ward alsham
الاعضاء
البـــــاب الأول
مبادئ الإسلام في شأن الحلال والحرام
البــــــاب الثانــــــي
الحلال والحرام في الحياة الشخصية للمسلم
مبادئ الإسلام في شأن الحلال والحرام
البــــــاب الثانــــــي
الحلال والحرام في الحياة الشخصية للمسلم
البـــــاب الثالـــــث
الحلال والحرام في الزواج وحياة الأسرة
الحلال والحرام في الزواج وحياة الأسرة
البـــــاب الرابـــــع
الحلال والحرام في الحياة العامة للمسلم
الحلال والحرام في الحياة العامة للمسلم
الباب الاول
مبادئ الإسلام في شأن الحلال والحرام
مقدمة
كان أمر الحلال والحرام كغيره من الأمور التي ضل فيها أهل الجاهلية ضلالا بعيدا، واضطربوا في شأنها اضطرابا فاحشا فأحلوا الحرام الخبيث، وحرموا الحلال الطيب، يستوي في ذلك الوثنيون وأهل الملل الكتابية.
وكان هذا الضلال يمثل الانحراف والتطرف في أقصى اليمين، أو الانحراف والتطرف في أقصى اليسار.
ففي أقصى اليمين وجدت البرهمية الهندية القاسية، والرهبانية المسيحية العاتية، وغيرها من المذاهب التي تقوم على تعذيب الجسد، وتحريم الطيبات من الرزق، وزينة الله التي أخرج لعباده. وقد بلغت الرهبانية المسيحية ذروة عتوها في القرون الوسطى، وبلغ تحريم الطيبات أشده عند هؤلاء الرهبان الذين كانوا يعدون بالألوف، حتى جعل بعضهم غسل الرجلين إثما، ودخول الحمام شيئا يجلب الأسف والحسرة.
وفي أقصى اليسار وجد مذهب (مزدك) الذي ظهر في فارس، ينادي بالإباحة المطلقة، ويطلق العنان للناس ليأخذوا كل شيء، ويستبيحوا كل شيء، حتى الأعراض والحرمات المقدسة عند الناس.
وكانت أمة العرب في الجاهلية مثلا واضحا على اختلال مقاييس التحليل والتحريم بالنسبة للأشياء والأعمال، فاستباحوا شرب الخمر وأكل الربا أضعافا مضاعفة، ومضارة النساء وعضلهن، و… وأكثر من ذلك أن شياطين الإنس والجن زينوا لكثير منهم قتل أولادهم وفلذات أكبادهم، فأطاعوهم. وخالفوا نوازع الأبوة في صدورهم كما قال تعالى: (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم) سورة الأنعام:137.
وقد سلك هؤلاء الشركاء من سدنة الأوثان وأشباههم مسالك عدة في تزيين هذا القتل للآباء، فمنها: اتقاء الفقر الواقع أو المتوقع، ومنها: خشية العار والاحتراز منه إذا كان المولود بنتا، ومنها: التقرب إلى الآلهة بنحر الأولاد، وتقديمها قربانا إليها.
ومن العجب أن هؤلاء الذين استحلوا قتل أولادهم ذبحا أو وأدا حرموا على أنفسهم كثيرا من الطيبات من حرث وأنعام، والأعجب أنهم جعلوا هذا من أحكام الدين، فنسبوه إلى الله تعالى حكما وديانة، فرد الله عليهم هذه النسبة المفتراة (وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء -بزعمهم- وأنعام حرمت ظهورها، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه، سيجزيهم بما كانوا يفترون) سورة الأنعام:138.
وقد بين القرآن ضلالة هؤلاء الذين أحلوا ما يجب أن يحرم، وحرموا ما ينبغي أن يحل، فقال: (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم، وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله. قد ضلوا وما كانوا مهتدين) سورة الأنعام:140.
جاء الإسلام فوجد هذا الضلال والانحراف في التحريم والتحليل، فكان أول ما صنعه لإصلاح هذا الجانب الخطير من التشريع أن وضع جملة من المبادئ التشريعية، جعلها الركائز التي يقوم عليها الحلال والحرام، فرد الأمور إلى نصابها، وأقام الموازين القسط، وأعاد العدل والتوازن فيما يحل وما يحرم. وبذلك كانت أمة الإسلام بين الضالين والمنحرفين -يمينا أو شمالا- أمة وسطا، كما وصفها الله الذي جعلها، خير أمة أخرجت للناس.
الأصل في الأشياء الإباحة
كان أول مبدأ قرره الإسلام: أن الأصل فيما خلق الله من أشياء ومنافع، هو الحل والإباحة، ولا حرام إلا ما ورد نص صحيح صريح من الشارع بتحريمه، فإذا لم يكن النص صحيحا -كبعض الأحاديث الضعيفة- أو لم يكن صريحا في الدلالة على الحرمة، بقي الأمر على أصل الإباحة.
وقد استدل علماء الإسلام على أن الأصل في الأشياء والمنافع الإباحة، بآيات القرآن الواضحة من مثل قوله تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) سورة البقرة:29، (وسخر لكم ما في السموات والأرض جميعا منه) سورة الجاثية:13، (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة) سورة لقمان:20.
وما كان الله سبحانه ليخلق هذه الأشياء ويسخرها للإنسان ويمن عليه بها، ثم يحرمه منها بتحريمها عليه، وكيف وقد خلقها له، وسخرها له، وأنعم بها عليه؟
وإنما حرم جزئيات منها لسبب وحكمة سنذكرها بعد.
ومن هنا ضاقت دائرة المحرمات في شريعة الإسلام ضيقا شديدا، واتسعت دائرة الحلال اتساعا بالغا. ذلك أن النصوص الصحيحة الصريحة التي جاءت بالتحريم قليلة جدا، وما لم يجيء نص بحله أو حرمته، فهو باق على أصل الإباحة، وفي دائرة العفو الإلهي.
وفي هذا ورد الحديث "ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام. وما سكت عنه فهو عفو. فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا، وتلا (وما كان ربك نسيا)" سورة مريم:64.
وعن سلمان الفارسي: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء فقال: "الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا لكم" فلم يشأ عليه السلام أن يجيب السائلين عن هذه الجزئيات، بل أحالهم على قاعدة يرجعون إليها في معرفة الحلال والحرام، ويكفي أن يعرفوا ما حرم الله، فيكون كل ماعداه حلالا طيبا.
وقال رسول الله: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها".
وأحب أن أنبه هنا على أن أصل الإباحة لا يقتصر على الأشياء والأعيان، بل يشمل الأفعال والتصرفات التي ليست من أمور العبادة، وهي التي نسميها "العادات أو المعاملات" فالأصل فيها عدم التحريم وعدم التقيد إلا ما حرمه الشارع وألزم به. وقوله تعالى: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم) سورة الأنعام 119، عام في الأشياء والأفعال.
وهذا بخلاف العبادة فإنها من أمر الدين المحض الذي لا يؤخذ إلا عن طريق الوحي. وفيها جاء الحديث الصحيح "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد"، وذلك أن حقيقة الدين تتمثل في أمرين: ألا يعبد إلا الله وألا يعبد الله إلا بما شرع، فمن ابتدع عبادة من عنده -كائنا من كان- فهي ضلالة ترد عليه. لأن الشارع وحده هو صاحب الحق في إنشاء العبادات التي يتقرب بها إليه.
وأما العادات أو المعاملات فليس الشارع منشئا لها. بل الناس هم الذين أنشؤوها وتعاملوا بها، والشارع جاء مصححا لها ومعدلا ومهذبا، ومقرا في بعض الأحيان ما خلا عن الفساد والضرر منها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينهم وعادات يحتاجون إليها في دنياهم، فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع.
وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه. الأصل فيه عدم الحظر. فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى. وذلك لأن الأمر والنهي هما شرع الله، والعبادة لا بد أن تكون مأمورا بها، فما لم يثبت أنه مأمور به كيف يحكم عليه بأنه محظور؟
ولهذا كان أحمد وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون: إن الأصل في العبادات التوقيف فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله وإلا دخلنا في معنى قوله تعالى: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) سورة الشورى:21.
والعادات الأصل فيها العفو، فلا يحظر منها إلا ما حرمه، وإلا دخلنا في معنى قوله: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا) سورة يونس:59.
وهذه قاعدة عظيمة نافعة، وإذا كان كذلك فنقول: البيع والهبة والإجارة وغيرها من العادات التي يحتاج الناس إليها في معاشهم -كالأكل والشرب واللباس- فإن الشريعة قد جاءت في هذه العادات بالآداب الحسنة، فحرمت منها ما فيه فساد، وأوجبت ما لا بد منه، وكرهت ما لا ينبغي واستحبت ما فيه مصلحة راجحة في أنواع هذه العادات ومقاديرها وصفاتها.
