أدب الاختلاف في الإسلام

ياسر المنياوى

شخصية هامة
الاختلاف والخلاف وعلم الخلاف:

الاختلاف والمخالفة أن ينهج كل شخص طريقاً مغايراً للآخر في حاله أو في قوله. والخلاف أعم من "الضد " لأن كل ضدين مختلفان، وليس كلُّ مختلفين ضدين، ولما كان الاختلاف بين الناس في القول قد يفضي إلى التنازع استعير ذلك للمنازعة والمجادلة، قال تعالى:

((فاخْتَلفَ الأحْزابُ مِنْ بينِهم… )) [مريم:37]

((وَلا يزَالُون مُخْتلِفين )) [هود:118]

((إنَّكُم لفِي قولٍ مُخْتلِف )) [الذاريات:8]

((إنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بينهم يوْم القِيامةِ فيما كانوا فيهِ يخْتلِفون )) [يونس:93].

وعلى هذا يمكن القول بأن "الخلاف والاختلاف " يراد به مطلق المغايرة في القول أو الرأي أو الحالة أو الهيئة أو الموقف.

وأما ما يعرف لدى أهل الاختصاص بـ "علم الخلاف " فهو علم يمكِّن من حفظ الأشياء التي استنبطها إمام من الأئمة، وهدم ما خالفها دون الاستناد إلى دليل مخصوص، إذ لو استند إلى الدليل، واستدل به لأصبح مجتهداً وأصولياً، والمفروض في الخلاف ألاّ يكون باحثاً عن أحوال أدلة الفقه، بل حسبه أن يكون متمسكاً بقول إمامه لوجود مقتضيات الحكم - إجمالاً - عند إمامه كما يظن هو، وهذا يكفي عنده لإثبات الحكم، كما يكون قول إمامه حجة لديه لنفي الحكم المخالف لما توصل إليه إمامه كذلك.

الجــدل و "علم الجـــدل":

إذا اشتد اعتداد أحد المخالفين أو كليهما بما هو عليه من قول أو رأي أو موقف، وحاول الدفاع عنه، وإقناع الآخرين به، أو حملهم عليه سميت تلك المحاولة بالجدل.

فالجدل في اللغة "المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة " مأخوذ من "جدلت الحبل " إذا فتلته وأحكمت فتله، فإن كل واحد من المتجادلين يحاول أن يفتل صاحبه ويجدله بقوة وإحكام على رأيه الذي يراه.

وأما "علم الجدل " فهو: علم يقوم على مقابلة الأدلة لإظهار أرجح الأقوال الفقهية(4).

وعرَّفه بعض العلماء بأنه "علم يقتدر به على حفظ أي وضع يراد ولو باطلاً وهدم أي وضع يراد ولو حقا ً" (5).

ويظهر في هذا التعريف أثر المعنى اللغوي للجدل، لأنه - على هذا - علم لا يتعلق بأدلة معينة، بل هو قدرة أو ملكة يؤتاها الشخص ولو لم يحط بشيء من الكتاب والسنة ونحوهما.

الشــــقــاق:

فإذا اشتدت خصومة المتجادلين، وآثر كل منهما الغلبة بدل الحرص على ظهور الحق ووضوح الصواب، وتعذر أن يقوم بنما تفاهم أن اتفاق سميت تلك الحالة بـ "الشقاق" و "الشقاق" أصله: أن يكون كل واحد في شق من الأرض أي نصف أو جانب منها، فكأن أرضاً واحدة لا تتسع لهما معاً، وفي التنزيل ((وَإنْ خِفْتُم شِقاق بيْنِهِما )) [النساء:35] أي خلافاً حاداً يعقبه نزاع يجعل كل واحد منهما في شق غير شق صاحبه، ومثله قوله تعالى ((فَإِنّما هُمْ فِي شِقاق ٍ)) [البقرة:137].

المقبول والمـردود مـن الاختــلاف:

قضت مشيئة الله تعالى خلق الناس بعقول ومدارك متباينة، إلى جانب اختلاف الألسنة والألوان والتصورات والأفكار، وكل تلك الأمور تفضي إلى تعدد الآراء والأحكام، وتختلف باختلاف قائليها، وإذا كان اختلاف ألسنتنا وألواننا ومظاهر خلقنا آية من آيات الله تعالى، فإن اختلاف مداركنا وعقولنا وما تثمره تلك المدارك والعقول آية من آيات الله تعالى كذلك، ودليل من أدلة قدرته البالغة، وإن أعمار الكون وازدهار الوجود، وقيام الحياة لا يتحقق أي منها لو أن البشر خلقوا سواسية في كل شيء، وكل ميسر لما خلق له ((وَلوْ شاء ربُّك لجَعل النَّاسَ أمَّةً واحِدةً، ولا يزالون مُخْتلِفين إلاّ مَنْ رَحِم ربُّك ولذلِك خَلقهم )) [هود:118-119].

إن الاختلاف الذي وقع في سلف هذه الأمة - ولا يزال واقعاً - جزء من هذه الظاهرة الطبيعية، فإن لم يتجاوز الاختلاف حدوده بل التزمت آدابه كان ظاهرة إيجابية كثيرة الفوائد.

بعض فوائد الاختلاف المقبول:

وكما أسلفنا فإنه إذا التزمت حدود الاختلاف، وتأدب الناس بآدابه كان له بعض الإيجابيات منها:

(أ ) أنه يتيح - إذا صدقت النوايا - التعرف على جميع الاحتمالات التي يمكن أن يكون الدليل رمى إليها بوجه من وجوه الأدلة.

(ب ) وفي الاختلاف - بالوصف الذي ذكرناه - رياضة للأذهان، وتلاقح للآراء، وفتح مجالات التفكير للوصول إلى سائر الافتراضات التي تستطيع العقول المختلفة الوصول إليها.

(ت ) تعدد الحلول أمام صاحب كل واقعة ليهتدي إلى الحل المناسب للوضع الذي هو فيه بما يتناسب ويسر هذا الدين الذي يتعامل مع الناس من واقع حياتهم.

تلك الفوائد وغيرها يمكن أن تتحقق إذا بقي الاختلاف ضمن الحدود والآداب التي يجب الحرص عليها ومراعاتها، ولكنه إذا جاوز حدوده، ولم تراع آدابه فتحول إلى جدال وشقاق كان ظاهرة سلبية سيئة العواقب تحدث شرخاً في الأمة - وفيها ما يكفيها - فيتحول الاختلاف من ظاهرة بناء إلى معاول للهدم.

أقســام الخــلاف من حيث الدوافـــع:

1 - خلاف أملاه الهوى: قد يكون الخلاف وليد رغبات نفسية لتحقيق غرض ذاتي أو أمر شخصي، وقد يكون الدافع للخلاف رغبة التظاهر بالفهم أو العلم أو الفقه. وهذا النوع من الخلاف مذموم بكل أشكاله، ومختلف صوره لأن حظ الهوى فيه غلب الحرص على تحري الحق، والهوى لا يأتي بخير، فهو مطية الشيطان إلى الكفر، قال تعال:

((أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رسولٌ بِما لا تهوى أنفسكُم استكْبرتُم فَفريقاً كذّبْتُم وفريقاً تقْتُلون )) [البقرة:87] وبالهوى جانب العدل مَنْ جانبه من الظالمين.

((فَلا تتَّبِعوا الهوى أن تَعْدِلوا )) [النساء:135] وبالهوى ضل وانحرف الضالون

((قُلْ لا أتّبع أهْواءكُم قَدْ ضَلَلْتُ إذَنْ وما أنا مِن المُهْتدين )) [الأنعام:56] والهوى ضد العلم ونقيضه، وغريم الحق، ورديف الفساد، وسبيل الضلال: ((وَلا تتَّبع الهوى فيُضِلَّك عنْ سبيل الله )) [ص:26].

((وَلَوِ اتّبع الحقُّ أهْواءَهُم لفَسَدتِ السماواتُ والأرضُ ومَنْ فيهِنَّ )) [المؤمنون:71].

((وإِنَّ كَثِيراً ليُضِلُّون بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْم ٍ)) [الأنعام:119].

وأنواع الهوى متعددة، وموارده متشعبة، وإن كانت في مجموعها ترجع إلى "هوى النفس وحب الذات" فهذا الهوى منبت كثير من الأخطاء وحشد من الانحرافات، ولا يقع إنسان في شباكه حتى يزين له كل ما من شأنه الانحراف عن الحق، والاسترسال في سبيل الضلال، حتى يغدو الحق باطلاً والباطل حقاً والعياذ بالله. ويمكن رد خلاف أهل الملل والنحل ودعاة البدع في دين الله تعالى إلى آفة الهوى، ومن نعم الله على عبده ورعايته - سبحانه - أن يكشف له عن مدى ارتباط مذاهبه وأفكاره ومعتقداته بهوى نفسه، قبل أن تهوي به في مزالق الضلال، حيث يضيء المولى - سبحانه - مشاعل الإيمان في قلبه فتكشف زيف تلك المذاهب أو الأفكار أو المعتقدات ذلك لأن حسنها في نفسه لم يكن له وجد حقيقي، بل هو وجود ذهني أو خيالي أو صوري صوره الهوى وزينه في النفس ولو كان قبيحاً في واقعه، أو لا وجود له إلا في ذهن المبتلى به.

ولاكتشاف تأثير الهوى في فكرة ما طرق كثيرة: بعضها خارجي، وبعضها ذاتي:

(أ) فالطرق الخارجية لاكتشاف أن الهوى وراء الفكرة -موضع الاختلاف- أن تكون مناقضة لصريح الوحي من كتاب وسنة، ولا ينتظر ممن يزعم في نفسه الحرص على الحق أن يلهث وراء فكرة تناقض كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .

ومما يكشف كون الفكرة وليدة الهوى: تصادمها مع مقتضيات العقول السليمة التي يقبل الناس الاحتكام إليها، ففكرة تدعو إلى عبادة غير الله، أو تحكيم غير شريعته في حياة الناس، وفكرة تدعو إلى إباحة الزنا، أو تزيين الكذب، أو تحض على التبذير لا يمكن أن يكون لها مصدر غير الهوى، ولا يدعو لها إلاّ من بيد الشيطان زمامه.

(ب) أما الطرق الذاتية لاكتشاف ما إذا كان الهوى محضن الفكرة فتكون بنوع من التأمل والتدبر في مصدر تلك الفكرة، ومساءلة النفس بصدق حول سبب تبنيها لتلك الفكرة دون غيرها، وما تأثير الظروف المحيطة بصاحب الفكرة، ومدى ثباته عليها إن تبدلت؟ وهل هناك من ضغوط وجهت المسار دونما شعور؟ ثم الغوص في أعماق الفكرة نفسها، فإن كانت قلقة غير ثابتة، تتذبذب بين القوة والضعف تبعاً لمشاعر معينة، فاعلم أنها وليدة الهوى ونزغ من الشيطان فاستعذ بالله السميع العليم، واحمده على أن بصّرك بالحقيقة قبل أن يسلسل قيادك لهوى النفس.

2 - خلاف أمـــلاه الحـــق: قد يقل الخلاف دون أن يكون للنفس فيه حظ أو للهوى عليه سلطان، فهذا خلاف أملاه الحق، ودفع إليه العلم، واقتضاه العقل، وفرضه الإيمان، فمخالفة أهل الإيمان لأهل الكفر والشرك والنفاق خلاف واجب لا يمكن لمؤمن مسلم أن يتخلى عنه، أو يدعو لإزالته لأنه خلاف سداه الإيمان ولحمته الحق.

