موسوعة الفقه الإسلامي

اما العاجز فقد قال فى منية المصلى:
" ومن كان لايحسن إلا قراءة آية واحدة من القرآن لا يلزمه تكرار تلك الآية عند أبى حنيفة ، وعندهما يلزمه التكرار ثلاث مرات. بناء على أن مذهبهما أن صحة الصلاة تتوقف على قراءة ثلاث آيات قصار أو آية طويلة تبلغ هذا المقدار من القراءة (34).
ثم قال: وأما القادر على قراءة آيه واحدة لو كرر نصف تلك الآية مرتين أو كرر كلمة مرارا حتى بلغ قدر آيه لا يجوز عند أبى حنيفة. وكذا القادر على قراءة ثلاث آيات لو كرر آية ثلاث مرات لا يجوز عندهما لأن التكرار لا يؤدى معنى المجموع من القرآنية فلا تجزىء عنه عند القراءة(35).
قراءة الآية بغير العربية فى الصلاة
مذهب الأئمة جميعا ما عدا الحنفية أنه لا تجزئ القراءة بغير العربية فى الصلاة مطلقا، سواء كان قادرا على العربية أم عاجزا عنها. أما الحنفية فقد قال فى الهداية " ثم جواز الصلاة وصحتها كما يثبت بالقراءة بالعربية يثبت بالقراءة بغيرها فارسية كانت أو غير فارسية وهو الصحيح من مذهب أبى حنيفة "(36)
وزاد فى المبسوط سواء كان يحسن العربية أو لا يحسنها ، فالقراءة جائزة غير أنه يكره أن كان يحتقن العربية، وقال أبو يوسف ومحمد إن كان لايحسن العربية يجوز. وإن كان يحسن العربية لا يجوز.
هل يغنى عن الآية أو الآيات شئ من الذكر أو الدعاء فى الصلاة
عند الشافعية والظاهرية: من عجز عن الفاتحة وغيرها من القرأن يأتى بذكر ودعاء بدلها وإن عجز عن الذكر والدعاء سكت بمقدار الفاتحة وليسع فى تعلمها وجوبا.
وعند الزيدية: من لا يحسن الفاتحة يسبح الله ويذكره بدل الفاتحة. قال فى الروض النضير: سألت زيد ابن على عن الأمى الذى لا يحسن أن يقرأ كيف يصلى؟
فقال: يسبح ويذكر اللّه تعالى ويجزئه ذلك (37).
وعند المالكية: إن لم يجد معلما أو لم يقبل التعليم يأتم بمن يحسنها. فإن لم يجد إماما سقطت القراءة عنه (38).
وعند الإمامية: قال فى المختصر النافع: ولو عجز سبح الله وكبره و هلله بقدر القراءة (39).
وعند الإباضية: أن قرأ القرأن بغير العربية أو قرأ غير القرآن فسدت الصلاة(40).
آيات سجود التلاوة:
تسمى سجود القراءة وسجود العزائم، كما فى المصباح. وعزائم السجود ما أمر بالسجود فيها وعدد آيات سجود. التلاوة عند الأحناف والشافعية والحنابلة والظاهرية أربع عشرة سجدة إلا أن بينهم خلافا فى تعيينها سنذكره إن شاء الله بعد.
وعند المالكية: عددها إحدى عشرة سجدة لأنهم يقولون ليس فى المفصل منها شىء.
وعند الإمامية والزيدية: إن آى السجود فى أربع سور من القرآن:
ا- حم السجدة، فصلت.
2- ألم، تنزيل (41).
3- سورة النجم.
4- وسورة اقرأ.
تعيين آيات السجود عند غير الإمامية و الزيدية:
اتفق الفقهاء ما عدا الإمامية و الزيدية
على عشرة مواضع:
1- آخر سورة الأعراف وهى قوله تعالى: " إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته و يسبحونه وله يسجدون ".
2- فى سورة الرعد وهى قوله تعالى " ولله يسجد من فى السموات والأرض طوعا وكرها و ظلالهم بالغدو والآصال ".
3- فى سورة النحل وهى قوله " ولله يسجد ما فى السموات وما فى الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون ".
4- فى سورة الإسراء وهى قوله تعالى: " إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا ".
5- فى سورة مريم وهى قوله تعالى:" أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا وأجتبينا ، إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا ".
6- الأولى من سورة الحج وهى قوله تعالى: " ألم تر أن الله يسجد له من فى
السموات ومن فى الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب، ومن يهن الله فما له من مكرم، ان الله يفعل ما يشاء".
7- فى سورة الفرقان وهى قوله تعالى: " وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا ".
8- فى سورة النمل وهى قوله تعالى: " ألا يسجدوا لله الذى يخرج الحبء فى السموات والأرض، ويعلم ما تخفون وما تعلنون. الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم ".
9- فى سورة ألم تنزيل، السجدة، وهى قوله تعالى: " إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون ".
10- فى حم، فصلت، السجدة وهى قوله تعالى: " ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر، لا تسجدوا للشمس ولا للقمر، واسجدوا لله الذى خلقهن إن كنتم إياه تعبدون، فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون "
وأما الآيات التى أختلف فيها الأئمة فهى آيه " ص " والآية الأخيرة من سورة الحج، والآيات الثلاث التى فى المفصل، واليك بيان مذاهبهم فيها:
فأما المالكية: فاعتبروا آيه " ص " هى الحادية عشرة، وهى قوله تعالى " وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا واناب "
واقتصروا فى عد آيات السجود على ذلك، ولم يعدوا منها آيات المفصل الثلاثة كما سبق.
وأما الأحناف فانهم وإن وافقوا المالكية فى عد آية " ص " من آيات السجود إلا أنهم زادوا على المالكية ثلاث آيات فى المفصل وهى ما يأتى:
1- فى سورة النجم وهى قوله تعالى: " أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون. وأنتم سامدون. فاسجدوا لله و اعبدوا".
-2- فى سورة الانشقاق، وهى قوله تعالى: " فما لهم لا يؤمنون. واذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون ".
3- فى سورة العلق، وهى قوله تعالى:
" كلا لا تطعه واسجد واقترب "... فهى عندهم أربع عشرة سجدة وآية " ص " منها.
وأما الشافعية: فقالوا أيضا: انها أربع عشرة سجدة ولم يعدوا آية " ص ". منها، بل عدوا بدلها الآيه التى فى آخر سورة الحج وهى قوله تعالى: " يأيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون ".
ووافق الحنابلة الشافعية فى عد لثانية من سورة الحج ولم يعدوا آبه " ص " من عزائم السجود بل اعتبروها كالشافعية سجدة تثكر تسن فى غير صلاة، لقول النبى صلى الله عليه وسلم: " سجدها داود توبة ونسجدها شكرا " رواه النسائى.
وأما الظاهرية: فقد وافقوا الأحناف فى عد آيه " ص " ولم يعدوا الآية الأخيرة من سورة الحج.
وقد علم مما سبق ان الإمامية (42) و الزيدية (43) يعدون آيات السجود أربعا فقط. ويقولون لما روى عن على عليه السلام أنه قال: عزائم القرآن أربع:
1- حم، السجدة، فصلت.
2- الم تنزيل، السجدة.
3- سورة النجم.
4- سورة اقرأ باسم ربك.
وسائر ما فى القرآن ان شئت فاسجد،
وان شت فاترك
وفى رواية ذكر سورة إذا السماء انشقت بدلا من سورة النجم، والذى حكاه فى مجموع زيد بن على عليه السلام نحو الرواية الأولى فقط.
ومذهب الإباضية فى آيات السجود: قال
فى النيل: " سن للتلاوة والسجود بلا إحرام ولا سلام بعده فى:
- خاتمة الأعراف.
2- الرعد.
3- النحل.
4- ا لا سراء.
5- مريم.
6- الحج.
7- الفرقان.
8- النمل.
9- الم تنزيل.
10- "ص".
11- حم، تنزيل من الرحمن الرحيم، عند قوله تعالى " لا يسأمون " (44).
حكم قراءة آية أو كتابتها للجنب و الحائض و النفساء وحكم مس آية وحملها لغير المتوضئ
مذهب الأحناف: قال فى الفتاوى الهندية وغيرها: يحرم على الجنب والحائض والنفساء قراءة شئ من القرآن ولو بالفارسية قل أو كثر، والآية ومادون الآية سواء فى التحريم على الأصح إلا إذا لم يقصد قراءة القرآن بما دون الآية مثل أن يقول الحمد لله عند الخبر السار أو يقصد بذلك شكر نعم الله تعالى عليه، أو يقول بسم الله عند الأكل أو الشرب أو للتبرك بها عند دخول مكان أو بدء عمل، أو سبحان الله عند ألاستحسان أو التعجب، أو يقرأ الآيات التى تشبه الدعاء قاصدا الدعاء لا التلاوة، مثل قوله تعالى: " ربنا آتنا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار (45) ".. فإن ذلك لا بأس به.
ولو قصد التعليم ولقن الآيه كلمة كلمة مع قطع الكلمات بعضها عن بعض جاز.
وكذا التهجى، والحائض والجنب فى ذلك - سواء على ما هو المختار من المذهب (46).
وفى الدر المختار مع حاشية ابن عابدين، وكذا يحرم على من أحدث حدثا أصغر
أو أكبر مس أى شىء مكتوب فيه آية أو أقل مثل الدرهم والجدار والورق وكذا المصحف (47).
وعند المالكية: قال. فى الشرح الكبير مع حاشية الدسوقى ، ومنع حدث أصغر أو
أكبر مس مصحف سواء كان مصحفا جامعا أو جزءا أو ورقة فيها بعض سورة أو لوحا
أو كتفا عليها آية أو آيات مكتوبة (48).
وعند الشافعية: قال ابن حجر،- ويحرم بالحدث الأصغر حمل المصحف ومس ورقه وحواشيه وجلده المتصل به لا المنفصل عنه (49).
مذهب الحنابلة: قال فى كشاف القناع، ويحرم على المحدث ولو أصغر مس مصحف وبعضه ولو من صغير حتى جلد المصحف وحواشيه وما فيه ومن ورق أبيض لأنه يشعله
اسم المصحف (50).
مذهب الظاهرية: قال ابن حزم فى المحلى وقراءة القرآن والسجود فيه ومس المصحف وذكر الله تعالى جائز كل ذلك بوضوء وبغير وضوء وللجنب وللحائض(51).
مذهب الإمامية: قال فى تذكرة الفقهاء:يحرم على الجنب قراءة العزائم دون ما عداها ويكره ما زاد على سبع آيات من غيرها.
وتتأكد الكراهة فيما زاد على سبعين (52).
مذهب الزيدية: قال فى البحر الزخار ما نصه: ولا يقرأ الجنب والحائض باللسان أو الكتابه المرتسمة ولو بعض آية، ويجوز ما فعل لغير التلاوة، وفى الروض النضير ما يفيد عدم جواز مس المصحف لهما (53).
مذهب الإباضية: قال: فى النيل: والأكثر على منع الجنب من القراءة ومس المصحف (54) ومنع الحائض من القراءة ومس المصحف (55).
حكم قراءة آية أو أكثر أو كتابتها وحملها لدفع ضر أو جلب نفع
- وقد ذكر الحافط ابن حجر فى فتح البارى ما يلى: قد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط:
ا- أن يكون بكلام الله تعالى أو بأسمائه وصفاته.
2- أن يكون باللسان العربى أو بما يعرف معناه من غيره.
3- أن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها (56) (انظر: رقية)
وقال الخطيب الشربينى الشافعى فى آخر باب الحيض: ويحرم مس ما فى لدرس قرآن ولو بعض آيه كلوح، لأن القران قد أثبت فيه الدراسة فأشبه المصحف.
أما ما كتب لغير الدراسة كالتميمة وهى ورقة يكتب فيها شئ من القرآن وتعلق على الرأس مثلا للتبرك. فلا يحل مسها ولا حملها.
ثم قال: ويكره كتابه الحروز (التمائم) وتعليقها ألا اذا جعل عليها وقاية كشمع أو نحوه.
ثم قال: ولا يكره كتب شئ من القرآن فى إناء ليسقى ماؤه للشفاء، وأكل الطعام (أى المكتوب عليه قرآن) كشرب الماء لا كراهة فيه (57).
حكم أخذ الاجرة على قراءة آية أو تعليمها
قال ابن عابدين فى حاشيته على الدر المختار: واختلف فى أخذ الأجرة على تعليم القرآن فقال الحاكم من أصحابنا فى كتابه الكافى: ولا يجوز أن يستأجر رجل رجلا ليعلم أولاده القرآن والفقه... إلخ.
ثم قال: وفى خلاصة الفتاوى لا يجوز الاستئجار على الطاعة كتعليم القرآن والفقه والأذان، يعنى لا يجب الأجر.
وفى الزيلعى: والفتوى اليوم على جواز الاستئجار لتعليم القرآن، وهو مذهب المتأخرين من مشايخ بلخ ، استحسنوا ذلك وقالوا: بنى المتقدمون الجواب على ما شاهدوه من قلة الحفاظ ورغبة الناس، وكان لهم عطيات فى بيت المال، فكانوا يفتون بوجوب التعليم خوفا من ذهاب القرآن. وتحريضا على التعليم فيكثر حفاظ القرآن. وأما اليوم فذهب ذلك كله، واشتغل الحفاظ بمعاشهم، وقل من يعلم حسبة، ولا يتفرغون له أيضا فان حاجتهم تمنعهم من ذلك، فلو لم يفتح لهم باب التعليم بالأجر لذهب القرآن. فأفتوا بذلك لذلك ورأوه حسنا، وقالوا: الأحكام تختلف
بإختلاف الزمان. ألا ترى أن النساء كن يخرجن الى الجماعات فى زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وفى زمن أبى بكر رضى الله عنه حتى منعهن عمر رضى الله عنه واستقر الأمر عليه وكان ذلك هو الصواب (58).
وقال الصنعانى فى سبل السلام: ذهب الجمهور ومالك و الشافعى إلى جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن سواء كان المتعلم صغيرا أم كبيرا و لو تعين تعليمه، عملا بحديث البخارى عن ابن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم: " ان أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله " (59).
وقال ابن حزم فى المحلى: والإجارة جائزة على تعليم القرأن وعلى تعليم العلم مشاهرة وجملة وكل ذلك جائز، وعلى الرقى وعلى نسخ المصاحف ونسخ كتب العلم لأنه لم يأت فى النهى نص، بل جاءت الاباحة فى حديث " أن أحق ما أخذتم عليه أجرأ كتاب الله (60)
وفصلت الإمامية بين الأجر الذى يؤخذ بطريق الاشتراط وبين ما لم يكن مشروطا بل جاء بطريق الإهداء:
1- ففى تذكرة الفقهاء قال: يجوز أخذ الأجرة على تعليم الحكم والآداب والأشعار وتكره على تعليم القرآن، لحديث " من أخذ على تعليم القرآن أجرا كان حظه يوم القيامة "
2- وورد عن الصادق عليه السلام قال:
" المعلم لا يعلم بالأجرة ويقبل الهدية إذا أهدى اليه ".
3- ولا تنافى بين الخبرين لأن الأول محمول على أنه لا يجوز له أن يشارط فى تعليم القرآن أجرا معلوما. والثانى على أنه ان أهدى إليه بشىء ، وكرم بتحفة جاز له أخذها (61).
 
وفى كشاف القناع: ويحرم ولا يصح اجارة على عمل لا يقع الا قربه لفاعله ويصح أخذ جعالة على ذلك كما يجوز أخذه عليه بلا شرط وكذا حكم الرقية (62).
مذهب الإباضية: فى حكم أخذ الأجرة على التعليم والقراء ة ، قال فى النيل (63): " وجاز أخذ عوض على تعليم القرآن وعمل مؤد لنفعه ونفع مؤاجره ".
هل تعليم آية او آيات من القرآن
يجزئ مهرا الزوجة
قال فى البحر الرائق شرح كنز الدقائق:
" يجب مهر المثل اذا جعل الصداق تعليم القرآن لأن المشروع إنما هو الابتغاء بالمال.، أى وهو قوله تعالى: " وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين " (64).
والتعليم ليس بمال، وكذا المنافع على أصلنا لأن التعليم عبادة فلا يصح أن يكون صداقا، ولأن قوله تعالى: " فنصف ما فرضتم (65) " يدل على انه لابد أن يكون المفروض مما له نصف حتى يمكنه أن يرجع عليها بنصفه اذا طلقها قبل الدخول بعد القبض، ولا يمكن ذلك فى التعليم.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم:
" زوجتكما بما معك من القران " فليست الباء متعينة للعوض لجواز أن تكون للسببية أو للتعليل أى لأجل أنك من أهل القرآن أو المراد ببركة ما معك من القرآن فلا يصلح دليلا (66).
وفى حاشية ابن عابدين الحنفى قال: يجب مهر المثل فيما لو تزوجها على أن يعلمها القرآن أو نحوه، لأن المسمى ليس بمال كما فى البدائع لعدم صحة الاستئجار على الطاعات عند أئمتنا الثلاثة رحمهم الله تعالى ثم قال: ولما جوز الامام الشافعى رحمه الله أخذ الأجرة على تعليم القرآن صح تسميته مهرا (67).
وفى كشاف القناع (68): وان أصدقها تعليم شئ معين من القرآن لم يصح الإصداق ، لأن الفروج لا تستباح إلا بالمال لقوله تعالى: " أن تبتغوا بأموالكم " " ومن لم يستطع منكم طولا (69) " والطول المال، ولأن تعليم القرآن قربة، ولا يصح ان تكون صداقا كالصوم. وحديث الموهوبة معناه زوجتكها لأنك من أهل القرآن.
وفى البحر الزخار (70) للزيدية قال: ويصح جعل تعليم القرآن أو بعضه مهرا. فتطالبه بالتعليم على عادة المعلمين، ولها المطالبة بأى السور لاستوائها فى الفضل، فإن سميت بعضا لزمه بعينه لسؤاله صلى الله عليه وسلم خطيب الواهبة عما معه من القرآن فقال البقرة و التى تليها، فقال: " زوجتكها على أن تعلمها عشرين آية " ويصح أصداق الكتابية تعليم القرآن ان رجا إسلامها لقوله تعالى " حتى يسمع كلام الله " (71).
وفى المختصر النافع للإمامية: قال: كل ما يملكه المسلم يكون مهرا عينا كان أو دينا أو منفعه كتعليم الصنعة والسورة ويستوى فيه الزوج و الأجنبى (72).
فى المحلى لابن حزم قال: وجائز أن يكون صداقا كل ماله نصف قل أو كثر ولو إنه حبة بر أو حبة شعير أو غير ذلك، وكذا كل عمل حلال موصوف كتعليم شىء من القرآن، أو من العلم أول البناء أو الخياطة أو غير ذلك اذا تراضيا بذلك (73).
الاستماع الى صدى الصوت
قال فى غنية المتملى ، مذهب الأحناف: ولو تهجى آية السجود لا يجب عليه السجود ولا على من سمعه لأنه تعداد للحروف وليس بقراءة وكذا لايجب بالكتابة أو النظر من غير تلفظ لأنه لم يقرأ ولم يسمع ولو سمعها من الطائر أو الصدى (صدى الصوت) لا يجب السجود لأنها محاكاة (74) (انظر مادة قرآن).
هل الآية الواحدة تسمى قرآنا؟
قال ابن حزم فى المحلى: وبعض الآية و الآية قرآن بلا شك (75).
وقال ابن حزم أيضا: ومن الآيات ما هو كلمة واحدة مثل " والضحى. والعصر. والفجر. و مدهامتان " ومنها كلمات كبيرة (76).
وفى البرهان للزركشى: حد الأيه قرآن مركب من جمل ولو تقديرا ذو مبدأ ومقطع مندرج فى سورة (78).
وقال فى المجموع للنووى: والمذهب أن البسملة قرآن فى أوائل السور غير براءة وأنها آية كاملة بلا خلاف (79).
 
آيس

معنى الإياس
الإياس كما فى القاموس، القنوط وعدم الرجاء ومثله اليأس، وقد عرفه الفقهاء(1) بأنه أن تبلغ المرأة من السن ما لا تحيض فيه مثلها.
سن الإياس
يروى عن أبى حنيفة أن سن الإياس يتحقق بأن تبلغ من السن ما لا تحيض فيه مثلها فإن بلغته وانقطع دمها حكم بإياسها والمماثلة تتحقق بالمشابهة فى تركيب البدن والسمن والهزال
ويقول الحنفية: أنه إذا انقطع دمها قبل أن تبلغ هذه السن كالمرضع فى مدة الرضاع فليست بآيس (2) ، وتلك إذا بلغت ذلك السن والدم يأتيها إذا كانت تراه على العادة.
وقيل (3) إنه يحد بخمسين سنة، وجاء فى التنوير وشرحه أن هذا هو المعول عليه وعليه الفتوى.
وقيل: يحد بخمس وخمسين، وعن محمد بن الحسن أنه قدره فى الروميات بخمس وخمسين سنة، وفى غيرهن بستين وفى رواية (5) عنه بسبعين.
ويقول المالكية: أن الآيسة على سبيل الجزم من بلغت سبعين سنة، وإن المرأة إذا رأت الدم بين الخمسين والسبعين سئل عنه النساء فإن قلن ليس بحيض اعتبرت آيسة وأما من انقطع حيضها بعد الخمسين فهى آيس (6).
ويقول الشافعية: إن المعتبر فى اليأس يأس أقاربها من الأبوين الأقرب فالأقرب، وفى قول عندهم المعتبر يأس كل النساء وحدده بعضهم باثنتين وستين سنة، وقال بعضهم: أقصاها خمس وثمانون وأدناها خمسون (7).
وقد اختلف النقل عن ابن حنبل فى سن اليأس، ففى رواية إن أوله خمسون سنة وفى رواية إن كانت من نساء العجم فخمسون، وإن كانت من العرب فستون، وصحح ابن قدامة أن المرأة إذا بلغت خمسين فأنقطع حيضها عن عادتها مرات لغير سبب فقد صارت آيسة ، و إن رأت الدم بعد الخمسين على العادة التى كانت عليها فهو حيض، وإن رأته بعد الستين فليس بحيض (8).
ويقول الشيعة الجعفريه: إن فى حد اليأس روايتين أشهرهما خمسون، والأخرى ستون (9)
وبها قال الزيدية وقالوا أنه الأحوط ولادليل على الأقل (10) وهو اختيار الإباضية أيضا (11).
أما الظاهرية فلم نر لهم تحديدا لسن اليأس، ولكن ابن حزم يعبر عن الآيس بالعجوز المسنة (12).
عدة الآيس:
لاخلاف بين الفقهاء(13) فى أن عدة الآيس إذا كانت مطلقة وهى حرة بعد الدخول بها ثلاثة أشهر هلالية لقوله تعالى: " واللائى يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر (14).
أما إذا كانت متوفى عنها زوجها فعدتها أربعة أشهر وعشرة أيام كغيرها، وإذا كانت غير مدخول بها فلاعدة عليها كغيرها، والأمة الآيسة عدتها نصف عدة الحرة عند الجمهور على ما هو مبين فى موضعه(انظر "عدة").
الآيس إذا رأت الدم:
يقول الأحناف (15): إذا كانت المرأة آيسة فاعتدت بالشهور فرأت دم الحيض أثناء الأشهر أو بعدها انتقض ما مضى من عدتها وعليها أن تستأنف العدة بالحيض وقيل أنها لا تنتقض سواء رأته أثناء الأشهر أو بعدها، وقيل إذا رأته قبل تمام الأشهر تنتقض وقيل تنتقض ذا لم يقض القاضى بإياسها. والذى صححه الكمال بن الهمام أنها تنتقض بالنسبة للمستقبل فلاتعتد إلا بالحيض لا بالنسبة للماضى فلا يفسد النكاح إذا كانت تزوجت بعد الأشهر الثلاثة.
ويقول الشافعية (16): إنه لو حاضت الآيس فى أثناء العدة بالأشهر وجبت الأقراء وإذا رأته بعد انقضاء الأشهر فانها تعتد بالأقراء أيضا لتتبين إنها ليست آيسة فإن كانت تزوجت بآخر فلا شئ عليها لانقضاء عدتها ظاهرا مع تعلق حق الزوج بها.
ويقول المالكية (17): أنه يرجع إلى النساء فيما تراه الآيسة ، أى المشكوك فى يأسها وهى بنت الخمسين إلى السبعين على ما ذكرناه قبل، فمن رأت الدم بعد السبعين فإنه لا يعتبر حيضا قطعا، وتعتد بالشهور
والحنابلة يرون إن الدم الذى تراه الآيسة ليس حيضا حتى يتغير به الحكم، بل هى تعتد بالأشهر. وقد نص صاحب منتهى الإرادات على ذلك اذ يقول: إنما تعرف النساء الحمل بانقطاع الدم ولأنه زمن لايرى فيه الدم غالبا فلم يكن ما تراه حيضا كالآيسة (18)
وفى الفقه الظاهرى يقول ابن حزم (19): إن المعتدة إذا حاضت فى العدة فليست من اللائى يئسن من المحيض فوجب أن عدتها ثلاثة قروء فصح أن حكم الاعتداد بالشهور قد بطل وصح إنها تنتقل إلى الأقراء.
وفى الفقه الإباضى أن الآيسة إذا رأت الدم بعد الإياس كعادتها لا عبرة به وتصوم معه وتصلى (20) ولم نجد عند الشيعة الجعفرية ولا الزيدية شيئا فى هذا.
طروء الإياس على ذات الاقراء:
المعتدة بالأقراء لو حاضت حيضة أو حيضتين ثم آيست تستأنف العدة بالأشهر فى المذاهب الثمانية (21).

__________

(1) شرح التنوير مع حاشية ابن عابدين ج1 ص221 المطبعة الأميرية.
(2) فتح القدير ج3 ص78 المطبعة الاميرية سنة 1316 وابن عابدين ج1 ص221 ، 222.
(3) ابن عابدين ج1 ص222.
(4) فتح القدير ج3 ص278.
(5) حاشية الدسوقى ج2 ص473 المطبعة الأزهرية.
(6) نهاية محتاج ج7 ص126 طبعة الحلبى سنة 1357.
(7) المغنى ج7 ص460 ، 416 طبعة المنار سنة 1367
(8) المختصر النافع ص200 طبعة دار الكتاب العربى الروضة البهية ، شرح اللمعة الدمشقية ج1 ص34 طبعة دار الكتاب العربى.
(9) البحر الزخار ج1 ص134 ، 135 طبعة السعادة.
(10) شرح النيل ج3 ص579.
(11) المحلى ج1 ص369.
(12) انظر المراجع السابقة فى المواضع المذكورة والمحلى ج10 ص322 مطبعة الإمام
(13) سورة الطلاق:4.
(14) الفتح ج3 ص277 ، 278 طبعة مصطفى محمد وابن عابدين ج2 ص657
(15) الإقناع بحاشية البجرمى ج4 ص43 المطبعة الميمنية سنة 1310.
(16) حاشية الدسوقى ج2 ص473.
(17) منتهى الارادات ج1 ص94 بهامش كشاف القناع المطبعة العامرية سنة 1319
(18) المحلى ج10 ص325 مطبعة الامام.
(19) شرح النيل ج3 ص580 فى باب العدة وقوله صامت وصلت يفيد أنه ليس بحيض.
(20) الهداية والفتح ج3 ص279.ابن عابدين ج2 ص658.الإقناع وحاشية البجرمى ج4 ص43
الدردير وحاشية الدسوقى ج2 ص499.المغنى ج7 ص465.المحلى ج10 ص226.شرح النيل ج3 ص578.
البحر الزخار ج3 ص212.الروضة البهية ج2 ص156.