وإذا كان كذلك، فالناس يتبايعون ويستأجرون كيف يشاؤون، ما لم تحرم الشريعة، كما يأكلون ويشربون كيف شاؤوا ما لم تحرم الشريعة -وإن كان بعض ذلك قد يستحب، أو يكون مكروها- وما لم تحد الشريعة، فيبقون فيه على الإطلاق الأصلي".
ومما يدل على هذا الأصل المذكور ما جاء في الصحيح عن جابر بن عبد الله قال: (كنا نعزل، والقرآن ينزل، فلو كان شيء ينهى عنه لنهى عنه القرآن).
فدل على أن ما سكت عنه الوحي غير محظور ولا منهي عنه، وأنهم في حل من فعله حتى يرد نص بالنهي والمنع. وهذا من كمال فقه الصحابة رضي الله عنهم. وبهذا تقررت هذه القاعدة الجليلة: ألا تشرع عبادة إلا بشرع الله، ولا تحرم عادة إلا بتحريم الله.
مبادئ الإسلام في شأن الحلال والحرام
مقدمة
كان أمر الحلال والحرام كغيره من الأمور التي ضل فيها أهل الجاهلية ضلالا بعيدا، واضطربوا في شأنها اضطرابا فاحشا فأحلوا الحرام الخبيث، وحرموا الحلال الطيب، يستوي في ذلك الوثنيون وأهل الملل الكتابية.
وكان هذا الضلال يمثل الانحراف والتطرف في أقصى اليمين، أو الانحراف والتطرف في أقصى اليسار.
ففي أقصى اليمين وجدت البرهمية الهندية القاسية، والرهبانية المسيحية العاتية، وغيرها من المذاهب التي تقوم على تعذيب الجسد، وتحريم الطيبات من الرزق، وزينة الله التي أخرج لعباده. وقد بلغت الرهبانية المسيحية ذروة عتوها في القرون الوسطى، وبلغ تحريم الطيبات أشده عند هؤلاء الرهبان الذين كانوا يعدون بالألوف، حتى جعل بعضهم غسل الرجلين إثما، ودخول الحمام شيئا يجلب الأسف والحسرة.
وفي أقصى اليسار وجد مذهب (مزدك) الذي ظهر في فارس، ينادي بالإباحة المطلقة، ويطلق العنان للناس ليأخذوا كل شيء، ويستبيحوا كل شيء، حتى الأعراض والحرمات المقدسة عند الناس.
وكانت أمة العرب في الجاهلية مثلا واضحا على اختلال مقاييس التحليل والتحريم بالنسبة للأشياء والأعمال، فاستباحوا شرب الخمر وأكل الربا أضعافا مضاعفة، ومضارة النساء وعضلهن، و… وأكثر من ذلك أن شياطين الإنس والجن زينوا لكثير منهم قتل أولادهم وفلذات أكبادهم، فأطاعوهم. وخالفوا نوازع الأبوة في صدورهم كما قال تعالى: (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم) سورة الأنعام:137.
وقد سلك هؤلاء الشركاء من سدنة الأوثان وأشباههم مسالك عدة في تزيين هذا القتل للآباء، فمنها: اتقاء الفقر الواقع أو المتوقع، ومنها: خشية العار والاحتراز منه إذا كان المولود بنتا، ومنها: التقرب إلى الآلهة بنحر الأولاد، وتقديمها قربانا إليها.
ومن العجب أن هؤلاء الذين استحلوا قتل أولادهم ذبحا أو وأدا حرموا على أنفسهم كثيرا من الطيبات من حرث وأنعام، والأعجب أنهم جعلوا هذا من أحكام الدين، فنسبوه إلى الله تعالى حكما وديانة، فرد الله عليهم هذه النسبة المفتراة (وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء -بزعمهم- وأنعام حرمت ظهورها، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه، سيجزيهم بما كانوا يفترون) سورة الأنعام:138.
وقد بين القرآن ضلالة هؤلاء الذين أحلوا ما يجب أن يحرم، وحرموا ما ينبغي أن يحل، فقال: (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم، وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله. قد ضلوا وما كانوا مهتدين) سورة الأنعام:140.
جاء الإسلام فوجد هذا الضلال والانحراف في التحريم والتحليل، فكان أول ما صنعه لإصلاح هذا الجانب الخطير من التشريع أن وضع جملة من المبادئ التشريعية، جعلها الركائز التي يقوم عليها الحلال والحرام، فرد الأمور إلى نصابها، وأقام الموازين القسط، وأعاد العدل والتوازن فيما يحل وما يحرم. وبذلك كانت أمة الإسلام بين الضالين والمنحرفين -يمينا أو شمالا- أمة وسطا، كما وصفها الله الذي جعلها، خير أمة أخرجت للناس.
الأصل في الأشياء الإباحة
كان أول مبدأ قرره الإسلام: أن الأصل فيما خلق الله من أشياء ومنافع، هو الحل والإباحة، ولا حرام إلا ما ورد نص صحيح صريح من الشارع بتحريمه، فإذا لم يكن النص صحيحا -كبعض الأحاديث الضعيفة- أو لم يكن صريحا في الدلالة على الحرمة، بقي الأمر على أصل الإباحة.
وقد استدل علماء الإسلام على أن الأصل في الأشياء والمنافع الإباحة، بآيات القرآن الواضحة من مثل قوله تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) سورة البقرة:29، (وسخر لكم ما في السموات والأرض جميعا منه) سورة الجاثية:13، (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة) سورة لقمان:20.
وما كان الله سبحانه ليخلق هذه الأشياء ويسخرها للإنسان ويمن عليه بها، ثم يحرمه منها بتحريمها عليه، وكيف وقد خلقها له، وسخرها له، وأنعم بها عليه؟
وإنما حرم جزئيات منها لسبب وحكمة سنذكرها بعد.
ومن هنا ضاقت دائرة المحرمات في شريعة الإسلام ضيقا شديدا، واتسعت دائرة الحلال اتساعا بالغا. ذلك أن النصوص الصحيحة الصريحة التي جاءت بالتحريم قليلة جدا، وما لم يجيء نص بحله أو حرمته، فهو باق على أصل الإباحة، وفي دائرة العفو الإلهي.
وفي هذا ورد الحديث "ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام. وما سكت عنه فهو عفو. فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا، وتلا (وما كان ربك نسيا)" سورة مريم:64.
وعن سلمان الفارسي: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء فقال: "الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا لكم" فلم يشأ عليه السلام أن يجيب السائلين عن هذه الجزئيات، بل أحالهم على قاعدة يرجعون إليها في معرفة الحلال والحرام، ويكفي أن يعرفوا ما حرم الله، فيكون كل ماعداه حلالا طيبا.
وقال رسول الله: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها".
وأحب أن أنبه هنا على أن أصل الإباحة لا يقتصر على الأشياء والأعيان، بل يشمل الأفعال والتصرفات التي ليست من أمور العبادة، وهي التي نسميها "العادات أو المعاملات" فالأصل فيها عدم التحريم وعدم التقيد إلا ما حرمه الشارع وألزم به. وقوله تعالى: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم) سورة الأنعام 119، عام في الأشياء والأفعال.
وهذا بخلاف العبادة فإنها من أمر الدين المحض الذي لا يؤخذ إلا عن طريق الوحي. وفيها جاء الحديث الصحيح "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد"، وذلك أن حقيقة الدين تتمثل في أمرين: ألا يعبد إلا الله وألا يعبد الله إلا بما شرع، فمن ابتدع عبادة من عنده -كائنا من كان- فهي ضلالة ترد عليه. لأن الشارع وحده هو صاحب الحق في إنشاء العبادات التي يتقرب بها إليه.
وأما العادات أو المعاملات فليس الشارع منشئا لها. بل الناس هم الذين أنشؤوها وتعاملوا بها، والشارع جاء مصححا لها ومعدلا ومهذبا، ومقرا في بعض الأحيان ما خلا عن الفساد والضرر منها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينهم وعادات يحتاجون إليها في دنياهم، فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع.
وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه. الأصل فيه عدم الحظر. فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى. وذلك لأن الأمر والنهي هما شرع الله، والعبادة لا بد أن تكون مأمورا بها، فما لم يثبت أنه مأمور به كيف يحكم عليه بأنه محظور؟
ولهذا كان أحمد وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون: إن الأصل في العبادات التوقيف فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله وإلا دخلنا في معنى قوله تعالى: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) سورة الشورى:21.
والعادات الأصل فيها العفو، فلا يحظر منها إلا ما حرمه، وإلا دخلنا في معنى قوله: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا) سورة يونس:59.
وهذه قاعدة عظيمة نافعة، وإذا كان كذلك فنقول: البيع والهبة والإجارة وغيرها من العادات التي يحتاج الناس إليها في معاشهم -كالأكل والشرب واللباس- فإن الشريعة قد جاءت في هذه العادات بالآداب الحسنة، فحرمت منها ما فيه فساد، وأوجبت ما لا بد منه، وكرهت ما لا ينبغي واستحبت ما فيه مصلحة راجحة في أنواع هذه العادات ومقاديرها وصفاتها.
