حكم وضع الجريد والزهور على القبور

خالدالطيب

شخصية هامة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ..
وبعد :
ففي وضع الجريد وأغصان الشجر وما شاكلهما على القبر وردت أحاديث أوهمت حكما اختلف عليه جمع من العلماء ، وقد أشكلت على بعض الأخوة فأحببت بسطها مع ذكر الخلاف ليتبين الأمر ولنكون جميعا ممن يحتاطون في أمر دينهم ويتبعون آثار نبيهم صلى الله عليه وسلم ..
فأقول والله المستعان :

في هذه المسألة أربعة أحاديث وأثر :
فالحديث الأول : هو حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم :
أنه مر بقبرين يعذبان فقال : إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يستتر من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين ثم غرز في كل قبر واحدة فقالوا : يا رسول الله لم صنعت هذا ؟ فقال : لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا .
متفق عليه رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
وقوله جريدة : الجريد الذي يجرد عنه الخوص فيكون كالعصا.
وفي رواية : ثم دعا بعسيب : والعسيب الجريدة التي لم ينبت فيها خوص ، فإن نبت فهى السعفة .

الحديث الثاني :
رواه ابن حبان في صحيحه [3/106 رقم : 824] عن أبي هريرة قال :
كنا نمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمررنا على قبرين فقام فقمنا معه فجعل لونه يتغير حتى رعد كم قميصه فقلنا : ما لك يا نبي الله ؟ قال : ما تسمعون ما أسمع ؟ قلنا : وما ذاك يا نبي الله ؟ قال : هذان رجلان يعذبان في قبورهما عذابا شديدا في ذنب هين ، قلنا : مم ذلك يا نبي الله ؟ قال : كان أحدهما لا يستنزه من البول وكان الآخر يؤذي الناس بلسانه ويمشي بينهم بالنميمة ، فدعا بجريدتين من جرائد النخل فجعل في كل قبر واحدة قلنا : وهل ينفعهما ذلك يا رسول الله ؟ قال : نعم يخفف عنهما ما داما رطبين .
قال شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح .
وقد بوب عليه ابن حبان في صحيحه بقوله : ذكر الخبر الدال على أن الأشياء النامية التي لا روح فيها تسبح ما دامت رطبة .
كذا قال وتبعه السيوطي وغيره وهو بعيد من نص الحديث ولا دلالة فيه مطلقا على ما قرروه ، وسيأتي رده قريبا إن شاء الله تعالى.
ومثل هذا الحديث وحديث ابن عباس جاء أيضا فيما رواه ابن ماجة (349) عن أبي بكرة مختصرا وسنده صحيح وأحمد من رواية أبي أمامة مطولا بسند ضعيف جدا.

الحديث الثالث :
حديث جابر بن عبد الله رواه مسلم في صحيحه بطوله (7705) :
وقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضع غصنين من شجرتين عن يمينه وعن شماله فقال جابر : فَعَمَّ ذَاكَ ؟ قَالَ « إِنِّى مَرَرْتُ بِقَبْرَيْنِ يُعَذَّبَانِ فَأَحْبَبْتُ بِشَفَاعَتِى أَنْ يُرَفَّهَ عَنْهُمَا مَا دَامَ الْغُصْنَانِ رَطْبَيْنِ ».

الحديث الرابع :
حديث أبي برزة الأسلمي :
ونصه فيما رواه ابن عساكر من طريق حماد بن سلمة عن قتادة :
أن أبا برزة الأسلمي رضي الله عنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على قبر وصاحبه يعذب ، فأخذ جريدة فغرسها في القبر ، وقال : عسى أن يرفه عنه ما دامت رطبة .
وكان أبو برزة يوصي : إذا مت فضعوا في قبري معي جريدتين .
قال : فمات في مفازة بين ( كرمان) و ( قومس) ، فقالوا :
كان يوصينا أن تضع في قبره جريدين وهذا موضع لا نصيبها فيه ، فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم ركب من قبل ( سجستان ) ، فأصابوا معهم سعفا ، فأخذوا جريدتين ، فوضعوهما معه في قبره .
وهذا الحديث رواه ابن عساكر كما في الجنائز للألباني ورواه ابن حجر في تغليق التعليق (1/378) بسنده وهو لا يثبت من قبل إسناده ، وسيأتي تعليق الألباني عليه .

وأما الأثر فهو وصية للصحابي بريدة بن الحصيب :
فذكر البخاري في باب الجريدة على القبر :
عن بريدة الأسلمي رضي الله عنه أنه أوصى أن يُجعل في قبره جريدتان.
رواه البخاري في صحيحه 3/177 معلقا بصيغة الجزم وهو صحيح فقد وصله ابن سعد من طريق عفان بن مسلم عن حماد بن سلمة أخبرنا عاصم الأحول قال : قال مورق أوصى بريدة .. الخ
وعمل بذلك أبو العالية كما أخرج ابن سعد في الطبقات (7/116) بسند صحيح عن حماد بن سلمة عن عاصم الأحول أن أبا العالية أوصى مورقا العجلي أن يجعل في قبره جريدة أو جريدتان . أ هـ

وقال ابن حجر في الفتح ( 3/264 ) تعليقا على أثر بريدة رضي الله عنه :
قال ابن المرابط وغيره : وكأنَّ بريدة حملَ الحديث على عمومه ولم يره خاصاً بذينك الرجلين , قال ابن رشيد : ويظهر مِن تصرف البخاري أنَّ ذلك خاصٌّ بهما , فلذلك عقبه بقول ابن عمر رضي الله عنه : إنما يظله عمله . أهـ
وسيأتي مزيد بيان عند تعليق ابن باز والألباني عن وصية بريدة .

