مقارنة بين شروح كتب السنة الستة

مقارنة بين شروح كتب السنة الستة (5)
الشيخ/ عبد الكريم الخضير

أن في تسميتهم الحواشي هي المبدوءة بالقولات؛ لكن غالب الشروح تعتمد هذا المنهج وهذا المسلك، من أطول الشروح فتح الباري، يقول الحافظ: قوله كذا ثم يشرح.
أما الشرح المزجي يدمج الكتاب كاملاً ويدرجه في الشرح لفظة لفظة، ويسبكها معه، مع الكتاب المشروح، يسبك كلام الأصل مع شرحه، ومن أمثلة ذلك إرشاد الساري، يعني لم يغادر من صحيح البخاري ولا كلمة بخلاف الشروح الأخرى الموضعية.
طالب:. . . . . . . . .
شرح حديث النزول؟ موضوعي، لا شك أنه موضوعي؛ لأنه ليس بتحليل لفظي للكتاب، وإنما في ظلال هذا الحديث تكلم عن النزول بإفاضة -رحمه الله تعالى-، وقرر فيه مذهب السلف من إثبات النزول على ما يليق بجلال الله وعظمته، ورجح أنه مع ذلك العرش لا يخلو منه تعالى.
 
الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله تعالى- اعتمد طريقة المتأخرين الذين اقتدوا بالمستشرقين حينما يضعون الأرقام على المتن، ويعلقون على ما يشاءون التعليق عليه بأرقامٍ مماثلة، افتتح الشيخ -رحمه الله تعالى- كتابه وهو ناقص، الكتاب ناقص، المشروح لا يعادل خمس الكتاب، افتتح المحقق والشارح -رحمه الله تعالى-، وسماه شرح وإلا هو أشبه ما يكون بتحقيق ومقارنة موازنة بين النسخ، وتعليقات على الكتاب؛ لكن فيه تعليقات مستفيضة وجيدة، هذه المقدمة التي افتتح الشيخ كتابه فيها ضافية تحدث فيها عن نسخ الترمذي المطبوعة والمخطوطة، ثم أشاد فيها في هذه المقدمة بعمل المستشرقين، ودقته في إثبات فروق النسخ، ونعى وعتب على من تولى وتصدر للنشر الكتب من المسلمين، وأنهم غفلوا عن جوانب مهمة في التحقيق، وهي مقابلة النسخ، واعتماد النسخ المضبوطة المتقنة، وإثبات الفروق بين النسخ في الحواشي، نعم إثبات الفروق بين النسخ في الحواشي مهم، وله قيمته، وتبين أهميته فيما إذا رجح المحقق لفظاً مرجوحاً، كثيراً ما يختار المحقق لفظاً يجعله في صلب الكتاب ويعلق عليه، يقول: في كذا كذا، يعني في نسخة كذا لفظ كذا، وقد يكون هو الراجح عند التأمل، وهذا كثير في صنيع المحققين المتأخرين، هذه مهمة، وهذه إنما احتيج إليها متى؟ حينما زالت الثقة، وإلا فالمتقدمون من أهل العلم ينقلون من الكتب من غير إثباتٍ لهذه الفروق وينسخون، نعم إذا كان هناك في المقابلات سقط أو ما أشبه ذلك يلحقونه، يسمونه اللحق، أما إثبات فروق النسخ فهذا إنما جاء به المستشرقون وهو أيضاً لا شك أنه حسن لا سيما وأنه تصدى لنشر الكتب وتحقيقها من ليس بأهل، فقد يرجح ما ليس براجح، فإذا ذكر هذه الفروق حينئذٍ يمكن أن يتوصل إلى اللفظ الصحيح، وإن كان في الحاشية، أشاد بعمل المستشرقين ودقتهم، يقول: "وأما دور الطباعة القديمة عندنا وفي مقدمتها مطبعة بولاق فلم يُعنَ مصححوها بهذا النوع من الفهارس أصلاً، وما أظنهم فكروا في شيءٍ منه، مع أن مطبوعات المستشرقين كانت موجودةً معروفة، ومن أمثلة ذلك سيرة ابن هشام نشرها المستشرق ... الخ، ومعها فهارس مفصلة، ثم طبعت في بولاق سنة (1295) بدون فهارس"، يقول: "وأنا أستبعد
 
جداً أن لا تكون طبعة المستشرق في يد مصححي مطبعة بولاق عند طبع الكتاب" هذا ما يتعلق بالفهارس، وأما ما يتعلق بإثبات الفروق ذكره الشيخ.
 
