][شرح أحاديث عمدة الأحكام - كتاب الطهارة ][

رولا

الاعضاء
][ الحديث الأول][

===============
الشيخ:عبد الرحمن بن عبد الله السحيم




الحديث الأول :
حديث عمر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه . متفق عليه .

= هذا حديث عظيم
ولذا فإن العلماء يُصدّرون به مصنفاتهم كما فعل الإمام البخاري .
وقيل في تعليل ذلك : لم يقصد البخاري بإيراده سوى بيان حسن نيته فيه في هذا التأليف .
قال عبد الرحمن بن مهدي : لو صنفتُ كتابا في الأبواب لجعلت حديث عمر بن الخطاب في الأعمال بالنيات في كل باب . وقال : من أراد أن يصنف كتابا فليبدأ .
قال ابن رجب : وهذا الحديث أحد الأحاديث التي يدور الدين عليها ، فرُويَ عن الشافعي أنه قال : هذا الحديث ثلث العلم ، ويدخل في سبعين بابا من الفقه . وعن الإمام أحمد رضي الله عنه قال : أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث :
حديث عمر " إنما الأعمال بالنيات " ، وحديث عائشة " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " ، وحديث النعمان بن بشير " الحلال بيّن والحرام بيّن " .

= والنيّة في اللغة هي القصد والإرادة .

= وفائدة النيّة :
تمييز العبادات بعضها عن بعض
وتمييز العبادات عن العادات

فالأول مثل تمييز صلاة الظهر عن صلاة العصر ، وتمييز صلاة النافلة عن صلاة الفريضة .
وكتمييز صوم رمضان عن صوم النافلة .

والثاني مثل تمييز غُسل الجنابة عن غُسل التطهّر والتّبرّد .

وقد قيل :
بصلاح النيّات تُصبح العادات عبادات
وبفساد النيّات تُصبح العبادات عادات
فالعادات من أكل وشُرب ونوم ونحو ذلك إذا صلحت فيها النيّة أصبحت عبادات ، إذ الوسائل لها أحكام المقاصد .
والعبادات إذا فسدت فيها النيّات أو غاب عن صاحبها استحضارها ولم يرد عليه الاحتساب كانت أعماله عادات أو كالعادات . لا قيمة لها ولا روح .

= وضابط حصول النيّة وترتّب الأجر عليها ما قاله ابن المُلقِّن حيث قال : والضابط لحصول النيّة أنه متى قصد بالعمل امتثال أمر الشرع ، وبتركه الانتهاء بنهي الشرع ، كانت حاصلة مُثاباً عليها ، وإلا فلا ، وإن لم يقصد ذلك كان عملاً بهيمياً ، ولذا قال بعض السلف : الأعمال البهيمية ما عُملت بغير نيّة . انتهى .
= وضابط حصول الأجر من عدمِه أن تكون الحسنة أو السيئة همّـاً عند العبد ، كما في حديث ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه تبارك وتعالى قال : إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بيّن ذلك ؛ فمن همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ، وإن هم بها فعملها كتبها الله عز وجل عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة . متفق عليه .

= وإذا صلحت النيّة فربما بلغ العبد منازل الأبرار ، وتسنّم المراتب العُلى بحسن نيّته .
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
إنما الدنيا لأربعة نفر :
عبد رزقه الله عز وجل مالا وعلما فهو يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه ويعلم لله عز وجل فيه حقه . قال : فهذا بأفضل المنازل .
قال : وعبد رزقه الله عز وجل علما ولم يرزقه مالا قال فهو يقول : لو كان لي مال عملت بعمل فلان قال فاجرهما سواء .
قال : وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما فهو يخبط في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه عز وجل ولا يصل فيه رحمه ولا يعلم لله فيه حقه فهذا بأخبث المنازل .
قال : وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو يقول : لو كان لي مال لعملت بعمل فلان . قال : هي نيته فوزرهما فيه سواء . رواه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما ، وقال الترمذي حديث حسن صحيح .

ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك فدنا من المدينة قال : إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معـكم . قالوا : يا رسول الله وهم بالمدينة ؟ قال : وهم بالمدينة حبسهم العذر . رواه البخاري من حديث أنس رضي الله عنه ، ورواه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه .

= فائدة
لا علاقة لورود هذا الحديث بحديث مهاجر أم قيس .
وحديث أم قيس قال عنه الهيثمي : رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح .
وقال الذهبي - بعد أن ذكر رواية الطبراني - : إسناده صحيح .
وقال ابن حجر - بعد أن ذكر رواية الطبراني - : وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين ، لكن ليس فيه أن حديث الأعمال سِيق بسبب ذلك ، ولم أر في شيء من الطرق ما يقتضي التصريح بذلك .

وهناك عدة مباحث في النيّة ، كدخول الرياء في العمل وتفصيل ذلك ، وكتشريك النيّة ، وتغييرها ، وكنيّة ترك ما حـرّم الله ، ونحو ذلك ، ولكني أراني أطلت .
=========================
تفصيل مسألة دخول الرياء على النيّة
ينقسم العمل الذي يُخالطه أو يُصاحبه الرياء بالنسبة لقبول العمل من عدمه إلى أقسام :
أن يُصاحبه الرياء من أصل العمل فيحبط العمل بالكليّة .
أن يطرأ عليه الرياء خلال العمل دافعه فإنه لا يضرّه ، وإن لم يُدافع الرياء فَلَهُ حالات :
إن كان العمل مما يتجزأ ، كالصدقة ونحوها ، فما دَخَلَه الرياء فهو حابط ، وما لم يدخل الرياء لم يحبط .
وإن كان مما لا يتجـزأ كالصلاة ونحوها فإنها تحبط ، لعـدم مُدافعته للرياء .
والنيّة أصل في صلاح الأعمال
ولذا قال عليه الصلاة والسلام : إنما الأعمال كالوعاء إذا طاب أسفله طاب أعلاه ، وإذا فسد أسفله فسد أعلاه . رواه ابن ماجه ، وصححه الألباني في صحيح الجامع .
والمُراد بذلك النيّة .
========
والرياء في العمل يكون وبالاً وعذاباً وحسرةً على صاحبه يوم القيامة ، يوم يُشهّر بصاحبه على رؤوس الأشهاد ، وعندها تزداد حسرته وندامته .
فمن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام : من سمع سمع الله به ، ومن راءى راءى الله به . رواه مسلم عن ابن عباس ، وروى البخاري مثله عن جندب بن عبد الله .

قال العز بن عبد السلام : الرياء أن يعمل لغير الله ، والسمعـة أن يخفي عمله لله ، ثم يحدث به الناس .
قال الفضيل بن عياض : كانوا يقولون ترك العمل للناس رياء ، والعمل لهم شرك . عافانا الله وإياك .

وإخلاص العمل لله سبب لسلامة القلب
قال صلى الله عليه وسلم : ثلاث لا يَـغِـلّ عليهن قلب مسلم : إخلاص العمل لله ، ومناصحة ولاة الأمر ، ولزوم الجماعة ؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم . رواه أحمد وأهل السنن .
قال ابن عبد البر : معناه لا يكون القلب عليهن ومعهن غليلا أبـداً ، يعني لا يقوى فيه مرض ولا نفـاق إذا أخلص العمل لله ، ولزم الجماعـة ، وناصح أولي الأمر .
وقال ابن رجب : هذه الثلاث الخصال تنفي الغل عن قلب المسلم . انتهى كلامه - رحمه الله - .
فعدمُ الإخلاص يُورث القلبَ الأضغان والأحقاد .

ومما بقي في شرح هذا الحديث مسائل :

الأولى : ما يتعلق بألفاظ الحديث
الثانية : الكلام على الهجرة
الثالثة : الاحتساب في المباحات وفي التّ{وك

فالمسألة الأولى : ما يتعلق بألفاظ الحديث ، ومنها :

إفادة الحصر في قوله : إنما الأعمال بالنيات .

وتقديرها : إنما تكون الأعمال صالحة ومقبولة عند الله بالنيات الصالحة .

وقوله : وإنما لكل امرئ ما نوى . وإن أظهر غير ذلك ، فالله سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية .

ولذا لما جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ما القتال في سبيل الله ؟ فإن أحدنا يقاتل غضبا ، ويقاتل حمية ، فرفع إليه رأسه ، فقال : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله عز وجل . رواه البخاري ومسلم .

وهذا جواب الحكيم – كما يُقال – فلم يُعدد عليه الأغراض التي لا تكون في سبيل الله لكثرتها ، وإنما حصر له الجواب في تحديد من هو في سبيل الله عز وجل .

وعند النسائي من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال : من غزا في سبيل الله ولم ينوِ إلا عقالاً فله ما نوى .

وقوله عليه الصلاة والسلام : فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله . أعاد الجملة الثانية معطوفة على الأولى لأهمية هذا العمل ، وهو الهجرة إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .

بينما في آخر الحديث قال : فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه . لم يُعد الجملة كما في الأولى لسببين :
الأول : حقارة هذا الأمر الذي يُهاجر الإنسان من أجله .
الثاني : لتعدد الأغراض التي يُهاجر لها الناس ، فلا تنحصر في دنيا أو زواج .

والمسألة الثانية : الكلام على الهجرة

فالهجرة في اللغة تُطلق على التّـرك

وفي الاصطلاح : الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام .

والهجرة باقية ما بقيت التوبة ، لقوله عليه الصلاة والسلام : لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها . رواه الإمام أحمد وأبو داود .

وأما قوله عليه الصلاة والسلام : لا هجرة بعد الفتح . كما في الصحيحين ، فالمقصود به لا هجرة مِن مكة – شرّفها الله وحرسها – لأنها صارت دار الإسلام ، فلا يُهاجر منها .

والهجرة أنواع :
هجرة من بلد الكفر إلى بلد الإسلام

وهجرة من بلد البدعة إلى بلد السنة

وهجرة من بلد المعصية إلى بلد الطاعة

ومن ذلك : هَجْر ما نهى الله عنه ، لقوله عليه الصلاة والسلام : والمهاجر مَنْ هَجَرَ ما نهى الله عنه . رواه البخاري .