 
أب

قال الراغب فى مفرداته "غريب القرآن":الأب الوالد، و يسمى كل من كان سببا فى إيجاد شىء أو إصلاحه أو ظهوره أبا.
بيان ما تكون به الأبوة
تتحقق الأبوة النسبية بواحد من ثلاثة: الفراش ، والاستيلاد ، والدعوة والاستلحاق.
وينتفى النسب عن الولد والأبوة عن الأب باللعان غالبا، وقد ينتفى الولد بدون لعان وذلك فى مسائل تأتى.
الأب: هو الراعى الأول لأسرته والمسئول عن أولاده، فهم أمانة أودعها الله عنده، و فرض عليه حفظهم، وأوجب عليه أن يسعى فيما يصلحهم، ويجتهد فيما يقومهم، وقد قال النبى -صلى الله عليه وسلم-: " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالرجل راع فى أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية فى بيت زوجها وهى مسئولة عن رعيتها، والخادم راع فى مال سيده وهو مسئول عن رعيته ، والولد راع فى مال أبيه وهو مسئول عن رعيته فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته".
أمر الأب أولاده بالصلاة وتعليمهم ما به تصح
أتفق الفقهاء على أنه يجب على الأب أن يأمر ولده بالصلاة لسبع، ويضربه ويؤدبه عليها لعشر، ويعلمه ما به تصح الصلاة من الطهارة وغيرها، فلا تجب الصلاة على صبى ولو مميزا (1) ويأمره الأب بها إذا ميز ولو قضاء لما فاته بعد التمييز ويضرب على تركها بعد عشر سنين لخبر: " مروا الصبى بالصلاة إذا بلغ سبع سنين ، وإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها " أى على تركها. صححه الترمذى وغيره.
قال فى "المجموع ": والأمر والضرب واجبان على الولى، أبا كان أو جدا أو وصيا أو قيما من جهة القاضى00 قال الطبرى: ولا يقتصر على مجرد صيغة الأمر بل لابد من التهديد وقال فى "الروضة": يجب على الآباء والأمهات تعليم أولادهم الطهارة والصلاة والشرائع (2).
وهذا الحكم يجرى فى الصوم ونحوه أيضا كما ذكره النووى فى " شرح المهذب "، ويعرف بطلب المأمورات وترك المنهيات ، وأنه بالبلوغ يدخل فى التكليف ويعرفه ما يبلغ به. وقيل: هذا التعليم مستحب والصحيح وجوبه.
والأمر والضرب فى حقه لتمرينه عليها حتى يألفها ويعتادها فلا يتركها بعد البلوغ. وذهب الحنابلة إلى مثل ما سبق عن الشافعية ، وزادوا وجوب تعليم الأولاد جميع ما يلزم من أمور الدين، وأجرة تعليمه من مال الطفل إن كان له مال ، وإلا فعلى من تلزمه نفقته(3).
وعند المالكية مثل ما سبق، إِلا أنهم قيدوا الضرب على ترك الصلاة ونحوها بما إذا ظن أَنه يفيد (4).
وعند الظاهرية قال ابن حزم فى "المحلى": لا صلاة على من لم يبلغ من الرجال والنساء، ويستحب لو علموها إذا عقلوها ، ثم ساق أحاديث مثل ما سبق وزاد قول النبى - صلى الله عليه وسلم-: " رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى حتى يبرأ، وعن الصبى حتى يكبر " ثم قال: ويستحب أن يدرب عليها، فإذا بلغ عشر سنين أدب عليها(5) ".
وفى مذهب الإباضية: من حق الابن على أبويه تأديبه وتعليمه القرآن والصلاة ومعانيها وشرائع الإسلام كلها قبل البلوغ، وإذا بلغ ثلاث عشرة ضرب على الصلاة، وفى الحديث يؤمر بالصلاة ابن ثمان ويضرب عليها ابن عشر (6).
الأب وإلباس موليه الصغير الذهب والحرير
مذهب الحنابلة: يحرم على الولى، أبا أو غيره، إلباس صبى ما يحرم على رجل من اللباس من حرير أو منسوج بذهب أو فضة أو مموه بأحدهما: لقوله -عليه الصلاة والسلام- " وحرم على ذكورها ".
وعن جابر قال: كنا ننزعه عن الغلمان ونتركه على الجوارى، رواه أبو داود. وشقق عمرو بن مسعود وحذيفة قميص الحرير على الصبيان، رواه الخلال، ويتعلق التحريم بالمكلفين بتمكينهم من الحرام كتمكينهم من شرب الخمر، وصلاة الصبى فى المحرم ولبسه كصلاة الرجل.
وعند الشافعية فى باب اللباس: وللولى إلباس ما ذكر من الحرير، وما صنع أكثره من الحرير صبيا، إذ ليس له شهامة تنافى خنوثة الحرير بخلاف الرجل، ولأنه غير مكلف (7).
وعند الحنفية: يكره أن يلبس الذكور من الصبيان الذهب والحرير، لأن التحريم لما ثبت فى حق الذكور وحرم اللبس حرم الإلباس، كالخمر لما حرم شربها حرم سقيها (8).
مذهب الزيدية (9): يحرم على الذكر ويمنع الصغير من لبس واستعمال ما فوق ثلاث أصابع من المشبع صفرة وحمرة وقيل: أنه يجب منعه من لبس الحلى والمذهّب. مذهب المالكية (10): جاء فى "الحطاب" عن بعض فقهاء المالكية أنه يحرم على ولى غير المكلف أن يلبسه شيئا من حلى الذهب ولكن ظاهر المذهب عند كثير من الشيوخ كراهة تحلية الصغار بالذهب.
مذهب الإمامية(11): لا بأس بلبس الصبي الحرير، فلا يحرم على الولى إلباسه إياه، وتصح صلاته فيه بناء على المختار من كون عباداته شرعية.
الأب وغسل الميت
(انظر غسل الميت).
الأب والزكاة فى مال الصبى
يختلف الفقهاء فى وجوب الزكاة فى مال الصبى- والمخاطب بها حينئذ وليه أبا كان أو غيره أو عدم وجوبها أصلا لسقوط التكليف عنه (انظر زكاة).
الأب وزكاة الفطر عن أولاده
مذهب الأحناف (12): يزكى الأب زكاة الفطر عن نفسه. ويخرجها عن أولاده الصغار، عند أبى حنيفة والشافعى ومالك وابن حنبل. ويخرج عن أولاده الصغار لأن السبب رأس يمونه ويلى عليه لأنها تضاف إليه يقال زكاة الرأس وهى أمارة السببية، والإضافة إلى الفطر باعتبار أنه وقته، ولهذا تتعدد بتعدد الرءوس مع اتحاد اليوم، والأصل فى الوجوب رأسه وهو يمونه ويلى عليه فيلحق به ما هو فى معناه كأولاده الصغار.
وعند الشافعية (13): ومن وجبت عليه فطرته وجبت عليه فطرة من تلزمه نفقته إذا كانوا مسلمين.
وعند المالكية (14): زكاة الفطر واجبة على الحر المسلم القادر عن نفسه وعن كل مسلم تلزمه مؤنته لقرابة كوالدين فقيرين، وأولاده الذكور للبلوغ قادرين على الكسب، والإناث للدخول بالزواج أو الدعاء إليه.
وعند الحنابلة (15): وتلزمه فطرة قريبة ممن تلزمه مؤنته كولده الصغير، ولا تجب عن جنين، بل تستحب الفطرة عن الجنين لفعل عثمان. وعن أبى قلابة: كان يعجبهم أن يطعوا زكاة الفطرة عن الصغير والكبير حتى عن الحمل فى بطن أمه. روى فى الشافى.
وعند الإمامية (16): زكاة الفطر إنما تجب على البالغ العاقل الحر الغنى، يخرجها عن نفسه وعياله من مسلم وكافر وحر وعبد وصغير وكبير ولو عال تبرعا ، وتعتبر النية فى آدائها، وتسقط عن الكافر لو أسلم.
أما الزيدية فقد جاء فى "الروض النضير" (17): حدثنى زيد بن على عن أبيه عن جده عن على عليهم السلام قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-:" صدقة الفطر على المرء المسلم يخرجها عن نفسه وعمن هو فى عياله، صغيرا كان أو كبيراً، ذكرا أو أنثى، حرا أو عبداً ، نصف صاع من بر، أو صاعا من تمر، أو صاعا من شعير.
وعند الظاهرية (18): يخرج عن الصغار زكاة الفطر الأب والولى من مالهم إِن كان لهم ، وإن لم يكن لهم مال فلا زكاة فطر عليهم حينئذ ولا بعد ذلك.
مذهب الإباضية (19): زكاة الفطر يخرجها المرء عن نفسه وعمن لزمته نفقته كزوجة وولد وعبد ولو مشركا.
دفع الأب الزكاة لأولاده وأخذها منهم
عند الحنفية (20): لا يدفع المزكى زكاته إلى أبيه وجده وإن علا ولا إلى ولده وولد ولده وإن سفل، لأن منافع الأملاك بينهم متصلة ، فلا يتحقق التمليك على الكمال. وقالوا: إن دفع إليه فى ظلمة فبان أنه أبوه أو ابنه فلا إعادة عليه. وقال أبو يوسف: عليه الإعادة لظهور خطئه بيقين.
وعند الشافعية (21) ": لا يجوز دفع الزكاة إلى من تلزمه نفقته من الأقارب والزوجات من سهم الفقراء، لأن ذلك إنما جعل للحاجة ولا حاجة بهم مع وجوب النفقة.
وعند المالكية (22): لا تجزئ إن دفعت لمن تلزمه نفقته أو دفع عرضا عنها بقيمتها.
وعند الحنابلة (23): لا يجوز دفع الزكاة إلى عمودى نسبه.
وعند الإمامية (24): من شروط من تعطى له الزكاة ألا يكون ممن تجب نفقته كالأبوين وإن علوا والأولاد وإن نزلوا والزوجة والمملوك ويعطى باقى الأقارب.
مذهب الظاهرية (25): ومن كان أبوه أو أمه أو ابنه أو أخوته أو امرأته من الغارمين أو غزوا فى سبيل الله أو كانوا مكاتبين- جاز له أن يعطيهم من صدقته الفرض، لأنه ليس عليه آداء ديونهم ولا عونهم فى الكتابة والغزو كما تلزمه نفقتهم إن كانوا فقراء ولم يأت نص بالمنع مما ذكرنا.
مذهب الزيدية (26): ولا يجزىء أحدا أن يصرف زكاته فى أصوله وهم آباؤه وأجداده وأمهاته وجداته ما علوا وفصوله وهم أولاده وأولاد أولاده ما تناسلوا ويدخل فى ذلك أولاد البنات.
مذهب الاباضية (27): ولا يدفع الأب زكاته لمن تلزمه نفقته من أولاده، لأن القاعدة عندهم أن الرجل لا يدفع زكاته لمن تلزمه نفقته.
الأب و العقيقة عن ولده
وما يطلب من الأب بعد الولادة
العقيقة: هى ما يذبح عن المولود، وقيل: هى الطعام الذى يصنع ويدعى إليه من اجل المولود يقدمها الأب. وأختلفت المذاهب فى حكمها، فقيل: إنها سنة، وقيل: إنها مندوب، وقيل: إنها فرض. (انظر: عقيقة).
الأب و الضحية عن الصبى
عند الأحناف (28): الأضحية واجبة على كل مسلم موسر فى يوم الأضحى عن نفسه وعن أولاده الصغار على تفصيل فى المذاهب. (انظر أضحية).
الأب والولاية على المحجور عليه لصغر أو جنون أو سفه
مذهب المالكية (29): والولى أصالة- على المحجور عليه من صغير أو سفيه لم يطرأ عليه السفه بعد رشده أو مجنون- هو الأب الرشيد، لا الجد ولا الأخ ولا العم، إلا بإيصاء الأب. ونصوا على أن المجنون محجور عليه والحجر لأبيه أو وصيه أن كان، وإلا فللحاكم أن وجد منتظما وإلا فلجماعة المسلمين ويمتد الحجر للإفاقة من جنونه. مذهب الأحناف: قالوا: الأب أولى الأولياء بالولاية فى النفس والمال باتفاق فقهائهم، إلا فى تزويج المجنونة الكبيرة إذا كان لها ابن.(انظر ولاية).
مذهب الشافعية (30): فى باب الحجر على الصبى والمجنون: وينظر فى ماله الأب ثم الجد، لأنها ولاية فى حق الصغير. وقدم الأب والجد فيها على غيرهما كولاية النكاح، فإن لم يكن أب ولا جد نظر الوصى لأنه نائب عن الأب والجد.
مذهب الحنابلة (31): وتثبت الولاية على صغير ومجنون ذكرا كان أو أنثى للأب. تذهب الزيدية (32): وذهب الزيدية إلى مثل ذلك.
مذهب الإمامية (33): الأب والجد يليان على الصغير والمجنون، فإن فقدا فالوصى، فإن فقدا فالحاكم.
مذهب الظاهرية (34): يقول ابن حزم: من حجر عليه ماله لصغر أو جنون فسواء كان عليه وصى من أب أو من قاض كل من نظر له نظراً حسنا فى بيع أو ابتياع أو عمل ما فهو نافذ لازم لا يرد وإن أنقد عليه الوصى ما ليس نظراً لم يجز لقول الله تعالى: " كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين. (35) " (انظر ولاية).

__________

(1) شرح أبى الشجاع ج1 ص 10.
(2) شرح الخطيب: كتاب الصلاة.
(3) كشاف القناع ج1 ص157 ،158.
(4) الشرح الصغير ج1 ص 89.
(5) المحلى ج 2 ص 232.
(6) شرح النيل ج2 ص 601، 602، 605.
(7) الخطيب الشربينى ج1 ص 177.
(8) الهداية ج4 ص 65
(9) التاج المذهب ج 3ص 484،485.
(10) الحطاب ج1 ص 124.
(11) مستمسك العروة الوثقىج5 ص 313.
(12) الهداية ج1 ص 89.
(13) المهذب ج1 ص163.
(14) الشرح الصغير ج1 ص 217.
(15) كشاف القناع ج1 ص 473.
(16) المختصر النافع ص 85.
(17) ج2 ص 439.
(18) المحلى ج 2 ص 138.
(19) شرح النيل ج2 ص 165.
(20) الهداية ج4 ص 87.
(21) المهذب ج1 ص 174.
(22) الشرح الصغير ج1 ص 216.
(23) كشاف القناع ج1 ص497.
(24) المختصر النافع ص 59.
(25) المحلى ج 6 ص 151.
(26) شرح الأزهار ج1 ص 525.
(27) شرح النيل ج1 ص 144،145.
(28) الهداية ج4 ص 55.
(29) الشرح الصغير ج2 ص 130.
(30) المهذب ج1 ص 329.
(31) كشاف القناع ج2 ص 223.
(32) التاج المذهب ج 4 ص 160،166.
(33) المختصر النافع ص 141.
(34) المحلى ج 6 ص323.
(35) سورة النساء:135.


 
الأب و تصرفه فى مال أولاده

مذهب الشافعية: جاء فى "المهذب": لا يتصرف الناظر أبا أو غيره فى مال الصغير إلا بما فيه حظ واغتباط. ثم قال فى "المهذب" أيضاً (1): ولا يسافر بمال الصغير من غير ضرورة، فإن دعت إليه ضرورة بأن خاف عليه الهلاك فى الحضر لحريق أو نهب جاز أن يسافر به، لأن السفر هاهنا أحوط.
ولا يودع ماله ولا يقرضه من غير حاجة لأنه يخرجه من يده فلم يجز. فان خاف من نهب أو حريق أو غرق أو أراد سفرا و خاف عليه جاز الإيداع والإقراض، فان قدر على الإيداع دون الإقراض أودعه ثقة، وإن قدر على الإقراض دون الإيداع أقرضه ثقة مليئا، فإن أقرض ورأى أخذ الرهن عليه أخذ، وان رأى ترك الرهن لم يأخذ، وأن قدر على الإيداع والإقراض فالإقراض أولى لأن القرض مضمون بالبدل والوديعه غير مضمونة فكان القرض أحوط.
ويجوز أن يقترض له إذا دعت إليه الحاجة ويرهن ماله عليه لأن فى ذلك مصلحه له فجاز.
وينفق عليه بالمعروف من غير إسراف ولا تقتير وإن رأى أن يخلط ماله بماله فى النفقة جاز لقوله تعالى: " وإن تخالطوهم فإخوانكم "(2).
فإن بلع الصبى واختلفا فى النفقة فإن كان الولى هو الأب أو الجد فالقول قوله وإن كان غيرهما ففيه وجهان:
أحدهما: يقبل لأن فى إقامة البينة على النفقة مشقة فقبل قوله.
والثانى: لا يقبل قوله كما لا يقبل فى دعوى الضرر والغبطة فى بيع العقار.
وإِن أراد أن يبيع ماله بماله (3) فان كان أبا أو جداً جاز ذلك، لأنهما لا يتهمان فى ذلك لكمال شفقتهما، وإن كان غيرهما لم يجز لأنه متهم فى طلب الحظ له فى بيع مال موليه من نفسه. ثم قال: وان أراد أن يأكل من ماله فإن كان غنيا لم يجز لقوله تعالى "ومن كان غنيا فليستعفف (4) " وإن كان فقيرا جاز أن يأكل لقوله تعالى " ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف " (5)
وفى ضمان الأب للبدل قولان:
أحدهما: لا يضمن لأنه أجيز له الأكل بحق الولاية فلم يضمنه كالرزق الذى يأكله الإمام من أموال المسلمين.
والثانى: يضمن لأنه مال لغيره أجيز له أكله للحاجة فوجب ضمانه كمن اضطر إلى مال غيره.
و يرى الحنابلة: أن للأب أن يبيع ويشترى ويرهن لنفسه من مال موليه ، ولا يصح (6) إقرار الولى عليه بمال ولا إتلاف، لأنه إقرار على الغير. وأما تصرفاته النافذة منه كالبيع و الإجارة وغيرهما فيصح إقراره بها كالوكيل ولا يصح أن يأذن له فى حفظ ماله: ولوليه مكاتبة رقيقه وعتقه على مال إن كان فيه حظ، وله تزويج رقيقه من عبيد وإماء لمصلحة. والسفر بما له لتجارة وغيرها فى مواضع آمنة فى غير بحر، ولا يدفعه إلا إلى الأمناء، ولا يغرر بماله، وله المضاربة بماله بنفسه ولا أجرة له فى نظير اتجاره به، والربح كله للمولى عليه والتجارة بماله أولى من تركها لحديث " اتجروا فى أموال اليتامى لئلا تأكلها الصدقة " فقاسوا الأب على ولى اليتيم فى ذلك. وله دفعه مضاربة إلى أمين يتجر فيه بجزء من الربح وله ابضاعه وهو دفعه إلى من يتجر فيه، والربح كله لمولى عليه. وله بيعه نسيئة لملىء وقرضه لمصلحة فيهما، ولا يقرضه الولى لمودة ومكافأة. ولا يقترض وصى ولا حاكم منه شيئا لنفسه ، كما لا يشترى من نفسه ولا يبيع لنفسه للتهمة، وجاز ذلك للأب لعدم التهمه عند الأب لكمال شفقته. وللأب أن يرتهن ماله لنفسه، ولا يجوز ذلك لولى غيره، ولوليه أبا كان أو غيره شراء العقار له من ماله ليستغل مع بقاء الأصل له. وله بناؤه بما جرت به عادة أهل بلده ومتى كان خلط مؤنته بقوت وليه (7) أرفق وألين لعيشه فهو أولى طلبا للرفق، قال تعالى: " وإن تخالطوهم فإخوانكم " وإن كان أفراده أرفق أفرده، ويجوز تركه فى المكتب ليتعلم ما ينفعه، وتعليم الخط والرماية والأدب وما ينفعه وأداء الأجرة عنه من ماله. وله أن يسلمه فى صناعة إذا كانت مصلحة. وله بيع عقاره لمصلحه ولو لم يحصل زيادة على ثمن مثله. وأنواع المصلحة كثيرة إما لاحتياج نفقة أو كسوة أو قضاء دين أو ما لابد منه وليس له ما تندفع به حاجته أو يخاف عليها الهلاك بغرق أو خراب أو يكون فى بيعه غبطة أو يكون فى مكان لا ينتفع به أو كان نفعه فيه قليلا فيبيعه ويشترى له بثمنه. وإن أوصى له بمن يعتق عليه ولا تلزمه نفقته وجب على الولى قبول الوصية وإلا لم يجز له قبوله.
وتملك الأب مال الولد بشروط ستة:
أحدها: أن يكون فاضلا عن حاجة الولد لئلا يضره.
الثانى: ألا يعطيه الأب لولد آخر فلا يملك من مال ولده زيد ليعطيه لولده عمرو.
الثالث: ألا يكون التملك فى مرض موت أحدهما.
الرابع: ألا يكون الأب كافرا والابن مسلما، لا سيما إذا كان الابن كافرا ثم أسلم وقال ابن قدامة صاحب "المغنى": الأشبه أن الأب المسلم ليس له أن يأخذ من مال ولده الكافر شيئا لانقطاع الولاية والتوارث بينهما.
الخامس: أن يكون ما يتملكه الأب عينا موجودة فلا يتملك الأب دين ابنه بقبضه.
السادس: ولا يصح تصرفه فى مال ولده قبل القبض مع القول أو النية ولو عتقا. ولا يملك الأب إبراء نفسه من دين ولده، ولو أقر الأب بقبض دين ولده من غريمه فأنكر الولد أو أقر بالقبض رجع الولد على غريمه بدينه لعدم براءته بالدفع إلى أبيه ورجع الغريم على الأب بما أخذه منه إن كان باقيا، وببدله أن كان تالفا، لأنه قبض ما لبس له قبضه لا بولاية ولا بوكالة، ولو أقر بقبض دين ابنه فأنكر رجع على غريمه وليس لولد ولا لورثته مطالبة أبيه بدين قرض ولا ثمن مبيع ولا قيمة متلف ولا ارش جناية ولا بأجرة ما أنتفع به من ماله، لما روى الخلال أن رجلا جاء إلى النبى - صلى الله عليه وسلم- بأبيه يقتضيه دينا عليه فقال: " أنت ومالك لأبيك " وليس للابن أن يحيل عليه بدينه ولا مطالبة للولد على والده بغير ذلك من سائر الحقوق إلا بنفقته الواجبة على الأب لفقر الابن وعجزه عن التكسب فله الطلب بها وله مطالبته بعين مال له فى يده ويحرم الربا بينهما كما يحرم بين الأجنبيين لتمام ملك الولد على ماله واستقلاله بالتصرف فيه ووجوب زكاته عليه وتوريث ورثته وحديث " أنت ومالك لأبيك " على معنى سلطة التملك ويدل عليه إضافة المال للولد. ويثبت للولد فى ذمة الوالد الدين من بدل قرض وثمن مبيع ونحوه (8).
ولا يسقط بموته فيؤخذ من تركته، ولا يملك إحضاره فى مجلس الحكم، فإن أحضره فادعى الولد عليه فأقر الأب بالدين أو قامت به بينة لم يحبس، وإن وجد عين ماله الذى أقرضه لأبيه أو باعه له بعد موته فله أخذه إن لم يكن قبض ثمنه لتعذر العوض، ولا يكون ما وجد من عين المال ميراثا لورثة الأب بل هو له دون سائر الورثة. ولو قضى الأب الدين الذى عليه لولده فى مرضه أو أوصى بقضائه فمن رأس ماله، لأنه حق ثابت لا تهمة فيه، فكان من رأس المال كدين الأجنبى، ولا اعتراض للأب على تصرف الولد فى مال نفسه بعقود المعاوضات وغيرها، لتمام ملك الولد على ماله.
وعند الأحناف (9): إذا أذن ولى الصبى للصبى فى التجارة وكان يعقل البيع والشراء ينفذ تصرفه، والمعتوه الذى يعقل البيع والشراء بمنزلة الصبى يصير مأذونا بإذن الأب والجد دون غيرهما وحكمه حكم الصبى.
ويجوز للأب أن يرهن بدين عليه عينا لابنه الصغير لأنه يملك الإيداع وهذا أنظر فى حق الصبى منه لأن قيام المرتهن بحفظها أبلغ خيفة الغرامة ولو هلكت تهلك مضمونة والوديعة تهلك أمانة والوصى بمنزلة الأب فى هذا الباب لما بينا.
وعن أبى يوسف وزفر- رحمهما الله-:أنه لا يجوز ذلك منهما، وهو القياس، اعتبارا بحقيقة الإيفاء ووجه الفرق على الظاهر وهو الاستحسان أن فى حقيقة الإيفاء إزالة ملك الصغير من غير عوض يقابله فى الحال، وفى هذا نصب حافظ لماله ناجزا مع بقاء ملكه فوضح الفرق. وإذا جاز الرهن يصير المرتهن مستوفيا دينه لو هلك فى يده، ويصير الأب أو الوصى موفيا له ويضمنه للصبى لأنه قضى دينه. ثم قال: وإذا رهن الأب متاع الصغير من نفسه، أو من ابن له صغير، أو عبد له تاجر لا دين عليه- جاز، لأن الأب لوفور شفقته أنزل منزلة شخصين وأقيمت عبارته مقام عبارتين فى هذا العقد، كما فى بيعه مال الصغير من نفسه فتولى طرفى العقد (10) وإذا رهن الأب متاع الصغير فأدرك الابن ومات الأب فليس للابن أن يرده حتى يقضى الدين، لوقوعه لازما من جانبه، إذ تصرف الأب بمنزلة تصرفه بنفسه بعد البلوغ لقيامه مقامه، ولو كان الأب رهنه لنفسه فقضاه الابن رجع به فى مال الأب، لأنه مضطر فيه لحاجته إلى إحياء ملكه فأشبه معير الرهن وكذا إذا هلك قبل أن يفتكه لأن الأب يصير قاضيا دينه بماله فله أن يرجع عليه. ولو رهنه بدين على نفسه وبدين على الصغير جاز، لاشتماله على أمرين جائزين. فإن هلك ضمن الأب حصته من ذلك الولد لإيفائه دينه من ماله لهذا المقدار وكذا الوصى وكذا أب الأب إذا لم يكن الأب أو وصى الأب.
مذهب المالكية (11):
إن للأب بيع مال ولده المحجور عليه تحت ولايته أصلا أو ثمرة، إذ تصرفه محمول على المصلحة وإن لم يبين السبب، وله الأخذ بالشفعة، وترك قصاص وجب للمحجور عليه بالنظر والمصلحة، وليس له العفو عن عمد أو خطأ بالمجان. وله إسقاط الشفعة إذا كان ذلك عن نظر فلا تسقط بلا نظر على الراجح، ومقابله أنها تسقط بإسقاطه مطلقا.
ويجوز للأب أن يرهن مال محجوره فى دين استدانه على المحجور لمصلحته كالطعام والكسوة وغيرهما من الأمور الضرورية (12).
ويجوز للأب رد تصرف سفيه أو صبى مميز بمعاوضة باشره بلا إذن وليه كبيع وشراء وهبة ثواب، فإن لم يكن بمعاوضة، كهبة وصدقة وعتق، تعين على الأب رده، كإقرار من المحجور عليه بدين فى ذمته أو بإتلافه شيئا لغيره فيتعين عليه رد الإقرار. وإذا ترك الأب رد ذلك كان للصبى المميز رده إذا رشد (13).
والظاهرية والإمامية والزيدية: يجيزون للولى، أبا أو غيره، أن يتصرف فى مال من فى ولايته لمصلحة. أما بالنسبة للرهن فيقول الظاهرية: لا يجوز للأب ولا للوصى أن يرهن مال موليه عن نفسه، كما لا يجوز لأحد أن يرهن مالا لغيره إلا بإذن مالكه (14).
ويقول الإمامية: وللولى أن يرهن لمصلحة المولى عليه، وليس للراهن التصرف فى الرهن بإجارة ولا سكنى ولا وطء، لأنه تعريض للإبطال وفيه رواية بالجواز مهجورة.
الأب و إسقاط حق موليه فى الشفعة:
ترك الأب طلب الشفعة لموليه لا يسقط حقه فى الشفعة وله الأخذ بها إذا بلغ وعقل ورشد على تفصيل فى المذاهب. (انظر شفعة).

__________

(1) ج1 ص 33.
(2) سورة البقرة:220.
(3) المهذب ج1 ص331.
(4) سورة النساء:6.
(5) سورة النساء:6.
(6) كشاف القناع ج2 ص 225.
(7) كشاف القناع ج2 ص 225 ، 226.
(8) كشاف القناع ج2 ص487.
(9) الهداية ج4 ص8،9.
(10) الهداية ج4 ص 100.
(11) الشرح الصغير ج2 ص 130،206 ،211.
(12) الشرح الصغير ج2 ص 102،131.
(13) الشرح الصغير ج2 ص 126،127.
(14) المحلى ج 6 ص102، المختصر النافع ص137،141. التاج المذهب ج 4 ص 166.

 
الأب وأحكام الهبة.

يذهب الحنابلة (1): إلى أن الأب يقبض الهبة لولده الصغير والمجنون، ولو كان الأب غير مأمون قبل الحاكم الهبة للصغير ونحوه، أو كان الأب مجنونا قبل الحاكم الهبة لولده أو كان قد مات ولا وصى له، وللأب الحر أن يتملك من مال ولده ما شاء.
ثم قال صاحب "كشاف القناع": للأب فقط إذا كان حرا أن يتملك من مال ولده ما شاء ما لم يتعلق به حق كالرهن، مع حاجة الأب إلى تملك مال ولده ومع عدمها، فى صغر الولد وكبره، وسخطه ورضاه، وبعلمه وبغير علمه، لما روى الترمذى، وذكر انه حديث حسن، عن عائشة - رضى الله عنها - قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:" إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم " وروى الطبرانى فى معجمه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: " جاء رجل إلى النبى -صلى الله عليه وسلم - فقال: إن أبى اجتاح مالى، فقال: "أنت ومالك لأبيك".
ولأن الولد موهوب لأبيه بالنص القاطع، وما كان موهوبا كان له أخذ ماله كعبده، ويؤيده أن سفيان بن عيينة قال فى قوله تعالى: " ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون " (2).
ذكر الأقارب دون الأولاد لدخولهم فى قوله تعالى " من بيوتكم "، لأن بيوت أولادهم كبيوتهم ولأن الرجل يلى مال ولده من غير تولية كمال نفسه.
مذهب الأحناف (3): وإذا وهب الأب لابنه الصغير هبة ملكها الابن بالعقد،لأنه فى قبض الأب فينوب عن قبض الهبة ولا فرق بين ما إذا كان فى يده أو فى يد مودعه، لأن يده كيده، بخلافه ما إذا كان مرهونا أو مغصوبا أو مبيعا بيعا فاسدا، لأنه فى يد غيره أو فى ملك غيره، والصدقة فى هذا كالهبة.
مذهب الشافعية (4): وإن وهب للولد أو ولد الولد وإن سفل جاز أن يرجع لما روى ابن عمر وابن عباس رضى الله عنهما رفعاه إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- " لا يحل للرجل أن يعطى العطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما أعطى ولده "، ولأن الأب لا يتهم فى رجوعه لأنه لا يرجع إِلا لضرورة أو لإصلاح الولد وإن تصدق عليه فالمنصوص أن له أن يرجع كالهبة، ومن أصحابنا من قال: لا يرجع لأن القصد بالصدقة طلب الثواب وإصلاح حاله مع الله عز وجل، فلا يجوز أن يتغير رأيه فى ذلك، والقصد من الهبة إصلاح حال الولد، وربما كان الصلاح فى استرجاعه، فجاز له الرجوع، وإن تداعى رجلان نسب مولود ووهبا له مالا لم يجز لواحد منهما أن يرجع، لأنه لم يثبت له بنوته، فإن لحق أحدهما ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز، لأنه فى ملك من يجوز له الرجوع فى هبته.
و الثانى: لا يجوز، لأنه رجوع على غير من وهب له فلم يجز.
وأن وهب لولده شيئا فأفلس الولد وحجر عليه ففيه وجهان:
أحدهما: يرجع لأن حقه السابق لحقوق الغرماء.
والثانى: لا يرجع ، لأنه تعلق به حق الغرماء فلم يجز له الرجوع كما لو رهنه. وللفقهاء فى جواز رجوعه فى الهبة شروط هى محل خلاف بينهم (انظر رجوع).
مذهب المالكية (5): جاء فى "الشرح الصغير": وصح حوز وأهب شيئا وهبه لمحجوره من صغير أو سفيه أو مجنون، كان وليه الواهب أبا أو غيره، لأنه هو الذى يحوز له. ثم قال (6): وجاز للأب فقط لا الجد اعتصارها أى الهبة ،:أى أخذها من ولده قهراً عنه بلا عوض مطلقا، ذكرا كان أو أنثى، صغيراً أو كبيراً، فقيراً أو غنياً، سفيهاً أو رشيداً، حازها الولد أولا.
مذهب الظاهرية (7): جاء فى "المحلى": ومن وهب هبة صحيحة لم يجز له الرجوع فيها أصلا مذ يلفظ بها، إلا الوالد والأم فيما أعطيا أو أحدهما لولدهما، فلهما الرجوع فيه أبداً، الصغير والكبير سواء، وسواء تزوج الولد أو الابنة على تلك العطية أو لم يتزوجا، داينا عليها أو لم يداينا. فإن فات عينها فلا رجوع لهما بشىء، ولا رجوع لهما بالغلة، ولا بالولد الحادث بعد الهبة. فإن فات البعض وبقى البعض كان لهما الرجوع فيما بقى.
مذهب الزيدية (8): جاء فى "التاج المذهب": ويقبل إذا وهب للصبى وكذا المجنون وليه المتولى لماله ولو من جهة الصلاحية أو يقبل هو فإنه يصح قبوله إن كان مأذونا له بالتصرف مطلقا ، وإن لم يكن مأذونا لم يصح قبوله، بل يقبل له ولى ماله. قال فى البيان: ولا حكم لرد المولى لما قبله له الأجنبى وقبله الصبى المميز، فإذا أجازه الولى من بعد إجازة الصبى بعد بلوغه صح.
قال فى "التاج (9) المذهب" وهو يتحدث عن شروط جواز الرجوع فى الهبة: ألا يكون الموهوب له ذا رحم محرم، نسبا لارضاعا، فإن كان ذا رحم محرم نسبا لم يجز الرجوع فيها ولم يصح سواء كانت الهبة لله أم لا، إلا الأب ولو فاسقا أو كافرا، فله الرجوع فى هبة طفله متى لم يحصل أحد الموانع، وإذا لم يكن طفلا بل كان بالغا ولو مجنونا أصليا أم طارئا لم يصح للأب الرجوع فيما وهب له. فلو وهب له فى صغره وأراد الرجوع بعد بلوغه لم يصح ذلك. وقال (10): ويكره تنزيها مخالفة التوريث فى الهبة والصدقة ونحوهما من نذر ووقف ووصية، لأنه يؤدى إلى إيغار الصدور، ولما فيه من الحيف عن سنن العدل، وصريح الأحاديث قاضية بالعدل والتسوية بين الأولاد فى النحل والعطية، إلا أن يفضل أحد الورثة لبره، أو لكثرة عائلته، أو لضعفه: كالأعمى والمقعد ونحوهما، أو لفضله، فإن ذلك غير مكروه إلى قدر الثلث.
مذهب الإمامية (11): قال فى "المختصر النافع": لو وهب الأب أو الجد للولد الصغير لزم لأنه مقبوض بيد الولى ولا يرجع - أى الولد- فى الهبة لأحد الوالدين بعد القبض.
مذهب الأباضية (12): جاء فى" شرح النيل": يشترط القبض فى صحة هبة الأب لولده ذكرا أو أنثى كذا قيل. وذكر قومنا أن من أعطى ابنه أو ابنته عند التزوج شيئا لم يحتج للقبض، فإن مات ابنه أو بنته أخذ منه وارثه، لأنه لما أنعقد عليه النكاح صار كالبيع، وقيل: لا تصح إلا بالقبض. (وصح عود والد فيها) أى فى الهبة، وذلك فى الحكم وعند الله، إلا أن عنى التقرب إلى الله بإعطائه ولده فلا يجوز له الرجوع عند الله ، وإن أحدث الولد أمرا فيه لم يصح الرجوع إلا إن خرج من ملكه ثم رجع فلا رجوع للأب فيه لحديث " لا يحل الرجوع فى الهبة إلا لوالد ".

