المستقبل للاسلام

سابعاً :آداب وأحكام

1- صيغة دعاء القنوت:

(أ) يستحب أن يدعو الإمام بصيغة الجماعة.

(ب) ويكره أن يخص نفسه بالدعاء، لما في سنن أبي داود، والترمذي، عن ثوبان رضي الله عنه، قال :قال رسول الله صلى اله عليه وسلم :(لا يؤم عبد قوماً، فيخص نفسه بدعوة دونهم، فإن فعل فقد خانهم ) (44).

2- رفع اليدين في دعاء القنوت:

يستجيب رفع اليدين في دعاء القنوت (45)، لما صح عن أنس، رضي الله عنه، في قصة القرَّاء، الذين قُتلوا رضي الله تعالى عنهم، قال :(لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلما صلى الغداة يرفع يديه، يدعو عليهم، يعني على الذين قتلوهم)، قال البيهقي :ولأن عدداً من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، رفعوا أيديهم في القنوت. ثم روي عن أبي رافع، قال :(صليت خلف عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقنت بعد الركوع، ورفع يديه، وجهر بالدعاء).

وفي مسح الوجه باليدين، قولان، ونسب النووي إلى البيهقي، أن الصحيح عدم المسح، لأنه لم يحفظ فيه شيء عن أحد من السلف، وإن كان يروى عن بعضهم في الدعاء خارج الصلاة، ، فأما في الصلاة فهو عمل لم يثبت فيه خبر، ولا أثر، ولا قياس (46).

3- تأمين المأمومين:

ويستحب للمأموم أن يؤمن على الدعاء، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما، قال :(قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يؤمن من خلفه)، ويستحب له أن يشاركه في الثناء، لأنه لا يصح التأمين على ذلك، فكانت المشاركة أولى (47).

4- القنوت بين الإجهار والإسرار:

(أ) قال الشافعية :إن كان المصلي منفرداً، أسر به، وهكذا، إن كان مأموماً، ولم يجهر الإمام، قنت المأموم سراً، كسائر الدعوات، فإنه يوافق فيها الإمام سراً.

(ب) وإن كان إماماً، جهر، على المذهب الصحيح المختار، الذي ذهب إليه الأكثرون.

(ج) وقيل :يسر، كسائر الدعوات في الصلاة.

(د) إن جهر صلاة الإمام بالقنوت، فإن كان المأموم يسمعه، أمن على دعائه، وشاركه في الثناء في آخره، وإن كان لا يسمعه قنت سراً.

(هـ) في غير صلاة الصبح، إذا قنت، فالمغرب، والعشاء كالصبح.

(و) والجهر بالقنوت في جميع الصلوات، مسنود بسنة صحيحة، ففي صحيح البخاري في باب تفسير قول الله تعالى : (ليس لك من الأمر شئ ) (آل عمران :128)، عن أبي هريرة : (أن النبي صلى الله عليه وسلم، جهر بالقنوت في قنوت النازلة).

5- القنوت بين الترك والاستمرار:

ولا يعني ما ورد من تركه صلى الله عليه وسلم للقنوت، أكثر من ترك الدعاء، واللعن على الكفار، في قنوت النوازل، بعد، ما نزل قوله تعالى :(ليس لك من الأمر شئ ).

ويدل على ذلك ما صح عن النبي صلى الله عليه سلم، مما أخرجه الإمام البخاري عن أبي هريرة، أن رسول صلى الله عليه سلم، قنت في صلاة العتمة شهراً يقول في قنوته:

(اللهم انج الوليد بن الوليد)

(اللهم انج سلمة بن هشام)

(اللهم انج عياش بن ربيعة)

(اللهم انج المستضعفين من المؤمنين)

(اللهم اشدد وطأتك على مضر)

(اللهم اجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف).

قال أبو هريرة :وأصبح ذات يوم، فلم يدع لهم، فذكرت ذلك له، فقال :(أو ما تراهم قد قدموا) (48).

يقول الإمام النووي، في تأييد هذا المذهب :أما الجواب عن حديث أنس وأبي هريرة رضي الله عنهما، في قوله :(ثم تركه)، فالمراد ترك الدعاء على أولئك الكفار، ولعنتهم فقط، لا ترك جميع القنوت، أو ترك القنوت في غير الصبح.. وهذا التأويل متعين، لأن حديث أنس، في قوله :(لم يزل يقنت في الصبح حتى فارق الدنيا)، صحيح صريح، يجب الجمع بينهما. هذا الذي ذكرناه متعين للجمع، وقد روى البيهقي، بإسناده، عن عبدالرحمن بن مهدي الإمام، أنه قال :إنما ترك اللعن، ويوضح هذا التأويل، رواية أبي هريرة السابقة، وهي قوله:( ثم ترك الدعاء لهم).

والجواب عن حديث سعد بن طارق، أن رواية الذين أثبتوا القنوت، روي عنهم زيادة علم، وهم أكثر، فوجب، تقديمهم... (49).

6- رأي المنكرين استمرار القنوت، والتزامه في صلاة الصبح:

والمنكرون للقنوت في صلاة الصبح، على سبيل الالتزام المستمر، يذكرون أنه كان قنوت النوازل، أو يؤولونه بمعنى من معاني القنوت، وهو هنا، طول القيام بعد الركوع، ولم يكن طول القيام، مجرد سكوت، بل كان فيه الدعاء والثناء. والمراد بالدعاء هنا، مطلق الدعاء،لا دعاء القنوت المحفوظ. بل كان فيه الثناء على الله تعالى، وتمجيده والدعاء.. وقد انتصر لهذا الرأي، ابن قيم الجوزية، وتبعه الشوكاني، فأيده في عدم الاستمرار في قنوت الصبح، وأنه مختص بالنوازل في الصلوات كلها، دون تخصيص (50).

7- الإنصاف والاعتدال في التزام القنوت في صلاة الصبح:

ومع أن ابن القيم قد وقف مع المنكرين استمرار القنوت، والتزامه في صلاة الصبح، لكنه وقف موقف الاعتدال، والإنصاف، من مخالفيه في الرأي، حين لخص الهدي النبوي في القنوت فقال: (51)

والإنصاف الذي يرتضيه العالم المنصف، أنه صلى الله عليه وسلم، جهر، وأسر، وقنت، وترك، وكان إسراره أكثر من جهره. وتركه القنوت أكثر من فعله، فإنه إنما قنت عند النوازل، للدعاء لقوم، والدعاء على آخرين، ثم تركه لما قدم من دعا لهم، وتخلصوا من الأسر، وأسلم من دعا عليهم، وجاءوا تائبين، فكان قنوته لعارض، فلما زال ترك القنوت، ولم يختص بالفجر، بل كان يقنت في صلاة الفجر والمغرب، ذكره البخاري في صحيحه عن أنس (52).

ثم خلص في بيان الهدي النبوي في القنوت، حيث قال: وكان هديه، القنوت في النوازل خاصة، وتركه عند عدمها، ولم يكن يخصه بالفجر، بل كان أكثر قنوته فيها، لأجل ما شرع فيها من التطويل، ولاتصالها بصلاة الليل، وقربها من السحر وساعة الإجابة، وللتنزل الإلهي، ولأنها الصلاة المشهودة، التي شهدها الله وملائكته، أو ملائكة الليل والنهار (53).

8- سعة الهدي النبوي في القنوت، فعلاً وتركاً:

الأمر في القنوت، واسع أيضاً، التزاماً له في صلاة الفجر، أو الوتر، أو عند النوازل، كما سبق بيان ذلك في الأدلة، مع عرضنا لأقوال الفقهاء، والمجتهدين، وقد أحسن صاحب (زاد المعاد في هدي خير العباد)، حيث مدح الفقهاء من أهل الحديث، بأنهم أسعد بالهدي النبوي، من حيث أنهم يقنتون حيث قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتركونه حيث تركه، فيقتدون به في فعله وتركه.

ويقولون :فعله سنة، وتركه سنة، ومع هذا فلا ينكرون على من دوام عليه، ولا يكرهون فعله، ولا يرونه بدعة، ولا فاعله مخالفاً للسنة، كما لا ينكرون على ما أنكره عند النوازل، ولا يرون تركه بدعه، ولا تاركه مخالفاً للسنة، بل من قنت فقد أحسن، ومن تركه فقد أحسن (54).

ولعل هذا التسامح، هو الأقرب لسنة من وصفه ربه بالرأفة، والرحمة، في قوله تعالى :(لقد جآءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ) (التوبة :128)، من نجاه ربه، من أن يكون فظاً غليظ القلب، حاشاه، بل كان خلقه القرآن، يعفو، ويصفح، ويستغفر لأمته، ويشاورهم في الأمر، فإذا عزم على إمضائه، فإنه يتوكل على الله تعالى، قال تعالى :(ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين ) (آل عمران :159).

 
الخلاصة

* وهي إيجاز ما انتهت إليه هذه الدراسة، في القنوت، وأحكامه، وآدابه، وهو اختيارنا، ولا بد من الرجوع لما فصلته من أحكام قنوت النوازل، وخاصة ذكر دواعيه، في حياتنا المعاصرة اليوم، في وجه التحديات القائمة، والأخطار.. وإنه لمن النوازل حقاً، عدم اعتبار المسلمين لذلك، وعدم انتباههم، ومعرفتهم إلى أن ما حل بالمسلمين في مشارق الأرض، ومغاربها، يستدعي قراءة النوازل كما في فصل هذا الفصل.

* تدور معاني القنوت، على الطاعة، والاستجابة، والاستكانة، والخضوع، والخشوع، والإقرار بالعبودية، ثم تأتي بمعنى الطاعة عامة، والطاعة لله عزوجل، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، والطاعة في سكون، والطاعة في خشوع، والخشوع في الصلاة، وطول الركوع في الصلاة.. وعليه، فالقانت هو الخاشع في صلاته، الذي يطيل في صلاته، وركوعه.

* والقنوت، سنة مشروعة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذهب مالك إلى أن القنوت في صلاة الصبح مستحب، فيما ذهب الشافعي إلى أنه سنة. وقد أثبت الإمام البخاري سنية القنوت، ومشروعيه في الصلاة، حين بوب له في كتاب الوتر، من صحيحه، قال :(باب القنوت قبل الركوع، وبعده)، وقد علق على ذلك صاحب (فتح الباري) فقال :أثبت بهذه الترجمة- أي عنوان الباب- مشروعية القنوت، إشارة إلى الرد على من روي عنه، أنه بدعة كابن عمر.

* وقت القنوت:

في صلاة الصبح، وهو مذهب مالك، والشافعي، للحديث الصحيح عن أنس رضي الله عنه :(أن النبي صلى الله عليه وسلم، قنت شهراً، يدعو عليهم، ثم ترك، فأما في الصبح، فلم يزل يقنت، حتى فارق الدنيا).