وإذا كان كذلك، فالناس يتبايعون ويستأجرون كيف يشاؤون، ما لم تحرم الشريعة، كما يأكلون ويشربون كيف شاؤوا ما لم تحرم الشريعة -وإن كان بعض ذلك قد يستحب، أو يكون مكروها- وما لم تحد الشريعة، فيبقون فيه على الإطلاق الأصلي".
ومما يدل على هذا الأصل المذكور ما جاء في الصحيح عن جابر بن عبد الله قال: (كنا نعزل، والقرآن ينزل، فلو كان شيء ينهى عنه لنهى عنه القرآن).
فدل على أن ما سكت عنه الوحي غير محظور ولا منهي عنه، وأنهم في حل من فعله حتى يرد نص بالنهي والمنع. وهذا من كمال فقه الصحابة رضي الله عنهم. وبهذا تقررت هذه القاعدة الجليلة: ألا تشرع عبادة إلا بشرع الله، ولا تحرم عادة إلا بتحريم الله.
التحليل والتحريم حق الله وحده
المبدأ الثاني: أن الإسلام حدد السلطة التي تملك التحليل والتحريم فانتزعها من أيدي الخلق، أيا كانت درجتهم في دين الله أو دنيا الناس، وجعلها من حق الرب تعالى وحده. فلا أحبار او رهبان، ولا ملوك أو سلاطين، يملكون أن يحرموا شيئا تحريما مؤبدا على عباد الله. ومن فعل ذلك منهم فقد تجاوز حده واعتدى على حق الربوية في التشريع للخلق، ومن رضي بعملهم هذا واتبعه فقد جعلهم شركاء لله واعتبر اتباعه هذا شركا (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) سورة الشورى:21.
وقد نعى القرآن على أهل الكتاب (اليهود والنصارى) الذين وضعوا سلطة التحليل والتحريم في أيدي أحبارهم ورهبانهم، فقال تعالى في سورة التوبة: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم، وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا، لا إله إلا هو، سبحانه عما يشركون) سورة التوبة:31.
وقد جاء عدي بن حاتم إلى النبي -وكان قد دان بالنصرانية قبل الإسلام- فلما سمع النبي هذه الآية، قال: يا رسول الله! إنهم لم يعبدوهم. فقال: (بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم).
وفي رواية أن النبي عليه السلام قال تفسيرا لهذه الآية: (أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه).
ولا زال النصارى يزعمون أن المسيح أعطى تلامذته -عند صعوده إلى السماء- تفويضا بأن يحللوا ويحرموا كما يشاؤون، كما جاء في إنجيل متى 18:18 (الحق أقول لكم، كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطا في السماء، وكل ما تحلونه على الأرض يكون محلولا في السماء). كما نعى على المشركين الذين حرموا وحللوا بغير إذن من الله.
قال تعالى: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا، قل الله أذن لكم أن على الله تفترون) سورة يونس:59.
وقال سبحانه (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب: هذا حلال وهذا حرام، لتفتروا على الله الكذب، إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون) سورة النحل:116.
ومن هذه الآيات البينات، والأحاديث الواضحات عرف فقهاء الإسلام معرفة يقينية أن الله وحده هو صاحب الحق في أن يحل ويحرم، في كتابه أو على لسان رسوله وأن مهمتهم لا تعدوا بيان حكم الله فيما أحل وما حرم (وقد فصل لكم ما حرم عليكم) سورة الأنعام:119. وليست مهمتهم التشريع الديني للناس فيما يجوز لهم وما لا يجوز. وكانوا -مع إمامتهم واجتهادهم- يهربون من الفتيا، ويحيل بعضهم على بعض، خشية أن يقعوا -خطأ- في تحليل حرام أو تحريم حلال.
روى الإمام الشافعي في كتابه (الأم) عن القاضي أبي يوسف صاحب أبي حنيفة قال: "أدركت مشايخنا من أهل العلم يكرهون الفتيا، أن يقولوا: هذا حلال وهذا حرام إلا ما كان في كتاب الله عز وجل بينا بلا تفسير. حدثنا ابن السائب عن الربيع ابن خيثم -وكان من أفضل التابعين- أنه قال: إياكم أن يقول الرجل: إن الله أحل هذا أو رضيه، فيقول الله له: لم أحل هذا ولم أرضه! أو يقول: إن الله حرم هذا، فيقول الله: كذبت، لم أحرمه ولم أنه عنه". وحدثنا بعض أصحابنا أنهم كانوا إذا أفتوا بشيء أو نهوا عنه قالوا : هذا مكروه، وهذا لا بأس به، فأما أن نقول: هذا حلال وهذا حرام فما أعظم هذا!!
هذا ما نقله أبو يوسف عن السلف الصالح، ونقله عنه الشافعي وأقره عليه، كما نقل ابن مفلح عن شيخ الإسلام ابن تيمية: أن السلف لم يطلقوا الحرام إلا على ما علم تحريمه قطعا.
وهكذا نجد إماما كأحمد بن حنبل يسأل عن الأمر فيقول: أكرهه أو لا يعجبني، أو لا أحبه، أو لا أستحسنه.
ومثل هذا يروى عن مالك، وأبي حنيفة وسائر الأئمة رضي الله عنهم
تحريم الحلال وتحليل الحرام قرين الشرك بالله
وإذا كان الإسلام قد نعى على من يحرمون ويحللون جميعا، فإنه قد اختص المحرمين بحملة أشد وأعنف، نظرا لما في هذا الاتجاه من حجر على البشر وتضييق لما وسع الله عليهم بغير موجب، ولموافقة هذا الاتجاه لنزعات بعض المتدينين المتنطعين. وقد حارب النبي نزعة التنطع والتشدد هذه بكل سلاح، وذم المتنطعين وأخبر بهلكتهم إذ يقول: "ألا هلك المتنطعون، ألا هلك المتنطعون، ألا هلك المتنطعون".
وأعلن عن رسالته فقال "بعثت بالحنيفية السمحة" فهي حنيفية في العقيدة والتوحيد، سمحة في جانب العمل والتشريع. وضد الأمرين الشرك وتحريم الحلال وهما اللذان ذكرهما النبي فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: "إني خلقت عبادي حنفاء وإنهم أتتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا".
فتحريم الحلال، قرين الشرك، ولهذا شدد القرآن النكير على مشركي العرب في شركهم وأوثانهم وفي تحريمهم على أنفسهم من الطيبات من أنواع الحرث والأنعام ما لم يأذن به الله، ومن ذلك تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، فقد كانوا في الجاهلية إذا ولدت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر، شقوا أذنها ومنعوا ركوبها، وتركوها لآلهتهم، لا تنحر ولا يحمل عليها، ولا تطرد عن ماء أو مرعى، وسموها (البحيرة) أي مشقوقة الأذن، وكان الرجل إذا قدم من سفر، أو برأ من مرض أو نحو ذلك سيب ناقته وخلالها، وجعلها كالبحيرة، وتسمى (السائبة). وكانت الشاة إذا ولدت أنثى فهي لهم، وإذا ولدت ذكرا فهي لآلهتهم وإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا: وصلت أخاها، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم، وتسمى (الوصيلة) وكان الفحل إذا لقح ولده ولده قالوا: قد حمى ظهره، فلا يركب ولا يحمل عليه.. الخ، ويسمى (الحامي) وفي تفسير هذه الأربعة، أقوال كثيرة تدور حول هذا المحور.
أنكر القرآن عليهم هذا التحريم، ولم يجعل لهم عذرا في تقليد آبائهم في هذا الضلال (وما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام، ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب، وأكثرهم لا يعقلون. وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا، أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون ) سورة المائدة:103، 104.
وفي سورة الأنعام مناقشة تفصيلية لما زعموا تحريمه من الأنعام من إبل وبقر وضأن ومعز، ساقها القرآن في أسلوب تهكمي ساخر ولكنه مفحم (ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين، قل الذكرين حرم أن الأنثيين أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين؟ نبؤوني بعلم إن كنتم صادقين، ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين، قل آلذكرين حرم أن الأنثيين؟) الآية، سورة الأنعام:143، 144.
وفي سورة الأعراف مناقشة أخرى ينكر الله فيها على المحرمين، ويبين فيها أصول المحرمات الدائمة.
(قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده، والطيبات من الرزق؟… قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي يغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) سورة الأعراف:32، 33.
وهذه المناقشات في السور المكية التي تعنى دائما بإثبات العقيدة والتوحيد والآخرة، تدلنا على أن هذا الأمر -في نظر القرآن- ليس من الفروع والجزئيات، وإنما هو من الأصول والكليات.
وفي المدينة ظهر بين أفراد المسلمين من يميل إلى التشدد والتزمت وتحريم الطيبات على نفسه، فأنزل الله تعالى من الآيات المحكمة ما يقفهم عند حدود الله، ويردهم إلى صراط الإسلام المستقيم (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين. وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون) سورة المائدة:87-88.