__________

(1) كشاف القناع ج2 ص486.
(2) سورة النور: 61.
(3) الهداية ج3 ص 182.
(4) المهذب ج1 ص 451.
(5) الشرح الصغير ج2 ص 288.
(6) المرجع السابق ص 289.
(7) المحلى ج 6 ص 127.
(8) ج 3 ص 264.
(9) المرجع السابق ص 269.
(10) المرجع السابق ص 274.
(11) ص 160.
(12) ج6 ص5،8.


 
الأب وأحكام الوصية والإيصاء

وعند الشافعية (1): " من ثبتت له الولاية فى مال ولده ولم يكن له ولى بعده جاز له أن يوصى إلى من ينظر فى ماله، لما روى سفيان بن عيينة رضى الله عنه عن هشام بن عروة قال:
" أوصى إلى الزبير تسعة من أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم- منهم عثمان والمقداد وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود رضى الله عنهم، فكان يحفظ عليهم أموالهم وينفق على أبنائهم من ماله ".
وإن كان له جد لم يجز أن يوصى إلى غيره، لأن ولاية الجد مستحقة بالشرع فلا يجوز نقلها عنه بالوصية. ومن ثبتت له الولاية فى تزويج ابنته لم يجز أن يوصى إلى من يزوجها.
وقال أبو ثور: يجوز كما يجوز أن يوصى إلى من ينظر فى مالها، وهذا خطأ، لما روى ابن عمر قال: زوجنى قدامة بن مظعون ابنة أخيه عثمان بن مظعون، فأتى قدامة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: أنا عمها ووصى أبيها وقد زوجتها من عبد الله بن عمر. فقال رسول الله
- صلى الله عليه وسلم- " إنها يتيمة ولا تنكح إلا بإذنها " ولأن ولاية النكاح لها من يستحقها بالشرع فلا يجوز نقلها بالوصية كالوصية بالنظر فى المال مع وجود الجد.
مذهب المالكية: قال فى "الشرح الصغير" (2): وإنما يقيم وصيا على محجور عليه لصغر أو سفه أب رشيد أو وصيه إن لم يمنعه الأب من الإيصاء بأن قال: أوصيتك على أولادى وليس لك أن توصى عليهم. وكذلك للأب أن يوصى على تزويج بناته، والراجح له الجبر أن ذكر البضع أو النكاح أو التزويج بأن قال له الأب: أنت وصى على بضع بناتى أو على نكاحهن أو على تزوجهن أو على بنتى حتى تزوجها قبل البلوغ أو بعده أو ممن شئت وإن لم يذكر شيئا من الثلاثة، فالظاهر عدم الجبر كما إذا قال: أنت وصى على بناتى. أما لو قال: أنت وصى فقط أو على مالى فلا جبر اتفاقا.
مذهب الحنابلة: قال فى "كشاف القناع" (3): يملك الأب الإيصاء على أولاده. كما قال: وتصح وصية المسلم إلى كل مسلم مكلف رشيد عدل، ولو مستوراً أو أعمى أو امرأة أو أم ولد أو عدوا للطفل الموصى عليه، وكذا لو كان عاجزا، ويضم إليه قوى أمين معان، ولا تزال يده عن المال، ولا يزال نظره. وهكذا إن كان قويا فحدث فيه ضعف، ويكون الأول هو الوصى دون الثانى أى وهو المعين.
مذهب الأحناف (4): للأب أن يقيم وصيا على أولاده الصغار ومن فى حكمهم، كما له أن يقيم وصيا على تركته عند الحاجة إلى ذلك، من تنفيذ وصاياه أو قضاء ديونه أو استيفائها ونحو ذلك، كقسمة التركة. ويكون الوصى حينئذ مقدما على الجد، وهو ما يسمى بالوصى المختار. وتفصيل أحكام الإيصاء- ينظر مصطلح (إيصاء)
مذهب الإمامية (5): يعتبر فى الذى يجعله الأب وصيا أن يكون مكلفا مسلما، وفى اعتبار العدالة تردد أشبهه أنها لا تعتبر. أما لو أوصى إلى عدل ففسق بطلت وصيته، ولا يوصى إلى المملوك إلا بأذن مولاه. ويصح إلى الصبى منضما إلى كامل لا منفردا، ويتصرف الكامل حتى يبلغ الصبى ثم يشتركان، وليس له نقض ما أنفذه الكامل بعد بلوغه. ولا تصح الوصية من المسلم إلى الكافر، وتصح من مثله وتصح الوصية إلى المرأة. وللموصى تغيير الأوصياء، وللموصى إليه رد الوصية ويصح أن بلغ الرد. ولو مات الموصى قبل بلوغه لزمت الوصية، و إذا ظهر من الوصى خيانة استبدل به، والوصى أمين لا يضمن إلا مع تعد أو تفريط، وتختص ولاية الوصى بما عين له الموصى، عموما كان أو خصوصا ويأخذ الوصى الأجرة (أجرة المثل) ، وقيل قدر الكفاية، هذا مع الحاجة. وإذا أذن له فى الوصية جاز، ولو لم يأذن فقولان، أشبههما أنه لا يصح، ومن لا وصى له فالحاكم وصى تركته.
وتصح الوصية بالمضاربة بمال ولده الأصاغر. ولا يجوز إخراج الولد من الإرث ولو أوصى الأب، وفيه رواية مطرحة.
مذهب الزيدية (6): قال فى "التاج المذهب": وإنما يتعين وصيا من جمع شرطين. الأول: أن يكون قد عينه الميت ولو امرأة، بأن قال: أنت وصيتى، أو أنت وصيى، أو قم على أولادى بعدى، أو نفذ ما أوصيت به، أو أنت خليفتى، أو أخلفنى أو وكلتك بعد موتى، أو أنت وكيلى فى حياتى وبعد مماتى.
مذهب الإباضية (7): ومن قال: فلان وصيى فهو وصيه ولو فى أولاده وتزويج بناته، وقيل: إلا فيهن وليس للجد أن يوصى فى أولاد أولاده إلا أن أوصاه ولده أى أبوهم، ولا وصاية لغير الأب فيهم.
مذهب الظاهرية (8): ومن أوصى إذا مات أن تزوج ابنته البكر الصغيرة أو البالغ فهى وصية فاسدة، لا يجوز إنفاذها، برهان ذلك أن الصغيرة إذا مات أبوها صارت يتيمة، وقد جاء النص بأن لا تنكح اليتيمة حتى تستأذن، وأما الكبيرة فليس لأبيها أن يزوجها فى حياته بغير أذنها فكيف بعد موته.

__________

(1) المهذب ج1 ص 455.
(2) ج2 ص 432.
(3) ج2 ص 533.
(4) الهداية ج4 ص 195.
(5) المختصر النافع ص 165،166.
(6) ج4 ص 385.
(7) شرح النيل ج6 ص 454.
(8) المحلى ج 9 ص 464.

 
الأب و أحكام العتق

مذهب الشافعية (1):
إذا ملك الأب أحد أولاده عتق عليه وكذا العكس. ومن ملك أحد الوالدين وإن علوا أو أحد المولودين وإن سفلوا عتقوا عليه، لقوله تعالى " تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا، أن دعوا للرحمن ولداً. وما ينبغى للرحمن أن يتخذ ولدا. إن كل من فى السموات والأرض إلا آتى الرحمن عبداً (2) " فالآية تدل على التنافى بين الولدية و العبودية.
مذهب الأحناف(3):
ومن قال عن عبده: هذا ابنى وثبت ذلك عتق. ومعنى المسألة: إذا كان يولد مثله لمثله ثم إن لم يكن للعبد نسب معروف يثبت نسبه منه، لأن ولاية الدعوة بالملك ثابتة، والعبد محتاج إلى النسب فيثبت نسبه منه. وإذا ثبت نسبه عتق، لأن النسب يستند إلى وقت العلوق، أى الحمل. وإن كان له نسب معروف لا يثبت منه للتعذر، ويعتق إعمالا للفظ فى مجازه عند تعذر أعماله بحقيقته.
مذهب الحنابلة(4):
ولا يصح أن يعتق الأب عبد ولده الصغير، كما لا يصح أن يعتق عبد ولده الكبير، ولا عبد ولده المجنون، ولا عبد يتيمه الذى فى حجره، لأنه تبرع وهو ممنوع منه. ومن ملك ذا رحم محرم عليه للنسب عتق عليه ولو كان مخالفا له فى الدين (5).
مذهب المالكية(6):
وعتق بنفس الملك بدون حكم حاكم على المشهور أصله نسبا لا رضاعا، وإن علا فيعتق الجد وفرعه، وإن سفل بالإناث فأولى بالذكور.
مذهب الظاهرية (7):
من ملك ذا رحم محرم هو حر ساعة يملكه، فإن ملك بعضه لم يعتق عليه إلا الوالدان خاصة والأجداد والجدات خاصة فإنهم يعتقون عليه كلهم أن كان له مال يحمل قيمتهم، فإن لم يكن له مال حمل قيمتهم استسعوا، وهم كل من ولده من جهة أم أو جدة أو جد أو أب، وكل من ولده هو من جهة ولد أو ابنة. وقال فى "المحلى" (8): لا يجوز للأب عتق عبد ولده الصغير.
مذهب الزيدية:
من أسباب العتق ملك ذى الرحم المحرم كالأباء وإن علو والأولاد وإن سفلوا (9).
مذهب الإمامية (10):
قد يحصل العتق بالملك فيما إذا ملك الذكر أحد العمودين أو إحدى المحرمات نسبا أو رضاعا.
الأب والكتابة للعبد
مذهب الأحناف(11):
وإذا اعتق المكاتب عبده على مال، أو باعه من نفسه، أو زوج عبده، لم يجز، لأن هذه الأشياء ليست من الكسب ولا من توابعه. وكذلك الأب والوصى فى رقيق الصغير بمنزلة المكاتب، لأنهما يملكان الاكتساب كالمكاتب.
ثم قال: وإذا اشترى أباه أو ابنه دخل فى كتابته، لأنه من أهل أن يكاتب وإن لم يكن من أهل الإعتاق فيجعل مكاتبا تحقيقا للصلة بقدر الإمكان. الا ترى أن الحر متى كان يملك الإعتاق يعتق عليه.
مذهب الزيدية (12):
وإذا أدخل المكاتب معه غيره، نحو أن يكاتب عن نفسه وأولاده بعقد واحد. فلا يعتق واحد منهم إلا بدفع مال المكاتبة عن الجميع منهم أو من غيرهم، سواء تميزت حصص عوض الكتابة بأن يقول: كاتبت كل واحد منكم بمائة، أم لم تميز، لئلا يفرق العقد.
وأما إذا كانت العقود مختلفة عتق من أوفى ما عليه أو أدى عنه تقدم أو تأخر. ثم إن الأب إن كاتب بإذنهم رجع عليهم كل بحصته حيث سلم بإذنهم، فإن كانت بغير أذنهم لم يرجع.
(انظر مصطلح: عتق، كتابة).

__________

(1) المهذب ج2 ص 4.
(2) سورة مريم:91،92،93.
(3) الهداية ج2 ص 43.
(4) كشاف القناع ج2 ص 627.
(5) المرجع السابق ص 628.
(6) الشرح الصغير ج2 ص 405.
(7) المحلى لابن حزم ج 9 ص 200.
(8) المرجع السابق ج 9 ص215.
(9) شرح الأزهار ج53 ص 566.
(10) الروضة البهية ج2 ص 195.
(11) ج 3ص 208.
(12) التاج المذهب ج 2 ص 399.


 
ولاية الأب فى النكاح

مذهب الشافعية (1):
وإن كانت من يراد تزويجها حرة فأولى الناس بذلك أبوها. وقالوا: إنه يجوز للأب أن يزوج أبنه الصغير إذا رأى ذلك (2).
ويجوز للأب (3). والجد تزويج البكر من غير رضاها، صغيرة كانت أو كبيرة، لما روى ابن عباس رضى الله عنهما أن النبى -صلى الله عليه وسلم- قال: " الثيب أحق بنفسها، والبكر يستأمرها أبوها فى نفسها " فدل على أن الولى أحق بالبكر، وإن كانت بالغة فالمستحب أن يستأذنها للخبر، وأذنها صماتها، لما روى ابن عباس رضى الله عنهما أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: " الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن فى نفسها، وأذنها صماتها " ولأنها تستحى أن تأذن لأبيها بالنطق فجعل صماتها إذنا. ولا يجوز لغير الأب والجد تزويجها إلا أن تبلغ و تأذن.
وأما الثيب فإنها إن ذهبت بكارتها بالوطء فان كانت بالغة عاقلة لم يجز لأحد تزويجها إلا بأذنها، لما روت خنساء بنت خذام الأنصارية: أن أباها زوجها وهى ثيب فكرهت ذلك فذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فرد نكاحها.
وأذنها بالنطق لحديث ابن عباس رضى الله عنهما أن النبى -صلى الله عليه وسلم- قال: " والبكر تستأذن فى نفسها وأذنها صماتها" فدل على أن أذن الثيب النطق. وإن كانت صغيرة لم يجز تزوجيها حتى تبلغ وتأذن، لأن إذنها معتبر فى حال الكبر، فلا يجوز الإفتيات عليها فى حال الصغر. وإن كانت مجنونة جاز للأب والجد تزويجها صغيرة كانت أو كبيرة، لأنه لا يرجى لها حال تستأذن فيها. ولا يجوز لسائر العصبات تزويجها لأن تزويجها إجبار، وليس لسائر العصبات غير الأب والجد ولاية الإجبار.
مذهب الأحناف:
يجوز نكاح الصغير والصغيرة إذا زوجهما الولى، بكرا كانت الصغيرة أو ثيبا، والولى هو العصبة، فإن زوجها الأب أو الجد، أى الصغير أو الصغيرة، فلا خيار لهم بعد البلوغ (4). وإذا اجتمع فى المجنونة أبوها وابنها فالولى فى أنكاحها أبنها فى قول أبى حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله. وقال محمد رحمه الله: أبوها لأنه أوفر شفقة من الابن. وهم (5) لا يجيزون للولى إجبار البكر البالغة على النكاح.
مذهب الحنابلة (6):
أحق الناس الذين لهم ولاية النكاح بنكاح المرأة الحرة أبوها، لأن الولد موهوب لأبيه، قال تعالى: " ووهبنا له يحيى (7) "، وقال على لسان إبراهيم الخليل: " الحمد لله الذى وهب لى على الكبر إسماعيل وإسحاق (8) "، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "أنت ومالك لأبيك " وإثبات ولاية للموهوب له على الهبة أولى من العكس، ولأن الأب أكمل شفقة وأتم نظراً، بخلاف الميراث، بدليل أنه يجوز أن يشترى لها من ماله وله من مالها.
وكذلك يذهب الحنابلة (9): إلى أن للأب خاصة تزويج بنيه الصغار و بنيه المجانين ولو كان بنوه المجانين بالغين ،لأنهم لا قول لهم، فكان له ولاية تزويجهم كأولاده الصغار. وروى الأثرم أن ابن عمر زوج ابنه وهو صغير فاختصموا إلى زيد فأجازاه جميعا.
وحيث زوج الأب ابنه لصغره وجنونه فإنه يزوجه بحرة لئلا يسترق ولده ويزوجه غير معيبة عيبا يرد به النكاح. ويزوج ابنه الصغير أو المجنون بمهر المثل وغيره ولو كرها، لأن للأب تزويج ابنته البكر بدون صداق مثلها، وهذا مثله، فإنه قد يرى المصلحة فى ذلك، فجاز له بذل المال فيه كمداواته بل هذا أولى، فإن الغالب أن المرأة لا ترضى أن تتزوج المجنون إلا أن ترغب بزيادة على مهر مثلها فيتعذر الوصول إلى النكاح بدون ذلك.
وليس لهم، أى للبنين الصغار والمجانين، إن زوجهم الأب خيار إذا بلغوا وعقلوا كما لو باع مالهم. وللأب تزويج بناته الأبكار ولو بعد البلوغ لحديث ابن عباس مرفوعا: (الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر، وإذنها صماتها) رواه أبو داود.
فلما قسم النساء قسمين، وأثبت الحق لأحدهما، دل على نفيه عن الأخر وهى البكر فيكون وليها أحق منها بها، ودل الحديث على أن الاستئمار هنا. والاستئذان فى حديثهم مستحب غير واجب.
وللأب أيضا تزويج ثيب لها تسع سنين بغير أذنها، لأنه لا أذن لها. و إذا زوج ابنه الصغير فبامرأة واحدة، وله تزويجه بأكثر إن رأى فيه مصلحه، وهذا ضعيف جدا، وليس فى ذلك مصلحة بل مفسدة.
وعندهم (10): وحيث أجبرت البكر، زوجت بمن تختاره بنت تسع سنين فأكثر كفئا لا بمن يختاره المجبر من أب أو وصيه، لأن النكاح يراد للرغبة فلا تجبر على غير ما ترغب فيه. وشروط الإجبار: أن يزوجها من كفء بمهر المثل، وألا يكون الزوج معسرا، وألا يكون بينهما وبين الأب عداوة ظاهرة، وأن يزوجها بنقد البلد. فإن امتنع المجبر عن تزويج من أختارته بنت تسع سنين فأكثر فهو عاضل، فتسقط ولايته ويفسخ به إن تكرر.
وليس للأب تزويج ابنه البالغ العاقل بغير إذنه، لأنه لا ولاية له عليه إلا أن يكون سفيها وكان النكاح أصلح له، بأن يكون زمنا أو ضعيفا يحتاج إلى إمراة تخدمه، فإن لم يكن محتاجا إليه فليس له تزويجه. وللأب قبول النكاح لابنه الصغير ولو مميزا ولابنه المجنون.
مذهب الزيدية (11):
وولى عقد النكاح فى الحرة الأقرب فالأقرب المكلف الحر من عصبة النسب، واقرب العصبة هو الابن، ثم ابنه ما نزل، ثم الأباء، و أقربهم الأب ثم أبوه.
وذهب الزيدية:
إلى أنه إذا زوجها أبوها أو وكيله لمعين فى صغرها فإنه لا خيار لها إذا بلغت بشرطين:
أحدهما: أن يكون زوجها كفئا لها فى نسبه ودينه.
الشرط الثانى: أن يكون زوجها من لا يعاف فى عشرته. فأما لو زوجها أبوها من تعاف عشرته، كالأجذم والأبرص، فإنها إذا بلغت بالمحيض ثبت لها الخيار بأول الحيض، واستمر خيارها فى اليوم الأول والثانى والثالث، ولا يبطل الخيار إلا إذا تراخت بعد الثلاثة، لأنها قد تيقنت أن الثلاثة حيض بمجاوزتها. وذهبوا كذلك إلى أن الصغير من الذكور كالأنثى إذا عقد له ولى نكاحه بزوجة كفء كان النكاح موقوفا، فيخير متى بلغ إلا من زوجه أبوه فلا خيار له عند بلوغه إن زوجه من هى كفء له لا تعاف وعلى الجملة فهو كالأنثى فى الأصح من المذهب.
مذهب الإمامية (12):
ولاية الأب والجد على الصغيرة ثابتة ولو ذهبت بكارتها بزنا أو غيره، ولا خيار لها.
ويرى الإمامية (13):
أن ولاية الأب والجد ثابتة على الصغيرة ولو ذهبت بكارتها بزنا أو غيره، لأن مناط الولاية للأب والجد على الثيب صغرها، فلا فرق بين وجود الوصف بين كونها بكراً أو ثيبا لوجود المقتضى فيهما. ولا خيار للصبية مع البلوغ، وفى الصبى قولان، أظهرهما أنه كذلك.
ولو زوجها أبوها وجدها فالعقد للسابق، فإن اقترنا ثبت عقد الجد. وتثبت ولايتهما على البالغ مع فساد عقله ذكرا كان أو أنثى ولا خيار له لو أفاق. والثيب تزوج نفسها، ولا ولاية عليها لأب ولا لغيره. ولو زوجها من غير إذنها وقف على إجازتها. أما البكر البالغة الرشيدة فأمرها بيدها. ولو كان أبوها حيا قيل لها: الانفراد بالعقد دائما كان أو منقطعا، وقيل: العقد مشترك بينها وبين الأب فلا ينفرد أحدهما به، وقيل: أمرها إلى الأب وليس لها معه أمر.
ويرى المالكية(14):
أن الولى قسمان: مجبر، وغير مجبر. فالمجبر المالك ولو أنثى، فالأب له الإجبار ولو بدون صداق ولو كان الزوج أقل حالا منها أو لقبح منظر.
والإجبار لثلاث من بناته:
الأولى: البكر ما دامت بكرا ولو عانسا بلغت ستين سنة أو أكثر إلا إذا رشدها الأب، أى جعلها رشيدة أو أطلق الحجر عنها لما قام بها من حسن التصرف ، فلا جبر عليها حينئذ ولابد أن تأذن بالقول كما يأتى، أو أقامت سنة ببيت زوجها ثم تأيمت وهى بكر.
الثانية: ثيب صغيرة لم تبلغ، تأيمت أو كبرت وزالت بكارتها بزنا ولو تكرر منها، أو ولدت منه، أو زالت بكارتها بعارض لا بنكاح فاسد.
الثالثة: مجنونة إلا من تفيق فتنتظر إفاقتها. وقال (15): والأولى عند تعدد الأولياء تقديم ابن للمرأة فابنه على الأب فأب للمرأة فمرتبته بعد الابن وابنه. وقيل: تقديم أولى الوليين واجب لا سنة، فإن فقد المجبر ينتقل الحق لمن يليه الأقرب فالأقرب.
وقال(16): ويزوج السفيه ذو الرأى مجبرته بإذن وليه، وإن لم يأذن له نظر الولى ما فيه المصلحة، فإن كان صوابا أبقاه وإلا رده.
وقال (17): وإذا تزوج صغير بغير أذن وليه كان لوليه فسخ عقده إذا اطلع عليه، ولا مهر للزوجة ولا عدة عليها إن وطئها ولو أزال بكارتها، لأن وطأه كالعدم وفسخه بطلاق. وإذا تزوج سفيه (18): بغير أذن وليه كان للولى رد نكاحه بطلقة فقط بائنة إن لم يرشد. وللزوجة إن فسخ الولى النكاح ربع دينار إن دخل بها لأن كل عقد مختلف فى صحته يفسخ بطلاق ويحرم الأصول والفروع كالعقد الصحيح. فالعقد الفاسد المختلف فيه يحرمها على أصوله وفروعه ويحرم عليه أصولها لأن العقد على البنات يحرم الأمهات.
وقال (19): وجبر أب ووصى وحاكم ذكراً مجنونا مطيقا وصغيرا لمصلحة والصداق على الأب إذا جبر ابنه الصغير أو المجنون أن أعدما، أى لم يكن لهما مال. ولو شرط الأب خلافه فان كانا موسرين فعليهما المهر، ولا يلزم الوصى والحاكم مطلقا إلا لشرط من ولى الزوجة على الأب أو على الوصى أو على الحاكم فيعمل به. وان اختلف الابن والأب على التزام المهر، فإن كان قبل الدخول فسخ ولا مهر وإن لم يلتزمه أحدهما، وإن كان بعد الدخول حلف الأب وبرئ ولزم الزوج صداق المثل وحلف أن كان أقل من المسمى، ويرجع للأب نصف الصداق الذى التزمه إذا حصل طلاق قبل ا لدخول.
قال (20): ويرجع نصف الصداق للأب الذى زوج ولده وضمن له الصداق، أو زوج ابنته لشخص بصداق والتزمه بالطلاق قبل الدخول، وليس للزوج المطلق فيه حق، ورجع جميعه بالفساد أى بالفسخ قبل الدخول، ولا رجوع للأب على الزوج بما استحقته الزوجة من النصف قبل الدخول أو الكل بعده.
وقال (21): وليس للأم كلام فى تزويج الأب ابنته الموسرة المرغوب فيها من فقير لا مال له، إلا لضرر بين كأن يزوجها بذى عيب أو فاسق.
مذهب الظاهرية (22):
ولا يحل للمرأة نكاح، ثيبا كانت أو بكراً، إلا بأذن وليها الأب أو غيره من الأولياء. ومعنى ذلك أن يأذن لها. فى الزواج، فإن آبى أولياؤها من الأذن لها زوجها السلطان. برهان ذلك قوله تعالى: " و أنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم (23) " وهذا خطاب للأولياء لا للنساء.
مذهب الأباضية (24):
و أولى الأولياء بالنكاح الأب.
الأب ومحرمات النكاح
ينص الشافعية(25):
على أنه يحرم على الرجل من جهة النسب البنت وإن سفلت. وجاء عندهم فى حرمة المصاهرة: وتحرم عليه حليلة الابن لقوله تعالى: " وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم (26) "، وتحرم حليلة كل من ينتسب إليه بالبنوة من بنى الأولاد وأولاد الأولاد، كما أن حليلة الأب تحرم على فروعه لقوله تعالى: " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء(27) ".
وإن زنى بامرأة فأتت منه بابنة فقد قال الشافعى رحمه الله: أكره أن يتزوجها، فإن تزوجها لم أفسخ " فمن أصحابنا من قال: إنما كره خوفا من أن تكون منه، فعلى هذا لو علم قطعا أنها منه بأن أخبره النبى - صلى الله عليه وسلم- فى زمانه لم تحل له. ومنهم من قال: إنما كره ليخرج من الخلاف، لأن أبا حنيفة يحرمها، وعلى هذا لو تحقق أنها منه لم تحرم، وهو الصحيح، لأنها ولادة لا يتعلق بها ثبوت النسب، فلم يتعلق بها التحريم، كالولادة لما دون ستة أشهر من وقت الزنا.
واختلف أصحابنا فى المنفية باللعان فمنهم من قال: يجوز للملاعن نكاحها لأنها منفية، فهى كالبنت من الزنا، ومنهم من قال: لا يجوز للملاعن نكاحها، لأنها غير منفية عنه قطعا، ولهذا لو أقر بها ثبت النسب.
وجاء فى "المهذب" (28): ويحرم على الأب نكاح جارية ابنه ولا يحد لأن له فيها شبهة تسقط الحد.
ومذهب الأحناف (29):
إلى أنه لا يحل للرجل أن يتزوج ببنته ولا ببنت ولده وإن سفلت للإجماع، ولا بامرأة أبيه وأجداده ، ولا بامرأة ابنه وبنى أبنائه نسبا أو رضاعا دون زوجة المتبنى. فإذا تزوج المجوسى (30) ابتنه ثم أسلما فرق بينها، لأن نكاح المحارم له حكم البطلان فيما بينهم عند الصاحبين أما عند أبى حنيفة فله حكم الصحة فى الصحيح ، إلا أن المحرمية تنافى بقاء النكاح فيفرق.
مذهب المالكية (31):
والمالكية يحرمون على الشخص إجماعا الأصل وهو كل من له ولادة وإن علا والفرع وإن كان من زنا وزوج الأصل والفرع فيحرم عليك زوجة أبيك وزوجة جدك وإن علا وزوجة ابنك وإن سفل. وحرم تزوج من هى فى ملك فرعه وفسخ أبدا، ولو كان ملك الفرع للامة طارئا بعد التزوج بشراء أو هبة أو صدقة أو أرث. ويملك الأب أمة ولده بتلذذه بها بالوطء، أو مقدماته بالقيمة يوم التلذذ، ويتبع بها فى ذمته أن أعدم ، وتباع عليه فى عدمه إن لم تحمل.
وينص الحنابلة (32):
على أن من المحرمات أبدا البنت من حلال أو من حرام أو من شبهة أو منفية بلعان، لدخولهن فى عموم لفظ " بناتكم"، ولأن ابنته من الزنا خلقت من مائه فحرمت عليه كتحريم الزانية على ولدها، والمنفية بلعان لا يسقط احتمال كونها من مائه، ويكفى فى التحريم أن يعلم أنها ابنته ظاهراً وإن كان النسب لغيره. وبنات الأولاد ذكورا كانواً أو إناثا وأن سفلن لقوله تعالى: " وبناتكم". ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب فيحرم على الأب ابنته من الرضاع وبنات أولاده لمن الرضاع ذكوراً أو إناثا، وحليلة الابن وإن سفل من نسب أو رضاع لقوله تعالى "وحلائل أبناكم الذين من أصلابكم (33) " مع قوله - صلى الله عليه وسلم- " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، وقوله "من أصلابكم" ، للاحتراز من المتبنى. وليس للأب (34) أن يتزوج أمة ولده من النسب دون الرضاع فله أن يتزوج أمة ولده من الرضاع.
مذهب الزيدية (35):
يحرم على المرء ذكرا كان أم أنثى أصوله، وهى الأمهات والجدات من قبل الأم والأب وأبويهما ما علوا، وفصوله أى فروعه ولو من زنا، سواء الزوجات والمملوكات ، وسواء قد كان وطئ الأصل أو الفرع الزوجة أو عقد عليها فقط وأما المملوكة فلابد أن يكون قد نظر أو لمس بشهوة أو نحو ذلك.
مذهب الإمامية (36):
حرمت الموطوءة على أبى الواطئ وإن علا وأولاده وان نزلوا، ولو تجرد العقد عن الوطء حرمت عليه أمها عينا على الأصح، وبنتها جمعا لا عينا. فلو فارق الأم حلت البنت. ولا تحرم مملوكة الابن على الأب، بالملك وتحرم بالوطء، وكذا مملوكة الأب. ولا يجوز لأحدهما أن يطأ مملوكة الأخر ما لم يكن عقد أو تحليل نعم يجوز أن يقوم الأب مملوكة ابنه الصغير على نفسه ثم يطأها.
الأب وصداق أولاده