العرض والترجيح
فهاهنا أربعة أحاديث وأثر ..
سقط منهم حديث أبي برزة الأسلمي لضعف إسناده فبقي معنا ثلاثة أحاديث وهم : حديث ابن عباس وحديث أبي هريرة ( وهما قصة واحدة ) حضرها أبي هريرة ورواها ابن عباس ، وحديث جابر رضي الله عنهما .
وإذا كان حديث ابن عباس وحديث أبي هريرة واحدا فحديث جابر ظاهره قصة أخرى ، وإن قال البعض أنهما قصة واحدة فقد رجح ابن حجر في فتح الباري أنهما قصتان متغايرتان وهو الراجح إن شاء الله تعالى ..
وحديث ابن عباس وأبي هريرة ( وهما واحد ) مطلق في وضع الجريد على القبر رجاء تخفيف العذاب عن المقبورين ، وحديث جابر خص هذا الفعل فبين أنه شفاعة خاصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث بقوله : فَأَحْبَبْتُ بِشَفَاعَتِى أَنْ يُرَفَّهَ عَنْهُمَا مَا دَامَ الْغُصْنَانِ رَطْبَيْنِ .
وقوله يُرَفَّهَ : أَي يُنَفِّس ويُخَفِّفَ .. كما في اللسان لابن منظور ونهاية ابن الأثير .

فقال المرجحون لهذا الحديث :
إن العلة واحدة فصح أن يكون من خصوصيات رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
أما وصية بريدة : فهي خلاف الحديث إذ إن في الحديث غرز النبي على ظاهر القبر وبريدة أوصى بوضعها في القبر من داخل ، وهي مسألة أخرى ..
ويجوز أن نقول عليها : هل يجوز وضع شيء في القبر من داخل ؟
الجواب : نعم يجوز وضع الإذخر ( وهو نبت طيب الرائحة موجود في الحجاز ) لما صح في البخاري عن أبي هريرة وابن عباس جواز ذلك ، كما صح في دفن مصعب بن عمير وقصر الكفن فأكملوه بالإذخر : فقال صلى الله عليه وسلم : غطوا بها رأسه واجعلوا على رجله الإذخر.
وبوب البخاري في كتاب الجنائز بباب : الإذخر والحشيش في القبر.
فهذا كما رأيت موضوع آخر غير ما نحن فيه ..
وكذلك : موضوع زرع الشجر عند القبور رجاء استفادة الأحياء منه أمر آخر له حكمه ولا حاجة ببحثه ها هنا .. وإنما نقول إجمالا أن حديثنا لا يدل عليه فلعل أن يكون هناك أدلة أخرى مانعة أو مجيزة ، فالله أعلم .

ولكن أهم ما يميز بحثنا هذا ، هو ذلك التساؤل :
هل ينفع الميت ويخفف من عذابه وضع الجريد وفروع الشجر على قبره ؟
وهل هو في الحديث خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم أم أنه عام ؟

الجواب : انقسم العلماء في ذلك فريقين :

الفريق الأول : قال بجوازه بل غالى بعضهم فقال بسنيته واستحبابه

قال الحافظ أبو عبد الله الجَوْزجَاني رحمه الله تعالى في الأباطيل والمناكير : في الحديث دلالة على استحباب وَضْع الجريدة الرَّطْبة على ما فَعَلَهُ صلى الله عليه وسلم . أهـ

وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى في شرح مسلم :
واستحب العلماء قراءة القرآن عند القبر لهذا الحديث ؛ لأنه إذا كان يرجى التخفيف بتسبيح الجريد فتلاوة القرآن أولى ، والله أعلم. أهـ
وعن وصية بريدة قال النووي في شرح مسلم أيضا :
ويُؤَكِّده فِعْلُ بعضِ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث ذكر البخاري في صحيحه أن بريدة بن الحصيب الأسلمي الصحابي رضي الله عنه أوصى أن يجعل في قبره جريدتان ، ففيه رضي الله عنه تبرك بفعل مثل فعل النبي صلى الله عليه وسلم . أهـ

وقال ابن المُلَقِّن رحمه الله تعالى في الإعلام بفوائد عمدة الأحكام :
ذكر البخاري في صحيحه أن بريدة بن الحصيب الصحابي رضي الله عنه أوصى أن يُجْعَلَ في قبره جريدتان ففيه أنه رضي الله عنه تبرك بفعل مثل فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وعلى استحباب ذلك الشافعية والحنابلة في آخرين ، فقَرَّره عن الشافعية جماعة، ومنهم الشمس الرملي رحمه الله تعالى في نهاية المحتاج حيث قال:
ويستحب وضع الجريد الأخضر على القبر للإتباع أي : إتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك ... ، وكذا الريحان ونحوه من الأشياء الرطبة ، ويُمْنَع على غير مالكه أَخْذُهُ مِنْ على القَبر قَبْلَ يُبْسه لعدم الإعراض عنه ، فإن يبس جاز لزوال نفعه المقصود منه حال رطوبته وهو الاستغفار. أهـ

وكذا قرَّر ابن حجر الهيثمي رحمه الله تعالى في تحفة المحتاج حيث قال : يُسَنّ وضع جريدة خضراء على القبر للإتباع وسنده صحيح ؛ ولأنه يخفف عنه ببركة تسبيحها إذ هو أكمل من تسبيح اليابسة لما في تلك من نوع حياة وقيس بها ما اعتيد من طرح الريحان ونحوه . أهـ
وقال في الفتاوى الكبرى : استنبط العلماء من غرس الجريدتين على القبر، غرس الأشجار والرياحين على القبر . أهـ