لا شك أن الطباعة في مبدأ أمرها لا سيما في بلاد المسلمين ما تعتمد على الفهارس التفصيلية للآيات والأحاديث والأماكن والفرق والرجال والمصادر وغيرها، في البداية كان المؤلفون الأوائل لا يعتنون بذلك بل يقصد بعضهم أن لا يضع لكتابه فهرساً من أجل أن يقرأ الكتاب كله، ويذكر عن ابن حبان -رحمه الله- أنه لما ألف كتابه (الأنواع والتقاسيم) جعله على ترتيبٍ غريب لا يدركه أكثر الناس، فقيل له في ترتيبه هذا فقال: من أجل أن يقرأ الكتاب كله، فإذا وجدت الفهارس الميسرة لا شك أن الطالب سوف يكتفي بها، ولن يراجع الكتاب كاملاً، ولن يتعب نفسه في تصفح الكتاب، ولا شك أن مثل هذا يختصر الوقت إلى حدٍ ما؛ لكنه مع ذلكم يعود الطالب على الكسل والتواكل، الاتكال على غيره، ولذا كانت الثورة على الكتابة، كتابة الحديث في أول الأمر، والخلاف الموجود ثم استقر الأمر على الكتابة ونسي الحفظ، ثم بعد ذلكم خرجت أو ظهرت الطباعة وكان الناس يعتمدون على الخط، من احتاج إلى كتابٍ نسخه، أخذ في نسخه الوقت الطويل؛ لكنه استفاد كثيراً حينما نسخ الكتاب، كتابة الكتاب مرة واحدة عن قراءته عشر مرات، لما خرجت وظهرت الطباعة ثار العلماء حولها، حصلت ضجة؛ لأن لا شك أن مثل هذا يعوق عن التحصيل إلى حدٍ ما، ثم بعد هذا ظهر بعد ذلكم بعد الطباعة الفهارس ثم الحواسب وكلها عوائق عن التحصيل، كلها مما يعوق عن التحصيل، الآن إذا أردت أن تبحث عن حديث في صحيح البخاري، كونك تتصفح الصحيح وتصل إلى الحديث بنفسك، أولاً: أنت في أثنائك بحثك وقفت على عشرات الأحاديث، الأمر الثاني: أن الحديث في مثل هذه الحالة يرسخ في الذهن؛ لأنك تعبت عليه، أما حديث تضغط زر ويطلع لك الحديث تشوفه وبعدين تطفيه، مثل هذا ما يرسخ في الغالب، نعم هو يسعف في المضائق، في وقت الضيق يسعف، خطيب ما بقي عنده وقت، وبحاجة إلى هذا الحديث ما عنده وقت يبحث عن الحديث ويخرجه من مصادره يعتمد، لا بأس، مدرس يعني بقي على درسه شيء يسير وما أشبه، المقصود أن مثل هذه لا يعتمد عليها في التعلم، وإن كان يستفاد منها عند ضيق الوقت، لكن الإشكال أن الناس مخلدون إلى الراحة، يعتمدون عليها في كل شيء، وهذا لا شك أن فيه ضرر
 
