ماذا تعرف عن التوحيد ?

كتاب التوحيد .6.. قال ابن مسعود

قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: من أراد أن ينظر إلى وصية محمد - صلى الله عليه وسلم- التي عليها خاتَمُه فليقرأ قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} إلى قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ}(1)(2) الآية [الأنعام: 151- 153].


ابن مسعود: هو عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذَلي، صحابي جليل من السابقين الأولين، من كبار علماء الصحابة، لازم النبي –صلى الله عليه وسلم-، وتوفي سنة 32هـ.

وصية: هي الأمر المؤكد المقرر.
خاتمه: الخاتم بفتح التاء وكسرها: حلقةٌ ذات فص من غيرها، وختمتُ على الكتاب بمعنى طبَعت.


المعنى الإجمالي للأثر:

يذكر ابن مسعود –رضي الله عنه-: أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- لو وصى لم يوص إلا بما وصى به الله تعالى، فإن الله قد وصى بما في هذه الآيات، لأنه سبحانه قد ختم كل آية منها بقوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ}، وإنما قال ابن مسعود ذلك لمَّا قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن الرزية كل الرزية ما حال بيننا وبين أن يكتب لنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وصيته، فذكّرهم ابن مسعود –رضي الله عنه- أن عندهم من القرآن ما يكفيهم، فإن النبي –صلى الله عليه وسلم- لو وصّى لم يوص إلا بما في كتاب الله.

مناسبة هذا الأثر للباب:

بيان أن ما ذُكر في هذه الآيات كما هو وصية الله فهو وصية رسوله –صلى الله عليه وسلم-، لأن الرسول –صلى الله عليه وسلم- يوصي بما أوصى الله به.


ما يستفاد من قول ابن مسعود:

1- أهمية هذه الوصايا العشر.
2- أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- يوصي بما أوصى به الله، فكل وصية لله فهي وصية لرسوله –صلى الله عليه وسلم-.
3- عمق علم الصحابة، ودقة فهمهم لكتاب الله.
.....................

(1) أخرجه الترمذي برقم (3080) والطبراني في معجمه الأوسط برقم (1208) وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب.
(2) وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: خط لنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- خطاً، ثم خط عن يمينه وعن شماله خطوطاً، ثم قال: "هذا سبيل الله، وهذه السبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ}.
أخرجه أحمد في المسند (1/435، 465) وابن حبان في صحيحه (1/105) برقم (6، 7) والحاكم (2/318)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/22): رواه أحمد والبزار، وفيه عاصم ابن بهدلة وهو ثقة، وفيه ضعف.




يتبع كتاب التوحيد 7 ... حديث معاذ بن جبل
 
كتاب التوحيد .. 7 .. حديث معاذ بن جبل

وعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: كنت رديف النبي - صلى الله عليه وسلم- على حمار فقال لي: "يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟" قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً" قلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ قال: "لا تبشرهم فيتكلوا" أخرجاه في الصحيحين
(1)
.



معاذ: هو معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس بن كعب بن عمرو الخزرجي الأنصاري صحابيٌّ جليل مشهور من أعيان الصحابة، وكان متبحراً في العلم والأحكام والقرآن، شهد غزوة بدر وما بعدها واستخلفه النبي –صلى الله عليه وسلم- على أهل مكة يوم الفتح يعلمهم دينهم ثم بعثه إلى اليمن قاضياً ومعلماً مات بالشام سنة 18هـ وله 38 عاماً.



رديف: الرديف هو الذي تحمله خلفك على ظهر الدابة.
أتدري؟: هل تعرف؟
حق الله: ما يستحقه ويجعله متحتماً على العباد.
حق العباد على الله: ما كتبه على نفسه تفضلاً منه وإحساناً.
أبشر الناس: أخبرهم بذلك ليُسروا به.
يتّكلوا: يعتمدوا على ذلك فيتركوا التنافس في الأعمال الصالحة.


المعنى الإجمالي للحديث:

أن النبي –صلى الله عليه وسلم- أرد أن يبين وجوب التوحيد على العباد وفضله، فألقى ذلك بصيغة الاستفهام، ليكون أوقع في النفس وأبلغ في فهم المتعلم، فلما بيّن لمعاذ فضل التوحيد، استأذنه معاذ أن يخبر بذلك الناس ليستبشروا، فمنعه النبي –صلى الله عليه وسلم- من ذلك خوفاً من أن يعتمد الناس على ذلك فيقلِّلوا من الأعمال الصالحة.


مناسبة الحديث للباب:

أن فيه تفسير التوحيد بأنه عبادة الله وحده لا شريك له.



 
ما يستفاد من الحديث:

1- تواضع النبي –صلى الله عليه وسلم- حيث ركب الحمار وأردف عليه. خلافَ ما عليه أهل الكبر.
2- جواز الإرداف على الدابة إذا كانت تطيق ذلك.
3- التعليم بطريقة السؤال والجواب.
4- أن من سُئل عما لا يعلم فينبغي له أن يقول: الله أعلم.
5- معرفة حق الله على العباد وهو أن يعبدوه وحده لا شريك له.
6- أن من لم يتجنب الشرك لم يكن آتياً بعبادة الله حقيقة ولو عبده في الصورة.
7- فضل التوحيد وفضل من تمسك به.
8- تفسير التوحيد وأنه عبادة الله وحده وترك الشرك.
9- استحباب بشارة المسلم بما يسره.
10- جواز كتمان العلم للمصلحة.
11- تأدب المتعلم مع معلمه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري برقم (2856) ومسلم برقم (30).
وفي رواية: "وأخبر بها معاذ عند موته تأثماً" عند البخاري برقم (128) ومسلم رقم (32).
وجاء في فتح المجيد (ص289) قال الوزير أبو المظفر: لم يكن يكتمها إلا عن جاهل يحمله جهله على سوء الأدب بترك الخدمة في الطاعة





يتبع باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب
 
باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب

وقول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ}(1) [الأنعام: 82].


مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد:

لما بين في الباب الأول وجوبَ التوحيد ومعناه، بين في هذا الباب فضل التوحيد وآثاره الحميدة، ونتائجه الجميلة التي منها تكفير الذنوب، لأجل الحث عليه والترغيب فيه.