وكذلك اختلاف المسلم مع أهل العقائد الكافرة والملحدة، كاليهودية والنصرانية والوثنية والشيوعية، ولكن الاختلاف مع أهل تلك الملل وهذه العقائد لا يمنع من الدعوة إلى إزالة أسبابه بدخول الناس في دين الله أفواجاً وتخليهم عن دواعي الخلاف من الكفر والشرك والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق والإلحاد والبدع والترويج للعقائد الهدامة.

3 - خــلاف يتردد بين المدح والذم، ولا يتمحض لأحدهما، وهو خلاف في أمور فرعية تتردد أحكامها بين احتمالات متعددة يترجح بعضها على بعضها الآخر بمرجحات وأسباب سنأتي على ذكرها - إن شاء الله - ومن أمثلة هذا التقسيم: اختلاف العلماء في انتقاض الوضوء من الدم الخارج من الجرح، والقيء المتعمد، واختلافهم في حكم القراءة خلف الإمام وقراءة البسملة قبل الفاتحة والجهر بـ "آمين " وغير ذلك من أمثلة تضيق عن الحصر، وهذا النوع من الاختلاف مزلة الأقدام، إذ يمكن فيه أن يلتبس الهوى بالتقوى، والعلم بالظن، والراجح بالمرجوح، والمردود بالمقبول، ولا سبيل إلى تحاشي الوقوع في تلك المزالق إلا باتباع قواعد يحتكم إليها في الاختلاف، وضوابط تنظمه، وآداب تهيمن عليه، وإلاّ تحول إلى شقاق وتنازع وفشل، وهبط المختلفان فيه عن مقام التقوى إلى درك الهوى، وسادت الفوضى، وذر الشيطان قرنه.

رأي العلماء في الاختلاف:

ومع ما تقدم فإن العلماء قد حذروا من الاختلاف بكل أنواعه، وأكدوا على وجوب اجتنابه.

يقول ابن مسعود رضي الله عنه : "الخلاف شر " (6)، وقال السبكي رحمه الله: "…إن الرحمة تقتضي عدم الاختلاف، " قال تعالى: ((ولكنِ اخْتلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَر… )) [البقرة:253]، وكذا السنة: قال عليه الصلاة والسلام: "إنما هلكت بنو إسرائيل بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم "(7)، والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة، هذا وقد أدرج السبكي رحمه الله تحت النوع الثالث من الاختلاف (الذي يتردد بين المدح والذم ) أقساماً ثلاثة، فقال: "…والاختلاف على ثلاثة أقسام، أحدهما في الأصول، وهو المشار إليه في القرآن، ولا شك أنه بدعة وضلال. والثاني في الآراء والحروب هو حرام أيضاً لما فيه من تضييع المصالح، والثالث في الفروع، كالاختلاف في الحل والحرمة ونحوهما "(8) والذي قطع به أن الاتفاق فيه - أي: في الثالث خير من الاختلاف.

كما نبه رحمه الله إلى كلام ابن حزم في ذم الاختلاف في ذلك أيضاً، إذ لم يجعل ابن حزم رحمه الله شيئاً من الاختلاف رحمة، بل اعتبره - كله - عذاباً.

ويكفي لمعرفة أضرار الاختلاف وخطورته أن نبي الله هارون عليه السلام عدّ الاختلاف أكبر خطراً، وأشد ضرراً من عبادة الأوثان. فحين صنع السامري لقومه عجلاً من الذهب وقال لهم: ((هذا إلهُكُم وَ إلهُ مُوسى )) [طه:88] التزم جانب الصمت وبقي ينتظر أخاه موسى عليه السلام، ولما وصل موسى ورأى القوم عاكفين على العجل وجه أشد اللوم إلى أخيه، فما كان عذر أخيه إلا أن قال: ((يا ابن أمّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيتي ولا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أنْ تَقُولَ فرَّقْتَ بيْنَ بَنِي إسْرائيل وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي… )) [طه:94] فجعل من خوف الفرقة والاختلاف بين قومه عذراً له في عدم التشديد في الإنكار، ومقاومة القوم والانفصال عنهم حين لا ينفع الإنكار!!
 
التعديل الأخير:
اختلاف الصحابة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم:

لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يمكن أن يؤدي إلى الاختلاف بالمعنى الذي ذكرناه، ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجع الجميع باتفاق، و مردهم في كل أمر يحزبهم، ومفزعهم في كل شأن، وهاديهم من كل حيرة؛ فإذا اختلف الصحابة رضوان الله عليهم في شيء ردوه إليه عليه الصلاة والسلام فبين لهم وجه الحق فيه، وأوضح لهم سبيل الهداية، وأما الذين ينزل بهم من الأمور ما لا يستطيعون رده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعدهم عن المدينة المنورة، فكان يقع بينهم الاختلاف كاختلافهم في تفسير ما يعرفونه من كتاب الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وتطبيقه على ما نابهم من أحداث، وقد لا يجدون في ذلك نصاً فتختلف اجتهاداتهم... هؤلاء ذا عادوا إلى المدينة، والتقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم عرضوا عليه ما فهموه من النصوص التي بين أيديهم أو ما اجتهدوا فيه من القضايا، فإما أن يقرهم على ذلك فيصبح جزءاً من سنته صلى الله عليه وسلم ، وإما أن يبين لهم وجه الحق والصواب فيطمئنون لحكمه صلى الله عليه وسلم ، ويأخذون به، ويرتفع الخلاف، ومن أمثلة ذلك ما يلي:

(أ ) ما أخرجه البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب: "لا يصلين أحد العصر إلاّ في بني قريظة " فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، أي: ديار بني قريظة.

وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك. فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يعنف واحداً منهم (9). وظاهر من هذا الحديث الشريف أن الصحابة رضوان الله عليهم انقسموا إلى فريقين في موقفهم من أداء صلاة العصر: فريق أخذ بظاهر اللفظ (كما يقول المناطقة ) أو بما يسميه أصوليو الحنفية بـ "عبارة النص ". وفريق استنبط من النص معنى خصَّصه به.

وتصويب رسول الله صلى الله عليه وسلم للفريقين دليل على مشروعية كل من المذهبين.

فالمسلم إذن: له أن يأخذ بظاهر النص، وله أن يستنبط من المعاني ما يحتمله النص، ويمكن التدليل عليه، ولا لوم على من بذل جهده، وكان مؤهلاً لهذا النوع من الجهد. فالفريق الثاني من الصحابة، رضوان الله عليهم، فهموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أراد أن يأمرهم بالمبالغة في الإسراع، ولذلك اعتبروا أن أداءهم الصلاة قبل الوصول إلى بني قريظة لا ينافي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة في بني قريظة، ما دامت الصلاة لن تؤخرهم عن الوصول. ومن الطريف أن ابن القيم رحمه الله أورد اختلاف الفقهاء في تصويب أن من الفريقين، وبيان الأفضل من فعل كل منهما، فمن قائل: إن الأفضل فعل من صلى في الطريق فحاز قصب السبق في أداء الصلاة في وقتها وتلبية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم : ومن قائل: إن الأفضل فعل من أخرها ليصليها في بني قريظة. . . (10).

قلت: وما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعنف واحداً منهما، فكان على الفقهاء رحمهم الله أن يسعهم ذلك من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وألا يخوضوا في أمر قد تولى، عليه الصلاة والسلام، حسمه والانتهاء منه.

(ب ) ومن أمثلته كذلك ما أخرجه أبو داود والحاكم من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه، قال: (احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل (11) فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ " فأخبرته بالذي ((وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً )) [النساء:29]. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً ) (12).

التــــأويل وأنواعـــه:

لسنا بصدد ذكر كل ما اختلف فيه الصحابة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده، بين آخذ بظاهر النص، وبين متدبر ومقلب له على مختلف وجوهه، ومستنبط لشتى المعاني منه، فذلك أمر يطول، وتقصر دونه المجلدات فضلاً عن هذا البحث، ذلك لأنهم رضوان الله عليهم قد فهموا من تلك الوقائع أن هذا الدين يسر، وأن الشرع متَّسع للطريقتين ومقرُّ للمنهجين. . .

والمجتهدون الحذقة، والفقهاء المهرة هم الذين يجتهدون في بيان ما يحقِّق كليّات الشريعة، ويوصِّل إلى مقاصدها، فأحياناً يكون ذلك بالأخذ بظاهر اللفظ، وأحياناً يكون بالأخذ بما وراء ظاهر اللفظ، وهو ما يعرف بالتأويل، ولعل من المفيد أن نلقي الضوء على هذا الموضوع، مستعرضين بإيجاز أنواع التأويل وضوابطه. . .

يأتي التأويل من الأخذ بما وراء ظاهر اللفظ، ويكون عبارة عن:

1- تـــأويـــل قـــريب:

وهو ما يمكن معرفته بأدنى تأمل مع احتمال اللفظ له، مثل: اعتبار التصدق بمال اليتيم، أو التبرع به لغيره، أو إتلافه مساوياً لأكله، أو أولى بالتحريم الذي دل عليه قوله تعالى:

((إنَّ الذين يأْكُلون أمْوال اليتامى ظُلماً إنَّما يأكُلون في بُطونِهِمْ ناراً… )) [النساء:10].

ومنه: اعتبار التبول في إناء ثم صب البول في الماء الراكد مساوياً للتبول المباشر فيه، الذي ورد النهي عنه بقوله صلى الله عليه وسلم : "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ثم يغتسل فيه "(13). باعتبار أن كلا المعملين مؤد لتلوث الماء، وإثارة الوسوسة.

2- تأويــل بعيـــد:

وهو ما يحتاج لمعرفته والوصول إليه مزيد من التأمل مع كون اللفظ يحتمله، وذلك كاستنباط ابن عباس رضي الله عنهما، أن أقل الحمل ستة أشهر من قوله تعالى:

((وَحَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً )) [الأحقاف:15] مع قوله تعالى: ((والوالِداتُ يُرْضِعْن أولادهُنَّ حَوْلينِ كامِلينِ لِمَنْ أراد أن يُتمّ الرّضاعة )) [البقرة:233].

وكاستدلال الإمام الشافعي على كون الإجماع حجة بقوله تعالى: ((وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبيَّنَ لَهُ الهُدى وَيَتَّبعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُولِّهِ مَا تَولّى ونُصْلِهِ جهنَّم وَسَاءَتْ مَصِيرا ً)) [النساء:115].

وكذلك استدلال الأصوليين بقوله تعالى: ((فَاعْتِبِرُوا يَا أولِي الأبْصَار ِ)) [الحشر:2]. . على حجية القياس، وكونه دليلاً شرعياً. فهذه استنتاجات وإن بدت يسيرة، يتعذر الوصول إليها ما لم يكن الإنسان جوال الفكر، ثاقب النظر، كما تحتاج إلى تأمل وتدبر لا يتيسران لعامة الناس.

3- تأويل مستبعد:

وهو ما لا يحتمله اللفظ، وليس لدى المُؤَوِّل على تأويله أي نوع من أنواع الدلالة، وذلك نحو تفسير بعضهم قول الله تعالى: ((وَعَلاَماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدون )) [النحل:16] بأن النجم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والعلامات هم الأئمة. وكتفسير بعضهم قوله تعالى: ((وَمَا تُغْنِي الآياتُ والنُّذُر عَنْ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُون )) [يونس:101 بأن الآيات هم الأئمة، والنذر هم الأنبياء.

وكتفسير آخرين قوله تعالى: ((عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ العَظِيم )) [النبأ:1-2] بالإمام علي رضي الله عنه ، وأنه هو النبأ العظيم(14).