وقرره عن الحنابلة جماعة ، منهم ابن مفلح الحنبلي رحمه الله تعالى في الفروع حيث قال: "ويُسَنّ ما يُخَفِّف عنه ـ أي الميت ـ وإذا تأذى بالمنكر انتفع بالخير ، صَرَّح به جماعة ، وظاهره ولو بجعل جريدة رطبة في القبر للخير وأوصى به بريدة كما ذكره البخاري وفي معناه غرسُ غيرها . أهـ
وكذا قَرَّره ابن النجار رحمه الله تعالى في منتهى الإرادات وشرحه وكذا في غاية المنتهى .
وقال صاحب الفتاوى الهندية : وضع الورود والرياحين على القبور حسن ، وإن تُصدق بقيمة الورد كان أحسن. أهـ

فخلاصة قولهم : أنهم قالوا بالاستحباب وبعضهم قال بأنه سنة ..
بل ذهب السيوطي في شرح الصدور في أحوال الموتى والقبور ( ص313 ) فيما نقل عن القرطبي في التذكرة وعن الخطابي ثم قرر السيوطي فقال :
أن هذا الحديث أصل في غرس الأشجار عند القبور ..
وقال عن مجهول : فإذا خفف عنهما بتسبيح الجريد فتلاوة القرآن أولى .
وهو عين كلام النووي كما مر أعلاه .
وفي هذا الكلام رد سيأتي عند كلمة الألباني وغيره إن شاء الله تعالى .

الرأي الثاني : القائل بأن ذلك من خصوصياته عليه الصلاة والسلام:

وأول ما نستهل به ها هنا رأي الصحابي الجليل المتبع للسنة عبد الله بن عمر رضي الله عنهما :
قال البخاريّ في صحيحه :
ورأى ابن عمر فسطاطاً ( خيمة ) على قبر عبد الرّحمن ( بن أبي بكر الصديق أخي أم المؤمنين ) فقال : انزعه يا غلام فإنّما يظلّه عمله .
وقال بدر الدين العيني : أن ابن عمر يرى أن وضع الجريد من خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم ..
أقول : بل الواضح من قوله هو الأعم من ذلك كتظليل القبر ووضع الجريد عليه والجلوس على القبر وغيره ..
وهو إنما يريد أن يقول أن العمل هو الذي يفيد الميت في قبره لا أمر خارجي من عمل من الأعمال غير الدعاء والاستغفار للاتفاق عليها . والله أعلم.

صنيع الإمام البخاري
وقد عقد الإمام البخاري بابا في كتاب الجنائز بعنوان : باب الجريد على القبر.
وظاهره عدم الترجيح ، بينما ترى تقديمه وتأخيره لأثار الباب ولحديث ابن عباس إشارة منه لترجيح أن حديث ابن عباس خاص ..
وبيان ذلك : أنه ذكر وصية بريدة الأسلمي وهي بظاهرها تدل على الجواز - مع بيان الفرق الذي بيناه فيما سبق – وأنه أخذ حديث ابن عباس على العموم ..
ثم ذكر بعده حديث ابن عمر الدال على أن حديث ابن عباس الآتي من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
ثم ذكر ثلاثة آثار تبين صحة مذهب ابن عمر .. وبعد ذلك ذكر حديث ابن عباس وكأنه ترجح عنده أنه خاص .. والله أعلم.

القاضي عياض
وقال القاضي عياض : وقد عمل الناس في بعض الآفاق تبسيط الخوص على القبر، لعلهم فعلوه اقتداء بهذا الحديث. أهـ
وقال الشيخ عطية صقر في فتاوى الأزهر : والقاضى عياض ينضم إلى هذا الفريق ويقول : إن غرزهما على القبر سببه أمر مغيب. اهـ

رأي الإمام القرطبي في المفهم
وقال القرطبي في المفهم على صحيح مسلم : وقيل : لأن النبي صلى الله عليه وسلم شفع لهما ، ودعا بأن يُخفَّف عنهما ، ما داما رطبين وقد دَلَّ على هذا حديث جابر الذي يأتي في آخر الكتاب في حديث القبرين ، قال فيه : " فأحببتُ بشفاعتي أن يُرَفَّه عنهما ذلك ما دام القضيبان رطبين .
ثم عَلَّق بقوله : فإن كانت القضية واحدة - وهو الظاهر - فلا مزيدَ على هذا في البيان . أ هـ

رأي ابن الحاج في كتابه المفصل والإمام الطرطوشي في سراج الملوك
قال ابن الحاج : قوله عليه الصلاة والسلام : ( لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا ) راجع إلى بركة ما وقع من لمسه عليه الصلاة والسلام لتلك الجريدة وقد نص على ذلك الإمام الطرطوشي رحمه الله في كتاب سراج الملوك له ، لمَّا ذكر هذا الحديث فقال عقبه : وذلك لبركة يده عليه الصلاة والسلام وما نقل عن واحد من الصحابة رضي الله عنهم فلم يصحبه عمل باقيهم رضي الله عنهم إذ لو فهموا ذلك لبادروا بأجمعهم إليه ولكان يقتضي أن يكون الدفن في البساتين مستحباً . اهـ

رأي الإمام الخطابي رحمه الله
قال الخطابي رحمه الله تعالى في ( معالم السنن 1 / 27) تعليقا على الحديث :
وأما غرسه أو شق العسيب على القبر وقوله ( ولعله يخفف عنهما ما لم ييبسا ) فإنه من ناحية التبرك بأثر النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه بالتخفيف عنهما ، وكأنه جعل مدة بقاء النداوة فيهما حدا لما وقعت به المسألة من تخفيف العذاب عنهما ، وليس ذلك من أجل أن في الجريد الرطب معنى ليس في اليابس ، والعامة في كثير من البلدان تغرس الخوص في قبور موتاهم ، وأراهم ذهبوا إلى هذا ، وليس لما تعاطوه من ذلك وجه . أهـ
وأشار إليه ابن الملقن كوجه من وجهين في كتابه الإعلام بفوائد عمدة الأحكام.