بابٌ: هو لغةً: المدخل، واصطلاحاً: اسمٌ لجملة من العلم تحته فصول ومسائل غالباً.
يكفر: التكفير في اللغة: الستر والتغطية. وشرعاً: محو الذنب حتى يصير بمنزلة المعدوم.
من الذنوب: (مِن) بيانية وليست للتبعيض، والذنوب: جمعُ ذنب وهو ما تقبح عاقبته.
آمنوا: صدقوا بقلوبهم ونطقوا بألسنتهم، وعملوا بجوارحهم، ورأسُ ذلك التوحيد.
يلبسوا إيمانهم: يخلِطوا توحيدهم.
بظلم: بشرك –والظلم وضع الشيء في غير موضعه- سُمّي الشرك ظلماً لأنه وضعٌ للعبادة في غير موضعها وصرفٌ لها لغير مستحقها.
الأمن: طمأنينة النفس وزوال الخوف.
مهتدون: أي موفقون للسير على الصراط المستقيم ثابتون عليه.

المعنى الإجمالي للآية:

يخبر سبحانه أن الذين أخلصوا العبادة لله وحده لم يخلطوا توحيدهم بشرك هم الآمنون من المخاوف والمكاره يوم القيامة، المهتدون للسير على الصراط المستقيم في الدنيا.
مناسبة الآية للباب: أنها دلت على فضل التوحيد وتكفيره للذنوب.


 
ما يستفاد من الآية:

1- فضل التوحيد وثمرته في الدنيا والآخرة.
2- أن الشرك ظلمٌ مبطلٌ للإيمان بالله إن كان أكبَر، أو منقِص له إن كان أصغر.
3- أن الشرك لا يُغفر.
4- أن الشرك يسبب الخوف في الدنيا والآخرة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} قلنا: يا رسول الله: أينا لم يظلم نفسه؟ قال: "ليس كما تقولون: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} بشرك، أولم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}.
أخرجه البخاري برقم (3360) ومسلم برقم (124).


،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،


عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل". أخرجاه(1).


عبادة بن الصامت: هو عبادة بن الصامت بن قيس الأنصاريّ الخزرجيّ أحد النقباء بدريٌّ مشهور توفي سنة 34هـ وله 72 سنة.

شهد أن لا إله إلا الله: تكلّم بهذه الكلمة عارفاً لمعناها عاملاً بمقتضاها ظاهراً وباطناً.
لا إله إلا الله: لا معبود بحق إلا الله.
وحده: حالٌ مؤكّد للإثبات.
لا شريك له: تأكيد للنفي.
وأن محمداً: أي وشهد أن محمداً.
عبده: مملوكه وعابده.
ورسوله: مرسله بشريعته.
وأن عيسى: أي وشهد أن عيسى ابن مريم.
عبد الله ورسوله: خلافاً لما يعتقده النصارى أنه الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة.
وكلمته: أي أنه خلَقه بكلمةٍ وهي قولُه: (كن).
ألقاها إلى مريم: أرسل بها جبريل إليها فنفخ فيها من روحه المخلوقة بإذن الله عز وجل.
وروحٌ: أي أن عيسى عليه السلام روحٌ من الأرواح التي خلقها الله تعالى.
منه: أي منه خلقاً وإيجاداً كقوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ} [الجاثية: 13].
والجنة حق والنار حق: أي شهد أن الجنة والنار اللتين أخبر الله عنهما في كتابه ثابتتان لا شك فيهما.
أدخله الله الجنة: جواب الشرط السابق من قوله: من شهد... الخ.
على ما كان من العمل: يحتمل معنيين:

الأول: أدخله الله الجنة وإن كان مقصِّراً وله ذنوب؛ لأن الموحِّد لا بد له من دخول الجنة.
الثاني: أدخله الله الجنة وتكون منزلته فيها على حسب عمله.
أخرجاه: أي روى هذا الحديث البخاري ومسلم في صحيحيهما اللذين هما أصح الكتب بعد القرآن.


 
المعنى الإجمالي للحديث:

أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- يخبرنا مبيناً لنا فضل التوحيد وشرفه: أن من نطق بالشهادتين عارفاً لمعناهما عاملاً بمقتضاهما ظاهراً وباطناً وتجنب الإفراط والتفريط في حق النبيين الكريمين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام – فأقرّ لهما بالرسالة وعبوديتهما لله وأنه ليس لهما شيءٌ من خصائص الربوبية –وأيقن بالجنة والنار أن مآله إلى الجنة وإن صدر منه معاصٍ دون الشرك.


مناسبة الحديث للباب:


أن فيه بياناً لفضل التوحيد، وأنه سبب لدخول الجنة وتكفير الذنوب.


ما يستفاد من الحديث:

1- فضل التوحيد وأن الله يكفر به الذنوب.
2- سعة فضل الله وإحسانه سبحانه وتعالى.
3- وجوب تجنب الإفراط والتفريط في حق الأنبياء والصالحين، فلا نجحد فضلهم ولا نغلو فيهم فنصرف لهم شيئاً من العبادة، كما يفعل بعض الجهال والضلال.
4- أن عقيدة التوحيد تخالف جميع الملل الكفرية من اليهود والنصارى والوثنيين والدهريين.
5- أن عصاة الموحدين لا يخلَّدون في النار.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري برقم (3435) ومسلم برقم (28) والترمذي برقم (2640) وأحمد في مسنده (5/314).


/////////////////////////

ولهما في حديث عتبان:

"فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله" (1).ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عتبان: هو عتبان بن مالك بن عمرو بن العجلان الأنصاري من بني سالم بن عوف صحابي مشهور مات في خلافة معاوية.

ولهما: أي روى البخاري ومسلم في صحيحيهما هذا الحديث بكماله، وهذا طرف منه.
حرم على النار: التحريم: المنع أي منعَ النارَ أن تمسّه.
يبتغي بذلك وجه الله: أي مخلصاً من قلبه ومات على ذلك، ولم يقلْها نفاقاً.

المعنى الإجمالي للحديث:

أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- يخبر خبراً مؤكداً أن من تلفظ بكلمة "لا إله إلا الله" قاصداً ما تدل عليه من الإخلاص ونفي الشرك عاملاً بذلك ظاهراً وباطناً ومات على تلك الحال لم تمسه النار يوم القيامة.
مناسبة الحديث للباب: أن فيه دلالة واضحة على فضل التوحيد وأنه يوجب لمن مات عليه النجاة من النار وتكفير السيئات.


 
ما يستفاد من الحديث:

1- فضل التوحيد وأنه ينقذ من النار ويكفر الخطايا.
2- أنه لا يكفي في الإيمان النطق من غير اعتقاد القلب كحال المنافقين.
3- أنه لا يكفي في الإيمان الاعتقاد من غير نطق. كحال الجاحدين.
4- تحريم النار على أهل التوحيد الكامل.
5- أن العمل لا ينفع إلا إذا كان خالصاً لوجه الله وصواباً على سنة رسول الله –صلى الله عليه وسلم-.
6- أن من قال لا إله إلا الله وهو يدعو غير الله لم تنفعه كحال عباد القبور اليوم يقولون لا إله إلا الله وهم يدعون الموتى ويتقربون إليهم.
7- إثبات الوجه لله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري برقم "425" ومسلم برقم "33" وأحمد في مسنده "4/44"، "449/5".



