ماذا تعرف عن التوحيد ?

باب بيان شيء من أنواع السحر

قال أحمد: حدّثنا محمد بن جعفر حدّثنا عَوف عن حَيَّان بن العَلَاء حدثنا قَطَن بن قَبِيْصة عن أبيه، أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "إن العِيَافَة والطَّرْق والطِّيَرة من الجِبْت""1".

قال عوف: العيافة: زجر الطير، والطرق: الخط يُخط بالأرض.
والجبت قال: الحسن: رَنّة الشيطان. إسناده جيد.
ولأبي داود والنسائي وابن حبان في صحيحه المسنَدُ منه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد:
أن المصنف رحمه الله لما ذكر في الباب الذي قبل هذا السحر، ذكر في هذا الباب شيئاً من أنواعه؛ لكثرة وقوعها، وخفائها على الناس، حتى ظنّوها من كرامات الأولياء، وآل بهم الأمر إلى أن عبدوا أصحابها فوقعوا في الشرك العظيم.
التراجم:
1- أحمد هو: الإمام أحمد بن حنبل.

2- محمد بن جعفر هو: المشهور بغُندُر الهُذَليّ البصري ثقةٌ مشهور.
3- عوف هو: ابن أبي جَميلة المعروف بعوفٍ الأعرابي ثقة.
4- عن أبيه هو: قبيصة بن المُخارق الهلالي صحابي مشهور.
5- الحسن هو: الحسن البصريّ.
زجر الطير: التفاؤل بأسمائها وأصواتها وممرّها.
من الجبت: أي: من أعمال السحر.
يُخط بالأرض: يخطه الرمالون ويدعون به علم الغيب.

الجبت رنّة الشيطان: هذا تفسير للجبت ببعض أفراده. والرنة: الصوت، ويدخل فيه كل أصوات الملاهي، وأضافه إلى الشيطان لأنه يدعو إليه.
ولأبي دواد... إلخ: أي: أن هؤلاء رَوَوا الحديث واقتصروا على المرفوع منه ولم يذكروا تفسير عوف.
مناسبة الحديث للباب:

بيان أن العِيافة والطرْق والطيَرة من الجبت الذي هو السحر المنافي للتوحيد.
 
ما يستفاد من الحديث:
1- تحريم ادعاء علم الغيب؛ لأنه ينافي التوحيد.
2- تحريم الطيرة؛ لأنها تنافي التوحيد أو كماله.
3- تحريم الملاهي بأنواعها؛ لأنها تنافي طاعة الله وكمال توحيده.
4- أن الملاهي بأنواعها –من الأغاني والمزامير وسائر آلات اللهو- من رنّة الشيطان الذي شأنه كله الصد عن سبيل الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"1" أخرجه أحمد في المسند "3/477" وأبو داود برقم "3907"، وابن حبان كما في الموارد برقم "1426".

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زادَ ما زادَ""1" رواه أبو داود بإسنادٍ صحيح.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من اقتبسَ: من تعلّم.
شعبة: طائفة وقطعة.
شعبة من السحر: المعلوم تحريمه.
زاد ما زاد: يعني: كلما زاد من علم النجوم زاد له من الإثم مثل إثم الساحر أو زاد من اقتباس شعب السحر مثل ما زاد من اقتباس علم النجوم.
المعنى الإجمالي للحديث:
يخبر –صلى الله عليه وسلم- في هذ الحديث خبراً معناه النهيُ والتحذيرُ أن من تعلّم شيئاً من التنجيم فقد تعلّم شيئاً من السحر المحرّم، وكلما زاد تعلّمه التنجيم زاد تعلمه السحر؛ وذلك لأن التنجيم تحكمٌ على الغيب، بحيث إن المنجم يحاول اكتشاف الحوادث المستقبلة التي هي من علم الغيب الذي استأثر الله بعلمه.
مناسبة الحديث للباب:

أن النبي –صلى الله عليه وسلم- أخبر فيه أن التنجيم نوعٌ من أنواع السحر.
ما يستفاد من الحديث:
1- تحريم التنجيم الذي هو الإخبار عن المستقبل اعتماداً على أحوال النجوم؛ لأنه من ادعاء علم الغيب.
2- أن التنجيم من أنواع السحر المنافي للتوحيد.
3- أنه كلما زاد تعلّمه للتنجيم زاد تعلّمه للسحر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"1" أخرجه أبو داود برقم "3905" وابن ماجه برقم "3726"، وأحمد في مسنده "1/277، 311".


وللنسائي من حديث أبي هريرة: "من عقد عُقدة ثم نفث فيها فقد سَحَر، ومن سحر فقد أشرك، ومَنْ تعلَّقَ شيئاً وُكل إليه""1".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من عقد عقدة: على شكل ما يفعله السحرة من عقدِ الخيوط ونحوها.
ونفَث فيها: النفث هو: النفخ مع ريقٍ وهو دون التفل.
فقد سحَر: أي: فعل السحر المحرم.
ومن سحر فقد أشرك: لأن السحر لا يتأتى بدون الشرك؛ لأنه استعانة بالشياطين.
ومن تعلّق شيئاً وُكل إليه: أي: من تعلق قلبه بشيء واعتمد عليه وكله الله إلى ذلك الشيء وخذله.
معنى الحديث إجمالاً:

يبين –صلى الله عليه وسلم- نوعاً من أنواع السحر وحكمَه، محذراً أمته من تعاطيه. فيقول: إن من أنواع السحر أن يعقد العقد في الخيوط ونحوها، وينفخ في تلك العُقد نفخاً مصحوباً بالريق؛ وذلك أن السحرة إذا أرادوا عمل السحر عقدوا الخيوط، ونفثوا على كل عقدةٍ حتى ينعقد ما يريدون من السحر، فتتكيف نفسه الخبيثة بالشر، ويستعين بالشياطين، وينفخ في تلك العقد، فيخرج من نفسه الخبيثة نفَسٌ مقترنٌ بالريق الممازج للشر، ويستعين بالشياطين فيصيب المسحورَ بإذن الله الكونيّ القدريّ.
مناسبة الحديث للباب؛

أن فيه بيان نوع من أنواع السحر، وهو سحر العقد المسمى بالعزيمة.
ما يستفاد من الحديث:
1- بيان نوع من أنواع السحر وهو ما كان بواسطة العقد والنفث.
2- أن السحر شركٌ؛ لأنه استعانة بالشياطين.

3- أن من اعتمد على غير الله خذله الله وأذله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"1" أخرجه النسائي، وللجزء الأخير من الحديث شواهد يتقوى بها أخرج الشاهد الترمذي برقم "2073" وأحمد "4/310، 311" والحاكم "4/216".


وعن ابن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: "ألا هل أنبئكم ما العَضْهُ؟ هي: النميمة القالةُ بين الناس""1". رواه مسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ألا: أداة تنبيه.
أنبئكم: أخبركم.
العضْهُ: بفتح العين وسكون الضاد مصدر عَضَه يعْضَهُ عضْهاً بمعنى كذَب وسحر والمراد به هنا: السحر.
النميمة: نقل الحديث على وجه الإفساد.
القالة: كثرة القول وإيقاع الخصومة بين الناس بما يُحكى للبعض عن البعض.
المعنى الإجمالي للحديث:

أراد –صلى الله عليه وسلم- أن يحذّر أمته عن السعاية بين الناس بنقل حديث بعضهم في بعض على وجه الإفساد، فافتتح حديثه بصيغة الاستفهام، ليكون أوقع في النفوس وأدعى للانتباه، فسألهم ما العَضْهُ –أي ما السحر- ثم أجاب عن هذا السؤال –بأن العضه هو نقل الخصومة بينهم؛ لأن ذلك يفعل ما يفعله السحر من الفساد وتفريق القلوب.
مناسبة الحديث للباب:

أن النبي –صلى الله عليه وسلم- بيّن فيه أن النميمة نوعٌ من أنواع السحر.
 