وذهب أبو حنيفة، وأحمد، إلى أن وقت القنوت، هو الوتر في جميع السنة..وفي رواية عن أحمد، أن وقته الوتر، في النصف الأخير من رمضان.. والصحيح الذي قام عليه الدليل من هدى النبوة، مشروعية قنوت النوازل، في الصلوات الخمس، ويكون الدعاء فيه جهراً، بعد الرفع من الركوع.

* محل القنوت في صلاة الصبح:

قبل الركوع، في الركعة الأخيرة، وهذا مذهب مالك.. قال الشيخ على الصعيدي، صاحب حاشية العدوي :إنه مع كونه أصح قبل الركوع، لما فيه من الرفق بالمسبوق، لأنه الذي استقر عليه عمر رضي الله عنه، بحضور الصحابة، وماجاء عن أنس في ذلك، يدل على أن القنوت للحاجة بعد الركوع لا خلاف فيه عنه، وأما لغير الحاجة، فالصحيح أنه قبل الركوع، وقد اختلف عمل الصحابة في ذلك، والظاهر أنه من الاختلاف المباح.

* محل القنوت في النوازل:

بعد الرفع من الركوع، جهراً، وفي بيان الحكمة من جعل القنوت في النوازل بعد الرفع من الركوع جهراً، يقول ابن حجر العسقلاني :(وظهر لي أن الحكمة في جعل قنوت النازلة، في الاعتدال، دون السجود، مع أن السجود مظنة الإجابة، كما ثبت (اقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)، وثبوت الأمر بالدعاء فيه، أن المطلوب من قنوت النازلة أن يشارك المأموم الإمام، ولو بالتأمين، ومن ثم اتفقوا على أن يجهر به، بخلاف القنوت في الصبح، فاختلف في محله، وفي الجهر به.

* يجوز الجمع بين الأدعية الواردة في القنوت، وغيرها، مع اختيار جوامع الدعاء، والإخلاص، ومراعاة الاعتدال في الدعاء، ومناسبته للقيام، وحال المصلين.

* يستحب رفع اليدين، في دعاء القنوت، ويستحب للمأموم أن يؤمن على الدعاء، لما روي أن ابن عباس رضي الله عنهما قال :(قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يؤمن من خلفه).

* لا يعني ما ورد من تركه صلى الله عليه وسلم للقنوت، أكثر من أنه ترك الدعاء على الكفار، ولعنهم في قنوت النوازل، لنزول قوله تعالى :(ليس لك من الأمر شئ )، كما نجد ذلك في نص الحديث.

* الإنصاف الذي يرتضيه العالم المنصف، أنه صلى الله عليه وسلم، جهر، وأسر، وترك، وقنت، وكان إسراره أكثر من جهره.

* الأمر في القنوت، واسع، التزاماً له في صلاة الفجر، أو الوتر، أو عند النوازل، كما سبق ذلك مع الأدلة، وبيان آراء الفقهاء.

نسأل الله تعالى أن يتقبلنا وقراء هذا الفصل، والمسلمين كافة، وأن يوفقنا أجمعين لما يحب، ويرضى، وأن يجعلنا من عباد الله المخلصين، القانتين، الخاشعين، المطيعين، العابدين، الراكعين، الساجدين، المسبحين، المفتقرين إليه جل جلاله، والمفوضين أمرنا كله إليه تعالى، كما نسأله تعالى أن يفقهنا في الدين، وأن يزيدنا علماً. سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.

وصلى الله تبارك وتعالى، وسلم تسليماً كثيراً، على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
 
تطبيق الشريعة واثره فى اصلاح المجتمع


وتتناول هذه الدراسة، الشريعة، وأثر تطبيقها في استقرار المجتمع، وإصلاحه، فنبين أولاً، معنى الدين، وأنه يشمل جميع علاقات الحياة الدنيا، والآخرة، من العبودية لله تعالى وطاعته، والاستسلام لأمره، والتزام الصراط المستقيم، والاحتكام لشرع الله، وانفاذ أحكام القوانين الإسلامية، في شؤون الحياة، كلها، الأسرية، والمدنية، والجنائية، حتى يكون الدين كله لله تعالى،مع بيان معنى الشريعة، وأنها ما شرع الله لعباده من الدين، وشمولها للعقيدة، والشعائر، والشرائع- خلافاً للفهم المتأخر، من أنها القوانين، وربما الحدَّية منها خاصة- ثم نتناول معنى الحدود، لغة، واصطلاحاً، والتطور الدلالي لها، مع بيان أثر إقامة الحدود، وتطبيق الشريعة الإسلامية، عامة، في إصلاح المجتمع، عقيدياً، وأخلاقياً، واقتصادياً، وأمنياً،وبركة في الحياة، وتجاوباً شعبياً، وما يحققه انفاذ كل حد من مصالح للأفراد، والجماعات، وما يؤدي إليه ذلك، من إصلاح المجتمع، واستقراره..

كما تتناول أيضاً، أثر التوبة، في رفع الحدود، وإسقاط العقوبة، لفتح باب الأمل في رحمة الله للتوابين المتطهرين:(إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ) (البقرة:222). وخُتمت الدراسة، ببيان خصائص الشريعة الإسلامية.

من معاني..(الدِّين)

الدَّيان:من صفات الله، عزوجل، ومعناها :الحكم القاضي.. والديان :القهار، وهو فعال، من دان الناس، أي قهرهم على الطاعة، يقال :دنتهم فدانوا :أي قهرهم فأطاعوا.

وفي حديث أبي طالب، قال له عليه الصلاة والسلام :(أريد منهم- أي من قريش- كلمة واحدة تدين لهم العرب) (1)، أي تطيعهم، وتخضع لهم.

الدين :الجزاء، والمكافأة، ويوم الدين، يوم الجزاء، وفي المثل :كما تدين تدان، أي كما تجازى، تُجازى. وقوله تعالى :(أءنا لمدينون ) (الصافات :53)، أي :لمجزيون، محاسبون، ومنه الدَّيان، في صفة الله عزوجل.

الدين :الحساب، ومنه قوله تعالى :(ملك يوم الدين ) (الفاتحة:3)، وقيل :معناه، مالك يوم الجزاء.

والدين :الطاعة، وقد دنته ودنت له، أي أطعته، يقال :دان بكذا، ديانة، وتدين به، فهو ديِّن، ومتدين.

والدين هو الإسلام، وقد دنت به.

والدين :العادة، والشأن، لقول العرب :ما زال ذلك ديني، وديدني، أي عادتي، وفي الحديث :(الكًيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والأحمق من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله ) (2).

قال أبو عبيدة :(دان نفسه، أي أذلها، واستبعدها، وقبل حسابها)

وفي التنزيل العزيز :(ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك ) (يوسف :76)، قال قتادة :في قضاء الملك، أي الأغراض.. دان الرجل، إذا عز.. ودان، إذا أطاع.. ودان إذا عصى.. ودان إذا اعتاد، خيراً أو شراً...ودان إذا أصابه الدين، وهو داء.

وقوله تعالى :(أَءِنَّا لَمَدِينُون َ) (الصافات :53) أي مملوكون. وقوله تعالى :(فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها ) (الواقعة :86)، قال الفراء :غير مدينين، أي مملوكين، قال :سمعت غير مجزين.

ودنته، أدينه، ديناً :سسته.. ودنته، ملكته.. ودينته القوم :وليته سياستهم.

الدين :يتدين به الرجل.

الدين:السلطان.

الدين :الورع.

الدين :القهر.

الدين :المعصية.

الدين :الطاعة (3).

معاني الدين في لغة القرآن الكريم

ترد كلمة الدين، في آيات القرآن الكريم، على وجوه من المعاني المتعددة، تفهم بحسب ورودها، في سياق المعاني المرادة في مواضعها من تلك الآيات، وقد تناول الحكيم الترمذي هذه المعاني بالدراسة، والتحليل في كتابه :(تحصيل نظائر القرآن)، فقال :وأما قوله تعالى :(الدين) على كذا وجه :فالدين هو الخضوع، يقال :دان له، أي خضع له، مشتق من الدون، وكل شيء، دون شيء فهو له خاضع، فخلق الآدمي، والكبر فيه، وراثة من صلابة الأرض وقوتها، واقتضاهم أن يدينوا له، أي يخضعوا له، ويخضعوا لعظمته.

فالخضوع، والخشوع، مبتدأ من القلب إلى الأركان، حتى يظهر على الأركان بالائتمار بأمره، والتناهي عن نهيه، والقبول لأحكامه، والانقياد له.

1- شهادة ألا إله إلا الله :وإنما صار الدين في هذا المكان، شهادة ألا إله إلا الله (4)، لأن الموحد لا يشهد بهذه الشهادة، إلا بعد خضوعه لله، وسقوطه بين يديه تذللاً، وتسليماً لرقبته.

2- الحساب :وإنما صار الدين (الحساب) (5) في مكان آخر، لأنه إذا جاء الحساب، دان العبد، فلم يقدر أن يجحد، فإن جحد نطقت الجوارح، فالحساب من الله، مطالبته ما وجب له على العبد، فيما عهد إليه، وفيما قلده، وفيما ضمن العبد، فيطالبه بالوفاء لذلك.. فذاك كله خضوع، يحل بالعبد.

3- حكم الله وقضاؤه :وإنما صار الدين، حكم الله وقضاءه في مكان آخر :لأنه إذا حل بالعبد حكمه وقضاؤه، دان العبد له.

4- حكم الملك الذي حبس يوسف عليه السلام :وإنما صار الدين حكم الملك (6)، الذي حبس يوسف عليه السلام، لما وضحنا أن الدين :الخضوع عند الحكم.

5- الإخلاص، والإسلام، والإيمان :وإنما صار الدين الإخلاص، والإسلام، والإيمان (7)، :فإنما أسلم المسلم، وأشرك المشرك، خضوعاً لله، وللوثن، ليقربه إلى الله زلفى، لذلك وصف الله في تنزيله عز شأنه فقال :(ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) (الزمر :3) وإنما سمي شرك المشرك، وكفره، ديناً، لأنه اتخذ إلها من دونه، فخضع له، فقال :(لكم دينكم ولي دين) (الكافرون :6)، أي لكم خضوعكم لمن خضعتم له، ولي خضوعي لمن خضعت له (8).

معنى الدين في الاصطلاح:

والدين بمعناه الاصطلاحي، شامل لمعانيه الواردة في لغة القرآن الكريم، من أنه الحساب، والجزاء، والمكافأة، وبمعنى الطاعة، والخضوع، والانقياد لأمر الله عزوجل، وبمعنى الحكم، والقضاء، والقانون الجنائي، والحدود خاصة، وهذا المعنى الأخير بحاجة إلى بيان، لكثرة الشبه، التي آثارها عليه الغزو الأجنبي، وما تبعه من نظم الحكم العلمانية.

وقد جاء بهذا المعنى في قوله تعالى :(ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك ) (يوسف : 76)، أي في سطانه، وحكمه، وقضائه.. أما في سورة النور فقد جاءت الآية :(الزانية والزاني فاجلدوا كل منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الأخر ) (النور :2)، في إشارة خاصة إلى الحدود، وهي جزء من أحكام القوانين الجنائية، التي يختص بالحكم فيها الحاكم، أو من أنابه عنه.