،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "قال موسى: يا رب علِّمني شيئاً أذكرك وأدعوك به، قال: قل يا موسى: لا إله إلا الله. قال: يا رب كل عبادك يقولون هذا. قال: يا موسى لو أن السماوات السبع وعامرَهن غيري والأرَضين السبع في كِفَّة، ولا إله الله في كفة مالت بهن لا إله الله" رواه ابن حبان والحاكم وصححه(1).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أبو سعيد الخدري: هو أبو سعيد الخدري سعد بن مالك بن سنان الخزرجيّ الأنصاريّ الخدريّ نسبة إلى بني خدرة، صحابي جليل وابن صحابي روى عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أحاديث كثيرة مات سنة 74هـ.

موسى: هو موسى بن عمران رسول الله إلى بني إسرائيل وكليم الرحمن.
أذكرك: أثني عليك وأحمدك به.
وأدعوك به: أتوسل به إليك إذا دعوتك.
يقولون هذا: أي هذه الكلمة.
وعامرُهن غيري: من فيهن من العمار غير الله.
في كفة: أي لو وُضعت هذه المخلوقات في كفة من كفّتي الميزان ووُضعت هذه الكلمة في الكِفة الأخرى.
مالت بهن: رَجَحَت عليهن.


المعنى الإجمالي للحديث:
أن موسى عليه الصلاة والسلام طلب من ربه عز وجل أن يعلمه ذِكراً يثني عليه به ويتوسل إليه به، فأرشده الله أن يقول: لا إله إلا الله فأدرك موسى أن هذه الكلمة كثيرٌ ذكرها على ألسنة الخلق، وهو إنما يريد أن يخصه بذكر يمتاز به عن غيره، فبين الله عظم فضل هذا الذكر الذي أرشده إليه، وأنه لا شيء يعادله في الفضل.

مناسبة الحديث للباب:

أن فيه بيانَ فضل كلمة التوحيد، وأنه لا شيء يعادلها في الفضيلة.


 
ما يستفاد من الحديث:

1- عظم فضل لا إله إلا الله، لما تتضمنه من التوحيد والإخلاص.
2- فضل موسى عليه السلام وحرصه على التقرّب إلى الله.
3- أن العبادة لا تكون إلا بما شرعه الله وليس للإنسان أن يبتدع فيها من عند نفسه، لأن موسى طلب من ربه أن يعلمه ما يذكره به.
4- أن ما اشتدت الحاجة والضرورة إليه كان أكثر وجوداً، فإنَّ لا إله إلا الله لمَّا كان العالَم مضطراً إليها كانت أكثر الأذكار وجوداً وأيسرها حصولاً.
5- أن الله فوق السماوات لقوله: "وعامرهن غيري".
6- أنه لا بد في الذكر بهذه الكلمة من التلفظ بها كلها، ولا يقتصر على لفظ الجلالة (الله) كما يفعله بعض الجهّال.
7- إثبات ميزان الأعمال وأنه حق.
8- أن الأنبياء يحتاجون إلى التنبيه على فضل لا إله إلا الله.
9- أن الأرَضين سبعٌ كالسماوات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أخرجه ابن حبان برقم (2324)، والحاكم في المستدرك (1/528) والنسائي في عمل اليوم والليلة برقم (834، 1141) وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/82): رواه أبو يعلى ورجاله وُثِّقوا وفيهم ضعف.


،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،


وللترمذي وحسنه
عن أنس -رضي الله عنه- سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: "قال الله تعالى؛ يا ابن آدم، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة"(1).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أنس: هو أنس بن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجيّ خادم رسول الله، صلى الله عليه وسلم خدمه عشر سنين، وقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: "اللهم أكثِر ما له وولده وأدخله الجنة" مات سنة 92هـ وقيل سنة 93هـ وقد جاوز المائة.
وللترمذي وحسّنه: أي وروى الترمذي في سننه الحديث المذكور، وحسّن إسناده.
قُراب: بضم القاف وقيل بكسرها، والضم أشهر: وهو ملؤها أو ما يقارب ملأها.
ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً: أي ثم مُتَّ حال كونك سالماً من الشرك، وهذا شرط في الوعد بحصول المغفرة.
مغفرة: الغفر: الستر، وشرعاً: تجاوز الله عن خطايا وذنوب عباده.

 
- المعنى الإجمالي للحديث:

يخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل أنه يخاطب عباده ويبين لهم سعة فضله، ورحمته، وأنه يغفر الذنوب مهما كثُرت ما دامت دون الشرك، وهذا الحديث مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48].

مناسبة الحديث للباب:

أن فيه دليلاً على كثرة ثواب التوحيد، وأنه يكفر الذنوب مهما كثُرت.

ما يستفاد من الحديث:

1- فضل التوحيد وكثرة ثوابه.
2- سعة فضل الله وجوده ورحمته وعفوه.
3- الرد على الخوارج الذين يكفرون مرتكب الكبيرة التي هي دون الشرك.
4- إثبات الكلام لله عز وجل على ما يليق بجلاله .
5- بيان لمعنى لا إله إلا الله وأنهُ ترك الشرك قليلة وكثيرة ولا يكفي قولها باللسان .
6- إثبات البعث والحساب والجزاء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه الترمذي برقم (3534) والدارمي برقم (2791) وأحمد (5/172) وحسنه الترمذي.




يتبع باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب
 
باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب


وقول الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 120].
وقال: {وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون: 59].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مناسبة الباب لكتاب التوحيد:

إن المصنف رحمه الله لمَّا ذكر التوحيد وفضلَه ناسب أن يذكر بيان تحقيقه، لأنه لا يحصل كمالُ فضله إلا بكمال تحقيقه.


حقق التوحيد: أي خلَّصه وصفَّاه من شوائب الشرك والبدع والمعاصي.
بغير حساب: أي لا محاسبة عليه.
أمة: أي قدوة، وإماماً معلماً للخير.
قانتاً: القنوت دوام الطاعة.
حنيفاً: الحنيف المقبل على الله المعرض عن كل ما سواه.
ولم يك: أصلُها يكن حُذفت النون تخفيفاً.
من المشركين: أي قد فارق المشركين بالقلب واللسان والبدن، وأنكر ما كانوا عليه.
والذين هم بربهم لا يشركون: لا يعبدون معه غيره.