على التعلم، بعد هذه المقدمة الضافية شرع الشيخ -رحمه الله تعالى- بالتعليق والتحقيق وذكر فروق النسخ والتصويبات وتخريج الأحاديث والتراجم لبعض الأعلام، يشرح بعض الألفاظ، يصوب ويرجح، ويستطرد في بحث بعض المسائل، يذكر عن المسألة الواحدة أحياناً صفحتين ثلاث، وهذا جيد بالنسبة للشيخ بتجرد أيضاً، الشيخ يرجح تبعاً للدليل فلا يميل إلى مذهب من المذاهب، وهذا من مزايا هذا الكتاب، ومن مزايا الشيخ -رحمه الله تعالى-؛ لكن القارئ لأعمال الشيخ كلها يلمس منه التساهل في التصحيح وتوثيق الرواة، فقد وثق من الرواة في جامع الترمذي ما يزيد على ثلاثين راوياً الجمهور على تضعيفهم.
وناقش الشيخ -رحمه الله- مسألة تصحيح الترمذي وهل هو معتبر أو ليس بمعتبر؟ الترمذي متساهل في التصحيح، نص على ذلك جمع من الأئمة كالذهبي وغيره، لكن الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- يرى أن تصحيح الترمذي معتبر، نعم هو بالنسبة للشيخ أحمد شاكر معتبر؛ لأن الشيخ أحمد شاكر أكثر تساهلاً منه، يعني إذا قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، يحتمل أن يكون المراد حسن صحيح بطريقه هذا أو بمجموع الطرق، بطرقه ومجموعاته وشواهده، وهذا محتمل، لكن الشيخ يذهب إلى أبعد من ذلك، فيرى أن تصحيح الترمذي معتبر ومعتمد، وتصحيحه توثيق لرجاله، فمثلاً: الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله تعالى- حينما وثق ابن لهيعة في صفحة (16 و 61) ووثق أيضاً الأفريقي عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، ووثق ابن إسحاق، ووثق بقية بن الوليد بإطلاق، ووثق الحجاج بن أرطأة، ووثق علي بن جدعان، ووثق عبد الله بن عمر العمري المكبر، ووثق أيضاً يزيد بن أبي زياد، وجواب التيمي، وإسماعيل بن عياش، وحماد بن الجعد، ورجح رواية الحسن عن سمرة .. الخ في كلامٍ يصعب حصره بالنسبة لتعليقات الشيخ، وتوسعه أيضاً في تعليقه على المسند قريب من هذا، الآن الشيخ الإمام الترمذي -رحمه الله تعالى- ويقول: "عبد الله بن عمر -يعني العمري- ضعفه يحيى بن سعيد من قبل حفظه في الحديث" والمحقق الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- رجح أنه ثقة، ومعروف الجمهور على تضعيفه المكبر دون المصغر، دون عبيد الله.
 
والكتاب لو قدر تمامه، خرج كاملاً لكان من أنفع الكتب، ومن أنفع الخدمات لجامع الترمذي لا سيما فيما يتعلق بتصحيح اللفظ، تصويب الكتاب وتصحيحه؛ لأن نسخ الترمذي سواء كانت المطبوعة أو المخطوطة منذ زمن بعيد فيها تفاوت كبير لا سيما في أحكام الترمذي على الأحاديث، والشيخ أحمد شاكر جمع نسخ جيدة للكتاب، وقارن بينها ووازن وذكر فروق النسخ، واعتنى بالكتاب عناية فائقة، لكن لم يقدر تمامه، شرع في إتمامه محمد فؤاد عبد الباقي، فحقق الجزء الثالث وإبراهيم عطوة عوض طبع الجزء الرابع والخامس لكن من غير أي عناية ولا خدمة.

موطأ الإمام مالك -رحمه الله-:
السادس من الكتب الستة سبق أن أشرنا إلى أنه مختلف فيه، وهل هو الموطأ؟ كما قال -أو كما زعم- ابن الأثير في جامع الأصول، ورزين العبدري في تجريد الأصول أو الدارمي كما قاله بعضهم، أو سنن ابن ماجه كما اعتمده المتأخرون تبعاً لأبي الفضل ابن طاهر والحافظ عبد الغني في الكمال، والمزي في تهذيبه وأطرافه وغيرهم، اعتمدوا ابن ماجه لكثرة زوائده على الخمسة.
الموطأ مؤلفه الإمام أبو عبد الله مالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي إمام دار الهجرة، نجم السنن، المتوفى سنة تسع وسبعين ومائة.
الموطأ التسمية مأخوذة من التوطئة وهي التهيئة والتسهيل، يقولون: رجل موطأ الأكناف أي سهل كريم الخلق وسبب تأليف الكتاب كما ذُكر مما ذكره ابن خلدون، أن الإمام مالك -رحمه الله تعالى- ألفه بطلبٍ من أبي جعفر المنصور الخليفة المعروف المشهور، طلب من الإمام مالك أن يؤلف كتاباً ليجمع عليه الناس، وأوصاه ووجهه كيف يؤلف؟ فقال: "تجنب في ذلك رخص ابن عباس، وشواذ ابن مسعود، وتشديدات ابن عمر"، يقول الإمام مالك -رحمه الله تعالى-: "فعلمني كيفية التصنيف".
 