 
مذهب الحنابلة (37):
لأب المرأة الحرة أن يشترط شيئا من صداقها لنفسه، بل يصح ولو اشترط الكل، لأن شعيبا زوج موسى - عليهما الصلاة والسلام- ابنته على رعاية غنمه، ولأن للوالد الأخذ من مال ولده، لقوله عليه الصلاة والسلام: " أنت ومالك لأبيك " ولقوله - عليه الصلاة والسلام-: " إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم " رواه أبو داود والترمذى وحسنه فإذا شرط شيئا لنفسه من مهر ابنته صح إذا كان ممن يصح تملكه (انظر مصطلح تملك) ، فيكون ذلك أخذا من مالها، فتعتبر له شروطه. فإذا تزوجها على ألف لها وألف لأبيها صح ذلك، وكان الألفان جميعا مهرها، وعلى أن الكل له يصح أيضا، وكان الكل مهرها، ولا يملكه الأب إلا بالقبض مع النية لتملكه كسائر مالها، وشرطه إلا يجحف بمال البنت، وقيل: ليس بشرط. فإن طلقها قبل الدخول بعد قبضه رجع الزوج عليها فى الأولى بألف لأنه نصف الصداق، وفى الثانية بقدر نصف ما شرط له، ولا شئ على الأب فيما أخذه من نصف أو كل إن قبضه بنية التملك، لأنه أخذه من مال أبنته فلا رجوع عليه بشىء منه كسائر مالها، وإن طلقها قبل القبض للصداق المسمى سقط عن الزوج نصفه المسمى ويبقى النصف للزوجة ويأخذ الأب من النصف الباقى لها ما شاء.
وللأب تزويج ابنته البكر والثيب بدون صداق مثلها وإن كرهت، كبيرة كانت أو صغيرة، لأن عمر خطب الناس وقال: " لا تغالوا فى صداق النساء، فما أصدق النبى- صلى الله عليه وسلم- أحدا من نسائه ولا بناته أكثر من اثنتى عشرة أوقية" وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكر، فكان اتفاقا منهم على أن له أن يزوج بذلك وإن كان دون مهر مثلها، ولأنه ليس المقصود من النكاح العوض، وإنما المقصود السكن و الازدواج ووضع المرأة فى منصب عند من يكفيها ويصونها. والظاهر من الأب مع تمام شفقته وحسن نظره أنه لا ينقصها من الصداق إلا لتحصيل المعانى المقصودة، بخلاف عقود المعاوضات، فإن المقصود منه العوض.
وإن زوج الأب ابنه الصغير بمهر المثل أو أكثر صح، لأن تصرف الأب ملحوظ فيه المصلحة، ولزم الصداق ذمة الابن، لأن العقد له، ولا يلزم به الأب إلا إذا ضمنه. وإن تزوج امرأة فضمن أبوه أو غيره نفقتها عشر سنين مثلا صح الضمان موسرا كان الأب أو معسرا. وإن دفع الأب الصداق عن ابنه الصغير أو الكبير ثم طلق الابن قبل الدخول فنصف الصداق للابن دون الأب. وكذا لو ارتدت الزوجة قبل الدخول فرجع الصداق جميعه فهو للابن دون الأب ولو قبل بلوغ الابن، لأن الابن هو المباشر للطلاق الذى هو سبب استحقاق الرجوع بنصف الصداق، وليس للأب الرجوع فيه بمعنى الرجوع فى الهبة، لأن الابن ملكه من غير أبيه وهى الزوجة.
وللأب قبض صداق ابنته المحجور عليها من صغر أو سفه أو جنون، لأنه يلى مالها، فكان له قبضه كثمن مبيعها. ولا يقبض صداق الكبيرة الرشيدة ولو بكرا إلا بأذنها، لأنها المتصرفة فى مالها، فاعتبر إذنها، فلا يبرأ الزوج. وإذا غرم رجع على الأب. ولا يملك (38) الأب العفو عن نصف مهر ابنته الصغيرة إذا طلقت ولو قبل الدخول.
مذهب الشافعية (39):
إذا زوج الرجل ابنه الصغير وهو معسر ففيه قولان:
قال فى القديم: يجب المهر على الأب، لأنه لما زوجه مع العلم بوجوب المهر والإعسار كان ذلك رضا منه بالتزام المهر.
وقال فى الجديد: يجب على الابن، وهو الصحيح، لأن البضع له فكان المهر عليه.
مذهب الأحناف (40):
إذا زوج الأب ابنته الصغيرة ونقص من مهرها أو ابنه الصغير وزاد فى مهر امرأته جاز ذلك عليهما، ولا يجوز ذلك لغير الأب والجد، وهذا عند أبى حنيفة رحمه الله. وقالا: لا يجوز الحط والزيادة إلا بما يتغابن الناس فيه: أى يتسامحون فى الغبن فيه.
مذهب المالكية (41):
للأب فى مجبرته الرضا بدون صداق المثل ولو بعد الدخول. ولو جهز الرجل (42) ابنته بزائد على صداقها ومات قبل البناء أو بعده اختصت به عن بقية الورثة إن أورد الجهاز بيتها أو أشهد لها الأب بذلك قبل موته. ولا يضر إبقاؤه تحت يده بعد الإشهاد أو اشتراه الأب ووضعه عند غيره كأمها أو عندها هى فإنها تختص به إن سماه لها وأقرت الورثة بالتسمية لها أو شهدت البينة بالتسمية.
مذهب الزيدية (43):
إذا زوج الأب صغيرته بدون مهر مثلها لم تستحق توفيته، وأما إذا كانت كبيرة فزوجها بغير رضاها بأقل من مهر مثلها فإنها تستحق التوفية إلى مهر مثلها. وكذلك إذا زوجها بأقل مما رضيت من المهر فإنها تستحق أن توفى مهر مثلها إذا ما كان المسمى دون ذلك، كما تستحق ذلك أيضا إذا أذنت بأن تزوج لفلان بدون مهر مثلها فزوجها أبوها من غيره بما أذنت به.
مذهب الإمامية (44):
لو سمى لها مهرا ولأبيها شيئا سقط ما سمى لأبيها.
مذهب الظاهرية (45):
لا يجوز للأب أن يزوج ابنته الصغيرة بأقل من مهر مثلها، ولا يلزمها حكم أبيها فى ذلك وتبلغ إلى مهر مثلها. برهان ذلك أنه حق لها، لقول الله عز وجل: " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة " (46) فإذا هو حق لها ومن جملة مالها، فلا حكم لأبيها فى مالها لقول الله عز وجل: " ولا تكسب كل نفس إلا عليها (47) ". ولا يجوز أن يقضى بتمام مهر مثلها على أبيها إلا أن يضمنه مختارا لذلك فى ماله، لأن الله تعالى يقول: " يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم " (48). والصداق بنص القرآن على الزوج لا على الأب، والقضاء به على الأب فى ماله قضاء ظالم وجور وأكل مال بالباطل لا يحل.
الأب و التفويض فى الصداق والنكاح
مذهب الحنابلة (49):
تفويض البضع: أن يزوج الأب ابنته المجبرة بغير صداق، أو تأذن المرأة لوليها أن يزوجها بغير صداق، سواء سكت عن الصداق أو شرط ألا صداق فيصح العقد. ويجب له مهر المثل لقوله تعالى: " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة (50) " ولقضائه - صلى الله عليه وسلم- فى بروع بنت واشق. ولا فرق فى ذلك (51) بين أن يقول: زوجتك بغير مهر، أو يزيد: لا فى الحال ولا فى المآل، لأن معناهما واحد. وتفويض المهر، وهو أن يتزوجها على ما شاءت أو ما شاء الولى، فالنكاح صحيح، ويجب مهر المثل بالعقد فى الحالتين.
ثم قال (52): وإذا أعسر الزوج بالمهر الحال قبل الدخول أو بعده فلحرة مكلفة الفسخ. فلو رضيت بالمقام معه مع عسرته أمتنع الفسخ، ولها بعد رضاها منع نفسها حتى تقبض مهرها الحال. ولا خيار لولى زوجة صغيرة ومجنونة ولو أبا، لأن الحق لها فى الصداق دون وليها وقد ترضى بتأخيره.
مذهب الشافعية (53):
يستحب تسمية المهر فى العقد، فإن لم يسم صح العقد بالإجماع لكن مع الكراهة. وقد تجب التسمية فى صور:
الأولى: إذا كانت الزوجة غير جائزة التصرف، أو مملوكة لغير جائز التصرف.
الثانية: إذا كانت جائزة التصرف وأذنت لوليها أبا أو غيره أن يزوجها ولم تفوض فزوجها هو أو وكيله.
الثالثة: إذا كان الزوج غير جائز التصرف وحصل الاتفاق على أقل من مهر مثل الزوجة. وإذا خلا العقد عن التسمية، فإن لم تكن مفوضة استحقت مهر المثل بالعقد، وإن كانت مفوضة. والتفويض: أن تقول الحرة الرشيدة لوليها: زوجنى بلا مهر فيزوج على ذلك، أو يزوج ويسكت، وحينئذ يصح العقد، ويجب لها المهر بواحد من ثلاثة أشياء:
1- أن يفرضه الزوج على نفسه وترضى بذلك ولها حبس نفسها حتى يفرض لها.
2- أن يفرضه الحاكم إذا امتنع الزوج من فرضه ولا يفرض الحاكم المهر المثل.
3- أن يدخل بها فيجب لها مهر المثل وان أذنت له فى وطئها على الا مهر لها، لأن الوطء لا يباح بالإباحة لما فيه من حق الله تعالى. وجاء فى الحاشية: خرج بالرشيدة ما لو كانت صغيرة أو كبيرة مجنونة أو سفيهة فانه يجب إلا مهر المثل بمجرد العقد. ولا يتوقفه على فرض زوج أو حاكم ولا على وطء، ومثل هذه مجبرة يجب لها مهر المثل، ولا يقال لها مفوضة. ثم قال: إذا قالت له الرشيدة زوجنى بمهر المثل فإنه لا يكون تفويضا، فيجب لها مهر المثل بالعقد فإن زوج بمهر المثل فالأمر ظاهر، وإن نقص عنه استحقت مهر المثل بالعقد كما تقدم.
مذهب الأمامية(54):
إذا زوج الأب ولده الصغير الذى لم يبلغ و يرشد وللولد مال يفى بالمهر ففى ماله المهر، وإن لم يكن له مال أصلا ففى مال الأب ولو ملك مقدار بعضه فهو فى ماله والباقى على الأب. هذا هو المشهور بين الأصحاب.
مذهب الزيدية (55):
قال الناصر:لا يصلح أن يزوج الصغيرة غير الأب والجد. وقال: الأوزاعى، روى عن القاسم، لا يزوجها إلا الأب فقط. وتخير الصغيرة تخييرا مضيقا متى بلغت، أى إذا زوجت صغيرة كان لها الخيار متى بلغت، إن شاءت فسخت النكاح، وإن لم تفسخ نفذ، وقيل: لا يشترط علمها بأن لها الخيار إلا من زوجها أبوها فى صغرها، فأنه لا خيار لها إذا بلغت إجماعا، لكن بشرطين: أن يكون زوجها كئفاً، وأن يكون ممن لا يعاف. وكذلك الصغير من الذكور كالأنثى، لا يصح العقد له من غير الأب بل يكون العقد موقوفا حقيقة فلا يصح فيه شىء من أحكام النكاح حتى يبلغ فيجيز العقد.
مذهب المالكية (56):
يجوز للأب أن يجبر الذكر المجنون والصغير لمصلحة اقتضت تزويجهما. بأن خيف الزنا على المجنون أو الضرر فتحفظه الزوجة، ومصلحة الصبى تزويجه من غنية أو شريفة أو ابنة عم أو لمن تحفظ ماله.
والصداق على الأب إذا أجبر ابنه المجنون أو الصغير وإن مات الأب لأنه لزم ذمته بجبره لهما فلا ينتقل عنها ويؤخذ من تركته، وهذا إن أعَدما، أى لم يكن لهما مال حال العقد، ولو أيسرا بعد ذلك. ولو شرط الأب خلافه بأن قال: ولا يلزمنى صداق بل الصداق على الصبى أو المجنون فلا يعمل بشرطه وإلا يعدما حال العقد بأن كانا موسرين به أو ببعضه حاله وإن أعَدما بعده فعليهما ما أيسرا به كلا وبعضا لا على الأب إلا لشرط من وَلىّ الزوجة على الأب.
وإن عقد أب لابن رشيد بإذنه ولم يبين كون الصداق عليه أو على ابنه وتطارحه ابن رشيد وأب تولى العقد بأن قال الابن لأبيه: أنت التزمت الصداق رضيت إلا أنه عليك وقال الأب: بل ما قصدت إلا أنه أبنى، فإن كان قبل الدخول فسخ ولا مهر على واحد منهما ان لم يلتزمه أحدهما، وإلا لزم من التزمه ولا فسخ. وإن تطارحاه بعد الدخول حلف الأب أنه ما قصد به الصداق إلا على أبنه وبرئ ولزم الزوج صداق المثل.
مذهب الأحناف (57):
ولاية قبض المهر للأب بحكم الأبوة إلا باعتبار أنه عاقد.
مذهب الظاهرية (58):
لا يجوز للأب أن يزوج ابنته الصغيرة بأقل من مهر مثلها، ولا يلزمه حكم أبيها فى ذلك، وتبلغ إلى مهر مثلها ولابد. برهان ذلك أنه حق. لها لقول الله عز وجل " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة " (59).
الأب و طلاق زوجة ابنه وخلع ابنته الصغيرة
مذهب الشافعية (60):
ولا يجوز للأب أن يطلق امرأة الابن الصغير بعوض وغير عوض، لما روى عن عمر- رضى الله عنه- قال: إنما الطلاق بيد الذى يحل له الفرج، ولأن طريقه الشهوة، فلم يدخل فى الولاية. ولا يجوز أن يخلع البنت الصغيرة من الزوج بشىء من مالها، لأنه يسقط بذلك حقها من المهر والنفقة والاستمتاع. فإن خالعها بشىء من مالها لم يستحق ذلك، وإن كان بعد الدخول فله أن يراجعها لما ذكرنا. ومن أصحابنا من قال: إذا قلنا إن الذى بيده عقدة النكاح هو الولى فله أن يخالعها بالإبراء من نصف مهرها، وهذا خطأ، لأنه إنما يملك الإبراء على هذا القول بعد الطلاق وهذا الإبراء قبل الطلاق.
مذهب الحنابلة (61):
ليس للأب خلع زوجة ابنه الصغير والمجنون ولا طلاقها لقوله -عليه الصلاة والسلام- " إنما الطلاق لمن أخذ بالساق ". والخلع فى معناه. وليس لأب خلع ابنته الصغيرة أو المجنونة أو السفيهة بشىء من مالها، لأنه إنما يملك التصرف بما لها فيه الحظ، وليس فى ذلك حظ، بل فيه إسقاط حقها الواجب لها. والأب وغيره من الأولياء فى ذلك سواء.
مذهب المالكية (62):
جاز الخلع من المجبر، أبا كان أو وصيا أو سيدا، عن مجبرته بغير إذنها ولو بجميع مهرها، وذلك ظاهر قبل الدخول وبعده ولا يجوز لغيره من الأولياء إلا بأذن منها له فيه. وفى كون السفيهة كالمجبرة خلاف ثم قال: (63) " وموجب الطلاق أى موقعه زوج مكلف ولو سفيها أو عبدا أو ولى غير المكلف من صبى أو مجنون لنظر، أى مصلحة، ولا يجوز عند مالك وابن القاسم أن يطلق الولى عنهما بلا عوض، ونقل ابن عرفة عن اللخمى أنه يجوز لمصلحة، إذ قد يكون فى بقاء العصمة فساد لأمر ظهر أو حدث.
مذهب الأحناف (64):
من خلع ابنته وهى صغيرة بمالها لم يجز، لأنه لا نظر لها فيه، إذ البضع فى حالة الخروج غير متقوم والبدل متقوم بخلاف النكاح، لأن البضع متقوم عند الدخول. ولهذا يعتبر خلع المريضة من الثلث ونكاح المريض بمهر المثل من جميع المال وإذا لم يجز لا يسقط المهر ولا يستحق مالها، ثم يقع الطلاق فى رواية، وفى رواية لا يقع.
والأول أصح لأنه تعليق بشرط قبوله فيعتبر بالتعليق بسائر الشروط. وإن خالعها على ألف على أنه ضامن فالخلع واقع والألف على الأب، لأن اشتراط بدل الخلع على الأجنبى صحيح، فعلى الأب أولى. ولا يسقط مهرها لأنه لم يدخل تحت ولاية الأب. وان شرط الألف عليها توقف على قبولها إن كانت من أهل القبول، فإن قبلت وقع الطلاق لوجود الشرط، ولا يجب المال لأنها ليست من أهل الغرامة. فإن قبله الأب عنها ففيه روايتان، وكذا إن خالعها على مهرها ولم يضمن الأب المهر توقف على قبولها، فإن قبلت طلقت ولا يسقط المهر، فإن قبل الأب عنها فعلى الروايتين. وإن ضمن الأب المهر وهو ألف درهم طلقت لوجود قبوله وهو الشرط، ويلزمه خمسمائة استحسانا لحصوله قبل الدخول بها. وفى القياس يلزمه الألف نظرا لضمانه وأصله فى الكبيرة إذا اختلعت قبل الدخول على ألف ومهرها ألف، ففى القياس عليها خمسمائة زائدة، وفى الاستحسان لا شىء عليها لحدوث المقاصة من مالها من المهر وما لزم بالخلع لأنه يراد به عادة حاصل ما يلزم لها.
مذهب الظاهرية (65):
ولا يجوز أن يخالع عن المجنونة ولا عن الصغيرة أب ولا غيره، لقول الله تعالى: "ولا تكسب كل نفس إلا عليها " (66) ، وقوله تعالى: " لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم " (67) فمخالفة الأب أو الوصى أو السلطان عن صغيرة أو كبيرة كسب على غيره وهذا لا يجوز. واستحلال الزوج مالها بغير رضا منها أكل مال بالباطل فهو حرام.
مذهب الزيدية (68):
ولا يصح الخلع من ولى مال الصغيرة إلا إذا كان لها فيه مصلحة، ولا يصح مع المصلحة الا إذا كان العوض من غيرها لعدم اعتبار نشوزها قبل التكليف. أى لأن الخلع لا يكون إلا عن نشوز منها عن شىء مما يلزمها، فإذا خالع عن الصغيرة أبوها بمهرها لزمه لها ذلك سواء صح أم لا ، ويكون الطلاق خلعا لأنه يصح فيه العوض من الغير، وللمرأة أن تطالب الزوج بمهرها وهو يرجع به على أبيها.
مذهب الإمامية (69):
لوليها الإجبارى الذى بيده عقدة النكاح أصالة وهو الأب والجد للأب بالنسبة إلى الصغيرة العفو عن البعض، أى بعض النصف الذى تستحقه بالطلاق قبل الدخول، لأن عفو الولى مشروط بكون الطلاق قبل الدخول.
ولو بلغ الصبى فطلق قبل الولد كان النصف المستعاد للولد لا للأب، لأن دفع الأب له كالهبة للابن، وملك الابن له بالطلاق ملك جديد لا إبطال لملك المرأة السابق ليرجع إلى مالكه. وكذا لو طلق قبل أن يدفع الأب عنه لأن المرأة ملكته بالعقد وإن لم تقبضه. وقطع بسقوط النصف عن الأب، وأن الابن لا يستحق مطالبته بشىء ولو دفع الأب عن الولد الكبير المهر تبرعا أو عن أجنبى ثم طلق قبل الدخول ففى عود النصف إلى الدافع أو الزوج قولان.

__________

(1) متن المهذب ج 2 ص 38.
(2) المهذب ج 2 ص 42.
(3) المهذب ج 2 ص 39.
(4) الهداية ج1 ص 155،158.
(5) المرجع السابق ج 1 ص 154 وما بعدها.
(6) كشاف القناع ج3 ص 28.
(7) سورة الأنبياء:90.
(8) سورة إبراهيم:40.
(9) كشاف القناع ج3 ص 23.
(10) كشاف القناع ج3 ص 24.
(11) التاج المذهب ج 2 ص 17.
(12) المختصر النافع ص 172،173.
(13) المرجع السابق ص 172.
(14) الشرح الصغير ج1 ص 347.
(15) المرجع السابق ج 1 ص 350.
(16) المرجع السابق ج 1 ص 360.
(17) المرجع السابق ج 1 ص 360.
(18) المرجع السابق ج 1 ص 363.
(19) المرجع السابق ج 1 ص 362.
(20) الشرح الصغير ج1 ص 363.
(21) المرجع السابق ج 1 ص 364.
(22) المحلى ج 9 ص 451.
(23) سورة النور: 32.
(24) شرح النيل ج1 ص 265،267.
(25) شرح المهذب ج2 ص 44-55.
(26) سورة النساء:23.
(27) سورة النساء:22.
(28) المهذب ج 2 ص 48.
(29) الهداية ج1 ص 150.
(30) الهداية ج1 ص 173.
(31) الشرح الصغير ص 364،368.
(32) كشاف القناع ج3 ص 40.
(33) سورة النساء:23.
(34) كشاف القناع ج3 ص 51.
(35) التاج المذهب ج 3 ص 7.
(36) المختصر النافع ص 174 وما بعدها.
(37) كشاف القناع ج3 ص 80.
(38) كشاف القناع ج3 ص 86.
(39) المهذب ج 2 ص 65.
(40) الهداية ج1 ص 159.
(41) الشرح الصغير ج1 ص 381.
(42) المرجع السابق ج 1 ص 384.
(43) التاج المذهب ج 2 ص 53.
(44) المختصر النافع ص 188.
(45) المحلى ج 9 ص 466، 467.
(46) سورة النساء:4.
(47) سورة الأنعام:164.
(48) سورة النساء:29.
(49) كشاف القناع ج3 ص 92.
(50) سورة البقرة:236.
(51) كشاف القناع ج3 ص 93.
(52) كشاف القناع ج3 ص 97.
(53) الخطيب الشربينى شرح أبى الشجاع ج2 ص 126،127 طبعة الحلبى.
(54) الروضة البهية ج2 ص 122.
(55) شرح الأزهار ج53 ص 248،251.
(56) الدردير ج1 ص 369.
(57) الهداية ج1 ص 176.
(58) المحلى ج 9 ص 466.
(59) سورة النساء:4.
(60) المهذب ج 2 ص 75.
(61) كشاف القناع ج3 ص 127.
(62) الشرح الصغير ج1 ص 403.
(63) المرجع السابق ج 1 ص 405.
(64) الهداية ج2 ص 14.
(65) المحلى ج 10 ص 244.
(66) سورة الأنعام:164.
(67) سورة النساء:29.
(68) التاج المذهب ج 2 ص 177.
(69) الروضة البهية ج2 ص 118،123.

 
مذهب الحنابلة (22):
لا يجاهد متطوعا من أبواه حران مسلمان عاقلان إلا بإذنهما وإن كان أحدهما حرا مسلما عاقلا لم يجاهد تطوعا إلا بإذنه، لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: جاء رجل إلى النبى- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله أجاهد. فقال: " لك أبوان؟ " قال: نعم. قال: " ففيهما فجاهد ". وروى البخارى معناه من حديث ابن عمرو. روى أبو داود عن أبى سعيد أن رجلا هاجر إلى النبى صلى الله عليه وسلم من اليمن فقال: " هل لك أحد باليمن؟ ". فقال: أبواى. فقال: " أذنا لك؟ " قال: لا. قال: " فارجع فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد، وإلا فبرهما.
ولأن برهما فرض عين والجهاد فرض كفاية والأول مقدم إلا أن يتعين عليه الجهاد لحضور الصف أو حصر العدو أو استنفار الإمام له أو نحوه، فيسقط إذنهما، لأنه يصير فرض عين وتركه معصية، ولا طاعة للوالدين فى ترك فريضة، كتعلم علم واجب قوم به دينه من طهارة وصلاة وصيام ونحو ذلك، وإن لم يحصل فله السفر لطلبه بلا أذنهما، لأنه لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق. ولا إذن لجد ولا لجدة، فإن خرج فى جهاد تطوع بإذن والديه ثم منعاه منه بعد سيره وقبل تعينه عليه فعليه الرجوع، إلا أن يخاف على نفسه فى الرجوع، أو يحدث له عذر من مرض ونحوه، فإن أمكنه الإقامة فى الطريق أقام حتى يقدر على الرجوع فيرجع وإلا مضى مع الجيش، وإذا حضر الصف تعين عليه لحضوره، وسقط إذنهما. وإن كانا كافرين فأسلما ثم منعاه كان كمنعهما بعد إذنهما على ما تقدم تفصيله.
مذهب الظاهرية (23):
لا يجوز الجهاد إلا بإذن الأبوين، إلا أن ينزل العدو بقوم من المسلمين ففرض على كل من يمكنه إغاثتهم أن يقصدهم مغيثا لهم، أذن الأبوان أم لم يأذنا، إلا أن يضيعا أو أحدهما بعده، فلا يصل له ترك من يضيع منهما. وروى البخارى: حدثنا آدم وحدثنا شعبة وحدثنا حبيب بن أبى ثابت قال: سمعت أبا العباس الشاعر وكان لا يتهم فى الحديث قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنه فى الجهاد، فقال له عليه الصلاة والسلام: "أحى والداك؟ " قال: نعم. قال: "ففيهما فجاهد ". ثم ذكر عن ابن عمر - رضى الله عنهما- عن النبى - صلى الله عليه وسلم- قال: " السمع والطاعة حق ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ".
مذهب الزيدية (24):
حيث يكون الواجب آكد كالجهاد والنفقة الواجبة أو نحوهما أو أفضل نحو أن يكون فى غير وطنه أقرب إلى الطاعات وأبعد عن الشبهات، فإنه يجب عليه الخروج للواجب، وينب للمندوب. فإن كره الوالدان أو أحدهما خروجه فلا يصده كراهتهما عن الخروج ما لم يتضررا أو أحدهما بخروجه، سواء كان التضرر من جهة الإنفاق أو البدن لحدوث علة أو زيادتها أو بطء برئها فلا يجوز خروجه، إذ طاعتهما آكد، وتضررهما محظور ولو كافرين غير حربيين. وترك الواجب- وهو الخروج- أهون من فعل المحظور، وهو تضررهما. قال تعالى: " ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلى مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون " (25) ولا يمتنع الخروج لتضرر الوالدين الحربيين كما لا يجب الإنفاق عليهما.
مذهب الأحناف (26):
إذا تعين الجهاد بهجوم العدو فلا يحتاج الابن لإذن أبويه فى الخروج للجهاد فان لم يتعين فلابد من إذنهما.
مذهب المالكية (27):
للوالدين منع الولد من الجهاد إذا كان فرض كفاية، أما إذا كان الجهاد فرض عين فلا يحتاج لإذنهما ولو لم يكونا فى كفاية، وهو مذهب المدونة.
مذهب الأمامية (28):
وللأبوين منع الولد من الجهاد إذا كان المقصود جهاد المشركين ابتداء لدعائهم للإسلام، إلا أن يتعين عليه الجهاد بأمر الإمام له أو بضعف المسلمين عن المقاومة بدونه، إذ يجب عليه حينئذ الجهاد عينا، فلا يتوقف على أذن الأبوين. أما جهاد من يدهم على المسلمين من الكفار بحيث يخافون استيلاءهم على بلادهم وأخذ مالهم وما أشبهه وإن قل فإنه لا يحتاج إلى أذن الأبوين.
مذهب الإباضية (29):
أن تعين الجهاد على الابن واحتيج إليه ككونه إماما عادلا احتيج لحضوره، أو كان قائما بأمر من أمور الحرب لا يقوم به غيره - فإنه يخرج بدون إذن الأبوين. فإن كان له أبوان فقيران أو كبيران أو مريضان ولم يكن لهما غنى عن الابن- فالإقامة معهما أفضل من الجهاد وذلك حيث لم يتعين الجهاد. فإن كان لهما غنى عنه فإنه يخرج إلى الجهاد استحسانا ولو كرها لأنهما لا يمنعانه مما لم يمنعه الله منه.
هل للأب منع ولده من الحج وغيره؟
مذهب الحنابلة (30):
وليس للوالدين منع ولدهما من حج الفرض والنذر ولا تحليله منه، ولا يجوز للولد طاعتهما فيه، أى: فى ترك الحج، أو فى التحليل. وكذا كل ما وجب كصلاة الجماعة والجمع والسفر للعلم الواجب لأنها فرض عين، فلم يعتبروا فيه إذن الوالدين. ولهما منعه من حج التطوع ومن كل سفر مستحب كالجهاد، وكما أن لهما منعه من الجهاد مع أنه فرض كفاية لأن بر الوالدين فرض عين، ولكن ليس لهما تحليله من حج التطوع إذا شرع فيه، ويلزم طاعتهما فى غير معصية.
قتل الابن أباه الكافر فى الحرب
مذهب الشافعية (31):
ويكره أن يقصد قتل ذى رحم محرم، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منع أبا بكر من قتل ابنه. فإن قاتله لم يكره أن يقصد قتله، كما لا يكره إذا قصد قتله وهو مسلم. وإن سمعه يذكر اسم الله عز وجل أو رسوله - صلى الله عليه وسلم- بسوء لم يكره أن يقتله، لأن أبا عبيدة بن الجراح - رضى الله عنه- قتل أباه وقال لرسول الله- صلى الله عليه و سلم-: سمعته يسبك، ولم ينكر عليه.
مذهب الأحناف (32):
يكره أن يبتدئ الرجل أباه من المشركين فيقتله، لقوله تعالى: " وصاحبهما فى الدنيا معروفا " ولأنه يجب عليه إحياؤه بالإنفاق فيناقضه الإطلاق فى إفنائه، فان أدركه امتنع عليه حتى يقتله غيره، لأن المقصود يحصل بغيره من غير اقتحام المأثم. وان قصد الأب قتله بحيث لا يمكنه دفعه إلا بقتله فلا بأس به، لأن مقصوده الدفع، ألا ترى أنه لو شهر الأب المسلم سيفه على ابنه ولا يمكنه دفعه ألا بقتله يقتله لما بينا فهذا أولى.
مذهب الحنابلة (33):
يقتل المسلم أباه وابنه ونحوهما من ذوى قرابته فى المعترك لأن أبا عبيده قتل أباه فى الجهاد فأنزل الله " لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الأخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب فى قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها رضى الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون(34).
وإن سبى (35) غير البالغ مع أبويه فهو على دينهما لبقاء التبعية، وإن أسلم أبو حمل أو طفل أو مميز فالابن مسلم. لا إن أسلم جد وجدة فلا يحكم بإسلامه بذلك، أو أسلم أحدهما فمسلم أو مات أحدهما فى دارنا أو عدما أو عدم أحدهما بلا موت فمسلم فى الجميع للخبر السابق وانقطاع التبعية. وإذا بلغ من حكم بإسلامه تبعا لأبويه أو موته بدارنا عاقلا ممسكا عن الإسلام والكفر قتل قاتله لأنه مسلم معصوم الدم.
ومن أسلم (36) منهم قبل القدرة عليه أحرز ماله ودمه أو أسلم حربى فى دار الحرب أحرز دمه وماله ولو منفعة أجارة لقوله - عليه الصلاة والسلام- " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم " وأولاده الصغار والمجانين ولو حملا، فى السبى كانوا أو فى دار الحرب، للحكم بإسلامهم تبعا له، وإن دخل كافر دار الإسلام فأسلم وله أولاد صغار فى دار الحرب أو حمل صاروا مسلمين تبعا له ولم يجز سبيهم لعصمتهم بالإسلام.
مذهب الزيدية (37):
لا يجوز أن يقتل مسلم ذو رحم رحمه من الكفار سواء كان يحرم عليه نكاحه لو كان أنثى أم لا، وذلك كالأب وان علا والابن وإن سفل والإخوة والأعمام وبنيهم ونحو ذلك، لأن فى ذلك قطيعة رحم، إلا فى أحد وجهين فإنه يجوز قتله:
الأول: أن يقتله مدافعة عن نفسه أو عن غيره أو ماله أو مال غيره حيث لم يندفع إلا بالقتل. أو يقتل رحمه بنفسه فإنه يجوز لئلا يحقد على من قتله من المسلمين لو قتله غيره فيؤدى إلى التباغض والشحناء بينه وبين غيره من سائر المسلمين. وهذا هو الوجه الثانى من وجهى جواز قتل الرحم.
مذهب الإباضية (38):
ولا يمنع الأبوان ولدهما عن طاعة ربه، ولا طاعة لهما فى ترك طاعته، ويأمرهما بالمعروف وينهاهما عن المنكر. وإذا وجب عليهما حد أو أدب أو حبس فالأولى أن يلى ذلك غيره، وكذا فى القتال إن تعرض له أبوه فالأولى إلا بقتله، وإن فعل ذلك فلا بأس عليه.
مذهب المالكية(39):
وكره للرجل قتل أبيه أى دنية حالة كون ذلك الأب من البغاة، سواء كان مسلما أو لا، بارز ولده بالقتال أم لا. ولا يكره قتل أخيه أو جده أو ابنه.
مذهب الظاهرية (40):
إذا رأى العادل أباه الباغى أو جده يقصد إلى مسلم يريد قتله أو ظلمه ففرض على الابن حينئذ إلا يشتغل بغيره عنه، وفرض عليه دفعه عن المسلم بأى وجه أمكنه، وإن كان فى ذلك قتل الأب والجد والأم.

__________

(1) المهذب ج2 ص 186.
(2) المحلى ج 11 ص 361.
(3) الدردير ج 2 365.
(4) شرح الحطاب ج6 ص 242.(178)
(5) الروضة البهية ج 2 ص 407.
(6) شرح النيل ج 8 ص 75.
(7) الهداية ج4 ص 130.
(8) كشاف القناع ج3 ص 351.
(9) التاج المذهب ج 4 ص 265.
(10) المهذب ج2 ص 190.
(11) الهداية ج4 ص 131.
(12) كشاف القناع ج3 ص 369.
(13) المرجع السابق ص 371، 373.
(14) الشرح الصغير ج1 ص 355. و الحطاب ج6 ص 252.
(15) المرجع السابق ص 357.
(16) المحلى ج10 ص 485.
(17) التاج المذهب ج 4 ص 280 ، 284.
(18) الروضة البهية ج 2 ص 415،416.
(19) شرح النيل ج 8 ص 208.
(20) المهذب ج 2 ص 245.
(21) المرجع السابق ص 246.
(22) كشاف القناع ج 1 ص 657.
(23) المحلى ج7 ص 292.
(24) التاج المذهب ج 4 ص 416.
(25) سورة العنكبوت: 8.
(26) ابن عابدين ج3 ص 304، 306.
(27) الحطاب ج 3 ص350.
(28) الروضة البهية ج1 ص 216-218.
(29) شرح النيل ج2 ص 586.
(30) كشاف القناع ج1 ص 552.
(31) المهذب ج 2 ص 249.
(32) ج 2 ص 117.
(33) كشاف القناع ج 1 ص ا66.
(34) المجادلة: 22.
(35) كشاف القناع ج 1 ص664.
(36) المرجع السابق ج1 665.
(37) التاج المذهب ج4 ص 431.
(38) شرح النيل ج 2 ص 594.
(39) الشرح الكبير على الدسوقى ج4 ص 300.
(40) المحلى ب 11 ص 109.