العظيم أبادي صاحب عون المعبود شرح سنن أبي داود
وهذا ما رجحه محمد شمس الحق العظيم آبادي أبو الطيب صاحب عون المعبود شرح سنن أبي داود ، فقال رحمه الله تعالى في شرحه للحديث (1/25) :
قال الخطابي هو محمول على أنه دعا لهما بالتخفيف مدة بقاء النداوة لا أن في الجريدة معنى يخصه ولا أن في الرطب معنى ليس في اليابس . انتهى
قلت ( الشارح ) : ويؤيده ما ذكره مسلم في آخر الكتاب في الحديث الطويل حديث جابر في صاحبي القبرين فأجيبت شفاعتي أن يرفع ذلك عنهما ما دام العودان رطبين . والله أعلم

رأي الشيخ القاضي محدث النيل المحقق شيخ الحديث أحمد محمد شاكر رحمه الله تعالى :
قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي (1 / 103) عقب كلام الخطابي المذكور عاليه : وصدق الخطابي ، وقد ازداد العامة إصرارا على هذا العمل الذي لا أصل له ، وغلوا فيه ، خصوصا في بلاد مصر، تقليدا للنصارى ، حتى صاروا يضعون الزهور على القبور ، ويتهادونها بينهم ، فيضعها الناس على قبور أقاربهم ومعارفهم تحية لهم ، ومجاملة للأحياء ، وحتى صارت عادة شبيهة بالرسمية في المجاملات الدولية ، فتجد الكبراء من المسلمين إذا نزلوا بلدة من بلاد أوربا ذهبوا إلى قبور عظمائها أو إلى قبر من يسمونه ( الجندي المجهول) ووضعوا عليها الزهور ، وبعضهم يضع الزهور الصناعية التي لا نداوة فيها تقليدا للإفرنج ، وإتباعا لسنن من قبلهم ، ولا ينكر ذلك عليهم العلماء أشباه العامة ، بل تراهم أنفسهم يضعون ذلك في قبور موتاهم ، ولقد علمت أن أكثر الأوقاف التي تسمى أوقافا خيرية موقوف ريعها على الخوص والريحان الذي يوضع على القبور وكل هذه بدع ومنكرات لا أصل لها في الدين ، ولا سند لها من الكتاب والسنة ، ويجب على أهل العلم أن ينكروها وأن يبطلوا هذه العادات ما استطاعوا . اهـ
وقال الشيخ أحمد محمد شاكر أيضاً كما جاء في قواعد وأسس في السنة والبدعة (1 / 125) : والصحيح أن وضع الجريدة كان خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم وخاصاً بهذين القبرين بدليل أنه لم يفعلها إلا هذه المرة ولم يفعلها أصحابه لا في حياته ولا بعده وهم أفهم للدين وأحرص على الخير . اهـ
قلت : هو يشير إلى أن فعل بريدة ليس من هذا ، فإنه أوصى أن يوضع الجريد في القبر وليس عليه وهي مسألة أخرى كما بينا أعلاه .. والله أعلم.

رأي العلامة محمد رشيد رضا صاحب المنار
جاء في قواعد وأسس في السنة والبدعة - (1 / 126) :
وقال الشيخ محمد رشيد رضا عن حديث الجريدتين : فإنه واقعة حال في أمرٍ غيبي غير معقول المعنى والظاهر أنه من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم . أهـ

رأي العلامة الفهامة أحمد عبد الرحمن البنا الساعاتي
في موسوعته الفخمة الضخمة والتي لم يسبق إليها .. وهي ( الفتح الرباني في ترتيب مسند أحمد بن حنبل الشيباني ) ومعه شرحه ( بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني )..
وقد ذكر رحمه الله تعالى حديث ابن عباس في كتاب الجنائز في الباب الخامس منه وهو : عذاب عصاة المؤمنين في القبر وما يخففه عنهم وأن أكثره بسبب البول .
وقال رحمه الله تعالى : وليس في الجريد معنى يخصه ولا في الرطب معنى ليس في اليابس ، وإنما ذلك خاص ببركة يده الكريمة صلى الله عليه وسلم ..
ثم ذكر في شرحه استنكار الإمام الخطابي وضع الناس الجريد ونحوه على القبر عملا بهذا الحديث ، وكذلك الطرطوشي في سراج الملوك قائلين بأن ذلك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لبركة يده المقدسة وبعلمه مما في القبور وجرى على ذلك ابن الحاج في مدخله ..
وقال : وما ذكره البخاري في صحيحه تعليقا أن بريدة الأسلمي أمر أن يجعل في قبره جريدتان محمول على أن ذلك رأي له لم يوافقه أحد من الصحابة عليه . أهـ