والمسألة الثالثة : الاحتساب في المباحات وفي التّروك

عندما يحتسب المسلم في أكله وشُربه ونومه وقيامه فإنه يؤجر على نيته هذه .

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المسلم يؤجر في أخص حظوظ نفسه ، فقال : وفي بضع أحدكم صدقة . قالوا : يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال : أرأيتم لو وضعها في حرام . أكان عليه فيها وزر ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرا . رواه مسلم .

ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري إلى اليمن ، قال لهما : يسرا ولا تعسرا ، وبشرا ولا تُنفّرا . فانطلق كل واحد منهما إلى عمله ، وكان كل واحد منهما إذا سار في أرضه ، وكان قريبا من صاحبه أحدث به عهدا ، فسلّم عليه ، فسار معاذ في أرضه قريبا من صاحبه أبي موسى فجاء يسير على بغلته حتى انتهى إليه ... فقال معاذ حين نزل : يا عبد الله كيف تقرأ القرآن ؟ قال : أتفوّقه تفوقاً . قال أبو موسى : فكيف تقرأ أنت يا معاذ ؟ قال : أنام أول الليل ، فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم ، فأقرأ ما كَتَبَ الله لي ، فأحتسب نومتي ، كما أحتسب قومتي . رواه البخاري ومسلم .

فقوله رضي الله عنه : أحتسب نومتي ، كما أحتسب قومتي .

أي أنه يحتسب في نومته ، وينوي بها الاستعانة والتّقوّي على قيام الليل .

فالمسلم إذا استحضر النية فإنه يؤجر في سائر عمله ، حتى في المباحات .

قال عبد الله بن الإمام أحمد لأبيه : أوصني . قال : يا بُني انوِ الخير فإنك بخير ما نويت الخير .

وقال زيد الشامي : إني لأحب أن تكون لي نية في كل شيء حتى في الطعام والشراب . وقال : انوِ في كل شيء تريد الخير ، حتى خروجك إلى الكناسة .

وعن داود الطائي قال : رأيت الخير كله إنما يجمعه حسن النية ، وكفاك بها خيرا وإن لم تَنْصَب . ذكره ابن رجب .

أي وإن لم تتعب فإنك تؤجر على حُسن نيتك .

وقيل لنافع بن جبير : ألا تشهد الجنازة ؟ قال : كما أنت حتى أنوي . قال : ففكر هنيهة ، ثم قال : امض !

فالمسلم بحاجة إلى تعاهد نيته ، ومراجعتها في كل عمل

قال سفيان الثوري : ما عالجت شيئا أشد عليّ من نيتي ؛ لأنها تنقلب عليّ .




وللحديث بقية عبارة عن أسئلة وردتني .
ثم وردني هذا السؤال من إحدى الأخوات
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته ...
الشيخ الفاضل ..
جزيت خيرا على طرحك لهذا الدرس المميز .. و نسأل الله العلي العظيم ان ينفعنا و إياكم به و يجعله في ميزان حسناتكم يوم نلقاه ...
شيخي الفاضل .. لقد وفيت في شرحك و بخاصة عن الرياء و كنت على وشك سؤالك عنه
فمن المعروف انه الرياء هو الشرك الأصغر و هو أخفى من دبيب النمل ...
و أحيانا يكون الأصل في العمل وجه الله و القرب منه
فما تشعر إلا و قد خالط نفسك شئ ... تحاول جاهدا ان تدفعه ...
فأحيانا تجد ان الشيطان يقول لك لا تخاشع لأن الناس يرونك و أحيانا تخاشع لن الله يراك
فتحتار .. و تخاف في عملك ما الذي تفعله حينها ...
و إذا كان الرياء خفيا لا يستشعر .. كما علمت انه اخفى من النملة على صخرة سوداء في ليلة دهماء فكيف ادفعه عن نفسي ؟؟؟
وهل هناك من دعاء أدعو به .. لأتقي هذا الشر
و جزاك الله عني خيرا
الجواب :
وشكر الله لك هذه الإفادة والإضافة
أما إذا جاء الشيطان ليُدخل الرياء على المسلم ، فعلى المسلم مدافعة الرياء ولا يضرّه .
فإذا جاء الشيطان أو ورد الوارد لتحسين العمل فعلى المسلم أن يتذكّر : أن الناس لا يملكون له نفعا ولا ضرا ، وبالتالي فليس هناك دافع للعمل لأجلهم .
وقد نقل ابن القيم - رحمه الله – عن عبد القادر الكيلاني - رحمه الله - أنه قال : كُـن مع الحق بلا خلق ، ومع الخلق بلا نفس .
ثم قال ابن القيم معلِّقاً : فتأمل ما أجلّ هاتين الكلمتين مع اختصارهما ، وما أجمعهما لقواعد السلوك ، ولكل خلق جميل .
فإذا قام المسلم يُصلّي – مثلاً – جاءه الشيطان ليُحبط عمله ، فيقول : له فُلان ينظر إليك وإلى عملك فأحسن العمل
فلا يلتفت إلى هذا ويبقى على ما كان عليه ولا يترك العمل لأجل ذلك ، كما تقدم في كلمة الفضيل بن عياض . [ والكلام يطول في تفصيل ذلك ]
من أجل ذلك كان السلف يحرصون على إخفاء العمل ، وأن يجهد الإنسان أن يُخفي العمل ما استطاع .
من أجل ذلك قال عليه الصلاة والسلام : فضل صلاة الرجل في بيته على صلاته حيث يراه الناس كفضل الفريضة على التطوع . رواه البيهقي ، وقال المنذري : إسناده جيّد ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب .
وقال عليه الصلاة والسلام : فصلوا أيهـا الناس في بيوتكم ، فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة . متفق عليه من حديث زيد بن ثابت
ورواه أبو داود بلفظ : صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة .
فصلاة الرجل النافلة حيث لا يراه أحد أفضل من صلاته في مسجده صلى الله عليه وسلم .

وأما ما يُذهب الرياء
فأسوق إليك هذا الحديث بطوله وقد تضمّن قصة
روى البخاري في الأدب المفرد عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال : انطلقت مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا أبا بكر ، للشِّرك فيكم أخفى من دبيب النمل .
فقال أبو بكر : وهل الشرك إلا من جعل مع الله إلها آخر ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده ، للشِّرك أخفى من دبيب النمل ، ألا أدلك على شيء إذا قـُـلتـه ذهب عنك قليله وكثيره ؟
قال : قل : اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم ، وأستغفرك لما لا أعلم .
وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد .
وهذا سؤال آخر من أخت أخرى فاضلة :
جزاك الله خير فضيلة الشيخ السحيم...
بس عندي بعض الاستفسارات...
- سمعت مرة من أحد الشيوخ ، إن لا يجب النطق بالنية، يكتفي الفعل... مثلاً: نية الصوم، القيام للسحور... فهل الأفعال تكفي عن النية اللفظية؟؟ إذا كان لا.. فهل هناك صيغة محددة أو محببة للنية؟؟
و جزاك الله خير أخوي.. و جعله في ميزان حساناتك..
الجواب :
بارك الله فيك أختي الفاضلة
هذه مسألة مهمة فاتني التنبيه عليها
فأقول :
لا يجوز التـّـلفّـظ بالنية ، إذ التـّـلفّـظ من محدثات الأمور
قال ابن عمر لما سَِمع رجلا عند إحرامه يقول : اللهم إني أريد الحج والعمرة . فقال له : أتُعلّم الناس ؟ أو ليس الله يعلم ما في نفسك ؟

فلا يتلفّظ بالنية حتى عند إرادة الحج والعمرة
فلا يقول عند إرادة عقد الإحرام : اللهم إني أريد الحج والعمرة .
وإنما يُلبّي بالحج والعمرة معاً أو بأحدهما
فيقول كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لبيك عمرة وحجة
أو : لبيك عمرة
وهذا ليس من التلفظ بالنية إنما هو بمنزلة التكبير عند دخول الصلاة .

وكذلك إذا أراد الصلاة فلا يقول – كما يقول بعض الجهلة : - اللهم إني أريد أصلي صلاة الظهر أربع ركعات .
فإن هذا لم يُنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه رضي الله عنهم .

وكذا الأمر بالنسبة لسائر العبادات ؛ لأن النيّة محلّها القلب .
فيكفي فيها عقد العزم على الفعل .
كما أن نيّة تبييت الصيام من الليل لصوم الفريضة تكفي من أول شهر رمضان إلا أن يقطع النية بسفر أو فطر لمرض وعذر .
ويكفي في النية العزم على الفعل
فإنه إذا عزم على صيام يوم غد ثم صامه أجزأته النية التي عقدها بقلبه .
ويُقال نفس الكلام في نية الصلاة ، ولكن لا بد من تعيين النيّة لتلك الصلاة
هل هو يُريد صلاة الظهر أو العصر مثلاً
وكذلك الوضوء ، فإذا توضأ المسلم ، وهو ينوي رفع الحدث ارتفع حدثه
ولو اغتسل ونوى بالغسل اندراج الوضوء تحته أجزأه