المعنى الإجمالي للآية الأولى:

أن الله سبحانه وتعالى يصف خليله إبراهيم عليه السلام بأربع صفات:

الصفة الأولى: أنه كان قدوة في الخير لتكميله مقام الصبر واليقين، واللذين بهما تُنال الإمامة في الدين.
الصفة الثانية: أنه كان خاشعاً مطيعاً مداوماً على عبادة الله تعالى.
الصفة الثالثة: أنه كان معرضاً عن الشرك مقبلاً على الله تعالى.
الصفة الرابعة: بُعده علن الشرك وفارقته للمشركين.


مناسبة الآية الأولى للباب:

أنه وصف خليله بهذه الصفات، التي هي الغاية في تحقيق التوحيد، وقد أُمرنا بالاقتداء به في قوله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة: 4].


مناسبة الآية الثانية للباب:

أن الله تعالى وصف المؤمنين السابقين إلى الجنات بصفاتٍ أعظمُها الثناء عليهم بأنهم بربِّهم لا يشركون شيئاً من الشرك لا خفياً ولا جلياً، ومن كان كذلك فقد بلغ من تحقيق التوحيد النهاية ودخل الجنة بلا حساب ولا عذاب.



 
ما يستفاد من الآيتين:

1- فضيلة أبيان إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
2- الاقتداء به في هذه الصفات العظيمة.
3- بيان الصفات التي يتم بها تحقيق التوحيد.
4- وجوب الابتعاد عن الشرك والمشركين والبراءة من المشركين.
5- وصف المؤمنين بتحقيق التوحيد.

:::::::::::::::::::::

عن حصين بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ فقلت: أنا. ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة ولكني لُدِغت. قال: فما صنعت؟ قلت: ارتقيت. قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي. قال: وما حدثكم؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال: "لا رقية إلا من عين أو حمة". قال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع. ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي، فقيل لي هذا موسى وقومُه، فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب".

ثم نهض فدخل منزله فخاض الناس في أولئك فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئاً وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه فأخبروه فقال: "هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون" فقام عُكَّاشة بن مِحْصَن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: "أنت منهم" ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال:
"سبقك بها عكاشة"(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تراجم الرجال الواردة أسماءهم في الحديث:

حصين: هو حصين بن عبد الرحمن السلمي الحارثيّ من تابعي التابعين مات سنة 136هـ وله 93 سنة.
سعيد بن جبير: هو الإمام الفقيه من أجلة أصحاب ابن عباس قتله الحجاج سنة 95 ولم يُكمل الخمسين.
الشعبي: اسمه عامر بن شراحيل الهمداني ولد في خلافة عمر، وهو من ثقات التابعين مات سنة 103هـ.
بُرَيدة: بضم أوله وفتح ثانيه، ابن الحصيب بن الحارث الأسلمي صحابي شهير، مات سنة 63هـ.
ابن عباس: هو الصحابي الجليل عبد الله بن عباس بن عبد المطلب. ابن عم النبي –صلى الله عليه وسلم- دعا له النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" فكان كذلك ومات بالطائف سنة 68هـ.
عُكَّاشة: هو عكاشة بن محصن بن حرثان الأسدي كان من السابقين إلى الإسلام، هاجر وشهد بدراً وقاتل فيها، واستشهد في قتال الردة مع خالد بن الوليد سنة 12هـ.

الكوكب: النجم.
انقضَّ: أي سقط منه الشهاب.
البارحة: هي أقرب ليلة مضت. يقال قبل الزوال رأيت الليلة، وبعد الزوال رأيت البارحة.
لُدغْت: أي لدغته عقرب –واللدغ: اللسع- أي أصابته بسمها.
ارتقيت: طلبت من يرقيني، والرقية: قراءة القرآن والأدعية والشرعية على المصاب بمرض ونحوه.
ما حملك على ذلك؟: ما حُجَّتك على جواز ذلك؟
لا رقية إلَّا من عين: العين: إصابة العائن غيرَه بعينه.
أو حُمَة: الحمة: سم العقرب وشبهها.
من انتهى إلى ما سمع: أي أخذ بما بلغه من العلم بخلاف من يعمل على جهل أو لا يعمل بما يعلم.
عرضت علي الأمم: قيل كان ذلك ليلة الإسراء، أي أراه الله مثالَها إذا جاءت يوم القيامة.
الرهط: الجماعة دون العشرة.
ليس معه أحد: أي لم يتبعه من قومه أحد.
سواد عظيم: أشخاص كثيرة.
فظننت أنهم أمتي: أي لكثرتهم وبعده عنهم فلا يميز أعيانهم.
موسى: أي: موسى بن عمران كليم الرحمن.
وقومه: أي أتباعه على دينه من بني إسرائيل.
بلا حساب ولا عذاب: أي: لا يحاسبون ولا يعذبون قبل دخولهم الجنة لتحقيقهم التوحيد.
ثم نهض: أي قام.
فخاض الناس في أولئك: أي تباحث الحاضرون واختلفوا في هؤلاء السبعين بأي عمل نالوا هذه الدرجة؟ فإنهم لم ينالوها إلا بعمل فما هو؟

فأخبروه: أي ذكروا للنبي –صلى الله عليه وسلم- اختلافهم في المراد بهؤلاء السبعين.
لا يسترقون: لا يطلبون من يرقيهم استغناء عن الناس.
ولا يكتوون: لا يسألون غيرهم أن يكويهم بالنار.
ولا يتطيرون: لا يتشاءمون بالطيور ونحوها.
وعلى ربهم يتوكلون: يعتمدون في جميع أمورهم عليه لا على غيره ويفوّضون أمورهم إليه.
سبقك بها عكّاشة: أي إلى إحراز هذه الصفات أو سبقك بالسؤال.


 
المعنى الإجمالي للحديث:

يصف لنا حصين بن عبد الرحمن حواراً دار في مجلس سعيد بن جبير بمناسبة انقضاض كوكب في الليل، فأخبرهم حصينٌ أنه شاهد انقضاضه لأنه لم يكن حينذاك نائماً، إلا أنه خاف أن يظن الحاضرون أنه ما رأى النجم إلا لأنه يصلي، فأراد أن يدفع عن نفسه إيهام تعبّدٍ لم يفعله كعادة السلف في حرصهم على الإخلاص، فأخبر بالسبب الحقيقي ليقَظَته وأنه بسبب إصابة حصلت له، فانتقل البحث إلى السؤال عما صنع حيال تلك الإصابة، فأخبر أنه عالجها بالرقية، فسأله سعيدٌ عن دليله الشرعي على ما صنع، فذكر له الحديث الوارد عن الرسول –صلى الله عليه وسلم- في جواز الرقية، فصوَّبه في عمله بالدليل.