التحريم يتبع الخبث والضرر
من حق الله تعالى -لكونه خالقا للناس ومنعما عليهم بنعم لا تحصى- أن يحل لهم وأن يحرم عليهم ما يشاء -كما له أن يتعبدهم من التكاليف والشعائر بما يشاء- وليس لهم أن يعترضوا أو يعصوا، فهذا حق ربوبيته لهم، ومقتضى عبوديتهم له. ولكنه تعالى رحمة منه بعباده، جعل التحليل والتحريم لعلل معقولة، راجعة لمصلحة البشر أنفسهم، فلم يحل سبحانه إلا طيبا، ولم يحرم إلا خبيثا.
صحيح أنه تعالى قد حرم على أمة اليهود بعض أصناف من الطيبات، غير أن ذلك كان عقوبة لهم على بغيهم وانتهاكهم حرمات الله، كما قال تعالى: (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم، ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون) سورة الأنعام:146.
وقد بين الله صورا من هذا البغي في سورة أخرى فقال تعالى: (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا. وأخذهم الربا وقد نهوا عنه، وأكلهم أموال الناس بالباطل) سورة النساء:160،161.
فلما بعث الله خاتم رسله بالدين العام الخالد، كان من رحمته تعالى بالبشرية -بعد أن نضجت وبلغت رشدها- أن يرفع عنها إصر التحريم الذي كان تأديبا موقتا لشعب عات، صلب الرقبة -كما وصفته التوراة- وكان عنوان الرسالة المحمدية عند أهل الكتاب -كما ذكر القرآن- أنهم: (يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) سورة الأعراف:157.
وشرع الله لتكفير الخطيئة في الإسلام أمورا أخرى غير تحريم الطيبات، فهناك التوبة النصوح التي تمحو الذنب كما يمحو الماء الوسخ، وهناك الحسنات اللاتي يذهبن السيئات، وهناك الصدقات التي تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وهناك المحن والمصائب التي تتناثر بها الخطايا كما يتناثر ورق الشجر في الشتاء إذا يبس.
وبذلك أصبح معروفا في الإسلام أن التحريم يتبع الخبث والضرر، فما كان خالص الضرر فهو حرام، وما كان خالص النفع فهو حلال، وما كان ضرره أكبر من نفعه فهو حرام، وما كان نفعه أكبر فهو حلال، وهذا ما صرح به القرآن الكريم في شأن الخمر والميسر (يسألونك عن الخمر والميسر، قل فيهما إثم ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما) سورة البقرة:219.
كما أصبح من الأجوبة الصريحة -إذا سئل عن الحلال في الإسلام- أنه (الطيبات) أي: الأشياء التي تستطيبها النفوس المعتدلة، ويستحسنها الناس في مجموعهم استحسانا غير ناشئ من أثر العادة، قال تعالى: (يسألونك ماذا أحل لهم؟ قل: أحل لكم الطيبات) سورة المائدة:4.
وقال: (اليوم أحل لكم الطيبات) سورة المائدة:5.
وليس من اللازم أن يكون المسلم على علم تفصيلي بالخبث أو الضرر الذي حرم الله من أجله شيئا من الأشياء، فقد يخفى عليه ما يظهر لغيره، وقد لا ينكشف خبث الشيء في عصره، ويتجلى في عصر لاحق، وعلى المؤمن أن يقول دائما: (سمعنا وأطعنا).
ألا ترى أن الله حرم لحم الخنزير، فلم يفهم المسلم من علة لتحريمه غير أنه مستقذر، ثم تقدم الزمن فكشف العلم فيه من الديدان والجراثيم القتالة ما فيه؟ ولو لم يكشف العلم شيئا في الخنزير أو كشف ما هو أكثر من ذلك فإن المسلم سيظل على عقيدته بأنه (رجس).
ومثل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا الملاعن الثلاث (أي التي تجلب على فاعلها اللعنة من الله والناس): البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل { فلم يعرف أحد في القرون الأولى إلا أنها مستقذرة، يعافها الذوق السليم، والأدب العام، فلما تقدم الكشف العلمي عرفنا أن هذه (الملاعن الثلاثة) من أخطر الأشياء على الصحة العامة، وهي المصدر الأول لانتشار عدوى الأمراض الطفيلية الخطيرة كالانكلستوما والبلهارسيا.
وهكذا كلما نفذت أشعة العلم، واتسع نطاق الكشف تجلت لنا مزايا الإسلام في حلاله وحرامه، وفي تشريعاته كلها. وكيف لا وهو تشريع عليم حكيم رحيم بعباده (والله يعلم المفسد من المصلح، ولو شاء الله لأعنتكم، إن الله عزيز حكيم) سورة البقرة:220.
المبدأ الثاني: أن الإسلام حدد السلطة التي تملك التحليل والتحريم فانتزعها من أيدي الخلق، أيا كانت درجتهم في دين الله أو دنيا الناس، وجعلها من حق الرب تعالى وحده. فلا أحبار او رهبان، ولا ملوك أو سلاطين، يملكون أن يحرموا شيئا تحريما مؤبدا على عباد الله. ومن فعل ذلك منهم فقد تجاوز حده واعتدى على حق الربوية في التشريع للخلق، ومن رضي بعملهم هذا واتبعه فقد جعلهم شركاء لله واعتبر اتباعه هذا شركا (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) سورة الشورى:21.
وقد نعى القرآن على أهل الكتاب (اليهود والنصارى) الذين وضعوا سلطة التحليل والتحريم في أيدي أحبارهم ورهبانهم، فقال تعالى في سورة التوبة: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم، وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا، لا إله إلا هو، سبحانه عما يشركون) سورة التوبة:31.
وقد جاء عدي بن حاتم إلى النبي -وكان قد دان بالنصرانية قبل الإسلام- فلما سمع النبي هذه الآية، قال: يا رسول الله! إنهم لم يعبدوهم. فقال: (بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم).
وفي رواية أن النبي عليه السلام قال تفسيرا لهذه الآية: (أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه).
ولا زال النصارى يزعمون أن المسيح أعطى تلامذته -عند صعوده إلى السماء- تفويضا بأن يحللوا ويحرموا كما يشاؤون، كما جاء في إنجيل متى 18:18 (الحق أقول لكم، كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطا في السماء، وكل ما تحلونه على الأرض يكون محلولا في السماء). كما نعى على المشركين الذين حرموا وحللوا بغير إذن من الله.
قال تعالى: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا، قل الله أذن لكم أن على الله تفترون) سورة يونس:59.
وقال سبحانه (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب: هذا حلال وهذا حرام، لتفتروا على الله الكذب، إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون) سورة النحل:116.
ومن هذه الآيات البينات، والأحاديث الواضحات عرف فقهاء الإسلام معرفة يقينية أن الله وحده هو صاحب الحق في أن يحل ويحرم، في كتابه أو على لسان رسوله وأن مهمتهم لا تعدوا بيان حكم الله فيما أحل وما حرم (وقد فصل لكم ما حرم عليكم) سورة الأنعام:119. وليست مهمتهم التشريع الديني للناس فيما يجوز لهم وما لا يجوز. وكانوا -مع إمامتهم واجتهادهم- يهربون من الفتيا، ويحيل بعضهم على بعض، خشية أن يقعوا -خطأ- في تحليل حرام أو تحريم حلال.
روى الإمام الشافعي في كتابه (الأم) عن القاضي أبي يوسف صاحب أبي حنيفة قال: "أدركت مشايخنا من أهل العلم يكرهون الفتيا، أن يقولوا: هذا حلال وهذا حرام إلا ما كان في كتاب الله عز وجل بينا بلا تفسير. حدثنا ابن السائب عن الربيع ابن خيثم -وكان من أفضل التابعين- أنه قال: إياكم أن يقول الرجل: إن الله أحل هذا أو رضيه، فيقول الله له: لم أحل هذا ولم أرضه! أو يقول: إن الله حرم هذا، فيقول الله: كذبت، لم أحرمه ولم أنه عنه". وحدثنا بعض أصحابنا أنهم كانوا إذا أفتوا بشيء أو نهوا عنه قالوا : هذا مكروه، وهذا لا بأس به، فأما أن نقول: هذا حلال وهذا حرام فما أعظم هذا!!
هذا ما نقله أبو يوسف عن السلف الصالح، ونقله عنه الشافعي وأقره عليه، كما نقل ابن مفلح عن شيخ الإسلام ابن تيمية: أن السلف لم يطلقوا الحرام إلا على ما علم تحريمه قطعا.
وهكذا نجد إماما كأحمد بن حنبل يسأل عن الأمر فيقول: أكرهه أو لا يعجبني، أو لا أحبه، أو لا أستحسنه.