وهكذا .
فالنيّة محلّها القلب ولا يجوز التلفظ بها ، بل التلفظ بها بدعة محدَثة ، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .
والله أعلم
وهذا سؤال ثالث من أخت فاضلة ثالثة :
أول كلمة اقولها في هذه الزاوية ..
أستاذي الحبيب ..جزاك الله خير الدنيا والآخرة ..وكتب لك بها الرضى والعافية والأجر في الدنيا والأخرة وسدد خطاك ..وحفظك وزادك من فضله في الدنيا والأخرة
الشيء الثاني ..ربي لا يحرمنا منك ..
كيف أشكرك ..وكيف ارد الجميل ..كانت هذه الدروس ستفوتني ..لو لا دعوتك المباركة ..الله يحفظك
عندي سؤال بعد أذنك
ألا تحتاج بعض الأعمال إلى إظهارها وعملها علنا أمام الخلق طمعا في اقتداء الناس بهذا العمل..كحفظ القرآن الكريم على سبيل المثال ..اتمنى أن اعرف الإجابة ..
الجواب :
بورك فيك واحسن الله إليك
بل أنا أشكر استجابتك وحضورك
وحيّاك الله أختاً لنا مشاركة ومُفيدة في الوقت نفسه
أخيّه :
الأصل في الأعمال الإخفاء ( أن تُخفى )
لقوله سبحانه : ( إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ )
وفي حديث السبعة الذين يُظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظل إلا ظلّه قال صلى الله عليه وسلم فيهم : ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما صنعت يمينه . متفق عليه .
وبوّب عليه الإمام البخاري : باب صدقة السر .
وعقد قبله باباً : باب صدقة العلانية ، ثم ساق قوله تعالى : ( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ )
وقد تقدّم أن إخفاء العمل الصالح أبلغ في الإخلاص
وحال السلف يدل على ذلك ، وسأذكر بعض الأمثلة بعد ذلك إن شاء الله
غير أنه إذا طمِع المسلم أو المسلمة في الاقتداء به بذلك العمل فله أن يُظهره شريطة أن يُجاهد نفسه ، لأن الشيطان سيُدخل عليه الرياء .
ومن هنا فقد أظهر الصحابة رضي الله عنهم بعض أعمالهم لما احتاجوا إلى ذلك

فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث جرير رضي الله عنه أنه قال : كنا ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار قال فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء متقلدي السيوف عامتهم من مضر بل كلهم من مضر ، فتمعّـر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة ، فدخل ثم مرحبا ، فأمر بلالاً فأذّن وأقام فصلى ، ثم خطب فقال : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَة ) إلى آخر الآية : ( إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) والآية التي في الحشر ( اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ ) تصدّق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره من صاع تمره حتى قال : ولو بشق تمرة . قال : فجاء رجل من الأنصار بِصُرّة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت . قال : ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة . الحديث .

فهذا الأنصاري قد جاء بِصُرّة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت
وكان هذا على مرأى ومسمع من الناس .
فإذا اقتضت المصلحة إظهار العمل الصالح فإنه يُظهره لتلك المصلحة فحسب .
والله أعلم .
كنتُ قد وعدت أن أسوق شيئا من أحوال السلف في إخفاء العمل وحرصهم على ذلك واجتهادهم فيه ، وهذا أوان الشروع في المقصود :

لما رأى ابن عمر رجلاً يُصلي ويُتابع قال له : ما هذا ؟ قال : إني لم أصل البارحة ، فقال ابن عمر : أتريد أن تخبرني الآن ! إنما هما ركعتان .
ولما قال سعيد بن جبير لأصحابه : أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة ؟ قال حصين بن عبد الرحمن : قلت : أنا ، ثم قلت : أما إني لم أكن في صلاة ولكني لدغت . فَذَكَرَ الحديث . رواه مسلم .
فقوله – رحمه الله – : أما إني لم أكن في صلاة ولكني لدغت ، لينفي عن نفسه حبّ السمعة والشهرة ، وليعلم جليسه أنه لم يكن في صلاة .
وما ذلك إلا لحرصهم على الإخلاص .

وقد كان عمل الربيع بن خثيم كله سِـرّاً ؛ إن كان ليجئ الرجـل وقد نَشَـرَ المصحف ، فيغطيه بثوبه .

قال الأعمش : كنت عند إبراهيم النخعي وهو يقـرأ في المصحف ، فاستأذن عليه رجل فغطّى المصحف ، وقال : لا يراني هذا أني أقرأ فيه كل ساعة .

قال عبدة بن سليمان : كنا في سرية مع عبد الله بن المبارك في بلاد الروم فصادفنا العدو ، فلما التقى الصفان مرحبا رجل من العدو فدعا إلى البِراز فخرج إليه رجل فطارده ساعة فطعنه فقتله ، ثم آخر فقتله ثم دعا إلى البِراز ، فخرج إليه رجل فطارده ساعة فطعنه فقتله ، فازدحم عليه الناس وكنت فيمن ازدحم عليه فإذا هو مُلَثّمٌ وجهه بكمـه ، فأخذت بطرف كمه فمددته ، فإذا هو عبد الله بن المبارك فقال : و أنت يا أبا عمرو ! ممن يشنع علينا .

قال محمد بن القاسم : صحبت محمد بن أسلم أكثر من عشرين سنة لم أره يصلي حيث أراه ركعتين من التطوع إلا يوم الجمعة ، وسمعته كذا وكذا مرة يحلف لو قدرت أن أتطوع حيث لا يراني ملكاي لفعلت خوفاً من الرياء ، وكان يدخل بيتا له ويُغلق بابه ، ولم أدرِ ما يصنع حتى سمعت ابناً لـه صغيرا يحكي بكاءه ، فنهته أمُّه ، فقلت لها : ما هذا ؟ قالت : إن أبا الحسن يدخل هذا البيت فيقرأ ويبكي فيسمعه الصبي فيحكيه ، وكان إذا
أراد أن يخرج غسل وجهه واكتحل فلا يرى عليه أثر البكاء .

وكان أيوب السختياني في مجلس فجاءته عَبْرَة ، فجعل يتمخّط ويقول : ما أشدّ الزكام .

هذا نزر يسير من حرصهم على إخفاء أعمالهم حتى لا يدخلها الرياء ، ولا يجد الشيطان مدخلا إلى نفوسهم .
فرحم الله سلف هذه الأمة ما أعظم فقههم وما أدق فهمهم .
فائــدة :
لقي رجل يحيى بن أكثم وهو يومئذ على قضاء القضاة فقال له : أصلح الله القاضي كم آكل ؟
قال : فوق الجوع ، ودون الشبع .
قال : فكم أضحك ؟
قال : حتى يُسفر وجهك ، ولا يعلوا صوتك .
قال : فكم أبكي ؟
قال : لا تمل البكاء من خشية الله .
قال : فكم أخفي من عملي ؟
قال : ما استطعت .
قال : فكم أظهر منه ؟
قال : ما يقتدي بك الحريص على الخير ، ويُؤمن عليك قول الناس .
وسألت أخت كريمة فاضلة ، فقالت :
حديثين شيخنا الفاضل ... هل يمكن أن نعلم مدى صحتهما بارك الله فيك :
( نية المؤمن أبلغ من عمله ونية الفاجر شر من عمله )
وفي رواية ( إن الله عز وجل ليعطي العبد على نيته مالايعطيه على عمله ) لأن النية لارياء فيها والعمل يخالطه الرياء ....
وبارك الله فيكم
الجواب :
بورك فيك أختي الفاضلة ، وشكر الله سعيك وحيّاك معنا
وزادك الله فقهاً وحرصا على طواعية الله ورسوله

أما الحديث الأول فهو بلفظ : نية المؤمن خير من عمله ، وعمل المنافق خير من نيته ، وكل يعمل على نيته ، فإذا عمل المؤمن عملا ، ثار في قلبه نور .
فهو حديث ضعيف المعنى والمبنى
وقد ضعفه الشيخ الألباني رحمه الله في ضعيف الجامع برقم 5977
وقد تكون نيّة المؤمن خيرٌ من عمله كما تقدم في حديث : " إنما الدنيا لأربعة نفر "
وكما في قوله عليه الصلاة والسلام : إن الله تعالى قد أوقع أجره على قدر نيته .
وفيه قصة ، وذلك أن عبد الله بن ثابت كان قد تجهز للغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما مات قالت ابنته : والله إن كنت لأرجو أن تكون شهيداً ، فإنك كنت قد قضيت جهازك . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله عز وجل قد أوقع أجره على قدر نيته . رواه الإمام أحمد وغيره ، وهو حديث صحيح .
وقد يكون العمل أبلغ ، خاصة إذا كان بعيداً عن أعين الناس ، أو كان نفعه مُتعدّياً .

وأما الرواية الثانية التي أشرتِ إليها
إن الله عز وجل ليعطي العبد على نيته مالا يعطيه على عمله .
وهي بقية الحديث الأول ، وأشار إلى ضعفها العجلوني في كشف الخفاء
ولم أرها في شيء من كتب السنة إلا في مسند الفردوس بلفظ :
نية المؤمن خير من عمله وإن الله عز وجل ليعطي العبد على نيته ما لا يعطيه على عمله وذلك إن النية لا رياء فيها والعمل يخالطه الرياء .
ولا يصح .
والله أعلم .

يتبع
 


][ الحديث الثاني][

===============
الشيخ:عبد الرحمن بن عبد الله السحيم
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ . متفق عليه .
في رواية للبخاري : قال رجل من حضرموت : ما الحدث يا أبا هريرة ؟ قال : فساء أو ضراط .

" لا يقبل الله صلاة أحدكم "
هذا لفظ يشمل الذكر والأنثى ، وإن كان الخطاب للرجال عامة إلا أن الخطاب في الشريعة يعمّ الرجال والنساء كما قال ابن القيّم - رحمه الله - .
وهذا النفي نفيٌ للقبول ونفيٌ للصحة .
وهذا النفي مختصٌ بمن ترك الوضوء ولا عذر له في تركه .
وهذا الحديث نصٌّ في وجوب الطهارة وأنها شرط لصحة الصلاة ، وهو إجماع . كما قال ابن الملقِّن .
والصلاة بغير طهارة من غير عُذر مُحرّمة .

= والحدث حدَثان :
حدث أكبر ، وهو الجنابة ، وسيُفرِد له المصنف باباً مستقلا .
وحدث أصغر ، وهو ما دون ذلك .
والحدث الأصغر نوعان :
مُجمع عليه
ومُختَلف فيه .

=ونواقض الوضوء التي قام عليه الدليل هي :
1 - الخارج من السبيلين القبل أو الدبر
والخارج منهما عشرة أنواع هي :
الغائط
البول
المني
المذي
الوَدْي
الروائح
دم الحيض
دم الاستحاضة
دم النفاس
رطوبة فرج المرأة

وهي تنقض الوضوء .
وهي نجسة ما عدا :
المني والروائح ورطوبة فرج المرأة .
=======
= فالأول دليله قوله تعالى : ( وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ ) .
ومن السُّنّة حديث صفوان بن عسال رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا مسافرين أن نمسح على خفافنا ولا ننزعها ثلاثة أيام من غائط وبول ونوم إلا من جنابة . رواه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما ، وهو حديث صحيح .