ويلزم من ذلك، وجوب إقامة الدولة الإسلامية، والحكم بالشريعة الإسلامية، مع ما يتبع ذلك من فقه سياسة الأمة، وسيادة الدولة.

 
معنى .. (الشريعة)

أولاً :معنى الشريعة في اللغة العربية:

الشِّرعة، والشريعة، في كلام العرب: مَشْرَعُة الماء، وهي موردُ الشاربة، التي يُشْرَعُها الناس، فيشربون منها، ويستقون.. والعرب لا تسميها شريعة، حتى يكون الماء عداً، لاانقطاع له، ويكون ظاهراً معيناً، لا يُسقى بالرَّشاء.. كما ترد كلمة (شرع) بمعنى أظهر، وشرع فلان، إذا أظهر الحق، وقمع الباطل.

والشريعة :العادة، وهذا شرعة ذلك، أي مثاله.. والشارع، الطريق الأعظم، الذي يَشْرَعُ فيه الناس عامة .وأشرع الشيء :رفعه جداً، وحيتانُُ شُرُوعُُ :رافعة رؤوسها (9).

ثانياً :معنى الشريعة كما وردت في القرآن الكريم:

(أ) يقول الله تعالى :(شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً الذي أوحينآ إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولاتتفرقوا فيه ). (الشورى :13)، ويقول القرطبي في تفسير هذه الآية :شرع لكم من الدين، ما شرع لقوم نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ثم بين ذلك بقوله تعالى :(أن أقيموا الدين )، وهو توحيد الله، وطاعته، والإيمان برسله، وكتبه، وبيوم الجزاء، وبسائر ما يكون الرجل بإقامته مسلماً.. ولم يرد المصالح، التي هي مصالح الأمم، على أحسن أحوالها، فإنها مختلفة، متفاوتة. قال تعالى :(لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً ) (المائدة :48). ويتابع القرطبي تفسير هذه الآية، مسنداً ذلك إلى القاضي أبي بكر بن العربي، أنه قال :ثبت في الحديث الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث الشفاعة الكبير المشهور :(ولكن ائتوا نوحاً فإنه أول رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض…..) (10).

وهذا صحيح لا إشكال فيه، كما أن آدم أول نبي بغير إشكال، لأن آدم لم يكن معه إلا نبوة، ولم تفرض له الفرائض، ولا شرعت له المحارم، إنما كان نبياً على بعض الأمور، واقتصاراً على ضرورات المعاش، وأخذاً بوظائف الحياة، والبقاء، واستقر المدى، إلى نوح، فبعثه الله بتحريم الأمهات، والبنات، والأخوات، ووظف عليه الواجبات، وأوضح له الآداب في الديانات.. ولم يزل ذلك يتأكد بالرسل، ويتناصر بالأنبياء، صلوات الله عليهم، واحداً بعد واحداً، وشريعة إثر شريعة، حتى ختمها الله بخير الملل، ملتنا، على لسان أكرم الرسل، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فكان المعنى :أوحيناك يا محمد، ونوحاً، ديناً واحداً، يعني الأصول، التي لا تختلف فيها الشريعة، وهي :التوحيد، والصلاة، والزكاة، والحج، والتقرب إلى الله بصالح الأعمال، والزلف إليه بما يرد القلب، والجارحة إليه، والصدق، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وتحريم الكفر، والقتل، والزنا، والأذية للخلق، كيفما تصرفت، والاعتداء على الحيوانات، كيفما دار، واقتحام الدناءات، وما يعود بخرم المروءات، فهذا كله مشروع، ديناً واحداً، وملة متحدة، لم تختلف على ألسنة الأنبياء، وإن اختلفت أعدادهم، وذكر قوله تعالى :(أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) (الشورى :13)، أي اجعلوه قائماً، يريد دائماً، مستمراً، محفوظاً، مستقراً، من غير خلاف فيه، ولا اضطراب، فمن الخلق من وفي بذلك، ومنهم من نكث :(فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ) (الفتح :10) .. واختلف الشرائع وراء هذه، في معان حسبما أراده الله، فما اقتضت المصلحة، وأوجبت الحكمة، وَضَعَهُ في الأزمنة على الأمم (11).

(ب) (ثم جعلناك على شريعةٍ من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهوآء الذين لا يعلمون ) (الجاثية :18)، فالشريعة، من شرع الله لعباده، من الدين، والجمع :الشرائع.. والشرائع في الدين، المذاهب، التي شرعها الله لخلقه. فمعنى :(جعلناك على شريعةٍ من الأمر )، أي على منهاج واضح من أمر الدين، يشرع بك إلى الحق.

قال ابن العربي :والأمر يرد في اللغة بمعنيين، أحدهما بمعنى الشأن، كقوله :(فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيدٍ ) (هود:97).. والثاني أحد أقسام الكلام، الذي يقابله النهي، وكلاهما يصح أن يكون مراداً ها هنا، وتقديره :ثم جعلناك على طريقة من الدين، وهي ملة الإسلام، كما قال تعالى :(ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين ) (النحل :123). ولاخلاف في أن الله تعالى، لم يغاير بين الشرائع في التوحيد، والمكارم، والمصالح، وإنما خالف بينهما في الفروع، حسبما علمه سبحانه (12). قال ابن عباس :(على شريعة)، أي هدى من الأمر.

وقال قتادة :الشريعة :الأمر، والنهي، والحدود، والفرائض.

وقال مقاتل :البينة، لأنها طريق إلى الحق.

وقال الكلبي :السنة، لأنه يستند بطريقة من قبله من الأنبياء.

وقال ابن دريد :الدين، لأنه طريق النجاة.

ج- وفي تفسير قوله تعالى :(لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجا ً) (المائدة :48) يذهب الإمام القرطبي، إلى دلالة هذه الآية :(على عدم التعليق بشرائع الأولين)، وأن (الشريعة، الطريقة الظاهرة، التي يتوصل بها إلى النجاة).. والمنهاج: الطريق المستمر، وهو المنهج.. والمنهج، أي البين، وروى ابن عباس، والحسن، وغيرهما :(شرعةً ومنهاجاً)، سنة، وسبيلاً.. ومعنى الآية :أنه جعل التوراة لأهلها، والإنجيل لأهله، والقرآن لأهله.

وهذا في الشرائع والعبادات.. والأصل، والتوحيد، لا اختلاف فيه. روي معنى ذلك عن قتادة. وقال مجاهد :الشرعة، والمنهاج، دين محمد عليه السلام، وقد نسخ به كل ما سواه (13).

الخلاصة في بيان معنى الشريعة:

والخلاصة، أن هذه الآيات، وما سبق في تفسيرها، تدل على شمول معنى الشريعة، لكل ما جاء به الدين، من مباحث الإيمان، وفقه أركان الإيمان، والإسلام، والأسرة، ووجوب الحكم بما شرع الله، حتى يهتدي الناس بذلك في شؤون حياتهم كلها، في الاعتقاد، والشعائر التعبدية، والشرائع، التي تنظم حياة المجتمع، في قوانين الأخلاق، والآداب، والمعاملات المدنية، والجنائية، التي تشمل الأحكام الحدية والتعزيرية. ثم أن الله قد أغنى المسلمين، بما شرعة في دين الإسلام، عن متابعة ما لدى الملل الأخرى، أو النظم الغربية، أو الشرقية.

وتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، يعني الحكم بما أنزل الله، وهو واجب ديناً، قال تعالى :(وأن احكم بينهم بمآ أنزل الله ولا تتبع أهوآءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ) (المائدة :49).. (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون ) (المائدة :50).. (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) (نساء:58).. (إن الله يأمر بالعدل والإحسان ...) (النحل :90).. (فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لايجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما ً) (النساء:65).

وأخيراً، فإنه لا سبيل لتحقيق العدل، والإحسان، وأداء الأمانات، إلا بتحكيم الشريعة، والتسليم الكامل لذلك. ثم إنه لا خيار لمسلم، يؤمن بالله، واليوم الآخر، إلا في هذا الاحتكام لشرع الله، وطاعه الله، ورسوله :(وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) (الأحزاب :36).

الحد.. في اللغة.. والاصطلاح

أولاً :معنى كلمة (حد) في اللغة:

الحد مفرد، وجمعه حدود، وترد كلمة الحد، في اللغة العربية، على عدة معان:

1- بمعنى الفصل بين الشيئين :لئلا يختلط أحدهما بالآخر، أو لئلا يتعدى أحدهما على الآخر.. ومنتهى كل شيء حده، ومنه حدود الأرضين، وحدود الحرم.

2- بمعنى التمييز :وحَّددَه :ميزه، وحد كلٍّ، منتهاه، لأنه يرده، ويمنعه عن التمادي.

3- بمعنى المنع :وحد الرجل عن الأمر، يحده حداً :منعه، وحبسه، تقول :حددت فلاناً عن الشر، أي منعته.

4- بمعنى المخالفة، والمعادة، والمحادة :المعادة، والمخالفة، والمنازعة، وهو مفاعلة من الحد، كأن كل واحد منهما يجاوز حده إلى الآخر.

5- بمعنى الحلال، والحرام :

وحدود الله تعالى، التي بين تحريمها، وتحليلها، وأمر ألا يُتعدى شيء منها، فيتجاوز إلى غير ما أُمر فيها، أو نهي عنه منها، ومنع من مخالفتها، قال الأزهري :فحدود الله عزوجل ضربان:

ضرب منها :حدود حدها الناس، في مطاعمهم، ومشاربهم، ومناكحهم، وغيرها، مما أحل وحرم، وأمر بالانتهاء عما نهى عنه منها، ونهى عن تعديها.

والضرب الثاني :عقوبات، بأن جعلت لمن ارتكب ما نهي الله عنه، كحقد السرقة، وكحد القاذف، لأنها تحد، أي تمنع من إتيان ما جعلت عقوبات فيها.

وسميت الأولى حدوداً، لأنها نهايات، نهي الله عن تعديها.

قال ابن الأثير :فكأن حدود الشرع، فصلت بين الحلال، والحرام، فمنها ما لا يقرب، كالفواحش المحرمة، ومنه قوله تعالى :(تلك حدود الله فلا تقربوها ) (البقرة :187)، ومنها ما لا يتعدى، كالمواريث المعينة، وتزوج الأربع، ومنه قوله تعالى :(تلك حدود الله فلا تعتدوها ) (البقرة :229).

ومنها الحديث- في قول ماعز)- إني أصبت حداً فأقمه علي، أي أصبت ذنباً، أوجب علي حداً، أي عقوبة (14).

وفي حديث أبي العالية، أن اللمم- الوارد في الآية :(إلا اللمم ) (النجم :32) - ما بين الحدين، حد الدنيا، وحد الآخرة، يريد بحد الدنيا :ما تجب فيه الحدود المكتوبة، كالسرقة، والزنا، والقذف. ويريد بحد الآخرة :ما توعد الله تعالى عليه العذاب، كالقتل، وعقوق الوالدين، وأكل الربا.. فأراد أن اللمم من الذنوب، ما كان بين هذين، فيما لم يوجب عليه حداً في الدنيا، ولا تعذيباً في الآخرة.