ضــــوابط التــأويل:

ويتبين مما ذكرنا أن التأويل يحتاج بالإضافة إلى القدرة على التدبر والتأمل إلى ما يدل عليه ويلجئ إليه، وإلاّ فإن الأخذ بالظواهر أسلم، ولا يطرق باب التأويل إلاّ في الأمور الاجتهادية، وأما في المسائل الاعتقادية فلا مجال للاجتهاد فيها، فإن الأخذ بظواهر النصوص مع تفويض المعاني المرادة منها، وما قد تدل عليه من كيفيات هو الأسلم دائماً، وهو موقف السلف رضوان الله عليهم.

وعند الاضطرار إلى التأويل لا بد من فهم النص وتحليله، ومعرفة سائر أوجه دلالته التي تشهد لها اللغة، وتدعمها مقاصد الشريعة، وتساعد عليها كليَّاتها وقواعدها العامة، ولذلك كان الحكم باعتبار النص على ظاهره أو تحليله لمعرفة ما يستلزمه من وجوه الدلالات من أهم ضروب الاجتهاد الفقهي والاعتبار الشرعي المأمور به في قوله تعالى: ((فَاعْتَبِرُوا يا أولي الأَبْصَارِ )) [الحشر:2 ].

إن ابن عباس رضي الله عنهما عند بيانه ضوابط التفسير قد ذكر أنه على أربعة أوجه:

· فوجه تعرفه العرب بكلامها.

· ووجه لا يعذر أحد بجهالته.

· ووجه يعلمه العلماء.

· ووجه لا يعلمه إلا الله.

وعلى ذلك، فإن التأويل، وقد اتضح فيما تقدم معناه وأنواعه، قد ظهرت الصلة الوثقى بينه وبين التفسير؛ فقد جاء كل منهما في موضع الآخر في كثير من استعمالات الشارع الحكيم، وذلك في نحو قوله تعالى: ((وَما يعْلمُ تأوِيلَهُ إلاّ اللهُ، والرَّاسِخُون في العِلْمِ يقولون آمَنَّا به )) [آل عمران:7].

فقد ذهب معظم المفسرين إلى أن المراد بالتأويل هنا التفسير والبيان ومنهم: الطبري الذي نقل ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من السلف.

كذلك ورد في دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما: "اللهم فقِّهه في الدين، وعلمه التأويل" استعمل التأويل بمعنى التفسير والبيان، وإن كان بعض العلماء، كالراغب الأصفهاني في مفرداته، قد اعتبر التفسير أعم من التأويل، كما أنه نبه إلى أن التفسير أكثر ما يستعمل في بيان الألفاظ وشرحها، وأن التأويل يكثر استعماله في بيان المعاني والجُمل.

كما أشار كذلك إلى أن التأويل يغلب إطلاقه على استنباط المعاني من نصوص الكتاب والسنة، أما التفسير فيتناول استنباط المعاني منها ومن غيرها.

ولعل هذه الصلة الوثقى بين الاصطلاحين في استعمال الكتاب والسنة لهما خاصة، تبيح لنا استعارة الضوابط التي وضعها أهل الاختصاص للتفسير كضوابط للتأويل كذلك.

إن مما لا شك فيه أنه قد وردت في كتاب الله أمور قد استأثر الله تعالى بعلمها، كمعرفة حقائق الأسماء والصفات، وتفاصيل الغيب ونحو ذلك. . . كما أن هناك أموراً أخرى أطلع عليها نبيه صلى الله عليه وسلم واختصه بمعرفتها. . . ولا شك أن مثل هذه الأمور، ليس لأحد أن يخوض فيها بتفسير أو تأويل. . بل عليه أن يلزم حدود ما ورد فيها في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
 
وهناك قسم ثالث: وهو عبارة عن العلوم التي علمها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم مما أودع في كتابه،وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بتعليمها وبيانها. وهذا القسم يشتمل على نوعين:

الأول:

وهو ما لا يجوز الخوض فيه إلاّ بطريق السمع، كأسباب النزول والناسخ والمنسوخ وغيره.

الثاني:

ما يؤخذ بطريق النظر والاستدلال، وهذا أيضاً لأهل الاختصاص فيه موقفان:

(أ) فقسم منه اختلفوا في جواز تأويله، كآيات الأسماء والصفات. ومذهب السلف: منع التأويل، وهو الصحيح.

(ب) وقسم اتفقوا على جوازه، وهو استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، وهو المسمى بـ "الفقه ".

هذا وقد وضع العلماء للتأويل والتفسير شروطاً منها:

أولاً: ألاَّ يرفع التأويل ظاهر المعنى المفهوم من اللفظ حسب القواعد اللغوية، وأعراف العرب في التخاطب بهذه الألفاظ.

ثانياً : ألاَّ يناقض نصاً قرآنياً.

ثالثاً: ألاَّ يخالف قاعدة شرعية مجمعاً عليها بين العلماء والأئمة.

رابعاً : وجوب مراعاة الغرض الذي سيق النص له من خلال سبب النزول أو الورود.

أما أنواع التأويل الباطلة والمردودة، فيمكن إدراجها ضمن الأقسام التالية:

الأول : التأويل والتفسير الصادران عن غير المؤهل لذلك ممن ليس لديه تحصيل علمي كاف في اللغة والنحو، وبقية لوازم التأويل.

الثاني : تأويل المتشابهات بدون سند صحيح.

الثالث : التأويلات التي من شأنه أن تقرر مذاهب فاسدة مخالفة لظواهر الكتاب والسنة، أو لما أجمع عليه المسلمون.

الرابع : التأويل مع القطع بأن مراد الشارع ذلك، دون دليل.

الخامس : التأويل القائم على الهوى، كتأويلات الباطنية وأمثالهم.

وهذه التأويلات المردودة كلها تندرج تحت ما سبق أن ذكرناه من التأويل المستبعد.

أهل الاجتهاد من الصحابـــــة:

ونظراً لأهمية الاجتهاد وخطورته، وما يترتب عليه من آثار، لم يكن يمارسه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ الأكفاء القادرون.

وحين يمارسه غيرهم فيخطئ، كان عليه الصلاة والسلام ينكر ذلك ولا يقر أحداً عليه.

* وأخرج أبو داود والدارقطني من حديث جابر قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجرٌ في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه : هل تجدون رخصة لي في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات. فلما قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أُخبر بذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: "قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العيِّ السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصر أو يعصب - شك من راوي الحديث - على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده... " (15) فالرسول عليه الصلاة والسلام - لم يعذر المفتين هنا - من أصحابه، بل عنَّفهم وعاب عليهم أنهم أفتوا بغير علم، واعتبرهم بمثابة القتلة لأخيهم، وأوضح أن الواجب على من كان مثلهم في "العيِّ" - أي الجهل والتحيُّر - السؤال لا المسارعة إلى الفتوى ولو بغير علم، والذي نبه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حول ضرورة السؤال هو ما ورد في القرآن العظيم نفسه في قوله تعالى: ((فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُون )) [النحل:43].

* وأخرج الإمام أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي والطبراني عن أسامة بن زيد قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة فأدركت رجلاً فقال: لا إله إلا الله؛ فطعنته، فوقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقال: لا إله إلاّ اله وقتلته؟! " قلت يا رسول الله: إنما قالها خوفاً من السلاح. قال: "أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم من أجل ذلك قالها أم لا؟ من لك بلا إله إلاّ الله يوم القيامة؟ " فما زال يكررها حتى تمنيت أن لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم (16).

ففي الحديث الأول أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصحابة أخذهم بعموم الأدلة الدالة على وجوب استعمال الماء لواجده بغض النظر عن حالته، فهم لم ينتبهوا إلى قوله تعالى: ((وإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغائطِ أوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فلمْ تجِدوا ماءً فتيمّموا صعيداً طيِّبا ً)) [المائدة:6] ولم يسألوا وهم ليسوا من أهل النظر.

وأما حديث أسامة فيفهم منه كأنه رضي الله عنه تأول قول الله تعالى: ((. . .فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمانُهُمْ لمَّا رأَوْا بَأْسَناَ. . . )) [غافر:85]، واعتبر الآية نافية للنفع في الدنيا والآخرة وأنها عامة في الحالين وليست خاصة بالآخرة، كما هو ظاهر من الآية الكريمة، ولعل ذلك ما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يعنفه.
 


تلك بعض فتاوى الصحابة رضوان الله عليهم التي لم يقرهم عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم (17).

لقد كان الناس يستفتونه، عليه الصلاة والسلام، في الوقائع فيفتيهم، وترفع إليه القضايا فيقضي فيها(18)، ويرى الفعل الحسن فيستحسنه ويثني على فاعله، ويرى الفعل المغاير فينكره، ويستعلم منه أصحابه رضوان الله عليهم ذلك، ويرويه بعضهم لبعضهم الآخر فيشيع بين الآخرين، وقد يختلفون فيتحاورون فيما اختلفوا فيه بدافع الحرص، دون أن يجاوزوا ذلك إلى التنازع والشقاق،وتراشق الاتهامات وتبادل الطعون لأنهم بالرجوع إلى كتاب الله تعالى، والى رسوله صلى الله عليه وسلم يحسمون أي خلاف دون أن تبقى أية رواسب يمكن أن تلقي ظلالاً على أخوَّتهم.

تحذير النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه من الاختلاف:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدرك أن بقاء هذه الأمة رهين بتآلف القلوب التي التقت على الحب في الله، وأن حتفها في تناحر قلوبها، لذلك كان عليه الصلاة والسلام يحذر من أن يذر الخلاف قرنه فيقول: "لا تختلفوا فتختلف قلوبكم " (19). وكان كرام الصحابة رضوان الله عليهم يرون أن الخلاف لا يأتي بخير كما في قول ابن مسعود رضي الله عنه: "الخلاف شر ".

لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتث بذرة الخلاف قبل ن تتنامى. . . عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: هَجَّرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج رسول الله يعرف في وجهه الغضب فقال: "إنما هلك من كان قببكم باختلافه في الكتاب "(20).

وعن النزال بن سبرة قال: سمعت عبد الله بن مسعود قال؛ سمعت رجلاً قرأ آية سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم خلافها، فأخذت بيده فأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "كلاكما محسن " قال شعبة: أظنه قال: "لا تختلفوا فإن من قبلكم اختلفوا فهلكوا " (21).

فهنا يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة ومن يأتي بعدهم عواقب الاختلاف ويحذرهم منه.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلم الصحابة رضوان الله عليهم أدباً هاماً من آداب الاختلاف في قراءة القرآن خاصة، فيقول في الحديث الصحيح: "اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فيه فقوموا " (22) فيندبهم عليه الصلاة والسلام للقيام عن القرآن العظيم إذا اختلفوا في بعض أحرف القراءة، أو في المعاني المرادة من الآيات الكريمة حتى تهدأ النفوس والقلوب والخواطر، وتنتفي دواعي الحدة في الجدال المؤدية إلى المنازعة والشقاق، أما إذا ائتلفت القلوب، وسيطرت الرغبة المخلصة في الفهم، فعليهم أن يواصلوا القراءة والتدبر والتفكير في آيات لكتاب. ونرى كذلك أن القرآن الكريم كان - أحياناً - يتولى التنبيه على "أدب الاختلاف " حين يقع بين الصحابة رضوان الله عليهم، فعن عبد الله بن الزبير قال: "كاد الخيِّرانِ أن يهلكا - أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.. رفعا أصواتهم عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم ليه ركب بني تميم فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس، وأشار الآخر بالقعقاع بن معبد بن زرارة، فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلاّ خلافي، قال عمر: ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله تعالى: ((يا أيُّها الذين آمنوا لا تَرْفعُوا أصواتكم فوقَ صوتِ النّبي . . .الآية )) قال ابن الزبير: فما كان عمر يُسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه (23).
 