وهذا الدليل دلّ على ثلاثة نواقض من نواقض الوضوء :
الغائط والبول والنوم .
وما يتعلق بالمني سيأتي في باب الغسل .
وما يتعلق بالمذي سيأتي في باب مستقل أيضا .
ويأتي ما يتعلق بالودي ، والفرق بين هذه الأشياء .

= وأما الروائح التي تخرج من الدبر ، فقد تقدّم فيها كلام أبي هريرة رضي الله عنه أنه الفساء أو الضراط .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا ، فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا . رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، وهو متفق عليه من حديث عبد الله بن زيد – رضي الله عنه –
وعن علي بن طلق قال : أتى أعرابيٌّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله الرجل منا يكون في الفلاة فتكون منه الرويحة ، ويكون في الماء قِـلّـة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا فسـا أحدكم فليتوضأ ، ولا تأتوا النساء في أعجازهـن ، فإن الله لا يستحي من الحق . رواه الترمذي وحسّنه .

وأما الأربعة الأخيرة من الخارج من السبيلين فنؤجّلها إلى باب الحيض .

وأما بقية نواقض الوضوء ، فهي بالإضافة إلى ما سبق :
2 - زوال العقل ، فهو ناقض من نواقض الوضوء ، وهو يكون بأمور :
أ - النوم المُستغرق ، وتقدّم دليله في حديث صفوان بن عسال رضي الله عنه .
والنوم مَظِنّة الحدث ، فإذا نام نوما عميقا لا يشعر بنفسه ولا بما حوله فإنه يتنقض وضوءه ، أما النوم الخفيف فإنه لا ينقض ، وعلى هذا يُحمل ما ورد عن الصحابة في عهده عليه الصلاة والسلام أنه ما صلّى عليه الصلاة والسلام يوما حتى نام القوم . كما في صحيح مسلم .
وفي رواية لأبي داود : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء الآخرة حتى تخفق رؤوسهم ثم يصلون ولا يتوضؤون .
فهذا يُحمل على النوم اليسير الذي لا يغيب فيه الوعي غيابا كاملا .

ب – ويكون زوال العقل بالإغماء والجنون والسكر ونحو ذلك ، وهو يُوجب الوضوء لمن أراد الصلاة .
بدليل قوله عليه الصلاة والسلام : رُفِع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يعقل . رواه الإمام أحمد وأهل السُّنن .
وبدليل أنه صلى الله عليه وسلم لما ثَقُل قال : أصلى الناس ؟ قالت عائشة : قلنا : لا ، وهم ينتظرونك يا رسول الله . قال : ضعوا لي ماء في المخضب ، ففعلنا ، فاغتسل ، ثم ذهب لينوء ، فأغمي عليه ، ثم أفاق ، فقال : أصلى الناس ؟ قلنا : لا ، وهم ينتظرونك يا رسول الله ، فقال : ضعوا لي ماء في المخضب ، قالت : ففعلنا ، فاغتسل ، ثم ذهب لينوء فأغمي عليه ، ثم أفاق ، فقال : أصلى الناس ؟ قلنا : لا ، وهم ينتظرونك يا رسول الله ، فقال : ضعوا لي ماء في المخضب ، ففعلنا ، فاغتسل ، ثم ذهب لينوء فأغمي عليه ، ثم أفاق ، فقال : أصلى الناس ؟ فقلنا : لا ، وهم ينتظرنك يا رسول الله . قالت : والناس عكوف في المسجد ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة . قالت : فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر أن يصلي بالناس ... الحديث . متفق عليه .

3- مس الفرج عموما من غير حائل يحول بين اليد والفرج ، ويُشترط لذلك شرطان :
الأول : أن يكون المسّ بشهوة .
الثاني : أن يكون من غير حائل ، يعني يمسه مباشرة .
ودليله حديث بسرة بنت صفوان رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من مس ذكره فليتوضأ . رواه الإمام أحمد وأبوداود وغيرهما ، وهو حديث صحيح .
ودليل التفريق بين المسٍّ بشهو والمسّ من غير شهوة
حديث طلق بن علي رضي الله عنه قال : قدمنا على نبي الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل كأنه بدوي ، فقال : يا نبي الله ما ترى في مس الرجل ذكره بعد ما يتوضأ ؟ فقال : هل هو إلا مضغة منه ، أو قال بضعة منه . رواه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما .
وفي رواية : هل هو إلا بضعة منك .
أي قطعة من جسدك .

وعلى هذا فإذا مسّت المرأة فرج صبيّها أثناء تنظيفه فليس عليها وضوء .

4- ومن نواقض الوضوء أكل لحم الجزور . يعني لحم الإبل .
ودليله قوله عليه الصلاة والسلام لما سُئل : أأتوضأ من لحوم الغنم ؟ قال : إن شئت فتوضأ ، وإن شئت فلا توضأ . قال : أتوضأ من لحوم الإبل ؟ قال : نعم ، فتوضأ من لحوم الإبل . رواه مسلم من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه .
وليس المقصود هو اللحم فحسب ، بل أطلق اللحم لأنه هو الغالب ، وإلا فإن الحُكم يشمل جميع أجزاء الإبل .
بدليل قوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ) .
فالتعبير هنا بـ ( لحم الخنزير ) وإن كان الحُكم يشمل جميع أجزاءه من لحم وشحم وعصب وغير ذلك .
ولما ذكر الصنعاني - رحمه الله – الحديث المتقدم ذكر بعده حديث البراء بن عازب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : توضئوا من لحوم الإبل ولا توضئوا من لحوم الغنم . قال ابن خزيمة لم أرَ خلافا بين علماء الحديث أن هذا الخبر صحيح من جهة النقل لعدالة ناقليه . ثم قال - رحمه الله - : والحديثان دليلان على نقض لحوم الإبل للوضوء ، وأن من أكلها انتقض وضوؤه . انتهى .

ولعل السبب في ذلك أن الإبل فيها مادة شيطانية ، فلذا أُمِر من أكلها أن يتوضأ .
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : على ظهر كل بعير شيطان ، فإذا ركبتموها فسموا الله عز وجل ، ثم لا تقصروا عن حاجاتكم . رواه الإمام أحمد والدارمي ، وابن حبان ، والحاكم ، وصححه الألباني في صحيح الجامع .

وعدّ بعض العلماء الردة من نواقض الوضوء ؛ لأن الردة تُحبط العمل .

= ومن الأشياء التي تشتهر عند بعض الناس أنها تنقض الوضوء ، ولم يدلّ عليها الدليل :
القيء – الرّعاف – مس المرأة – خروج الدم من غير السبيلين .
فهذه الأشياء لا تنقض الوضوء .
وأما حمل الميت فالوضوء منه مُستحب للحديث الوارد في ذلك، والغسل من تغسيله سيأتي في باب الغسل .
 
][ الحديث الثالث][

===============
الشيخ:عبد الرحمن بن عبد الله السحيم


عن عبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة وعائشة رضي الله تعالى عنهم قالوا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ويلٌ للأعقاب من النار .

= حديث عائشة رضي الله عنها رواه مسلم دون البخاري .

=سبب ورود الحديث :
ما رواه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : تخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر سافرناه فأدركنا وقد أرهقنا الصلاة صلاة العصر ، ونحن نتوضأ ، فجعلنا نمسح على أرجلنا ، فنادى بأعلى صوته : ويل للأعقاب من النار . مرتين أو ثلاثا .

وفي رواية قال : رجعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة حتى إذا كنا بماء بالطريق تعجل قوم عند العصر فتوضؤوا وهم عجال ، فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسها الماء ،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ويل للأعقاب من النار .

= اختُلِف في معنى كلمة " ويل "
فقيل : واد في جهنم ، ولا دليل عليه .
وقيل : الحزن . وقيل غير ذلك .
والصحيح أنها تُقال لمن وقع في الهلاك أو تعرّض لأسبابه ، وقد تأتي للتعجّب كقوله عليه الصلاة والسلام : ويل أمِّه مسعر حرب .
والمقصود ويل لأصحاب الأعقاب الذين يُهملون غسل أعقابهم في الوضوء ؛ لأن الأعقاب إذا عُذّبت تعذّب أصحابها .

= الأعقاب : جمع عقِب ، وهو مؤخرة القدم .
قيل : ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا *** ولكن على أقدامنا قطر الدّمـا
يعني أنهم لا يفرّون فيقع الدم على مؤخرة أقدامهم ، بل يقع على أقدامهم لمواجهة العدو .
وهذا الفرق بين التعبير بالعقِب وبالقدم .
وقد جاء في رواية لمسلم : ويلٌ للعراقيب .

= خص النبي صلى الله عليه وسلم الأعقاب بالذِّكر لأنها غالبا لا تُرى فيقصر عنها الغسل .

= في الحديث دليل على وجوب غسل الأقدام إذا كانت مكشوفة ، وفيه رد على أهل البدع الذين يقولون بمسح الأقدام وإن كانت مكشوفة .

أما إذا لم تكن مكشوفة كأن تكون مستورة بخفٍّ أو بجورب ونحوه فسيأتي الكلام عليها تحت باب المسح على الخفين .

= ولهذا كان بعض السلف يقول بنزع الخاتم عند الوضوء ، فقد كان ابن سيرين يغسل موضع الخاتم إذا توضأ . علّقه عنه الإمام البخاري .

= وهذا الوعيد على ترك غسل الأعقاب لا يمكن أن يكون على أمر مستحب أو مسنون ، بل على ترك واجب كما سيأتي في حديث ابن عباس " إنهما ليُعذّبان ... " .

= فيه دليل على أن من ترك شيئاً من أعضاء الوضوء فإنه يأثم ، وبالتالي لا تصح صلاته ومن ثمّ يُعذّب على تفريطه .

= ورد في رواية لمسلم : ويل للأعقاب من النار . أسبغوا الوضوء .
والصحيح أن لفظة " أسبغوا الوضوء " مُدرجة من كلام الراوي .