ثانياً :معنى الحد في الاصطلاح:

الحد، عقوبة مقدرة لأجل حق الله، فيخرج التعزير، لعدم تقديره، أو القصاص، لأنه حق آدمي (15).

وسميت عقوبات المعاصي، حدوداً، لأنها تمنع العاصي، من العود إلى تلك المعصية، التي حد لأجلها، في الغالب (16).

قال ابن حجر العسقلاني :وقد حصر بعض العلماء، ما قيل بوجوب الحد به، في سبعة عشر شيئاً، فمن المتفق عليه :الردة، والحرابة- ولم يتب قبل القدرة عليه-، والزنا، والقذف، وشرب الخمر- سواء أسكر أم لا -والسرقة (17).

وقد ذهب ابن رشد، إلى إطلاق كلمة الحد، على كل العقوبات المقدرة، في الكتاب والسنة، حيث يقول :(الجنايات، التي لها حدود مشروعة، جنايات على الأبدان، والنفوس، والأعضاء، وهي المسماة، قتلاً، وجرماً.. وجنايات على الزوج، وهي المسماة، زنا، وسفاحاً، وجنايات على الأموال...) (18).

هذا، ويتبين مما سبق، أن الحدود كانت تطلق بتوسع، حتى بلغ بعض الفقهاء، بمعناها الاصطلاحي، ما أشار إليه ابن حجر العسقلاني، في قوله المتقدم.. أما جمهور الفقهاء، فقد اتفقوا على الحدود الخمسة التالية :السرقة، والحرابة، والزنا، والقذف، والخمر، واختلفوا فيما سواها.

 
العقوبات الحدية :

وهي سبع عقوبات:

1- الجلد، ودليله:

(أ) قوله تعالى :(الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدة ٍ) (النور :2).

(ب) وقوله تعالى :(والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً ولا تقبلوا لهم شاهدةً أبداً وأولئك هم الفاسقون ) (النور :4).

(ج) لما صح في السنة، من جلد شارب الخمر، وهكذا فعل الخلفاء الراشدون.

2- القطع :

ودليله، قول الله تعالى :(والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزآء بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم ) (المائدة :38).

3- القتل.

4- الصلب.

5- القطع من خلاف.

6- النفي.

ويدل على ذلك قوله تعالى :(إنما جزآؤا الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يُقتّلُوا أو يُصلّبُوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزى فى الدنيا ولهم في الأخرة عذاب عظيم 33 إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله عفور رحيم ) (المائدة :33-34).

7- الرجم، وقد ثبت بالسنة النبوية الصحيحة.

أثر إقامة الحدود في إصلاح المجتمع

(أ) عقدياً :سلامة الاعتقاد، واتساق المسلم مع نفسه، بتحكيم الشريعة، وحفظ الدين، وصيانته في وجه المرتدين، الخارجين عليه، المحادين لله، ورسوله.

(ب) أخلاقياً :الاستقامة، والعفاف، والطهر، وحسن المظهر العام، وتعليم الأمة أفرداً، وجماعات، وتربيتها على حب الفضيلة، وكراهية الرذيلة، وبغض أهلها، وشهود ما يجري عليهم، من إقامة الحد :(وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) (النور :2)، مقارنة بما في العالم الغربي، من جرائم متكاثرة، ربما رأوها معيار حضارة، وتقدم، قياساً على مقدار ما يستهلكونه، من طاقة كهربائية.

يضاف إلى ذلك :استقرار الأسر، وحمايتها من التشرد، وحفظ الأعراض، وصيانة الأنساب، وطهارة المجتمع، وسد أبواب الفساد، والفحش، والبذاءة، والتبذير، وإفساد العقول، ورعاية مصلحة المجتمع في ذلك كله، وإن وقع الضرر في ذلك على أفراد معينين.

(ج) اقتصادياً :حفظ المال، وتنميته، وحماية الملكية، وإعلاء العمل، وحسن استثمار الوقت.

(د) أمنياً :الأمن على النفس، والعرض، وفي الممتلكات، لأن السرقة عدوان على الملكية، والحرز، وما يتحقق من أمن اجتماعي، بإقامة الشريعة.

(هـ) التجاوب الشعبي :لأن الشعب، يدرك بفطرته، أنه تتجلى آية كمال الإيمان، ومنتهى الصدق، في توجه الدولة إلى الله، بإقامة الحاكم لشرع الله، مع العناية بتنفيذ الحدود، لأن في ذلك مباينة تامة، ومفارقة كاملة، للقوانين الوضعية.. وفي سبيل ذلك، يبايع الحاكم، إماماً للمسلمين، وتبذل له الطاعة الخالصة، ويجاهد وراءه، ويتحمل الشعب المعاناه في المعاش، والحصار الاقتصادي.

(و) بركة الحياة :حيث تتنزل البركة على المجتمع، فينعم الفرد، والجماعة، بفضل الاستجابة لأمر الله تعالى، الاستقامة على شرع الله، بنزول الغيث، ونماء الزرع، وكثرة القوت، والأمن من فتنة الجدب، والجوع، واختلال الأمن، وانتشار الخوف، والرعب، يقول الله تعالى :(فليعبدوا رب هذا البيت * الذى أطعمهم من جوعٍ وءامنهم من خوف ) (قريش :3-4) :وقال تعالى :(ولو أن أهل القرى ءامنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركاتٍ من السماء والأرض ) (الأعراف :96).. ويقول سبحانه وتعالى :(وألو استقموا على الطريقة لأسقيناهم مآءً غدقاً ) (الجن :16).

أثر تطبيق حد الزنا في إصلاح المجتمع

الردع الحاسم، بعقوبة تكافئ جريمة مقيتة، حمل عليها سعار الشهوة البهيمية، دون مراعاة لكرامة الإنسان، المميز على غيره، أو احترام لنظام الشريعة، الذي وثق العلائق الزوجية، وصانها، فسن الرضا، والإيجاب، والقبول، والإشهاد، والإشهار، حتى امتن الله على عباده بهذه النعمة، وجعلها من علامات قدرته :(ومن ءاياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودةً ورحمة إن فى ذلك لآياتٍ لقوم يتفكرون ) (الروم :21).

ولذلك كانت عقوبة المجاهرة بهذه الفاحشة، حتى شهد عليها، بصورتها المغلظة، أربعة شهود عدول، أو جاء الزاني مقراً على نفسه بالزنا، وجاء بكامل قواه العقلية، وطوعه، واختياره، مريداً تطهير نفسه، بإقامة الحد عليه.. وكانت حكمة الشريعة عظيمة في سن هذه العقوبة الرادعة للجاني، حتى لا يعاودها، والزاجرة لغيره، عن الاقتراب من هذه الفاحشة.. وتحقيقاً للزجر المراد، كان حد الزاني غير المحصن، كما أمر الله تعالى :(الزانية والزاني فاجلدوا كل منهما مائة جلدةٍ ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الأخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) (النور :2)

ولأن هذه الجريمة، تنشأ عادةً من سعار الشهوة، وما يصاحبها من إغواء، وإغراء، بحيث لا يكف عن الاقتراب منها، صاحبها، ما لم يخوف، ويواجه بعقوبة مشددة، مع افتضاح أمره، وشهود الناس، والمجتمع عليه، يقام عليه الحد.. وبتنفيذ هذا الحد، تحفظ الأعراض، وتصان الأنساب، وتؤدى الحقوق، ويسلم المجتمع.

أثر تنفيذ حد القذف في إصلاح المجتمع

من ذلك:

1- كف السفهاء من تدنيس المجتمع، ورمي الأطهار، واتهامهم بالفواحش، وتخويفهم من عاقبة ذلك، حتى هددهم الله تعالى بالعقوبة الدنيوية، والأخروية.. قال تعالى :(إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين ءامنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والأخرة ) (النور :19).. ثم فصلت الآية الكريمة، وهي الرابعة من سور النور، العقوبة الحدية للقذف، من الجلد، وإسقاط الشهادة، والاتصاف بالفسق :(والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً وأولئك هم الفاسقون ) (النور :4).

2- حماية المجتمع من انتشار الفاحشة، وخدش حياء المحصنات، العفيفات الطاهرات.

3- حماية الأعراض، وشرف الأسر الكريمة، من المرجفين، والمستهزئين.

4- زجر الفساق، من الطعن في الأنساب الكريمة، التي هي أساس التواصل، والتعارف :(يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) (الحجرات :13).. ولقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم من يسب إخوانه، بالفسق، حيث قال :(سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر ) (19)، بل وصف عليه الصلاة والسلام، المسلم الحق بأنه :(من سلم المسلمون من لسانه ويده ) (20).

أثر تنفيذ حد الخمر في إصلاح المجتمع

من ذلك:

1- حماية العقول، وعدم تعطيلها.

2- حفظ الكيان الأسري، من التفكك، والانهيار، وضياع الأولاد.

3- حفظ المال، من إضاعته في شراء الخمر، ومن تبديده، وصرفه في غير وجه حق، بسبب غياب العقل.

4- حفظ الأمانات، وعدم إفشاء الأسرار، واستخدام الأعداء للمخمورين، في معرفة بعض الخبايا، والأسرار.

5- الكف عن جرائم عديدة، تقود إليه الخمر، فهي حقاً أُمّ الخبائث.

6- الحفاظ على الصحة النفسية، والجسمية، للأفراد، والجماعات.

7- عدم تبديد الوقت، وتضييعه.

8- مضاعفة الانتاج، بتوظيف الطاقات العاملة في المجتمع.

أثر حد السرقة في إصلاح المجتمع

من ذلك:

1- كف السارقين، وردعهم بعقوبة غليظة، وزجر من تسول له نفسه، أن يسرق، بقطع يده، وافتضاح أمره، وهوانه على الناس.

2- التنفير من أكل أموال الناس بالباطل، على وجه السرقة، بعقوبة حاسمة، ورادعة، وزاجرة، لتكون صورة السارق المحدود، باعثة على كراهية جريمة السرقة.

3- حفظ الملكية الخاصة، وأموال الناس، وقد اجتهدوا في جمع المال، وتنميته لمصلحة المجتمع.

4- إعلاء قيمة العمل، والإنتاج، والكسب الحلال، ليكون وسيلة للتملك، والاقتناء، من أداء حق الله فيه، نحو المجتمع، على وجه الوجوب، بالزكاة، والكفارات، أو على وجه الإحسان، صدقة، وبراً، وصلة.

5- تحقيق الأمن، والاطمئنان النفسي للفرد، وللمجتمع.