الفقيه سيد سابق رحمه الله صاحب فقه السنة
قال رحمه الله في فقه السنة (1 / 556) :
وضع الجريدة على القبر : لا يشرع وضع الجريد ولا الزهور فوق القبر، وأما ما رواه البخاري وغيره عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين فقال: " إنهما يعذبان، وما يعذبان في كبير، أما هذا فكان لا يستنزه من البول، وأما هذا فكان يمشي بالنميمة، ثم دعا بعسيب رطب فشقه باثنين ، ثم غرس على هذا واحدا ، وعلى هذا واحدا ، وقال: " لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا " فقد أجاب عنه الخطابي بقوله : ........... ثم ذكر المنقول عنه أعلاه ............
وما قاله الخطابي صحيح ، وهذا هو الذي فهمه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ لم ينقل عن أحد منهم أنه وضع جريدا ولا أزهارا على قبر سوى بريدة الأسلمي ، فإنه أوصى أن يجعل في قبره جريدتان. رواه البخاري.
ويبعد أن يكون وضع الجريد مشروعا ويخفى على جميع الصحابة ما عدا بريدة .
قال الحافظ في الفتح : وكأن بريدة حمل الحديث على عمومه، ولم يره خاصا بذينك الرجلين.
قال ابن رشيد : ويظهر من تصرف البخاري أن ذلك خاص بهما ، فلذلك عقبه بقول ابن عمر حين رأى فسطاطا على قبر عبد الرحمن : انزعه يا غلام فإنما يظله عمله .
وفي كلام ابن عمر ما يشعر بأنه لا تأثير لما يوضع على القبر ، بل التأثير للعمل الصالح . اهـ