 
الأب وعصمة إسلام ولده الصغير

مذهب المالكية (1):
الحربى الذى أسلم وفر إلينا، أو بقى حتى غزا المسلمون بلده، ولده فىء إن حملت به أمه قبل إسلام أبيه.
مذهب الشافعية (2):
إن بلغ صبى من أولاد أهل الذمة فهو فى أمان، لأنه كان فى الأمان بأمان أبيه، فلا يخرج منه من غير عناد.
فإن اختار أن يكون فى الذمة ففيه وجهان:-
أحدهما: أن يستأنف له عقد الذمة، لأن العقد الأول كان للأب دونه فعلى هذا جزيته على ما يقع عليه التراضى.
والثانى: لا يحتاج إلى استئناف عقد، لأنه تبع الأب فى الأمان فتبعه فى الذمة. وإن أسلم رجل وله ولد صغير تبعه الولد فى الإسلام، لقوله تعالى " والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم (3) وإن أسلم أحدهما - أى الأبوين - والولد حمل، تبعه فى الإسلام، لأنه لا يصح إسلامه بنفسه، فتبع المسلم منهما كالولد. وإن أسلم أحد الأبوين دون الأخر تبع الولد المسلم منهما، لأن الإسلام أعلى، فكان إلحاقه بالمسلم منهما أولى. وإن لم يسلم واحد منهما فالولد كافر، لما روى أبو هريرة رضى الله عنه أن النبى- صلى الله عليه وسلم- قال: " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ". فإن بلغ وهو مجنون فأسلم أحد أبويه تبعه فى الإسلام، لأنه لا يصح إسلامه بنفسه، فتبع الأبوين فى الإسلام كالطفل. وإن بلغ عاقلا ثم جن ثم أسلم أحد أبويه ففيه وجهان، أحدهما: أنه لا يتبعه لأنه زال حكم الاتباع ببلوغه عاقلا فلا يعود إليه. والثانى: أنه يتبعه، وهو المذهب، لأنه لا يصح إسلامه بنفسه، فتبع أبويه فى الإسلام كالطفل. وإن سبى المسلم صبيا فإن كان أحد أبويه معه كان كافراً (4).
مذهب الأحناف (5):
من أسلم منهم فى دار الحرب أحرز بإسلامه نفسه وأولاده الصغار لأنهم مسلمون بإسلامه تبعا. وإذا دخل الحربى (6) دارنا بأمان فأسلم هاهنا وله أولاد صغار- فإنهم يكونون مسلمين تبعا لإسلام أبيهم إذا كانوا فى يده وتحت ولايته، ومع تباين الدارين لا يتحقق ذلك. وإن أسلم فى دار الحرب ثم جاء فظهر على الدار فأولاده الصغار أحرار مسلمون تبعا لأبيهم، لأنهم كانوا تحت ولايته حين أسلم، إذ الدار واحدة. وما كان من مال أودعه مسلما أو ذميا فهو له، لأنه فى يد محترمة، ويده كيده، وما سوى ذلك فئ.
مذهب الظاهرية (7):
إذا أسلم الحربى فأولاده الصغار مسلمون أحرار، وكذلك الذى فى بطن امراته إن كان الجنين لم ينفخ فيه الروح بعد فامرأته حرة لا تسترق، لأن الجنين حينئذ بعضها، ولا يسترق لأنه جنين مسلم، ومن كان بعضها حرا فهى كلها حرة، بخلاف حكمها إذا نفخ فيه الروح قبل إسلام أبيه ، لأنه حينئذ غيرها، وهو ربما كان ذكرا وهى أنثى. وأى الأبوين الكافرين أسلم فكل من لم يبلغ من أولادهما مسلم بإسلام من أسلم منهما، الأم أسلمت أو الأب.
مذهب الزيدية (8):
من أسلم من الحربيين أو دخل فى الذمة وهو حال إسلامه فى دارنا لم يحصن فى دارهم إلا طفله الموجود وولده المجنون حال الإسلام ولو بالغا، فلا يجوز للمسلمين إذا استولوا على دار الحرب أن يسبوا طفله أو ولده المجنون ولا مال طفله المنقول، لأنه قد صار مسلما بإسلام والده.
مذهب الإمامية (9):
حكم الطفل حكم أبويه، فإن أسلما أو أسلم أحدها لحق بحكمه ولو أسلم حربى فى دار الحرب حقن دمه.
مذهب الحنابلة (10):
وإذا أسلم أبوا الطفل الكافران أو أحدهما أو سبى الطفل منفردا عنهما حكم بإسلامه. وإن سبى مع أحدهما فى دار بإسلامه. وأن سبى مع أحدهما وهما على دينهما أو ماتا أو أحدهما فى دار الإسلام. فهل يحكم بإسلامه؟ على روايتين.
والمميز كالطفل فيما ذكرنا نص عليه، وقيل: لا يحكم بإسلامه حتى يسلم بنفسه كالبالغ. ولا يتبع الصغير جده ولا جدته فى الإسلام.
الأب لا يحد بقذف ولده
مذهب الشافعية (11):
إن قذف الوالد ولده أو قذف الجد ولد ولده لم يجب عليه الحد، وقال أبو ثور: يجب عليه الحد لعموم الآية: " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا، وأولئك هم الفاسقون (12) ". والمذهب الأول، لأنه عقوبة تجب لحق الآدمى، فلم تجب للولد على الوالد كالقصاص. وإن قذف زوجته فماتت وله منها ولد سقط الحد، لأنه لما لم يثبت له عليه الحد بقذفه لم يثبت له. وإن كان لها ابن آخر من غيره وجب له لأن حد القذف يثبت لكل واحد من الورثة على الانفراد. وإن مات من له الحد أو التعزير وهو ممن يورث انتقل ذلك إلى الوارث (13).
مذهب الأحناف (14):
إذا كان المقذوف محصنا جاز لابنه الكافر والعبد أن يطالب بالحد خلافا لزفر.
مذهب المالكية (15):
ليس لمن قذفه أبوه أو أمه تصريحا حد والديه على الراجح وهو مذهب المدونة. ومقابله يقول: له حدهما ويحكم بفسقه، وأما فى التعريض فلا يحد الأبوان اتفاقا.
مذهب الحنابلة (16):
لا يحد الأبوان لولدهما وإن نزل فى قذف ولا غيره ، فلا يرث الولد حد القذف على أبويه، كما لا يرث القود عليهما. فإن قذف أم أبنه وهى أجنبية منة أى غير زوجة له فماتت المقذوفة قبل استيفائه لم يكن لابنه المطالبة به عليه، لأنه إذا لم يملك طلبه بقذفه لنفسه فلغيره أولى، وكالقود فإن كان لها ابن آخر من غيره كان له، استيفاؤه فله إذا ماتت بعد المطالبة لتبعضه: أى لقبوله التجزئة بخلاف القود، ويحد الابن بقذف كل واحد من آبائه وأمهاته وإن علوا.
وإذا تشاتم (17) والد وولده لم يعزر الوالد لحق ولده، كما لا يحد بقذفه ولا يقاد به، ويعزر الولد لحق الوالد كما يحد لقذفه ويقاد به. ولا يجوز تعزيره إلا بمطالبة الوالد بتعزيره لأن للوالد تعزيره بنفسه، ولا يحتاج التعزير إلى مطالبة إلا فى هذه الصورة لأنه مشروع للتأديب فيقيمه الإمام إذا رآه.
مذهب الزيدية (18):
لو كان القاذف والدا للمقذوف فإنه يلزمه الحد لقذف ابنه ولا يسقط لحق الأبوة، قال فى الغيث: فإن قيل لم حد للقذف ولم يقتص منه مع أنه لا شبهة له فى بدنه ؟ قلنا: القذف مشوب بحق الله تعالى والقصاص له محض.
مذهب الإمامية (19):
لا يحد الأب لقذف ولده وإنما يعزر.
مذهب الظاهرية (20):
الحدود والقود واجبان على الأب للولد فى القذف والسرقة وقتله إياه وجرحه إياه فى أعضائه.
الأب والقطع بالسرقة من مال ولده والعكس
مذهب الشافعية (21):
من سرق من ولده أو ولد ولده وإن سفل أو من أبيه أو من جده وإن علا لم يقطع، وقال أبو ثور: يقطع لقوله عز وجل " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما" (22) " نعم ولم يخص. وهذا خطأ لقوله- عليه الصلاة والسلام - " ادرءوا الحدود بالشبهات "، وللأب شبهة فى مال الابن، وللابن شبهة فى مال الأب، لأنه جعل ماله كماله فى استحقاق النفقة ورد الشهادة فيه، والآية نخصها بما ذكرناه.
مذهب الحنابلة (23):
يشترط انتفاء الشبهة لقوله - عليه الصلاة والسلام- " ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم" فلا يقطع بسرقة مال ولده وإن سفل، فلا قطع لسرقة ولد مال والده وإن علا، لأن النفقة تجب للولد على الوالد فى مال والده حفظا له فلا يجوز إتلافه لحفظ ماله.
مذهب الأحناف (24):
من سرق من أبويه أو ولده أو ذى رحم محرم منه لم يقطع.
مذهب المالكية (25):
لا قطع إن قويت الشبهة كوالد سرق نصابا من ملك ولده فلا قطع بخلاف العكس. وجاء فى حاشية الصاوى: إنما لم يقطع الأب لقوله فى الحديث " أنت ومالك لأبيك ".
مذهب الظاهرية (26):
قال ابن حزم: قال أصحابنا: القطع واجب على من سرق من ولده أو من والديه.
مذهب الزيدية (27):
ولا يقطع والد من النسب لولده إذا سرقه وكان الولد حراً وأن سفل الولد كابن الابن ومن تحته، ويقطع الوالد إذا سرق ولده العبد لأنه لا شبهة له فى ملك الغير، وكذا يقطع إذا سرق من مال ولده من الزنا، فأما الولد إذا سرق من مال أبويه فإنه يقطع عندنا كسائر المحارم.
مذهب الإمامية (28):
يشترط فى قطع يد السارق ألا يكون والدا لمن سرق منه.
مذهب الإباضية (29):
لا قطع على ولد إن سرق من بيت والده إن كان تحته ولم يحزه ولو لم يكونا فى منزل واحد ولو لم يسرق من منزل هما فيه، وإن أحازه قطع، ولا قطع على أبويه: أبيه أو أمه مطلقا، ولو من منزل لم يسكنوا فيه.
الأب والقضاء لولده أو عليه وبالعكس
مذهب الشافعية (30):
لا يجوز أن يحكم لوالده وإن علا ولا لولده وإن سفل، وقال أبو ثور: يجوز، وهذا خطأ، لأنه متهم فى الحكم لهما كما يتهم فى الحكم لنفسه. وإن تحاكم والد القاضى مع ولد القاضى إليه فقد قال بعض أصحابنا أنه يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه لا يجوز كما لا يجوز إذا حكم له مع أجنبى.
والثانى: أنه يجوز لأنهما استويا فى التعصيب فارتفعت عنه تهمة الميل. وإن أراد أن يستخلف فى أعماله والده أو ولده جاز، لأنهما يجريان مجرى نفسه ثم يجوز أن يحكم فى أعماله، فجاز أن يستخلفهما للحكم فى أعماله. وأما إذا فوض الإمام إلى رجل أن يختار قاضيا لم يجز أن يختار والده أو ولده، لأنه لا يجوز أن يختار نفسه فلا يجوز أن يختار والده أو ولده.
مذهب الأحناف (31):
حكم الحاكم لأبوية وزوجته وولده باطل، والمولى والمحكم فيه سواء، وهذا لأنه لا تقبل شهادته لهؤلاء لمكان التهمة، فكذلك لا يصح القضاء له، بخلاف ما إذا حكم عليه، لأنه تقبل شهادته عليه لانتفاء التهمة، فكذا القضاء.
مذهب المالكية (32):
لا يحكم الحاكم لمن لا يشهد له كأبيه وابنه، وجاز أن يحكم عليه.
مذهب الحنابلة (33):
ليس لمن ولاه الإمام تولية القضاة أن يولى نفسه ولا والده ولا ولده.
الأب وشهادته لولده وعليه والعكس
مذهب الشافعية (34):
ولا تقبل شهادة الوالدين للأولاد وإن سفلوا، ولا شهادة الأولاد للوالدين وإن علوا. وقال المزنى وأبو ثور: تقبل، ووجهه قوله تعالى: " واستشهدوا شهيدين من رجالكم (35) " فعم ولم يخص، ولأنهم كغيرهم فى العدالة فكانوا كغيرهم فى الشهادة، وهذا خطأ لما روى ابن عمر- رضى الله عنهما - أن النبى - صلى الله عليه وسلم- قال: " لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين ولا ذى أحنة ".
والظنين: المتهم، وهذا متهم لأنه يميل إليه ميل الطبع، ولأن الولد بضعة من الوالد، ولهذا قال - عليه الصلاة والسلام-: " يا عائشة إن فاطمة بضعة منى، يريبنى ما يريبها ". ولأن نفسه كنفسه، وماله كماله، ولهذا قال - عليه الصلاة والسلام- لأبى معشر الدارمى: " أنت ومالك لأبيك" وقال - عليه الصلاة والسلام- " إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه " ولهذا يعتق عليه إذا ملكه، ويستحق عليه النفقة إذا احتاج، والآية نخصها بها ذكرناه. والاستدلال بأنهم كغيرهم فى العدالة يبطل بنفسه، فإنه كغيره فى العدالة، ثم لا تقبل شهادته لنفسه، وتقبل شهادة أحدهما على الآخر فى جميع الحقوق. ومن أصحابنا من قال: لا تقبل شهادة الولد على الوالد فى إيجاب القصاص وحد القذف، لأنه لا يلزمه القصاص بقتله ولا حد القذف بقذفه، فلا يلزمه ذلك بقوله. والمذهب الأول، لأنه إنما ردت شهادته له للتهمة، ولا تهمة فى شهادته عليه.
مذهب الأحناف (36):
لا تقبل شهادة الوالد لولده وولد ولده، ولا شهادة الولد لأبويه وأجداده ، والأصل فيه قوله - عليه الصلاة والسلام- " لا تقبل شهادة الولد لوالده، ولا الوالد لولده، ولا المرأة لزوجها، ولا الزوج لامرأته، ولا العبد لسيده، ولا المولى لعبده، ولا الأجير لمن استأجره " ولأن المنافع بين الأولاد والأباء متصلة، ولهذا لا يجوز آداء الزكاة إليهم، فتكون شهادة لنفسه من وجه أو تتمكن فيه التهمة.
مذهب الحنابلة (37):
موانع الشهادة ستة أشياء: أحدها قرابة الولادة، فلا تقبل شهادة عمودى النسب بعضهم لبعض من والد وان علا، ولو من جهة الأم كأب الأم وابنه وجده ومن ولد وإن سفل من ولد البنين والبنات، لأن كلا من الوالدين والأولاد متهم فى حق صاحبه، لأنه يميل إليه بطبعه، بدليل قوله - عليه الصلاة والسلام-: " فاطمة بضعة منى يريبنى ما أرأبها " وسواء اتفق دينهم أو اختلف، وسواء جر بها نفعا للمشهود له أو لا كقذف وعقد نكاح إلا الولد من زنا أو رضاع ، فتقبل شهادة الولد لأبيه من زنا أو رضاع وعكسه، لعدم وجوب الإنفاق والصلة وعتق أحدهما على صاحبه. وتقبل شهادة بعضهم على بعض، لقوله تعالى " كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين (38) " ولأن شهادته عليه لا تهمة فيها وهى أبلغ فى الصدق كشهادته على نفسه.
مذهب المالكية (39):
لا تصح شهادة لمتأكد القرب لاتهامه بجر النفع لقريبه كوالد لولده، وإن علا كالجد وأبيه، وولد لوالده وإن سفل كابن الابن أو البنت وزوجها، فلا يشهد الوالد لزوجة ابنه ولا لزوج ابنته ولا
الولد لزوجة أبيه وزوج أمه.
مذهب الزيدية (40):
تجوز شهادة الابن لأبيه والأب لابنه الكبير لا الصغير.

__________

(1) الشرح الصغير ج1 ص 334.
(2) المهذب ج 2 ص 266.
(3) سورة الطور: 21.
(4) المهذب ج2 ص 255، 256.
(5) الهداية ج 2 ص 123.
(6) الهداية ج 2 ص 132.
(7) المحلى ج 7 ص 311.
(8) التاج المذهب ج 4 ص443.
(9) المختصر النافع ص114.
(10) المحرر ج 2 ص 169.
(11) المهذب ج 2 ص290.
(12) سورة النور: 4.
(13) المهذب ج 2 ص 292.
(14) الهداية ج 2 ص 86، 96.
(15) الشرح الصغير ج 2 ص 389.
(16) كشاف القناع ج 2 ص 62.
(17) كشاف القناع ج 4 ص 73.
(18) التاج المذهب ج4 ص 227.
(19) المختصر النافع ص299.
(20) المحلى ج11 ص 296.
(21) المهذب ج 2ص 299.
(22) سورة المائدة: 38.
(23) كشاف القناع ج4 ص 84.
(24) الهداية ج 2 ص 105.
(25) الشرح الصغير ج 2 ص392.
(26) المحلى ج11 ص 313.
(27) التاج المذهب ج 4 ص 251.
(28) المختصر النافع ص 223.
(29) شرح النيل ج 8 ص 75.
(30) المهذب ج 2 ص309.
(31) الهداية ج 3 ص 87.
(32) الشرح الصغير ج 2 ص 311.
(33) كشاف القناع ج 4 ص 172.
(34) المهذب ج 2 ص 347.
(35) صورة البقرة: 282.
(36) الهداية ج 3 ص98.
(37) كشاف القناع ج4 ص 261.
(38) سورة النساء: 135.
(39) الشرح الصغير 319.
(40) التاج المذهب ج 4 ص 76.

 
الأب ومسائل الإقرار بالنسب أو الإرث

مذهب الأحناف (1):
ومن أقر بغلام يولد مثله لمثله وليس له نسب معروف أنه ابنه وصدقه الغلام ثبت نسبه منه وإن كان مريضا، لأن النسب مما يلزمه خاصة، فيصح إقراره به، وشرط أن يولد مثله لمثله، كى لا يكون مكذبا فى الظاهر، وشرط ألا يكون له نسب معروف، لأنه يمنع ثبوته من غيره، وإنما شرط تصديقه، لأنه فى يد نفسه إذ المسألة فى غلام يعبر عن نفسه بخلاف الصغير. ولا يمتنع بالمرض، لأن النسب من الحوائج الأصلية، ويشارك الورثة فى الميراث، لأنه لما ثبت نسبه منه صار كالوارث المعروف فيشارك ورثته ويجوز إقرار الرجل بالوالدين والولد والزوجة والمولى (2).
مذهب الحنابلة (3):
إن أقر مكلف بنسب صغير أو مجنون مجهول النسب بأن قال: إنه ابنى وهو يحتمل أن يولد لمثل المقر بأن يكون أكبر ممن أقربه بعشر سنين فأكثر ولم ينازعه منازع ثبت نسبه منه، لأن الظاهر أن الشخص لا يلحق به من ليس منه كما لو أقر بمال. وإن كان الصغير أو المجنون المقر به ميتا ورثه، لأن سبب ثبوت النسب مع الحياة الإقرار، وهو موجود هنا. وإن كان المقر به كبيراً عاقلا لم يثبت نسبه من المقر حتى يصدقه، لأن له قولا صحيحا. فاعتبر تصديقه، كما لو أقر له بمال. وإن كان ميتا ثبت إرثه ونسبه لأنه لا قول له فأشبه الصغير.
مذهب الزيدية (4):
لو أقر بصغير كان الصغير فى حكم المصدق، لأنه فى حال الصغر لا يصح منه الإنكار. فإذا بلغ ولم يصدق فإنه يبطل الإقرار ولو حكم الحاكم، لأن الحكم مشروط بالتصديق. ومن أقر بأحد توأمين أنه ابنه وصدقه لزمه الثانى ولو كذبه، لأنه إذا ثبت نسب أحدهما ثبت نسب الثانى.
مذهب الشافعية (5):
وإن هنأه رجل بالولد فقال: بارك الله لك فى مولودك وجعله الله لك خلفا مباركا، وأمن على دعائه، أو قال: استجاب الله دعاءك- سقط من النفى (أى نفى نسب الولد) ، لأن ذلك يتضمن الإقرار به.
مذهب الشافعية (6):
الإقرار بالنسب يشترط فيه أهلية المقر للإقرار، ببلوغه وعقله وإمكان إلحاق المقر به بالمقر شرعا. ويشترط التصديق: أى تصديق المقر به للمقر فى دعواه النسب، فيما عدا الولد الصغير ذكرا كان أو أنثى، والمجنون كذلك، والميت.
مذهب الإباضية:
ومذهب الإباضية كالأحناف.
مذهب المالكية (7):
وإذا أقر أن مجهول النسب ابنه لحق به الولد إن لم يكذبه عقل لصغره: أى مدعى الأبوة. أو عادة كاستلحاقه من ولد ببلد بعيدة جدا يعلم أنه لم يدخلها أو شرع، فلو كان مجهول النسب المستلحق (بالفتح) رقا أو مولى (أى عتيقا) لمكذبه: أى لشخص كذب الأب المستلحق له- لم يصدق مدعى أبوته، لأنه يتهم على نزعه من مالكه آو الحائز لولائه.
مذهب الظاهرية (8):
وإقرار المريض فى مرض موته وفى مرض أفاق منه لوارث ولغير وارث نافذ من رأس المال كإقرار الصحيح ولا فرق.
الأب والميراث
فيه مباحث:
أولا: أن الأب أحد الأفراد الخمسة الذين لا يحجبون عن الميراث بغيرهم بحال.
ثانيا: يرث الأب تارة بالفرض فقط، ويرث تارة بالتعصيب فقط، و يرث تارة بهما معا فله فى الإرث ثلاثة أحوال:
ا- بالفرض فقط.
2- بالتعصيب فقط.
3- بهما معا.
الحالة الأولى: يرث بالفرض إذا كان للميت فرع وارث ذكر. يكون للأب السدس فرضا، لأنه وإن كان من العصبة إلا أن مرتبته من عصوبة الإرث مؤخرة عن عصوبة البنوة، قال تعالى: {ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له الولد}(9)
الثانية: يرث بالتعصيب فقط إذا لم يكن للميت فرع وارث ذكر أو أنثى، فيأخذ التركة كلها إن انفرد، و يأخذ الباقى بعد ذوى الفروض أن كان معه ذو فرض.
الحالة الثالثة: يرث بالفرض والتعصيب معا إذا كان للميت فرع وارث أنثى، فيأخذ الأب فرضه السدس أولا، ثم يقف عاصبا يرصد ما بقى من أصحاب الفروض، فإن بقى شىء أخذه بالتعصيب، وإن لم يبق شىء من أصحاب الفروض أقتصر الأب على السدس الذى ورثه بالفرض فقط، يأخذه الأب فرضا ولم يبق له شىء يأخذه بالتعصيب.
ثالثا: لا يحجب الأب فرع الميت ذكراً أو أنثى و إن نزل، ولا يحجب الأم وإن علت، ولا يحجب الزوج ولا الزوجة، ويحجب من عدا هؤلاء.

__________

(1) الهداية ج 3 ص 153.
(2) المرجع السابق ج 3 ص 154.
(3) كشاف القناع ج 4 ص 299، 300.
(4) التاج المذهب ج44 وما بعدها.
(5) المهذب ج 2 ص 123.
(6) الروضة البهية ج 2 ص225.
(7) الدردير ج 2 ص 181.
(8) المحلى ج 8 ص 254
(9) سورة النساء: 11