ما يستفاد من الحديث:
1- أن النميمة نوعٌ من أنواع السحر؛ لأنها تفعل ما يفعله السحر من التفريق بين القلوب والإفساد بين الناس –لا أن النمام يأخذ حكم الساحر من حيثُ الكفر وغيره.
2- تحريم النميمة، وأنها من الكبائر.
3- التعليم على طريقة السؤال والجواب، لأن ذلك أثبتُ في الذهن وأدعى للانتباه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"1" أخرجه مسلم برقم "2606".


ولهما عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: "إن من البيان لسحراً""1".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
البيان: البلاغة والفصاحة.
لسحراً: أي: يعمل عمل السحر، فيجعل الحق في قالب الباطل والباطلَ في قالب الحق، فيستميل قلوب الجهال.

المعنى الإجمالي للحديث:
يبين –صلى الله عليه وسلم- نوعاً آخر من أنواع السحر وهو: البيان المتمثل في الفصاحة والبلاغة؛ لما يُحدِثه هذا النوع من أثر في القلوب والأسماع؛ حتى ربما يصور الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق؛ كما يفعل السحر. والمراد ذمّ هذا النوع من البيان الذي يلبس الحق بالباطل ويموّه على السامع.
مناسبة الحديث للباب:

أن فيه بيانَ نوع من أنواع السحر وهو بعض البيان.
ما يستفاد من الحديث:
1- بيان نوع من أنواع السحر وهو البيان الذي فيه التمويه.
2- ذمّ هذا النوع من البيان –وأما البيان الذي يوضح الحق ويقرره ويبطل الباطل ويدحضه فهو ممدوح.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"1" أخرجه البخاري برقم "5146" ومسلم برقم "869".



يتبع باب ما جاء في الكهّان ونحوهم
 
باب ما جاء في الكهّان ونحوهم

روى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم- عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "من أتى عرَّافاً فسأله عن شيء فصدّقه لم تقبل له صلاة أربعين يوماً""1".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكهان: جمع كاهن وهو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل اعتماداً على الاستعانة بالشياطين.
مناسبة الباب لكتاب التوحيد:
لما كان الكهان ونحوهم يدّعون علم الغيب الذي قد اختص به الله تعالى، وذلك دعوى مشاركة الله تعالى في علم الغيب، أراد المصنف أن يبين في هذا الباب ما جاء في حقهم وحق من صدّقهم من الوعيد.
ما جاء في الكهان: أي: من التغليظ والوعيد.
ونحوهم: كالعرافين والمنجّمين والرمّالين.
عن بعض أزواج النبي: هي: حفصة.
لم تقبل له صلاة: أي: لا ثواب له فيها.

 
المعنى الإجمالي للحديث:
يبين –صلى الله عليه وسلم- الوعيد المترتب على الذهاب إلى الكهان ونحوهم لسؤالهم عن المغيبات التي لا يعلمها إلا الله، أن جزاءَ من فعل ذلك حرمانُه من ثواب صلاته لمدة أربعين يوماً؛ لتلبّسه بالمعصية. وفي هذا وعيد شديد ونهيٌ أكيد عن هذا الفعل، مما

يدل على أنه من أعظم المحرمات، وإذا كان هذا جزاءُ من أتى الكاهن فكيف بجزاء الكاهن نفسه! نعوذ بالله من ذلك ونسأل الله العافية.
مناسبة الحديث للباب:

أن فيه النهي عن إتيان الكُهّان ونحوهم، وعن تصديقهم لمنافاته للتوحيد.
ما يستفاد من الحديث:
1- المنع من الذهاب إلى الكهان وسؤالهم عن المغيبات وتصديقهم في ذلك وأنه كفر.
2- تحريم الكهانة، وأنها من الكبائر.
فائدة؛

من ذهب إلى الكهّان ولم يصدقهم لم تقبل له صلاة أربعين يوماً، كما جاء في ذلك الحديث الآخر وأما من صدّقهم فقد كفر بما أنزل على محمد –صلى الله عليه وسلم-.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"1" أخرجه مسلم برقم "2240" وأحمد في مسنده "4/68"، "5/380".



وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم-""1" رواه أبو داود.
وللأربعة والحاكم وقال: صحيح على شرطهما عن النبي –صلى الله عليه وسلم-: "من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم-""2".
ولأبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود موقوفاً"3".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بما أُنزل على محمد: أي: الكتاب والسنة.
المعنى الإجمالي للحديث بروايتيه:

الوعيد الشديد على إتيان الكهان والعرافين لسؤالهم عن المغيبات وتصديقهم في ذلك؛ لأن علم الغيب قد اختص الله تعالى به. فمن أتاهم وصدّقهم فقد كفر بالوحي المنزّل على محمد –صلى الله عليه وسلم-.
مناسبة الحديث للباب:
أن فيه النهي عن إتيان الكهّان والعرافين وبيان الوعيد في ذلك.
 
ما يستفاد من الحديث:
1- تحريم الذهاب إلى الكهان والعرافين وسؤالهم ووجوب الابتعاد عنهم؛ لأن ذلك كفرٌ إذا صدقهم، ومحرمٌ إذا لم يصدقهم.
2- وجوب تكذيب الكهان والمنجمين.
3- من أتاهم وصدقهم فقد كفر بالوحي المنزل على محمد –صلى الله عليه وسلم-.
4- أنه الكهانة شرك؛ لأنها تتضمن دعوى مشاركة الله تعالى في علم الغيب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"1" أخرجه أبو داود برقم "3904" وأحمد في مسنده "2/408، 429، 476".
"2" أخرجه الحاكم في المستدرك "1/8" وأحمد في المسند "2/429".
"3" أخرجه أبو يعلى في مسنده "رقم 5408" والبزار كما في الكشف "رقم 2067" وقال الهيثمي في مجمع الزوائد "5/118": رواه البزار ورجاله رجال الصحيح خلا هبيرة بن يريم وهو ثقة.


وعن عمران بن حصين -رضي الله عنه- مرفوعاً: "ليس منا من تَطيّر أو تُطير له، أو تَكهن أو تُكهن له، أو سَحر أو سُحر له، ومن أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم-""1" رواه البراز بإسناد جيد، ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن من حديث ابن عباس دون قوله: "ومن أتى" إلى آخره.

قال البغوي: العرَّاف: الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك -وقيل: هو الكاهن.
والكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل.
وقيل: الذي يخبر عما في الضمير.
وقال أبو العباس ابن تيمية: العراف: اسم للكاهن والمنجِّم والرّمَّال ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليس منا: أي: لا يفعل هذا من هو من أشياعنا العاملين باتباعنا المقتفين لشرعنا.
من تطيّر: فَعل الطيرة.
أو تُطير له: أمر من يُتطير له. ومثله بقية الألفاظ.
المعنى الإجمالي للحديث:
يقول –صلى الله عليه وسلم-: لا يكون من أتباعنا المتبعين لشرعنا من فعل الطيرة أو الكهانة أو السحر أو فُعلت له هذه الأشياء؛ لأن فيها ادعاء لعلم الغيب الذي اختص الله به، وفيها إفساد للعقائد والعقول، ومن صدّق من يفعل شيئاً من هذه الأمور فقد كفر بالوحي الإلهي الذي جاء بإبطال هذه الجاهليات ووقاية العقول منها. ويلحق بذلك ما يفعله بعض الناس من قراءة ما يسمّى بالكف، أو ربط سعادة الإنسان وشقائه وحظّه بالبروج ونحو ذلك.
وقد بين كلٌّ من الإمامين البغوي وابن تيمية معنى العرّاف والكاهن المنجم والرّمّال بما حاصلُه: أن كل من يدعي علم شيءٍ من المغيبات فهو إما داخلٌ في اسم الكاهن أو مشاركٌ له في المعنى فيلحق به، والكاهن هو الذي يخبر عما يحصل في المستقبل ويأخذ عن مسترق السمع من الشياطين كما سبق في أول كتاب التوحيد.
مناسبة الحديث للباب:

أن فيه النهي والتغليظ عن فعل الكهانة ونحوها وتصديق أهلها.
ما يستفاد من الحديث:
1- تحريم ادعاء علم الغيب؛ لأنه ينافي التوحيد.
2- تحريم تصديق من يفعل ذلك بكهانةٍ أو غيرها؛ لأنه كفرٌ.
3- وجوب تكذيب الكهان ونحوهم ووجوب الابتعاد عنهم وعن علومهم.
4- وجوب التمسك بما أُنزل على الرسول –صلى الله عليه وسلم- وطرح ما خالفه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

"1" قال الهيثمي في مجمع الزوائد "5/117": رواه البزار ورجاله رجال الصحيح خلا إسحاق بن الربيع وهو ثقة.

وقال ابن عباس في قوم يكتبون أبا جاد، وينظرون في النجوم: ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق"1".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يكتبون أبا جاد: أي: يقطعون حروف "أبجد هوز... إلخ" التي تسمى حروف الجمل ويتعلمونها لادعاء علم الغيب.

وينظرون في النجوم: أي: ويعتقدون أن لها تأثيراً فيبنون أمورهم على زعمٍ فاسدٍ واعتقادٍ باطل في النجوم والحساب الذي يظنون أنهم يدركون به علم الغيب.
ما أرى: بفتح الهمزة بمعنى: لا أعلم، وبضمها بمعنى: لا أظن.
من خلاق: من نصيب.
المعنى الإجمالي للأثر:

يقول ابن عباس: لا أعلم ولا أظن أن من يكتب حروف أبا جاد وينظر في النجوم ويبني على ذلك الحكم على المستقبل، ما أرى لمن فعل ذلك نصيباً عند الله؛ لأن ذلك يدخل في حكم العرّافين المدّعين لعلم الغيب.
مناسبة الأثر للباب:

أنه يدل على أن كتابة أبا جاد وتعلّمها لمن يدعي بها معرفة علم الغيب والنظر في النجوم على اعتقاد أن لها تأثيراً، كل ذلك يدخل في العرافة ومن فعله فقد أضاع نصيبه من الله.
ما يستفاد من الأثر:
1- تحريم تعلّم أبي جاد على وجه ادعاء علم الغيب به؛ لأنه ينافي التوحيد. أما تعلّمها للتهجّي وحساب الجمل فلا بأس به.
2- تحريم التنجيم؛ لأنه وسيلةٌ إلى الشرك بالله تعالى.
3- عدم الاغترار بما يُؤتاه أهل الباطل من معارفهم وعلومهم.
لأن ذلك من باب الاستدراج لهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"1" قال الهيثمي في مجمع الزوائد "5/118": رواه الطبراني وفيه خالد بن يزيد العمري وهو كذاب.



يتبع باب ما جاء في النُّشْرَة
 
باب ما جاء في النُّشْرَة
عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- سئل عن النشرة فقال: "هي من عمل الشيطان""1" رواه أحمد بسند جيد، وأبو داود، وقال: سئل أحمد عنها فقال: ابن مسعود يكره هذا كله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مناسبة الباب لكتاب التوحيد:

لمّا ذكر المصنف حكم السحر والكهانة، ذكر في هذا الباب ما جاء في النُّشرة؛ لأنها قد تكون من قبَل الشياطين والسحرة، فتكون مضادة للتوحيد.
النُّشْرة: نوع من العلاج والرقية يعالَج به من كان يظن أن به مسّاً من السحر؛ سميت بذلك لأنها ينشر بها عنه ما خامره من الداء أي يُكشف ويزال.
سئل عن النشرة: أي: النشرة التي كان أهل الجاهلية يعملونها.
هي من عمل الشيطان: لأنهم ينشرون عن المسحور بأنواع من السحر واستخداماتٍ شيطانية.
يكره هذا كله: أي: النشرة التي هي من عمل الشيطان.
المعنى الإجمالي للحديث:

أن النبي –صلى الله عليه وسلم- سئل عن علاج المسحور على الطريقة التي كانت تعلمها الجاهلية ما حكمه، فأجاب –صلى الله عليه وسلم- بأنه من عمل الشيطان أو بواسطته؛ لأنه يكون بأنواع سحرية واستخداماتٍ شيطانيةٍ، فهي شركية ومحرمة.
مناسبة الحديث للباب:

أنه دل على تحريم النشرة التي هي من عمل الشيطان وهي نُشرة الجاهلية.
 
ما يستفاد من الحديث:
1- النهي عن النشرة على الصفة التي تعملها الجاهلية؛ لأنها سحر والسحر كفر.
2- مشروعية سؤال العلماء عما أشكل حكمه؛ حذراً من الوقوع في المحذور.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"1" أخرجه أبو داود برقم "3868" وأحمد في المسند "3/294".

وفي البخاري عن قتادة: قلت لابن المسيّب: رجل به طِبّ أو يؤَخَّذ عن امرأته، أيُحَلُّ عنه أو يُنَشَّر؟ قال لا بأس به إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم يُنه عنه.
ورُوي عن الحسن أنه قال: لا يَحُلُّ السحر إلا ساحر.
قال ابن القيم: النُّشْرة: حل السحر عن المسحور -وهي نوعان:
إحداهما: حلٌّ بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، وعليه يُحمل قول الحسن، فيتقرب الناشر والمُنْتَشر إلى الشيطان بما يحب فيبطل عمله عن المسحور.
والثاني: النشرة بالرقية والتعوذات والأدوية والدعوات المباحة، فهذا جائز.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ترجمة قتادة: هو ابن دُعامة السدوسي البصري ثقة من أحفظ التابعين، مات سنة بضع عشرة ومائة.

به طبٌّ: بكسر الطاء أي سحرٌ –كنوا عنه بالطب تفاؤلاً.
يؤَخَّذ: بفتح الواو مهموزة وتشديد الخاء –أي: يُحبس عن امرأته ولا يصل إلى جماعها.
لا بأس به: أي: بمعالجته بأمور مباحة لم يُرد بها إلا المصلحة ودفع المضرة.
لا يَحُل السحر إلا ساحر: أي: لا يقدر على حلِّه إلا من يعرف السحر.
المعنى الإجمالي للأثرين:

أن ابن المسيب سُئل عن حكم النشرة فأفتى بجوازها؛ نظراً لأن المقصود منها النفع وزوال الضرر، ولم يُنه عما كان كذلك، ومقصوده نوعٌ من النشرة لا محذور فيه: كالرقى بأسماء الله وكلامه.
وأما الحسن فمقتضى كلامه منع النشرة؛ لأنه لا يقدر على حل السحر إلا من له معرفةٌ بالسحر. وهذا محمولٌ على حل السحر بسحرٍ مثله، وهو من عمل الشيطان. وفي التفصيل الذي ذكره ابن القيم جمعاً بين القولين –حاصله:
أن علاج المسحور بأدوية مباحة وقراءة قرآن أمر جائز – وعلاجه بسحر مثله محرم. والله أعلم.
مناسبة الأثرين للباب:

بيان التفصيل في حكم النشرة وبيان الجائز والممنوع منها.