6- الرحمة بالناس، بإقامة حد السرقة، رعاية للحكمة المرادة، من ذلك، كما قال تعالى :(والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم * فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم ) (المائدة :38-39)، وذلك لأن في كف الناس عن السرقة، وزجرهم، عنها رحمة بهم، من تكفير عن السارق، وزجر للغير.. فالحدود زواجر وجوابر معاً، ومن رحمة الله بالمجتمع، في صيانة المال الذي هو قوام الحياة، وحماية الملكية الخاصة، وإعلاء قيمة العمل، والاعتماد على النفس في الكسب، والإنتاج.

وفيما تقدم، تحقيق لمعاني الرحمة، ولئن كانت فاصلة الآية السابقة، ببيان حد السرقة، تصفه سبحانه، بالعزة، والحكمة، فإن التالية لها تختم بالغفران، والرحمة، فسبحان الله تعالى المشرع، الحكيم، العادل، الموصوف بالرأفة، والرحمة، وهو تعالى القائل :(إن الله بالناس لرءوف رحيم ) (الحج :65)، وصلوات الله المباركات، وتسليماته الزاكيات، على رسوله الأمين، الذي أقام الشريعة، ونفذ الحدود، والذي وصفه ربه بالرأفة، والرحمة، وأنزل عليه في هذا الشأن، في أواخر ما نزل من القرآن :(لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ) (التوبة :128).

أثر تنفيذ حد الحرابة في إصلاح المجتمع

من ذلك:

1- حفظ المال، من أن يعتدى عليه بالقوة، والغلبة، فتتعطل مصالح الأفراد، والجماعات، وللوقاية من أن يستخدم المعتدون القوة، في أخذ أموال الناس، فكانت العقوبة مشددة، أكثر من عقوبة السرقة العادية.

2- حفظ الأعراض، من الانتهاك، باستخدام القوة، أو الإكراه على الفاحشة، يقول القرطبي :(إذا أراد إخافة الطريق، بإظهار السلاح، قصداً، للغلبة على الفروج، فهذا أفحش، وأقبح، من أخذ المال) (21)، ولذلك كانت شدة العقوبة بالقتل، دون تفرقة بين كون الزاني محصناً، أو غير محصن.

3- حفظ الأنفس، والآمنين، من إرهاب المحاربين، المحادين لله ورسوله، فلا عفو من أحد، ولو كان ولي الدم، أو الإمام، بل تتحتم العقوبة على المحاربين.

4- تأمين الطريق، والمجتمع، والمجتمع، ونشر الطمأنينة فيه، والاستقرار، وكف شر المحاربين، المعتدين على سلامة الأرواح، والدماء، والأعراض، والأموال.

5- استقرار الدولة، والمجتمع، وإخلاص الولاء لولاة الأمور، من الحكام المسلمين.

6- حرية الحركة، والتنقل، وما يؤدي إليه ذلك من نهضة اقتصادية.

أثر إقامة القصاص في إصلاح المجتمع

من ذلك:

1- كف المعتدين، من الجناية على الأنفس، والأرواح، والجوارح، والأعضاء، وحماية المجتمع من الاعتداء، بعضه على بعض، ومن التقاتل ثأراً، بعقوبة رادعة، وزاجرة، ومماثلة لما فعله الجاني بأخيه.. يقول تعالى في وجوب إقامة القصاص :(يأيها الذين ءامنوا كتب عليكم القصاص في القتلى ) (البقرة :178)، ويقول سبحانه وتعالى :(وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص ) (المائدة :45)، ويقول تعالى :(فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) (النحل :126) (ولكم في القصاص حياة ) (البقرة:179).

2- تأمين المجتمع، من انتشار الجرائم، والعدوان، بعضه على بعض، وتماسك المجتمع، واستقراره، بالقصاص، أو بالعفو عنه، ممن جعلت لهم الشريعة هذا الحق.. وفي إثبات حق أولياء الدم في العفو، ما يحقق رعاية هذا الأمر، ويحقق التسامح مع من وقع في الخطيئة، من غير أن يكون من معتادي الجرائم، مع مراعاة حق الإمام الحاكم، في أن يوقع بالجاني، عقوبة تعزيرية مناسبة.

التوبة وأثرها في رفع الحدود أو العقوبة

أولاً :سقوط عقوبة المرتد بالتوبة:

وهو رأي جمهور الفقهاء :أنه يجب أن يستتاب المرتد، فإن تاب، عفي عنه وأخلي سبيله (22).

ثانياً :سقوط عقوبة المحاربة بالتوبة:

إذا تاب المحارب، قبل المقدرة عليه، فإن العقوبة المقررة المنصوص عليها، تسقط.. يقول تعالى :(إنما جزآؤا الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيدهم وأرجلهم من خلافٍ أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزى في الدنيا ولهم في الأخرة عذاب عظيم * إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم ) (المائدة :33-34).

ثالثاً :سقوط عقوبة الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، بالتوبة :

وهو رأي الحنابلة، وبعض الفقهاء، أن التوبة إذا حدثت قبل وصوله إلى الإمام، فإنها تسقط عنه الحد، ومستدلين بأن الآيات الموجبة للعقوبة، المنصوص عليها، تلتها آيات التوبة، والمغفرة، والرحمة، قال تعالى :(والذان يأتيانها منكم فأذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان تواباً رحيما ً) (النساء :16)، وقال أيضاً :(فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم ) (المائدة :39).

كما جاءت التوبة، بعد عقوبة الشرك، والقتل، كما في قوله تعالى :(والذين لا يدعون مع الله إلاهاً ءآخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً * إلا من تاب وءامن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً ) (الفرقان :68-70).

ويستدلون، بأن إقامة النبي صلى الله عليه وسلم الحد على من جاء تائباً، أن ذلك خاص بهم، بأنهم طلبوا تطهيراً لأنفسهم (23).

والتوبة النصوح، باب عظيم في الأمل في رحمة الله، وفضله، ونيل محبته تعالى :(إن الله يحب التوابين ) (البقرة :222) .. وقد ندب الله تعالى إلى التوبة النصوح، فقال تعالى :(يأيها الذين ءامنوا توبوا إلى الله توبةً نصوحاً عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جناتٍ تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزى الله النبي والذين ءامنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شىءٍ قدير ) (التحريم :8).

وعندما يحقق المؤمن التوبة، فإنه يحقق لنفسه الاستقرار النفسي، ويتخلص من العقد النفسية، التي تؤرقه، إلى جانب تكفير السيئات، وسقوط العقوبات، المترتبة على اقتراف تلك المخالفات.

رابعاً :سقوط حد القذف بالتوبة:

وفي أثر توبة القاذف، في سقوط الحد عنه، نقرأ قوله تعالى:(والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً وأولئك هم الفاسقون * إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ) (النور :4-5).

 
خصائص الشريعة الإسلامية

ومن أبرز خصائص الشريعة الإسلامية:

1- تحقيق العدالة، مع الإحسان في الحكم، والمساواة بين الناس كافة :(إن الله يأمركم أن تؤدوا الأماناتٍ إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) (النساء :58)، ومن ذلك، النهي عن الشفاعة في الحدود، بعد بلوغها الإمام، وفيه حديث أسامة المشهور :(أتشفع في حد من حدود الله؟)(24)

2- إقامة الرقيب الداخلي :التزكية الإيمانية، على الطاعة، والاستقامة، كآداب الاستئذان، وغض البصر، والخلوة، والبعد عن الفواحش، وما يؤدي إليها، وبغضها، لأنها ليست من أخلاق المؤمنين، مع ما ورد من الزجر عنها، ووصف مقترفيها بالفسق، وتخويفهم بالخزي، والنكال في الدنيا، وغذاب الآخرة، الأمر الذي يجمع بين الديانة، والقضاء، وفي حديث صحيح (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ) (25).

3- رعاية مصلحة المجتمع، وسد باب الفساد، وإن، أوقع ذلك بعض الضرر، على أفراد معينين.

4- إحياء الرقيب الاجتماعي :الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والرقابة الاجتماعية على المجتمع، بأداء واجب الحسبة، لإحداث الرقي الأخلاقي، في المجتمع.

5- تيسير أبواب الحلال، والطيبات، مع الحض عليه، فيما يغلق أبواباً من الشر، والمنكرات.

6- الطبيعة الحاسمة لأحكام الشريعة، في مقابل القوانين الأوربية الوضعية، التي تبالغ في العقوبات (الحبس والسجون)، وقد صار أثرها السيء واضحاً في تعليم الإجرام، وإفساد السجناء، بما يقترف في السجون، من منكرات، مع ما يؤدي إليه الحبس من كراهية المجتمع، وتعميق روح الانتقام، وضياع أسر السجناء.. زيادة على ذلك، فإن هذه السجون، عبء على الأمة، في إيواء المجرمين، وإعاشتهم.

7- كون هذه العقوبات، المقدرة في الشريعة :(نكلاً من الله والله عزيز حكيم ) (المائدة :38)، أي عبرة للآخرين، عن مصير المجرم المحدود، ليتجنبوا فعل ما أوجب تلك العقوبة، ممن شهدوا إقامة الحد عليه، أو رأوا أثره.

8- استقلال المسلمين، وتميزهم في الأمم، والحضارات المعاصرة، خاصة بهذه التشريعات، ولذلك فإن الغرب شديد العداء، والمقاومة لهذه التشريعات الإسلامية عامة، والحدية منها خاصة، لأنها تخص المسلمين، وتميزهم عن غيرهم، وتقطع أمل الأعداء في رد المسلمين عن دينهم :(اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون ) (المائدة :3).

ومهما يكن من نفور الغرب، من بعض أحكام الشريعة، ووصفها بالقسوة، فإنه لاجئ إليها اضطراراً، كما رجعت مضطرة لإعادة عقوبة الإعدام. ومع أن الغرب لا يزال يستخدم اسم الإنسانية، وحقوق الإنسان، في تشويشه على التشريعات الإسلامية، حتى على عقوبة الجلد، فإن قانون العقوبات الإنجليزي، قد تضمن في مواده، عقوبة الجلد، وظل هذا القانون معمولاً به في بعض البلاد الإسلامية، مثل السودان، إلى وقت سن التشريعات الإسلامية.

ومهما يكن من عداء الغرب، وغيره، للشريعة، والدعاية الظالمة ضدها، فإنها دعوة منصورة، بإذن الله: (يأيها الذين ءامنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ) (محمد :7).. (ولينصرن الله من ينصره ) (الحج :40).. (وما النصر إلا من عند الله ) (آل عمران :126).. (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون ) (الصافات :171-173) .. (كتب الله لأغلبن أنا ورسلى ) (المجادلة:21) .. (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) (يوسف :21).
 
وتتناول هذه الدراسة، موضوع تطبق أحكام الشريعة الإسلامية، في مجتمع تتعدد فيه الملل والثقافات.
وبعابرة أخرى، تجيب عن أسئلةٍ، كثيراً ما تثار حول:
(أ) الأسس التي وضعها الإسلام، في مجال التعامل مع غير المسلمين، لتكون هادية للفرد، والمجتمع، والدولة، ولتكون ديانة يدين بها المسلمون، ويلتزمون أحكامها، طاعة لله، وعبادة، وتكون مع ذلك قضاءً، وقوانين حاكمة، للدولة والمجتمع.