الموطأ له روايات كثيرة، يعني ليس على صورة واحدة، الموطأت بضعة عشر، تختلف هذه الموطأت في كثرة الأحاديث، في الترتيب، في التقديم والتأخير، في كلام الإمام مالك ونقوله عن التابعين والصحابة، فأوسع هذه الموطآت وأكثرها زيادات رواية أبي مصعب، وهي مطبوعة في مجلدين، وأشهر الروايات وأكثرها تداولاً وعليها أكثر الشروح، رواية يحيى بن يحيى الليثي، على كلٍ من الروايات رواية يحيى بن يحيى الليثي ورواية عبد الله بن وهب، ورواية القعنبي عبد الله بن مسلمة، ورواية ابن القاسم، ورواية معن بن عيسى القزاز، ورواية عبد الله بن يوسف التنيسي، ورواية يحيى بن بكير، ورواية سعيد بن عفير المصري، ورواية أبي مصعب، ورواية مصعب بن عبد الله الزبيري، ورواية محمد بن المبارك الصوري، ورواية سليمان بن برد النجبي، ورواية يحيى بن يحيى التميمي، ورواية أبي حذافة أحمد السهمي، ورواية سويد بن سعيد الحدثاني، ورواية محمد بن الحسن الشيباني، رواية يحيى بن يحيى الليثي ورواية يحيى بن يحيى التميمي، المشهورة من الروايات هي رواية الليثي، والليثي هذا ليست له رواية في الكتب الستة، بخلاف التميمي، من شيوخ مسلم الذين اعتمد عليهم كثيراً في صحيحه، فلا نخلط بينهما، يعني إذا وجدنا الإمام مسلم يقول: حدثنا يحيى بن يحيى لا يظن أنه يحيى بن يحيى الليثي راوي الموطأ، الرواية المشهورة وإن كان الآخر له رواية، لكن ذكر في التقريب من أجل التمييز، لئلا يشتبه للآخر؛ لأنهما من طبقةٍ واحدة، على كلٍ الروايات المشهورة أشهرها رواية ابن يحيى وعليها غالب الشروح، رواية أبي مصعب وهي أوفى الروايات، رواية سويد بن سعيد وهي مشهورة أيضاً، ورواية محمد بن الحسن الشيباني، ويعتمدها من ينتسب إلى مذهب أبي حنيفة هذه الرواية؛ لأن فيها كلام لمحمد بن الحسن وتعليقات على الأحاديث توافق مذهب الحنفية.
 
لأهمية الموطأ وإمامة مؤلفه، وعلو أسانيده اعتنى به العلماء عنايةً فائقة، فممن اعتنى به الإمام ابن عبد البر، فشرحه في كتابين عظيمين يأتي الحديث عنهما هما (التمهيد والاستذكار) وممن شرحه أيضاً الباجي في كتابين أيضاً (الاستيفاء والمنتقى) شرحه أيضاً السيوطي (تنوير الحوالك) كتاب مختصر، الزرقاني كتاب متوسط، الدهلوي له شرح اسمه (المسوى) شرح جميل ومختصر وموجز باللغة العربية، له (المصفى) باللغة الأعجمية، المسوى من أراد التفقه من كتاب مالك عليه بهذا الكتاب باختصار؛ لأنه اعتمد على الموطأ في تقرير الفقه المالكي، وضمّ إليه آراء الحنفية والشافعية، وأضرب عن ذكر مذهب الحنابلة؛ لأنه يرى أن هذا المذهب غير منتشر، فهو يخدم المذاهب المنتشرة.

(التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد):
أولاً: (التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد) للإمام أبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النَّمَري، المتوفى سنة ثلاث وستين وأربعمائة، النَّمِر هذا الاسم، فالنسبة إليه نَمَري، مثل بني سلِمة بالكسر النسبة إليها سَلَمي، هذا هو الصحيح، كتاب التمهيد كتاب فريد في بابه، موسوعة شاملة في الفقه والحديث والرجال، وأنموذج فذ في أسلوبه ومنهجه، رتبه مؤلفه على الأسانيد مرتباً إياها على أسماء شيوخ الإمام مالك -رحمه الله تعالى- الذي روى عنهم ما في الموطأ من الأحاديث، وذكر ما رواه عن كل شيخٍ مرتبهم إياهم على حروف المعجم، فبدأ أولاً بمن اسمه إبراهيم ثم إسماعيل فإسحاق فأيوب وختم الحروف بيحيى ويونس ويعقوب ثم ختم الكتاب بالكنى والبلاغات.
 