معالم أدب الاختلاف في عصر النبوة:

نستطيع على ضوء ما سبق أن نلخص معالم "أدب الاختلاف " في هذا العصر بما يلي:

(1) كان الصحابة رضوان الله عليه يحاولون ألا يختلفوا ما أمكن، فلم يكونوا يكثرون من المسائل والتفريعات (24)، بل يعالجون ما يقع من النوازل في ظلال هدي الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ومعالجة الأمر الواقع - عادة - لا تتيح فرصة كبيرة للجدل فضلاً عن التنازع والشقاق.

(2) إذا وقع الاختلاف رغم محاولات تحاشية سارعوا في ردّ الأمر المختلف فيه إلى كتاب الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم وسرعان ما يرتفع الخلاف.

(3) سرعة خضوعهم والتزامهم بحكم الله ورسوله وتسليمهم التام الكامل به.

(4) تصويب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمختلفين في كثير من الأمور التي تحتمل التأويل، ولدى كل منهم شعور بأن ما هب إليه أخوه يحتمل الصواب كالذي يراه لنفسه، وهذا الشعور كفيل بالحفاظ على احترام كل من المختلفين لأخيه، والبعد عن التعصب للرأي.

(5) الالتزام بالتقوى وتجنب الهوى، وذلك من شأنه أن يجعل الحقيقة وحدها هدف المختلفين، حيث لا يهم أيُّ منهما أن تظهر الحقيقة على لسانه، أو على لسان أخيه.

(6) التزامهم بآداب الإسلام من انتقاء أطايب الكلم، وتجنّب الألفاظ الجارحة بين المختلفين، مع حسن استماع كل منهما للآخر.

(7) تنزههم عن المماراة ما أمكن، وبذلهم أقصى أنواع الجهد في موضوع البحث، مما يعطي لرأي كل من المختلفين صفة الجد والاحترام من الطرف الآخر، ويدفع المخالف لقبوله، أو محاولة تقديم الرأي الأفضل منه.

تلك هي أبرز معالم "أدب الاختلاف " التي يمكن إيرادها.. استخلصناها من وقائع الاختلاف التي ظهرت في عصر الرسالة.
 

الاختلاف في عصر الصحابة وآدابه:

حاول بعض الكتاب على الساحة الإسلامية، أن يصوروا جيل الصحابة رضوان الله عليهم بصورة جعلت العامة ترى أن ذلك الجيل ليس متميزاً فحسب، بل هو جيل يستحيل تكراره، وفي هذا من الإساءة للإسلام ما لا يقل عن إساءة أولئك الضالين الذين يزعمون أن استئناف الحياة الإسلامية في ظل كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بعد عصر الصحابة ضرب من المستحيل، يجب ألاّ تتسامى نحوه الأعناق، وبذلك يطفئون جذوة الأمل في نفوس لا تزال تتطلع إلى الحياة في ظل الشريعة السمحاء.

إن الصحابة رضوان الله عليهم أمة صنعها كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلم ، وكتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلم بين ظهرانينا ولا يزالان قادرين على صنع أمة ربانية في أي زمان وفي أي مكان إذا اتخذا منهجاً وسبيلاً، وتعامل الناس معهما كما كان الصحابة يتعاملون، سيظلان كذلك إلى يوم القيامة، وادعاء استحالة تكرار الرعيل الأول إنما هو بمثابة نسبة العجز إلى كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلم ، وفي ذلك محاولة لإثبات أن أثرهما الفعال في حياة الناس كان تبعاً لظروف معينة، وأن زماننا هذا قد تجاوزهما بما ابتدع لنفسه من أنظمة حياة، وتلك مقولة تنتهي بصاحبها إلى الكفر الصراح.

إن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد اختلفوا في أمور كثيرة، وإذا كان هذا الاختلاف وقع في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، وإن كان عمره لا يمتد إلى أكثر من لقائه عليه الصلاة والسلام، فكيف لا يختلفون بعده؟ إنهم قد اختلفوا فعلاً، ولكن كان لاختلافهم أسباب وكانت له آداب، وكان مما اختلفوا فيه من الأمور الخطيرة:

إن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد اختلفوا في أمور كثيرة، وإذا كان هذا الاختلاف وقع في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، وإن كان عمره لا يمتد إلى أكثر من لقائه عليه الصلاة والسلام، فكيف لا يختلفون بعده؟ إنهم قد اختلفوا فعلاً، ولكن كان لاختلافهم أسباب وكانت له آداب، وكان مما اختلفوا فيه من الأمور الخطيرة:

1- اختلافهم في وفاته عليه الصلاة والسلام:

فقد كان أول اختلاف بينهم، بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، حول حقيقة وفاته صلّى الله عليه وسلم ، فإن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصر على أن رسول الله لم يمت، واعتبر القول بوفاته إرجافاً من المنافقين توعدهم عليهم، حتى جاء أبو بكر رضي الله عنه وقرأ على الناس قوله تعالى: ((وَمَا مُحمَّدٌ إلاّ رسُولٌ قد خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أفإِنْ مَاتَ أوْ قُتِلَ انْقَلبْتُمْ على أعْقَابِكُم، وَمَنْ يَنْقَلِبْ على عَقِبيهِ فَلَنْ يضُرَّ الله شيئاً، وسيجْزي الله الشاكرين )) [آل عمران:144]، وقوله تعالى: ((إنَّكَ مَيِّتُ وإنَّهُم ميِّتُون )) [الزمر:30]. فسقط السيف من يد عمر، وخر إلى الأرض، واستيقن فراق رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، وانقطاع الوحي، وقال عن الآيات التي تلاها أبو بكر "كأني، والله، لم أكن قرأتها قط "(25).

ويروي ابن عباس رضي الله عنهما عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه قال له في خلافته:

"يا ابن عباس هل تدري ما حملني على مقالتي التي قلت حين توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ قال: قلت: لا أدري يا أمير المؤمنين أنت أعلم.

قال: فإنه - والله - إن كان الذي حملني على ذلك إلاّ أني كنتُ أقرأ هذه الآية: ((وكذلك جعلناكُم أمَّةً وسطاً لِتَكُونوا شُهداء على الناسِ ويَكُون الرَّسولُ عليكمُ شهيداً )) [البقرة:143] فوالله إن كنت لأظن أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سيبقى في أمته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها، فإنه الذي حملني على أن قلت ما قلت (26). فكأنه رضي الله عنه قد اجتهد في معنى الآيات الكريمة، وفهم أن المراد منها: الشهادة في الدنيا، وذلك يقتضي بقاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، إلى آخر أيامها. "
 

2- اختلافهم في دفنه عليه الصلاة والسلام:

ثم اختلفوا في المكان الذي ينبغي أن يدفن فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، فقال قائل: "ندفنه في مسجده. وقال قائل: بل ندفنه مع أصحابه. فقال أبو بكر رضي الله عنه: إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: "ما قبض نبي إلاّ دفن حيث يقبض " فرفع فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلم الذي توفي عليه، فحفر له تحته "(27).

فهذان أمران خطيران زال الخلاف فيهما بمجرد الرجوع إلى الكتاب والسنة.
 

3- اختلافهم في خلافة رسول الله صلّى الله عليه وسلم :

فقد اختلفوا فيمن تكون الخلافة فيهم، أفي المهاجرين أم في الأنصار؟ أتكون لواحد أم لأكثر؟ كما وقع الاختلاف حول الصلاحيات التي ستكون للخليفة، أهي الصلاحيات نفسها التي كانت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم بصفته حاكماً وإماماً للمسلمين أن تنقص عنها وتختلف؟!

يقول ابن إسحاق: "ولما قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم انحاز هذا الحي من الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة واعتزل علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله في بيت فاطمة، وانحاز بقية المهاجرين إلى أبي بكر، وانحاز معهم أسيد بن حضير في بني عبد الأشهل "(28) وأوشكت فتنة كبرى أن تقع، ولو وقعت لما كان ذلك بالأمر المستغرب كثيراً، فالفراغ الذي تتركه شخصية عظمى مثل رسول الله صلّى الله عليه وسلم في أمة كان لها النبي والقائد لا يمكن أن يملأ بسهولة، ولا سيما أن فيهم رجالاً، مثل: عمر، كان قد وقر في أذهانهم استحالة موته صلّى الله عليه وسلم في تلك الظروف، فكل فرد في الأمة كان يحبه عليه الصلاة والسلام أكثر مما يحب نفسه التي بين جنبيه، وهم الذين كانوا يبتدرون قطرات وضوئه عليه الصلاة والسلام قبل أن تسقط على الأرض، فلا تكاد تسقط إلاّ في يد أحدهم، وما من أمة على الأرض أحبت نبيها وقائدها محبة الصحابة رضوان الله عليهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ، فقد كان أحدهم لا يستطيع أن يملأ عينيه من النظر إليه، من حبهم له وهيبته التي ملأت قلوبهم وجوانحهم -رغم تواضعه الشديد- وإن وقع الصدمة بوفاته عليه الصلاة والسلام كان حريًّا بأن يفقد الكثيرين منهم صوابهم، بل وقد فعل ولا غرو في ذلك، فقد كان الرسول صلّى الله عليه وسلم اليد الحانية التي حملت إليهم عز الدنيا وسعادة الآخرة، ومع ذلك فقد تعالوا على مض الحزن وألم الفراق، وتلوا قول الله تعالى: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إلاّ رسُولُ قدْ خَلتْ مِنْ قبْلِه الرُّسُل أفإنْ مَات أوْ قُتِلَ انقلبتم على أعقابكم، ومَنْ ينقلِبْ على عقبيه فلن يضُرّ الله شيئاً، وسيجزي الله الشاكرين )) [آل عمران:144] ثم توجهوا لاحتواء الأمر، وحفظ الرسالة الخالدة، والحيلولة دون أسباب الفتنة.

صحيح أنّ هناك زعامة واقعية كانت لأبي بكر ثم لعمر رضي الله عنهما، ولم يكن من المسلمين من تنقطع الأعناق إليه، مثل: أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فأبو بكر كان وزير الرسول صلّى الله عليه وسلم وصاحبه ورفيق هجرته ووالد زوجته الأثيرة لديه، وهو الذي لم يكن يفارقه في أي أمر مهم. وعمر رضي الله عنه هو من هو؟ فقد كان في إسلامه عزة للمسلمين، وفي هجرته إرغام لأنوف المشركين، وفي رأيه تأييد من رب العالمين... وكثيراً ما ورد "…جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر " و "ذهب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر " و "غزا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر "... وهذا كله قد يخفف من الكارثة التي زلزلت الأقدام والقلوب، بيد أن الإحساس بالفارغ في مثل هذه المواقف قد يتجاوز الفضائل والمناقب، ويؤدي إلى ارتباك ليس من السهل احتواؤه والسيطرة عليه، وهنا فإن الرجال الذين تربوا في ظلال النبوة قد كمتهم آدابها في سائر الأحوال... حال الاتفاق وحال الاختلاف.. وفي كل شأن من شؤون الحياة، هذه الآداب كانت كفيلة بدرء سائر الأخطار المحتملة، والحفاظ على الرسالة، وحماية وحدة الأمة وتسيير الأمور بشكل مماثل لما كانت تسير عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول الرواة: "أتى آتٍ إلى أبي بكر وعمر فقال: إن هذا الحي من الأنصار مع سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة قد انحازوا إليه، فإن كان لكم بأمر الناس حاجة فأدركوا قبل أن يتفاقم أمرهم ".