ومثل هذا يروى عن مالك، وأبي حنيفة وسائر الأئمة رضي الله عنهم
تحريم الحلال وتحليل الحرام قرين الشرك بالله
وإذا كان الإسلام قد نعى على من يحرمون ويحللون جميعا، فإنه قد اختص المحرمين بحملة أشد وأعنف، نظرا لما في هذا الاتجاه من حجر على البشر وتضييق لما وسع الله عليهم بغير موجب، ولموافقة هذا الاتجاه لنزعات بعض المتدينين المتنطعين. وقد حارب النبي نزعة التنطع والتشدد هذه بكل سلاح، وذم المتنطعين وأخبر بهلكتهم إذ يقول: "ألا هلك المتنطعون، ألا هلك المتنطعون، ألا هلك المتنطعون".
وأعلن عن رسالته فقال "بعثت بالحنيفية السمحة" فهي حنيفية في العقيدة والتوحيد، سمحة في جانب العمل والتشريع. وضد الأمرين الشرك وتحريم الحلال وهما اللذان ذكرهما النبي فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: "إني خلقت عبادي حنفاء وإنهم أتتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا".
فتحريم الحلال، قرين الشرك، ولهذا شدد القرآن النكير على مشركي العرب في شركهم وأوثانهم وفي تحريمهم على أنفسهم من الطيبات من أنواع الحرث والأنعام ما لم يأذن به الله، ومن ذلك تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، فقد كانوا في الجاهلية إذا ولدت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر، شقوا أذنها ومنعوا ركوبها، وتركوها لآلهتهم، لا تنحر ولا يحمل عليها، ولا تطرد عن ماء أو مرعى، وسموها (البحيرة) أي مشقوقة الأذن، وكان الرجل إذا قدم من سفر، أو برأ من مرض أو نحو ذلك سيب ناقته وخلالها، وجعلها كالبحيرة، وتسمى (السائبة). وكانت الشاة إذا ولدت أنثى فهي لهم، وإذا ولدت ذكرا فهي لآلهتهم وإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا: وصلت أخاها، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم، وتسمى (الوصيلة) وكان الفحل إذا لقح ولده ولده قالوا: قد حمى ظهره، فلا يركب ولا يحمل عليه.. الخ، ويسمى (الحامي) وفي تفسير هذه الأربعة، أقوال كثيرة تدور حول هذا المحور.
أنكر القرآن عليهم هذا التحريم، ولم يجعل لهم عذرا في تقليد آبائهم في هذا الضلال (وما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام، ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب، وأكثرهم لا يعقلون. وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا، أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون ) سورة المائدة:103، 104.
وفي سورة الأنعام مناقشة تفصيلية لما زعموا تحريمه من الأنعام من إبل وبقر وضأن ومعز، ساقها القرآن في أسلوب تهكمي ساخر ولكنه مفحم (ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين، قل الذكرين حرم أن الأنثيين أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين؟ نبؤوني بعلم إن كنتم صادقين، ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين، قل آلذكرين حرم أن الأنثيين؟) الآية، سورة الأنعام:143، 144.
وفي سورة الأعراف مناقشة أخرى ينكر الله فيها على المحرمين، ويبين فيها أصول المحرمات الدائمة.
(قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده، والطيبات من الرزق؟… قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي يغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) سورة الأعراف:32، 33.
وهذه المناقشات في السور المكية التي تعنى دائما بإثبات العقيدة والتوحيد والآخرة، تدلنا على أن هذا الأمر -في نظر القرآن- ليس من الفروع والجزئيات، وإنما هو من الأصول والكليات.
وفي المدينة ظهر بين أفراد المسلمين من يميل إلى التشدد والتزمت وتحريم الطيبات على نفسه، فأنزل الله تعالى من الآيات المحكمة ما يقفهم عند حدود الله، ويردهم إلى صراط الإسلام المستقيم (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين. وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون) سورة المائدة:87-88.
التحريم يتبع الخبث والضرر
من حق الله تعالى -لكونه خالقا للناس ومنعما عليهم بنعم لا تحصى- أن يحل لهم وأن يحرم عليهم ما يشاء -كما له أن يتعبدهم من التكاليف والشعائر بما يشاء- وليس لهم أن يعترضوا أو يعصوا، فهذا حق ربوبيته لهم، ومقتضى عبوديتهم له. ولكنه تعالى رحمة منه بعباده، جعل التحليل والتحريم لعلل معقولة، راجعة لمصلحة البشر أنفسهم، فلم يحل سبحانه إلا طيبا، ولم يحرم إلا خبيثا.
صحيح أنه تعالى قد حرم على أمة اليهود بعض أصناف من الطيبات، غير أن ذلك كان عقوبة لهم على بغيهم وانتهاكهم حرمات الله، كما قال تعالى: (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم، ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون) سورة الأنعام:146.
وقد بين الله صورا من هذا البغي في سورة أخرى فقال تعالى: (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا. وأخذهم الربا وقد نهوا عنه، وأكلهم أموال الناس بالباطل) سورة النساء:160،161.
فلما بعث الله خاتم رسله بالدين العام الخالد، كان من رحمته تعالى بالبشرية -بعد أن نضجت وبلغت رشدها- أن يرفع عنها إصر التحريم الذي كان تأديبا موقتا لشعب عات، صلب الرقبة -كما وصفته التوراة- وكان عنوان الرسالة المحمدية عند أهل الكتاب -كما ذكر القرآن- أنهم: (يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) سورة الأعراف:157.
وشرع الله لتكفير الخطيئة في الإسلام أمورا أخرى غير تحريم الطيبات، فهناك التوبة النصوح التي تمحو الذنب كما يمحو الماء الوسخ، وهناك الحسنات اللاتي يذهبن السيئات، وهناك الصدقات التي تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وهناك المحن والمصائب التي تتناثر بها الخطايا كما يتناثر ورق الشجر في الشتاء إذا يبس.
وبذلك أصبح معروفا في الإسلام أن التحريم يتبع الخبث والضرر، فما كان خالص الضرر فهو حرام، وما كان خالص النفع فهو حلال، وما كان ضرره أكبر من نفعه فهو حرام، وما كان نفعه أكبر فهو حلال، وهذا ما صرح به القرآن الكريم في شأن الخمر والميسر (يسألونك عن الخمر والميسر، قل فيهما إثم ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما) سورة البقرة:219.
كما أصبح من الأجوبة الصريحة -إذا سئل عن الحلال في الإسلام- أنه (الطيبات) أي: الأشياء التي تستطيبها النفوس المعتدلة، ويستحسنها الناس في مجموعهم استحسانا غير ناشئ من أثر العادة، قال تعالى: (يسألونك ماذا أحل لهم؟ قل: أحل لكم الطيبات) سورة المائدة:4.
وقال: (اليوم أحل لكم الطيبات) سورة المائدة:5.
وليس من اللازم أن يكون المسلم على علم تفصيلي بالخبث أو الضرر الذي حرم الله من أجله شيئا من الأشياء، فقد يخفى عليه ما يظهر لغيره، وقد لا ينكشف خبث الشيء في عصره، ويتجلى في عصر لاحق، وعلى المؤمن أن يقول دائما: (سمعنا وأطعنا).
ألا ترى أن الله حرم لحم الخنزير، فلم يفهم المسلم من علة لتحريمه غير أنه مستقذر، ثم تقدم الزمن فكشف العلم فيه من الديدان والجراثيم القتالة ما فيه؟ ولو لم يكشف العلم شيئا في الخنزير أو كشف ما هو أكثر من ذلك فإن المسلم سيظل على عقيدته بأنه (رجس).
ومثل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا الملاعن الثلاث (أي التي تجلب على فاعلها اللعنة من الله والناس): البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل { فلم يعرف أحد في القرون الأولى إلا أنها مستقذرة، يعافها الذوق السليم، والأدب العام، فلما تقدم الكشف العلمي عرفنا أن هذه (الملاعن الثلاثة) من أخطر الأشياء على الصحة العامة، وهي المصدر الأول لانتشار عدوى الأمراض الطفيلية الخطيرة كالانكلستوما والبلهارسيا.
وهكذا كلما نفذت أشعة العلم، واتسع نطاق الكشف تجلت لنا مزايا الإسلام في حلاله وحرامه، وفي تشريعاته كلها. وكيف لا وهو تشريع عليم حكيم رحيم بعباده (والله يعلم المفسد من المصلح، ولو شاء الله لأعنتكم، إن الله عزيز حكيم) سورة البقرة:220.
في الحلال ما يغني عن الحرام
ومن محاسن الإسلام ومما جاء به من تيسير على الناس أنه ما حرم شيئا عليهم إلا عوضهم خيرا منه مما يسد مسده، ويغني عنه، كما بين ذلك ابن القيم رحمه الله.
حرم عليهم الاستقسام بالأزلام وعوضهم عنه دعاء الاستخارة.
وحرم عليهم الربا وعوضهم التجارة الرابحة.
وحرم عليهم القمار، وأعاضهم عنه أكل المال بالمسابقة النافعة في الدين بالخيل والإبل والسهام
وحرم عليهم الحرير، وأعاضهم عنه أنواع الملابس الفاخرة من الصوف والكتان والقطن.
