الأرض لا تقدر بثمن

رنون

من الاعضاء المؤسسين


الأرض لا تقدر بثمن

تذكر أن أباه لم يشكو المرض يوماً، ولكن الرسالة التي حملها زميل له من نفس البلدة فيها ما يشعره أن حالة والده في خطر وعليه أن يكون قريباً منه… كان والده فلاحاً ولكنه من أنصار العلم… ومن أوائل من سمعوا بالقول الشهير "افتح مدرسة تغلق سجناً" لذلك كان يوفر من غلة الأرض وإنتاج الموسم لمصروف ابنه وتعليمه… ويعني مرضه الآن عدم قدرته على العمل وبالتالي عدم تكميله دراسته وضياع تعب السنين هباء… ماذا يضيرك يا أبي لو انتظرت لنهاية العام؟
رضي رضى المغلوب على أمره إنه ولد في بيت فلاح وفقير ومع أنه انطلاقه للعلم قد فتح عينيه إلا أنه لم يثر حسده ولا مرة ما يتنعم به زملائه من ثراء، لقد كانت دروسه محط اهتمامه وهو مكتفي بهذه الدنانير التي يبعثها والده ويقطعها عن قوته، مؤملاً أن يتمتع بمباهج الحياة بعد التخرج والعمل… أما الآن فقد جاء نذير الغرق والسفينة على بعد قليل من ميناء الأمان… فما العمل؟
تواردت عليه الخواطر حتى وهو يدلف إلى غرفة والده المريض… وتلقفته أحضان أمه وقبلته على وجنتيه والدموع تنهال من مقلتيها المتعبتين… وكادت تولول لولا أنه قاطعها سائلاً : ماذا حدث ..؟
توقفت عن البكاء وقالت : أصابه صداع شديد، وثقل جسده… قال : ماذا قال الطبيب قالت : شلل… شلل جزئي. وأحس بسيف حاد يخترق قلبه ليس فقط على ما أصاب والده بل شفقة على هذه المسكينة بوجهها الذابل… تنوء بثقل عمر أنفقته في متاعب داخل البيت وخارجه، فتحجرت يديها ومشاعرها وآن الأوان أن ينفجر كل هذا بلحظة كالغاز المضغوط في قارورة، فهل بمقدور هذه المرأة الواهية أن تفي بتمريض شيخ متهدم؟ ومن أين لهم مصاريف العلاج؟ وكيف يتدبر أموره؟ عاد لوعيه ذاهلاً… ليتها كانت القاضية لكانت أخف وطأة… وجعل يقول لنفسه … يا لوالدي البائسين… ربت بيده على جبين والده وقبل يده الممدودة بارتخاء على الفراش، وقال لأمه وكأنه يحادث نفسه : وما العمل؟ قالت : إن حياتنا بين يديك… واعتمادنا عليك…
قال : ولكن الامتحانات النهائية على الأبواب ولن أضيع عمري…
قالت : وما الحيلة؟
قال : عندنا قطعة أرض ويمكن أن نبيعها… إلى أن أجد وظيفة فنعيد شراءها.
قالت : أهذا خيارك؟… ولكنك ستندم… وإذا أفاق والدك من غيبوبته وعلم… سيجن وسيغضب عليك… فهي الأرض الوحيدة التي نملكها… شهدت كل مراحل عمره، مجبولة بعرق جبينه… كانت مسرحاً لكل أحداث حياته… إن فرحاً فيلجأ إليها يناجيها وإن حزناً فيبثها أحزانه، وبين ذراتها كان يدفن همومه وأتعابه… وإن غضب أو استراح كانت كاتمة أسراره ومفرجة همه كانت رصيده من الدنيا ومهربة من مشكلاتها… يحادثها وتحادثه وكأنها نفسه… فهو لم ينسى الطريقة التي حصل بها عليها… كان يعمل أجيراً هو وبقرتين في حراثة أرض لرجل يمتلك كثيراً… وكانت هذه الأرض صخرية مهملة…واتفق معه أن يعمل على إصلاحها على حصة… مناصفة… وعمل بيديه ليل نهار، هو وأنا أساعده قدر طاقتي… عمل كالجرافة، شق الصخر ومهد التربة وبنى الجدران وحوط الأرض وحماها من الماشية والأعداء … وجلب الزيتون البري… من وادٍ يبعد عن البلدة مسافة طويلة… كان يحمّل حماره… وكنت أضع على رأسي حزمة محكمة، ولا ينسى أن يضع شيئاً على كتفه ويسير مرنماً… وكم كان عناؤه شديداً في أيام الصيف الحار وهو يحمل الماء ليسقي الشتلات التي نمت بفعل الإصرار وكبرت، وطعّمها، وسهر الليالي عليها خوفاً من أن ترعاها المواشي أو يسقطها الإنسان، وكم كانت فرحته في أول موسم كان يمسك بعود الشجرة الناعم ويتمسح به ويقبله ويناغيه كأنه يناغي أعز مخلوق عليه، وعندما طلب أن يعرف حصته من صاحب الأرض انقلب عليه وأبى إلا أن يعطيه الثلث… وقبل على مضض… فكيف يتسنى له أن يناطح ثوراً كبيراً…
قال ولكنها رخيصة …وإنتاجها قليل…
قالت له : ولكن الأرض لا تقدر بمال
لم يضيع وقتاً… أجرى المعاملات… وتم البيع… وأخذ بصمة والده المريض الذي ارتعش ارتعاشاً منكراً في تلك اللحظة… سيظل يذكره مدى العمر… وفي الصباح ودع والده الذي كان في سباته وقبل أمه التي لم تجد مناص من التسليم بالأمر الواقع وقالت له : الله معك… ولا تنسى… أنت أملنا الوحيد.
ورحل وهو يقول لنفسه : أليس من الظلم أن أولد في هذا البيت الفقير؟
وسرعان ما تناسى البيت ومن فيه… أكب على الدراسة وكأنها عدوه الأول، فليحطم أغلال الفقر… وليذق السعادة… أشهر معدودات وجاءه نعي والده امتلأ حزناً وضيقاً… ولكنه تدبر الأمور بحكمة وروية… ومضى يشق طريقه بعزم وتحدي… وإصرار…
استأجر غرفة أكثر رخصاً وتحمل ألواناً من الفاقة والعوز والحرمان… وبدت له الحياة جحيماً لا يطاق… ولكنه استهان بكل شيء بصبر مستبشراً بالغد وما يحمله من نعيم مفقود… ونال الشهادة… ووجد وظيفة ولكنه وجد حياته لا تختلف عن حياة الطالب… واضطربت حياته وأوشك أن يدركه اليأس… ولكنه سمع من زملائه عن الهجرة إلى أمريكا… وحلق به الخيال إلى بلاد الأحلام… واقتنع بالفكرة أيما اقتناع… وباركته والدته على ما عزم ونوى فلم يعد لها عليه حيلة… وشد الرحال وهو يذكر قول والده –"المربى حلو"- ففيه الذكريات التي لن تغيب عنه مهما كانت في غاية الشدة والشقاء.