 
إباحة

الإباحة عند أهل اللغة:
ذكر علماء اللغة للإباحة عدة معان نذكر منها ما يتصل بمعناها الفقهى وذلك قولهم: " أبحتك الشىء أحللته لك، وأباح الشيء أطلقه " (1).
الإباحة عند الأصوليين:
ينظر الأصوليون للإباحة باعتبار أنها مأخوذة من أبحتك الشىء بمعنى أحللته لك أطلقتك فيه.
أو يعرفونها بأنها: التخيير بين فعل الشىء وتركه. وهذا مفاد تعريف الإمام الغزالى للجواز الذى هو مرادف للإباحة عنده إذ يقول (2): إن حقيقة الجواز مرادف للإباحة. ثم يقول: إن الجواز هو التخيير بين الفعل والترك بتسوية الشرع.
وقد ارتضى كل من البيضاوى والإسنوى هذا التعريف وقالا (3): لا اعتراض عليه. لكن الآمدى اعترض عليه بأنه تعريف غير مانع لدخول الواجب المخير والموسع فيه، (انظر مصطلح واجب).
وقالت (4): إن الأقرب لسلامة التعريف أن يزاد فيه قيد " من غير بدل " ليخرج ما عدا الإباحة فيكون التعريف: الإباحة هى التخيير بين فعل الشيء وتركه من غير بدل..
والشاطبى رأى ما رآه الآمدى من فساد التعريف المذكور ورأى (5) " زيادة قيد من غير مدح ولا ذم لا على الفعل ولا على الترك " ويكون تعريفها " التخيير بين فعال الشىء وتركه من غير مدح ولا ذم لا على الفعل ولا على الترك ".
وهناك تعريف آخر نقله الآمدى أيضا يفيد إن الإباحة أعلام الفاعل أو دلالته أنه لا ضرر عليه فى فعل الشىء أو تركه ولا نفع له فى الآخرة.
ولابن السبكى تعريف للإباحة قريب من هذا. وكذا منلا خسرو، وعبيد الله بن مسعود صدر الشريعة، والشوكانى(6).
لكن الآمدى نص على أنه تعريف غير جامع لأنه يخرج عن حد الإباحة ما خير الشارع فيه مع اشتمال الفعل أو الترك على ضرر، كما يخرن عنها ما دال الدليل على الاستواء فيه فى الدنيا والآخرة.
تم انتهى الآمدى بوضع تعريف للإباحة بأنها دلالة خطاب الشارع على التخيير بين فعل الشئ وتركه من غير بدل.
الإباحة عند الفقهاء:
يستعمل الفقهاء لفظ الإباحة كثيرا وخاصة الأحناف عند الكلام عن الحظر والإباحة، ونقل كل من الميدانى وأبى بكر اليمنى والحصكفى عن عبد الله بن مودود الموصلى أن الإباحة ضد الحظر وان المباح ما أجيز للمكلفين فعله وتركه بلا استحقاق ثواب ولا عقاب أو مأخذ فيه (7).
وفسر العينى الإباحة بأنهما " الإطلاق فى مقابلة الحظر الذى هو المنع " (8). وسلك مسلكه فى هذا كل من قاضى زاده (9) وشيخ زاده، وقد ورد هذا التعبير أيضا فى عبارة صاحب الاختيار حيث قال (10) وهو بصدد التعليل لتسمية صاحب القدورى مسائل باسم الحظر والإباحة: " هو صحيح لأن الحظر المنع، والإباحة الإطلاق "(11).
فتفسير العيني ومن سلك مسلكه للإباحة لوحظ فيه المعني اللغوى الذى هو الإطلاق سواء أكان من جانب الله أم من جانب العباد، فهو أعم من التعريف الأول للفقهاء الذى قصروا الإباحة فيه على تخيير الله لعباده 0
وعلى التعريف الفقهى الثانى تكون الإباحة لمعنى الإذن وهو ما جرى عليه الشريف الجرجانى فى تعريفها حيث قال (12): " الإباحة الإذن بإتيان الفعل كيف شاء الفاعل ". فالإباحة ليست إجراء تعاقديا، فلا يشترط فيها أن يكون المأذون له معينا معلوما للإذن وقت الإذن لا بشخصه ولا باسمه، فمن يضع الجوابى والأباريق على قارعة الطريق مملوءة بالماء فانه يبيح بذلك لكل من يمر أن يشرب منها دون تعيين للمأذون له لم لا بالاسم ولملا بالوصف.
وكذلك فان الإباحة جائزة، كما يقول - أبن حزم الظاهرى (13) فى المجهول، وذلك كطعام يدعى إليه قوم وكذلك قال الإباحة جائزة ، كما يقول ابن حزم الظاهرى فى المجهول ، وذلك كطعام يدعى إليه قوم يباح لهم أكله ولا يدرى كم يأكل كل منهم.
وقال: أن هذا منصوص من عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، فقد قال: " من شاء أن يقتطع إذا نحر الهدى، كما أمر المرسل بالهدى إذا عطب أن ينحره ويخلى بينه وبين الناس؟.
صيغ الإباحة:
بتتبع ألفاظ القرآن لم نجد كلمة الإباحة ولا شيئا مما تصرف منها بفعل أو مشتق، وإنما يوجد فى أساليب القرآن، كما يوجد فى السنة النبوية الكريمة ما يدل عليها، ولا سبيل إلى حملها على غير الإباحة، على ما تفيده عبارات المفسرين وإفهام الفقهاء ومن ذلك نفى كل الحرج ونفى الجناح والإثم والمؤاخذة والحنث والسبيل والبأس وكثيرا ما استعمل الفقهاء كلمة لا بأس بمعنى الإباحة فى كتب الفقه: ومن ذلك قول صاحب الاختيار (14): ولا بأس بتوسد الحرير وافتراشه، ولا بأس بلبس ما سداه إبريسم ولحمته قطن أو خز، ومثله فى درر المنتقى(15).
وهناك أساليب يترجح فيها معنى الإباحة ومنها إثبات الحل، فانه وإن كان صالحا للاستعمال فى الإباحة وغيرها مما ليس بحرام، فإن السياق والقرينة هما اللذان يحددان الغرض، ولذلك قال الفقهاء فى الحديث الذى رواه أبو داود وابن ماجة عن عبد الله بن عمر عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن أبغض الحلال إلى الله الطلاق): أن الطلاق مباح.
ومن الأساليب التى يترجح فيها معنى الإباحة نفى التحريم مثل قوله تعالى: ( قل من حرم زينة الله ((16). ونفى النهى مثل قوله تعالى:( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم ((17). والاستثناء من التحريم الصريح مثل قوله تعالى: ( وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه ((18).
والاستثناء الضمنى من التحريم الصريح كما فى قوله تعالى: ( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به( إلى قوله: ( فمن اضطر فى مخمصة غير متجانف لإثم فان الله غفور رحيم ((19).
فقد صرح القرطبى المالكى(20) باعتبار هذا الأسلوب إباحة حيث قال: فاشترط فى إباحة الميتة للضرورة ألا يكون باغيا.
ومن الألفاظ التى يستفاد منها الإباحة صيغة الأمر، وقد نقل الآمدى (21) عن بعض الأصوليين أن صيغة الأمر وضعت حقيقية لإفادة الإباحة، وأنها تفيد غيرها بطريق المجاز ، وتحتاج فى إفادتها غير الإباحة إلى قرينة.
ومنهم من قال أنها حقيقة فى الطلب مجاز فيما سواه ودلالة صيغة الأمر على الإباحة تعتبر مجازية عند من يقول أن الأمر موضوع للندب وهو أبو هاشم الجبائى والمعتزلة ورواية عن الشافعى.
وكذلك تعتبر مجازيه على رأى الماتريدى وأتباعه الذين يقولون أن صيغة الأمر موضوعة فى الأصل للقدر المشترك بين الوجوب والندب وهو الطلب، فإنها تفيد الإباحة بطريق المجاز، وأحتاج فى إفادة ذلك إلى فريضة. وكذلك بالنسبة للقائلين بأن صيغة الأمر مشتركة بين كل من الوجوب والندب أى موضوعة لكل على حدة، فإنها تكون مجازا أيضا فى استعمالها للإباحة.
وحتى عند القائلين بأن صيغة الأمر مشتركة فى إفادة الوجوب والندب والإباحة حقيقة والقائلين بأنها مشتركة فى إفادة ذلك وفى إفادة التهديد أيضا فإن استعمالها فى الإباحة وإن كان حقيقيا عندهم إلا أنه يحتاج إلى قرينة باعتباره مشتركا، إذ المشترك لا يستعمل إلا بقرينة دفعا للبس ، وبذا يكون لابد من القرينة فى استعمال الأمر للإباحة سواء قلنا انه مجاز أو مشترك (22).
ويقول البيضاوى (23): إن صيغة الأمر تستعمل فى الإباحة نحو( كلوا من الطيبات((24) وعلى ذلك الأسنوى بقوله: يجب أن تكون الإباحة معلومة من غير الأمر حتى تكون قرينة لحمله على الإباحة كما وقع العلم به هنا.
وقد نقل والشوكانى (25) عن بعض الأصوليين أن صيغة الأمر مشتركة اشتراكا لفظيا بين الوجوب والندب والإباحة وأن المرتضى من الشيعة قال:إنها للقدر المشترك بين الوجوب والندب والإباحة وأن جمهور الشيعة قالوا إنها مشتركة بين الثلاثة المذكورة والتهديد وهو محكى عن ابن سريج، ومن استعمالات الأمر فى الإباحة بالقرينة قول الله تعالى: ( وإذا حللتم فاصطادوا((26) بقرينة أنه كان ممنوعا وقت الإحرام بقوله تعالى: ( غير محلى الصيد وأنتم حرم ( (27) ولهذا يقول الأصوليون: إن الأمر بعد النظر يفيد الإباحة (28) فإن ورد الأمر بعد حظر لمتعلقه أو استئذان فيه - على رأى الرازى - فهو للإباحة حقيقة لتبادرها الى الذهن فى ذلك، وقيل للوجوب، ومما جاء دالا على الإباحة قوله صلوات الله عليه فيما رواه الطبرانى عن شداد بن أوس:(صلوا فى نعالكم ولا تتشبهوا باليهود). فالأمر هنا يدل على الإباحة ويفيد أن الصلاة بالنعل جائزة على سبيل الإباحة ما دامت طاهرة 0 وقد علق على ذلك الحديث العلقمى بقوله: صلوا فى نعالكم إن شئتم فالأمر للإباحة، فالصلاة بالنعل جائزة حيث لا نجاسة (29).
ويقود الآمدى (30): إذا وردت صيغة أفعل " الأمر" بعد الحظر فمن قال أنها للوجوب قبل الحظر اختلفوا، فمنهم من أجراها على الوجوب ، ومنهم من قال أنها للإباحة وهم أكثر الفقهاء ومنهم من توقف كإمام الحرمينر. وذكر من أمثلة ذلك قوله تعالى: ( وإذا حللتم فاصطادوا ( ( فإذا طعمتم فانتشروا ( (31) ( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا ((32) وقوله عليه الصلاة والسلام:(كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحى فادخروا).
ثم رجع احتمال الحمل على الإباحة نظرا إلى غلبة ورود مثل ذلك للإباحة دون الوجوب.
ومن الألفاظ التي تستفاد منها الإباحة:
النهى بعد الوجوب على بعض الآراء. قال السبكى والمحلي فى جمع الجوامع وشرحه (33): إن النهى بعد الوجوب للتحريم عند الجمهور، وقيل للكراهة وقيل للإباحة نظرا إلى أن النهى عن الشىء بعد وجوبه يرفع طلبه فيثبت التخيير فيه.
وجاء فى تقرير الشربينى على جمع الجوامع بهذا الصدد: إن الوجوب لشىء إذا نسخ بقى الجواز بمعني عدم الحرج فى الفعل والترك، وقيل تبقى الإباحة فقط، كما قالوا بالنسبة لنسخ الوجوب فى آية الوصية، وقيل يبقى الاستحباب.
وجاء فى المنهاج للبيضاوى وشرحه للأسنوى (34): إن القائلين بالإباحة فى الأمر بعد الحظر اختلفوا فى النهى بعد الوجوب فمنهم من طرد القياس، وحكم بالإباحة لأن تقدم الوجوب قرينة، ومنهم من حكم بأنه للتحريم كما لو ورد إبتداء.
وقالوا: إن مما يدل على الإباحة استعمال مادة المشيئة فى مثل قوله تعالى: {ترجى من تشاء منهن وتؤوى إليك من تشاء( (35) فإنها تفيد إباحة ترك الرسول صلوات الله عليه القسم بين زوجاته وذلك إذا لم تكن هناك قرينة تدل على أن المراد التهديد كما فى قوله تعالى: ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} (36) فى مسألة المباح.
ومما يؤيد ذلك قود الغزالى (37): أن من الأفعال ما صرخ الشارع فيه، وقال إن شئتم فافعلوه، وإن شئتم فاتركوه ومنها ما لم يرد فيه خطاب بالتخيير، لكن دل دليل السمع على نفى الحرج فى فعله وتركه.
ومما يدل على الإباحة من غير لفظ أفعال الرسول فى بعض أنواعها فقد نص الآمدى (38) على أن ما كان من الأفعال الجبلية أى الطبيعية كالقيام والقعود والأكل والشرب ونحوه، فلا نزاع فى كونه على الإباحة بالنسبة إلى النبى وإلى أمته.
ويقول الشوكانى (39): إن ما لا يتعلق بالعبادات ووضح فيه أمر الجبلية كالقيام والقعود ونحوها فليس فيه تأس ولا به اقتداء ولكنه يدل على الإباحة عند الجمهور ثم أورد خلافا لغيرهم فى ذلك فقد نقل البالقلانى عن قوم أنه مندوب ولمحات كذا حياء الغزالى فى كتابه المنخول، وقال: لأن عبد الله بن عمر يتتبع مثل هذا ويقتدى به كسا هو معروف عنه.
وأما تقرير النبى عليه الصلاة والسلام ، فإن ما سكت النبى عنه ولم يكن قد سبق منه النهى عنه ولا عرف تحريمه فإن سكوته عنه يدل على إباحته. ومثل الشوكانى (40) لذلك بأكل العنب بين يدى الرسول ونقل عن أبن، القشيرى أن هذا مما لا خلاف فيه يقول الآمدى (41): إن ما أقره النبى ولم يكن قد سبق منه النهى ولا عرف تحريمه فسكوته عن فاعله وتقريره له يدل على جوازه، ورفع الحرج عنه لأنه لو لم يكن فعله جائزا لكان تقريره له عليه مع القدرة على إنكاره حراما على النبى عليه الصلاة والسلام، فحيث لم يوجد منه ذلك دل على الجواز غالبا.
الصلة بين الإباحة والتخيير والحل والجواز والصحة والعفو الصلة بين الإباحة والتخيير:
الإباحة عند الأصوليين هى التخيير بين الفعل والترك من غير ثواب ولا عقاب على ما تقدم، أما التخيير فهو أعم من ذلك لأنه تارة يكون على سبيل الإباحة وتارة يترتب على الترك عقاب، وعلى الفعل ثواب فى الجملة كتزويج البكر الطالبة للنكاح من أحد الكفأين الخاطبين، وعند الإمامة لأحد الإمامين الصالحين (42) انظر " تخيير ").
2- الصلة بين لفظي الإباحة والحل:
الحل ومشتقاته يستعمل فى لسان الشرع بمعنى ما يقابل التحريم ومشتقاته، ومن ذلك قوله تعالى: ( وأحل الله البيع وحرم الربا ( (43).
ومقتضى ذلك أن الحلال مقابل للحرام وقسيم له فوجب أن يشمل الحلال كل ما عدا الحرام فيكون أعم من المباح، وهذا ما فهمه الفقهاء وظهر فى عباراتهم واضحا.
الصلة بين لفظي الإباحة والجواز:
(44) الغزالى يرى أن لفظ الجواز مرادف للفظ الإباحة حيث يقول: إن حقيقة الجواز التخيير بين الفعل والترك والتسوية بينهما بتسوية الشرع.
ولكن الأحناف يرون (45) أنه مرادف للحل وأعم من الإباحة (انظر جواز).
الصلة بين لفظي الإباحة والصحة:
يرد البيضاوى الصحة إلى الإباحة فيقول (46): الصحة إباحة الانتفاع.
أما جمهور الأصوليين فإنهم يرون أن الصحة وصف للفعل الذى يقع من المكلف إن كان مستجمعا لشرائطه فهى من الأحكام الوضعية و العقلية كما يرى بعض الأصوليين (47) بينما الإباحة من الأحكام التكليفية (أنظر: صحة. حكم).
الصلة بين لفظى الإباحة والعفو:
لما كان ما فى مرتبة العفو ليس مطلوبا فعله ولا تركه التبس بالمباح لرفع المؤاخذة فى كل وإن لم يكن العفو من الأقسام الخمسة التكليفية: الواجب، المندوب، المباح، المكروه، الحرام... على ما بينه الشاطبى (48).
وأدخل الشاطبى فى مرتبة العفو كل، فعل صدر عن غافل أو ناس أو مخطئ. وقال: أن مما يظهر فيه معنى العفو الرخص، لا فرق بين أن تكون الرخصة مباحة أو مطلوبة، فلفظ العفو مما يتردد ذكره فى الشريعة الإسلامية، وهو قريب المعنى من المباح وإن لم يكن مندرجا تحته فى بعض الجزئيات والاطلاقات.
وهذه الجزئيات والاطلاقات على الجملة أما أن تكون مسكوتا عنها فى الشريعة، وهذه تتسم بسمة الإباحة الأصلية التي عبر عنها الأصوليون أحيانا بالبراءة الأصلية وأما أن تكون منصوصا على حكمها بالطلب أو المنع وخالف المكلف من غير عمد ولا قصد، أو بحكم الاضطرار، فيتجاوز الشارع عن ترتيب الأثر ويدخل هذا تحت مفهوم الإباحة العارضة.
تغير وصف الإباحة: قد يكون الشىء فى ذاته مباحا، ولكنه يكون فى بعض الأحيان ذريعة إلى مطلوب أو محظور فيأخذ حكمه.
قال الشاطبى (49): المباح من حيث ما هو ذريعة إليه ثلاثة أقسام:
ذريعة إلى ما هو منهى عنه، فيكون من تلك الجهة مطلوب الترك، أى على سيل التحريم الكراهة.
الثانى: ما يكون ذريع إلى مأمور به كالمستعان به على أمر أخروى. ففى الحديث: (نعم المال الصالح للرجل الصالح) وذلك فى الشريعة كثير لأنها لما كانت وسائل إلى مأمور به كان لها حكم ما توسل بها إليه، وهذا القسم مطلوب الفعل على سبيل الوجوب أو الندب 0
الثالث: ما لا يكون ذريعة إلى شئ فهو المباح المطلق، وعلى الجملة فإذا فرض ذريع إلى غيره، فحكمه حكم ذلك الغير.
أقسام الإباحة:
يقسم الغزالى (50) ، الأفعال المباحة ثلاثة أقسام:
الأول: ما بقى على الأصل فلم يرد فيه تعرض لا بصريح اللفظ ولا بدليل من أدلة السمع، فينبغى أن يقال استمر فيه ما كان ولم يتعرض له السمع فليس فيه الحكم.
الثانى: ما صرح فيه الشارع بالتخير وقال إن شئتم فافعلوه وإن شئتم فاتركوه، فهذا خطاب والحكم لا معني له إلا الخطاب ولا سبيل إلى إنكاره وقد ورد.
الثالث: ما لم يرد الخطاب فيه بالتخيير، ولكن دل دليل السمع على نفى الحرج عن فعله وتركه فقد عرف بدليل السمع، ولولا هذا لكان يعرف بدليل العقل نفى الحرج عن فاعله وبقاؤه على النفى الأصلى 0
وعلى هذا فالمباح لذاته عند الغزالى قسمان: ما ورد فيه حكم الشارع بالتخيير أى ما ثبت بالدليل السمعى الصريح التالي: ما لم يرد فيه خطاب صريح، لكن دل عليه دليل سمعى غير صريح وأيده العقل. أما الفقهاء" فإنهم لما كانوا يستعملون الإباحة استعمالا دارجا بمعني الإذن، وكان مصدر هذا الإذن مختلفا فى الظاهر أمكن تقسيم الإباحة من ناحية منشأ الإذن المباشر إلى قسمين: إباحة مصدرها الشارع مباشرة بما ورد من نصوص تدل عليه أو استنباط المجتهدين له، و إباحة مصدرها المباشر العباد بعضهم مع بعض.
كما أنها تنقسم من ناحية متعلقها إلى قسمين أيضا:
1- إباحة استهلاك.
2- إباحة استعمال.
وفى كل هذا فإنها إما أن تكون إباحة عامة أو إباحة خاصة، فالإذن العام من الشارع بالاستهلاك كما فى الأشياء التي ورد النص على أن الناس شركاء فيها فتكون مباحة لكل من يستولى عليها، ومن ذلك صيد البحر مطلقا وصيد البر لغير المحرم، ومن ليس فى الحرم يقول الله تعالى: ( أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة، وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ( (51) ومما ورد فيه الإذن العام الماء والكلأ والنار بنص الحديث الذى رواه الخلال أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (الناس شركاء فى ثلاث: الماء والكلأ والنار).
ومن ذلك الأرض الموات، يقول النبى عليه الصلاة والسلام فيما رواه الترمذى عن سعيد بن زيد: (من أحيا أرضا ميتة فهى له) إلى غير ذلك مما جاء فى كتب الفقه) انظر صيد- حرم- موات).
الإذن العام من الشارع بالاستعمال:
يتناول إباحة المنافع العامة التي أباحها الشارع لاستعمال المعين بنص شرعى أو قاعدة عامة تتصل بمصالح العباد، وذلك كالطرق العامة، فحق المرور فيها ثابت للناس جميعا بالإباحة الأصلية ولأصحاب العقارالمتصل بها أيضا بعض نواحى الانتفاع الأخرى كفتح الأبواب والنوافذ وغيرها مما لا ضرر فيه 0
يقول الغزالى (52): فالشوارع على الإباحة كالموات إلا فيما يمنع الطروق (أى المرور) فلكل واحد أن يتصرف بما لا يضر المارة وكذلك الهواء كما يقول السرخسى (53).
ويقول الفقهاء فى الطريق الخاص: إن حق العامة يتعلق به أيضا فيستعملونه فيما شرع من أجله من المرور واللجوء إليه وقت الزحام ما دام أصحاب الطريق لم ينشئوا عند أحداثه ما يدل على تخصيصه بهم ، والإذن الخاص من الشارع بإباحة الانتفاع بشئ مثل إباحة الرسول عليه الصلاة والسلام لأحد الأفراد أن يتزوج امرأة بما معه من القرآن دون أن ينقذها مهرا أو يشترط لها التعلم كما فى الحديث المتفق عليه أن النبى - صلى الله عليه وسلم - وهب امرأة لرجل بقوله: (ملكتكها بما معك من القرآن فقد أباح له المتعة بما لم يبحها به لغيره) (54).
ومن ذلك فيما يرى الخطابى الشخص الذى جامع امرأته فى نهار رمضان ولما ذهب إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - وقص عليه، قال له فى شأن الكفارة وكانت الإطعام: (أذهب فأطعمه أهلك).
ويقول الخطابى: (إن الإذن فى إطعام الكفارة لأهله الدين تجب نفقتهم عليه كان رخصة له خاصة) (55).
ومن ذلك الإذن للمسافر فى الفطر على ما ذكره ابن الحاجب والبيضاوى فى المنهاج. والإذن للطبيب بالاطلاع على عورة المرأة للعلاج إذا لم يكن متعينا لذلك العلاج وإلا كان واجبا لا مباحا.

 
إذن العباد بعضهم مع بعض: ويتحقق هذا فى أمرين، أحدهما الأموال الخاصة التى يأذن فيها بعض الناس لبعض كهبات، والطعام والشراب إباحة عامة أو خاصة. وكذا فى نثر الدراهم والورود أو ترك الشىء من ذلك مع الإذن بأخذه، ففى هذه الجزئيات وأمثالها تسليط على نفس العين وإباحة لاستهلاكها.
الثانى: منافع هذه الأموال وكذا الحقوق التى تستباح بإباحة الأفراد وهى ما كانت حقا خالصا للعباد، لأنها تستباح بإباحة المالك وتتحقق الإباحة الخاصة فى ذلك بالإذن لأخر من مالك العين أو من مالك المنفعة لينتفع المأذون له بالعين على الوجه الذى أذن له فيه، كأن يأذن إنسان لآخر بأن يركب سيارته أو يضيفه للمبيت عنده أو يأذنه باجتياز ممره الخاص أو إمرار الماء فى مجراه الخاص، و يستوي فى ذلك أن يكون الآذن مالكا لرقبة ما أذن فيه ومنفعته أو مالكا لمنفعته فقط، كأن يأخذه بطريق الإجارة أو الإعارة أو الوصية أو الوقف إذا تحقق شرط صحة الإذن لمالك المنفعة على التفصيل الوارد فى كتب الفقه فى مواضعه.
أسباب الإباحة:
الإباحة الأصلية سببها فى الواقع انتفاع الناس والتوسعة عليهم، يقول الله تعالى: {هو الذى خلق لكم ما فى الأرض جميعا} (56) فاللام تفيد الاختصاص على جهة الانتفاع للمخاطبين ألا ترى أنك لو قلت الثوب لزيد فإن معناه أنه مختص بنفعه (57).
ويرى الشاطبى فى موافقاته أن الرخصة غالبا من قبيل الحكم التخييرى فغالب الرخص على نمط المباح، فالترخيص غالبا سبب من أسباب الإباحة الطارئة لأن معنى الترخيص التيسير والتسهيل على المكلف بتخييره بين الأخذ بالعزيمة أو الرخصة، وهذا هو معنى الإباحة ولا أدل على ذلك من ورود الترخيص بأساليب الإباحة فى النصوص القرآنية قال تعالى: ( فمن أضطر غير باغ ولا عاد فلا أثم عليه( (58). ففى الإثم من أساليب الإباحة وقد ورد الترخيص به، قال تعالى: ( وإذا ضربتم فى الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ( (59). فالترخيص ورد بأسلوب الإباحة وهو نفى الجناح الأمر الذى يدل على أن المرخص به مباح، وأن الترخيص من أسباب الإباحة الطارئة، وقد أورد الشاطبى شبها على هذا ورد عليها (60) (انظر رخصة).
وغيره من الأصوليين يقسمون الرخصة إلى واجبة كأكل الميتة عند الاضطرار ، ومندوبة كقصر الصلاة للمسافر، ومباحة كالسلم والإجارة. فلا يعد الترخيص سببا من أسباب الإباحة عندهم إلا فى القسم الأخير، فالترخيص الذى يعد سببا هو ترخيص الشارع للمكلف بفعل المرخص به أو تركه دون أن يكون أحدهما راجحا على الأخر (61) و كذا فإنه يباح للمضطر أن يتناول من الميتة عند ضرورة خوف الهلاك من شدة الجوع بأن يأخذ منها ما يسد به رمقه عند الحنفية والمالكية والشافعية والظاهرية ير وقد أوجبه الحنابلة (62). وكقتل الصائل فإنه يباح للمجني عليه قتل الجانى أو قطع طرفه والمعتبر فى الفقه عدم ترتب أى جزاء على هذا القتل، فعدم ترتب الجزاء من ناحية العقوبة أو المثوبة دليل على أن الفعل مباح مستوى الطرفين ولا خلاف بين العلماء فى أن الإكراه الملجئ يكون سببا من أسباب الإباحة لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: " رفع عن آمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " والمرفوع هو الإثم باتفاق الفقهاء وهذا آية الإباحة الفعل المكره عليه إذ لو لم يكن مباحا لما أرتفع إثمه ولما ارتفعت المؤاخذة عليه، فالمكره على شرب الخمر إكراها تاما يباح له ان يتناول الخمر ولو تناوله لا يقام عليه الحد اتفاقا.
وقال أبو يوسف، من الأحناف: إنه يباح له أن يترك التناول حتى لو مات كان غير آثم، وذهب جمهور العلماء إلى أن المكره على شرب الخمر لا يسعه أن يترك الشرب فالترك الجائز له بمقتضى الإباحة التى تدل على استواء الطرفين يمنع منه انه يفضى الى التهلكة، وهذا محرم يقول الله تعالى: ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة (63) ( وإن كان الإكراه ناقصا فالأحناف على أن الشرب يحرم على المكره فلا يكون الإكراه الناقص سببا من أسباب الإباحة ويرى بعض العلماء أن الإكراه بنوعيه التام أو الناقص يبيح الفعل عملا بالإطلاق الموجود فى حديث " رفع عن آمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ".
غير أن المالكية والظاهرية يرون الإكراه على إتلاف مال الغير لا يبيح الفعل ولو كان الإكراه تاما لتعلق حق العبد به فالشارع لم يبح لإنسان أن يدفع الضرر عن نفسه بإضرار غيره ولقول الرسول: " لا ضرر ولا ضرار "، وقد يكون الاستحسان سببا من أسباب الإباحة كالسلم مثلا محظور أستفيد حظره من قوله عليه الصلاة والسلام: " لا تبع ما ليس عندك " لأن النهى يفيد الحظر، ولكن ورد نص شرعي يقتضى استثناءه من عموم هذا الحظر وهو قوله عليه الصلاة والسلام: " من أسلف فليسلف فى كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم ".
فللمكلف بمقتضى هذا الاستحسان أن يتعامل بالسلم وأن يترك التعامل به فهو مجر بين فعله بناء على الاستحسان،وتركه بناء على أصل الحظر، ومن ذلك أيضاً إباحة عقد الإجارة وهى عقد على المنافع، فالأصل فيها الحظر لاندراجها تحت حديث " لا تبع ما ليس عندك "، إذ المنافع معدومة، لكن ورد نص شرعى يقتضى إخراجها من عموم هذا الحديث وهو قوله عليه الصلاة والسلام: " أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه " 0
ومن ذلك إباحة وقف الكتب وآلات الحرب، و إباحة استعمال سؤر سباع الطير قياسا على سؤر الإنسان، مع أن القاعدة أن الوقف لا يكون إلا مؤيدا، والقياس على سؤر سباع البهائم يقتضى عدم إباحة سؤر الطير.
والبيع بشرط محظور عملا بما روى عن النبى عليه الصلاة والسلام: أنه نهى عن بيع وشرط، ولكن جرى العرف ببيع الساعة مثلا بشرط إصلاحها مدة معينة، فيجريان العرف بذلك جعل البيع بشرط مع كونه محظورا باعتبار النص، مباحا باعتبار العرف. ومن ذلك الاستصناع، فالأصل فيه الحظر لأن المعقود عليه غير موجود فهو مخالف للقواعد العامة التى تقضى بوجود المعقود عليه، لكن لما جرى العرف بذلك كان جريان العرف سببا من الأسباب المبيحة لذلك المحظور، فالمكلف مخير بين أن يتعامل بالاستصناع وبين أن يتركه، وإذا كان هناك فعل حظره الشارع كقتل المسلم بغير حق، فقد تعرض لهذا المحظور مصلحة تجعل القتل مباحا كما إذا تترس الكفار بجماعة من المسلمين، بحيث لو كففنا عنهم لتغلب الكفار علينا واستولوا على دار الإسلام، ولو رمينا الترس وقتلنا المسلمين الذين معهم لاندفعت القوة عن كافة المسلمين قطعا، فهذا القتل وإن كان الدافع له المصلحة إلا أن هذه المصلحة لم يدل دليل من الشرع على اعتبارها ولا على إلغائها، وهى التى كانت سببا فى إباحة القتل المحظور.
وأكثر الفقهاء والأصوليين على أن الطلب بعد الحظر يفيد الإباحة، وإن كان المعتزلة يرون أنه يفيد الوجوب.
وتوقف أمام الحرمين فى حكمه، فقد طلب الرسول ادخار لحوم الأضاحى بعد نهيه عن ذلك، وذلك فيما روى عنه من أنه قال: " كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحى، فكلوا وادخروا ".
كما طلب زيارة القبور بعد نهيه عن ذلك فيما روى عنه من قوله: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها "... فكل من الادخار من لحوم الأضاحى وزيارة القبور كان محظورا، فطلب الشارع فعله فذهب أكثر الفقهاء إلى أن هذا يفيد إباحة ما كان محظورا لا وجوبه أو ندبه (64).
ومن ذلك قوله تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا} (65). وقوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة، فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. فإذا قضيت الصلاة فانتشروا فى الأرض وابتغوا من فضل الله، واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون} (66).
طروء الإباحة على الواجب:
قد ينسخ الواجب فيصبح النسخ سببا فى إباحته اتفاقا، وهذا إذا ورد فى النص الناسخ ما يفيد الإباحة. أما إذا كان النص الناسخ لم يرد فيه ما يدل على إباحته أو تحريمه فهو أيضا يفيد الإباحة عند بعض العلماء.،
وخالف فى ذلك الغزالى لأن الوجوب يتضمن جواز الفعل الحرج في الترك ومعنى ذلك أنه لا حرج فى الفعل ولا حرج فى الترك، وهذا هو المباح لاستواء الطرفين من حيث الفعل والترك.
هل الإباحة حكم شرعى ؟:
أجمع الأصوليون على أن الإباحة حكم شرعى يقول صاحب مسلم الثبوت (67): الإباحة حكم شرعى، لأنه خطاب الشرع تخييرا والإباحة الأصلية نوع منه.
ويقول الغزالى (68): " المباح من الشرع " ولم يخالف فى ذلك الا بعض المعتزلة فإنهم قالوا: " إنه ليس من الشرع، إذ معنى المباح رفع الحرج عن الفعل والترك ، وذلك ثابت قبل السمع، فمعنى إباحة الشارع شيئا أنه تركه على ما كان عليه قبل ورود السمع ولم يغير حكمه "، " وكل ما لم يثبت تحريمه ولا وجوبه بقى على النفى الأصلى فعبر عنه بالمباح " وقد ناقش الشارع المعتزلة بما خلاصته: أن بعض الأفعال نص الشارع على التخيير فيه صراحة، وبعضها ذكر ما يدل على التخيير فيه بغير لفظ صريح وأيده العقل فهذه إباحة شرعية بلا كلام.-
وأما ما لم ينص الشارع فيه على شىء، فيمكن أن يقال أن السمع دل عليه على معنى أنه قال: " ما لم يرد فيه طلب فعل ولا ترك فالمكلف مخير فيه " كما رد الآمدى عليهم بقوله: " نحن لا ننكر أن انتفاء الحرج عن الفعل والترك ليس بإباحة شرعية، وإنما الإباحة الشرعية خطاب الشارع بالتخيير، وذلك غير ثابت قبل ورود الشرع ولا يخفى الفرق بين القسمين، فإذن ما أثبتناه من الإباحة الشرعية لم يتعرض المعتزلة لنفيه، وما نفى غير ما أثبتناه.
مذهب الكعبى فى الإباحة:
هذا وقد نفى الكعبى من المعتزلة وجود المباح فى الشرع إذ كل فعل موصوف بالإباحة مظهره تخيير المكلف بين الفعل والترك هو فى الواقع واجب مأمور به، لأن الأمور فى الشرع مترددة بين أن يكون فعلها هو المطلوب أو تركها هو المطلوب، تبعا للأكثر نفعا، إذ الشارع إنما يأمر بالذى نفعه أكثر من ضرره، ولا يمكن أن يتساوى الفعل والترك بالنسبة لنفع المكلف وضرره وما دام كذلك فلا يكون هناك تخيير فى الحقيقة، لأن الذى نفعه اكثر مأمور به والذى ضرره أكثر منهى عنه لانتفاء التساوى بين النفع والضرر على هذا الوجه ومادام التساوى منتفيا فالتخيير بين الفعل والترك غير متصور، فينتج أنه لا يمكن أن يكون فى الشرع مباح.
فالأكل والشرب كل منهما مطلوب بالقدر الذى يقيم الأود، واللهو المشروع مطلوب بالقدر الذى ينتفع به الذهن والجسم، والنوم مطلوب بالقدر الذى يسلم به العقل والجسم، والسعى فى طلب الرزق مطلوب بالقدر الذى تبقى به الحياة... وهكذا بالنسبة لكل ما اتصف بأنه مباح.
ونص دليل الكعبى الذى نقله الآمدى هو:" ما من فعل يوصف بكونه مباحا إلا ويتحقق بالتلبس به ترك حرام ما، وترك الحرام واجب ولا يتم تركه دون التلبس بضد من أضداده، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وبذا يكون فعل ما ظاهره التخيير واجبا عند الكعبى) ".
وقد نقل الآمدى (69) ردا على الكعبى بأنه " إن كان ترك الحرام واجبا فالمباح ليس هو نفس ترك الحرام بل شىء يترك به الحرام مع إمكان تحقق ترك الحرام بغيره فلا يلزم أن يكون واجبا ".
ثم يقول: " وهذا الموضوع فى غاية الغموض والإشكال ".
هل المباح يدخل تحت التكليف
ومما يتصل بهذين الموضوعين كون المباح داخل تحت التكاليف أم لا؟
فجمهور العلماء اتفقوا على أنه غير داخل فى التكاليف، إذ التكليف يكون بطلب ما فيه كلفة ومشقة، وهذا غير متصور فى التخيير بين الفعل والترك، غير أن أبا إسحاق الأسفرايينى يرى دخول لمباح تحت التكاليف، لأنه يجب اعتقاد إباحته والوجوب من خطاب التكليف.
ولعلهم يدخلون المباح الذى عبروا عنه بالتخيير فى التكليف تغليبا للأحكام التكليفية عليه لكثرة أنواعها من ناحية ، إذ التكليف إلزام ما فيه كلفة ومشقة، ولا شىء من ذلك فى المباح، وقد يكون ذلك التغليب لأن كثيرا من الأفعال المباحة جاءت بصيغة الطلب الذى هو الاقتضاء، وقد يكون ذلك بالنظر إلى وجوب اعتقاد كونه مباحا لا بالنظر إلى الفعل نفسه، وقد قال الشاطبى: إن المباح لا يكون مطلوب الفعل، ولا مطلوب الاجتناب، وأفاض فى الاستدلال على ذلك.
حكم أفعال العباد الاختيارية قبل بعثة الرسول:
نقلت كتب الأصول خلافا طويلا فى هذا فجمهور أهل السنة على أن أفعال العباد الاختيارية قبل بعثة الرسل لا ثواب عليها ولا عقاب فتكون كل الأفعال على البراءة الأصلية التى يعبرون عنها أحيانا بالإباحة الأصلية 0
أما المعتزلة: فيقولون فيما أدرك العقل حسنه وقبحه وانعدام كل منهما فيه أنه ينقسم إلى الأقسام الخمسة التي تعلق فيها حكم الشرع بأفعال المكلفين بعد ورود الشرع وما لم يدرك العقل حسنه ولا قبحه، فإنهم يختلفون فيه على ثلاثة مذاهب: مذهب يقول بالإباحة. وآخر يقول بالتحريم. وثالث بالتوقف.
على أن هذه الأقوال نفسها تنقل عن الأشاعرة من أهل السنة فى الأفعال الاختيارية بصفة عامة قبل البعثة (70).
وأما أفعال المكلفين بعد بعثة الرسل فيما لم يرد نص بحكمه، فيقول الأسنوى (71): الأصل فى الأشياء النافعة الإباحة، وفى الأشياء الضارة الحرمة.
ويقول ابن السبكى (72) فى جمع الجوامع وشرح المحلى: الصحيح فى حكم أفعال العباد بعد البعثة فيما لم يرد به نص أن أصل المضار التحريم والمنافع الحل.
وقد نقل الكمال (73) خلافا بين أهل السنة فى أن الأصل فى الأفعال الإباحة أو الحظر وناقش كلا من الرأيين بما يفيد ان الخلاف فى الأفعال قبل البعثة.
ويقول الشوكانى(74): الأصل فيما وقع فيه الخلاف ولم يرد فيه دليل يخصه أو يخص نوع الإباحة أو المنع أو الوقف فذهب جماعة من الفقهاء إلى أن الأصل الإباحة، وذهب الجمهور إلى أن الأصل المنع، وذهب الأشعرى وبعض الشافعية إلى الوقف وصرح الرازى فى المحصول بأن الأصل فى المنافع الإذن وفى المضار المنع.
اثر الإباحة
- إذن الشارع بالاستهلاك والاستعمال يقتضى ملكية مستقرة بالاستيلاء الحقيقى على المأذون فيه أو اختصاصا لمن سبق فلا يملك أحد أن ينتزعه منه أو ينحيه عنه إذ لا يتصور انتهاؤها من الإذن.
وأما إذن العباد فانه مختلف فى أثره بين المذاهب على الوجه الآتي:
أولا- المذهب الحنفى:
جاء فى رد المختار (75): إذا تعلقت الإباحة بعين كما إذا ترك شخص ماله وقال من شاءه فليأخذه، ومن نثر نقودا ليأخذ كل من تناوله يده أو دعا صديقا إلى تناول طعامه فالجمهور من الحنفية على أن المال يظل مملوكا لصاحبه إلى أن تناله يد المباح له فيمتلكه بأخذه أو بتناوله، فإذا استهلكه بعد ذلك فقد استهلك مالا مملوكا.
وذهب آخرون إلى أن ذلك ليس من قبيل التمليك وأن المباح له لا يتملك المال بتناوله وإنما يظل المال ملكا لصاحبه ويستهلكه المباح له على ملك صاحبه بإذنه ولهذا لا يضمنه وعلى الرأي الأول أفتى فى كثير من المسائل.
وفى الدر المختار (76) أن من دعا قوما إلى طعام وفرقهم على أخونة فليس لأهل خوان مناولة أهل خوان آخر، ولا إعطاء سائل وخادم وهرة وكلب، ومثله فى الفتاوى الهندية (77) والبرازية (78).
وعلله صاحب الجوهرة بأنه أباح لهم خوانهم دون غيرهم، فإن ناول أهل خوان غيرهم لا يحل لهم أن يأكلوه. ومثله فى الفتاوى الهندية(79) بل ذكر صاحب الفتاوى الهندية أنه لا يجوز أن يدفع الضيف إلى ولد صاحب المائدة وعبده وسنوره، ثم قال: أن الاستحسان جواز ذلك.
وفى التتارخانية (80) عن فتاوى النسفى:
سئل نجم الدين عن امرأة أعطت زوجها مالا بسؤاله ليتوسع بالتصرف فيه فى المعيشة فظفر بالزوج بعض الغرماء واستولى على المال، هل للمرأة أن تأخذ ذلك المال من ذلك الغريم؟
قال: إن كانت وهبته للزوج أو أقرضته له فلا ، وإن كانت أعطته ليتصرف فيه على ملكها فلها ذلك.
وفى الفتاوى الهندية أيضا: أن من وضع مقدارا من السكر أو عددا من الدراهم بين قوم وقال: من شاء أخذ منه شينا، أو قال: من أخذ منه شيئا فهو له فكال من اخذ منه شيئا يصير ملكا له ولا يكون لغيره ان يأخذ ذلك منه (81)
ومن أصرح ما أورده الفقهاء فى هذا المقام من عدم أفاد الإباحة التمليك ما جاء فى مبسوط السرخسى، من أن المباح له الطعام لا يملكه و إنما يتناوله على ملك المبيح وفى مرير الرافعى ما يقيد أنه يستهلكه وهو على ملك صاحبه.
ثانيا- فى الفقه الشافعى:
جاء فى حاشية البجرمى على الإقناع (82) أن رجلا لو أعطى آخر كفنا لأبيه فكفنه فى غيره فعليه رده له إن كان لم يقصد التبرع على الوارث وعلم قصده، فان قصد التبرع وعلم قصده كان هبة للوارث فلا يلزمه رده، وعبارة الشافعية تنفق فى دلالتها مع مسلك بعض الأحناف من أن مجرد الإباحة لا تفيد تمليكا و إنما هى طريق إليه.
يقول القليوبى فى حاشيته على شرح المنهاج (83): " إن الملك فى الضيافة يترتب عليها بالوضع فى الفم أو بالازدراد على الأصح، ورجح صاحب نهاية المحتاج تبعا للشرح الصغير والمفتى به عندهم أنه يملكه بوضعه فى فمه ".
ثم قال: إنه يحل التقاط المنثور فى الأملاك وليمة النكاح، كالسكر واللوز والفلوس، وأن من أخذ من المنثور أو التقط وبسط ثوبه لأجله فوقع فيه ملكه.
وفى حاشية الباجورى (84) على ابن القاسم والمنهاج وشرحه أيضا (85).
يجوز للضيف الأكل مما قدم له بلا لفظ من مضيفه اكتفاء بالقرينة العرفية كما فى الشرب من السقايات التي فى الطريق إلا أن ينتظر الداعى غيره أو يكون قبل تمام السفرة، فلا يأكل حتى يحضر أو يأذن المضيف لفظا بخلاف غير ما قدم له فليس له الأكل منه.
ولا يتصرف فيما قدم له بغير الأكل لأنه المأذون فيه عرفا، فلا يطعم منه سائلا ولا هرة إلا بإذن صاحبه أو علم رضاه. نعم له أن يلقم منه غيره من الأضياف إلا أن يفاصل المضيف الطعام بينهم فليس لمن خص بنوع أن يطعم غيره منه ويملك الضيف ما التقمه بوضعه فى فمه بمعنى أنه إن ازدرده استقر على ملكه، وإن أخرجه من فمه تبين بقاؤه على ملك صاحبه.
ثالثاً - فى الفقه المالكى:
جاء فى حاشية الصاوى على الشرح الصغير للدردير (86):
" هل الطعام المقدم للضيوف يملكونه بمجرد التقديم أو لا يملكونه إلا بالأكل وعلى كل لا يجوز للواحد من الضيوف أن يعطى أحدا منه شيئا بغير إذن صاحبه بناء على أنه لا يملكه إلا بالأكل أو بغير إذن من بقية أصحابه بناء على ملكهم له بالتقديم فعلى الأول العبرة بإذن بعضهم وعلى الثانى العبرة بإذن صاحب الطعام.
وفى فتاوك عليش(87): " وسئل سيدى أحمد الدردير عن ذى فرح نثر على حاضريه دراهم فوقع فى حجر رجل منهم دراهم أكثر من غيره فهل يختص بها عن الحاضرين؟ قال: يختص الذى سقط فى حجره الدراهم الزائدة بها.
وينقل القرطبى المالكى (88) وغيره من المفسرين عند قوله تعالى فى سورة النور: " ولا على أنفسكم أن تأكلوا (89) "، ينقلون عن أئمة السلف أن الإباحة فى هذه المسائل لا تعدو أن تكون إذنا بالانتفاع القاصر، وأنه لا يجوز للمباح له أن ينقل العام إلى الخارج ولو إلى نفسه، هذا و إباحة المنافع كإباحة الأعيان لا تقتضى تمليكا فلا يملك المأذون له الإنابة ولا المعاوضة، وقد سمى القرافى من المالكية (90) إعطاء هذا الحق بتمليك الانتفاع وفرق بينه وبين ملك المنفعة وعبارته: تمليك الانتفاع يراد به أن يباشره هو بنفسه فقط وتمليك المنفعة أعم وأشمل فيباشر بنفسه ويمكن غيره من الانتفاع بعوض وبغير عوض، وتمليك الانتفاع كسكنى المدارس والرباط، ومنه الوقف على السكن إذا لم يزد على ذلك فإن زاد كقوله ينتفع بجميع أنواع الانتفاع، فهو تصريح بتمليك المنفعة وصار من النوع الثانى.
وفى تهذيب الفروق (91): " القاعدة أن الأصل بقاء الأملاك على ملك أربابها والنقل والانتقال على خلاف الأصل، فلذا متي شككنا فى رتب الانتقال حملناه على أدنى المراتب استصحابا للأصل فى الملك السابق ".
وفرع على هذا أنه لا يجوز للضيف أن يبيع الطعام المعد للضيافة، ولا أن يأكله للغير، بل يكله هو خاصة، على جرى العادة. نعم، له إطعام الهرة اللقمة واللقمتين ونحوهما بشهادة العادة لذلك.
رابعاً - فى الفقة الحنبلى:
ينقل ابن قدامة فى المغنى (92) أن النثار وإن كان مكروها إلا أنه لو حصل فى حجره شىء من النثار فهو له غير مكروه لأنه. مباح حصل فى حجره فملكه كما لو وثبت سمكة من البحر فوقعت فى. حجره، وليس لأحد أن يأخذه من حجره (93).
وفى المحرر فى باب الوليمة: " النثار والتقاطه مكروه تنزيها وعنه لا يكره كالمضحى يقول من شاء اقتطع ويملكه مرن أخذه أو وقع فى حجره مع القصد له وبدون القصد وجهان ".
خامسا- فى الفقة الظاهرى (94):
جاء فى المحلى:
" وكدار يبيح سكناها ودابة يمنح ركوبها وأرض يمنح زراعها وعبد يخدمه فما حازه الممنوح من كل ذلك فهو له لا طلب للمانح فيها وللمانح أن يسترد عين ما منح متى شاء سواء عين مدة أو لم يعين أشهد أو لم يشهد لأنه لا يحل مال أحد بغير طيب نفسه إلا بنص، ولا نص فى هذا وتعيينه المدة عدة والوعد لا يلزم الوفاء به فى باب النذور.. فما قبضه المجعول له فلا رجوع لصاحب الرقبة فيه وما لم يقبضه المجعول له فلصاحب الرقبة استرجاع رقبة ماله.
سادسا - فى فقة الإمامية
جاء فى مفتاح الكرامة (95): ملك المباحات متوقف على الحيازة والنية، ومع هذا فقد جاء فى موضع أخر: " إن المباح لا يحتاج فى تملكه إلى نية إذ نيته عين إحرازه عند بعضهم.
سابعاً - فى فقة الزيدية:
جاء فى البحر الزخار (96): النثار مباح إذ ما نثره مالكه إلا إباحة له ولا قول للهادى فيه لا نصا ولا تخريجا. وفيه: من مد ثوبه فله ما وقع فيه كالشبكة فإن سقط منه شئ ففى جواز أخذه تردد الأصح لا يجوز. وكذا انتهاب الناهب واحضاره يغنى عن الإباحة وقيل لا قلنا القرينة كافية، و إنما يؤكل بالإباحة كالطعام وله الرجوع ما لم يمضغ على الخلاف فى الطعام، قال وفيه نظر. إذ قد جعلوا له حكم الملك بعد الإحراز، وفيه أيضا: الإباحة لا تفتقر إلى لفظ بل تكفى القرائن كتقديم الطعام لعرف المسلمين والجهاز للمجهز ما لم يصدر منه لفظ تمليك أو قرينة هدية. إذ مجرد التسليم غير كاف بل ملك لمن صار إليه العرف المطرد فى دفعه تمليكا كالهدية وعدم ارتجاعه لا غرامة لما أتلف منه قولا واحدا إذ أدنى حالة الإباحة.
ثامناً - فى فقه الإباضى:
يقول صاحب شرح النيل: " ولا تناول أحداً شيئا على مائدة غيرك وهذا حق على الضيف فإن شاء صاحب الطعام أعطى سائلا أو قطا أو غيرهما أو إذن وللضيف فى الإعطاء ... وإن اعطى بدلالة عليه صحيحه مقبولة شرعا جاز، وإن رأى ما لابد فى حسن النظر من إعطائه شاور صاحب المال.
ما تنتهى به الإباحة
أشرنا إلى أن الإباحة الشارع لا يتصور إنهاؤها من قبله بعد انتهاء فترة الوحي، وأما الإباحة التى مصدرها العباد فإن الإذن فيها ينتهى بانتهاء المدة إن كان هناك أمد من الأذن أو بعدول الآذن عن إذنه ورجوعه فيه أو بوفاته أو بوفاة المأذون له، فإذا وجد شىء من هذه الأشياء بطل حق المأذون
له فى الانتفاع ولم يبق لورثته حق فيه، لأن الإباحة لا تفيد تمليكا وإنما تفيد حق انتفاع شخصا وانتهاء الإذن بانتهاء أمده أمر واضح لا يحتاج إلى بيان.
أما أنتهاؤه برجوع الآذن فلأن هذا الإذن لا يتقيد به الآذن ولا يلزمه المضي فيه عند جمهور العلماء لأنه تبرع كطرف.
غير أن الإباحة لا تنتهى بمجرد الرجوع وإنما تتوقف على علم المأذون له بذلك فى قول عند الشافعية.
وروى السيوطى فى الأشباه قولا آخر يفيد أن الإباحة تنتهى بمجرد رجوع الآذن ولو لم يعلم المأذون له بذلك.
و ما انتهاؤها بموت الأذن فلأن الاستحقاق منوط ببقاء الإذن وقد بطل بالوفاء، وكذلك تنتهي الإباحة بوفاة المأذون له لأن حق الانتفاع رخصة شخصية فلا تنتقل إلى الورثة.