وحرم عليهم الزنا واللواط، وأعاضهم عنهما بالزواج الحلال
حرم عليهم شرب المسكرات، وأعاضهم عنه بالأشربة اللذيذة النافعة للروح والبدن.
وحرم عليهم الخبائث من المطعومات، وأعاضهم عنها بالمطاعم الطيبات.
وهكذا إذا تتبعنا أحكام الإسلام كلها، وجدنا أن الله جل شأنه لم يضيق على عباده في جانب إلا وسع عليهم في جانب آخر من جنسه، فإنه سبحانه لا يريد بعباده عنتا ولا عسرا ولا إرهاقا، بل يريد اليسر والخير والهداية والرحمة، كما قال تعالى: (يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم. والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما، يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا). سورة النساء:26، 28.
ومن محاسن الإسلام ومما جاء به من تيسير على الناس أنه ما حرم شيئا عليهم إلا عوضهم خيرا منه مما يسد مسده، ويغني عنه، كما بين ذلك ابن القيم رحمه الله.
حرم عليهم الاستقسام بالأزلام وعوضهم عنه دعاء الاستخارة.
وحرم عليهم الربا وعوضهم التجارة الرابحة.
وحرم عليهم القمار، وأعاضهم عنه أكل المال بالمسابقة النافعة في الدين بالخيل والإبل والسهام
وحرم عليهم الحرير، وأعاضهم عنه أنواع الملابس الفاخرة من الصوف والكتان والقطن.
وحرم عليهم الزنا واللواط، وأعاضهم عنهما بالزواج الحلال
حرم عليهم شرب المسكرات، وأعاضهم عنه بالأشربة اللذيذة النافعة للروح والبدن.
وحرم عليهم الخبائث من المطعومات، وأعاضهم عنها بالمطاعم الطيبات.
وهكذا إذا تتبعنا أحكام الإسلام كلها، وجدنا أن الله جل شأنه لم يضيق على عباده في جانب إلا وسع عليهم في جانب آخر من جنسه، فإنه سبحانه لا يريد بعباده عنتا ولا عسرا ولا إرهاقا، بل يريد اليسر والخير والهداية والرحمة، كما قال تعالى: (يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم. والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما، يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا). سورة النساء:26، 28.
ما أدى إلى الحرام فهو حرام
ومن المبادىء التي قررها الإسلام أنه إذا حرم شيئا حرم ما يفضي إليه من وسائل وسد الذرائع الموصلة إليه.
فإذا حرم الزنا مثلا حرم كل مقدماته ودواعيه، من تبرج جاهلي، وخلوة آثمة، واختلاط عابث، وصورة عارية، وأدب مكشوف، وغناء فاحش… الخ.
ومن هنا قرر الفقهاء هذه القاعدة: (ما أدى إلى الحرام فهو حرام).
ويشبه هذا ما قرره الإسلام من أن إثم الحرام لا يقتصر على فاعله المباشر وحده، بل يوسع الدائرة، فتشمل كل من شارك فيه بجهد مادي أو أدبي، كل يناله من الإثم على قدر مشاركته. ففي الخمر يلعن النبي عليه السلام شاربها وعاصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها … كما سنذكره بعد.
وفي الربا يلعن آكله ومؤكله (معطي الربا) وكاتبه وشاهديه.
وهكذا كل ما أعان على الحرام فهو حرام، وكل من أعان على محرم فهو شريك في الإثم.
ومن المبادىء التي قررها الإسلام أنه إذا حرم شيئا حرم ما يفضي إليه من وسائل وسد الذرائع الموصلة إليه.
فإذا حرم الزنا مثلا حرم كل مقدماته ودواعيه، من تبرج جاهلي، وخلوة آثمة، واختلاط عابث، وصورة عارية، وأدب مكشوف، وغناء فاحش… الخ.
ومن هنا قرر الفقهاء هذه القاعدة: (ما أدى إلى الحرام فهو حرام).
ويشبه هذا ما قرره الإسلام من أن إثم الحرام لا يقتصر على فاعله المباشر وحده، بل يوسع الدائرة، فتشمل كل من شارك فيه بجهد مادي أو أدبي، كل يناله من الإثم على قدر مشاركته. ففي الخمر يلعن النبي عليه السلام شاربها وعاصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها … كما سنذكره بعد.
وفي الربا يلعن آكله ومؤكله (معطي الربا) وكاتبه وشاهديه.
وهكذا كل ما أعان على الحرام فهو حرام، وكل من أعان على محرم فهو شريك في الإثم.
التحايل على الحرام حرام
وكما حرم الإسلام كل ما يفضي إلى المحرمات من وسائل ظاهرة، حرم التحايل على ارتكابها بالوسائل الخفية، والحيل الشيطانية. وقد نعى على اليهود ما صنعوه من استباحة ما حرم الله بالحيل، وقال عليه السلام: "لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود وتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل"
وذلك أن اليهود حرم الله عليهم الصيد في السبت، فاحتالوا على هذا المحرم، بأن حفروا الخنادق يوم الجمعة، لتقع فيها الحيتان يوم السبت، فيأخذوها يوم الأحد. وهذا عند المحتالين جائز، وعند فقهاء الإسلام حرام، لأن المقصود الكف عما ينال به الصيد بطريق التسبب أو المباشرة.
ومن الحيل الآثمة تسمية الشيء بغير اسمه، وتغيير صورته مع بقاء حقيقته. ولا ريب أنه لا عبرة بتغيير الاسم إذا بقي المسمى ولا بتغيير الصورة إذا بقيت الحقيقة.
فإذا اخترع الناس صورا يتحايلون بها على أكل الربا الخبيث أو استحدثوا أسماء للخمر يستحلون بها شربها، فإن الإثم في الربا أو الخمر باق لازم. وفي الحديث:
"ليستحلن طائفة من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها".
"يأتي على الناس زمان يستحلون الربا باسم البيع".
ومن غرائب عصرنا أن يسمى الرقص الخليع (فنا) والخمور (مشروبات روحية) والربا (فائدة) وهكذا.
وكما حرم الإسلام كل ما يفضي إلى المحرمات من وسائل ظاهرة، حرم التحايل على ارتكابها بالوسائل الخفية، والحيل الشيطانية. وقد نعى على اليهود ما صنعوه من استباحة ما حرم الله بالحيل، وقال عليه السلام: "لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود وتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل"
وذلك أن اليهود حرم الله عليهم الصيد في السبت، فاحتالوا على هذا المحرم، بأن حفروا الخنادق يوم الجمعة، لتقع فيها الحيتان يوم السبت، فيأخذوها يوم الأحد. وهذا عند المحتالين جائز، وعند فقهاء الإسلام حرام، لأن المقصود الكف عما ينال به الصيد بطريق التسبب أو المباشرة.
ومن الحيل الآثمة تسمية الشيء بغير اسمه، وتغيير صورته مع بقاء حقيقته. ولا ريب أنه لا عبرة بتغيير الاسم إذا بقي المسمى ولا بتغيير الصورة إذا بقيت الحقيقة.
فإذا اخترع الناس صورا يتحايلون بها على أكل الربا الخبيث أو استحدثوا أسماء للخمر يستحلون بها شربها، فإن الإثم في الربا أو الخمر باق لازم. وفي الحديث:
"ليستحلن طائفة من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها".
"يأتي على الناس زمان يستحلون الربا باسم البيع".
ومن غرائب عصرنا أن يسمى الرقص الخليع (فنا) والخمور (مشروبات روحية) والربا (فائدة) وهكذا.
النية الحسنة لا تبرر الحرام
والإسلام يقدر البواعث الكريمة، والقصد الشريف والنية الطيبة، في تشريعاته وتوجيهاته كلها، والنبي يقول "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" وبالنية الطيبة تستحيل المباحات والعادات إلى طاعات و قربات إلى الله فمن تناول غذاءه بنية حفظ الحياة، وتقوية الجسد، ليستطيع القيام بواجبه نحو ربه وأمته، كان طعامه وشرابه عبادة قربة.
ومن أتى شهوته مع زوجه بقصد ابتغاء الولد أو إعفاف نفسه وأهله كان ذلك عبادة تستحق المثوبة، وفي ذلك يقول النبي عليه السلام "وفي بضع أحدكم صدقة. قالوا: أيأتي أحدنا شهوته يا رسول الله ويكون له فيها أجر؟ قال: أليس إن وضعها في حرام كان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر".
"ومن طلب الدنيا حلالا تعففا عن المسألة، وسعيا على عياله، وتعطفا على جاره لقي الله ووجهه كالقمر ليلة البدر".
وهكذا كل عمل مباح يقوم به المؤمن، يدخل فيه عنصر النية، فتحيله إلى عبادة. أما الحرام فهو حرام مهما حسنت نية فاعله، وشرف قصده، ومهما كان هدفه نبيلا، ولا يرضى الإسلام أبدا أن يتخذ الحرام وسيلة إلى غاية محمودة، لأن الإسلام يحرص على شرف الغاية وطهر الوسيلة معا. ولا تقر شريعته بحال مبدأ (الغاية تبرر الوسيلة) أو مبدأ (الوصول إلى الحق بالخوض في الكثير من الباطل) بل توجب الوصول إلى الحق عن طريق الحق وحده.
