ما هي الضوابط الفقهية للتعامل مع أزمة الخنازير

نغم السماء

من الاعضاء المؤسسين
لعلكم سمعتم عن أزمة إنفلونزا الخنازير التي مات بسببها حتى الآن أكثر من أربعة آلاف إنسان على مستوى العالم، ونشأت أسئلة كثيرة عن هذه الأزمة العالمية بداية من كيفية التخلص والوقاية من هذا الوباء ومرورًا بتعويض الخسائر وانتهاء بتعطيل الجمع والجماعات، وإغلاق المدارس والجامعات فهل من ضابط فقهي للتعامل مع هذه الأزمة؟

يجيب عنه الدكتور رجب أبو مليح، دكتوراه في الشريعة الإسلامية بكلية دار العلوم جامعة القاهرة بقوله:
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه..
بدايةً نسأل الله أن يرفع هذا البلاء عن الناس أجمعين، فهو القادر الذي لا يُقهر، والقوي الذي لا يُغلب، وألا يعاملنا بما نحن أهله، ويعاملنا بما هو أهله، فهو أهل التقوى والمغفرة.

ونستطيع أن نضع هذه الضوابط الفقهية التي تعيننا على التعامل مع هذه النازلة، حتى لا نضل وتتفرق بنا السبل، أو نفقد المعين والمرشد فنُفسد أكثر من أن نصلح.

أولاً: لا بد أن نوقن- كمسلمين- أنه ما نزلت بنا نازلة من النوازل، ولا ألمت بنا نائبة من نوائب الدهر إلا وجدنا في كتاب الله تعالى، وسنة نبيه- صلى الله عليه وسلم- الحل الناجع، والدواء النافع إن أحسنا التفهم والتدبر لكتاب الله، وسنة رسوله، يقول الله تعالى:
﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ (النحل: من الآية 89).


فالإسلام نظام شامل؛ شامل للزمان منذ أن نزل إلى أن يرث الأرض ومن عليها، وشامل للمكان يشمل الكرة الأرضية على اختلافها وتنوعها، وشامل للأشخاص جميعًا مهما تعددت وتنوعت مستوياتهم وأجناسهم ومراحلهم العمرية، وشامل للحوادث مهما تجددت وكثرت، ومهما تشابكت وتعقدت.

وهو الدين الخاتم فلا دين بعده، ولا رسول متمم لما نزل، ولا شريعة تنسخ الأحكام؛ ولذلك لا بد أن يكون في غاية النضج، والسعة والمرونة.

ثانيًا: ومن تعاليم الإسلام أنه حثنا على عدم إلقاء النفس للتهلكة، ومنها نعلم أن الوقاية خير من العلاج، وكما تقول الحكمة الصائبة (درهم وقاية خير من قنطار علاج)، وبهذا وردت الأحاديث النبوية الشريفة، روى البخاري ومسلم بسندهما عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- "فر من المجذوم فرارك من الأسد"، وروى مسلم بسنده عن رسول الله: "لا يورد ممرض على مصح" وروى البخاري عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- "إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها".

ثالثًا: نهت الشريعة الغراء عن بث الرعب والهلع في النفوس دون تثبت أو روية، ودون دراسة وتأمل يقول الله تعالى: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62)﴾ (الأحزاب).

والإرجاف في استعمال الفقهاء: التماس الفتنة، وإشاعة الكذب والباطل للاغتمام به، وهو حرام، وتركه واجب لما فيه من الإضرار بالمسلمين، وفاعله يستحق التعزير.

ويقول تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83)﴾ (النساء).

ولا بد أن يكون المسلم منضبطًا في مثل هذه الأزمات، وأن يتعامل معها بموضوعية، وحيدة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فلا تهويل ومبالغة في شأنها، ولا تهوين من أمرها، وأن يحدث في ظلِّ هذه الأزمات- غالبًا- ما يكون فيه شيء من التهويل، وهذا يؤدي إلى الفزع المربك، ونكون كالحمامة ينظر إليها الثعبان فتسقط من علٍ، وتنشل وتنحل، وكان بمكنتها أن تطير فلا يدركها الأذى، لكنها لم تفعل جزعًا وخوفًا فتقع في المحذور.

رابعًا: الإسلام يحترم العلم والعلماء، ويأمرنا بسؤال أهل الذكر، وأهل الذكر هنا ليس الفقهاء وحدهم، ولكن معهم وقبلهم الأطباء وأهل التخصص الذين يقدرون على تشخيص الداء تشخيصًا علميًّا، ومعرفة حجمه وخطره، ومعرفة طرق الوقاية والعلاج منه، وعلى هؤلاء العلماء أن يخلصوا في النصح، ويبذلوا طاقتهم، ويسخروا ما علمهم الله في التخفيف عن الناس والرحمة بهم.

خامسًا: علينا بالبحث عن أفضل الطرق للوقاية والعلاج من هذا المرض، والاستعانة بالمسلمين وغير المسلمين الأمناء الذين يرشدوننا إلى التخلص من مصدر الخطر وهو الخنزير بطريقة علمية رحيمة، تجمع بين أحدث ما وصل إليه العلم، ولا تخالف تعاليم الإسلام في الإحسان إلى الحيوان والرأفة وبه، فهو حيوان مسبح لله تعالى، ساجدًا عابدًا يقول الله تعالى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)﴾ (الإسراء).