رأي الإمام الألباني محدث الشام والأمة ومحيي السنة وناصرها رحمه الله تعالى:
قال في كتابه أحكام الجنائز (1 / 200) وهو الذي لم يسبق إليه :
ولا يشرع وضع الآس ونحوها من الرياحين والورود على القبور، لأنه لم يكن من فعل السلف ، ولو كان خيرا لسبقونا إليه ، وقد قال ابن عمر رضي الله عنهما :
( كل بدعة ضلالة ، وإن رآها الناس حسنة ) .
رواه ابن بطة في الإبانة عن أصول الديانة (2/112/2) واللاكائي في السنة (1/21/1) موقوفا بإسناد صحيح، والهروي في ذم الكلام (2/36/1) مرفوعا ، وما أراه إلا وهما ، وإنما يصح منه مرفوعا الشطر الأول منه في حديث جابر.
ولا يعارض ما ذكرنا حديث ابن عباس في وضع النبي صلى الله عليه وسلم شقي جريدة النخل على القبرين وقوله : ( لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا ) متفق عليه .
فإنه خاص به صلى الله عليه وسلم بدليل أنه لم يجر العمل به عند السلف ولأمور أخرى يأتي بيانها.
................ ثم ذكر كلام الخطابي وتعليق أحمد شاكر ..............
ثم قال : ويؤيد كون وضع الجريد على القبر خاص به ، وأن التخفيف لم يكن من أجل نداوة شقها أمور :
أ - حديث جابر رضي الله عنه الطويل في صحيح مسلم وفية قال صلى الله عليه وسلم: إني مررت بقبرين يعذبان ، فأحببت بشفاعتي أن يرد عنهما ما دام الغصنان رطبين .
فهذا صريح في أن رفع العذاب إنما هو بسبب شفاعته صلى الله عليه وسلم ودعائه لا بسبب النداوة ، وسواء كانت قصة جابر هذه هي عين قصة ابن عباس المتقدمة كما رجحه العيني وغيره ، أو غيرها كما رجحه الحافظ في الفتح ..
أما على الاحتمال الأول فظاهر، وأما على الاحتمال الآخر ، فلأن النظر الصحيح يقتضي أن تكون العلة واحدة في القصتين للتشابه الموجود بينهما ، ولأن كون النداوة سببا لتخفيف العذاب عن الميت مما لا يعرف شرعا ولا عقلا ، ولو كان الأمر كذلك لكان أخف الناس عذابا إنما هم الكفار الذين يدفنون في مقابر أشبه ما تكون بالجنان لكثرة ما يزرع فيها من النباتات والأشجار التي تظل مخضرة صيفان شتاء !
يضاف إلى ما سبق أن بعض العلماء كالسيوطي قد ذكروا أن سبب تأثير النداوة في التخفيف كونها تسبح الله تعالى ، قالوا : فإذا ذهبت من العود ويبس انقطع تسبيحه ! فإن هذا التعليل مخالف لعموم قوله تبارك وتعالى : ( وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) .
ب - في حديث ابن عباس نفسه ما يشير إلى أن السر ليس في النداوة ، أو بالأحرى ليست هي السبب في تخفيف العذاب ، وذلك قوله ( ثم دعا بعسيب فشقه اثنين) يعني طولا ، فإن من المعلوم أن شقه سبب لذهاب النداوة من الشق ويبسه بسرعة ، فتكون مدة التخفيف أقل مما لو لم يشق ، فلو كانت هي العلة لأبقاه صلى الله عليه وسلم بدون شق ولوضع عل كل قبر عسيبا أو نصفه على الأقل ، فإذا لم يفعل دل على أن النداوة ليست هي السبب ، وتعين أنها علامة على مدة التخفيف الذي أذن الله به استجابة لشفاعة نبيه صلى الله عليه وسلم كما هو مصرح به في حديث جابر ، وبذلك يتفق الحديثان في تعيين السبب ، وإن احتمل اختلافهما في الواقعة وتعددها .
فتأمل هذا ، فإنما هو شئ انقدح في نفسي ، ولم أجد من نص عليه أو أشار إليه من العلماء ، فإن كان صوابا فمن الله تعالى وإن كان خطأ فهو مني ، واستغفره من كل ما لا يرضيه .
ج - لو كانت النداوة مقصودة بالذات ، لفهم ذلك السلف الصالح ولعملوا بمقتضاه ، ولوضعوا الجريد والآس ونحو ذلك على القبور عند زيارتها ، ولو فعلوا لاشتهر ذلك عنهم ، ثم نقله الثقات إلينا ، لأنه من الأمور التي تلفت النظر ، وتستدعي الدواعي نقله ، فإذ لم ينقل دل على أنه لم يقع ، وأن التقرب به إلى الله بدعة ، فثبت المراد .
وإذا تبين هذا ، سهل حينئذ فهم بطلان ذلك القياس الهزيل الذي نقله السيوطي في شرح الصدور عمن لم يسمعه : ( فإذا خفف عنهما بتسبيح الجريدة فكيف بقراءة المؤمن القرآن ؟ قال : وهذا الحديث أصل في غرس الأشجار عند القبور)
قلت : فيقال له : ( أثبت العرش ثم انقش ) ، ( وهل يستقيم الظل والعود أعوج ) ؟
ولو كان القياس صحيحا لبادر إليه السلف لأنهم أحرص على الخير منا.
فدل ما تقدم على أن وضع الجريد على القبر خاص به صلى الله عليه وسلم ، وأن السر في تخفيف العذاب عن القبرين لم يكن في نداوة العسيب بل في شفاعته صلى الله عليه وسلم ودعائه لهما ، وهذا مما لا يمكن وقوعه مرة أخرى بعد انتقاله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى ولا لغيره من بعده صلى الله عليه وسلم ، لان الإطلاع على عذاب القبر من خصوصياته عليه الصلاة والسلام ، وهو من الغيب الذي لا يطلع عليه إلا الرسول كما جاء في نص القرآن ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول ) ..
واعلم أنه لا ينافى ما بينا ما أورده السيوطي في ( شرح الصدور ص131) بقوله : وأخرج ابن عساكر من طريق حماد بن سلمة عن قتادة أن أبا برزة الأسلمي رضي الله عنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على قبر وصاحبه يعذب ، فأخذ جريدة فغرسها في القبر ، وقال : عسى أن يرفه عنه ما دامت رطبة .
وكان أبو برزة يوصي : إذا مت فضعوا في قبري معي جريدتين .
قال : فمات في مفازة بين ( كرمان) و ( قومس) ، فقالوا : كان يوصينا أن تضع في قبره جريدين وهذا موضع لا نصيبها فيه ، فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم ركب من قبل ( سجستان ) ، فأصابوا معهم سعفا ، فأخذوا جريدتين ، فوضعوهما معه في قبره .
وأخرج ابن سعد عن مورق قال: أوصى بريدة أن تجعل في قبره جريدتان . اهـ من السيوطي .
قلت : ووجه عدم المنافاة ، أنه ليس في هذين الأثرين - على فرض التسليم بثبوتهما معا - مشروعية وضع الجريد عند زيارة القبور ، الذي ادعينا بدعيتة وعدم عمل السلف به ، وغاية ما فيهما جعل الجريدتين مع الميت في قبره ، وهي قضية أخرى ، وإن كانت كالتي قبلها في عدم المشروعية لأن الحديث الذي رواه أبو برزة كغيره من الصحابة لا يدل على ذلك ، لا سيما والحديث فيه وضع جريدة واحدة ، وهو أوصى بوضع جريدتين في قبره على أن الأثر لا يصح إسناده ، فقد أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (1/183- 182) ومن طريقه أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق في آخر ترجمة نضلة بن عبيد بن أبي برزة الأسلمي عن الشاه بن عمار قال: ثنا أبو صالح سليمان بن صالح الليثي قال: أنبأنا النضر بن المنذز بن ثعلبة العبدي عن حماد بن سلمة به .
قلت : فهذا إسناد ضعيف ، وله علتان : الأولى : جهالة الشاه والنضر فإني لم أجد لهما ترجمة.
والأخرى : عنعنة قتادة فإنهم لم يذكروا له رواية عن أبي برزة ، ثم هو مذكور بالتدليس فيخشى من عنعنته في مثل إسناده هذا.
وأما وصية بريدة ، فهي ثابتة عنه ، قال ابن سعد في الطبقات ( 7 / 4) : أخبرنا عفان بن مسلم قال : ثنا حماد بن سلمة ، قال: أخبرنا عاصم الأحول قال : قال مورق : أوصى بريدة الأسلمي أن توضع في قبره جريدتان .
فكان أن مات بأدنى خراسان فلم توجد إلا في جوالق حمار.
وهذا سند صحيح ، وعلقه البخاري (3/173) مجزوما .
قال الحافظ في شرحه : ( وكان بريدة حمل الحديث على عمومه ، ولم يره خاصا بذينك الرجلين ، قال ابن رشيد : ويظهر من تصرف البخاري أن ذلك خاص بهما ، فلذلك عقبه بقول ابن عمر: إنما يظله عمله ) .
قلت : ولا شك أن ما ذهب إليه البخاري هو الصواب لما سبق بيانه، ورأي بريدة لا حجة فيه ، لأنه رأى والحديث لا يدل عليه حتى لو كان عاما ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضع الجريدة في القبر ، بل عليه كما سبق .
وخير الهدى هدى محمد. اهـ

رأي شيخ الإسلام عبد العزيز بن باز مفتى الأمة رحمه الله تعالى
علق الشيخ ابن باز رحمه الله على كلام ابن حجر السابق قائلا : القول بالخصوصية هو الصواب ؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يغرز الجريدة إلا على قبور عَلِمَ تعذيب أهلها, ولم يفعل ذلك لسائر القبور, ولو كان سنةً لفعله بالجميع, ولأن الخلفاء الراشدين وكبار الصحابة لم يفعلوا ذلك, ولو كان مشروعا لبادروا إليه, أما ما فعله بريدة فهو اجتهاد منه, والاجتهاد يخطئ ويصيب, والصواب مع ترك ذلك كما تقدم والله أعلم . أهـ