جاء هذا الخبر إلى الشيخين و رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجهز ولم يدفن بعد، قال عمر: فقلت لأبي بكر: انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار حتى تنظر ما هم عليه. وليدع سيدنا عمر يروي بقية ما حدث، حيث قال: … إن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأشرافهم في سقيفة بني ساعدة فانطلقنا نؤمهم، حتى لقينا - منهم - رجلان صالحان فذكرا لنا ما تمالأ عليه القوم، وقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين. قلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار. قالا: فلا عليكم ألاّ تقربوهم يا معشر المهاجرين، اقضوا أمركم. قال : قلت : والله لنأتينهم، فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة، فإذا بين ظهرانينا رجل مزمل، فقلت: من هذا الرجل ؟ فقالوا: سعد بن عبادة، فقلت ماله؟ فقالوا: وجع فلما جلسنا نشهد خطيبهم… ثم ذكر مآثر الأنصار وفضائلهم، وما يدل على أنهم أولى بخلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيرهم.

وهنا لا بد من وقفة، فالأنصار أهل البلد، وهم فيها الغالبية المطلقة - كما يقال اليوم - وهم الذين آووا ونصروا، وتبوّؤوا الدار والإيمان وفتحوا للإسلام قلوبهم قبل بيوتهم، وليس هناك مهاجري واحد إلاّ ولأخ له من الأنصار عليه فضل كبير، ولو كان في أمر الخلافة نص قاطع من كتاب الله أو سنة رسوله عليه الصلاة والسلام لانتهى الأمر بذكره والاحتكام إليه، وارتفع الخلاف، ولكن ليس هناك شيء من ذلك، فلم يبق إلاّ التحلي بكل خصال الحكمة والحنكة، وأدب الاختلاف والحوار العقلاني الهادئ القائم على إثارة أنبل المشاعر وأفضلها لدى كل من الطرفين، لتجاوز العقبة، واحتواء الأزمة، والخروج منها، وذلك ما كان يقول سيدنا عمر.

ولما سكت -أي خطيب الأنصار - أردت أن أتكلم وقد زوّرت (هيأت وحسنت ) في نفسي مقالة أعجبتني. فقال أبو بكر: على رسلك يا عمر؛ فكرهت أن أغضبه، فتكلم، وهو كان أعلم مني وأوقر - فوالله ما ترك كلمة أعجبتني من تزويري إلاّ قالها في بديهته، أو مثلها أو أفضل حتى سكت، ومما قال رضي الله عنه: "أما ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم به أهل" وأشاد بهم وبما قدموا لدينهم ولإخوانهم المهاجرين، وذكر من فضائلهم ومآثرهم ما لم يذكره خطباؤهم، ثم بدأ في إخراج المدينة - وحدها - فالجزيرة العربية اليوم - كلها - تستظل بظل الإسلام ، وإذا كان المهاجرون القاطنون في المدينة يمكن أن يسلموا لإخوانهم قريش، وما لم تتوحد الكلمة فلن يكتب لرسالة الإسلام تجاوز الحدود والانتشار خارج الجزيرة، إذن فمصلحة الدعوة تقتضي أن يكون الخليفة من قريش لتستمر الرسالة، وتتحد الكلمة، وتجتمع القلوب، ويستمر المد الإسلامي، ثم خيَّرهم بين أحد قرشيين لا يماري أحد في فضل أي منهما: عمر وأبي عبيدة، ونزع نفسه من الأمر ".

يقول سيدنا عمر: "ولم أكره شيئاً مما قاله غيرها - أي: غير ترشيحه لعمر وأبي عبيدة - وكان- والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقرِّبني ذلك إلى إثم، أحب إلي من أن أتأمّر على قوم فيهم أبو بكر… ".

ثم قام من الأنصار خطيب آخر يريد أن يرجع الأمر إلى الإطار الأول الذي وضعه خطيبهم الأول فيه .. فقال: "…منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش " قال عمر: "فكثر اللغط، وارتفعت الأصوات حتى تخوّفت الاختلاف " (29) فقلت: "ابسط يدك يا أبا بكر فبسط يده فبايعته، ثم بايعه المهاجرون،ثم بايعه الأنصار "(30). وقد كاد سعد بن عبادة مرشح الأنصار رضي الله عنه أن يقتل في الزحام "فقد تدافع الناس لمبايعة أبي بكر حتى كادوا يقتلون سعداً دون أن ينتبهوا له "(31).

وهكذا استطاع الصحابة رضوان الله عليهم حشم هذا الخلاف دون أن تبقى في النفوس رواسب الإحن، وتوحدت كلمة المسلمين للمضي برسالة الحق إلى حيث شاء الله لها أن تنتشر.
 

4- اختلافهم حول قتال مانعي الزكاة:

كان هذا الأمر رابع الأمور الخطيرة التي اختلف فيها الصحابة، واستطاعوا التغلب عليها بما تحلّوا به من صدق النية إلى جانب أدب الاختلاف؛ فبعد أن بويع أبو بكر رضي الله عنه بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت بعض القبائل حديثة العهد بالإسلام عنه، وتابع بعض من كان ادّعى النبوة، مثل: مسيلمة الكذاب وغيره، كما امتنعت بعض القبائل عن أداء الصلاة والزكاة، وامتنعت بعض القبائل عن أداء الزكاة فقط، وكان سبب امتناع بعضهم عن أداء الزكاة أنفة واستكباراً أن يدفعوا لأبي بكر رضي الله عنه ، وسوّل الشيطان لبعضهم بتأويل فاسد، حيث زعموا أنها، في أصل الشريعة، لا تدفع لغير رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه هو المخاطب بأخذها، ومجازاتهم عليها بالتطهير والتزكية، والدعاء لهم في قول الله تعالى: ((خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزّكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إنْ صَلاَتَكَ سَكَنَّ لَهُمْ واللهُ سمِيعُ عَلِيمٌ )) (التوبة: 103) ونسي المانعون للزكاة أو تناسوا أن هذا الخطاب لم يكن مقصوراً على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل يتناول من يلي الأمر بعده - عليه الصلاة والسلام - لأنه خطاب له صلى الله عليه وسلم بصفته حاكماً وإماماً للمسلمين؛ فإن أخذ الزكاة من أهلها وتسليمها لمستحقيها من الأمور الداخلة ضمن تنظيم المجتمع وإدارته كإقامة الحدود ونحوها، تنتقل مسؤوليتها إلى القائمين بأمر المسلين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم نيابة عن الأمة.

كما أن كل مسلم كان يبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يبايعه على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، مما لا يترك مسوّغاً للتفريق بينهما، وحرصاً من الخليفة الأول على استمرار مسيرة الإسلام يقرر أبو بكر الصديق رضي الله عنه قتالهم لحملهم على التوبة وأداء الزكاة، والعودة إلى حظيرة الإسلام ، والالتزام بكل ما بايعوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم (32)، وإزاء الموقف الذي اتخذه الخليفة الأول يقع الخلاف بينه وبين عمر رضي الله عنهما الذي تراءى له للوهلة الأولى عدم جواز مقاتلة مانعي الزكاة. يقول أبو هريرة رضي الله عنه : "لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر رضي الله عنه وكفر من كفر من العرب، فقال عمر: فكيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلاّ الله. فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلاّ بحقها وحسابه على الله تعالى"؟ فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها. قال عمر: فوالله ما هو إلاّ أن قد شرح الله صدر أبي بكر رضي الله عنه للقتال فعرفت أنه الحق " (33).

وقال ابن زيد: "افترضت الصلاة والزكاة ـ جميعاً ـ لم يفرق بينهما وقرأ: ((فإنْ تابوا وَأَقامُوا الصلاة وآتَوُا الزكاة فإِخْوانُكم في الدّين )) [التوبة:11]. وأبى أن يقبل الصلاة إلاّ بالزكاة، وقال : رحم الله أبا بكر ما كان أفقهه ـ يريد بذلك إصراره على مقاتلة من فرق بين الصلاة والزكاة ـ " (34). وكان سبب الخلاف بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أن سيدنا عمر ومن معه تمسكوا بظاهر لفظ الحديث، واعتبروا مجرد دخول الإنسان الإسلام ـ بإعلان الشهادتين ـ عاصماً لدمه وماله ومحرّماً لقتاله. أما الصديق رضي الله عنه فقد تمسك بقوله صلى الله عليه وسلم "إلاّ بحقها " واعتبر الزكاة حق المال الذي تفقد بالامتناع عن أدائه عصمة النفس والمال، كما فهم من اقتران الصلاة والزكاة في معظم آي الكتاب، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم أنهما مثلان لا فرق بينهما.

وما داموا متفقين على أن الامتناع عن الصلاة دليل ارتداد واتباع لمدعي النبوة، فإن الامتناع عن الزكاة ينبغي أن يعتبر كدليل ارتداد يقاتل مرتكبه، وبذلك استطاع الصدّيق رضي الله عنه أن يقنع بقية الصحابة بصواب اجتهاده في وجوب قتال مانعي الزكاة (35). واعتبارهم مرتدين ما لم يتوبوا، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة... وبذلك ارتفع الخلاف في هذه المسألة الشائكة، واتفقت الكلمة على قتال مانعي الزكاة، كما اتفقت على قتال المرتدين ردة كاملة، وحفظ الإسلام من محاولات العبث والاتيان عليه ركناً بعد أن أخفقوا في الإتيان عليه كاملاً، ولو لا هذا الموقف من الصديق ثم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قامت للإسلام قائمة ولا نحصر في المدينة ومكة وأرز إليهما، وسادة الرّدة والفتنة سائر أرجاء الجزيرة(36).
 

5- اختلافهم في بعض المسائل الفقهية:

إذا تركنا الأمور الخطيرة التي احتويت، وبحثنا في غيرها نجد ما لا ينقضي منه العجب في أدب الاختلاف وتوقير العلماء بعضهم بعضاً، فمما اختلف فيه الشيخان ـ أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ـ غير ما ذكرنا.. سبي أهل الرِّدة، فقد كان أبو بكر يرى سبي نساء المرتدين على عكس ما يراه عمر الذي نقض ـ في خلافته ـ حكم أبي بكر في هذه المسألة، وردهن إلى أهليهن حرائر إلاّ من ولدت لسيدها منهن، ومن جملتهن كانت خولة بنت جعفر الحنفية أم محمد بن علي رضي الله عنهما.

كما اختلفا في قسمة الأراضي المفتوحة: فكان أبو بكر يرى قسمتها وكان عمر يرى وقفها ولم يقسمها.

وكذلك اختلفا في المفاضلة في العطاء، فكان أبو بكر يرى التسوية في الأعطيات حين كان يرى عمر المفاضلة وقد فاضل بين المسلمين في أعطياتهم.

وعمر لم يستخلف على حين استخلفه أبو بكر، كما كان بينهما اختلاف في كثير من مسائل الفقه(37)، ولكن الخلاف ما زاد كلاً منهما في أخيه إلاّحباً، فأبو بكر حين استخلف عمر قال له بعض المسلمين: "ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا وقد ترى من غلظته؟ قال: أقول: اللهم إني استخلفت عليهم خير أهلك " (38).

وحين قال أحدهم لعمر رضي الله عنه: "أنت خير من أبي بكر. أجهش بالبكاء وقال: والله لليلة من أبي بكر خير من عمر وآل عمر "(39).

تلك نماذج من الاختلافات بين الشيخين، اختلفت الآراء وما اختلفت القلوب، لأن نياطها شدَّت بأسباب السماء فما عاد لتراب الأرض عليها من سلطان.