ثم ذكر له حالةً أحسن مما فعل، وهي الترقي إلى كمال التوحيد بترك الأمور المكروهة مع الحاجة إليها، توكلاً على الله كحالة السبعين الألف الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، حيث وصفهم الرسول –صلى الله عليه وسلم- بأنهم يتركون الرقية والكي تحقيقاً للتوحيد، ويأخذون بالسبب الأقوى وهو التوكل على الله، ولم يسألوا أحداً غيرَه شيئاً من الرقية فما فوقها.

مناسبة الحديث للباب:

أن فيه شيئاً من بيان معنى حقيقة التوحيد وثواب ذلك عند الله تعالى.


ما يستفاد من الحديث:

1- فضيلة السلف، وأن ما يرونه من الآيات السماوية لا يعدّونه عادة، بل يعلمون أنه آية من آيات الله.
2- حرص السلف على الإخلاص وشدة ابتعادهم عن الرياء.
3- طلب الحجة على صحة المذهب وعناية السلف بالدليل.
4- مشروعية الوقوف عند الدليل والعمل بالعلم، وأن من عمِل بما بلغه فقد أحسن.
5- تبليغ العلم بتلطف وحكمة.
6- إباحة الرقية.
7- إرشاد من أخذ بشيء مشروع إلى ما هو أفضل منه.
8- فضيلة نبينا محمد –صلى الله عليه وسلم- حيث عُرضت عليه الأمم.
9- أن الأنبياء متفاوتون في عدد أتباعهم.
10- الرد على من احتج بالأكثر، وزعم أن الحق محصورٌ فيهم.
11- أن الواجب اتباع الحق وإن قلّ أهله.
12- فضيلة موسى عليه السلام وقومه.
13- فضيلة هذه الأمة وأنهم أكثر الأمم اتباعاً لنبيهم –صلى الله عليه وسلم-.
14- فضيلة تحقيق التوحيد وثوابه.
15- إباحة المناظرة في العلم والمباحثة في نصوص الشرع للاستفادة وإظهار الحق.
16- عمق علم السلف لمعرفتهم أن المذكورين في الحديث لم ينالوا هذه المنزلة إلا بعمل.
17- حرص السلف على الخير والمنافسة على الأعمال الصالحة.
18- أن ترك الرقية والكي من تحقيق التوحيد.
19- طلب الدعاء من الفاضل في حياته.
20- علَم من أعلام نبوته –صلى الله عليه وسلم- حيث أخبر أن عكاشة من السبعين الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب فقُتل شهيداً في حروب الردة رضي الله عنه.
21- فضيلة عكاشة بن محصن رضي الله عنه.
22- استعمال المعاريض وحسن خلقه –صلى الله عليه وسلم- حيث لم يقل –للرجل الآخر- لست منهم.
23- سد الذرائع لئلا يقوم من ليس أهلاً فيُردُّ، والله أعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أخرجه البخاري برقم (3410): ومسلم برقم (220) والترمذي برقم (2448) والدارمي برقم (2810) وأحمد (1/271).



يتبع باب الخوف من الشرك
 
باب الخوف من الشرك

وقول الله عز وجل: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48، 116].
وقال الخليل عليه السلام: {واجنبني وبني أن نعبد الأصنام} [إبراهيم: 35].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مناسبة الباب لكتاب التوحيد:

أن المصنف رحمه الله لما ذكر التوحيد وفضله وتحقيقه ناسب أن يذكر الخوف من ضده وهو الشرك، ليحذَره المؤمن ويخافه على نفسه.

الخوف: توقع مكروه، وهو ضد الأمن.
الشرك: صرف شيء من العبادة لغير الله.
لا يغفر أن يشرك به: أي لا يعفو عن عبد ليقيَه وهو يعبد غيرَه.
ويغفر ما دون ذلك: أي يغفر ما دون الشرك من الذنوب.
لمن يشاء: أي لمن يشاء المغفرة له من عباده حسب فضله، وحكمته.
الخليل: الذي بلغ أعلى درجات المحبة، والمراد به إبراهيم عليه السلام الذي اتخذه الله خليلاً.
اجنبني وبنيَّ: اجعلني وإياهم في جانب وحيِّز بعيد عن ذلك.
الأصنام: جمع صنم وهم ما كان منحوتاً على صورة البشر أو صورة أي حيوان.


المعنى الإجمالي للآية الأولى:

أن الله سبحانه يخبر خبراً مؤكداً أنه لا يغفر لعبد لقيَه وهو مشرك به ليحذّرنا من الشرك، وأنه يغفر ما دون الشرك من الذنوب لمن يشاء أن يغفر له تفضلاً وإحساناً؛ لئلا نقنط من رحمة الله.


المعنى الإجمالي للآية الثانية:

أن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام يدعو ربه عز وجل أن يجعله هو بنيه في جانب بعيد عن عبادة الأصنام وأن يباعد بينه وبينها، لأن الفتنة بها عظيمة ولا يأمن الوقوعَ فيها.

مناسبة الآيتين للباب:

أن الآية الأولى تدل على أن الشرك أعظم الذنوب، لأن من مات عليه لا يُغفر له، وهذا يوجب للعبد شدة الخوف من هذا الذنب الذي هذا شأنه، والآية الثانية تدل على أن إبراهيم خاف الشرك على نفسه ودعا الله أن يعافيه منه، فما الظن بغيره، فالآيتان تدلان على وجوب الخوف من الشرك.


 
ما يستفاد من الآيتين:

1- أن الشرك أعظم الذنوب، لأن الله تعالى أخبر أنه لا يغفره لمن لم يتب منه.
2- أن ما عدا الشرك من الذنوب إذا لم يتب منه داخل تحت المشيئة –إن شاء غفره بلا توبة، وإن شاء عذب به- ففي هذا دليل على خطورة الشرك.
3- الخوف من الشرك، فإن إبراهيم عليه السلام –وهو إمام الحنفاء
والذي كسّر الأصنام بيده –خافه على نفسه فكيف بمن دونه.
4- مشروعية الدعاء لدفع البلاء، وأنه لا غنى للإنسان عن ربه.
5- مشروعية دعاء الإنساء لنفسه ولذريته.
6- الرد على الجهال الذين يقولون: لا يقع الشرك في هذه الأمة فأمِنوا منه فوقعوا فيه.

وفي الحديث: "أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر" فسئل عنه فقال: "الرياء" (1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي الحديث: أي الحديث الذي رواه الإمام أحمد والطبراني وابن أبي الدنيا والبيهقي.
أخوف ما أخاف عليكم: أي أشد خوفاً أخافه عليكم.
الرياء: إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها فيحمدونه عليها.