يتبع باب ما جاء في التطيُّر


 
باب ما جاء في التطيُّر

وقول الله تعالى: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 131] وقوله: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} [يس: 19].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تمام الآية الثانية: {أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} [يس: 19].
مناسبة الباب لكتاب التوحيد:
لما كانت الطيرة نوعاً من الشرك الذي يتنافى مع التوحيد أو ينقص كماله عقد المصنف لها هذا الباب في كتاب التوحيد تحذيراً منها.
ما جاء في التطير: أي: من الوعيد –والتطير: مصدر تطيرَ- وهو التشاؤم بالشيء المرئي أو المسموع.
ألا: أداة تنبيه.
إنما: أداة حصر.
طائرهم: ما قُضي عليهم وقُدِّر لهم.

عند الله: أي: إنما جاءهم الشؤم من قبله وبحكمه الكوني القدري بسبب كفرهم وتكذيبهم بآياته ورسله.
لا يعلمون: وصفٌ لهم بالجهالة وعدم العلم وأنهم لا يدرون.
طائركم: أي: حظكم وما نابكم من شرّ.
معكم: أي: بسبب أفعالكم وكفركم ومخالفتكم الناصحين.
أئن ذكرتم: أي: من أجل أنا ذكرناكم قابلتمونا بقولكم: {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} [يس: 18].
بل أنتم قوم مسرفون: عادتكم الإسراف في العصيان فمن ثمّ جاءكم الشؤم. والسرف: الفساد وهو مجاوزة الحد في مخالفة الحق.
المعنى الإجمالي للآيتين:

الآية الأولى: لمّا كان قوم فرعون إذا أصابهم غلاء وقحط قالوا: هذا أصابنا بسبب موسى وأصحابه وبشؤمهم –رد الله تعالى عليهم بأن ما أصابهم من ذلك إنما هو بقضائه وقدره عليهم بكفرهم، ثم وصف أكثرهم بالجهالة وعدم العلم، ولو فهموا وقلوا لعلموا أن موسى ما جاء إلا بالخير والبركة والفلاح لمن آمن به واتبعه.
2- الآية الثانية: أن الله سبحانه رد على من كذّب الرسل فأصيب بالبلاء، ثم ادعى أن سببه جاء من قبل الرسل وبسببهم، فبيّن الله سبحانه أن سبب هذا البلاء من قِبَل أنفسهم، وبسبب أفعالهم وكفرهم، لا من قبَل الرسل كما ادَّعوا. وكان اللائق بهم أن يقبلوا قول الناصحين ليسلموا من هذا البلاء؛ لكنهم قومٌ متمادون في المعاصي فمن ثَم جاءهم الشؤم والبلاء.
مناسبة الآيتين للباب:

أن الله ذكر أن التطير من عمل الجاهلية والمشركين، وقد ذمهم الله تعالى ومقَتهم.
 
ما يستفاد من الآيتين:
1- أن التطير من عمل الجاهلية والمشركين.
2- إثبات القضاء والقدر والإيمان بهما.
3- أن المصائب بسبب المعاصي والسيئات.
4- في الآية الأولى: ذمٌّ للجهل؛ لأنه يؤدي إلى عدم معرفة الشرك ووسائله، ومن ثمّ الوقوع فيه.
5- في الآية الثانية: وجوب قبول النصيحة؛ لأن عدم قبولها من صفات الكفار.
6- أن ما جاءت به الرسل فهو الخير والبركة لمن اتبعه.




عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم- قال: "لا عدوى، ولا طِيَرة، ولا هامة، ولا صَفَر" أخرجاه"1".
زاد مسلم: "ولا نَوْء، ولا غُول""2".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا عدوى: العدوى اسمٌ من الإعداء، وهو مجاوزة العلة من صاحبها إلى غيره، والمنفيّ ما كان يعتقده أهل الجاهلية أن العلة تسري بطبْعها لا بقدر الله.
ولا طيَرة: الطيرة هي: التشاؤم بالطيور والأسماء والألفاظ والبقاع والأشخاص و-ولا- يحتمل أن تكون نافية أو ناهية والنفي أبلغ.
ولا هامة: الهامة بتخفيف الميم: البُومة كانوا يتشاءمون بها، فجاء الحديث بنفي ذلك وإبطاله.
ولا صفر: قيل المراد به: حيةٌ تكون في البطن تصيب الماشية والناس، يزعمون أنها أشد عدوى من الجرب، فجاء الحديث بنفي هذا الزعم، وقيل المراد: شهر صفر كانوا يتشاءمون به، فجاء الحديث بإبطال ذلك.
ولا نَوْءَ: سيأتي بيان ذلك في بابه إن شاء الله.
ولا غُول: الغُول جنسٌ من الجن والشياطين، يزعمون أنها تضلهم عن الطريق وتهلكهم، فجاء الحديث بإبطال ذلك، وبيان أنها لا تستطيع أن تضل أحداً أو تهلكه.

المعنى الإجمالي للحديث:
ينفي –صلى الله عليه وسلم- ما كانت تعتقده الجاهلية من اعتقادات باطلة من التشاؤم بالطيور وبعض الشهور والنجوم وبعض الجن والشياطين، فيتوقعون الهلاك والضرر منها؛ كما كان يعتقدون سريان الأمراض من محل الإصابة إلى غيرها بأنفسها. فيرد –صلى الله عليه وسلم- كل هذه الخرافات، ويغرس مكانها التوكل على الله وعقيدة التوحيد الخالص.
مناسبة الحديث للباب:

أنه يدل على إبطال الطيرة، وأنها اعتقادٌ جاهليٌّ.
 
ما يستفاد من الحديث:
1- إبطال الطيرة.

2- إبطال اعتقاد الجاهلية أن الأمراض تُعدي بطبيعتها لا بتقدير الله تعالى.
3- إبطال التشاؤم بالهامة وشهر صفر.
4- إبطال اعتقاد تأثير الأنواء.
5- إبطال اعتقاد الجاهلية في الغيلان.
6- وجوب التوكل على الله والاعتماد عليه.
7- أن من تحقيق التوحيد الحذر من الوسائل المفضية إلى الشرك.
8- إبطال ما يفعله بعض الناس من التشاؤم بالألوان، كالأسود والأحمر، أو بعض الأرقام والأسماء والأشخاص وذوي العاهات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"1" أخرجه البخاري برقم "5757" ومسلم برقم "2220" "102".
"2" أخرجه مسلم برقم "2220" "106".


ولهما عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل" قالوا: وما الفأل؟ قال: "الكلمة الطيبة""1".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفأل: مهموزٌ فيما يُسِرّ ويسوء بخلاف الطيرة، فلا تكون إلا فيما يسوء.
الكلمة الطيبة: كأن يكون الرجل مريضاً فيسمع من يقول: يا سالم. فيؤمل البرء من مرضه.
مناسبة ذكر الحديث في الباب:

أن فيه بيان أن الفأل ليس من الطيرة المنهي عنها.
ما يستفاد من الحديث:
1- أن الفأل ليس من الطيرة المنهي عنها.
2- تفسيرُ الفأل.
3- مشروعية حسن الظن بالله والنهي عن سوء الظن به.
الفرق بين الفأل والطيرة:
1- الفأل يكون فيما يسر.
2- الفأل فيه حسن ظنٍّ بالله، والعبد مأمورٌ أن يحسن الظن بالله.
3- الطيرة لا تكون إلا فيما يسوء.
4- الطيرة فيها سوء ظن بالله، والعبد منهيّ عن سوء الظن بالله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"1" أخرجه البخاري برقم "5756" ومسلم برقم "2224".