بين عمــر وعـلــي:

وقد كان بين عمر وعلي رضي الله عنهما بعض الاختلافات، ولكن في نطاق أدب رفيع. فقد أرسل عمر رضي الله عنه مرة إلى امرأة مغيبة (زوجها غائب ) كان يُدخلَ عليها فأنكر ذلك، فأرسل إليها، فقيل لها أجيبي عمر. فقالت: يا ويلاه ما لها ولعمر؟ فبينما هي في الطريق (إليه ) فزعت فضربها الطلق، فدخلت داراً فألقت ولدها، فصاح الصبي صيحتين ثم مات. فاستشار عمر صحب النبي صلى الله عليه وسلم فأشار عليه بعضهم: أنه ليس عليك شيء، إنما أنت والٍ مؤدب، وصمت علي رضي الله عنه ، فأقبل عليه عمر وقال: ما تقول؟ قال: إن كانوا قالوا برأيهم فقد أخطأ رأيهم، وإن كانوا قالوا في هواك فلم ينصحوا لك، أرى أن ديته عليك، فإنك أنت أفزعتها، وألقت ولدها بسببك؛ فأمر عمر أن يقسم عقله (دية الصبي ) على قومه(40). وهكذا نزل عمر على رأي علي رضي الله عنهما ولم يجد غضاضة في العمل باجتهاده وهو أمير المؤمنين، وقد كان في رأي غيره له منجاة.

بين عمر وعبد الله بن مسعود:

عبد الله بن مسعود من أقرأ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لكتاب الله، ومن أعلمهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان كثير من الصحابة يعدونه من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لكثرة ملازمته له، قال أبو موسى الأشعري: "كنا حيناً وما نرى ابن مسعود وأمّه إلاّ من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من كثرة دخولهم ولزومهم له "(41). وقال أبو مسعود البدري مشيراً إلى عبد الله بن مسعود، وقد رآه مقبلاً: "ما أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك بعده أحداً أعلم بما أنزل الله تعالى من هذا القادم. فقال أبو موسى: لقد كان يشهد إذا غبنا، ويؤذن له إذا حجبنا "(42).

وعمر رضي الله عنه معروف من هو في فقهه وجلالة قدره، وقد كان ابن مسعود أحد رجال عمر رضي الله عنهما في بعض الأعمال، وقد وافق عبد الله، عمر رضي الله عنهما في كثير من اجتهاداته، حتى اعتبره المؤرخون للتشريع الإسلامي أكثر الصحابة تأثراً بعمر، وكثيراً ما كانا يتوافقان في اجتهاداتهما، وطرائقهما في الاستدلال، وربما رجع عبد الله إلى مذهب عمر في بعض المسائل الفقهية كما في مسألة مقاسمة الجد الإخوة مرة إلى الثلث، ومرة إلى السدس (43).

ولكنهما اختلفا في مسائل كثيرة أيضاً، ومن مسائل الخلاف بينهما: أن ابن مسعود كان يطبق يديه في للصلاة، وينهى عن وضعهما على الركب، وعمر كان يفعل ذلك وينهى عن التطبيق.

وكان ابن مسعود يرى في قول الرجل لامرأته: "أنت عَلَيَّ حرام " أنه يمين، وعمر يقول: هي طلقة واحدة.

وكان ابن مسعود يقول في رجل زنى بامرأة ثم تزوجها: لا يزالان زانيين ما اجتمعا، وعمر لا يرى ذلك، ويعتبر أوله سفاحاً وآخره نكاحاً (44).

ولقد ذكر ابن القيم في "إعلام الموقعين " أن المسائل الفقهية التي خالف فيها ابن مسعود عمر رضي الله عنهما بلغت مائة مسألة وذكر أربعاً منها(45). ومع ذلك فإن اختلافهما هذا ما نقص من حب أحدهما لصاحبه، وما أضعف من تقدير ومودة أي منهما للآخر، فهذا ابن مسعود يأتيه اثنان: أحدهما قرأ على عمر وآخر قرأ على صحابي آخر، فيقول الذي قرأ على عمر: اقرأنيها عمر بن الخطاب، فيجهش ابن مسعود بالبكاء حتى يبل الحصى بدموعه، ويقول: اقرأ كما أقرأك عمر فإنه كان للإسلام حصناً حصيناً، يدخل الناس فيه ولا يخرجون منه، فلما أصيب عمر انثلم الحصن (46).

ويقبل ابن مسعود يوماً وعمر جالس فلما رآه مقبلاً قال: "كنيّف مُلئ فقهاً أوعلما ً" وفي رواية: "كنيّف ملئ علماً آثرت به أهل القادسية "(47). هكذا كانت نظرة عمر لابن مسعود رضي الله عنهما، لم يزده الاختلاف بينهما في تلكم المسائل إلاّ محبة وتقديراً له، ولنا أن نستنبط من تلك الأحداث آداباً تكون نبراساً في معالجة القضايا الخلافية.

بين ابن عبَّاس وزيد بن ثابت:

وحتى نتلمس المزيد من أدب الاختلاف بين الصحابة رضوان الله عليهم نعرض القضايا الخلافية، فنقول: كان ابن عباس رضي الله عنهما يذهب كالصدِّيق وكثير من الصحابة إلى أن الجد يسقط جميع الإخوة والأخوات في المواريث كالأب، وكان زيد بن ثابت كعلي وابن مسعود وفريق آخر من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين يذهب إلى توريث الإخوة مع الجد ولا يحجبهم به، فقال ابن عباس يوماً: ألا يتقي الله زيد، يجعل ابن الابن ابناً ولا يجعل أب الأب أباً!: وقال: لوددت أني وهؤلاء الذين يخالفونني في الفريضة نجتمع، فنضع أيدينا على الركن، ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين. . . (48).

تلك أمثلة من اختلافات الصحابة الفقهية، نوردها لا لنعمق الهوة ونؤصل الاختلاف بل لتنحصر ضالتنا في استقراء آداب نلتقي عليها في حل خلافاتنا الفقهية حتى يغدو أسلوب حياة لنا في تعاملنا مع الناس.

إن ابن عباس رضي الله عنهما الذي بلغت ثقته بصحة اجتهاده وخطأ اجتهاد زيد هذا الحد الذي رأيناه، رأى زيد بن ثابت يوماً يركب دابته فأخذ بركابه يقود به، فقال زيد: تَنَحَّ يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيقول ابن عباس: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا وكبرائنا. فقال زيد: أرني يدك. فأخرج ابن عباس يده، فقبلها زيد وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا(49). وحين توفي زيد قال ابن عباس: "هكذا يذهب العلم "(50) وفي رواية البيهقي في سننه الكبرى "هكذا ذهاب العلم، لقد دفن اليوم علم كثير "(51). وكان عمر رضي الله عنه يدعو ابن عباس للمعضلات من المسائل مع شيوخ المهاجرين والأنصار من البدريين وغيرهم (52).

والحق لو أننا حاولنا تتبع القضايا الخلافية بين الصحابة في مسائل الفقه، وسلوكهم في عرض مذاهبهم لسودنا في ذلك كتباً، وهذا ليس مبتغانا هنا إنما نورد نماذج - فقط - نستشف منها الآداب التي تربى عليها جيل الصحابة رضوان الله عليهم، لتدل على مدى التزامهم بأدب الاختلاف في الظروف كلها.

وحين جرى الكتاب بما سبق في علم الله، ووقعت الفتن الكبرى، وحدث ما حدث بين الصحابة ـ لأمور الله وحده العالم بكل أسبابها، والمحيط بسائر عواملها ـ حين حدث ذلك ووقع السيف بينهم ما نسي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فضائل أهل الفضل منهم، ولا أنستهم الأحداث الجسام والفتن العظام مناقب أهل المناقب منهم، فهذا أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يقول عنه مروان بن الحكم: "ما رأيت أحداً أكرم غلبة من علي ما هو إلاّ ولينا يوم الجمل فنادى مناديه. . . ولا يذفف ـ أي يجهز ـ على جريح " (53).

ويدخل عمران بن طلحة على عليّ رضي الله عنه، بعدما فرغ من معركة الجمل، فيرحب به ويدنيه ويقول: "إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك من الذين قال الله عز وجل فيهم: ((وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إخْواناً على سُرُرٍ مُتَقَابِلِين )) [الحجر:47]. ثم أخذ يسأله عن أهل بيت طلحة فرداً فرداً وعن غلمانه وعن أمهات أولاده... يا ابن أخي كيف فلانة؟ كيف فلانة؟ ويستغرب بعض الحاضرين ممن لم يحظوا بشرف صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يدركوا ماذا يعني أن يكون الإنسان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقول رجلان جالسان على ناحية البساط: الله أعدل من ذلك، تقتلهم بالأمس وتكونون إخواناً في الجنة؟ فيغضب الإمام علي، ويقول للقائلين: "قوما أبْعَدَ أرضِ الله وأسحقها فمن هو إذاً إن لم أكن أنا وطلحة، فمن إذن؟! " (54).

ويسأل بعضهم أمير المؤمنين علياً عن "أهل الجمل " أمشركون هم؟ فيقول رضي الله عنه: من الشرك فرُّوا .

قال: أمنافقون هم؟ فيقول رضي الله عنه: إن المنافقين لا يذكرون الله إلاّ قليلاً .

فيقال: فمن هم إذن؟ فيقول كرَّم الله وجهه: إخواننا بغوا علينا (55).

وينال أحدهم من أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بمحضر من عمار بن ياسر الذي كان على غير موقفها يوم الجمل ـ كما هو معروف ـ فيقول رضي الله عنه: "اسكت مقبوحاً منبوحاً، أتؤذي محبوبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فأشهد أنها زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة؟ لقد سارت أمنا عائشة رضي الله عنها مسيرها وإنا لنعلم أنها زوجة النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلانا بها ليعلم إياه نطيع أو إياها " (56).

أي أدب بعد هذا ينتظر صدوره من رجال قضت مشيئة الله أن تتلاقى رماحهم، لكن النور الذي استقوه من مشكاة النبوة ظل ينير قلوباً عجزت الإحن أن تغشاها، ففاضت بمثل هذا الأدب في الاختلاف، وحمداً لله فما كان الله جل شأنه ليجمع في رجال عصور الخير الاختلاف ومجانفة الأدب.

وصف ضرار لـ "علي " وبكاء معاوية.

أخرج أبو نعيم عن أبي صالح قال: كدخل ضرار بن ضمرة الكناني على معاوية، فقال له: صف لي علياً، فقال: أو لا تعفيني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا أعفيك، قال: أما إذ لا بد، فإنه والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير العبرة (الدمعة)، طويل الفكرة، يقلب كفيه ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما جشب (ما غلظ وخشن من الطعام) كان ـ والله ـ كأحدنا، يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، وكان مع تقربه إلينا، وقربه منا، لا نكلمه هيبة له، فإن تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظم أهل الدين، ويحب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه ـ وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه ـ يميل في محرابه قابضاً على لحيته، يتململ (يضطرب ويتقلب) تململ السليم (الملسوع) ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه الآن وهو يقول: يا ربنا يا ربنا، يتضرع إليه، يقول للدنيا: ألي تعرضتِ؟ ألي تشوفتِ؟ (اطلعت) هيهات، هيهات، غرِّي غيري، قد بتتُّك ثلاثاً (طلقتك طلاقاً باتاً) فعمرك قصير، ومجلسك حقير، وخطرك يسير، آه آه، من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق. . .

فوكفت دموع معاوية على لحيته ما يملكها، وجعل ينشفها بكمه، وقد اختنق القوم بالبكاء، فقال معاوية: كذا كان أبو الحسن رحمه الله، كيف وَجْدُكَ (حزنك) عليه يا ضرار؟ قال : وَجْدُ من ذُبحَ واحدها في حِجرها، لا ترقأ (تسكن وتنقطع) دمعتها، ولا يسكن حزنها. ثم قام فخرج (57).