رأي شيخ الإسلام محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله تعالى
جاء في مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (2/18-19) المسألة (158) وسئل فضيلة الشيخ : هل يخفف عذاب القبر عن المؤمن العاصي ؟
فأجاب قائلاً : نعم قد يخفف لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، مر بقبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير بلى إنه كبير ؛ أما أحدهما فكان لا يستبرىء- أو قال : لا يستتر من البول ، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة ، ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين فغرز في كل قبر واحدة وقال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا .
وهذا دليل على أنه قد يخفف العذاب ، ولكن ما مناسبة هاتين الجريدتين لتخفيف العذاب عن هذين المعذبين ؟
1- قيل: لأنهما أي الجريدتين تسبحان ما لم تيبسا، والتسبيح يخفف من العذاب على الميت ، وقد فرعوا على هذه العلة المستنبطة - التي قد تكون مستبعدة - أنه يسن للإنسان أن يذهب إلى القبور ويسبح عندها من أجل أن يخفف عنها.
2- وقال بعض العلماء : هذا التعليل ضعيف لأن الجريدتين تسبحان سواء كانتا رطبتين أم يابستين لقوله تعالى : ( تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) [ الإسراء -44 ]
وقد سمع تسبيح الحصى بين يدي الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، مع أن الحصى يابس ، إذاً ما العلة ؟
العلة : أن الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، ترجى من الله عز وجل أن يخفف عنهما من العذاب ما دامت هاتان الجريدتان رطبتين ، يعني أن المدة ليست طويلة وذلك من أجل التحذير عن فعلهما ، لأن فعلهما كبير كما جاء في الرواية " بلى إنه كبير" أحدهما لا يستبرئ من البول ، وإذا لم يستبرئ من البول صلى بغير طهارة ، والآخر يمشي بالنميمة يفسد بين عباد الله والعياذ بالله ويلقي بينهم العداوة ، والبغضاء ، فالأمر كبير ، وهذا هو الأقرب أنها شفاعة مؤقتة تحذيراً للأمة لا بخلاً من الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، بالشفاعة الدائمة .
ونقول استطراداً : إن بعض العلماء - عفا الله عنهم - قالوا : يسن أن يضع الإنسان جريدة رطبة ، أو شجرة ، أو نحوها على القبر ليخفف عنه ، لكن هذا الاستنباط بعيد جداً ولا يجوز أن نصنع ذلك لأمور:
أولاً: أننا لم يكشف لنا أن هذا الرجل يعذب بخلاف النبي ، صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: أننا إذا فعلنا ذلك فقد أسأنا إلى الميت ، لأننا ظننا به ظن سوء أنه يعذب وما يدرينا فلعله ينعم ، لعل هذا الميت ممن مَنَّ الله عليه بالمغفرة قبل موته لوجود سبب من أسباب المغفرة الكثيرة فمات وقد عفا رب العباد عنه ، وحينئذ لا يستحق عذاباً.
ثالثاً: أن هذا الاستنباط مخالف لما كان عليه السلف الصالح الذين هم أعلم الناس بشريعة الله فما فعل هذا أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - فما بالنا نحن نفعله .
رابعاً: أن الله تعالى قد فتح لنا ما هو خير منه فكان النبي ، عليه الصلاة والسلام ، إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: " استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل " . أهـ

وأخيرا ..
نذكر موقف شيخ الإسلام ابن تيمية
أقول : لقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في منهاج السنة النبوية (1/19) على هذه المسألة إجمالا ، ووضع لها ضابطا مهما ، وهو قوله في بعض المسائل المختلف فيها بين أهل السنة والروافض مما وجدت لها أدلة صحيحة ، فقال :
لكن المسألة اجتهادية فلا تنكر إلا إذا صارت شعارا لأمر لا يسوغ فتكون دليلا على ما يجب إنكاره وإن كانت نفسها يسوغ فيها الاجتهاد ومن هذا وضع الجريد على القبر فإنه منقول عن بعض الصحابة وغير ذلك من المسائل . أهـ
وما في قوله نأخذ منه الإنكار على الفعل المختلف فيه بين العلماء إذا صار شعارا ..
بل نقول إن الأمر صار عقيدة باعتقادهم أن هذا الفعل يخفف عن المقبور ، وجر إليها مفسدة أكبر وهي قراءة القرآن على القبر كما أشرنا إلى من قال به من العلماء.

وقال الشيخ محمود خطاب السبكي كما في قواعد وأسس في السنة والبدعة للدكتور حسام الدين عفانه (1/125) :
ولم يثبت أنه عليه الصلاة والسلام فعل هذا الوضع على قبر أحد غير هذين فدل ذلك على أنها واقعة حال وشفاعة خاصة وليست سنة عامة ويدل على ذلك أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة غير بريدة ولا سيما الخلفاء الراشدين أنه وضع جريداً ولا غيره على القبور ولو كان ذلك سنة ما تركه أولئك الأئمة وقد قال( فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ ) ..
وحجة بريدة ليست حجة على غيره كما هو معلوم فما قاله الخطابي ومن ذكر معه هو الأولى ولا سيما أن غالب الناس اعتقد في وضع الجريدة ونحوه اعتقاداً تأباه الشريعة المطهرة كما هو معروف من حالهم ونطقهم . اهـ
فتوى اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء
وأجابت اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء على السؤال المتعلق بوضع الجريد على القبور ونصها تعليقا على حديث ابن عباس : فهل يصح لنا الاقتداء بالنبي في ذلك ؟ وهل يجوز وضع ما شابه الجريدة من الأشياء الرطبة الخضراء قياساً على الجريدة أو يجوز غرس شجرة على القبر لتكون دائمة الخضرة لهذا الغرض ؟
الجواب : إن وضع النبي الجريدة على القبرين ورجاءه تخفيف العذاب عمن وضعت على قبرهما واقعة عين لا عموم لها في شخصين أطلعه الله على تعذيبهما وأن ذلك خاص برسول الله وأنه لم يكن منه سنة مطردة في قبور المسلمين وإنما كان مرتين أو ثلاثاً على تقدير تعدد الواقعة لا أكثر ولم يعرف فعل ذلك عن أحد من الصحابة وهم أحرص المسلمين على الاقتداء به وأحرصهم على نفع المسلمين إلا ما روي عن بريدة الأسلمي : أنه أوصى أن يجعل في قبره جريدتان ولا نعلم أن أحداً من الصحابة رضي الله عنهم وافق بريدة على ذلك ، وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