ويقول تعالى: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (15)﴾ (الرعد).

ويقول تعالى ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49)﴾ (النحل).

سادسًا: على الحكومات- وخاصة الإسلامية- التي تقوم بالتخلص من هذا الحيوان أن تعوض من يملكه تعويضًا عادل إن كان من غير المسلمين، لأنه مال له قيمة عنده بحسب ما يعتقد، وقد قبلنا منه أن يعيش في ظل الدولة الإسلامية وهو حر في تصرفاته التي لا تمثل خطرًا على المجتمع، وأن تقوم بإيجاد البدائل الحلال للمسلمين حتى لا تقطع أرزاقهم دون بدائل، لأنهم وطنوا أنفسهم على هذا- وإن كان حرامًا- فهؤلاء لا يأخذون تعويضًا على شيء ليس له قيمة في الشريعة الإسلامية بالنسبة لهم، ولكنهم يعانون إن كانوا فقراء حتى يجدوا البديل المناسب.

سابعًا: علينا مراعاة فقه الأولويات ونحن نتعامل مع هذه الأزمة، وفقه الأولويات يحتم علينا أن نوازن بين الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات، وهذا يتطلب منا ما يلي بالترتيب:
1- أن نبدأ بالتجمعات المحرمة فنمنعها حيث تلتصق الأجساد، وتقترب الأفواه، ويكثر الصخب والاختلاط المحرم، وقد يكون هذا في حالة السكر الذي لا يميز فيه الإنسان بين الصواب والخطأ، ولا يستطيع أن يتجنب مواطن الخطر، وهذا يحدث في الحفلات الماجنة، والتجمعات المحرمة، وهذا منكر يجب على الحكومات والأفراد التصدي له وإزالته سواء في وجود المرض أم لا.

2- منع السياح الذي يأتون من أماكن المرض الأصلية وعدم دخولهم للبلاد السليمة، ولا يصح أن نتذرع بحماية الاقتصاد هنا؛ فحفظ النفس مقدم على حفظ المال، وما سنخسره إن انتشر المرض- لا قدر الله بيننا- أكبر بكثير من الخسارة في مجال السياحة.

3- ثم تأتي بعد ذلك التجمعات غير المحرمة ولكنها من باب الترفيه والتحسينيات كدور السينما المنضبطة المحافظة، وملاعب كرة القدم وغيرها فهذه أولى بالمنع من غيرها لأن حماية النفس، وهي من الضروريات مقدمة على الترفيه والتحسينيات.

4- التجمعات الهامة التي لا يمكن الاستغناء عنها كوسائل المواصلات، والمدارس والجامعات، وخاصة في البلاد الفقيرة التي تعاني من زيادة السكان والازدحام، على الحكومات أن تحسّن هذه المواصلات وتجعلها جيدة التهوية، قليلة في عدد الركاب وهذا وإن كان من حق الشعوب وواجب الحكومات في أي وقت، لكنه الآن أشد وجوبًا، فما يحدث في قطارات الأنفاق وغيرها أشد خطرًا مما يحدث في المساجد أو مواسم الجمع والجماعات، أو حتى الحج والعمرة في بعض الأوقات.

5- إن انتشر الوباء- لا قدر الله- بعد أخذ كل التدابير فلا مانع من التدخل في الاجتماعات التي تكون في مواطن العبادة فيمكن للمسلم أن يؤدي الصلاة سواء كانت نافلةً أو فرضًا في بيته ما دامت هناك ضرورة، ويمكنه تأجيل الحج فهو فرض على التراخي، ويسقط عند عدم القدرة عليه، ويؤجل الاعتكاف لأنه سنة.

لكن من الخطأ البين، والظلم الواضح أن نترك كل شيء يعمل كما هو ثم نتحدث عن الحج والعمرة والاعتكاف وصلاة الجمعة والجماعة!!.

ثامنًا: على الشعوب والأفراد أن تكون عونًا للحكومات في مثل هذه الأزمات، فهذه الأزمات الكبرى لا يمكن للحكومات وحدها ولا للأفراد وحدهم أن يتصدوا لها، ويد الله مع الجماعة.

تاسعًا: علينا- كمسلمين- ألا نغفل الدعاء، وقد شرع لنا دعاء القنوت في النوازل، وهذه نازلة نسأل الله أن يجنبنا شرها، والدعاء- بعد الأخذ بالأسباب- سلاح المؤمن وعدته، وقد يغفل الناس جميعًا هذا الأمر ويركنون إلى الأسباب وينسون مسبب الأسباب، ولا يجوز للمسلم أن يفعل هذا.

عاشرًا: الثقة والاطمئنان لقضاء الله وقدره، وأن أمر المسلم كله خير إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، ونحسب أن من يموت بسبب هذا الوباء له أجر الشهيد، ولأهله أجر الصابرين المحتسبين.
والله أعلم
 
ما هي الضوابط الفقهية للتعامل مع أزمة الخنازير
 
الوسوم
أصمت الخنازير الضوابط الفقهية للتعامل
عودة
أعلى