(ب) التعامل مع المواطنين، من غير المسلمين، ممن يتمتعون بحقوق المواطنة الكاملة في الدولة، التي تحمي قوانينها حرمات المواطنين، وحقوقهم في الحياة، والتكريم، والحرية الاعتقادية، والفكرية.. وعن المساواة، والعدل، والتعليم، والعمل، والتملك، والتصرف فيه.

(جـ) التكامل في المجتمع، والوطن، حتى يسود المجتمع كله، خلق البر، والقسط، والتراحم، والمعاملة الحسنة.

ومن ثم فإن هذه الدراسة، تهدف إلى تحقيق مزيدٍ من التعاون بين جميع المواطنين، على اختلاف مللهم، وثقافاتهم في مجتمع الشريعة الإسلامية، حيث تتكافل جهودهم جميعاً، وتتفجر الطاقات من أجل نهضة البلاد وتقدمها، وسيادتها، على ضوء تلكم القواعد والأسس العادلة، التي تحقق التسامح الديني، والتآلف، والتواصل الاجتماعي، والفكري، بين جميع المواطنين.

وها هنا نذكر نذكر بشيء من البيان والتفصيل، ما أُجمل فيما سبق، فنتحدث وبشكل عام عن:وحدانية البشرية، والدين، وأصل الاختلاف، وأسس التعامل مع غير المسلمين.

منشأ البشرية

يرجع البشر كلهم إلى أصل واحد، تفرعوا عنه، ونفس واحدة، خلقوا منها :(يأيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفسٍ وحدةٍ وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذى تسآءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً ) (النساء :1).. والقرآن يذكرنا بهذا الأصل، الذي تفرعت عنه الشعوب والقبائل، ليتعارف الناس فيما بينهم، ويتواصلوا :(يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) (الحجرات :13) .. وتقريراً لهذا الأصل، قال عليه الصلاة والسلام، في خطبة الوداع :(يا أيها الناس إن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى ) (1).

وأصل الدين واحد، من عند الله جل جلاله، أنزل الكتب على رسله الكرام، الذين تعاقبوا مبشرين ومنذرين، يدعون إلى توحيد الله.. والإيمان بهم جميعاً، واجب، دون تفرقة بينهم، لقوله تعالى :(ءامن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل ءامن بالله وملائكته وكتبه ورسله لانفرق بين أحدٍ من رسله ) (البقرة :285)، ولقوله أيضاً:(قولو ءامنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتى موسى وعيسى وما أوتى النبيون من ربهم لا نفرق بين أحدٍ منهم ونحن له مسلمون ) (البقرة :136).

اختلاف الناس:

وقد قدر الله تعالى، أن يكون بين البشر، اختلاف في الدين :(ولو شاء ربك لجعل الناس أمةً واحدةً ولايزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ) (هو :118-119). وهذا ما يخبرنا به الخلاق العليم جل جلاله :(ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) (الملك :14).

وتبعاً لذلك، فللناس حرية الرأي، والفكر، والاختيار للعقيدة، التي يعتقدونها :(فمن شآء فليؤمن ومن شآء فليكفر ) (الكهف :29)، وليس لأحد، ولا قوة، أن تكره فرداً، أو جماعة، على دين، يقول تعالى: (لا إكراه في الدين ) (البقرة :256).

وهي مشيئة الله القاضية، أن يترك الناس واختيارهم الحر، وما يدينون: (ولو شآء ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) (يونس :99).

 
الإسلام والحرية الفكرية

والإسلام هو دين الحرية الفكرية، الذي تواترت فيه آيات الكتاب، الداعية إلى التفكر والنظر، ولا حجر على أحد في حرية الفكر، والتعبير عن آرائه، إلا إذا صار الأمر افتراءً محضاً، أو إثارة للفتنة. وما جاء في القرآن الكريم، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، من ذكر أقوال المخالفين من غير المسلمين، على اختلاف مللهم، ومناقشة هذه الأقوال بالحجة، والبرهان، دليل واضح على هذه الحرية، كما هو دليل على امتداد بقاء غير المسلمين، وسماحة التعامل معهم.. وقد كانت هذه الحقيقة، واضحة في المواقف، التي وقفها كل داعية إلى الإسلام، وسيظل معلماً بارزاً لكل الأجيال، موقف الصحابي الجليل ربعي بن عامر، رضي الله عنه، حين أجاب على القائد الفارسي رستم :(إن الله ابتعثنا، لنخرج من شاء الله، من عبادة العباد، إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن الأديان إلى عدل الإسلام) (2).

والواقع التاريخي، يثبت أنه على توالي القرون، في تاريخ الدعوة الإسلامية، لم يحدث أن أكره المسلمون غيرهم على الدين، وهذا ما شهد به كل منصف، ولو كان غير مسلم، مثل (السير توماس آرنولد) في كتابه :(الدعوة إلى الإسلام) الذي كتب فيه عن تاريخ نشر الدعوة الإسلامية، في أرجاء العالم، وكيف أن دعاة الإسلام، نشروا دعوتهم بين أقوام، عرفوا بالشدة، والخروج على كل نظام، أو قانون، حتى أسلموا، وصار دعاة يهدون غيرهم) (3).

ويمضي آرنولد في هذه الشهادة، ليقول :(لم نسمع عن آية محاولة مدبرة، لإرغام الطوائف من غير المسلمين على قبول الإسلام، أو عن أي اضطهاد منظم قصد منه استئصال الدين) (4)، ويزيد آرنولد في بيان تسامح المسلمين فيقول: (لا يسعنا إلا الاعتراف، بأن تاريخ الإسلام، في ظل الحكم الإسلامي، يمتاز ببعده بعداً تاماً، عن الاضطهاد الديني) (5).

وهذه شهادة منصفة أخرى، يؤديها (ول ديورنت)، في كتابه :(قصة الحضارة)، حيث يقول :(لقد كان أهل الذمة، المسيحيون، والزردشتيون، واليهود، والصابئون، يتمتعون في عهد الخلافة الأموية، بدرجة من التسامح، لا نجد لها نظيراً في البلاد المسيحية، في هذه الأيام، فلقد كانوا أحراراً في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم، ومعابدهم، ولم بفرض عليهم أكثر من أداء ضريبة عن كل شخص، تختلف باختلاف دخله) (6).

وهذه الحرية لغير المسلمين، تشمل التعبير عن معتقداتهم، بالتعليم والممارسة، وأداء شعائر دينهم، فردياً، وجماعياً.

أدب الدعوة والحوار مع غير المسلمين

وإذا كان ثم حوار، أو مجادلة، أو مناقشة، فالأدب القرآني يقضي أنه :(ولا تجدلوا أهل الكتاب إلا بالتى هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا ءامنا بالذى أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهانا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ) ( العنكبوت :46).

فهي دعوة إذاً تعتمد الأدب، والحجة، والبيان، لمن أراد من غير المسلمين الاستبصار في الدين، فيجادل بالتي هي أحسن، لتكون أنجح فيه كما قال تعالى :(ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ) (النحل :125)، ولا تكون مواجهة بالقوة، إلا حين يختار الطرف الآخر ذلك، ويكون من أهل الحرب (7).

التطبيق العملي في عهد النبوة والخلافة الراشدة

والوثائق، والعهود، والأمثلة التالية، دليل قاطع على هذه الحرية الفكرية، والتسامح الديني:

1- وثيقة المدينة:

أول وثيقة تفصيلية، بين المسلمين وأهل الكتاب، ضمنت حرية الاعتقاد، والفكر، وحقوق المواطنة الكاملة، هي الوثيقة المعروفة بوثيقة المدنية (8) وهي تبدأ هكذا:

بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب محمد النبي، رسول الله بين المؤمنين، والمسلمين من قريش، وأهل يثرب، ومن تبعهم، ولحق بهم، وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة، من دون الناس (9).

2- عهد النبي صلى الله عليه وسلم لأهل نجران:

وهو عهد ضمن لنصارى نجران، الأمان على أنفسهم، وأموالهم، وعشيرتهم، وأماكن عبادتهم، وألا يغير أسقف، ولا راهب، ولا كاهن (10).

3- عهد أبي بكر لأهل نجران:

ولما آلت الخلافة إلى أبي بكر رضي الله عنه، فإنه أكد في عهدٍ منه لأهل نجران، أنه أجارهم بجوار الله، وذمة النبي محمد رسول صلى الله عليه وسلم على أنفسهم، وأرضهم، وملتهم، وعبادتهم، وأساقفتهم، ورهبانهم، وفاءً لهم بكل ما ورد في العهد النبوي لنصارى نجران (11).

4- عهد عمر لأهل إيلياء:

وعلى ذات النهج، سار عمر رضي الله عنه، فأعطى لأهل إيلياء عهداً، وأماناً لأنفسهم، وأموالهم، ولكنائسهم، وصلبانهم، وسقيمهم، وبريئهم، وسائر ملتها، ألا تسكن كنائسهم، ولا تهدم، ولا ينتقص منها، ولا من حيزها، ولا من صلبهم، ولا من شيء من أموالهم، وألا يضار أحد، ولا يكره على الدين (12).

وقد التزمت مشروعات القوانين، المستمدة من نفس الشريعة الإسلامية، وخاصة في مسائل التعامل مع غير المسلمين، أعدل الأقوال، والآراء، وأوثقها، وأدومها، وأنسبها لتحقيق العدل والإحسان، مع رعاية لظروف المكان، والزمان..

وغير المسلمين، أشبه بأهل العهد، الذين حررت بشأنهم وثيقة المدينة، والعهد النبوي مع أهل نجران، ومما ينبغي أن يعلم بهذه المناسبة، أن اصطلاح أهل الذمة، في الفقه الإسلامي، ليس كما لم يحسن فهمه كثير من الناس. فالذمة في اللغة، بمعنى :الأمان، والعهد، والضمان، والكفالة (13).. وأهل الذمة هم المعاهدون من النصارى، واليهود، من أهل الكتاب، وغيرهم، ممن بقي في دار الإسلام (14).

وعليه، فالذمة هي العهد، أي العهد الذي يعهده الإمام، أو من ينوب عنه، مع غير المسلمين على السلم، ووضع الحرب.. وعقد الذمة، كما عبر عنه بعض الفقهاء المعاصرين، يشبه التجنس في الوقت الحاضر (15).

ويلحق بأهل الكتاب من اليهود والنصارى، غيرهم من جميع الملل، غير الإسلامية، كالمجوس، حيث ورد في الهدي النبوي، أنه أخذ الجزية من مجوس هجر (16). ويؤيده ما ورد في صحيح البخاري، عن عبدالرحمن بن عوف، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه سلم أخذ الجزية من مجوس هجر(17).

وأيضاً، فقد روي مرسلاً عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال :(سنوا بهم سنة أخل الكتاب ) (18).