المعنى الإجمالي للحديث:

لكمال شفقته –صلى الله عليه وسلم- ورحمته بأمته ونصحه لهم بحيث لم يترك خيراً إلا دلهم عليه ولا شراً إلا حذّرهم منه، ومن الشر الذي حذّر منه الظهور بمظهر العبادة لقصد تحصيل ثناء الناس لأنه شركٌ في العبادة –وهو وإن كان شكاً أصغرَ فخطره عظيم، لأنه يحبط العمل الذي قارنه- ولما كانت النفوس مجبولة على محبة الرئاسة والمنزلة في قلوب الخلق إلا من سلَّم الله كان هذا أخوف ما يُخاف على الصالحين –لقوة الداعي إليه- بخلاف الداعي إلى الشرك الأكبر، فإنه إما معدوم في قلوب المؤمنين الكاملين، وإما ضعيف.

مناسبة الحديث للباب:

أن فيه الخوف من الشرك الأصغر كما أن في الآيتين قبله الخوف من الشرك الأكبر، والباب شاملٌ للنوعين.


 
ما يستفاد من الحديث:

1- شدة الخوف من الوقوع في الشرك الأصغر، وذلك من وجهين:

الأول: أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- تخوَّف من وقوعه تخوفاً شديداً.
الثاني: أنه –صلى الله عليه وسلم- تخوَّف من وقوعه في الصالحين الكاملين فمن دونهم من باب أولى.
2- شدة شفقته –صلى الله عليه وسلم- على أمته وحرصه على هدايتهم ونصحه لهم.
3- أن الشرك ينقسم إلى أكبر وأصغر –فالأكبر هو أن يسوِّي غير الله بالله فيما هو من خصائص الله، والأصغر هو ما أتى في النصوص أنه شرك ولم يصل إلى حد الأكبر- والفرق بينهما:
أ-أن الأكبر يحبط جميع الأعمال، والأصغر يحبط العمل الذي قارنة.
ب- أن الأكبر يخلد صاحبه في النار، والأصغر لا يوجب الخلود في النار.
ج- أن الأكبر ينقل عن الملة، والأصغر لا ينقل عن الملة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد في مسنده (5/428، 429). والطبراني في معجمه الكبير (4/253 رقم 4301).

وعن ابن مسعود –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "من مات وهو يدعو لله نداً دخل النار" رواه البخاري(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يدعو: الدعاء هنا هو السؤال يقال دعاه إذا سأله أو استغاث به.
نداً: الند المثل والشبيه.

المعنى الإجمالي للحديث:

يخبر الرسول –صلى الله عليه وسلم- أن من جعل لله شبيهاً ومثيلاً في العبادة يدعوه ويسأله ويستغيث به نبياً كان هذا الند أو غيره واستمر على ذلك إلى الممات أي لم يتب منه قبل الممات، فإن مصيره إلى النار لأنه مشرك واتخاذ الند على نوعين:

الأول: أن يجعل لله شريكاً في أنواع العبادة أو بعضها فهذا شرك أكبر، صاحبه مخلد في النار.
الثاني: ما كان من الشرك الأصغر كقول الرجل: (ما شاء الله وشئت ولولا الله وأنت) ونحو ذلك مما فيه العطف بالواو على لفظ الجلالة. وكيسير الرياء، وهذا لا يوجب التخليد في النار وإن دخلها.


مناسبة الحديث للباب:

أن فيه التخويف من الشرك ببيان عاقبة المشرك ومصيره.

ما يستفاد من الحديث:

1- التخويف من الشرك والحث على التوبة منه قبل الموت.
2- أن كل من دعا مع الله نبياً أو ولياً –حياً أو ميتاً- أو حجراً أو شجراً فقد جعل نداً لله.
3- أن الشرك لا يُغفر إلا بالتوبة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري برقم (4497)
وأخرجه مسلم برقم (92) بلفظ: "من مات يشرك بالله شيئاً دخل النار" وقلت أنا: ومن مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة.


ولمسلم عن جابر -رضي الله عنه-: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: "من لقي الله وهو لا يشرك به شيئاً دخل الجنة ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار"(1).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جابر: هو جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري السلمي صحابي جليل مكثر ابن صحابي مات بالمدينة بعد السبعين وله أربع وتسعون سنة.

من لقي الله: من مات.
لا يشرك به: لم يتخذ معه شريكاً في الإلهية ولا في الربوبية.
شيئاً: أي شركاً قليلاً أو كثيراً.
 
المعنى الإجمالي للحديث:

أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- يخبرنا أن من مات على التوحيد فدخوله الجنة مقطوع به، فإن كان صاحب كبيرة ومات مصراً عليها فهو تحت مشيئة الله، فإن عفا الله عنه دخلها أولاً، وإلا عُذب في النار ثم أخرج منها وأُدخل في الجنة.
وأن من مات على الشرك الأكبر لا يدخل الجنة ولا يناله من الله رحمة ويخلد في النار، وإن كان شركاً أصغر دخل النار –إن لم يكن معه حسنات راجحة- لكن لا يخلد فيها.

مناسبة الحديث للباب:

أن فيه التغليظ في النهي عن الشرك مما يوجب شدة الخوف منه.


ما يستفاد من الحديث:

1- وجوب الخوف من الشرك، لأن النجاة من النار مشروطة بالسلامة من الشرك.
2- أنه ليس العبرة بكثرة العمل، وإنما العبرة بالسلامة من الشرك.
3- بيان معنى لا إله إلا الله وأنه ترك الشرك وإفراد الله بالعبادة.
4- قرب الجنة والنار من العبد وأنه ليس بينه وبينهما إلا الموت.
5- فضيلة من سلم من الشرك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم برقم (93)، وأحمد في المسند (3/345).
(13/44)




باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله الله
 
باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله الله

وقوله الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مناسبة الباب لكتاب التوحيد:

أن المصنِّف رحمه الله لما ذكر في الأبواب السابقة التوحيدَ وفضله وما يوجب الخوف من ضده ذكر في هذا الباب أنه لا ينبغي لمن عرف ذلك أن يقتصر على نفسه بل يجب عليه أن يدعو إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة كما هو سبيل المرسَلين وأتباعهم.

