الزيارة

smile

شخصية هامة
آثرت أن نذهب مبكرين لنرى الناس عن قرب.
كانت تلك أول مرة ازور فيها خالد. أول تجربة لي أن ازور معتقلاً.
كانت زوجة أخي قد سبقتنا منذ طلوع الفجر، فحجزت لنا نمرة (9). إيمان انضمت إلى نمرة (1) مع أسرة ثانية. الناس يتبرعون بأدوارهم عن طيب خاطر رغم شدة لوعتهم لزيارة أبنائهم.
رحت أتأمل الناس.
لا أقول كانوا سعداء. ولكني أقسم انهم لم يكونوا تعساء.
كانت عيونهم تشع بالكبرياء. بالفرح الآتي. الفرح باللقاء. كانوا كلهم مثلنا.. وكنا كلنا مثلهم.. نتأمل. نغرق في سيل من التساؤلات:
ما قصتكَ؟
ما قصتكِ؟
وددت لو أدع سيل الأسئلة يتدفق على شفتي. ولكني لم أفعل. رحت أتأمل الوجوه الشامخة بفرح طفولي.
هل أقول أنني فرحت بالناس؟!
سألت سيدة صغيرة السن تحمل طفلاً في حضنها، وتمسك بآخر:
من أي بلد أنت؟
قالت : من حجة.
نظرت إليها باهتمام. فحجة كانت أول قرية علمت فيها.
سالت: من لك؟
قالت : زوجي.
كم سنة ؟ سألت بفضول.
قالت ضاحكة: خمس سنوات.
ثم أردفت قائلة: عندي أربعة أولاد عفاريت.
كلما زهقت منهم أفتح يديّ إلى السماء وأقول:
يا ربّ! اجعلهم يسجنونني أنا أيضاً.
ضحكت وقلت: ولماذا؟
قالت: حتى أرتاح منهم قليلاً، فقد أتعبوني بعد اعتقال أبيهم. انهم يطلبونه مني وكأن الأمر بيدي.
فهم متعلقون به كثيراً.
انتبهت على صوت زوجة أخي تناديني.
كانت الزيارة هذه المرة مقررة لأختي ولي، مع طفلين آخرين، على أن تنضم إيمان وابنتها الصغيرة لمجموعة أخرى. أما زوجة أخي الملتاعة لزيارة خالد، فلم يكن لها مكان.
بقدر شوقي لرؤية ابن أخي كنت أتألم من أجل أمه.
دخلنا في ممر ضيق. سألونا عن الهوية ومكان الإقامة وعن صلة القرابة بخالد. ثم فتشتنا فتاة تقف في الممر، ومضينا دون أن نعير اهتماماً لأي شيء.
اطلبوا ما شئتم… وافعلوا ما شئتم… فأذهاننا وقلوبنا ليست معنا. إنها هناك، تقفز أمامنا كطفل يركض إلى مدينة الملاهي في يوم العيد.
راحت حنان تناديني:
عمتي! ها هو خالد.
آه… آخذك في الحضن؟!
كيف؟!
ولكني لم آبه بالسلك الذي يفصل بيننا.
رحت أضحك… ورحنا كلنا نضحك، أهلاً.. أهلاً. وكان هو يرحب بنا ويسلم علينا بأصبعه الممتد من ثقب الحاجز الذي يقف سداً بيننا.
ولكن… هل كان الحاجز حاجزاً؟!!
وهل كان الجنود الذين حولنا جنوداً؟؟؟
وهل كنا حقاً في غرفة السجن؟!
كنا وحدنا. الغرفة كبرت وكبرت. صرنا نحن نملأ المكان، ونتحدث .. ونضحك. وحين سألت خالد عن السنة التي أضيفت إلى السنوات التسع السابقة ضحك وقال:
من قال لكم إنها سنة؟! لقد زادوني ثلاث سنوات..طز. قلنا معقبين: مليون طز . ولا يهمك.
كان الصهاينة قد أدخلوا عنده عميلاً ليستدرجه بالكلام، فما كان من خالد إلا أن ضربه وقطع أذنه. ثم شاركه زملاؤه فانهالوا عليه بالضرب حتى أغمي عليه وأُخرج من الغرفة على حمالة. أما خالد وزملاؤه فقد وُضعوا في زنازين منفردة ثم حوكموا وأضيفت إلى خالد ثلاث سنوات فعلية بينما أضيفت لكل واحد من زملائه المشاركين سنة. هذا إضافة إلى منع الزيارة لمدة شهرين.
حدثته أختي عن مشوارنا بالأمس وعن أغانينا له حين صرنا مقابل السجن . فقال ضاحكاً: سمعتكم. ثم غنت له:
" أبو العُلا" سيد المعنّى والفصاحة
بهالساحة العلية وكل ساحة
سيفك يقطع الأعدا بحده
مثل ما بتقطع الأرض المساحة"
صفق خالد بيديه ضاحكاً؟ وكأنه في زفة. أما نحن فقلنا كلنا بصوت واحد: هيييي…
حولنا المكان إلى جلسة مرحة. وكنا نطلق ضحكاتنا كما أطلق أخي أحمد صواريخه قبل ثماني سنوات.
هل كنا نحارب بالضحك؟! ربما. فالضحك أمام العدو دون النظر إلى وجهه يعني أننا نحن الباقون. نحن الموجودون، وأن وجوده هو زائل، وبقاؤه مؤقت… ككومة ثلج ملطخة بالوحل، تحدق مذعورة في عيون الشمس.
فوجئنا بعد ربع ساعة من وقت الزيارة أن زوجة أخي قد انضمت إلينا. لا ندري كيف دخلت. كانت فرحتنا بذلك كبيرة، وكانت صدمتها بزيادة الثلاث سنوات أكبر ولكنها كانت صامدة.. ورائعة. سكتت في البداية، ثم راحت تشجعه بكلمات تقطر أمومة وحناناً .. وتحدياً معجوناً بالحزن.
سألناه عن الأكل.. والدراسة.. وكيف يقضي وقته.. وعن عدد الرفاق في غرفته.. وكان يجيب على كل أسئلتنا التي ترشق عليه كالمطر، بمرح تشوبه اللامبالاة.
كان خالد يجلس أمامنا كما كان أحمد.
هل حلت في روح عمه أحمد؟!
كان جميلاً.. وكان متزناً.. وكانت كل العيون تنظر إلينا بكثير من الإعجاب.
حين صرخت الأجراس تعلن انتهاء الزيارة، جاءنا رفاق خالد ليسلموا علينا. وذهب هو ليسلم على أهاليهم، وكالحلم.. انتهى كل شيء. وكانت لحظات صعبة.
فالدموع المحبوسة، تجاهد في الانطلاق من عيني زوجة آخي. وشحب وجه خالد. وانكمشت أخواته.. أما أختي وأنا فبقينا واقفتين ننظر إليه، والابتسامة لا تفارق وجهينا.
أختي راحت ترشقه بالقبلات.
ورحت أنا ألوح بيدي… وأرسم شارة النصر بطريقة جعلته يفهمها ويضحك من كل قلبه.
 
الزيارة
 
الوسوم
الزيارة
عودة
أعلى