لم يمضِ وقت طويل حتى لحقت والدته بخالقها… وفي بلاد الغربة لم يجد الوقت حتى لذرف دمعه حزن واحدة عليها… ومضت السنون… أصبح له زوجة وأولاد وعاش عيشة طيبة… وكأنه يقتص من أيام الحرمان… أما الوطن وهمومه فأخذ يحتل حيزاً أخذ يصغر مع الأيام… وإن لم يصل لدرجة الإهمال… فكلما عصفت به الأحداث وتناقلت وسائل الأخبار أنباءه… تساءل في حيرة : ترى كيف صارت القرية؟… وجاءت الأخبار بآمال جديدة… وعاد قسم من الناس وهبت رياح تبشر بالاستثمار في بلاده… وانتعش في قلبه حلم قديم ووعد قديم كبصيص نار على قمة عالية في ليلة مظلمة…
فليقصد إلى بلده آمناً… لم يجر تغير كبير عليها… كل ما وعته ذاكرته رآه بعضهم بنى فوق الدور القديمة دوراً جديدة من الحجر أو الأسمنت، وصل بيته ووجده مهملاً متداعياً لا يصلح للسكن… تذكره بعض كبار السن ودعاه أحدهم تذكر شهامة وكرم أهل بلده… كان بين الموجودين والأحياء الباقين "رجل" سرعان ما تذكره بمجرد أن وقع عليه بصره… فمهما عمل الزمان به فلن ينساه.
قال له : أتعرف لماذا عدت؟ قال الرجل : لا… بلدك… أهلاً وسهلاً قال : عدت من أجل أن أعيد قطعة الأرض التي بعتك إياها قبل أن أغادر…
قال الرجل بأدب وهدوء غريب : لا بأس.
ولأنه لم يتعود الإطالة في الكلام سأل : وكم تريد ثمنها؟
قال الرجل : مثل ما بيشتروا الناس.
قال : على بركة الله
وفي اليوم التالي سأل عن ثمن الدونم… وحسب ووجد أن كل ما جمعه في سنين الغربة الطويلة يل يعيد قطعة الأرض التي باعها… وتذكر قول أمه : الأرض لا تقدر بمال. وتأهب لمغادرة البلدة وقبل الرحيل… ذهب إلى المقبرة… ومن فوق التراب الذي حوى جسد والديه بكى بكاءً مراً … كطفل فقد أعز ما يملك… ولأول مرة أحس باليتم.



الأرض لا تقدر بثمن



الأرض لا تقدر بثمن
 
شكراً لتواجدكـ المميز

الأرض لا تقدر بثمن



الأرض لا تقدر بثمن

 
الوسوم
الأرض بثمن تقدر
عودة
أعلى