الدعاء: أي دعوة الناس.
إلى شهادة أن لا إله إلا الله: أي إلى توحيد الله والإيمان به وبما جاءت به رسُلُه مما هو مدلول هذه الشهادة.
قل: الخطاب للرسول –صلى الله عليه وسلم-.
هذه: أي الدعوة التي أدعو إليها والطريقة التي أنا عليها.
سبيلي: طريقتي ودعوتي.
أدعو إلى الله: إلى توحيد الله لا إلى حظ من حظوظ الدنيا ولا إلى رئاسة ولا إلى حزبية.
على بصيرة: على علم بذلك وبرهان عقلي وشرعي، والبصيرة المعرفة التي يميز بها بين الحق والباطل.
ومن اتبعني: أي آمن بي وصدَّقني: يحتمل أنه عطف على الضمير المرفوع في (أدعو) فيكون المعنى: أنا أدعو إلى الله على بصيرة ومن اتبعني كذلك يدعو إلى الله على بصيرة: ويحتمل أن يكون عطفاً على الضمير المنفصل (أنا) فيكون المعنى: أنا وأتباعي على بصيرة. والتحقيق: أن العطف يتضمن المعنيين أتباعه هم أهل البصيرة الداعون إلى الله.
وسبحان الله: وأنزه الله وأقدِّسه عن أن يكون له شريك، في ملكه أو معبودٌ بحق سواه.


 
المعنى الإجمالي للآية:

يأمر الله رسولَه أن يخبر الناس عن طريقته وسنته أنها الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله على علم ويقين وبرهان، وكل من اتبعه يدعو إلى ما يدعو إليه على علم ويقين وبرهان، وأنه هو وأتباعُه ينزهون الله عن الشريك له في ملكه وعن الشريك له في عبادته ويتبرأ ممن أشرك به وإن كان أقرب قريب.

مناسبة الآية للباب:

أن الله ذكر فيها طريقة الرسول وأتباعه هي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله على علم بما يدعون إليه. ففيها وجوب الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله الذي هو موضوع الباب.

ما يستفاد من الآية:

1- أن الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله هي طريقة الرسول وأتباعه.
2- أنه يجب على الداعية أن يكون عالماً بما يدعو إليه عالماً بما ينهى عنه.
3- التنبيه على الإخلاص في الدعوة بأن لا يكون للداعية مقصد سوى وجه الله لا يقصد بذلك تحصيل مال أو رئاسة أو مدح من الناس أو دعوة إلى حزب أو مذهب.
4- أن البصيرة فريضةٌ لأن اتباعه –صلى الله عليه وسلم- واجبٌ ولا يتحقق اتباعُه إلا بالبصيرة وهي العلم واليقين.
5- حسن التوحيد لأنه تنزيه لله تعالى.
6- قبحُ الشرك لأنه مسبةٌ لله تعالى.
7- وجوب ابتعاد المسلم عن المشركين لا يصير منهم في شيء فلا يكفي أنه لا يشرك.


عن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: "إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله" وفي رواية: "إلى أن يوحدوا الله.فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة. فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تُؤخذ من أغنيائهم فتُرد على فقرائهم. فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" أخرجاه(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بعث معاذاً: وجَّهه وأرسله.
إلى اليمن: إلى الإقليم المعروف جنوب الجزيرة العربية داعياً إلى الله ووالياً وقاضياً وذلك في سنة عشرٍ من الهجرة.
أهل الكتاب: هم اليهود والنصارى لأنهم كانوا في اليمن أكثر من مشركي العرب أو أغلب.
شهادة: يجوز فيها الرفع على أنه اسم يكن مؤخَّراً وأول خبرها مقدمٌ ويجوز العكس.
وفي رواية: أي في رواية أخرى في صحيح البخاري.
أطاعوك لذلك: أي شهدوا وانقادوا لدعوتك وكفروا بما يُعبد من دون الله.
افترض عليهم: أوجب عليهم.
أطاعوك لذلك: آمنوا بفرضيَّتها وأقاموها.
إياك: كلمة تحذير.
وكرائم: منصوبٌ على التحذير جمع كريمة، وهي خيار المال ونفائسه.
اتق دعوة المظلوم: احذرها واجعل بينك وبينها وقاية بفعل العدل وترك الظلم.
فإنه: أي الحال والشأن.
ليس بينها وبين الله حجاب: أي لا تحجب عن الله بل ترفع إليه فيقبلها.
أخرجاه: أي أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين.

المعنى الإجمالي للحديث:

أن النبي –صلى الله عليه وسلم- لما وجه معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى إقليم اليمن داعياً إلى الله ومعلماً رسم له الخطة التي يسير عليها في دعوته، فبين له أنه سيواجه قوماً أهل علم وجدَل من اليهود والنصارى، ليكون على أهبةٍ لمناظرتهم ورد شبههم، ثم ليبدأ في دعوته بالأهم فالأهم فيدعو الناس إلى إصلاح العقيدة أولاً لأنها الأساس، فإذا انقادوا لذلك أمرهم بإقام الصلاة لأنها أعظم الواجبات بعد التوحيد، فإذا أقاموها أمر أغنياءهم بدفع زكاة أموالهم إلى فقرائهم مواساة لهم وشكراً لله، ثم حذّره من أخذ جيد المال لأن الواجب الوسط، ثم حثّه على العدل وترك الظلم لئلا يدعو عليه المظلوم ودعوتُه مستجابة.

مناسبة الحديث للباب:

أن أول ما يُدعى إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وفيه إرسال الدعاة لذلك.


 
ما يستفاد من الحديث:

1- مشروعية إرسال الدعاة إلى الله.
2- أن شهادة أن لا إله إلا الله أول واجب وهي أول ما يدعى إليه الناس.
3- أن معنى شهادة أن لا إله إلا الله توحيدُ الله بالعبادة وترك عبادة ما سواه.
4- أنه لا يحكم بإسلام الكافر إلا بالنطق بالشهادتين.
5- أن الإنسان قد يكون قارئاً وهو لا يعرف معنى لا إله إلا الله، أو يعرفه ولا يعمل به كحال أهل الكتاب.
6- أن مخاطبة العالم ليست كمخاطبة الجاهل: "إنك تأتي قوماً أهل كتاب".
7- التنبيه على أنه ينبغي للإنسان خصوصاً الداعية أن يكون على بصيرة من دينه، ليتخلص من شبهات المشبِّهين وذلك بطلب العلم.
8- أن الصلاة أعظم الواجبات بعد الشهادتين.
9- أن الزكاة أوجب الأركان بعد الصلاة.
10- بيان مصرفٍ من مصارف الزكاة وهم الفقراء وجواز الاقتصار عليه.
11- أنه لا يجوز أخذ الزكاة من جيد المال إلا برضا صاحبه.
12- التحذير من الظلم، وأن دعوة المظلوم مستجابة ولو كان عاصياً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أخرجه البخاري برقم (1395)، ومسلم برقم (19) والترمذي برقم (625)، وأبو داود برقم (1584) وأحمد في مسنده (1/233).