ولأبي داود بسند صحيح عن عروة بن عامر، قال: ذُكِرت الطيرة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقال: "أحسنها الفأل، ولا تَردّ مسلماً, فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك""1".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ترجمة عروة: هو: عروة بن عامر القرشي، وقيل: الجهَني المكي. ذكره ابن حبان في الثقات.
ولا ترد مسلماً: بخلاف الكافر فإنها تردّه عن قصده.
لا يأتي بالحسنات... إلخ: أي: ولا تأتي الطيرة بالحسنات ولا تدفع السيئات.
ولا حول: الحول: التحول والانتقال من حالٍ إلى حالٍ.
ولا قوة: على ذلك.
إلا بك: وحدك.
 
المعنى الإجمالي للحديث:
يذكر الراوي أن الطيرة ذُكرت عند النبي –صلى الله عليه وسلم-؛ ليبين حكمَها وما يُعمل حيالَها، فأبطل النبي –صلى الله عليه وسلم- الطيرة، وأخبر أن الفأل منها؛ ولكن خيرٌ منها –وأخبر –صلى الله عليه وسلم- أن الطيرة لا تردُّ مسلماً عن قصده؛ لإيمانه أنه لا ضارّ ولا نافع إلا الله، وإنما ترد المشرك الذي يعتقدها –ثم أرشد –صلى الله عليه وسلم- إلى العلاج الذي تدفع به الطيرة وهو هذا الدعاء المتضمن تعلق القلب وحده في جلب النفع ودفع الضر والتبري من الحول والقوة إلا بالله.

مناسبة الحديث للباب:

أن فيه إبطال الطيرة وبيان ما تُفع به واستثناء الفأل منها.
ما يستفاد من الحديث:
1- إبطال الطيرة وبيان ما تدفع به من الدعاء والذكر.
2- أن ما يقع في القلب من الطيرة لا يضر بل يُذهِبه الله بالتوكل.
3- أن الفأل من الطيرة وهو خيرُها.
4- وجوب التوكل على الله والتبرّي من الحول والقوة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"1" أخرجه أبو داود برقم "3719".


وعن ابن مسعود مرفوعاً: "الطيرة شرك، الطيرة شرك، وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل""1" رواه أبو داود والترمذي وصححه، وجعل آخره من قول ابن مسعود.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الطيرة شرك: لما فيها من تعلق القلب على غير الله.
وما منا إلا: فيه إضمارٌ تقديره: وما منا إلا وقع في قلبه شيءٌ منها.
يذهبه بالتوكل: أي: التوكل على الله في جلب النفع ودفع الضر يذهب الطيرة.

آخره من قول ابن مسعود: وهو قوله: "وما منا... إلخ" وهو الصواب؛ لأنها شركٌ، والنبي معصومٌ من الشرك.
المعنى الإجمالي للحديث:

أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- يخبر ويكرر الإخبار؛ ليتقرر مضمونه في القلوب، أن الطيرة شرك؛ لما فيها من تعلق القلب على غير الله وسوء الظن به.
مناسبة الحديث للباب:

أنه يدل على أن الطيرة شركٌ.
 
ما يستفاد من الحديث:
1- أن الطيرة شركٌ؛ لأن فيها تعلق القلب على غير الله.
2- مشروعية تكرار إلقاء المسائل المهمة؛ لتحفظَ وتستقر في القلوب.
3- أن الله يذهب الطيرة بالتوكل عليه، فلا تضر من وجد في نفسه شيئاً منها ثم توكَّل على الله ولم يلتفت إليها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"1" أخرجه أبو داود برقم "3910" والترمذي برقم "1614" وقال: هذا حديث حسن صحيح.


ولأحمد من حديث ابن عمرو: "من ردته الطيَرة عن حاجته فقد أشرك"، قالوا: يا رسول الله، ما كفارة ذلك؟ قال: "أن يقول: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك""1".
وله من حديث الفضل بن عباس: "إنما الطيَرة ما أمضاك أو ردك""2".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التراجم:
1- ابن عمرو هو: عبد الله بن عمرو بن العاص –رضي الله عنهما- أحد السابقين المكثرين.
2- الفضل هو: الفضل بن العباس بن عبد المطلب ابن عم النبي –صلى الله عليه وسلم-.
فقد أشرك: لأنه لم يُخلص توكله على الله بالتفاته إلى غيره.
كفارة ذلك: أي: ما يقع من الطيرة.
لا إله غيرك: أي: لا معبود بحقٍّ سواك.
إنما الطيرة: أي: المنهي عنها.
ما أمضاك: أي: حملك على المضيّ فيما أردت.
أو ردّك: عن المضي فيه.
المعنى الإجمالي للحديث:
يخبر –صلى الله عليه وسلم- أن الطيرة المنهي عنها والتي هي شركٌ، حقيقتها وضابطُها ما حمل الإنسان على المضيّ فيما أراده أو رده عنه اعتماداً عليها، فإذا ردته عن حاجته التي عزِم عليها كإرادة السفر ونحوه فقد ولَج باب الشرك وبرئ من التوكل على الله وفتح على نفسه باب الخوف. ومفهوم الحديث أن من لم تثنِه الطيرة عن عزمه فإنها لا تضره. ثم أرشد –صلى الله عليه وسلم- إلى ما تدفع به الطيرة من الأدعية فيما فيه الاعتماد على الله والإخلاص له في العبادة.
مناسبة الحديثين للباب:

أن فيهما بياناً لحقيقة الطيرة الشركية.
ما يستفاد من الحديثين:
1- أن الطيرة شركٌ.
2- أن حقيقة الطيرة الشركية ما دفعت الإنسان إلى العمل بها.
3- أن ما لم يؤثِّر على عزم الإنسان من التشاؤم فليس بطيَرة.
4- معرفة الذكر الذي تُدفع به الطيرة عن القلب وأهميته للمسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"1" أخرجه أحمد "2/220".
"2" أخرجه أحمد "1/213".



يتبع باب ما جاء في التنجيم
 
باب ما جاء في التنجيم
قال البخاري في صحيحه: قال قتادة: "خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يُهتدى بها. فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ وأضاع نصِيْبَه، وتكلّ‍ف ما لا علم له به""1" انتهى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مناسبة الباب لكتاب التوحيد:
لمّا كان بعض التنجيم باطلاً، لِما فيه من دعوى مشاركة الله في علم الغيب، وتعلُّق القلب بغير الله، ونسبة التصرف إلى النجوم، وذلك ينافي التوحيد، ناسب أن يُعقد له بابٌ هنا يبين فيه الممنوع والجائز منه، ليكون المسلم على بصيرةٍ من ذلك.
ما جاء في التنجيم: أي: ذكرُ ما يجوز منه وما لا يجوز منه وذمُّه وتحريمه وما ورد من الوعيد فيه. والتنجيم هو: الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية، وهو ما يسمّى بعلم التأثير.
قال البخاري في صحيحه: أي: تعليقاً.
خلق الله النجوم لثلاثٍ: هذا مأخوذٌ من القرآن الكريم.
زينةً للسماء: إشارة إلى قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك: 5].