__________
 
إبانة

بيان العنى: يقال فى اللغة: بأن الأمر يبين فهو بين: أى واضح. وبان الشىء إذا انفصل فهو بائن وأبنته: فصلته ويقال: ضربه فأبان رأسه عن جسده أي فصله. وبانت المرأة بالطلاق فهى بائن وأبانها زوجها فهى مبانة. والبين بفتح الباء يطلق على الوصل كما يطلق على الفرقة فهو من الأضداد. وأستعمل الفقهاء كلمة إبانة بمعنى الفرقة والفصل فى إبانة جزء من الحيوان أو الصيد وفى إبانة المرأة بالطلاق
حكم ما أبين من الحيوان قبل زكاته:
إذا أبين جزء من حيوان حى مأكول اللحم - غير السمك والجراد- قبل ذبحه قال فقهاء الحنفية إن الجزء المبان يعتبر ميتة فالا يحال أكله. فإذا قطع إنسان قطعة من إليه الشاة أو من فخذها أو من سنم البعير أو فخذه أو من دجاجة قبل ذبح الشاة أو البعير أو الدجاجة فإن الجزء المبان لا يحل أكله لأن شرط حل الأكل من الحيوان البرى المأكول - غير الجراد- هو الذكاة فلا يحل الأكل من الحيوان بدون الذكاة لقوله عز وجل ( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم ((1) استثنى سبحانه وتعالى من الأشياء المذكورة المحرمة ما ذكى والاستثناء من التحريم إباحة. وأيضا قال تعالى" يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات "(2) وقال: عز وجل (ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ((3) والحيوان البرى لا يعتبر طيبا إلا بخروج الدم المسفوح وذلك بذكاته. وروى أن أهل الجاهلية كانوا يقطعون قطعة من الية الشاة أو من سنام البعير فيأكلونها فلما بعث النبى عليه الصلاة والسلام نهاهم عن ذلك فقال عليه السلام: (ما أبين من الحى فهو ميت) وهذا الجزء المبان لا يحل أكله وإن ذبح الحيوان بعد ذلك لأن حكم الذكاة لم يكن ثابتا ولا موجودا وقت الإبانة.
ويعتبر هذا الجزء ميتا لا تحله ذكاة الحيوان بعد حتى ولو بقى متعلقا بجلد الحيوان لأن بقاءه متعلقا بالجلد لا اعتبار له فكان وجوده بمنزلة العدم فهو مبان حكما. أما إذا بقى متعلقا باللحم فإن ذكاة الحيوان تحل أكل الحيوان واكل الجزء المبان لأنه لا يزال معتبرا من جملة الحيوان فذكاة الحيوان تكون له ولما أتصل به. والزكاة التى تحل أكل الحيوان وأكل الجزء المبان الذى بقى متعلقا باللحم يجب أن تكون مستوفية لشرائطها الشرعية التى سيأتى بيانها كما أن الحيوانات التى يحل أكلها والتى لا يحل سيأتى بيانها- انظر ذبائح وحيوان- (4).
ومذهب المالكية كمذهب الحنفية بالنسبة لما تقدم مستندين فى ذلك إلى قوله عليه السلام (ما قطع من البهيمة وهى حية فهو ميته) غير أن فقهاء المالكية خالفوا الحنفية فيما إذا بقى الجزء المبان متعلقا باللحم إذ قالوا إن الجزء المبان يعتبر ميتا لا تحله ذكاة الحيوان إذا بقى متعلقا بجزء يسير من جلد الحيوان أو اللحم (5)
ومذهب الشافعية كمذهب الحنفية أيضا بالنسبة لما تقدم غير أن فقهاء الشافعية. يقولون أن العضو المبان إذا بقى متعلقا بجلد الحيوان فقط حل بذبح الحيوان لأن كلمة الإبانة لا تصدق على مثل ذلك (6). ومذهب الحنابلة كمذهب الشافعية استندوا إلى الحديث الذى استند إليه فقهاء المالكية (7). ومذهب الظاهرية والزيدية والإباضية والإمامية كمذهب الحنفية بالنسبة لما أبين من حيوان حى مأكول اللحم - غير السمك والجراد - قبل ذبحه فلا يحل أكل الجزء المبان حتى ولو ذكى الحيوان بعد ذلك (8).
حكم إبانة جزء من الجراد أو السمك
قال فقهاء الحنفية: إذا أبين جزء من الجراد او السمك وهو حى أكل الجزء المبان. وقوله عليه الصلاة والسلام: ( وما أبين من الحى فهو ميت (، وأن تناول بعمومة السمك والجراد، إلا أن ما أبين من السمك والجراد يحل أكله لأن ميتة السمك والجراد يحل أكلها لقوله عليه الصلاة والسلام: " أحلت لنا ميتتان ودمان أما الميتتان فالسمك والجراد و اما الدمان فالكبد والطحال "، وهذا الحديث صريح فى أن ميتة السمك والجراد يحل أكلها فما أبين منها وإن كان ميتة إلا أنه يحل أكله لهذا الحديث وهو يعتبر استثناء من حديث ( ما أبين من الحى فهو ميت (.
كما أن حديث " أحلت لنا ميتتان إلخ "، حديث مشهور مؤيد بالإجماع فيجوز تخصيص الكتاب به، فقوله تعالى: ( حرمت عليكم الميتة ( (9) خصصت بهذا ا لحديث.
والجزء المبان من السمك يحل أكله سواء أكان السمك حيا أما ميتا إلا أنهم استثنوا من ذلك السمك الطافى فلا يحل أكل الجزء المبان منه لأن السمك الطافى لا يحل أكله عند الحنفية.
والطافى هو الذى مات تحف أنفه فطفا فوق الماء وبطنه من فوق. أما الذى لم يمت وتحف أنفه فلا يعتبر طافيا مات بسبب إنسان مسلم أو غير مسلم أو قتله حيوان. والحكم الخاص بحل الجزء المبان من السمك يشمل جميع أنواع السمك ومنه الجريت بكسر المعجمة وتشديد المهملة وهو سمك اسود مدور والمارماهى وهو سمك فى صورة الحية.
وهذا الحكم خاص بأنواع السمك فقط فلا يشمل باقى أنواع الحيوانات المائية فما أبين من غير السمك لا يحل أكله لأن الحيوانات المائية غير السمك لا يحل أكلها(10).
ومذهب المالكية كمذهب الحنفية بالنسبة لإبانة جزء من السمك غيرأنهم قالوا إن جميع أنواع الحيوان المائى حكمها حكم السمك. أما الجراد فلا يؤكل عندهم من غير ذكاة. وذكاته عندهم أن يقتل إما بقطع رأسه أو بغير ذلك فإذا أبين من الجراد جناحه فمات من ذلك أكل الجراد وما أبين منه لأن هذه ذكاته(11).
واختلف فقهاء الشافعية فى حكم الجزء المبان من السمكة وهى حية فيرى بعضهم أنه لا يحل أكل الجزء المبان لعموم قوله عليه السلام(ما أبين من الحى فهو ميت) والأصح عندهم أنه لا يحل أكل الجزء المبان من السمك لأنه يحل أكل ميتة السمك وما حلت ميتته لا حاجة الى تذكيته. وجميع أنواع الحيوان المائى وهى التى لا تعيش إلا فى البحر ولا تبقى فى البر إلا بمقدار حياة المذبوح فقط حكمها عد الشافعية حكم السمك. والجراد عندهم حكمه حكم السمك فى جميع أحواله(12).
مذهب الحنابلة (13): وقال فقهاء الحنابلة أن السمك وغيره من ذوات الماء التى لا تعيش إلا فيه يحل أكل ميتته لقوله عليه السلام فى البحر(هو الطهور ماؤه الحل ميتته) وهذا أيضا هو حكم الجراد عندهم والظاهر من ذلك إن الجزء المبان من كل يحل أكله.
وقال ابن حزم الظاهرى:
أن ميتة الجراد حلال وكذلك السمك وكل ما يسكن جوف الماء ولا يعيش إلا فيه.
وأما ما يعيش فى الماء والبر كالسلحفاة فلا يحل أكله إلا بذكاة عدا الضفدع فإنه لا يحل أكله أصلا.
ويؤخذ من هذا أنه إذا أبين جزء من حيوان حى يعيش فى الماء وفى البر مما يؤكل عندهم قبل ذكاته فلا يحل أكل هذا الجزء المبان كما أن تذكية الحيوان بعد ذلك "لا تحل الجزء المبان(14).
ومذهب الزيدية كمذهب الحنفية بالنسبة لإبانة جزء من الجراد أو السمك.
والجزء المبان من السمك يحل أكله سواء أبين من السمك وهو حى أو كان قد مات بسبب اصطياد الإنسان له أو بسبب جزر الماء عنه وبقاء السمك مكشوفا أو بسبب قذف الماء له فى البر أو بسبب نضوب الماء أو بسبب ازدحامه فى الحظيرة التى أعدها الصائد لإصطياد السمك. فان مات السمك بسبب سوى ما تقدم اعتبر طافيا فلا يحل أكله لقوله عليه الصلاة والسلام: " ما وجدتموه طافيا فلا تأكلوه " ومن قبيل الطافى عندهم ما قتله حيوان. فهم يخالفون الحنفية فى بيان معنى الطافى.
والحكم الخاص بحل الجزء المبان من السمك يشمل عندهم كل ما يحل آكله من حيوان الماء. أما ما لا يحل أكله من حيوان الماء فلا يحل أكل الجزء المبان منه. وهم يحرمون من حيوان الماء ما حرم شبهه من حيوان البر كالمارماهى والسلحفاة كما أن ما يعيش فى الماء والبر كالضفدع يحرم أكله لخبثه (15).
ومذهب الإباضية كمذهب الحنفية فى أن ما أبين من السمك والجراد يحل أكله سواء أكان السمك أو الجراد حيا أو ميتا والصحيح من مذهبهم أن صيد البحر يشمل كل حيوان مائى وإن كان على صورة كلب أو خنزير أو آدمى(16).
وفقهاء الإمامة يقولون: أن السمك والجراد لا يحل أكلهما بدون التذكية. وتذكية السمك عندهم استيلاء الإنسان عليه خارج الماء حيا سواء أخرجه الإنسان من الماء أو خرج بنفسه من الماء فأدركه الإنسان حيا وأخذه ولو كان الآخذ له غير مسلم متى شاهده المسلم والراجح عندهم أنه يجوز أكله حيا وقيل لا يباح حتى يموت. وبناء على ما تقدم فإن ما أبين من السمك وهو حى يحل أكله على الرأى الأول ولا يحل أكله على الرأى الثانى.
وتذكية الجراد عندهم أخذه حيا باليد أو الآلة ولو كان الأخذ له غير مسلم إذا شاهده المسلم.
ويباح أكله حيا إذا كان الجراد يطير بنفسه. أما الدبى- أى الجراد قبل أن يطير- فلا يحل أكله.
وبناء على ذلك فإن ما أبين من الجراد وهو حى يحل أكله متى كان الجراد يطير بنفسه وذكى (17)
حكم ما آبين من الحيوان بعد تذكيته وقبل موته:
قال فقهاء الحنفية: إذا أبين جزء من الحيوان بعد ذبحه وقبل موته حل أكل هذا الجزء مع الكراهة سواء أكان الجزء المبان هو الرأس أو غيرها. وقوله عليه السلام "ما أبين من الحى فهو ميت " لا يقتضى تحريم هذا الجزء لأن كلمة الحى وردت فى الحديث مطلقة والمطلق ينصرف إلى الفرد الكامل وذلك بأن يكون الحى حيا حقيقة وحكما. والحيوان بعد ذبحه وقبل موته وإن كانت فيه حياة حقيقة إلا أنه يعتبر ميتا حكما لأن الشارع لا يعتبر مثل هذه الحياة ولا يرتب عليها حكما و إنما كره إبانة جزء من الحيوان فى هذه الحالة لأنه تعذيب بلا فائدة. وكل ما فيه تعذيب للحيوان بلا فائدة فهو مكروه (18) ومذهب المالكية كمذهب الحنفية فى ذلك (19) والظاهر من مذهب الشافعية إن الجزء المبان فى هذه الحالة يحل أكلة لأن شرط حل أكل الحيوان البرى المأكول هو الزكاة وقد وجدت ولم يشترطوا فى حل أكل الموت مع الذكاة. وأما الإبانة فى ذاتها فقال بعضهم ان ذلك محرم وقال بعضهم أنه مكروه والحرمة أو الكراهة إنما هى لذات الفعل لما فى ذلك من تعذيب الحيوان (20)
ومذهب الحنابلة كمذهب الحنفية فى ذلك فيحل أكل الجزء المبان عندهم لأن الإبانة كانت بعد حصول الزكاة فكانت شبيهة بالإبانة بعد الموت. و أما الكراهة فلأن إبانة هذا الجزء قد يترتب عليها سرعة زهوق الروح فضلا عن أنه تعذيب للحيوان وذلك مكروه واستندوا فى ذلك الى ما روى عن أبى هريرة رضى الله عنه قال (21) بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بديل ابن ورقاء الخزاعى على جمل أورق يصيح فى فجاج منى بكلمات منها " لا تجعلوا الأنفس أن تزهق " واستندوا أيضا إلى قول عمر رضى الله عنه:" لا تجعلوا الأنفس حتى تزهق ".
وقال ابن حزم الظاهرى: أن الجزء المبان فى هذه الحالة لا يحل أكله مادام الحيوان حيا فإذا مات الحيوان حل أكله وأكل الجزء المبان واستندوا فى ذلك إلى قوله تعالى: ( فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها (22) ( فالله لم يبح أكل شىء من الحيوان بعد تذكيته إلا بعد وجوب الجنب وهو فى اللغة الموت فإذا مات الحيوان حل أكله وأكل الجزء المبان (23).
ومذهب الزيدية كمذهب الحنفية فى ذلك واستندوا فى كراهة الإبانة فى هذه الحالة إلى قوله عليه الصلاة والسلام: " لا تعجلوا الأنفس..." الحديث. ولأنه تعذيب للحيوان بلا فائدة (24).
وقال فقهاء الإباضية أنه يحرم إبانة جزء من الحيوان بعد ذبحه وقبل موته ولا يحل أكل هذا الجزء المبان لأنه أبين من حى أما باقى الحيوان فقد اختلفوا فى جواز أكله. وقال فقهاء الإمامية: " إذا ذبحت الذبيحة وسلخت أو سلخ شىء منها قبل أن تموت فليس يحل أكلها "، وقالوا أيضا: إن تذكية الحيوان مشروطة بموته بالذبح أو النحر أو ما فى حرصهما.
وهذا يفيد أنه إذا أبين جزء من الحيوان بعد ذبحه حرم أكل الجزء المبان كما حرم أكل باقى الحيوان أما الفعل فى ذاته فقال بعضهم أنه محرم استنادا إلى تلازم تحريم الأكل وتحريم الفعل وقال بعضهم أنه مكروه لاشتماله على تعذيب الحيوان. وهذا الحكم خاص بإبانة غير الرأس أما الرأس فقد اختلفوا فى إبانتها بعد الذبح وقبل الموت فقال بعضهم أن ذلك مكروه لحديث روى عندهم هو: " لا تنخع ولا تقطع الرقبة بعد ما تذبح "، وقال بعضهم أن ذلك حرام لأن النهى فى الحديث المشار إليه يقتضى التحريم. كما اختلفوا فى أن إبانة الرأس تحرم الذبيحة أم لا؟
فقال بعضهم أن ذلك يحرم الذبيحة لأن الزائد عن قطع الأعضاء يخرجه عن كونه ذبحا شرعيا فلا يكون مبيحا وقال بعضهم أن الذبيحة لا تحرم بذلك لأن المعتبر فى الذبح قد حصل فلا اعتبار بالزائد (25).
رمى الصائد الصيد فأبان عضوا منه هل يؤكل هذا العضو ؟
قال فقهاء الحنفية إذا رمى الصائد صيدا يؤكل لحمه فأبان عضوا منه فان كانت حياة الصيد ممكنة بعد إبانه هذا العضو- أى بقيت فيه حياة فوق حياة المذبوح- فان العضو المبان لا يؤكل لأن العضو المبان قد أبين من حى فهو ميتة لقوله عليه السلام " ما أبين من الحى فهو ميت " والصيد هنا يعتبر حيا حقيقة وحكما أما الحقيقة فلوجود الحياة فيه و أما حكما فلأن الشارع أعتبره حيا بعد إبانة العضو منه.
ولذلك لو وقع الصيد فى الماء بعد ذلك فمات فإنه لا يؤكل لحمه لاحتمال أن يكون موته بسبب وقوعه فى الماء.
وإذا بقى العضو متعلقا بالصيد فى هذه الحالة ، فإن كان بمكن التئامه فإن هذا العضو يكون حكمه حكم باقى الصيد لأنه لا يصدق عليه أنه أبين، وإن كان لا يمكن التئامه كأن بقى متعلقا بجلد الصيد فقط فإنه لا يؤكل لأنه مبان حكما.
وإن كانت حياة الصيد بعد إبانة العضو منه غير ممكنة- أى لم تبق فيه حياة أكثر من حياة المذبوح- فإنه يحل كل الجزء المبان سواء كان الجزء المبان هو الرأس أو غيرها لأن العضو المبان فى هذه الحالة هو مبان من حى صورة لا حكما إذ الحياة الباقية فيه لا يعتبرها الشارع ولا يرتب عليها حكما ولذلك لو وقع الصيد فى الماء أو تردى من جبل أو سطح فمات يحل أكله.
والجزء المبان إنما يحل أكله إذا تحققت الشروط التى اشترطها الفقهاء فى الصائد وفى الصيد التى سيأتى بيانها (26) (انظر صائد وصيد).
وقال فقهاء المالكية إذا أبان، الجارح أو السهم جزءا من الصيد فان كان فى إبانة هذا الجزء إنفاذ مقتل أكل الجزء المبان وإن لم تكن فى الإبانة إنفاذ مقتل لا يحل أكل الجزء المبان لأنه ميتة حتى ولو بقى متعلقا بجزء يسير من جلد الصيد أو لحمه.
وقيد فقهاء المالكية الصيد بما له نفس سائلة - أى دم يسيل - لأن مالا نفس له، سائلة كالجراد مثلا إذا قطع جناحه فمات من ذلك أكل الجميع لأن هذه ذكاة (27).
وقال فقهاء الشافعية إذا رمى الصائد الصيد فأبان عضوا منه بجرح مذفف- أى مسرع للقتل- فمات فى الحال حل العضو المبان كما يحل باقى الصيد. أما إذا لم يمت فى الحال ثم تركه بعد قدرته عليه حتى مات لم يحل العضو المبان وكذلك لا يحل الصيد لأن شرط حل الصيد أن يموت قبل أن يتمكن من ذبحه أما إذا أدركه ولو بعد جرح مذفف وفيه حياة مستقرة- أى فيه حركة قوية أو تفجر دم أو قيام- وأمكنه ذبحه ولم يذبحه ومات فإنه يحرما. أما إذا أبان منه عضوا بجرح غير مذفف ثم تمكن من ذبحه وذبحه أو لم يتمكن من ذبحه ولكنه جرحة جرحا آخر مذففا حرم الجزء المبان وحل باقى الصيد. وإذا لم يتمكن من ذبحه ومات بالجرح الأول قيل يحل الجزء المبان والمعتمد أنه يحرم لأنه أبين من حى. (28).
وقال فقهاء الحنابلة إذا رمى الصائد الصيد فقطعه قطعتين متساويتين أو متفاوتتين أو أبان رأسه أو عضوا آخر منه ولم يبق فى الصيد حياة مستقرة حل العضو المبان وباقى الصيد وإذا بقى فى الصيد حياة مستقرة يمشى معها ويذهب ويجئ فلا يحل العضو المبان لأنه مبان من حى. وإذا بقى العضو معلقا بجلد الحيوان حل العضو إذا حل الحيوان لأن العضو المعلق بالجلد لا يصدق عليه أنه أبين (29).
وابن حزم الظاهرى وافق الحنفية فيما إذا رمى الصائد الصيد فأبان منه عضوا ولم تبق فيه حياة أكثر من حياة المذبوح فقالوا أن العضو المبان يؤكل كما يؤكل باقى الصيد.
أما إذا بقى فى الصيد حياة أكثر من حياة المذبوح فإن مات الصيد بسبب هذا الجرح لكن الصائد لم يدركه إلا بعد موته أو أدركه وقد حضرته أسباب الموت أكل العضو المبان كما يؤكل باقى الصيد ولا حاجة الى تذكيته. وأما إذا أدركه وفيه حياة أكثر من حياة المذبوح فإن الجزء المبان لا يحل أكله (30).
وقال فقهاء الزيدية ما أبين من الصيد يحل أكله إذا كانت الإبانة بضربة أدت إلى موت الصيد (31).
وقال فقهاء الإباضية إذا رمى الصائد الصيد فأبان رأسه فان وجد الصيد ميتا أكلت الرأس والجسد وإن وجد حيا حرم أكل الكل وإن كانت هذه الحياة غير معتادة. وإن أبان عضوا غير الرأس حرم هذا العضو سواء وجد الصيد ميتا أو حيا وقيل يحل العضو ان مات الصيد بمجرد الإبانة. والعضو المبان إن بقى معلقا بالجلد فقد يعتبر مبانا حكما وإن بقى معلقا باللحم لا يعتبر مبانا (32).
وقال فقهاء الإمامية إذا أبين من الصيد عضو بسهم أو سيف أو رمح فإن بقى فى الصيد بعد الإبانة حياة مستقرة لا يؤكل العضو المبان وإن لم يبق فى الصيد حياة مستقرة حل أكل العضو المبان (33)
إبانة المرأة بالطلاق:
الطلاق قد يكون بائنا وذلك بأن يطلق الرجل زوجته قبل الدخول بها أو يطلقها على مال أو يطلقها الطلقة الثالثة- إلى غير ذلك من أقسام الطلاق البائن- وفيه يقال أن الزوجة طلقت تطليقه بائنة وهذا هو المقصود من إبانة المرأة بالطلاق(انظر بائن، طلاق).