ولهما عن سهل بن سعد -رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال يوم خيبر: "لأعطين الراية غداً رجلاً يحب اللهَ ورسولَه ويحبه اللهُ ورسولُه، يفتح الله على يديه"، فبات الناس يدُوكُون ليلتهم أيهم يُعطاها، فلما أصبحوا غدوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم- كلُّهم يرجو أن يعطاها. فقال: "أين علي بن أبي طالب؟" فقيل: هو يشتكي عينيه، فأرسلوا إليه فأُتي به فبصق في عينيه ودعا له، فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية وقال: "انفُذ على رِسْلِك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حُمْر النَّعم"(1).

يدوكون أي: يخوضون.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سهل بن سعد: هو سهل بن سعد بن مالك بن خالد الأنصاري الخزرجي الساعدي صحابي شهير مات سنة 88هـ، وقد جاوز المائة.

ولهما: أي البخاري ومسلم في صحيحيهما.
يوم خيبر: أي يوم حصار خيبر سنة 7هـ.
الراية: علم الجيش الذي يرجعون إليه عند الكر والفر.
يفتح الله على يديه: إخبارٌ على وجه البشارة بحصول الفتح.
ليلتَهم: منصوب على الظرفية.
أيُّهم: برفع (أي) على البناء لإضافتها وحذف صدرِ صلتها.
علي بن أبي طالب: هو ابن عم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وزوج ابنته فاطمة والخليفة الرابع من أسبق السابقين إلى الإسلام وأحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم أجمعين قتل سنة 40هـ.
يشتكي عينيه: أي تؤلمانه من الرمد.
فبَرَأ: بفتح الباء على وزن ضَرَبَ، ويجوز كسرها على وزن علِم، أي عوفي عافية كاملة.
أعطاه الراية: دفعها إليه.
انفُذْ: أي امض لوجهِك.
على رسْلِك: على رِفْقِك من غير عجَلة.
بساحتهم: بفناء أرضهم وما قرُب من حصونهم.
إلى الإسلام: وهو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك وأهله.
وأخبرهم... إلخ: أي أنهم إن أجابوك إلى الإسلام الذي هو التوحيد، فأخبرهم بما يجب عليهم بعد ذلك من حق الله في الإسلام من الصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك.
لأن يهدي الله: في تأويل مصدر مبتدأ خبرُه (خير).
حمُر النَّعم: أي الإبل الحمر، وهي أنفس أموال العرب.

المعنى الإجمالي للحديث:

أن النبي –صلى الله عليه وسلم- بشّر الصحابة بانتصار المسلمين على اليهود من الغد على يد رجل له فضيلةٌ عظيمة وموالاة لله ولرسوله فاستشرف الصحابة لذلك، كلٌّ يود أن يكون هو ذلك الرجل
من حرصهم على الخير، فلما ذهبوا على الموعد طلب النبي –صلى الله عليه وسلم- علياً وصادف أنه لم يحضر لِما أصابه من مرض عينيه، ثم حضر فتفل النبي –صلى الله عليه وسلم- فيهما من ريقه المبارك فزال ما يحس به من الألم زوالاً كاملاً وسلَّمه قيادة الجيش، وأمره بالمضي على وجهه برفق حتى يقرب من حصن العدو فيطلب منهم الدخول في الإسلام، فإن أجابوا أخبرهم بما يجب على المسلم من فرائض، ثم بين –صلى الله عليه وسلم- لعلي فضل الدعوة إلى الله وأن الداعية إذا حصل على يديه هداية رجل واحد فذلك خير له من أنفس الأموال الدنيوية، فكيف إذا حصل على يديه هداية أكثر من ذلك.

مناسبة الحديث للباب:

أن فيه مشروعية الدعوة إلى الإسلام الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وبيان فضل الدعوة إلى ذلك.

ما يستفاد من الحديث:


1- فضيلةٌ ظاهرة لعلي بن أبي طالب –رضي الله عنه-، وشهادةٌ من الرسول –صلى الله عليه وسلم- له بموالاته لله ولرسوله وإيمانه ظاهراً وباطناً.
2- إثبات أن الله يحب أولياءه محبة تليق بجلاله كسائر صفاته المقدسة الكريمة.
3- حرص الصحابة على الخير وتسابقهم إلى الأعمال الصالحة رضي الله عنهم.
4- مشروعية الأدب عند القتال وترك الطيش والأصوات المزعجة التي لا حاجة إليها.
5- أمر الإمام عماله بالرفق واللين من غير ضعف ولا انتقاص عزيمة.
6- وجوب الدعوة إلى الإسلام لا سيما قبل قتال الكفار.
7- أن من امتنع من قبول الدعوة من الكفار وجب قتاله.
8- أن الدعوة تكون بالتدريج فيطلب من الكافر أولاً الدخول في الإسلام بالنطق بالشهادتين، ثم يُؤمر بفرائض الإسلام بعد ذلك.
9- فضل الدعوة إلى الإسلام وما فيها من الخير للمدعو والداعي، فالمدعو قد يهتدي والداعي يُثاب ثواباً عظيماً، والله أعلم.
10- دليلٌ من أدلة نبوة الرسول –صلى الله عليه وسلم- وذلك ببشارته بالفتح قبل وقوعه وبراءة الألم بريقه.
11- الإيمان بالقضاء والقدر، لحصول الراية لمن لم يسْع إليها ومنْعها ممن سعى إليها.
12- أنه لا يكفي التسمي بالإسلام بل لا بد من معرفة واجباته والقيام بها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري برقم (2942)، ومسلم برقم (2406).




يتبع باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله
 
باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله

وقول الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مناسبة الباب لكتاب التوحيد:

لما ذكر المصنف رحمه الله في الأبواب السابقة التوحيد وفضائله والدعوة إليه والخوف من ضده الذي هو الشرك، بين رحمه الله في هذا الباب معناه؛ لأن بعض الناس يخطئ في فهم معناه فيظن أن معناه الإقرار بتوحيد الربوبية فقط، وهذا ليس هو المراد بالتوحيد وإنما المراد به ما دلت عليه النصوص التي ساق المصنف رحمه الله طرفاً منها في هذا الباب من أنه إفراد الله بالعبادة والخلوص من الشرك.
وعطَف شهادة أن لا إله إلا الله على التوحيد ليبين أن معناهما واحدٌ لا اختلاف فيه.


يدعون: أي يدعونهم من دون الله وهم الملائكة والأنبياء والصالحين وغيرهم فالضمير الفاعل يدْعون راجعٌ إلى الكفار.
يبتغون: أي يطلبون والضمير الفاعل فيه راجعٌ إلى المدعوين من الملائكة ونحوهم.
الوسيلة: ما يتقرب به إلى الله، فمعنى توسل إلى الله عمل عملاً يقربه إليه.
ويرجون رحمته: أي لا يرجون أحداً سواه.
ويخافون عذابه: أي: لا يخافون أحداً سواه.

 
الوسوم
التوحيد تعرف ماذا
عودة
أعلى