سمات أدب الاختلاف في عهد الخلافة الراشدة:

من خلال استعراضنا لقضايا الاختلاف نلحظ أن الهوى لم يكن مطيَّة أحد الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وأن الخلافات التي أفرزت تلك الآداب لم يكن الدافع إليها غير تحري الحق، وهذا غيض من فيض من معالم أدب الاختلاف بين الصحابة بعد عهد الرسالة وانقطاع الوحي:

1- كانوا يتحاشون الاختلاف، وهم يجدون عنه مندوحة، فهم يحرصون الحرص كله على عدمه.

2- وحين يكون للخلاف أسباب تبرره من مثل وصول سنة في الأمر لأحدهم لم تصل للآخر، أو اختلافهم في فهم النص، أو في لفظة كانوا وقافين عند الحدود يسارعون للاستجابة للحق، والاعتراف بالخطأ دون أي شعور بالغضاضة، كما كانوا شديدي الاحترام لأهل العلم والفضل والفقه منهم، لا يجاوز أحد منهم قدر نفسه، ولا يغمط حق أخيه، وكل منهم يرى أن الرأي مشترك، وأن الحق يمكن أن يكون فيما ذهب إليه، وهذا هو الراجح عنده، ويمكن أن يكون الحق فيما ذهب إليه أخوه، وذلك هو المرجوح، ولا مانع يمنع أن يكون ما ظنه راجحاً هو المرجوح ، ولا شيء يمنع أن يكون ما ظنه مرجوحاً هو الراجح.

3- كانت أخوة الإسلام بينهم أصلاً من أصول الإسلام الهامة التي لا قيام للإسلام دونها، وهي فوق الخلاف أو الوفاق في المسائل الاجتهادية.

4- لم تكن المسائل الاعتقادية مما يجري فيه الخلاف، فالخلافات لم تكن تتجاوز مسائل الفروع.

5- كان الصحابة رضوان الله عليهم قبل خلافة عثمان رضي الله عنه منحصرين في المدينة، وقليل منهم في مكة، لا يغادرون إلاّ لجهاد ونحوه، ثم يعودون فيسهل اجتماعهم، ويتحقق إجماعهم في كثير من الأمور.

6- كان القراء والفقهاء بارزين ظاهرين كالقيادات السياسية، وكل له مكانته المعروفة التي لا ينازعه فيها منازع، كما أن لكل شهرته في الجانب الفقهي الذي يتقنه، مع وضوح طرائقهم ومناهجهم في الاستنباط وعليها بينهم ما يشبه الاتفاق الضمني.

7- كانت نظرتهم إلى استدراكات بعضهم على بعض أنها معونة يقدمها المستدرك منهم لأخيه وليست عيباً أو نقداً.
 

الخلاف في عهد التابعين وآدابه:

كان من سياسات أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ألاَّ يسمح للصحابة من المهاجرين والأنصار بالإقامة خارج المدينة، فهم في غير المدينة ـ دائماً ـ مسافرون يذهبون لغزو أو تعليم أو ولاية أو قضاء أو غير ذلك من المهام، وتبقى المدينة المستقر والمقام لهم بعد ذلك، فهي حاضرة الدولة وقاعدة الخلافة، وهم حملة رسالة الإسلام و رعيله الأول فيجب أن يكونوا قريبين من الخليفة، أعواناً له على أعبائه، مشاركين إياه في شؤون الأمة كلها.

فلما ولي عثمان رضي الله عنه لم ير بأساً في أن يسمح لكل من أراد من الصحابة مغادرة المدينة أو يستوطن حيث يشاء من ديار الإسلام، فتفرق فقهاء الصحابة وقراؤهم في الأمصار التي فتحت، والبلدان التي مصرت، فاستوطن المصرين (البصرة والكوفة ) ما يزيد عن ثلاثمائة من الصحابة، وأقام في مصر والشام عدد منهم.

ولقد نقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن رجع من حنين ترك في المدينة اثني عشر ألفاً من الصحابة، بقي منهم فيها حتى وفاته عشرة آلاف، وتفرق ألفان منهم في الأمصار(58).

وقد حمل علم وفقه الفقهاء والقراء من الصحابة بعدهم من تلقى عنهم من التابعين، أمثال: سعيد بن المسيب (59) الذي يعتبر راوية عمر وحامل فقهه في المدينة، وعطاء بن أبي رباح في مكة، وطاووس في اليمن، ويحيى بن أبي كثير في اليمامة، والحسن في البصرة، ومكحول في الشام، وعطاء في خراسان، وعلقمة في الكوفة وغيرهم. . . وهؤلاء كانوا كثيراً ما يمارسون الفتوى والاجتهاد بمشهد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تلقوا العلم والفقه عنهم، وتربوا على أيديهم، وتأدبوا بآدابهم، وتأثروا بمناهجهم في الاستنباط، فما خرجوا عن آداب الصحابة في الاختلاف عندما اختلفوا، ولا جاوزوا تلك السيرة، وهؤلاء هم فقهاء الجمهور الذين تأثرت بهم جماهير الأمة، وعنهم تلقوا الفقه، ولعل مما يوضح ذلك الأدب هاتان المناظرتان في الدية.

أخرج عبد الرزاق (60) من طريق الشعبي قال: جاء رجل إلى شريح، فسأله عن دية الأصابع، فقال: في كل أصبع عشرة إبل. فقال الرجل: سبحان الله . . . هذه وهذه سواء (مشيراً إلى الإبهام والخنصر ) فقال شريح: ويحك، إن السنة منعت القياس، اتبع ولا تبتدع.

وأخرج مالك في الموطأ عن ربيعة قال: سألت سعيد بن المسيب. كم في أصبع المرأة؟ قال: عشرة من الإبل. قلت: ففي أصبعين؟ قال عشرون. قلت ففي ثلاث؟ قال: ثلاثون. قلت ففي أربع؟ قال عشرون. قلت: حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها (أي: ديتها ) فقال سعيد: أعراقي أنت؟ فقال ربيعة: بل عالم متثبت. أو جاهل متعلم. قال سعيد: هي السنة يا ابن أخي (61).

وينتهي الأمر عند هذا الحد دون أن يحتد طرف ويتهم الآخر بالجهل، أو يزعم لنفسه إصابة الحق وما يراه غيره الباطل، فمذهب سعيد والحجازيين أن دية المرأة كدية الرجل حتى تبلغ الثلث من ديته، فما زاد عن الثلث تكون فيه ديتها نصف دية الرجل، ذلك لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى تبلغ الثلث من ديتها ) (62). ومذهب العراقيين أن ديتها نصف دية الرجل ابتداءً.

وناظر الشعبي (عامر بن شراحيل الكوفي ) رجلاً في القياس، فقال له: أرأيت لو قتل الأحنف بن قيس وقتل معه طفل صغير أكانت ديتهما واحدة أم يفضل الأحنف لعقله وحلمه؟ قال الرجل: بل سواء، قال: فليس القياس بشيء.

والتقى الأوزاعي بأبي حنيفة في مكة، فقال الأوزاعي: ما بالكم لا ترفعون أيديكم عند الركوع والرفع منه؟ فقال أبو حنيفة: لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء. فقال الأوزاعي: كيف وقد حدّثني الزهري عن سالم عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة وعند الركوع وعند الرفع منه.

فقال أبو حنيفة: حدثنا حماد عن إبراهيم عن علقمة والأسود عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يرفع يديه إلاّ عند افتتاح الصلاة ولا يعود لشيء من ذلك.

فقال الأوزاعي: أحدثك عن الزهري عن سالم، عن أبيه وتقول: حدّثني حماد عن إبراهيم؟

فقال الأوزاعي: أحدثك عن الزهري عن سالم، عن أبيه وتقول: حدّثني حماد عن إبراهيم؟

فقال أبو حنيفة: كان حماد أفقه من الزهري، وكان إبراهيم أفقه من سالم، وعلقمة ليس بدون ابن عمر، وإن كان لابن عمر فضل صحبة فالأسود له فضل كثير، وعبد الله هو عبد الله، فسكت الأوزاعي (63).

ونقل عن أبي حنيفة أنه قال: "هذا الذي نحن فيه رأي لا نجبر أحداً عليه ولا نقول: يجب على أحد قبوله بكراهية فمن كان عنده شيء أحسن منه فليأت به "(64).

فالجميع متبعون، فحين تصح السنة لا يخالفها أحد وإذا حدث فإنه اختلاف في فهمها، يسلم كل للآخر ما يفهمه، ما دام اللفظ يحتمله، ولا شيء من الأدلة الصحيحة عند الفريقين يعارضه.
 

أثر الخلاف السياسي في الاختلافات الاعتقادية والفقهية:

من الأمور التي لا بد أن نشير إليها أن ما ذكرناه من اختلافات كان شأن جماهير الأمة وغالبيتها العظمى، حيث لا تتعدى الاختلافات القضايا الفقهية التي تضمحل وتزول حين يُحتكم إلى النصوص التي تعلو الشبهات من كتاب وسنة فيذعن الجميع للحق في ظل أدب نبوي كريم، لأن سبب الخلاف لا يعدو أن يكون ـ كما قلنا ـ عَدَمَ وصول سنة في الأمر لأحدهم ووصولها للآخر، أو اختلافاً في فهم النص أو في لفظه، ولكن هناك أمراً آخر قد استجد وهو: الاختلافات السياسية التي أعقبت فتنة مقتل الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه، وانتقال الخلافة إلى الكوفة ثم إلى الشام، وما تخلل ذلك من أحداث جسام، فإن تلك الأحداث قد أدخلت إلى دائرة الاختلاف أموراً أخرى كانت خارجها، وساعدت على انطواء أهل كل بلد أو مصر على ما وصلهم من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والنظر إلى ما لدى أهل الأمصار الأخرى نظرة مختلفة متحفظة كثيراً ما تؤثر فيها ظروف التأييد السياسي أو المعارضة، واتخذ العراق بمصريه العظيمين (الكوفة والبصرة ) بيئة خصبة لتفاعل الأفكار السياسية وتعقيدها وتصديرها إلى جهات مختلفة، ففيه نشأ التشيع (65) وظهرت الجهمية(66) والمعتزلة(67)، وانتشر الخوارج(68) وجملة من أهل الأهواء والبدع. . . وبدأ وضع الحديث، وتأليف القصص ذات المغزى السياسي، ووضع المنافرات على ألسنة الناس، حتى قال الإمام مالك في الكوفة: "إنها دار الضر " (69) وقال الزهري: "يخرج الحديث من عندنا شبراً فيعود في العراق ذراعا ً" (70).

وهذه الأمور جعلت الفقهاء العراقيين أنفسهم يتخذون من الاحتياطات ويضعون من الشروط لقبول السنن والأخبار ما لم يكن من سبقهم يلتفت إليه، وذلك حرصاً منهم على ألاّ يدخل إلى فقههم من فكر أهل الأهواء والبدع والفرق المتصارعة ما يفسد عليهم دينهم، فما بالك بغير العراقيين الذين بلغ بهم الخوف من الأخذ عن العراقيين مداه، حتى كان أهل الحجاز يرون أن حديث العراقيين أو الشاميين لا يقبل إذا لم يكن له أصل عند الحجازيين(71).

وقيل لأحد علماء الحجاز: حديث سفيان الثوري عن منصور المعتمر، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة النخعي، عن عبد الله بن مسعود... أي: ما رأيك في إسناد هذه سلسلته، وهو أصح إسناد لدى العراقيين؟ قال: إن لم يكن له أصل في الحجاز فلا(72).

واتخذ العباس من ربيعة بن أبي عبد الرحمن (73) وزيراً ومستشاراً وهو مدني فاستعفاه، وعاد إلى المدينة بعد فترة قصيرة، فقيل له: كيف رأيت العراق وأهلها؟ فقال: رأيت قوماً حلالنا حرامهم، وحرامنا حلالهم، وتركت بها أكثر من أربعين ألفاً يكيدون هذا الدين!!. . . ونقل عنه قوله: كأن النبي الذي أرسل إلينا غير النبي الذي أرسل إليهم(74).