ويقول في ذلك، الإمام علي رضي الله عنه :(من كان له ذمتنا، فدمه كدمنا، ودَيْنُه كَدَيْنِنَا)، وأنهم (إنما بذلوا الجزية، لتكون دماؤهم كدمائنا، وأموالهم كأموالنا) (19).. وفي مصنف الإمام عبدالرزاق (20) أن رجلاً مسلماً، قتل آخر من أهل الذمة، في عهد عمر بن عبدالعزيز، فاقتص من المسلم بالذمي.

 
العدل والحقوق المتساوية لغير المسلمين

المساواة أمام القانون

ويتمتع كل مواطن بهذه المساواة أمام القانون، وهو أمر رباني لا يحتمل مساومة، يقول تعالى :(إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) (النساء :58).. وهذه الآية الكريمة، تأمر بأداء الأمانات إلى أهلها، مسلمين أو غير مسلمين، كما تقضي بأن يلتزم العدل في الحكم بين الناس كلهم، دون تمييز، بسبب اختلاف الدين، أو العنصر، أو الثقافة، أو الجنس، أو اللون. والمؤمنون مأمورون ديناً، أن يكونوا قوامين بالقسط في كل موقف، لقوله تعالى :(يأيها الذين ءامنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجر منكم شنئان قومٍ على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ) (المائدة :8).

وبموجب هذا العقد، يصير غير المسلمين كالمسلمين، في حرمة الدماء، والأموال، يقول صلى الله عليه وسلم :(من قتل معاهداً لم ير رائحة الجنة، وأن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاما ً) (21)، ويقول في حديث غيره :(ألا من ظلم معاهداً، أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ شيئاً منه بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة ) (22).

واستقر هذا الفقه يسود في العهد النبوي، وعهد الخلافة الراشدة، واستمر إلى زمن المماليك، والدولة الإسلامية. واتساقاً مع موقف المسلمين الثابت، في حماية غير المسلمين، من أهل ذمتهم، في دمائهم، وأموالهم، أنه لما أراد أحد سلاطين التتار أن يطلق سراح أسرى المسلمين، دون النصارى، اعترضه الإمام ابن تيمية، لأنه سرى في حقهم ما يسري في حق المسلمين، وأنه إن لم يطلق سراحهم، جاهد المسلمون، واستأنفوا القتال، لافتكاكهم .. ولابن تيمية رسالة مشهورة بهذا الخصوص، اسمها :(الرسالة القبرصية)(23).

الجزية وحق الدفاع:

وحكمة مشروعية عقد الذمة، هي أن يترك الحربي القتال، مع احتمال دخوله في الإسلام، عن طريق مخالطته للمسلمين، واطلاعه على شرائع الإسلام.

وليس المقصود من عقد الذمة، تحصيل المال (24)، وقد كان دفع الجزية واجباً على كل رجل بالغ، قادر، حسب طاقته، نظير الحماية والدفاع، حتى إن القادة المسلمين، كانوا يردون على غير المسلمين، ما دفعوا من جزية، إذا لم يقدروا على القيام بواجب الحماية والدفاع، بل كان بعض الخلفاء الراشدين- وهو عمر رضي الله عنه- يسقط دفع الجزية عن غير المسلمين الذين يشتركون مع الجيش، ويؤدون خدمات عسكرية، وهو ما نأخذ به في عصرنا هذا.

والتفسير الصحيح لكلمة الصغار في قوله تعالى :(حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صغرون ) (التوبة :29)، هو جريان أحكام الشريعة عليهم، وإعطاء الجزية، فإن التزام ذلك هو الصغار (25)، وفي ذلك يقول الشافعي: وسمعت عدداً من أهل العلم، يقولون :إن الصغار أن يجري عليهم حكم الإسلام (26)، وفي ذلك رد، على من زعم أن الصغار هو الإذلال.. وتأسيساً على ما تقدم، فليس يصح ما نسب لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، من شروط سميت بالشروط العمرية (27)، وإسنادها ضعيف اتفاقاً، حتى إن ابن القيم، لم يجد سبيلاً لتأكيدها، إلا بأن قال :إن شهرة هذه الشروط، تغني عن إسنادها.

وقد أنكر محقق الكتاب، د. صبحي الصالح، هذه العلة، لأن الاستفاضة لم تكن دليلاً على الصحة في موضوع تاريخي، تشريعي كهذا، ثم وصف هذه الشروط بأنها متضاربة، ومتناقضة (28) والواقع أن هذه الشروط، تخالف ما صح من جملة العهود، والمواثيق النبوية، كوثيقة المدينة، وعهد النبي صلى الله عليه وسلم لأهل نجران، وعهد أبي بكر ضري الله عنه أيضاً لأهل نجران، وكانوا نصارى، كما أنها تخالف العهود العمرية، كعهد عمر رضي الله عنه لأهل إيليا، الذي نص على إعطاء الأمان للنصارى، على أنفسهم، وأموالهم، وكنائسهم، وصلبانهم، وأنهم لا يكرهون، ولا يضار أحد منهم (29).

حق التعليم:

ويدل على مكانة العلم في الإسلام، أن أول كلمة نزلت منه هي :(اقرأ باسم ربك الذى خلق ) (العلق :1)، وتوفير العلم بمختلف تخصصاته، وفنونه، واجب المجتمع، والدولة، وقد شهد الواقع العملي للمسلمين، ما كان يتمتع به غير المسلمين من امتلاك ناصية العلم، في كثير من التخصصات، التي لا غنى عنها في مجتمع، كالطب والهندسة. ويشمل هذا الحق، الرجل، والمرأة، على السواء.. ومن واجب الدولة، تنمية شخصية الإنسان، وتوسيع ثقافته.. وقد ذهب ابن حزم، إلى إلزامية التعليم، وأن الإمام يجبر النساء على التعليم (30) .. وفي الجانب التطبيقي، كان التعليم تاريخياً متاحاً للجميع، من أدنى المراحل التعليمية، إلى أعلى المراحل، والتخصصات.. وتوزيع الفرص الدراسية، محكوم بأسس عادلة، هي التميز العلمي.

عقوبة المرتد على الخيانة العظمى:

وقتل المرتد، ليس عقوبة على الفكر ذاته، لأن غير المسلمين، قد كفل لهم الإسلام، حرية العقيدة، وحمايتها، من غير إكراه، ولا تضييق، لكن هذه العقوبة على الجناية الكبرى، والمكيدة، التي ادعى بها المرتد اعتناق الإسلام، ثم أعلن الخروج منه، للطعن فيه، والإساءة إليه، وإلى ذلك يشير قوله تعالى :(وقالت طائفة من أهل الكتاب ءامنوا بالذى أنزل على الذين ءامنوا وجه النهار واكفروا ءاخره لعلهم يرجعون ) (آل عمران :72).

ولقد تحدث ابن قيم الجوزية في كتابه، زاد المعاد (31) عن الردة، وأثرها على الأمن الداخلي لدولة الإسلام، وأنها ليست مسألة فردية.

 
الشريعة الإسلامية وحقوق الشعوب والأقاليم

وفي ظل تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، تتحقق للشعوب حقوقها الجامعة .. وقد حكم القاضي المسلم لأهل سمرقند، بحق تقرير مصيرهم، لأنهم كانوا أُدخلوا في سلطان الدولة، بالقوة، دون اختيارهم، ودون مراعاة أحكام الشريعة، القاضية بالتخيير، والإعلام، والإنذار، لأن استخدام القوة الجهادية، ليس في الواقع، إلا لرفع الإكراه، على اعتناق دين، أو على المنع منه.

كما يكفل نظام الحكم الإسلامي، حق الحكم الذاتي، مع حق التمييز الثقافي للأقاليم، التي يكون فيها غير المسلمين متحيزين في مكان يخصهم، ويباشرون بأنفسهم إدارة شؤونهم، مع الاحتكام إلى محاكمهم، بما كان يجعلهم في حكم الأقاليم الآن، وهكذا كان الشأن مع نصارى نجران، الذين كانوا على عهد دولة المدينة، خارج حدودها، وجاءت اتفاقية المدينة تؤكد هذا المعنى (32).. وهذا الاستثناء، ليس استثناءً من الجريمة، بحيث يعد الفعل مباحاً، بل وضعت عقوبات تعزيرية لهذه الجرائم، عدا الخمر والردة.. ولم يقفل الطريق أمام المسلم القوي، المتثبت في دينه، أن يطلب تطبيق الحدود عليه، بل إن هذا الحق، من المطالبة بالطوع، والاختيار، ثابت لغير المسلم.

والتأصيل الفكري لمبدأ استثناء غير المسلمين، من تطبيق أحكام الحدود، يعتمد على نص الآية الكريمة:(فإن جآءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين ) (المائدة :42).. وقد اختار الإمام الطبري هذا القول بالاستثناء، وأن الآية الكريمة محكمة (33).

الحقوق المدنية والسياسية:

في ظل تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، فإن الحقوق المدنية، والسياسية مكفولة لكل مواطن، فيحق لكل فرد أن يملك، ويرث، ويبيع، ويشتري، ويرهن، ويكفل، ويهب، ويوصي، ويقف، ويتصرف، وفقاً لمصلحته الشخصية.

حق العمل:

يضمن الإسلام لكل أفراد المجتمع، العدالة في ممارسة العمل الشريف، والأجر المناسب، لأن ذلك كله من أداء الأمانات، والوفاء بالحقوق، والقيام بالعدل والإحسان، كما في قوله تعالى :(إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) (النساء :58)، وقوله عزوجل :(إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) (النحل :90)، ثم إن العمل في الفقه الإسلامي، ضروري، لسد حاجة المجتمع، وعمران الكون.. وفي حماية الشريعة الإسلامية للعاملين، وضمان الأجر العادل لهم، ورد قوله :صلى الله عليه وسلم (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه ) (34).

وتطبيقاً لذلك، فلغير المسلمين فرصة للعمل، وحرية التوظيف للوظائف العليا القيادية، في مناطقهم، والوسيطة، وغيرها، وقد بلغ بعض المؤرخين الغربيين، حد الإعجاب، في بيان ما لاحظه من كثرة العمال غير المسلمين في الدولة الإسلامية، حيث يقول :(من الأمور التي نعجب لها، كثرة العمال والمصرفين غير المسلمين، في الدولة الإسلامية) (35).

الضمان الاجتماعي:

يقوم المجتمع الإسلامي، على التكافل، والتراحم، بين الناس جميعاً، على مستوى الأسرة، والجيران، والحي، والمجتمع، يقول الله تعالى :(إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاءِ ذى القربى ) (النحل :90).. وفي التوجيهات النبوية في التراحم بين الناس كلهم :(الراحمون يرحمهم الرحمن، تبارك وتعالى، إرحموا من في الأرض، يرحمكم من في السماء) (36).

وفي حق الجيران، يقول صلى الله عليه وسلم :(ليس المؤمن، الذي يشبع، وجاره جائع ) (37).