الإمام ابن عبد البر -رحمه الله تعالى- اقتصر في شرحه على الأحاديث المرفوعة، لم يتعرض للموقوفات ولا المقطوعات ولا أقوال الإمام مالك، إنما اقتصر على شرح ما يضاف إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- سواء كان بأسانيد متصلة أو منقطعة، تكلم على المراسيل، تكلم على البلاغات، وتكلم على الأحاديث الموصولة على حسب ترتيب شيوخ الإمام مالك -رحمه الله تعالى-، لم يتكلم على ما جاء موقوفاً على الصحابة أو مقطوعاً عن التابعين، ابن عبد البر -رحمه الله تعالى- أمضى في تصنيف الكتاب أكثر من ثلاثين سنة، أكثر من ثلاثين سنة أمضاها في تصنيف هذا الكتاب، ولذا جاء كتاباً بديعاً متقناً فيه من البحوث الحديثية ما يستفيد منه طالب العلم فائدة لا تقدر، فيه أيضاً من بحث المسائل الفقهية بتجرد، وإن كان الإمام ابن عبد البر مالكي المذهب؛ لكنه يرجح غير ما يراه الإمام مالك تبعاً للدليل، من أظهر المسائل التي رجحها وهي مشهورة عند المالكية عندهم تفضيل المدينة على مكة، الإمام ابن عبد البر بحث المسألة بحثاً مستفيضاً وخرج بترجيح مكة على المدينة خلافاً على ما يقوله إمامه.
يقول ابن حزم: "لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله أصلاً، فكيف أحسن منه؟ " والكتاب مطبوع في أربعة وعشرين جزءً، إلا أنها طبعة متوسع فيها شيء ما، يعني يمكن البياضات فيها كثيرة، لو طبع في أقل من هذا العدد ممكن، يمكن أن يطبع في عشرة مجلدات، بحروفٍ ليست صغيرة إنما متوسطة، وورق متوسط الحجم، ابن عبد البر -رحمه الله تعالى- لما رأى تقاصر الهمم عن تحصيل التمهيد اختصره في كتاب سماه (تجريد التمهيد) مطبوع في مجلدٍ واحد، التمهيد نظراً لطول الوقت الذي مكثه الإمام ابن عبد البر في تأليفه لا نقول إنه قبل الاستذكار؛ لأنه في الاستذكار يحيل على التمهيد في غالب الأحاديث، لا نقول: إن التمهيد قبل الاستذكار، ولذا فيه إحالات من التمهيد على الاستذكار في مواضع هي ليست كثيرة؛ لكنها موجودة، إحالات من التمهيد على الاستذكار، وأما الأكثر والغالب الإحالة من الاستذكار على التمهيد.

(الاستذكار لمعرفة مذاهب فقهاء الأمصار):​
 
أما الاستذكار هو كتاب مبسوط شرح فيه الإمام ابن عبد البر الموطأ، وتفنن فيه وبرع، وجد واجتهد في استنباط المسائل الفقهية، وبسط فيه الدلائل من الكتاب والسنة وأقاويل السلف من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار، يعني الأول ميزته المعاني والأسانيد فهو كتاب حديثي، صبغته حديثية، وإن كان يأتي الكلام على الأحكام تبعاً، أما الاستذكار فصبغته فقهية، (الاستذكار لمعرفة مذاهب فقهاء الأمصار) ولو جمع بينهما على ترتيب الموطأ فمزج الكتابان بكتابٍ واحد لكان عملاً جيداً.
من أهل العلم من مزج بين الاستذكار والمنتقى للباجي، يوجد له نسخ جمع بين الاستذكار والمنتقى نسيت مؤلفه الآن، له نسخ خطية، لكن لو جمع بين كتابي ابن عبد البر لتكاملا شرحاً مبسوطاً واسعاً واحداً بحيث لا يتشتت الطالب إن أراد الفقه ذهب إلى الاستذكار، وإن أراد الأسانيد ذهب إلى التمهيد.
يتخلص مذهب ابن عبد البر في الاستذكار بما يلي:
يذكر الحديث من الموطأ برواية يحيى بن يحيى، ثم يذكر شواهده وما جاء في معناه من مرفوعٍ وموقوف. يتكلم على إسناد الأحاديث أحياناً، ويحيل على التمهيد لمن أراد البسط.
ثالثاً: يذكر اختلاف ألفاظ الناقلين من رواة الحديث.
رابعاً: يشرح ألفاظ الأحاديث بالروايات الأخرى وشواهد العربية.
يتكلم على فقه الحديث باستيفاء وما يستنبط منه من أحكامٍ وآداب.
يذكر اختلاف الروايات عن الإمام مالك في المسائل الفقهية.
يستعرض أقوال فقهاء الأمصار في المسائل الفقهية، ويقارن بين أدلتهم، ويناقشها ويرجح القول الراجح بدليله ولا يتعصب لمذهب.
والكتاب مطبوع في ثلاثين جزءً، وهو أيضاً قابل لأن يكون في عشرة أو ثمانية مجلدات؛ لأنه نفخ بالتعاليق والنقول من التمهيد وغيره، الصفحات خمس صفحات تنقل جميع من التمهيد، هذه لا داعي لها، التمهيد موجود فلا داعي لمثل هذا التطويل.