= إذا كان هذا الوعيد على من قصّر في الوضوء فكيف بمن قصّر في الصلاة ؟
وكيف بمن لا يتوضأ ولا يُصلّي أصلا ؟
نسأل الله السلامة والعافية .



يتبع




 
Am
][ الحديث الرابع][

===============
الشيخ:عبد الرحمن بن عبد الله السحيم


عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ، ثم لينـتـثر ، ومن استجمر فليوتر ، وإذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في الإناء ثلاثا ، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده .
وفي لفظ لمسلم : فليستنشق بمنخريه من الماء .
وفي لفظ : من توضأ فليستنشق .

= قوله عليه الصلاة والسلام : إذا توضأ . يعني إذا أراد الوضوء ، لا أنه بعدما يفرغ من وضوءه .
كما في قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ ) الآية . لا أنه حال القيام ولكن عند إرادة الصلاة .

= ورد في روايات الحديث :
" فليجعل في أنفه ماء "
" فليستنشق "
والمعنى واحد ، إذ لا يستطيع أن يجعل الماء في أنفه إلا عن طريق سحبه بواسطه الهواء ، وهو الاستنشاق .
( وسيأتي لاحقـاً تفصيل حُـكم المضمضة والاستنشاق والانتثار )
= يجعل الماء في يده اليمنى ، ثم يستنشق .

= الانتثار : هو دفع الماء ليخرج من الأنف ويخرج معه ما في الأنف من فضلات .
ولا ينتثر بيده اليمنى بل بيده اليسرى .
وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجعل اليمين لطعامه وصلاته ، ويساره لما سوى ذلك ، كما قالت عائشة رضي الله عنها .
قال الأعمش : رآني إبراهيم وأنا أتمخط بيميني ، فنهاني وقال : عليك بيسارك ، ولا تعتادن تمتخط بيمينك .
وقال إبراهيم النخعي : كانوا يكرهون أن يتمخّط الرجل بيمينه .

= وفي الحديث أدب نبوي كريم
وهو أن يتم تنظيف الأنف حال الوضوء ، لكي لايحتاج المسلم أن يتمخّط أمام الناس أو يُنظّف أنفه في بيوت الله كما يفعله بعض الناس ، فهذا خلاف أدب النبي صلى الله عليه وسلم ، وسوء أدب مع المصلّين بل مع رب العالمين .

= العلّة في الاستنشاق والاستنثار منصوص عليها
ففي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا استيقظ أحدكم من منامه فليستنثر ثلاث مرات ، فإن الشيطان يبيت على خياشيمه .
وأشكل هذا على بعض الناس : كيف يبيت الشيطان على الخياشيم ، مع أن من قرأ آية الكرسي لا يزال عليه من الله حافظ ، ولا يقربنّه شيطان .
فالجواب – كما أشار إليه ابن حجر – :
إما أن من قرأ آية الكرسي مخصوص بالحفظ دون غيره .
أو أن الشيطان لا يقربه قربان وسواس ، فلا يقرب قلبه فيضرّه بالوسواس ، بل يبيت على خيشومه .

= وفيه دليل على أن الشيطان يُحب الأماكن القذرة .
ولذا قال عليه الصلاة والسلام : إن هذه الحشوش محتضرة ، فإذا أتى أحدكم الخلاء فليقل أعوذ بالله من الخبث والخبائث . رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه وغيرهم ، وصححه الألباني في صحيح الجامع .

= تعريف الاستجمار
مأخوذ من الجِمار ، وهي الحصى الصغيرة ، ومنه أُطلِق على الجمرات هذا الاسم ، لأنها تُرمى بالأحجار الصغيرة .
والاستجمار مختص بالحجارة ، وما في حُكمها من المناديل ونحوها .
وأما الاستنجاء فليس مختصا بالماء ، بل يُطلق الاستنجاء على استعمال الحجارة وعلى استعمال الماء ، لأن الاستنجاء مأخوذ من النجو ، وهو الغائط ، وقطعه وتنظيف محلّه .
وقد جاء النهي الاستجمار بأقل من ثلاثة أحجار كما عند مسلم .
قالت اليهود لسلمان رضي الله عنه : قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة ! قال : أجل ! لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول أو أن نستنجي باليمين أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار أو أن نستنجي برجيع أو بعظم .

فإذا أراد قطع الاستجمار فليقطع على وتر وإن زاد على الثلاث .

= ولا شك أن استعمال الماء أفضل .
ولذلك لما سال النبيُّ صلى الله عليه وسلم النبي أهل قباء فقال : أن الله تبارك وتعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم ، فما هذا الطهور الذي تطهرون به ؟ قالوا : والله يا رسول الله ما نعلم شيئا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط ، فغسلنا كما غسلوا . رواه الإمام أحمد وغيره ، وهو حديث صحيح بمجموع طُرقه .

= وفيه دليل على فضل الوتر ، وأن يختم المسلم عمله على وتر .
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله وتر يحب الوتر .

= مسألة :
إذا قام من النوم فإنه لا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا .
فإن يغسل يديه تحت مَصبِّ الماء فإنه يغسل يديه ثلاثا قبل الوضوء .
وجرى الخلاف بين أهل العلم :
هل المقصود بالنوم نوم الليل ، كما في رواية أبي داود وهي عند النسائي : إذا قام أحدكم من الليل فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات .
والصحيح أن ذكر نوم الليل هنا قيد أغلبي ، لأن غالب النوم يكون في الليل .

= واختلفوا في حُكم الماء فيما لو غمس القائم من النوم يده فيه قبل غسلها ثلاثا .
هل ينجس أو لا


يتبع










 
][ الحديث الخامس][


===============
الشيخ:عبد الرحمن بن عبد الله السحيم



عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه .
ولمسلم : لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب .

في هذه الرواية لمسلم : قيل لأبي هريرة : كيف يفعل يا أبا هريرة ؟ قال : يتناوله تناولا .

= وقد جاء التفريق بين الماء الدائم والماء الراكد .
فقد روى مسلم عن جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يُبال في الماء الراكد .
فماهو الفرق بين الماء الدائم الذي لا يجري وبين الماء الراكد ؟
الماء الدائم هو الماء الباقي الذي له ما يُغذّيه ولكنه لا يجري على وجه الأرض .
مثاله : مياه الآبار .
والماء الراكد هو الماء الذي ليس له ما يُغذّيه ولا يجري على وجه الأرض .
مثاله : مياه البرك والمستنقعات .
وقد ذُكِر غير ذلك في الفرق بينهما .

= وفي هذا الحديث التأكيد على أصل عظيم
وهو مراعاة المصالح
وتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة
فإذا تعارضت مصلحة الفرد مع مصلحة الجماعة قُدّمت مصلحة الجماعة .
ويظهر ذلك جلياً في قضية الحدود
فإن في قطع يد السارق أو قتل القاتل ونحو ذلك من المصالح العظيمة التي لا تخفى
فيه من المصالح العظيمة للجماعة ، إذ أن هذا الشخص بمثابة العضو الفاسد الذي أصابته الآكلة ، فإن تُرِك سَرَت الآكلة إلى باقي الجسد فأفسدته
فلا يُقال في قتل قاتل أو قطع سارق أن ذلك ظلم أو وحشية كما تنعق به بعض أبواق الغرب
كما أنه لا يصح أن يُقال عن طبيب أنه متوحّش لأنه بَـتَرَ عضواً فاسدا ؛ لأنه يُراعي المصلحة العُظمى في الإبقاء على بقية الجسد سليماً مُعافى .
بالإضافة إلى ما في إقامة الحدود من المصالح الأخرى
فإن الله عز وجل قال : ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )
وقديما قيل : القتل أنفى للقتل .
مع ما في إقامة الحدود من استباب الأمن .

كما أن الزاني له مصلحة في الزنا ، وهي قضاء الوطر والاستمتاع ، ولكن لما كان هذا فيه من المفاسد العظيمة ، وكانت مصلحة الأمة في منع مثل هذا الأمر للمفاسد الكبرى المترتبة عليه مُنِع .
والأمثلة على هذا كثيرة .

= فائدة هذا القيد " الماء الدائم الذي لا يجري " تأكيد على أن ذلك النهي يتأكد في الماء الدائم الذي لا يجري .

= و لا يعني ذلك الإذن المُطلق للبول في الماء الذي يجري ، كالأنهار ونحوها .
فالقاعدة : لا ضرر ولا ضرار .
فإذا كان الماء الذي يجري يتضرر بكثرة النجاسات ويتأثر فيها فإنه يُمنع من البول فيه .
كما هو الحال بالنسبة لبعض الأنهار التي أصبحت في بعض البلاد مَصدَراً للأمراض خاصة في الصيف ، إذا ارتاده الآلاف من الناس .

= فائدة :
في هذا الحديث
نبّـه بالأعلى على الأدنى
ونبّـه بالأدنى على الأعلى

توضيح ذلك :
نبّـه بالغُسل على الوضوء
وإن كان ورد عند ابن خزيمة : ثم يتوضأ منه أو يشرب .

ونبّـه بالبول على الغائط .

ولا شك أن المنع من التغوّط في الماء أولى بالمنع .
وهذا لا يقول به من يُنكر القياس أو ينفيه .
وهذا النهي يدل على نجاسة البول .

= في رواية البخاري : لا يغتسل فيه .
وفي رواية لمسلم : لا يغتسل منه .

والفرق بين الروايتين
يغتسل فيه : أي ينغمس في الماء .
يغتسل منه : أي يغترف منه أو يتناول منه تناولاً .

= وهنا أخطأت " الظاهرية " في أمرين :
الأول أنهم قالوا في قوله صلى الله عليه وسلم : لا يبولن أحدكم في الماء الدائم
قالوا : لو بال في قارورة ثم صبّه في الماء لا يشمله النهي !
ولو بال قريبا من الماء ثم سار البول إلى الماء لا يشمله النهي !
كما قالوا ك إن الإنسان إذا لم يُرِد أن يستعمل الماء فلا يشمله النهي !
فصار أهل الظاهر بذلك مثار سُخرية بل وردّ بعض العلماء أقوالهم ، وشنّع عليهم آخرون لأجل ذلك .
وأنا أوردت هذه المسألة لأجعل لطالب العلم نبراساً
وهي كلمة لإمام أهل السنة الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله – حيث قال : إياك أن تتكلم في مسالة ليس لك فيها إمام .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – :
وكل قول ينفرد به المتأخر عن المتقدمين ولم يسبقه إليه أحد منهم فانه يكون خطأ .