وهذه الأقوال وإن كان المقصود بها أهل الأهواء والبدع في العراق لا أهل السنة وجماهيرهم فيه، إلاّ أن لها دلالة واضحة على بعض الأمور ذات الآثار البعيدة المدى في الحركة الفقهية، ومواقف فقهاء البلدين وطرائقهم ومناهجهم في الاستنباط.

فأهل الحجاز يعتقدون أنهم قد ضبطوا السنّة، فلم يشذ عنهم منها شيء، فالمدينة كان فيها عشرة آلاف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خَلَّفَهُمْ عليه الصلاة والسلام بعد غزوة حنين، عاشوا فيها إلى وفاته. وكان عمر بن عبد العزيز يكتب إلى أهل الأمصار يعلمهم السنن والفقه، ولكنه حين يكتب إلى المدينة فإنه يكتب إليهم يسألهم عمَّا مضى وأن يُعلموه بما عندهم من السنن ليرسل بها إلى الآخرين. وكان حامل السنة وفقه الصحابة وآثارهم في المدينة سعيد بن المسيب وأصحابه الذين أخذ عنهم بعد ذلك المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية وغيرهم، وكان علماء المدينة ـ من التابعين ـ يرون أن السنن والآثار التي بين أيديهم كافية لتلبية الحاجة الفقهية، وأنه لا شيء يدعوهم إلى الأخذ بالرأي بكل ضروبه، على حين كان يرى بعضهم خلاف ذلك، ويأخذ بالرأي حتى عرف به وحمله لقباً، مثل: ربيعة بن أبي عبد الرحمن، شيخ مالك الذي لقب بـ "ربيعة الرأي" ولكن الكثرة الغالبة كانت لعلماء السنن والأثر.

أما العراقيون كإبراهيم النخعي (75) وأصحابه فكانوا يرون أن نصيبهم من السنن ليس بقليل، فقد عاش بينهم من الصحابة عدد وافر جاوز الثلاثمائة، وكان كثير منهم من الفقهاء وفي مقدمتهم عبد الله بن مسعود الذي كان من أفقه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب الله، كما كان بينهم علي رضي الله عنه مدة خلافته، ، وأبو موسى الأشعرى وعمار وغيرهم.

وكان إبراهيم النخعي ومعه معظم علماء العراق يرون أن أحكام الشرع معقولة المعنى، مشتملة على ما فيه مصالح العباد، وأنها بنيت على أصول محكمة، وعلل ضابطة لتلك المصالح والحكماء، تفهم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأن الأحكام الفرعية شرعت من أجل تلك العلل، وأن الفقيه هو ذلك الذي يبحث عن علل الأحكام التي شرعت لأجلها، ويتفهم غاياتها، ليجعل الأحكام مرتبطة بعللها وجوداً وعدماً، كما كان علماء العراق يرون أن النصوص الشرعية متناهية لكن الوقائع لا تتناهى، فالنصوص قد توقفت بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فما لم تلاحظ علل الأحكام التي شرعت بالكتاب والسنة فإن من غير الممكن مواجهة الحاجة التشريعية لدى الناس.

عن الحسن بن عبيد الله النخعي، قال: قلت لإبراهيم النخعي: أكل ما أسمعك تفتي به سمعته؟ فقال: لا. قلت: تفتي بما لم تسمع؟ قال: سمعت وجاءني ما لم أسمع فقسته بالذي سمعت(76). تلك كانت سمة مدرسة العراق: الرأي إن غاب الأثر .

أما سعيد بن المسيب وعلماء المدينة منهم فكانوا لا يأبهون بالعلل إلاّ حين يعييهم الوصول إلى نص أو أثر، وكيف يعييه ذلك وهو يقول: ما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي قضاء إلاّ وقد علمته(77)!! كما أن بيئة المدينة لم يطرأ عليها ما طرأ على البيئة العراقية من تغيرات، ولم يحدث فيها من الوقائع ما حدث في العراق، ولذلك فإن الكثيرين من علماء المدينة كانوا إذا سئل أحدهم عن شيء لديه فيه أثر أجاب، وإلاّ اعتذر. . سئل مسروق عن مسألة فقال: لا أدري. فقيل له: فقس لنا برأيك. فقال: أخاف أن تزل قدمي(78).

ومما يوضح تهيب أهل المدينة من القول بالرأي فيما لا أثر فيه ما قاله ابن وهب: قال مالك: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام المسلمين وسيد العالمين يُسأل عن الشيء فلا يجيب حتى يأتيه الوحي من السماء، فإذا كان رسول رب العالمين لا يجيب إلاّ بالوحي، فمن الجرأة العظيمة إجابة من أجاب برأيه، أو بقياس أو تقليد من يحسن به الظن، أو عرف أو عادة أو سياسة أو ذوق، أو كشف أو منام، أو استحسان أو خرص والله المستعان، وعليه التكلان(79).

ومع أن الخلاف قد احتدم بين المدرستين وجرى تبادل النقد بين الفريقين، لم يتخل أي منهما عن أدب الاختلاف كما تبين لنا مما تقدم من المناظرات، إضافة إلى مناظرات أخرى كثيرة جرت بين رجال المدرستين لم يخرج أحد منهم فيها عن حدود أدب الاختلاف (80) فلا تكفير ولا تفسيق ولا اتهام بابتداع منكر ولا تبرؤ.

عن ابن أبي شبرمة قال: دخلت أنا وأبو حنيفة على جعفر بن محمد بن الحنفية، فسلمت عليه، وكنت له صديقاً، ثم أقبلت على جعفر وقلت له: أمتع الله بك، هذا رجل من أهل العراق وله فقه وعقل. فقال لي جعفر: لعله الذي يقيس الدين برأيه؟ ثم قال: أهو النعمان؟ فقال أبو حنيفة: نعم أصلحك الله. فقال جعفر: اتق الله ولا تقس الدين برأيك، فإن أول من قاس إبليس، إذ أمره الله بالسجود لآدم، فقال: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين... ثم قال لأبي حنيفة: أخبرني عن كلمة أولها شرك وآخرها إيمان؟ قال أبو حنيفة: لا أدري. قال جعفر: هي "لا إله إلاّ الله" فلو قال: "لا إله" ثم أمسك كان كافراً، فهذه كلمة أولها شرك وآخرها إيمان. ثم قال له: ويحك أيهما أعظم عند الله: قتل النفس التي حرم الله أو الزنا؟ قال: بل قتل النفس، فقال جعفر: إن الله قد قبل في قتل النفس شاهدين، ولم يقبل في الزنا إلا أربعة، فكيف يقوم لك قياس؟ ثم قال: أيهما أعظم عند الله الصوم أو الصلاة؟ قال: بل الصلاة. قال: فما بال المرأة إذا حاضت تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة، اتق الله يا عبد الله ولا تقس، فإنا نقف غداً نحن وأنت بين يدي الله فنقول: قال الله عز وجل وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول أنت وأصحابك: قسنا ورأينا، فيفعل الله بنا وبكم ما يشاء. . . (81).

إن أسئلة الإمام جعفر لم تكن مما يعجز واحد مثل أبي حنيفة عن الإجابة عنها، ولكنه الأدب مع آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي جعله يسكت.

نستوحي مما تقدم من المناظرات أن الأدب النبوي الرفيع كان معين المتناظرين، وأن الاختلاف لم يبنِ بين الإخوة حواجز تحول دون الالتقاء، وما تناقله المؤرخون لتلك الفترة من غلظة إنما كان يجري معظمه بين الفرق الكلامية التي امتدت خلافاتها إلى الأمور الاعتقادية، فسوَّغ بعضها لنفسه أن يرمي الآخرين بالكفر أو الفسق أو البدعة، وحتى بين هذه الفرق لم تعدم صفحات التاريخ أن تجد من أدب الاختلاف ما يمكن تسجيله. .
 
مناظرة ابن عبَّاس للخوارج:

عن عبد الله بن المبارك(82) قال: حدَّثنا عكرمة بن عمار، حدثنا سماك الحنفي قال: سمعت ابن عباس يقول: قال علي: لا تقاتلوهم (أي الخوارج) حتى يخرجوا فإنهم سيخرجون، قال: قلت: يا أمير المؤمنين أبرد بالصلاة فإني أريد أن أدخل عليه فأسمع من كلامهم وأكلمهم، فقال: أخشى عليك منهم، قال: (أي ابن عباس) وكنت رجلاً حسن الخلق لا أوذي أحداً. قال: فلبست أحسن ما يكون من الثياب اليمنية، وترجلت ثم دخلت عليهم وهم قائلون: فقالوا لي: ما هذا اللباس؟ فتلوت عليهم القرآن: ((قل مَنْ حرّم زينَة الله التي أخْرج لِعباده والطيِّبات مِنَ الرِّزْق)) [الأعراف:32] وقلت: ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس أحسن ما يكون من اليمنية. فقالوا: لا بأس، فما جاء بك؟ فقلت: أتيتكم من عند صاحبي، وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بالوحي منكم، وفيهم نزل القرآن، أبلغكم عنهم وأبلغهم عنكم، فما الذي نقمتم؟ فقال بعضهم ناهياً: إيَّاكم والكلام معه، إن قريشاً قوم خصمون، قال الله عز وجل: ((بَلْ هُمْ قَومُ خَصِمون)) [الزخرف:58). وقال بعضهم كلِّموه، فانتحى لي منهم رجلان أو ثلاثة، فقالوا: إن شئت تكلمت وإن شئت تكلمنا. فقلت: بل تكلموا. فقالوا: ثلاث نقمناهنّ عليه: جعل الحكم إلى الرجال وقال الله: ((إن الحُكْمُ إلاّ للهِ)) [ الأنعام:57] [يوسف:40-67] فقلت: قد جعل الله الحكم من أمره إلى الرجال في ربع درهم: في الأرنب(83)، وفي المرأة وزوجها ((فابْعثوا حَكماً مِنْ أهْلِهِ وحكماً مِنْ أهلِها)) [النساء:35].

فالحكم في رجل وامرأته والعبد أفضل، أم الحكم في الأمة يرجع بها ويحقن دماؤها، ويلم شعثها؟ قالوا: نعم. قالوا: وأخرى مجانفة أن يكون أمير المؤمنين، فأمير الكافرين هو. فقلت لهم: أرأيتم إن قرأت من كتاب الله عليكم، وجئتكم به من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أترجعون؟ قالوا: نعم. قلت: قد سمعتم أو أراه قد بلغكم أنه لما كان يوم الحديبية جاء سهيل بن عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: "اكتب. . هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم " فقالوا: لو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: "امح يا عليّ" أفخرجت من هذه؟ قالوا: نعم.

قال: وأما قولكم: قتل ولم يسب، ولم يغنم (أي في معركة الجمل وصفين) أفتسبون أمكم، وتستحلون منها ما تستحلون من غيرها؟! فإن قلتم: نعم، فقد كفرتم بكتاب الله، وخرجتم من الإسلام، فأنتم بين ضلالتين. . .

وكلما جئتهم بشيء من ذلك أقول: أفخرجت منها؟ فيقولون: نعم. قال: فرجع منهم ألفان وبقي ستة آلاف(84).

فهؤلاء قوم أشهروا سيوفهم للقتال، واستحلوا دماء مخالفيهم، لكنهم مع ذلك حين جودلوا بالحق استجاب كثير منهم، وحينما ذكِّروا بالقرآن تذكروا، وحينما دعوا إلى الحوار استجابوا بقلوب مفتوحة، فأين المسلمون اليوم من هذا؟! .
 
الوسوم
الإسلام الاختلاف
عودة
أعلى