فمن جمع مالا من ربا أو سحت أو لهو حرام أو قمار أو أي عمل محظور، ليبني به مسجدا أو يقيم مشروعا خيريا، أو.. أو .. لم يشفع له نبل مقصده، فيرفع عنه وزر الحرام، فإن الحرام في الإسلام لا يؤثر فيه المقاصد والنيات.
هذا ما علمه لنا رسول الله حين قال: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم) سورة المؤمنون:51. وقال: (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) سورة البقرة:172. ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر (ساعيا للحج والعمرة ونحوهما) يمد يديه إلى السماء "يا رب يا رب" ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك؟!".
ويقول: "من مالا من حرام ثم تصدق به، لم يكن فيه أجر، وكان إصره عليه". ويقول: "لا يكسب عبد مالا حراما، فيتصدق به فيقبل منه، ولا ينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار. إن الله تعالى لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن. إن الخبيث لا يمحو الخبيث".
اتقاء الشبهات خشية الوقوع في الحرام
ومن رحمة الله تعالى بالناس أنه لم يدعهم في غمة من أمر الحلال و الحرام، بل بين الحلال وفصل الحرام، كما قال تعالى: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم) سورة الأنعام:119.
فأما الحلال البين فلا حرج في فعله. وأما الحرام البين فلا رخصة في إتيانه -في حالة الاختيار.
وهناك منطقة بين الحلال البين والحرام البين، هي منطقة الشبهات التي يلتبس فيها أمر الحل بالحرمة على بعض الناس، إما لاشتباه الأدلة عليه، وإما للاشتباه في تطبيق النص على هذه الواقعة أو هذا الشيء بالذات.
وقد جعل الإسلام من الورع أن يتجنب المسلم هذه الشبهات، حتى لا يجره الوقوع فيها إلى مواقعة الحرام الصرف. وهو نوع من سد الذرائع الذي تحدثنا عنه. ثم هو كذلك لون من التربية البعيدة النظر، الخبيرة بحقيقة الحياة والإنسان.
وأصل هذا المبدأ قول الرسول عليه الصلاة والسلام: "الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات، لا يدري كثير من الناس: أمن الحلال هي أم من الحرام؟ فمن تركها استبراءا لدينه وعرضه فقد سلم، ومن واقع شيئا منها يوشك أن يواقع الحرام، كما أن من يرعى حول الحمى (وهو مكان محدود يحجزه السلطان لترعى فيه أنعامه وحدها ويحجر على غيرها أن تنال منه شيئا) أوشك أن يواقعه. ألا وإن لكل ملك حمى. ألا وإن حمى الله محارمه".
لا محاباة ولا تفرقة في المحرمات
الحرام في شريعة الإسلام يتسم بالشمول والاطراد، فليس هناك شيء حرام على العجمي حلال للعربي وليس هناك شيء محظور على الأسود مباح للأبيض، وليس هناك جواز أو ترخيص ممنوح لطبقة أو طائفة من الناس تقترف باسمه ما طوع لها الهوى باسم أنهم كهنة أو أحبار أو ملوك أو نبلاء. بل ليس للمسلم خصوصية تجعل الحرام على غيره حلالا له. كلا، إن الله رب الجميع، والشرع سيد الجميع، فيما أحل الله بشريعته فهو حلال للناس كافة، وما حرم فهو حرام على الجميع إلى يوم القيامة.
السرقة مثلا حرام، سواء أكان السارق مسلما أم غير مسلم، وسواء أكان المسروق منه مسلما أو غير مسلم، والجزاء لازم للسارق أيا كان نسبه أو مركزه، وهذا ما صنعه الرسول وما أعلنه "وأيم الله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها".
ولقد حدث في زمن الرسول أن ارتكبت سرقة حامت فيها الشبهة حول يهودي ومسلم، واستطاع بعض أقرباء المسلم أن يثيروا الغبار حول اليهودي ببعض القرائن ويبعدوا التهمة عن صاحبهم المسلم -وهو في الواقع مرتكب السرقة- حتى هم النبي أن يخاصم عنه، اعتقادا ببراءته فنزل الوحي الإلهي يفضح الخونة، ويبرئ اليهودي، ويعاتب الرسول، ويضع الحق في نصابه، وذلك قوله سبحانه: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما. واستغفر الله، إن الله كان غفورا رحيما. ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما. يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول، وكان الله بما يعملون محيطا. ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا، فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا؟) سورة النساء:105، 109.
لقد زعمت اليهودية المحرفة أن الربا حرام على اليهودي إذا أقرض أخاه اليهودي أما غير اليهودي فلا بأس بإقراضه بالربا، هكذا يقول سفر تثنية الاشتراع (33:19) "ألا تقرض أخاك بربا فضة أو ربا طعام أو ربا شيء مما يقرض بربا (20) للأجنبي تقرض بربا، ولكن لأخيك لا تقرض بربا.."
وقد حكى القرآن عنهم مثل هذه النزعة، حيث استباحوا الخيانة مع غير أبناء جنسهم وملتهم، ولم يروا في ذلك حرجا ولا إثما. وفي ذلك يقول القرآن: (ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك ما دمت عليه قائما. ذلك بأنهم قالوا: ليس علينا في الأميين سبيل، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) سورة آل عمران:75. نعم يقولون على الله الكذب، لأن شريعته لا تفرق بين قوم وقوم، وقد حرم الخيانة على لسان رسله وأنبيائه.
ويؤسفنا أن هذه النزعة الإسرائيلية نزعة همجية بدائية، لا تليق أن تنسب إلى دين سماوي، فإن الأخلاق الفاضلة بل الأخلاق الحقة هي التي تتسم بالإطلاق والشمول، فلا تحل لهذا ما تحرم على ذاك. والفرق بيننا وبين البدائيين إنما هو اتساع الدائرة الخلقية لا في وجودها وعدمها، فالأمانة مثلا كانت عندهم خصلة محمودة، ولكنها خاصة بأبناء القبيلة بعضهم مع بعض، فإذا خرج الأمر عن نطاق القبيلة أو العشيرة جازت الخيانة بل استحبت أو وجبت.
قال صاحب (قصة الحضارة): (إن كل الجماعات البشرية تقريبا تكاد تتفق في عقيدة كل منها بأن سائر الجماعات أحط منها، فالهنود الأمريكيون يعدون أنفسهم شعب الله المختار، خلقهم "الروح الأعظم" خاصة ليكونوا مثالا يرتفع إليه البشر. وقبيلة من القبائل الهندية تطلق على نفسها (الناس الذين لا ناس سواهم) وأخرى تطلق على نفسها (الناس بين الناس) وقال الكاربيون (نحن وحدنا الناس) … ونتيجة ذلك أن الإنسان البدائي لم يكن يدور في خلده أن يعامل القبائل الأخرى ملتزما نفس القيود الخلقية التي يلتزم في معاملته لبني قبيلته، فهو صراحة يرى أن وظيفة الأخلاق هي تقوية جماعته، وشد أزرها تجاه سائر الجماعات، فالأوامر الخلقية والمحرمات لا تنطبق إلا على أهل قبيلته، أما الآخرون فما لم يكونوا ضيوفه، فمباح له أن يذهب في معاداتهم إلى الحد المستطاع).
ومن رحمة الله تعالى بالناس أنه لم يدعهم في غمة من أمر الحلال و الحرام، بل بين الحلال وفصل الحرام، كما قال تعالى: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم) سورة الأنعام:119.
فأما الحلال البين فلا حرج في فعله. وأما الحرام البين فلا رخصة في إتيانه -في حالة الاختيار.
وهناك منطقة بين الحلال البين والحرام البين، هي منطقة الشبهات التي يلتبس فيها أمر الحل بالحرمة على بعض الناس، إما لاشتباه الأدلة عليه، وإما للاشتباه في تطبيق النص على هذه الواقعة أو هذا الشيء بالذات.
وقد جعل الإسلام من الورع أن يتجنب المسلم هذه الشبهات، حتى لا يجره الوقوع فيها إلى مواقعة الحرام الصرف. وهو نوع من سد الذرائع الذي تحدثنا عنه. ثم هو كذلك لون من التربية البعيدة النظر، الخبيرة بحقيقة الحياة والإنسان.
وأصل هذا المبدأ قول الرسول عليه الصلاة والسلام: "الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات، لا يدري كثير من الناس: أمن الحلال هي أم من الحرام؟ فمن تركها استبراءا لدينه وعرضه فقد سلم، ومن واقع شيئا منها يوشك أن يواقع الحرام، كما أن من يرعى حول الحمى (وهو مكان محدود يحجزه السلطان لترعى فيه أنعامه وحدها ويحجر على غيرها أن تنال منه شيئا) أوشك أن يواقعه. ألا وإن لكل ملك حمى. ألا وإن حمى الله محارمه".
