث تكبيرات فما فوقها سجد قبل السلام، وإن لم يسجد بطلت صلاته، وإن نسي تكبيرة واحدة أو اثنتين سجد أيضا للسهو، فإن لم يفعل في شيء عليه، وروي عنه أن التكبيرة الواحدة لا سهو على من سها فيها. وهذا يدل على أن عظم التكبير وجملته عنده فرض، وأن اليسير منه متجاوز عنه. وقال أصبغ بن الفرج وعبدالله بن عبدالحكم: ليس على من لم يكبر في الصلاة من أولها إلى آخرها شيء إذا كبر تكبيرة الإحرام، فإن تركه ساهيا سجد للسهو، فإن لم يسجد فلا شيء عليه، ولا ينبغي لأحد أن يترك التكبير عامدا، لأنه سنة من سنن الصلاة، فإن فعل فقد أساء ولا شيء عليه وصلاته ماضية. [/font]
[font=&quot] قلت: هذا هو الصحيح، وهو الذي عليه جماعة فقهاء الأمصار من الشافعيين والكوفيين وجماعة أهل الحديث والمالكيين غير من ذهب مذهب ابن القاسم. وقد ترجم البخاري رحمه الله (باب إتمام التكبير في الركوع والسجود) وساق حديث مُطرّف بن عبدالله قال: صليت خلف علي بن أبي طالب أنا وعمران بن حصين، فكان إذا سجد كبر، وإذا رفع رأسه كبر، وإذا نهض من الركعتين كبر، فلما قضى الصلاة أخذ بيدي عمران بن حصين فقال: لقد ذكرني هذا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم، أو قال: لقد صلى بنا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم. وحديث عكرمة قال: رأيت رجلا عند المقام يكبر في كل خفض ورفع، وإذا قام وإذا وضع، فأخبرت ابن عباس فقال: أو ليس تلك صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لا أُمّ لك فدلّك البخاري رحمه الله بهذا الباب على أن التكبير لم يكن معمولا به عندهم. روى أبو إسحاق السبيعي عن يزيد بن أبي مريم عن أبي موسى الأشعري قال: صلى بنا علي يوم الجمل صلاة أذكرنا بهذا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يكبر في كل خفض ورفع، وقيام وقعود، قال أبو موسى: فإما نسيناها وإما تركناها عمدا.[/font]
[font=&quot] قلت: أتراهم أعادوا الصلاة فكيف يقال من ترك التكبير بطلت صلاته ولو كان ذلك لم يكن فرق بين السنة والفرض، والشيء إذا لم يجب أفراده لم يجب جميعه، وبالله التوفيق.[/font]
 
الوسوم
الجامع القرآن القرطبي لأحكام للإمام
عودة
أعلى