ورجوماً للشياطين: إشارة إلى قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5].
وعلامات: أي دلالات على الجهات والبلدان وغير ذلك.
يُهتدى بها: أي: يهتدي بها الناس إشارة إلى قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 97].
فمن تأول فيها غير ذلك: أي: من زعم فيها غير ما ذكره الله تعالى في هذه الثلاث فادعى علم الغيب.
فقد أخطأ: حيث تكلم رجماً بالغيب.
وأضاع نصيبه: أي: حظّه من عمره؛ لأنه اشتغل بما لا فائدة فيه، بل فيه مضرّة.
المعنى الإجمالي للأثر:

أن قتادة رحمه الله يذكر الحكمة التي خلق الله من أجلها النجوم –كما ذكره الله في كتابه- رداً على الذين ظهروا في عصره، ويعتقدون في النجوم غير ما ذكره خالقها في كتابه. وهؤلاء قالوا بلا علمٍ، وأفنوا أعمارهم فيما يضرّهم، وكلّفوا أنفسهم ما ليس في مقدورها الحصول عليه. وهكذا كل من طلب الحق من غير الكتاب والسنة.
مناسبة الأثر للباب:

أن فيه بيان الحكمة في خلق النجوم –كما ذكرها الله في كتابه- والرد على من زعم في النجوم حكمةً تخالف ما ذكره الله فيها.
ما يستفاد من الأثر:
1- بيان الحكمة في خلق النجوم كما دلّ عليها القرآن.
2- الرد على من زعم أن النجوم خُلقت لحكمة غير ما ذكر الله فيها.
3- أنه يجب الرجوع إلى كتاب الله؛ لبيان الحق من الباطل.
4- أن من طلب الهدى من غير الكتاب والسنة فقد الصواب وضيّع وقته وتكلّف ما لا قدرة له في الوصول إليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"1" أخرجه البخاري معلقاً في كتاب بدء الخلق، باب في النجوم "ص 614" ط بيت الأفكار الدولية.

وكره قتادة تعلم منازل القمر، ولم يرخص ابن عيينة فيه. ذكره حرب عنهما، ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التراجم:

1- ابن عيينة: أي: سفيان بن عيينة.
2- حربٌ: أي: حربٌ الكرمانيّ من جلة أصحاب أحمد.
3- أحمد: أي الإمام أحمد بن حنبل.
4- وإسحاق: أي: إسحاق بن راهَوَيْه.
منازل القمر: التي ينزل القمر في كل ليلة منزلة منها، وهي ثمانٍ وعشرون منزلة، ومعرفة ذلك تسمى بعلم التسيير.
 
الغرض من هذا السياق:
بيان خلاف العلماء في حكم تعلم منازل القمر الذي هو: "علم التسيير" الذي الغرض منه الاستدلال به على القبلة، وأوقات الصلوات، ومعرفة الفصول. فإذا كان هذا اختلافهم في هذا النوع الذي لا محذور فيه حسْماً للمادة؛ -لئلا يتوصل إلى الممنوع- فما بالك بمنعهم من تعلُّم علم التأثير الذي هو ضلالٌ وخطَرٌ.



وعن أبي موسى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، وقاطع الرحم، ومصدِّق بالسحر""1" رواه أحمد وابن حبان في صحيحه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ترجمة أبي موسى: هو أبو موسى الأشعريّ عبد الله بن قيس، صحابي جليل مشهور، مات بالكوفة سنة 50 هـ.
لا يدخلون الجنة: هذا من نصوص الوعيد التي تُمر كما جاءت.
مدمن الخمر: المداوم على شربها حتى مات ولم يتب.
قاطع الرحم: أي: الذي لا يقوم بواجب القرابة.
ومصدِّقٌ بالسحر: الذي من أنواعه التنجيم، كما مر في الحديث: "من اقتبس شُعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر".
المعنى الإجمالي للحديث:
يخبر –صلى الله عليه وسلم- على وجه التحذير أن ثلاثةً من العصاة لا يدخلون الجنة:
الأول: المداوم على شرب المسكر من أيّ شيء كان.
الثاني: الذي لا يقوم بواجب القرابة التي أمر الله بصلتها.
الثالث: مصدِّقٌ بالسحر الذي يجمع أنواعاً كثيرة وأشكالاً متعددة. ومنها التنجيم.
مناسبة الحديث للباب:

أن فيه وعيد مصدق بالسحر، ومنه التنجيم الذي هو موضوع الباب.

ما يستفاد من الحديث:
1- تحريم التنجيم وأنه من الكبائر؛ لأنه داخلٌ في السحر الذي لا يدخل الجنة من صدّق به.
2- تحريم شرب الخمر والوعيد الشديد في حقّ من مات ولم يتُب من شربها.
3- وجوب صلة القرابة وتحريم قطيعتها.
4- وجوب التكذيب بالسحر بجميع أنواعه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

"1" أخرجه أحمد في المسند "4/399" وابن حبان في موارد الظمآن برقم "1380، 1381".


يتبع باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء



 
باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء

وقول الله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مناسبة الباب لكتاب التوحيد:
لمّا كان نسبة نزول المطر إلى النوء على وجه الاعتقاد –أن له تأثيراً في نزوله- شركاً أكبر كاعتقاد جلب النفع أو دفع الضر في الأموات والغائبين، أو شركاً أصغر إن كان لا يعتقد أن لها تأثيراً وإنما هي أسباب لنزول المطر ناسب أن يَعقد له المصنف باباً في كتاب التوحيد للتحذير منه.
ما جاء: أي: من الوعيد.
في الاستسقاء: أي: طلب السقيا ومجيء المطر.
بالأنواء: جمع نَوء –وهي منازل القمر- وهي ثمانية وعشرون منزلة ينزل القمر كل ليلة منزلة منها، ومنه قوله تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [يس: 39] وهي عبارة عن ثمانية وعشرين نجماً معروفة المطالع في كل ثلاثة عشر يوماً يغيب واحدٌ منها مع طلوع الفجر. ويطلع رقيبه من المشرق وتنقضي كلها مع انقضاء السنة القمرية، وتزعم العرب في الجاهلية أنه إذا غاب واحدٌ منها وطلع رقيبه يكون مطرٌ وينسبونه إلى طلوع النجم أو غروبه ويقولون: مُطرنا بنوء كذا.
وتجعلون رزقكم: أي: تجعلون نصيبكم –من شكر نعمة الله بإنزال المطر – التكذيب.
أنكم تكذبون: بنسبة النعم لغير الله من الكواكب فتقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا.

 
المعنى الإجمالي للآية:
أن الله سبحانه وتعالى يعيب على المشركين كفرَهم بنعمة الله بنسبة نزول المطر إلى النجم، ويخبرُ أن هذا القول كذبٌ محضٌ؛ لأن نزول المطر إنما هو بفضل الله وتقدير ولا دخل فيه لمخلوق.

مناسبة الآية للباب:

أن الله سبحانه أنكر نزول المطر إلى غيره من النجوم والأنواء وسمّاه كذباً.
ما يستفاد من الآية:
1- إبطال نسبة نزول المطر إلى الأنواء.
2- أن نسبة نزول المطر إلى النوء كذب.
3- وجوب شكر الله على نعمه ووجوب نسبة نزول المطر إليه تفضلاً منه وإحساناً.


وعن أبي مالك الأشعري -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: "أربعة في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركوهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة على الميت". وقال: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها، تُقام يوم القيامة وعليها سِرْبال من قَطرَان ودرع من جَرَب""1". رواه مسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أ- ترجمة أبي مالك: اسمه الحارث بن الحارث الشامي صحابي.
من أمر الجاهلية: المراد بالجاهلية هنا ما قبل البعثة؛ سمُّوا بذلك لفرط جهلهم، وكل ما يخالف ما جاء به الرسول –صلى الله عليه وسلم- فهو جاهليّة.
لا يتركونهن: أي: ستفعلها هذه الأمة إما مع العلم بتحريمها أو مع الجهل بذلك.
الفخر بالأحساب: أي: التعاظم على الناس بالآباء ومآثرهم.
والطعن في الأنساب: أي: الوقوع فيها بالعيب والتنقص.
والاستسقاء بالنجوم: أي: نسبة السقيا ومجيء المطر إلى النجوم والأنواء.
والنياحة: أي: رفع الصوت والندب إلى الميت.
تقام يوم القيامة: تبعث من قبرها وتوقف يوم الحساب والجزاء.
سربال من قطران: أي: ثوبٌ من نحاس مذاب تلطّخ به فيصير كالثوب.
دِرع: الدرع: ثوب ينسج من حديد، يلبس في الحرب.من جَرَب: الجرب مرض جِلدي.
المعنى الإجمالي للحديث:

يخبر النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه سيستمر في الأمة شيءٌ من المعاصي التي كان يفعلها الناس قبل البعثة، وذلك يتمثل في أربع خصال هي: التعاظم بالآباء مع أنه لا شرف إلا بالتقوى، وتنقّص أنساب الناس وعيبُها، ونسبة نزول المطر إلى طلوع النجوم والأنواء، ورفع الصوت بالبكاء على الميت وندبه. ثم يبين الوعيد في حق الخصلة الأخيرة بأن من استمر عليها من غير توبة فإنه يأتي يوم القيامة ملطخاً جسمُه بالنحاس المذاب حتى يكون ذلك كالقميص، لتشتعل به النار، وتلتصق بجسمه وتنتن رائحته.
مناسبة الحديث للباب:

أن فيه دليلاً على تحريم الاستسقاء بالأنواء، وأنه من أمور الجاهلية.
ما يستفاد من الحديث:
1- تحريم الاستسقاء بالأنواء، وأنه من أمور الجاهلية.
2- أن ما كان من أمر الجاهلية لا يتركه الناس كلهم.
3- أن ما كان من أمر الجاهلية وفعلِهم فهو مذمومٌ في دين الإسلام.
4- منع التشبه بالجاهلية.
5- تحريم الافتخار بالأحساب، وأنه من أمور الجاهلية.
6- تحريم الوقوع في الأنساب بذمّها وتنقّصها.
7- تحريم النياحة وبيان عقوبتها وأنها من الكبائر.
8- التوبة تكفر الذنب وإن عظُم.
9- أن المسلم قد يكون فيه شيء من خصال الجاهلية ولا يقتضي ذلك كفرُه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"1" أخرجه مسلم برقم "934".

ولهما عن زيد بن خالد قال: صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: "أتدرون ماذا قال ربكم؟" قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر. فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب. وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب""1".
ولهما من حديث ابن عباس بمعناه وفيه: قال بعضهم لقد صدق نوء كذا وكذا، فأنزل الله هذه الآية: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} إلى قوله: {تُكَذِّبُونَ}.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ترجمة زيد بن خالد: هو الجهني المدني صحابيّ مشهور.
صلى لنا: أي: صلى بنا، فاللام بمعنى الباء.
الحديبية: قريةٌ سميت ببئر هناك على مرحلة من مكة، تسمى الآن الشميسي.
إثر: بكسر الهمزة ما يعقب الشيء.
سماءٌ: مطرٌ سمي بذلك؛ لأنه ينزل من السماء وهي كل ما ارتفع.
من الليل: أي: كان في تلك الليلة.
فلما انصرف: أي: التفت إلى المأمومين وليس المراد الانصراف من المكان.
أتدرون؟ لفظ الاستفهام معناه التنبيه.
من عبادي: المراد العبودية العامة.
وكافرٌ: أي الكفر الأصغر.
مُطرنا بنوء كذا وكذا: أي: نسب المطر إلى غير الله وهو يعتقد أن المنزل له هو الله.
صدق نوء كذا وكذا: أي: صدق سحاب ومطر النجم الفلاني.
فلا أقسم: هذا قسمٌ من الله عز وجل وهو يقسم بما شاء من خلقه.
بمواقع النجوم: أي: مطالع الكواكب ومغاربها على قول الأكثر من المفسرين.
المعنى الإجمالي للحديث:

يذكر لنا هذا الصحابي الجليل ما كان من إرشاد النبي –صلى الله عليه وسلم- لأمته، بمناسبة نزول المطر، وما ينبغي لهم أن يقولوه عند ذلك، فيروي –صلى الله عليه وسلم- عن ربه أنه حينما امتحن الناس بإنعامه عليهم بإنزال الغيث الذي فيه حياتهم، انقسموا إلى قسمين:
قسمٌ اعترف بفضل الله ونسب النعمة إليه على وجه الشكر. وقسمٌ أنكر فضل الله ونسب النعمة إلى طلوع النجم أو غروبه وسُمي عمل إيماناً وعمل الثاني كفراً.
وفي رواية ابن عباس أن هذه الآيات وهي قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} وما بعدها نزلت في إنكار نسبة نزول المطر إلى النجوم.


مناسبة الحديث للباب:
أن فيه تحريم نسبة المطر إلى النجم وتسميته كفراً وكذباً.
ما يستفاد من الحديث:
1- تحريم نسبة نزول المطر إلى النجم وتسميته كفراً.
2- مشروعية تعليم الناس وتنبيههم على ما يخل بالعقيدة.
3- وجوب شكر الله على النعمة، وأنه لا يجوز إضافتها إلى غيره.
4- إلقاء التعليم على طريقة السؤال والجواب؛ لأنه أوقع في النفس.
5- أن من سُئل عما لا يعلم فإنه يتوقف ويكل العلم إلى عالمه.
6- وصف الله بالفضل والرحمة.
7- أن من الكفر ما لا يخرج من الملة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"1" أخرجه البخاري برقم "846" ومسلم برقم "71".



يتبع باب قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ} الآية.
 
باب قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ} الآية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تمام الآية: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [البقرة: 165].
مناسبة الباب لكتاب التوحيد:

لمّا كانت محبته سبحانه هي أصل دين الإسلام، فبكمالها يكمل دين الإنسان، وبنقصها ينقص توحيد الإنسان، نبّه المصنف على ذلك بهذا الباب.
أنداداً: أمثالاً ونظراء.
يحبونهم كحب الله: أي: يساوونهم بالله في المحبة والتعظيم.
والذين آمنوا أشد حباً لله: أي: من حب أصحاب الأنداد لله. وقيل: من حب أصحاب الأنداد لأندادهم.
معنى الآية إجمالاً:

يكذر تعالى حال المشركين في الدنيا، وما لهم في الآخرة من العذاب، حيث جعلوا لله أمثالاً ونظراء من خلقه يساوونهم بالله في المحبة والتعظيم. ويذكر سبحانه أن المؤمنين يخلصون المحبة لله كما يخلصون له سائر أنواع العبادة.
ما يستفاد من الآية:
1- أن من اتخذ ندّاً تساوى محبته بمحبة الله فهو مشركٌ الشرك الأكبر.
2- أن من المشركين من يحب الله حباً شديداً ولا ينفعه ذلك إلا بإخلاص المحبة لله.


وقوله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ} إلى قوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ...} الآية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الآية كاملة: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].

عشيرتكم: أقرباؤكم مأخوذ من العِشرة.
اقترفتموها: اكتسبتموها.
كسادها: فوات وقت نفاقها ورواجها.
ومساكن: منازل.
ترضونها: تعجبكم الإقامة فيها.
أحب إليكم: أي: إن كانت هذه الأشياء أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله.
فتربّصوا: أي: انتظروا ما يحل بكم من عقابه.
 
معنى الآية إجمالاً:
أمر الله نبيه أن يتوعد من أحب هذه الأصناف فآثرها أو بعضها على حب الله ورسوله وفعل ما أوجب الله عليه من الأعمال التي يحبها ويرضاها، كالهجرة والجهاد ونحو ذلك، فبدأ الله بالآباء والأبناء والإخوان وكذا الأصدقاء ونحوهم فمن ادّعى محبة الله وهو يقدم محبة هذه الأشياء على محبته فهو كاذب ولينتظر العقوبة.