لا محاباة ولا تفرقة في المحرمات
الحرام في شريعة الإسلام يتسم بالشمول والاطراد، فليس هناك شيء حرام على العجمي حلال للعربي وليس هناك شيء محظور على الأسود مباح للأبيض، وليس هناك جواز أو ترخيص ممنوح لطبقة أو طائفة من الناس تقترف باسمه ما طوع لها الهوى باسم أنهم كهنة أو أحبار أو ملوك أو نبلاء. بل ليس للمسلم خصوصية تجعل الحرام على غيره حلالا له. كلا، إن الله رب الجميع، والشرع سيد الجميع، فيما أحل الله بشريعته فهو حلال للناس كافة، وما حرم فهو حرام على الجميع إلى يوم القيامة.
السرقة مثلا حرام، سواء أكان السارق مسلما أم غير مسلم، وسواء أكان المسروق منه مسلما أو غير مسلم، والجزاء لازم للسارق أيا كان نسبه أو مركزه، وهذا ما صنعه الرسول وما أعلنه "وأيم الله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها".
ولقد حدث في زمن الرسول أن ارتكبت سرقة حامت فيها الشبهة حول يهودي ومسلم، واستطاع بعض أقرباء المسلم أن يثيروا الغبار حول اليهودي ببعض القرائن ويبعدوا التهمة عن صاحبهم المسلم -وهو في الواقع مرتكب السرقة- حتى هم النبي أن يخاصم عنه، اعتقادا ببراءته فنزل الوحي الإلهي يفضح الخونة، ويبرئ اليهودي، ويعاتب الرسول، ويضع الحق في نصابه، وذلك قوله سبحانه: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما. واستغفر الله، إن الله كان غفورا رحيما. ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما. يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول، وكان الله بما يعملون محيطا. ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا، فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا؟) سورة النساء:105، 109.
لقد زعمت اليهودية المحرفة أن الربا حرام على اليهودي إذا أقرض أخاه اليهودي أما غير اليهودي فلا بأس بإقراضه بالربا، هكذا يقول سفر تثنية الاشتراع (33:19) "ألا تقرض أخاك بربا فضة أو ربا طعام أو ربا شيء مما يقرض بربا (20) للأجنبي تقرض بربا، ولكن لأخيك لا تقرض بربا.."
وقد حكى القرآن عنهم مثل هذه النزعة، حيث استباحوا الخيانة مع غير أبناء جنسهم وملتهم، ولم يروا في ذلك حرجا ولا إثما. وفي ذلك يقول القرآن: (ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك ما دمت عليه قائما. ذلك بأنهم قالوا: ليس علينا في الأميين سبيل، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) سورة آل عمران:75. نعم يقولون على الله الكذب، لأن شريعته لا تفرق بين قوم وقوم، وقد حرم الخيانة على لسان رسله وأنبيائه.
ويؤسفنا أن هذه النزعة الإسرائيلية نزعة همجية بدائية، لا تليق أن تنسب إلى دين سماوي، فإن الأخلاق الفاضلة بل الأخلاق الحقة هي التي تتسم بالإطلاق والشمول، فلا تحل لهذا ما تحرم على ذاك. والفرق بيننا وبين البدائيين إنما هو اتساع الدائرة الخلقية لا في وجودها وعدمها، فالأمانة مثلا كانت عندهم خصلة محمودة، ولكنها خاصة بأبناء القبيلة بعضهم مع بعض، فإذا خرج الأمر عن نطاق القبيلة أو العشيرة جازت الخيانة بل استحبت أو وجبت.
قال صاحب (قصة الحضارة): (إن كل الجماعات البشرية تقريبا تكاد تتفق في عقيدة كل منها بأن سائر الجماعات أحط منها، فالهنود الأمريكيون يعدون أنفسهم شعب الله المختار، خلقهم "الروح الأعظم" خاصة ليكونوا مثالا يرتفع إليه البشر. وقبيلة من القبائل الهندية تطلق على نفسها (الناس الذين لا ناس سواهم) وأخرى تطلق على نفسها (الناس بين الناس) وقال الكاربيون (نحن وحدنا الناس) … ونتيجة ذلك أن الإنسان البدائي لم يكن يدور في خلده أن يعامل القبائل الأخرى ملتزما نفس القيود الخلقية التي يلتزم في معاملته لبني قبيلته، فهو صراحة يرى أن وظيفة الأخلاق هي تقوية جماعته، وشد أزرها تجاه سائر الجماعات، فالأوامر الخلقية والمحرمات لا تنطبق إلا على أهل قبيلته، أما الآخرون فما لم يكونوا ضيوفه، فمباح له أن يذهب في معاداتهم إلى الحد المستطاع).
الضرورات تبيح المحظورات
ضيق الإسلام دائرة المحرمات، ولكن بعد ذلك شدد في أمر الحرام، وسد الطرق المفضية إليه، ظاهرة أو خفية، فما أدى إلى الحرام فهو حرام، وما أعان على الحرام فهو حرام، وما احتيل به على الحرام فهو حرام. إلى آخر ما ذكرناه من مبادئ وتوجيهات. بيد أن الإسلام لم يغفل عن ضرورات الحياة وضعف الإنسان أمامها، فقدر الضرورة القاهرة، وقدر الضعف البشري وأباح للمسلم -عند ضغط الضرورة- أن يتناول من المحرمات ما يدفع عنه الضرورة ويقيه الهلاك.
ولهذا قال الله تعالى -بعد أن ذكر محرمات الطعام من الميتة والدم ولحم الخنزير- (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم) سورة البقرة:173. وكرر هذا المعنى في أربع سور من القرآن كلما ذكر محرمات الطعام. ومن هذه الآيات وأمثالها قرر فقهاء الإسلام مبدأ هاما هو: (إن الضرورات تبيح المحظورات).
ولكن الملاحظ أن الآيات قيدت المضطر أن يكون (غير باغ ولا عاد) وفسر هذا بأن يكون غير باغ للذة طالب لها، ولا عاد حد الضرورة متجاوز في التشبع. من هذا القيد أخذ الفقهاء مبدأ آخر هو: (الضرورة تقدر بقدرها) فالإنسان وإن خضع لداعي الضرورة لا ينبغي أن يستسلم لها، ويلقي إليها بزمام نفسه، بل يجب أن يظل مشدودا إلى الأصل الحلال باحثا عنه، حتى لا يستمرئ الحرام أو يستسهله بدافع الضرورة.
والإسلام بإباحته المحظورات عند الضرورات إنما يساير في ذلك روحه العامة، وقواعده الكلية، تلك هي روح الميسر الذي لا يشوبه عسر والتخفيف الذي وضع به عن الأمة الآصار والأغلال التي كانت من قبلها من الأمم. وصدق الله العظيم (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) سورة البقرة:185. (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون) سورة المائدة:6. (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا) سورة النساء:28.
ضيق الإسلام دائرة المحرمات، ولكن بعد ذلك شدد في أمر الحرام، وسد الطرق المفضية إليه، ظاهرة أو خفية، فما أدى إلى الحرام فهو حرام، وما أعان على الحرام فهو حرام، وما احتيل به على الحرام فهو حرام. إلى آخر ما ذكرناه من مبادئ وتوجيهات. بيد أن الإسلام لم يغفل عن ضرورات الحياة وضعف الإنسان أمامها، فقدر الضرورة القاهرة، وقدر الضعف البشري وأباح للمسلم -عند ضغط الضرورة- أن يتناول من المحرمات ما يدفع عنه الضرورة ويقيه الهلاك.
ولهذا قال الله تعالى -بعد أن ذكر محرمات الطعام من الميتة والدم ولحم الخنزير- (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم) سورة البقرة:173. وكرر هذا المعنى في أربع سور من القرآن كلما ذكر محرمات الطعام. ومن هذه الآيات وأمثالها قرر فقهاء الإسلام مبدأ هاما هو: (إن الضرورات تبيح المحظورات).
ولكن الملاحظ أن الآيات قيدت المضطر أن يكون (غير باغ ولا عاد) وفسر هذا بأن يكون غير باغ للذة طالب لها، ولا عاد حد الضرورة متجاوز في التشبع. من هذا القيد أخذ الفقهاء مبدأ آخر هو: (الضرورة تقدر بقدرها) فالإنسان وإن خضع لداعي الضرورة لا ينبغي أن يستسلم لها، ويلقي إليها بزمام نفسه، بل يجب أن يظل مشدودا إلى الأصل الحلال باحثا عنه، حتى لا يستمرئ الحرام أو يستسهله بدافع الضرورة.
والإسلام بإباحته المحظورات عند الضرورات إنما يساير في ذلك روحه العامة، وقواعده الكلية، تلك هي روح الميسر الذي لا يشوبه عسر والتخفيف الذي وضع به عن الأمة الآصار والأغلال التي كانت من قبلها من الأمم. وصدق الله العظيم (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) سورة البقرة:185. (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون) سورة المائدة:6. (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا) سورة النساء:28.