(المنتقى) للباجي:
 
من شروح الموطأ النفيسة (المنتقى) مؤلفه أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد التجيبي الباجي المالكي المتوفى سنة أربع وسبعين وأربعمائة، والكتاب شرح متوسط يعني ليس مثل التمهيد أو الاستذكار، ليس بالطويل الممل، ولا بالقصير المخل، ذكر في مقدمته أنه اختصره من كتابه المبسوط الموسع المسمى (الاستيفاء) لتعذر درسه على أكثر الناس، يقول: أكثر الناس لا يستطيعون أو لا يصبرون على معاناة مثل هذه المطولات جداً مثل الاستيفاء.
اقتصر في المنتقى على الكلام على معاني ما يتضمنه الحديث من الكلام على الفقه مربوطةً بما يتعلق بها في أصل كتاب الموطأ ليكون شرحاً وتنبيهاً على ما يستخرج منه من المسائل، هذا كلامه، يشير إلى الاستدلال على تلك المسائل والمعاني التي يجمعها وينصها مما يخف ويقرب؛ ليكون ذلك حظ من ابتدأ بالنظر في هذه الطريقة من كتاب الاستيفاء إن أراد الاقتصار عليه، وعوناً له إن طمحت همته إليه، يعني إن أراد الاقتصار على المنتقى يكفيه، لكن إن طمح إلى كتاب الاستيفاء يكون المنتقى توطئة وتمهيد ودرجة يمكن أن يصعد بواسطتها إلى الاستيفاء.
 
يقول: "أعرضت فيه عن ذكر الأسانيد واستيعاب المسائل والأدلة، وما احتج به المخالف، وسلكت فيه السبيل الذي سلكت في الاستيفاء من إيراد الحديث والمسألة من الأصل، ثم أتبعت ذلك ما يليق به من الفرع، وأثبته شيوخنا المتقدمون من المسائل، وبالله التوفيق، على كل ٍ المنتقى مطبوع ومتداول، فيه فوائد لا سيما ما يتعلق بمذهب المالكية، الذي يريد أن يطلع على مذهب الإمام مالك عليه بمثل هذا الكتاب، هذه الشروح التي اختلفت مذاهب مؤلفيها يستفاد منها معرفة تلك المذاهب؛ لأن الإنسان قد لا يصبر على قراءة الكتب الفقهية المجردة، وإن كان الأولى به أن يعتمد من كل مذهب متن يديم النظر فيه ليضبط مسائل المذهب على وفق ما يراه إمام المذهب؛ لكن إذا كان ممن لا رغبة له، أو ليس عنده وقتاً يراجع الكتب الفقهية يقتني من هذه الشروح التي تختلف فيها مذاهب مؤلفيها، فمثلاً يطلع على مذهب الشافعي من خلال فتح الباري، وشرح النووي، المذهب الحنفي بواسطة عمدة القاري مثلاً، المذهب المالكي بواسطة مثل هذه الكتب، كتب ابن عبد البر وكتب الباجي وغيرها، يبقى المذهب الحنبلي وهو مع الأسف أن الحنابلة إذا قلنا: أن الكتب الشروح تخدم المذاهب، فالمذهب الحنبلي لم يخدم إلا بالقليل النادر، مثل شرح ابن رجب -رحمه الله تعالى-.
 