الخلاصة

وخلاصة لما مر نقول :
هذه الأحاديث التي مرت معنا في أول البحث ، أحاديث صحيحة بلا خلاف ..
وإنما الإشكال أتي من فهمها والعمل بمقتضاها ..
فمثلا : من قال بالجواز أو بسنية وضع الجريد على القبر رجاء تخفيف العذاب كأنه لم ير أو لم يعمل بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر : فَأَحْبَبْتُ بِشَفَاعَتِى أَنْ يُرَفَّهَ عَنْهُمَا مَا دَامَ الْغُصْنَانِ رَطْبَيْن .
وهو واضح جدا في أن المراد بهذا الفعل هو شفاعته صلى الله عليه وسلم ..
وهذا يجرنا إلى مسألة مهمة وهي :
ماهية ديانة صاحبا القبرين
قال المباركفوري : اختلف في المقبورين فقيل كانا كافرين وبه جزم أبو موسى المديني واحتج بما رواه من حديث جابر بسند فيه ابن لهيعة أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين من بني النجار هلكا في الجاهلية فسمعهما يعذبان في البول والنميمة .
قال أبو موسى : هذا وإن كان ليس بقوي لكن معناه صحيح لأنهما لو كانا مسلمين لما كان لشفاعته إلى أن تيبس الجريدتان معنى ولكنه لما رآهما يعذبان لم يستجز للطفه وعطفه حرمانهما من إحسانه فشفع لهما إلى المدة المذكورة ..
وقال الحافظ ابن حجر: الحديث الذي احتج به أبو موسى ضعيف كما اعترف به.
انتهى من تحفة الأحوذي (1/194) للمباركفوري رحمه الله تعالى.

وأقول : كون صاحبا القبرين مسلمان يشكل عليه أنه صلى الله عليه وسلم لم يتوسط لهما إلا مدة جفاف الجريدتين فقط .. ويحتمل أن هذا للترهيب من فعلهما ..
ولو كانا كافرين فتوجيه أبي موسى المديني بأنه لما رآهما يعذبان لم يستجز للطفه وعطفه حرمانهما من إحسانه فشفع لهما إلى المدة المذكورة . توجيه حسن ..
ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين ويؤيده قوله تعالى ( وما كان الله معذبهم وأنت فيهم )
ولكن نخرج من الرأي القائل بأنهما كافرين أن ظهور الخصوصية فيه واضح جدا .
وإن كانا مسلمين وهو الراجح لوضوح الأحاديث بجملتها .. أنه لم يأمر به نصا لنفع عامة المسلمين مع تكرار القصة في حديث أبي هريرة وحديث جابر ..
وكذا لكانت مقابر المسلمين من يومهم إلى يومنا كالبستان لكثرة ما يزرع فيه فهما من هذا العمل ، وهو الذي لم يعمل به الصحابة والسلف .

وعلى كل : فنص حديث جابر في صحيح مسلم ظاهر الخصوصية وحديث ابن عباس وأبي هريرة عاما فقدمنا الخاص على العام كما هو معلوم ..
بالإضافة إلى أن حديث ابن عباس وأبي هريرة وهما قصة واحدة جرت في مكة أو المدينة ، أما قصة جابر فقد جرت في سفر ، ومعلوم أن أسفاره صلى الله عليه وسلم كانت في أخريات حياته ، أو نقول ظهور تأخير حديث جابر عن القصة الأخرى من الوضوح بمكان .

أما شر هذا القول القائل بالجواز والسنية فمرجعه في رأيي إلى التوسع في البدع كما أخذوا منه جواز قراءة القرآن على القبر زعما منهم أن الجريدة وهي رطبة تسبح الله فتلاوة القرآن أولى ..
وهذا تعليل متعسف وقياس باطل كما مر معنا ..

وبنوا على هذه المسألة مسائل أخرى منها جواز زرع الشجر والنبات على القبور أو بجوارها رجاء التخفيف عن أهل القبور ..
ولو قالوا رجاء نفع زوار القبور لكان أولى وأحسن ..
ولكن هي البدعة ..
لا تجر الناس إلا إلى الأسوأ ..
وما زالوا يقولون بما لا يحتمله النص حتى أوجب بعضهم قراءة القرآن لأهل القبور وخصص بعض السور بعدد معين والله المستعان .

وهذا آخر البحث فإن أصبنا الحق فمن الله تعالى هو المانَُ والمتفضل به علينا ، وإن كان خطأ فمني وليس للشيطان فيه نصيب ، والله يعلم أننا تحرينا الحق والعدل جهدنا ..
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل ..

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا .

 
حكم وضع الجريد والزهور على القبور
 
الوسوم
الجريح القبور والزهور
عودة
أعلى