وفي مسؤولية الجيران، وأهل الحي، نحو المحتاجين، يقول :(أيّما أهل عرصة، بات فيهم امرؤ جائع، فقد برئت منهم ذمة الله ورسوله ) (38) .. وقد كان بيت المال، في عهد الخلافة الراشدة، يفرض للمواليد القوت، ثم توسع الأمر، حتى شمل الكسوة (كما يذكر البلاذري) (39).

وتقوم الأوقاف الإسلامية، والمبرات الخيرية، والجمعيات الطوعية، بدور عظيم، يحقق التكافل، والترابط، والتراحم.

وأما الدولة، فلها الصناديق القومية للضمان الاجتماعي، والتكافل الاجتماعي لأرباب المعاشات، إلى جانب ديوان الزكاة، الذي يسع بمصارفه المتعددة، الأفراد، والمجتمع.
 
التعامل مع غير المسلمين: نماذج قرآنية

وهنا نقدم نماذج، من آيات القرآن الكريم، محكمة وحاكمة، في المعاملة، الحسنة، العادلة:

1- يقول تعالى :(لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من ديركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ) (الممتحنة :8).

فهذه الآية، تقرر أسس التعامل مع غير المسلمين، أنها البر، والقسط إليهم، بكل ما يقتضيه معنى البر من الخير، والقسط من عدل، وفاصلة الآية :(إن الله يحب المقسطين )، تدعو كل مسلم، أن يسارع في تنفيذ ما يحبه الله.

ولاشك في أن هذا التعامل، يقود إلى السلام الحقيقي، وقد أحسن صاحب الظلال، في تعليقه على هذه الآية، حيث يقول: إن الإسلام دين سلام، وعقيدة حب، ونظام يستهدف أن يظلل العالم كله بظله، وأن يقيم فيه منهجه، وأن يجمع الناس تحت لواء الله، إخوة متعارفين، متحابين، وليس هنالك من عائق يحول دون اتجاهه هذا، إلا عدوان أعدائه عليه، وعلى أهله, فأما إذا سالموهم، فليس الإسلام براغب في الخصومة، ولا متطوع بها كذلك، وحتى هو في حالة الخصومة، يستبقي أسباب الولوج في النفوس، بنظافة السلوك، وعدالة المعاملة، انتظاراً لليوم الذي يقتنع فيه خصومه، بأن الخير أن ينضووا تحت لوائه الرفيع. ولا ييأس الإسلام من هذا اليوم، الذي تستقيم فيه النفوس، فتتجه هذا الاتجاه المستقيم.

ويمضي التعليق في الظلال، يبين أن الأصل في العلاقات، هو العدل، والسلام، فيقول :وتلك القاعدة في معاملة غير المسلمين، هي أعدل القواعد، التي تتفق مع طبيعة هذا الدين، ووجهته، ونظره إلى الحياة الإنسانية، بل نظرته الكلية لهذا الوجود، الصادر عن إله واحد، المتجه إلى إله واحد المتعاون في تصميمه اللدني، وتقديره الأزلي، من وراء كل اختلاف، وتنويع.. وهو أساس شريعته الدولية، التي تجعل حالة السلم بينه وبين الناس جميعاً، هو الحالة الثابتة، لا يغيرها إلا وقوع الاعتداء الحربي، وضرورة رده، أو خون الخيانة بعد المعاهدة، وهي تهديد بالاعتداء، أو الوقوف بالقوة، في وجه حرية الدعوة، وحرية الاعتقاد، وهو كذلك اعتداء، وفيما عدا هذا، فهي السلم، والمودة، والبر، والعدل للناس أجمعين (40).

2- يقول تعالى :(إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ً) (النساء :105)، فقد جاءت هذه الآية تأكيداً عملياً لما يأمر به القرآن، من الحكم بين الناس بالعدل، دون تفرقة بينهم، بأي سبب من الأسباب.

وهنا تبين الآية، أن الله تعالى قد أنزل كتابه القرآن الكريم، بالحق، على رسوله صلى الله عليه وسلم، ليحكم بين الناس، بما هداه إليه الله تعالى.. والآية تدعوه صلى الله عليه وسلم ألا يكون محامياً، ولا مدافعاً، عن الخائنين للأمانات، ممن يلوون ألسنتهم بالكذب، حتى يقضي لهم بظاهر شهاداتهم. وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، كما في الحديث التالي: روى الإمام أحمد في مسنده، عن أم سلمة رضي الله عنها، قالت :( جاء رجلان من الأنصار، يختصمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في موارث بينهما، قد درست، ليس عندهما بينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم تختصمون إليّ، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً، فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار، يأتي بها انتظاماً في عنقه يوم القيامة ).. فبكى الرجلان، وقال كل منهما :حقي لأخي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(أما إذا قلتما، فاذهبا، فاقتسما ثم توخيا الحق بينكما، ثم استهما، ثم ليحلل كل منكما صاحبه ) (41).

وفي أسباب النزول، إشارة إلى أن بعض الأنصار، رمى أحد اليهود بغير حق، بتهمة ظالمه، فجاءت هذه الآية وما بعدها، في براءته.. آيات تتلى أبد الدهر، تؤصل للعدالة، وتؤكدها بين الناس كلهم، دون تفرقة، بسبب اختلاف الدين، أو العنصر، أو القبائل، أو الشعوب. يقول تعالى:(وطعام الذين أوتوا الكتاب حلُُّ لكم وطعامكم حلُُّلهم والمحصنات من المؤمانت والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا ءاتيتموهن أجورهن محصنين غير مسفاحين ولا متخذى أخدانٍ ) (المائدة :5).

يقول صاحب الظلال، في بيان معاني هذه الآية (42) :(وهنا نطلع على صفحات السماحة الإسلامية، في التعامل مع غير المسلمين، ممن يعيشون في المجتمع الإسلامي (في دار الإسلام)، وتربطهم به روابط الذمة، والعهد، من أهل الكتاب، أن الإسلام لا يكتفي بأن يترك لهم حريتهم الدينية، ثم يعتزلهم، فيصبحوا في المجتمع مجفوين، معزولين، أو منبوذين، إنما يشملهم بجو من المشاركة الاجتماعية، والمودة، والمجاملة، والخلطة، فيجعل طعامهم حلاً للمسلمين، وطعام المسلمين حلاً لهم كذلك، ليتم التزاور، والتضايف، والمؤاكلة، وليظل المجتمع كله في ظل المودة، والسماحة.. وكذلك يجعل العفيفات من نسائهم- وهنا المحصنات بمعنى العفيفات الحرائر- طيبات للمسلمين.. ويقرن ذكرهن، بذكر الحرائر العفيفات، من المسلمات، وهي سماحة لم يشعر بها إلا أتباع الإسلام، من بين سائر أتباع الديانات والنحل).

وواضح أن الإسلام، لم يبح زواج المسلمات بغير المسلمين، والسبب الظاهر في ذلك، هو أن القوامة في الزواج للرجال، والمسلم مؤتمن على رعاية حقوق زوجته الكتابية، لا يكرهها في الدين، ولا يمنعها من الكنيسة، بل يوصلها، ولا يمنعها ما هو مباح لها في دينها.

وفوق كل هذا، فهو مؤمن بأنبياء الله جميعاً، لا يفرق بين أحد من رسله، بينما غير المسلم، يكفر بالرسالة الخاتمة، ويخشى من فتنه المسلمة عن دينها.

وهذه المعاملة الحسنة، وخلق البر، والقسط، أصل ثابت مستقر، في توجيهات القرآن، والسنة، والتطبيق العملي في العهد النبوي، والخلافة الراشدة، وما اتصل بها من معاملات في العصور الإسلامية، وليست سياسة عارضة، أو مؤقتة.

ومثالاً على هذه المعاملة الحسنة، وخلق البر والقسط، مع غير المسلمين، وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود غلاماً يهودياً مريضاً، حتى إن والده لم يملك تقديراً لهذا الجميل، والصنيع الحسن، من الزيارة النبوية، إلا أن يشجع ولده على قبول الدعوة النبوية، واعتناق الإسلام (43).

وقد انتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، ودرعه مرهونة عند يهودي، وفي ذلك أعظم الدلالة على حسن التعامل .. وفعل ذلك مع وجود مسلمين أثرياء، في صحابته، الذين يفدونه بأرواحهم، وأموالهم (44).

وقد كان صلى الله عليه وسلم يستقبل الوفود من القبائل، والأمصار، ويحسن وفادتهم، وهكذا صنع حين زاره وفد نصارى نجران، وكان بمسجده في المدينة المنورة، مما هو معروف خبره في السيرة النبوية، وتاريخ الدعوة الإسلامية(45)، وسيظل هذا الهدي النبوي العظيم، هو نبراسنا في معاملاتنا المعاصرة، بإذن الله.
 
الخاتمة

الحمد لله الذي أكمل الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام ديناً :(ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الأخرة من الخاسرين ) (آل عمران :85) .. ثم أما بعد:

فهذا غيض من فيض، وقطر من غيث، ينهمر من بشائر المستقبل للإسلام، بظهوره وانتشاره، وسيادة حضارته في العالمين، فكل أخبار القرآن صدق، وأحكامه عدل :(وتمت كلمت ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم ) (الأنعام :115).. وفي تعاليم الإسلام والسنة، وفقه الشريعة الإسلامية، دلائل لا تستقصى، تبشر كلها بالمستقبل للإسلام :(ولتعلمن نبأه بعد حين ) (ص :88).. (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) (يوسف :21).

ولا يزال في موضوع المستقبل للإسلام، كثير مما يحفز الدعاة إلى الله، للعمل على بصيرة، وفقنا الله ومن والانا، لتصويب النظر على قضايا المستقبل للإسلام، نجدد بحسن تقديمها أمر ديننا، ثم إننا نجدد دعوتنا إلى أمتنا، ونخص جيلنا المعاصر، وشبابنا، عدة المستقبل، أن يسارعوا إلى الاستجابة لداعي الحق: (يأيها الذين ءامنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) (الأنفال :24) .. وأن يكونوا عند أمل أمتهم بهم، فيلتزموا ذكر الله، وساحات الجهاد، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ويعتصموا بحبل الله المتين، ويلجأوا إليه، قانتين، في النوازل وغيرها، ليكونوا حملة لواء الشريعة، والدعوة إلى تطبيقها، وإحياء الشعائر، وإقامة الدين كله، مراعين واقع مجتمعاتهم، وأدب التدرج، والانتقال في المراحل، حاملين رسالة الرحمة والرأفة، مقتدين بإمامهم ونبيهم، عليه الصلاة والسلام، في رأفته ورحمته بالمسلمين، ومن يعيش في كنفهم، ليعيشوا السعادة الحقيقية مع المسلمين، في ظل التزامهم شريعة الإسلام، وإقامتها في شؤون حياتهم كلها. سائلين الله أن يهدي شباب الإسلام، صناع المستقبل، وقادة المسلمين، وأن يعزهم بالإسلام، ويعز الإسلام بهم، ليصنعوا مستقبل الإسلام المشرق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 
الوسوم
المستقبل للاسلام
عودة
أعلى