مناسبة الآية للباب:

أن فيها وجوب تقديم محبة الله ومحبة ما يحبه الله من الأشخاص والأعمال على محبة ما سوى ذلك.
ما يستفاد من الآية:
1- وجوب محبة الله تعالى ومحبة ما يحبه.
2- وجوب حب النبي –صلى الله عليه وسلم-.
3- الوعيد على من كانت هذه الثمانية أو غيرها أحب إليه من دينه.


عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين""1" أخرجاه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا يؤمن أحدكم: أي: الإيمان الكامل.
حتى أكون أحب إليه: بنصب أحب خبر أكون.
والناس أجمعين: من عطف العام على الخاص.
المعنى الإجمالي للحديث:

يخبر –صلى الله عليه وسلم- أن أحداً لن يؤمن الإيمان الكامل الذي تبرأ به ذمته ويستحق به دخول الجنة حتى يقدم محبة الرسول –صلى الله عليه وسلم على محبة أقرب الناس إليه، وعلى محبة كل مخلوق، لأن بسببه –صلى الله عليه وسلم- حصول الحياة الأبدية، والإنقاذ من الضلال إلى الهدى، ومحبته –صلى الله عليه وسلم- تقتضي طاعته واتباع ما أمر به وتقديم قوله على قول كل مخلوق.
مناسبة الحديث للباب:

أن فيه دليلاً على وجوب تقديم محبة الرسول –صلى الله عليه وسلم- على محبة كل مخلوق، وأن تحقيق الإيمان مشروط بذلك.
ما يستفاد من الحديث:
1- وجوب محبة الرسول –صلى الله عليه وسلم- وتقديمها على محبة كل مخلوق.
2- أن الأعمال من الإيمان؛ لأن المحبة عمل القلب وقد نُفي الإيمان عمّن لم يكن الرسول –صلى الله عليه وسلم- أحب إليه مما ذُكر.
3- أن نفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام.
4- أن الإيمان الصادق لا بد أن يظهر أثره على صاحبه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"1" أخرجه البخاري برقم "15" ومسلم برقم "44".


ولهما عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله رسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار".
وفي رواية: "لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى ...""1" إلى آخره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولهما عنه: أي: وللبخاري ومسلم عن أنس.
ثلاثٌ من كنّ فيه: أي: ثلاث خصال من وُجدن فيه. وجاز الابتداء بثلاث؛ وإن كانت نكرة لأنها على نية الإضافة.

وجد بهن حلاوة الإيمان: لما يحصل له من لذة القلب ونعيمه وسروره.
أحب إليه: منصوبٌ على أنه خبر يكون.
مما سواهما: مما يحبه الإنسان بطبعه كالولد والأزواج ونحو ذلك.
أن يحب المرء: الذي يعتقد إيمانه وعبادته.
لا يحبه إلا الله: أي: لأجل طاعة الله.
أن يعود في الكفر: أي: يرجع إليه.
كما يكره أن يلقى في النار: يعني: يستوي عنده الأمران الإلقاء في النار أو العودة في الكفر.
وفي رواية: أي: للبخاري.

 
المعنى الإجمالي للحديث:
يخبر –صلى الله عليه وسلم- أن المسلم إذا توفّرت فيه ثلاث خصال هي: تقديم محبة الله ورسوله على محبة ما سواهما من أهل ومال. ويحب من يحبه من الناس من أجل إيمانه وطاعته لله لا لغرض دنيوي ويكره الكفر كراهيةً متناهيةً بحيث يستوي عنده الإلقاء في النار والرجوع إليه. من توفرت هذه الخصال الثلاث فيه ذاق حلاوة الإيمان فيستلذ الطاعات ويتحمل المشقات في رضا الله.

مناسبة الحديث للباب:

أن فيه فضيلة تقديم محبة الله ورسوله محمد –صلى الله عليه وسلم- على محبة ما سواهما.
ما يستفاد من الحديث:
1- فضيلة تقديم محبة الله ورسوله محمد –صلى الله عليه وسلم- على كل شيء.
2- فضيلة المحبة في الله.
3- أن المؤمنين يحبون الله تعالى محبة خالصة.
4- أن من اتصف بهذه الخصال الثلاث فهو أفضل ممن لم يتصف بها ولو كان المتصف بها كافراً فأسلم أو كان مذنباً فتاب من ذنبه.
5- مشروعية بغض الكفر والكافرين؛ لأن من أبغض شيئاً أبغض من اتصف به.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"1" أخرجه البخاري برقم "16" ومسلم برقم "43".

وعن ابن عباس رضي الله عنهما- قال: "من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبدٌ طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئاً""1" رواه بن جرير.
وقال ابن عباس في قوله تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة: 166] قال: المودة"2".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من أحب في الله: أي: أحب المؤمنين من أجل إيمانهم بالله.
ووالى في الله: أي: والى المؤمنين بنصرتهم واحترامهم وإكرامهم.
وأبغض في الله: أي: أبغض الكفار والفاسقين لمخالفتهم لربهم.
وعادى في الله: أي: أظهر العداوة للكفار بالفعل كجهادهم والبراءة منهم.
ولاية الله: بفتح الواو تولّيه لعبده بالنصرة والمحبة.
طعم الإيمان: ذوق الإيمان ولذته والفرح به.
مؤاخاة الناس: تآخيهم ومحبة بعضهم لبعض.
على أمر الدنيا: أي: لأجل الدنيا فأحبوها وأحبوا لأجلها.
وذلك: أي: المؤاخاة على أمر الدنيا.
لا يجدي على أهله شيئاً: لا ينفعهم أصلاً بل يضرهم.

المعنى الإجمالي للأثر:
يحصر ابن عباس رضي الله عنهما الأسباب التي توجب محبة الله لعبده ونصرته له في محبة أولياء الله، وبغض أعدائه، وإظهار هذه المحبة وهذه العداوة علانية بمناصرة المؤمنين ومقاطعة المجرمين وجهادهم. ويذكر أنه لن يذوق الإيمان ويتلذذ بطعمه من لا يتصف بذلك وإن كثُرت عبادته. ثم يذكر ابن عباس أن هذه القضية قد انعكست في وقته فصار الناس يتحابون ويباغضون من أجل الدنيا، وهذا لا ينفعهم بل يضرهم. ثم فسر هذه الآية الكريمة. {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} بأن المراد بها أن المحبة التي كانت بينهم في الدنيا تقطعت بهم يوم القيامة وخانتهم أحوج ما كانوا إليها، وتبرأ بعضهم من بعض، لما كانت هذه المحبة في غير الله.
مناسبة الأثر للباب:

أن فيه أن حصول محبة الله لعبده ونصرته له مشروطٌ بأمرين:
أحدهما: محبة أولياء الله وبغض أعدائه بالقلب.
ثانيهما: إظهار محبة أولياء الله وبغض أعدائه بالفعل من مناصرة أوليائه وجهاد أعدائه.
ما يستفاد من الأثر:
1- بيان الأسباب التي تُنال بها محبة الله لعبده ونصرته لعبده.
2- وصف الله بالمحبة على ما يليق بجلاله.
3- مشروعية وفضيلة الحب في الله والبغض في الله، وأنه لا يُغني عنهما كثرة الأعمال الصالحة.
4- مشروعية مناصرة المؤمنين وإعانتهم، وبغض الكافرين وجهادهم.
5- بيان ثمرة الحب في الله والبغض في الله من ذوق طعم الإيمان والتلذذ به.
6- ذم الحب والبغض من أجل الدنيا وبيان سوء عاقبته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"1" أخرجه ابن المبارك في الزهد "رقم 353".
"2" أخرجه الحاكم في المستدرك "2/272" وصححه ووافقه الذهبي.



يتبع باب قول الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175].

 
الوسوم
التوحيد تعرف ماذا
عودة
أعلى