فليحذر طالب العلم أن يتكلّم في مسألة لم يُسبق إليها إلا أن تكون من الكلام على البدع والمُحدَثات التي تجد بعد الرجوع إلى قواعد الشريعة .

= يلحق بهذا النهي عن الاستنجاء بأطراف الغدران ، إذ النظر إلى مقاصد الشريعة .

= لم يَرِد في هذا الحديث إشارة إلى حُـكم الماء الذي ورد عليه البول .
ولكن ورد في أحاديث أخرى التنبيه على حُـكم الماء .
وأنه إذا بلغ قُلّتين لا يحمل الخبث .
وانعقد الإجماع على أن الماء يتنجس إذا تغيّر لونه أو ريحه أو طعمه بنجاسة .

= وقد يكره الإنسان الوضوء من نوع من الماء مثلا . فإذا وجد غيره فله أن يعدِل عنه .
كأن يكره – مثلاً – أن يتوضأ بمياه المستنقعات التي تغيّر لونها بالطين ونحوه .
فإذا وجد ماء آخر فإنه يتوضأ به ن وإن لم يجد إلا هذا توضأ به ، إلا أن يجد فيه رائحة النجاسة أو لونها .

= يُكره الاغتسال في الابار والعيون والبِرَك التي يستفيد منها الناس .
لأن مصالح العباد مرتبطة بهذه الأماكن .
ولأنه يرِد هذه البرك ونحوها من يُريد الشرب منها ، فإذا رأى من يغتسل فيها استقذرها وربما تأذّى من يستعملها .

= لا يضر الشك في المياه ، كـ مياه الغدران والمستنقعات
فيقول بعض الناس : أخشى أن يكون هناك من بال في هذه المياه
فيُقال له : الأصل طهارة هذه المياه ، وطهارتها يقين
والقاعدة عندنا : اليقين لا يزول بالشّك .
فهذه المياه باقية على طهوريّتها ما لم نتيقّن نجاستها

ويُقال مثل ذلك عن فُرش المنازل والفنادق ونحوها
فإن بعض الناس لا يُصلّي عليها يقول : أخشى أنه أصابها نجاسة
فيُقال له مثل ما قيل لصاحب المياه
أن طهارة هذه الفُرش والسجاد " والموكيت " متيقّنة ، والنجاسة مشكوك فيها
فاليقين لا يزول بالشك .

وهذه القواعد تُفيد المسلم في عباداته ومُعاملاته .
ويبقى معها على يقين لا يتزحزح عنه إلا بيقين مثله .
وتحلّ له هذه القواعد الإشكالات الكثيرة .





يتبع...
 
Am
][ الحديث السادس والسابع][

===============
الشيخ:عبد الرحمن بن عبد الله السحيم

الحديث السادس

عن أبي هريرة قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا .
ولمسلم : أولاهن بالتراب .

الحديث السابع
وله في حديث عبد الله بن مغفّلٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبعاً وعفِّروه الثامنة بالتراب .

فيهما مسائل :
حديث عبد الله بن مغفل رواه مسلم بهذا اللفظ :
قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب ، ثم قال : ما بالهم وبال الكلاب ؟ ثم رخص في كلب الصيد ، وكلب الغنم ، وقال : إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات وعفروه الثامنة في التراب .

والاختلاف بينه وبين ما أورده المصنف :
1 – سبع مرات
2 – في التراب

وهذا لعله من اختلاف النُّسخ ، ولا يضر هذا الاختلاف .

= لماذا ذكر المصنف هذين الحديثين في كتاب الطهارة ؟
لما انتهى المصنف – رحمه الله – من ذكر أحكام الماء ناسب أن يذكر بعده حكم ما يوضع فيه الماء وهو الآنية .

= ورد في رواية لحديث أبي هريرة رضي الله عنه : إذا ولغ الكلب ... كما عند مسلم .
= المغايرة بين الشرب والولوغ ، وبين اللعق واللحس .
الشرب هو أن يدخل لسانه في الماءأو الشراب ويعبّ منه ويأخذ من الماء ليوصله إلى جوفه
وأما الولوغ فهو مجرد أن يُدخل لسانه في الماء ونحوه ثم يُحرّكه فيه دون الشرب
واللعق واللحس إذا كان في الإناء بقية طعام أو فيه دهن وزهومة .
وسواء شرب أو ولغ أو لعق أو لحس فالحكم لا يختلف في الآنية الصغيرة .
وأما في الآنية الكبيرة التي لا تتأثر بالنجاسة ففيها تفصيل .
إذا بيّن فيها أثر الولوغ أو الشرب ، وذلك بأن تظهر لزوجة لعاب الكلب ، فإذا كان كذلك فإنها تلحق بالحكم ، وإلا فلا .

= إذا أكل الكلب من طعام في الإناء فهل يُلحق به في الحُـكم ؟
إذا كان الطعام كثيرا فأكل من وسطه ولم يلحس أطراف الإناء فلا يلحق به ، ويبقى الكلام على الطعام
فإن كان كثيرا فإنه يُزال ما أصابه الكلب ويُستفاد من باقيه لمن قبلته نفسه .

= يُعفى عن يسير لعاب الكلب إذا أصاب الصيد ، خاصة في الكلب المعلّم على الصيد .
ويُعفى عنه لأنه في جامد وليس في مائع وسائل .
ويُعفى عنه لأن الصيد سيتعرّض للنار .
ولعموم البلوى بذلك .

= فيه دليل على نجاسة لُعاب الكلب
بدليل رواية مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب .

= الحُـكم خاص بلعاب الكلب دون شعره وسائر بدنه على الصحيح .

= في الروايات التي ذكرها المصنف لم يتطرق إلى حُـكم المائع الذي ولغ فيه الكلب
وقد جاء عند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله سبع مرار .
فما ولغ فيه الكلب من مائع سواء كان لبنا أو ماء أو غيره فإنه يُراق ويُسكب إذا كان قليلا على التفصيل المتقدّم .

= الأمر باستعمال التراب هل هو للوجوب ؟
نـعـم هو للوجوب .

= مقدار التراب المستعمل .
ما يعمّ الإناء وتحصل به نظافة الإناء من آثار لعاب الكلب .

= هل يكفي مجرّد التعفير ؟
لا يكفي لأن من روى الغسل بالتراب أكثر ممن روى التعفير ، ولأن التتريب فيه زيادة فيؤخذ بها .

= هل تقوم المنظّفات الحديثة كالصابون والمطهّرات هل تقوم مقام التراب ؟
الصحيح أنها لا تقوم مقام التراب ولا يُكتفى بها في نظافة لعاب الكلب
وقد تكلّم العلماء قديما وحديثا عن ذلك ونصُّوا على أنه لا يُكتفى بها ؛ لأن التراب منصوص عليه دون التنظيف فقط .
وقد ثبت علميا أن آثار لعاب الكلب لا تزول زوالا كاملا إلا بالتراب .

= ظهور الحِكمة من النهي عن اتخاذ الكلاب ، لما في لعابها من نجاسة وضرر .

= إثم من اتّخذ كلبا إلا فيما رُخّص فيه ، ويُمكن حصرها في :
كلب صيد
كلب ماشية
كلب زرع
كلب حرث

وقد ورد بها أحاديث في الصحيحين .
فمن اتخذ كلبا في غير هذه الأشياء المرخّص بها نقص من أجره كل يوم قيراط أو قيراطان بحسب الإيذاء للناس .
ويشتد التحريم ويعظم الإثم إذا كان اتخذ الكلب تشبُّهاً بالكفار
فإنه ينقص من أجره قيراطان ويأثم في تشبهه بالكفار في هذا الشيء الحقير
وهم في الغرب إنما تخذوه لقلة الوفاء أو انعدامه
وحدثني بعض المسلمين الذين يُقيمون في الغرب أنه رأى في مقبرة الكلاب في ( باريس ) ألواح رخام قيمتها تُشبع الجياع في أفريقيا !!!
ورأى لوحا كتبت عليه صاحبة الكلب عبارة : خانني كل الناس إلا أنت !!!

= هل تلحق بقية السباع بالكلاب ؟
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة بن أبي لهب فقال : اللهم سلّط عليه كلبا من كلابك ، فسلّط الله عليه أسداً فأكله .
الصحيح أن السباع لا تلحق بالكلاب ، ويدل عليه رواية حديث عبد الله بن مغفل بأنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب ...
فالمقصود به الكلب المعروف عند المخاطبين .

= إذا ولغ الكلب في بركة أو في حوض كبير أو في مستنقع هل يلحق بالحكم ؟
الصحيح أنه لا يلحق به
بدليل ما ورد عن عمر رضي الله عنه أنه مرحبا في ركب فيهم عمرو بن العاص حتى وردوا حوضا فقال عمرو بن العاص لصاحب الحوض : يا صاحب الحوض هل ترد ؟ يعني السباع فقال عمر بن الخطاب : يا صاحب الحوض لا تخبرنا ! فإنا نرد وترد علينا . رواه مالك وعبد الرزاق والبيهقي في السنن والدارقطني .

= إذا ورد عن الراوي خلاف ما روى . فهل يؤخذ بقوله ورأيه أو يؤخذ بما روى ؟
القاعدة : العبرة بما روى لا بما رأى .
وعلى هذا يُعمل بما ورد عن أبي هريرة – إن صح عنه – أنه رأى غسل الإناء ثلاثا
فالعبرة بما روى
وقول الصحابي لا يكون حجة إلا إذا لم يُخالف الثابت من سنة النبي صلى الله عليه وسلم
وقد يكون اجتهاد منه ولا يُوافق عليه . أي لايُوافقه غيره من الصحابة عليه .