أيضاً كتب التفاسير المطولة تخدم المذاهب، مثلاً تفسير القرطبي خدمة جليلة لمذهب الإمام مالك، مع إشارته للمذاهب الأخرى، تفسير أحكام القرآن للجصاص خدمة لمذهب الشافعي، أحكام القرآن لابن عربي يخدم مذهب الإمام مالك، تفاسير الشافعية كثيرة جداً تخدم مذهبهم، تفسير ابن الجوزي على اختصاره يخدم المذهب الحنبلي ويذكر الروايات ويشيد بفقهاء الحنابلة، لا بأس من هذه الحيثية، لكنه مع ذلكم المسألة تحتاج إلى مزيد بسط في خدمة المذهب، سواء كان من خلال الكتاب أو من خلال السنة، ولا نقول هذا من باب التعصب، لكن أيضاً من باب المعادلة والإنصاف، ولذا الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- لما ألف (القول المسدد في الذب عن المسند) هو شافعي، شافعي المذهب، دافع عن المسند بقوة، وقال: إن هذه عصبية نبوية، حينما نتعصب لكتاب هذا الإمام الجليل المحدث الفقيه ليس التعصب للإمام أحمد نفسه، إنما كلما قرب الإمام من النصوص ينبغي أن يعتنى به أكثر، ويحتفى بأقواله وأفعاله.

سنن ابن ماجه وشروحه:
بعد هذا سنن ابن ماجه مؤلفه أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني، وماجه معروف أنها بالهاء في الوقف اندرج، مثل: داسه ومنده، يعني ما تقول: ماجة، وإن كان بعضهم يختار ذلك؛ لأنه لما تداوله العرب صار في حكم الاسم العربي؛ لكن الأصل هو بالهاء، ماجه ومثله منده، وداسه، المتوفى سنة ثلاث وسبعين ومائتين.
 
يقول ابن الأثير: "كتابه كتاب مفيد قوي النفع في الفقه؛ لكن فيه أحاديث ضعيفة جداً بل منكرة"، فيه حديث موضوع في فضل قزوين، يقول: "حتى نقل عن الحافظ المزي أن الغالب فيما تفرد به الضعف، ولذا لم يضفه غير واحدٍ إلى الخمسة، بل جعلوا السادس الموطأ" وفي الكتاب من حسن الترتيب وسرد الأحاديث بالاختصار من غير تكرار، ليس في أحدٍ من الكتب، وقد عرضه على أبي زرعة فنظر فيه وقال: "أظن إن وقع هذا في أيدي الناس تعطلت هذه الجوامع أو أكثرها" هذا إن صح عن أبي زرعة فقد قاله من باب التشجيع لمؤلفه، شخص تعب على خدمة السنة يعني ينبغي أن يشجّع، ما نفعل مثلما فعل بعضهم، شرح المحرر للمجد فعرضه على واحد من الشيوخ فقال: أريد رأيك في الكتاب وفي تسمية الكتاب وتسمي لنا الكتاب، قال: اتركه عندي، فلما رجع إليه قال: سمه (القول المكرر في شرح المحرر) هذا تحطيم؛ لكن لو أرشده ووجهه إلى كيفية التصنيف، وحذف ما ينبغي حذفه، وإثبات ما ينبغي إثباته كان أولى، لكن مثل هذا ينصدم ما عاد يؤلف شيء.
من هذا الباب قول أبي زرعة لابن ماجه يقول: "أظن إن وقع هذا في أيدي الناس تعطلت هذه الجوامع" يعني كتاب البخاري، كتاب مسلم، الكتب كلها تتعطل، من أجل سنن ابن ماجه، فلا شك أنه إن صح عن أبي زرعة أنه من باب التشجيع لمؤلفه، ثم قال: "لعله لا يكون فيه تمام ثلاثين حديثاً مما في إسناده ضعف"، لكن الذهبي في السير قال: "قول أبي زرعة إن صح فإنما عنى بالثلاثين الأحاديث المطروحة الساقطة، وأما الأحاديث التي لا تقوم بها حجة فكثيرة، لعلها نحو الألف"، بلغت الأحاديث الضعيفة عند الشيخ الألباني نحو الثمانمائة، يعني ما يقارب خُمس الكتاب، الكتاب عني به من قبل أهل العلم وشروحه، شرحه علاء الدين مغلطاي، وشرحه أيضاً السيوطي، برهان الدين الحلبي المعروف بسبط ابن العجمي، كمال الدين الدميري صاحب حياة الحيوان، شرح زوائده على الخمسة ابن الملقن، ممن شرحه أبو الحسن السندي، وممن شرحه الشيخ عبد الغني المجددي في شرح مختصر اسمه (إنجاح الحاجة).
 
من أهم الشروح وأوسعها شرح مغلطاي، وهو كتاب كبير؛ لكنه لم يكمل، شرح من الكتاب قطعة، وجميع النسخ الموجودة التي توقف عليها خمس أو ست نسخ، ليس فيها شرح لأحاديث المقدمة، مقدمة سنن ابن ماجه التي يتميز بها، طبع هذا الشرح أخيراً، ومعروف أن مغلطاي يعتني باللغة، ويشرح الألفاظ ويوضحها؛ لكنه مع ذلكم يتعصب لمذهبه الحنفي، أما المتداول من هذه الشروح والتعليقات شرح السيوطي، مقارب لشرحه على سنن النسائي، تحليل لفظي لبعض الألفاظ، لا يعتني بالأسانيد كثيراً.
وأما حاشية السندي فهي مؤلفها كما تقدم ذكره مراراً أبو الحسن محمد بن عبد الهادي السندي المتوفى سنة ثمان وثلاثين ومائة وألف، افتتح الكتاب بمقدمة مختصرة جداً، صفحة واحدة، تحدث فيها عن ابن ماجه وعن كتابه باختصارٍ شديد، ومنهج السندي في التعليق والشرح يذكر الترجمة ويشرحها، ثم يذكر ما يحتاجه من المتن ويشرحه، ولا يعرج على الأسانيد، فلا يترجم للرواة، ولا يخرج الأحاديث، هو شرح ناقص، هو كامل لجميع الكتاب، لكن مفردات الشرح ومتطلبات الشرح تحتاج إلى أكثر من ذلك، بحاجة ماسة إلى من يتمه بالكلام على الرواة، وعلى تخريج الأحاديث، ونقد الأسانيد، وهو مطبوع في مجلدين.
ما تمس إليه الحاجة لمن يطالع سنن ابن ماجه لمحمد عبد الرشيد النعماني تعليقات مختصرة يترجم لبعض الرواة ويشرح بعض الألفاظ التي تحتاج إلى شرح وهو مطبوع بهامش حاشية سنن ابن ماجه المطبوعة في الهند في مجلدٍ كبير؛ لكن الاستفادة من مثل هذا تصعب على آحاد المتعلمين الذين لا يجيدون قراءة الحرف بالخط الفارسي؛ لكن لو طبع طباعة جديدة معتنىً بها وعلق عليه لصار فيه نفع.
من الشروح أيضاً (مصباح الزجاجة) مختصر الذي هو شرح السيوطي مختصر جداً كغيره من شروحه على الكتب الستة، ومنهجه فيما تقدم مقارب لمنهجه في شرح سنن النسائي، له مختصر اسمه (نور مصباح الزجاجة) لعلي بن سليمان الدمنتي البجمعوي المغربي مطبوع قديماً بمصر سنة تسع وتسعين ومائتين وألف كغيره من كتبه ومختصراته لكتب السيوطي.
 
وعلى كل حال فالكتاب ما زال بحاجة إلى خدمة، كتاب ابن ماجه لا زال بحاجةٍ إلى خدمة، تتجه أولاً إلى الأسانيد ودراستها دراسةً وافية لتمييز الثابت من غيره، ثم تشرح الأحاديث شرحاً وافياً مبسوطاً؛ لأن الكتاب كما تقدم ذكره جيد في السبك، حسن الترتيب، عالي الأسانيد، زوائده على الكتب الخمسة مفردة أفردها البوصيري في كتاب سماه (مصباح الزجاجة) وهو كتاب جيد في بابه، ويحتاج إلى مزيد عناية، وفيه رسالة لدراسة هذا الكتاب الذي هو الزوائد فقط. والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
 
الوسوم
الستة السنة شروح مقارنة
عودة
أعلى