تفردّ مسلم بروايات التتريب والتعفير
وهذا من باب زيادة الثقة ، وزيادة الثقة مقبولة .
= من هذين الحديث يتّضح جليا شمولية الشريعة الإسلامية حتى في التعامل مع الحيوان
وتظهر أيضا الحكمة في النهي وأنه ليس المقصود به هو مجرد التضييق على الناس أو امتحانهم أو أمرهم ونهيهم .

إذ لا تأمر الشريعة بشيء إلا ومصلحته متحققة أو راجحة
ولا تنهى عن شيء إلا ومفسدته متحققة أو راجحة .


يتبع

 
][ الحديث الثامن والتاسع][

===============
الشيخ:عبد الرحمن بن عبد الله السحيم


الحديث الثامن
عن حمران مولى عثمان بن عفان أنه رأى عثمان دعا بوضوء فأفرغ على يديه من إنائه ، فغسلهما ثلاث مرات ، ثم أدخل يمينه في الوضوء ثم تمضمض واستنشق واستنثر ، ثم غسل وجهه ثلاثا ، ويديه إلى المرفقين ثلاثا ، ثم مسح برأسه ، ثم غسل كلتا رجليه ثلاثا ، ثم قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ نحو وضوئي هذا ، وقال : من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يُحدِّث فيهما نفسه غفر الله له ما تقدم من ذنبه .

هذا نص الحديث في العمدة .
والذي في الصحيحين من روايات تتعلق بغسل الرجلين :
ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرات ، ثم غسل اليسرى مثل ذلك .
ثم غسل رجليه ثلاث مرات .
ثم غسل رجليه ثلاث مرار إلى الكعبين .
م غسل كل رجل ثلاثا .
ثم غسل رجله اليمنى ثلاثا ، ثم اليسرى ثلاثا .

قال ابن حجر – رحمه الله – :
قوله " ثم غسل كل رجل " كذا للأصيلي والكشميهني ، ولابن عساكر " كلتا رجليه " وهي التي اعتمدها صاحب العمدة .

الحديث التاسع
عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه قال : شهدت عمرو بن أبي الحسن سأل عبد الله بن زيد عن وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فدعا بتور من ماء ، فتوضأ لهم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأكفأ على يديه من التور ، فغسل يديه ثلاثا ، ثم أدخل يديه في التور فمضمض واستنشق واستنثر ثلاثا بثلاث غرفات ، ثم أدخل يده في التور فغسل وجهه ثلاثا ، ثم غسل يديه مرتين إلى المرفقين ، ثم أدخل يديه فمسح رأسه ، فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة ، ثم غسل رجليه .
وفي رواية : بدأ بمقدّم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه .
وفي رواية : أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخرجنا له ماء في تور من صُفر .
التور : شبه الطست .

فيهما مسائل :

= من روايات الحديثين في الصحيحين :
في رواية لحديث عثمان رضي الله عنه : ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات ، ثم غسل يده اليسرى مثل ذلك .

ومن روايات حديث عبد الله بن زيد :
فغسل يديه إلى المرفقين ثلاثا ثلاثاً .
فغسل يديه إلى المرفقين مرتين مرتين .
ثم غسل رجليه إلى الكعبين .
ثم غسل وجهه ثلاثاً ويده اليمنى ثلاثاً ، والأخرى ثلاثاً ، ومسح برأسه بماء غير فضل يده ، وغسل رجليه حتى أنقاهما .

= لما فرغ المصنف – رحمه الله – من ذِكر حُـكم الماء ومن ذكر ما يُحمل فيه الماء - وهو الآنية – شرع في ذِكر صفة الوضوء .

= المصنف عادة لا يذكر الراوي عن الصحابي إلا لفائدة .
والفائدة هنا أن حُمران يروي قصة عثمان وفعله وقوله .
وفي حديث عبد الله بن زيد أورد الراوي عن الصحابي وهو يحيى المازني لأنه يحكي مُشاهدته لمجيء عمرو بن أبي الحسن وسؤاله لعبد الله بن زيد رضي الله عنه .
وأورد الراوي عن يحيى المازني وهو ابنه عمرو وفائدة ذلك أنه جاء في رواية للبخاري : عن عمرو بن يحيى عن أبيه قال : كان عمي يُكثر من الوضوء قال لعبد الله بن زيد : أخبرني كيف رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ فدعا بتور .
وعمّـه هو عمرو بن أبي الحسن . نصّ عليه ابن حجر – رحمه الله – .

= أن حديث عثمان مع حديث عبد الله بن زيد عُمدة في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم .
والوضوء جاء الأمر به في الكتاب والسنة
قال سبحانه وتعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ )

= قوله في حديث عثمان رضي الله عنه : دعا بوَضوء . بفتح الواو يعني به الماء الذي يُتوضّأ به .
وقد جاء في رواية في الصحيحين : دعا بإناء .

وفي حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه : فدعا بتور من ماء .

= بدء الوضوء بغسل اليدين فيه دليل على أنه لا علاقة للوضوء بالاستنجاء .
فمن أراد الوضوء فلا يُشترط له ولا يُشرع له أن يغسل قبله أو دبره إلا لحاجة مثل من به سلس بول ونحوه .

= جواز الاستعانة بالغير في الوضوء ، وفيه خدمة أهل الفضل في الوضوء ونحوه .

= حرص الصحابة على تعليم الناس أمور دينهم التعليم العملي ، دون الاكتفاء بالتعليم النظري .
وعثمان رضي الله عنه مع شدة حياءه لم يمنعه ذلك من أن يُعلّم الناس ابتداءً ويتوضأ أمام الناس .
فقد جاء في رواية للبخاري عن حمران أنه قال : أتيت عثمان بن عفان بطهور وهو جالس على المقاعد ، فتوضأ فأحسن الوضوء .

= حرصهم رضي الله عنهم على التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم والسؤال عن هديه

= الفرق بين الوَضوء والوُضوء .
الأول يُطلق على الماء الذي يُتوضّـأ به .
والثاني يُطلق على فعل الوضوء .

= فأفرغ على يديه . فيه دليل على سُنيّة ذلك ولو لم يكن قام من نوم ؛ لأن اليدين مَظِنّة الغبار والوسخ .

= استحباب التثليث في الوضوء . بمعنى أن يغسل كل عضو ثلاث مرات .
وإن غسل بعضها ثلاثاً وغسل البعض الآخر مرتين جاز .
وإن اقتصر على غسلة واحدة بحيث يعمّ الماء محل الغسل من العضو جـاز أيضا .

= لم تُذكر التسمية على الوضوء هنا كما أنه لم يذكر النيّـة ؛ لأنه يصف فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يصف القول وما دونه .

= وقد ثبت حديث التسمية على الوضوء ، وللشيخ أبي إسحاق الحويني رسالة لطيفة بعنوان " كشف المخبوء بثبوت حديث التسمية على الوضوء " .
والصحيح وجوب التسمية على الوضوء ، غير أنه إذا نسي التسمية سقطت بالنسيان .

= المضمضة والاستنشاق والاستنثار .
في حديث عثمان رضي الله عنه مُبهمة ، وفي حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه جاء فيها التفصيل .
ثلاثا بثلاث غَرفات .
يعني يأخذ الماء بيده اليمنى ثم يقسم الغَرفة بين الفم والأنف ، فيتمضمض ببعضها ويستنشق ببعضها .

= لا يُشترط في المضمضة تحريك الماء في الفم .
فلو وضع الماء في فمه ثم مجّه وألقاه أجزأه .
وقالوا : لو وضع الماء في فمه ثم بلعه أجزأه .
لكن لو حرّك الماء في فمه أو أمرّ أصبعه على أسنانه لكان أبلغ في المضمضة .

= الاستنثار يكون باليد اليسرى ، وقد تقدّم في شرح الحديث الرابع .

= جمهور العلماء على أن المضمضة والاستنشاق سُـنّـة .
واستدلو على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الأعرابي أن يتوضأ كما أمره الله .
والله لم يأمر بالمضمضة والاستنشاق .

= حـدّ الوجه الواجب غسله في الوضوء .
من الأذن إلى الأذن عرضا ، ومن منحنى الجبهة إلى أسفل الذقن طولاً .

= حُـكـم الترتيب في الوضوء .
الذي يظهر أن الترتيب في الوضوء واجب لأن الترتيب في كتاب الله له مقصد .
ولم يُحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ فبدأ بغسل رجليه أو بدأ بغسل يديه قبل غسل وجهه .
والفعل إذا كان بياناً للواجب دلّ على الوجوب .

= يُعفى عن تأخير المضمضة والاستنشاق إلى ما بعد غسل الوجه لفعله عليه الصلاة والسلام .
فقد أُتيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بوَضوء فتوضأ ، فغسل كفيه ثلاثا ، ثم غسل وجهه ثلاثا ، ثم غسل ذراعيه ثلاثا ثلاثا ، ثم مضمض واستنشق ثلاثا ، ومسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما ، وغسل رجليه ثلاثا ثلاثا . رواه أحمد وأبو داود وصححه الألباني .
فَدَلّ تأخير المضمضة إلى أنها منفصلة عن غسل الوجه .
ودلّ أيضا على أنه يجوز تأخيرها عن غسل الوجه .

= هل غسل المرفقين داخل في غسل اليدين وكذلك الكعبين ؟
الصحيح أن غسل المرفقين داخل في مسمى غسل اليد .
وكذلك غسل الكعبين داخل في غسل القدمين .

= الخطأ في غسل اليدين
بعض الناس إذا وصل إلى غسل اليدين بدأ بغسل اليد من المرفق إلى مفصل الكف أو من مفصل الكف إلى المرفق ، ولا يغسل الكف بِحُـكم أنه غسله قبل الوضوء .
وهذا خطأ لأن من أمر الماء على يديه من مفصل الكف إلى المرفق أو العكس لا يصدق عليه أنه غسل يده كما أُمِـر .
والواجب أن يغسل يده من أطراف الأصابع إلى المرفقين ويُدير الماء على مرفقيه .

= المسح على الرأس وكيفيته .
يبدأ المسح من مُقدّم رأسه إلى أن ينتهي بمؤخرة الرأس ثم يُعيد يديه إلى مقدّم رأسه .
وإن عكس ذلك فله وجه كما في حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه .
ففيه : فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة .

وثبت عنه عليه الصلاة والسلام تكرار المسح أحيانا .
ومسح برأسه مرتين يبدأ بمؤخر رأسه ثم بمقدمه وبأذنيه كلتيهما ظهورهما وبطونهما . رواه أبو داود .
وعلى هذا تنخـرم قاعدة : كل ممسوح فتكرار مكروه . وهي قاعدة غير متفق عليها وغير مُطّردة .

= ويمسح رأسه بماء جديد غير ما بقي بيديه من غسل يديه .
" ومسح برأسه بماء غيرِ فضل يده "

= مسح النبي صلى الله عليه وسلم على ناصيته وعلى العمامة ، ومسح على رأسه لما لبّده في الحج .
وعليه فيجوز للمرأة أن تمسح على الحناء أو ما تضعه على رأسها إذا كان يشق إزالته .

= غسل القدم إذا كانت مكشوفة .
والمسح عليها إذا لبس الجوارب بشروطها وسيأتي الكلام عليه استقلالاً .

= لا يُشرع للمسلم عند الوضوء ذِكر إلا التسمية قبل الوضوء ، والتشهد بعده ، ولا يصح حديث في الذِّكر على أعضاء الوضوء .

= لا يُشرع مسح الرقبة عند الوضوء بل هو من المُحدَثات ، وكل مُحدثة بدعة وكل بدعة ضلالة .

= ما المقصود بحديث النفس في قوله صلى الله عليه وسلم : " لا يُحدّث فيهما نفسه "
حديث النّفس ينقسم إلى قسمين :
قسري ، وهو الذي لا يُمكن ردّه .
اختياري ، وهو الذي يُمكن ردّه ، ولو تمادى فيه لا تحصل له فضيلة المغفرة الواردة في حديث عثمان رضي الله عنه .

= ما يُكفّر من السيئات في قوله صلى الله عليه وسلم : " إلا غفر الله له ما تقدّم من ذنبه "
الصحيح أنها الصغائر دون الكبائر ، والكبائر تحتاج إلى توبة واستغفار .
ولابن رجب – رحمه الله – تفصيل حول المسألة في جامع العلوم والحِكم .
ولابن القيم – رحمه الله – تفصيل آخر أيضا .

= الفروق بين حديث عثمان وحديث عبد الله بن زيد
حديث عثمان رضي الله عنه تضمن وصف الفعل والقول وذكر صلاة ركعتين .
في حديث عثمان فأفرغ على يديه ، وفي حديث عبد الله بن زيد فأكفأ وهما بمعنى واحد .
في بعض روايات حديث عبد الله بن زيد غسل يديه إلى المرفقين مرتين مرتين ، بينما التّثليث في جميع الأعضاء هو الوارد في حديث عثمان .
في حديث عبد الله بن زيد نُصّ على أن المضمضة والاستنشاق كانت ثلاث مرات بثلاث غرفات ، بينما هي مُبهمة في حديث عثمان رضي الله عنه .
في حديث عبد الله بن زيد تفصيل كيفية المسح على الرأس ، وأخذ ماء جديد لرأسه ، بينما هذا لم يُفصّل فيه في حديث عثمان .

= سُنن الوضوء
تخليل الصابع .
المبالغة في المضمضة والاستنشاق لغير الصائم .
تخليل اللحية .
الذِّكر بعد الوضوء .

= هل للمتوضئ أن يُنشّف أعضاء الوضوء ؟
نعم . لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم .
فقد روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له خرقة يُنشِّف بها بعد الوضوء .

وقد أطلت وجمعت بين شرح الحديثين ؛ لأن موضوعهما واحد وهو صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم .


يتبع
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
][ الحديث العاشر][



عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يُعجبه التيمن في تنعله ، وترجّـله ، وطُـهوره ، وفي شأنه كلِّـه .

فيه مسائل :

= هذا لفظ البخاري
ولفظ مسلم :
إنْ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحب التيمن في طهوره إذا تطهر ، وفي ترجله إذا ترجّـل ، وفي انتعاله إذا انتعل .
وفي آخر لفظ لمسلم :
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب التيمن في شأنه كله . في نعليه ، وترجله ، وطُـهوره .

= لماذا أورد المصنف – رحمه الله – هذا الحديث في كتاب الطهارة ؟
ليُدلل على أن استحباب البدء باليمين في الوضوء ، وأُخِـذ هذا من لفظ " طُهوره "
فإذا توضأ المسلم فالسنة أن يبدأ بيده اليُمنى قبل اليسرى ، ويبدأ بالقدم اليمنى قبل اليسرى .
ويدلّ على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن يُغسلن ابنته زينب رضي الله عنها : ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها . متفق عليه .
فإذا كان هذا في حق الميت فالحي أولى بالتيامن .

= معنى التّيامن
هو البدء باليمين ، وتقديم اليمين فيما ذُكر في الحديث ، وفيما شأنه التكريم .

= كيفية الانتعال
يبدأ اللبس بالرجل اليمنى ، ويبدأ خلع النعال بالرجل اليسرى .
قال عليه الصلاة والسلام : إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمين ، وإذا نزع فليبدأ بالشمال ، لتكن اليمنى أولهما تُنعل ، وآخرهما تنزع . متفق عليه .

= في الحديث دلالة على شمولية دين الإسلام ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ترك شاردة ولا واردة إلا علّم أمته منها .

= ما هو التّـرجّـل ؟
هو تسريح الشعر
فيبدأ أو تبدأ بتسريح الجهة اليمنى قبل اليسرى ، وذلك بأن يوضع المشط في منتصف الرأس ويُذهب به جهة اليمين ، ثم إذا فُرِغ من جهة اليمين بدأ باليسار .

ومنه حلق شعر الرأس للرجال يُسنّ له أن يبدأ باليمين خاصة في النُّسك " الحج والعمرة " .
ثبت في حديث أنس رضي الله عنه : ثم قال للحلاق خذ ، وأشار إلى جانبه الأيمن ، ثم الأيسر . رواه مسلم .

ويبدأ بشق رأسه اليمن في الغُسل ، كما سيتي بيانه وتفصيله في باب الغسل .

وقيل معنى التّـرجّـل : النزول عن الدابة ، ومنه ترجّـل الفارس .
وعليه فإذا نزل الرجل عن دابته فيبدأ باليمين ، هذا في الدواب التي يُمكن النزول منها باليمين .

= الطُّهور . يُقصد به الطهارة ، ومن أجل هذا اللفظ أورده المصنف هنا .
ونقل ابن المنذر الإجماع على عدم الإعادة لمن بدأ بيساره في الوضوء .
كأن يغسل يده اليمنى قبل اليسرى ، أو الرجل اليسرى قبل اليُمنى .
ولا شك أن البدء باليمين هو السنة .

= في شأنه كلّه
لا يُفهم منه أنه في كل شيء ، بل ما كان له شأن من أموره ، وما شأنه التكريم .
أما ما يُستقبح أو يُستقذر فتُقدّم له الشمال .
فقد جاء النهي عن التّمسّح باليمين عند قضاء الحاجة ، كما سيأتي إن شاء الله .
وقد جاء النهي عن الامتخاط باليمين كما تقدّم .
والاستنثار يكون باليد اليسرى كما تقدّم أيضا .

ولذا قالت حفصة رضي الله عنها : كان النبي صلى الله عليه وسلم يجعل يمينه لطعامه وشرابه وثيابه ، ويجعل شماله لما سوى ذلك . رواه أحمد وأبو داود .

= الأخذ والإعطاء والأكل والشرب كله باليمين لمُخالفة الشيطان .
قال صلى الله عليه وسلم : لا يأكلن أحد منكم بشماله ، ولا يشربن بها ، فإن الشيطان يأكل بشماله ، ويشرب بها ، ولا يأخذ بها ، ولا يعطي بها . رواه مسلم .
ولما أكل رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله فقال له عليه الصلاة والسلام : كل بيمينك . قال : لا أستطيع ! قال : لا استطعت . ما منعه إلا الكبر . قال : فما رفعها إلى فيه . رواه مسلم . أي ما رفعها إلى فمه . رواه مسلم .

وقال عليه الصلاة والسلام : ليأكل أحدكم بيمينه ، وليشرب بيمينه ، وليأخذ بيمينه ، وليعطِ بيمينه ، فإن الشيطان يأكل بشماله ، ويشرب بشماله ، ويعطي بشماله ، ويأخذ بشماله . رواه ابن ماجه ، وقال في مصباح الزجاجة : ذا إسناد صحيح رجاله ثقات .

= تقديم اليمين في كل ما من شأنه التكريم تكريماً لليمين .
ولذا فإن العين اليُمنى تُقدّم عند الاكتحال ، وتُكحل وِترا .
ويُسن للمسلم أن ينام على شقّه الأيمن .
كما ثبت بذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو في الصحيحين .

= تقديم الأيمن
فإذا بُدئ بمقدّم المجلس سواء كان الكبير أو الضيف أو غيره ، فغن السنة أن يُعطى من كان عن يمينه لا عن يمين الساقي الذي يسقي القوم .
ولذا لما أُتِيَ النبي صلى الله عليه وسلم بِلَبَنٍ قد شيب بماء ، وعن يمينه أعرابي ، وعن يساره أبو بكر ، فشرب ، ثم أعطى الأعرابي ، وقال : الأيمن فالأيمن . متفق عليه .

وأُتِيَ صلى الله عليه وسلم بشراب ، فشرب منه ، وعن يمينه غلام ، وعن يساره الأشياخ ، فقال للغلام : أتأذن لي أن أعطي هؤلاء ؟ فقال : الغلام والله يا رسول الله لا أوثر بنصيبي منك أحداً . قال : فَـتَـلَّـه رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده . متفق عليه .
ومعنى : فَـتَـلَّـه . أي وضعه في يده .
وجاء في بعض الروايات أن الغلام هو ابن عباس رضي الله عنهما .

وهذا يدل على تقديم الأيمن ، وفضل اليمين .

والله أعلم .


 
الوسوم
][شرح أحاديت الأحكام الطهارة علية كتاب
عودة
أعلى