__________

(1) سورة المائدة آية 3
(2) سورة المائدة آية 4
(3) سورة الأعراف آية 157
(4) البدائع ج5 ص 40،44،45 طبعة 1328 هجرية الدر المختار ، حاشية ابن عابدين ج5 ص 270 الطبعة الثالثة سنة 1299 هجرية.
الهداية وحواشيها ج8 ص 50 ،65 طبعة سنة 1318 هجرية.
(5) راجع بداية المجتهد ج1 ص 357 طبعة سنة 1933 هجرية.
الشرح الكبير ج2 ص 109 طبعة سنة 1355 هجرية ج1 ص 53.
(6) راجع: شرح المحلى على المنهاج وحاشيتى القليوبى وعميرة ج4 ص 241 طبعة سنة 1368 هجرية.
(7) راجع المغنى ج11 ص40 ،41،53،54 طبعة 1348هجرية وشرح منتهى الإرادات ج3 ص 415 طبعة 1366 هجرية
(8) راجع فى فقه الظاهرية: المحلى لابن حزم ج7 ص 398،437،438،449 وراجع فى فقه الزيدية البحر الزخار ج4 ص 309 طبعة سنة 1366. وفى فقه الإباضية شرح النيل ج2 ص 516،536،537،570 وفى فقه الإمامية الروضة البهية ج2 ص 264 ،273 طبعة سنة 1378هجرية.
(9) سورة المائدة أية 3.
(10) راجع الدر المختار وحاشية ابن عابدين ج5 ص 267 ،268 الطبعة الثالثة سنة 1299هجرية.
والبدائع والهداية وحواشيها.
(11) راجع بداية المجتهد ج1 ص 356،359 طبعة سنة 1333 هجرية والشرح الكبير وحاشية الدسوقى ج2 ص 109 ،114 طبعة 1355 هجرية.
(12) راجع: شرح المحلى على المنهاج وحاشية القليوبى وعميرة ج4 ص 241 طبعة سنة 1368 هجرية
(13) راجع المغنى ج11 وشرح منتهى الإرادات ج3 المراجع السابقة الإشارة إليها.
(14) راجع المحلى لابن حزم ج7 ص 393 ، 398 ، 437 ، 438 طبعة سنة 1347 هجرية
(15) راجع البحر الزخار ج4 ص 291 ،302 ،304 طبعة سنة 1366 هجرية.
(16) راجع شرح النيل ج2 ص 574.
(17) راجع الروضة البهية ج2 ص 272 ، 273 طبعة سنة 1378 هجرية.
(18) راجع الدر المحتار وحاشية ابن عابدين ج5 ص 258 ، 270 الطبعة الثالثة سنة 1299 هجرية
(19) راجع حاشية الدسوقى ج2 ص 109 طبعة سنة 1355 هجرية
(20) راجع شرح المحلى على المنهاج وحاشيتى القليوبى وعميرة ج4 ص 239 ، 242 ، 243 طبعة سنة 1368 هجرية
(21) راجع شرح منتهى الإرادات ج3 ص 409 طبعة سنة 1366 هجرية، والمغنى ج11 ص 53 ، 54 طبعة سنة 1384 هجرية.
(22) آية 36 سورة الحج.
(23) راجع المحلى لابن حزم ج7 ص 398 ،449 طبعة 1349 هجرية.
(24) راجع البحر الزخار ج4 ص 308 طبعة 1366 هجرية.
(25) راجع شرح النيل ج2 ص 536 ، 537.
(26) راجع الروضة البهية ج2 ص 270 ، 273 طبعة سنة 1378 هجرية..
(27) راجع الدر المختار وحاشية ابن عابدين ج5 ص 418 ، 419 الطبعة الثالثة سنة 1299 هجرية.
والهدايه وحواشيها ج8 ص 185 ، 186.
والبدائع ج5 ص 44 ، 45 طبعة سنة 1328 هجرية والزيلعى ج6 ص 59 طبعة سنة 1315 هجرية.
(28) راجع الشرح الكبير وحاشية السوقى ج2 ص 109 طبعة سنة 1355 هجرية
(29) راجع شرح الجلال المحلى على المنهاج وحاشيتى القليوبى وعميرة ج4 ص 241 ، 242.
(30) راجع شرح منتهى الإيرادات ج3 ص 414 طبعة سنة 1366 هجرية
(31) والمغنى ج11 ص 23 طبعة سنة 1348 هجرية
(32) راجع الروضة البهية ج2 ص 265 ، 266 طبعة سنه 1378 هجرية

 
إبراء

1- التعريف به:-
الابراء فى اللغة التنزبه من التلبس بشئ وفى الشريعة اسقاط شخص حقا له فى ذمة آخر كإسقاط الدائن دينا له فى ذمة مدينه بقوله، له: ابرأتك من ديونى أو ما يفيد ذلك العنى يريد بذلك إسقاط ما فى ذمته من دين له.
وقد يكون الابراء فى صورة اخبار به مثل ان يقول الدائن: أبرأت فلانا من دينى، فى معرض اقراره بذلك، وقد يكون فى صورة هبة كأن يقول الدائن لمدينه وهبتك ما لى فى ذمتك من دين. وقد يكون فى وصية كأن يقول الدائن لمدينه أوصيت
لك بما فى ذمتك من دين لى فلا يبرأ بذلك ألا بعد وفات. وقد يكون فى صورة اقرار كما فى ابراء الاستيفاء ، و سيأتى .
- والابراء كما يظهر من التعريف به اسقاط لحق شخص قبل شخص آخر
- ولذا كان ضربا أو نوعا من الاسقاط ، لأن الاسقاط كما يكون تركا لحق فى ذمة شخص واطراحا له كما فى اسقاط الدين تشغل به ذمة المدين يكون لحق ثابت لصاحبه دون ان تشغل به ذمة آخر كما فى اسقاط الشفيع حقه فى الشفعة وكما فى اسقاط الموصى له بسكنى دار حقه فى سكناها وعلى ذلك يكون كل ابراء اسقاطا وليس كل اسقاط ابراء ومع ظهور هذا المعنى فيه على هذا التفسير فانه يحتمل تفسيرا آخر يجله من قبيل التمليك، ذلك لأن صاحب الدين لا يستطيع محو دينه الثابت فى ذمة مدينه وإنما يستطيع تركه واطراحه وذلك ما يعنى تركه للمدين وتمليكه اياه وعدم مطالبته به.
وعلى هذا الأساس البادى من التأويلين السابقين ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية والزيدية والشيعة الإمامية الى أنه يحمل معنيين معنى الاسقاط بالنظر إلى الدائن إذ قد تخلى عنه فلم يبق من عناصر ثرائه وأنقطعت مطالبته به ومعنى التمليك بالنظر إلى المدين إذ قد تملكه فزاد ثراؤه بقدره ألا يرى أنه- كان مطالبا بانتقاص قدره من ماله فى سبيل الوفاء به فاستبقى له ذلك وذلك ما يعنى تملكه إياه وقد كان لهذين المعنيين فيه أثر فيما أعطى من أحكاما فأعطى بعض أحكام التمليك تغليبا لهذه الناحية فيه، وأعطى بعض أحكام الإسقاط تغليبا لهذه الناحية فيه، كما كان من قبيل التبرع لأنه يتم لا فى نظير عوض.
أما الحنابلة:
فقد كان نظرهم إليه على أنه إسقاط فكان له حكم الإسقاط عندهم فى جميع أحواله أو أن ذلك كان نظر جمهورهم (1) .
2- أركانه:
وركنه عند الحنفية الإيجاب الصادر من صاحب الحق وهو ما يصدر منه من عبارة تدل على ترك حقه و اطراحه دلالة واضحة لا احتمال فيها أو ما يقوم مقام ذلك من كتابة أو إشارة.
والشافعية ومن أجرى علي اصطلاحهم يرون أن أركانه "أربعة": صاحب الحق المبرأ وعبارته " الإيجاب " والحق المبرأ منه والمدين إذان الإبراء لا يتحقق إلا بهذه الأركان ولا يتصور إلا بها.
ويكون إيجاب فيه بمثل إبرأتك من دينى أو أحللتك منه أو أسقطته عنك أو ملكتك إياه أو تركته لك أو نحو ذلك.
ويرى ابن حزم عدم صحته بألفاظ التمليك مثل وهبت أو أعطيت أو ملكت لأنه لا يملك ألا الشئ الموجود المادى المعلوم مكانه، أما الأوصاف الأعتبارية فلا تقبل تمليكا، ولكنه مع ذلك أستثنى صحته بلفظ التصديق، وإن كانت من ألفاظ التمليك، لورود النص بذلك، فقد قال تعالى: " ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا (2) " وتصدقهم عند ذلك انما يكون بتنازلهم عنها وإبرائهم منها، ولما روى عن أبى سعيد الخدرى قال: أصيب رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ثمار أبتاعها فكثر دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تصدقوا عليه "، وهو خطاب لغرمائه، وتصد قهم يكون بابرائه من ديونهم (3) .
3- قبول الابراء من المدين:-
الدين حق خالص لصاحبه واقدام صاحبه على إسقاطه تصرف منه فى خالص حقه دون أن يمس ذلك حقا لغيره ودون أن يستوجب تكليفا على أحد ومن ثم لم يتوقف نفاذه على قبوله ممن عليه الدين بل ينفذ مع رد المدين له... ذهب إلى ذلك الحنابلة وجمهور الحنفية والشافعية وجمهور الشيعة الجعفرية تغليبا لمعنى الإسقاط فيه على التمليك (4) . وذهب زفر إلى أنه يتوقف على القبول لغلبة معنى التمليك فيه وهو قول لبعض الشيعة الجعفرية.
وللمالكية، الزيدية فى ذلك قولان، أحدهما: أنه يتوقف على القبول مراعاة لجانب التمليك فيه وهو الأرجح.
وثانيهما: أنه لا يتوقف ويتم من غير قبول بل ومع رده مراعاة لمعنى الإسقاط فيه كالطلاق والعتق. وعلى القول باشتراط القبول فيه عند المالكية يجوز أن يتراخى القبول عن مجلس الإيجاب ، وهو صريح ما ذكره ابن عرفة، كما يجوز رجوع الدائن فيه قبل القبول (5) .
و إذا كان الإبراء من الدين بهبته للمدين كان توقفه على القبول محل خلاف عند الحنفية، ذهب بعضهم إلى أن هبة الدين للمدين لا تتوقف على القبول فتنفذ مع سكوت المدين فى مجلس الإيجاب لما فيها من معنى الإسقاط (6) . وهو مذهب الشافعية والحنابلة. وذهب آخرون إلى أنها تتوقف لما فيها من معنى التمليك وذلك رأى المالكية فيها لأنها نص فى التمليك. وكذلك يرى الحنفية أن الإبراء من الكفالة والحوالة لا يتوقف على القبول ولا يرتد بالرد لتمحضه فى معنى الإسقاط ، وأستثنى الحنفية من عدم توقف الإبراء على القبول الإبراء عن بدلى الصرف والسلم، إذ يرون توقفه على القبول دون خلاف فيه عندهم، حتى لا ينفرد أحد العاقدين فيهما وهو من أبرأ بفسخ عقد الصرف أو السلم وكلاهما عقد لازم لا يجوز أن يستبد بفسخه أحد طرفيه إذ أن فى نفاذ الإبراء فوات القبض فى المجلس وهو شرط فى صحه كل منهما.
والمشهور عند الحنفية أن هبة الدين للمدين وإبراءه منه كلاهما يتم من غير قبول ويرتد بالرد فهما فى ذلك سواء و إذا إرتدا بالرد لم يجز قبول بعد الرد لبطلان الإيجاب بالرد.
4- رد الإبراء من المدين
ذهب الحنفية والزيدية إلى أن الإبراء يرتد برد المدين فى المجلس وبعده ما دام لم يحدث منه قبول صريح قبل رده، وذلك لما فيه من معنى التمليك.
ومن الحنفية من قيد صحة الرد ونفاذه بأن يكون فى مجلس الإبراء لا بعده، فالرد بعد المجلس لا أثر له عندهم، والرد فى المجلس صحيح يرتد به الإبراء ولا يسقط به الدين إذا لم يسبقه قبول صريح له من المدين لأن الرد ، بعده غير صحيح مطلقا فى المجلس وبعده. وتستوى هبة الدين للمدين فى هذا الحكم مع الإبراء منه. وخالف الشافعية والحنابلة فذهبوا إلى أن الإبراء يتم بإرادة الدائن ولا يرتد برد المدين تغليبا لمعنى الإسقاط فيه. ولذا لايفتقر الى القبول من المدين عندهم.
ويرى المالكية أنه يرتد بالرد فيبطل الإيجاب برد المدين لغلبة معنى التمليك فيه ولذا يحتاج القبول عندهم على الأصح وذهب الحنفية إلى صحة إبراء المدين بعد موته وعندئذ يرتد برد الوارث عند أبى يوسف خلافا لمحمد.
وإذا كان الإبراء إبراء من الحوالة كان أبرأ المحتال المحال عليه عن الحوالة، أو كان ابراء من الدائن للكفيل من كفالته، أو كان الإبراء مطلقا بعد طلبه من المدين- لم يرتد والرد مطلقا.
أما فى الإبراء من الحوالة والكفالة فلتمحضه فى الاسقاط فلم يتوقف على القبول ولم يقبل الرد. وأما الابراء بعد طلبه من المدين فلأن رده يعد كأنه رد بعد قبوله ولا يرتد الابراء بالرد بعد القبول (7) .
وذهب الزيدية الى أن الابراء وتد يرتد لغلبة معنى التمليك فيه ولذا توقف على القبول عندهم، فإن خلا من معنى التمليك فكان اسقاطا محضا كالإبراء من الشفعة لم يتوقف على القبول ولم يرتد بالرد.
ومن الزيدية من غلب فيه معنى التمليك فى جميع أحواله فتوقف على القبول عندهم وأرتد بالرد (8) .
وإذا صدر الإبراء من فضولى توقف على أجازة الدائن فإن أجازه نفذ عند الحنفية والزيدية.
شروط الإبراء:
من شروط الإبراء شروط ترجع إلى المبرئ، وشروط ترجع إلى صيغة الإبراء وشروط ترجع إلى المبرأ، وشروط ترجع إلى المبرأ منه.
فأما ما يرجع إلى المبرىء فهو أن يكون من أهل التبرع فيجب أن يكون عاقلا بالغا غير محجور عليه لسفه أو لدين، لأن الإبراء تبرع من الدائن إذ لا يقابله عوض من المدين، ويلاحظ أن عدم الحجر للدين انما هو شرط نفاذ، فإبراء المحجور عليه بسبب الدين لمدينه صحيح متوقف على إجازة دائنيه لأن منعه من التبرع إنما هو للمحافظة على حقوقهم... وهذا مذهب الحنفية مع ملاحظه أن أبا حنيفة رحمه الله لا يرى الحجر للدين وإنما يراه الصاحبان وأثره عندهما هو المنع من التبرع محافظة على حقوق الغرماء دون أن يمس الحجر أهلية المحجوز عليه للدين ، أما من يراه ماسا بأهليته من الفقهاء فهو عندهم شرط صحة .
(أنظر مصطلح حجر ومصطلح تبرع)
كما يشترط فيه أن يكون ذا ولاية فى إبرائه كأن يكون هو الدائن أو وصيا على الدائن وقد وجب الدين منه أثرا لعقد باشره عنه فعند ذلك تصح براءته ويضمن ما أبرأ المدين منه، ولكن إذا كان الدين لم يجب أثرا لعقده لم يصح إبراؤه.
وأما ما يرجع إلى الصيغة فهو أن تكون دالة دلالة ظاهرة غير محتملة على تمليك الحق للمدين أو على سقوطه.
وأما ما يرجع إلى المدين المبرأ فهو أن يكون معلوما غير مجهول ، فإذا كان مجهول لم يصح إبراؤه ، كما لو قال شخص: أبرأت كل مدين لى، أو كل مدين لمورثى، أو أبرأت أحد هذين. ولكن إذا كان من أبرأه الدائن محصورا معلوما، كأبرأت هؤلاء المدينين لى صح الإبراء.
وقد ذهب إلى اشتراط هذا الشرط فى المبرأ الحنفية والشافعية والحنابلة والمالكية.
ومن الفقهاء الحنابلة من ذهب إلى أن الدائن إذا قال: أبرأت أحد غريمى هذين صح الإبراء وطلب إليه التبيين والبيان.
ولكن جاء فى كشاف القناع أن المذهب عدم صحة الإبراء مع إبهام المحل، كأبرأت أحد غريمى هذين أو أبرأت فلانا من أحد دينى اللذين فى ذمته والشافعية لا يرون صحه الإبراء مع جهالة المدين المبرأ لغلبة معنى التمليك، فيه ولايملك المجهول وعلى هذا لايصح الإبراء ولو كان .
بصيغة إقرار إذا ما قال الدائن: لا دين لى قبل أحد. أو قال: كل مدين لى فهو برىء إلا أن يتبين أنه يقصد بذلك شخصا بعينه (9) .
ويشترط الزيدية مع ما تقدم خلو الإبراء من التدليس فإذا أفهم شخص دائنه بأن ما عليه من الدين حقير. تافه فأبرأه منه بناء على ذلك ثم تبين خلاف ذلك للدائن لم يصح إبرأؤه لغلبة معنى التمليك فيه.
وأما ما يرجع الى الحق موضوع الايراء
فهو ما يأتى:
أولا: ألا يكون عينا من الأعيان، والأعيان المشخصة لا تثبت فى الذمة فلا تقبل الإسقاط وإنما يقبل الإسقاط ما يشغل الذمم من الحقوق ولذا كان الإبراء من الأعيان المشخصة باطلا. أما ما كان من الإعيان دينا فإنه يقبل الإبراء إذ أنه يقبل الإسقاط كالديات من الإبل مثلا ونحو ذلك
وعلى ذلك إذا غصب شخص كتابا فأبرأه منه مالك الكتاب كان إبرأء. باطلا لا يترتب عليه أثر 00.وعلى ذلك صح الإبراء عن الديون بأنواعها.
وصح الإبراء عن الدعوى لانها حق فإذا قال المدعى للمدعى عليه أبرأتك من أدعاء هذه العين أو من دعواى هذه العين لم تقبل له فيها دعوى ملك بعد ذلك " مجمع الانهر " وكذلك يصح إبراء الدائن الكفيل من الكفالة وإبراؤه المحال عليه من الحوالة
إذ البراءة فيهما تنصب على حق هو الكفالة أو الحوالة.
ثانيا: أن يكون موجودا عند الإبراء وعلى ذلك عل الإبراء من الحق قبل وجوده، فلا يصح أن تبرأ شخصا من كل ما سيقرضه منك أو مما سيجب لك علية، كما لا يصح ابراء الزوجة زوجها من نفقة مستقبلة ولا من نفقة العدة قبل أن يطلقها، لأن الإبراء- إسقاط وما سيوجد ساقط فعلا فلا يقبل إسقاطا. وسنبين فيما يأتى الحكم فى الإبرأء عن النفقة.
ولا يشترط فى الحق المبرأ منه أن يكون معلوما... ذهب إلى ذلك الحنفية والحنابلة والمؤيد من الزيدية، فجوزوا الإبرأء من الحق المجهول سواء أكان مجهولا لدى المبرئ أم لدى المبرأ .
وخالف فى ذلك الشافعية والناصر من الزيدية فاشترطوا علم المبرىء بما أبرأ منه واستثنوا من هذا الحكم أن يكون الدائن جاهلا مقدار دينه ولكنه ذكر له عند الإبراء منه نهاية يتحقق أن دينه دونها فى المقدار، كما إذا قال له أبرأتك من دينى البالغ الفا جنيه وهو متحقق من أن دينه دون ألالف (10) .
وذهب الحنابلة الى أن البراءة من الدين لاتصح اذا كان المبرىء لايعلم بوجود الدين فى حين أن المدين يعلمه ولكنه كتمه عنه خوفا من أنه إذا علمه طالبه به ولم يبرئه منه لأن هذا يعد هضما للحق وظلما للدائن ولا يعد الإبراء فى هذه الحال صادرا من صاحبه عن إرادة معتبرة و إنما صدر منه على وجه الهزلى أو اللعب ويرون صحه الإبراء من المجهول ولو لم يتعذر العلم به ، كما يرون صحه الإبراء
ممن يعتقد أنه لا لدين له فى ذمة من أبراء" ثم تبين أنه كان مدينا عند إقدامه على إبرائه.
و الإبراء من دين الأب مع ظن حياته فبان أن الأب كان ميتا عند صدور الإقرار (11) .
وذهب الزيدية إلى عدم صحة الإبراء مع التدليس كأن يبرىء الدائن مدينه بناء على تفهيم المدين اياه بأنه فقير أو أن الدين حقير ثم تبين خلاف ذلك (12) . وأختلف الزيدية فى صحة الإبراء من المجهول، فمنهم من ذهب إلى صحته ومنهم من ذهب الى عدم صحته.
موضوع الابراء
الإبراء عن الأعيان
الإبراء عن الحقوق
ذكرنا فى شروط الإبراء أن الإبراء لا يكون إلا عن حق للمبرىء قبل غيره ويجب فيه وأن يكون موجودا عند الإبراء وهذا محل اتفاق بين المذاهب. وذكرنا أنه لا يشترط فيه- أن يكون معلوما عند المبرأ ولا عند المدين المطالب به وهو من عليه الحق وذكرنا خلاف الشافعية فى ذلك، وبناء على ذلك كان الإبراء عن الأعيان غير صحيح ولا يترتب عليه أى أثر فى أكثر أحواله أذ أن الإبراء اسقاط أو يحمل معنى الإسقاط ، والأعيان بطبيعتها لا تقبل الإسقاط ، ولذا يصح الإبراء فيها إذا كان القصد منه الإبراء من حق متعلق بها لا الإبراء منها، أما الإبراء منها فلا أثر له .
ولايعد تمليكا لها بناء على ما يحمله من معنى التمليك بل تظل فى يد من هى فى يده مملوكة لصاحبها وله إذا ظفر بها أن يأخذها ولكن مع ذلك لا تسمع دعواه بها بعد الإبراء منها إذ ينصرف إبراؤه هذا إلى حق الإدعاء بها، فلا يبقى له حق فى الدعوى بها بعد الإبراء بل يسقط به. وليس هذا الحكم محل إتفاق عند الحنفية فقد جاء فى الخلاصة قال: أبرأتك عن هذه الدار أو عن خصومتى فيها أو عن دعواى فيها.فهذا كله باطل حتى لو ادعاها بعد هذا الإبراء سمعت دعواه ولو أقام بينته لاثباتها قبلت.
وجاء فى الخانية أن الإبراء عن العجين المغصوبه إبراء عن ضمانها وتصير به أمانة فى يد الغاصب، ولو كانت العين مستهلكة صح الإبراء وبرأ من قيمتها.
وقد نقل صاحب الأشباه هذا وعلق عليه بقوله: فقولهم الإبراء عن الأعيان باطل معناه أنها لا تكون به ملكا وإلا فالإبراء عنها بقصد سقوط ضمانها صحيح أو يحمل قولهم على الإبراء عن الأمانة، أى أن البطلان محل إذا كان الإبراء عن أعيان هى أمانة لأنها اذا كانت أمانة لم تلحقه عهدتها فلا وجه للابراء منها.
و حاصله: ان الابراء المتعلق بالأعيان أما أن يكون عن دعواها وذلك صحيح بلا خلاف مطلقا لأنه فى الواقع إسقاط لحق وأما أن يتعلق بنفسها. فإن كانت فى هذه الحال مغصوبة هالكة صح أيضا كالإبراء من الدين إذ يعد إبراء من قيمتها، وإن كانت قائمة كان معنى البراءة منها البراءة من ضمانها لو هلكت فتصير بعد هذا الإبراء كالأمانة لا تضمن إلا بالتعدى عليها.
ويرى الزيدية أن الإبراء عن العين المضمونة مثل أن يبرىء مالكها الغاصب إسقاط لضمانها 00.وهذا أحد قولى المؤيد بالله، وذهب بعضهم إلى أنه يفيد إباحتها.
وذهب زفر إلى عدم صحة الإبراء فى هذه الحال فتظل بعده العين مضمونة (خانية) .
وإن كانت العين أمانة فالبراءة منها لاتصح ديانة بمعنى أنه إذا ظفر بها صاحبها أخذها وتصح قضاء فلا يجوز للقاضى أن يسمع دعواه بها بعد البراءة.
ويرى الزيديه أنه يعد إباحة لها فيجوز لذى اليد أن يستهلكها ولمالكها أن يرجع عن هذا الإبراء قبل إستهلاكها. ومنهم من ذهب إلى أن الإبراء عن الأعيان يفيد تمليكها لافرق فى ذلك بين عين مضونة وعين هى أمانة فى يد صاحب اليد عليها (13) .
وبناء على ما تقدم لايصح الإبراء عن الأعيان على معنى تمليكها لمن هى فى يده وإنما يفيد ابراءه عن ضمانها إذا كانت يده مضمونة فتنقلب أمانة فى يده. وكذلك لا يصح بالنسبة إلى الأعيان غير المضمونة على هذا الإعتبار ، و إنما يصح على أساس البراءة من الإدعاء بها. وعليه يكون للمبرأ أن يأخذها إذا ما ظفر بها لأنها مازالت على ملكه. وكذلك لا يصح الإبراء من الحقوق التى لا تقبل الإسقاط كحق الرجوع فى الهبة والرجوع فى الوصية، لأن فى جواز ذلك تغييرا للشرع وذلك غير جائز خالافا للممالكية كما فى التزامات الحطاب.
وكذا لا يصح الإبراء من خيار رؤية المبيع ولا من حق الإستحقاق فى الوقف: حق الإرث لنفس السبب.
أما ما عدا ذاك من الحقوق المالية أو المتعلقة بالأموال فيصح الإبراء منها كالإبراء من الديون بأنواعها، والإبراء من الديات، والإ براء من القصاص ، و الإبراء من حق القسم بالنسبة إلى الزوجة، والإبراء من حق الإنتفاع ، و من حق الفسخ بخيار العيب ونحو ذلك من الحقوق التى تثبت فى الذمم. وفيما يلى بيان لأحكام الإبراء فى بعض الحقوق لاختصاصها بأحكام خاصة.

 
الابراء من نفقة الزوجة:
إذا صارت نفقة الزوجة دينا فى ذمة زوجها صح إبراؤه منها أما قل شغل ذمة الزوج .
بها فلا يصح إبراء الزوج منها لأن الإبرا لا يكون إلا من دين قائم موجود عند حدوثه كما قدمنا.
وبناء على ذلك لايصح إبراء الزوجة زوجها من نفقتها إلا إذا كانت مفروضة بالقضاء أو الرضا عند الحنفية، لأنها ألا تصير دينا واجبا عندهم إلا بفرضها من القاضى أو بالتراضى إذ تشغل بها ذمة الزوج بذلك لا قبل ذلك، إذا ما ابتدأت مدتها، فإذا فرضت مشاهرة شغلت بها ذمة الزوج بدخول الشهر فيصح الابراء عن نفقة هذا الشهر فى بدايتة اذا ما حل أو فى أثنائه، ولا يصح عن نفقة شهر آخر يأتى لمجده لأن الذمة لم تشغل بها، كما يصح الإبراء عن النفقات المتجمدة التى سبق فرضها .
لصيرورتها دينا شاغلا للذمة لعدم أدائها ، وعلى ذلك إذا أبرأت الزوجة زوجها فى بداية السنة عن نفقتها لم يصح الإبراء إلا إذا كانت قد فرضت لها مسانهة فان كانت قد فرضه مشاهرة صح الإبراء من الشهر الأول فقط. منها، وإن كانت مياومة صح عن اليوم الأول منه الذى حدث فيه الابراء وما قد يكون سبقه من الأيام وهكذا.
وهذه الأحكام محل اتفاق لاتفاق الفقهاء على اشتراط وجود الدين عند الإبراء غير أنه يلاحظ أن من الفقهاء من لا يشترط فى شغل ذمة الزوج بنفقة زوجته القضاء بها أو التراضى عليها (أنظر نفقة الزوجة فى نفقة وبما تصير دينا فى ذمة الزوج) .
المبارأة بين الزوجين:
المبارأة مفاعلة من البراءة وتكون بين الزوجين لفصم عرى الزوجية بينها نظير عوض مالى تدفعه الزوجة لزوجها وتستوجب سقوط الحقوق الزوجية بينهما، ويترتب عليها بينونة الزوجة بطلقة بائنة عند الحنفية فهى بين الزوجين بمنزلة الخلع بينهما فتفيد انفصام عقد الزواج مع سقوط الحقوق الزوجية لكل منهما قبل الآخر نظير ما تدفعه الزوجة لزوجها وذلك بأن يقول الزوج لزوجته: بارأتك على ألف جنيه.
فتقول له: قبلت.
أو ما فى معنى ذلك، والمعنى خالعتك من الزواج على ذلك وهذا عند الحنفية ( انظر مصطلح خلع)
يجوز إبراء المدين بعد وفاته من دينه وهذا محل إتفاق وفى التتار خانية.. رجل مات فوهبت له امرأته مهرها الشاغل لذمته جاز لأن "قبول المدين ليس بشرط فى صحة البراءة. وقال قاضيخان: رجل له على آخر دين فبلغه أنه قد مات فقال: جعلته فى حل من دينى، أوقال أبرأته منه. ثم ظهر أنه حى لم يكن للدائن المبرىء أن يأخذه منه لأنه قد وهبه إياه بلا شرط.
وفيه دليل على عدم صحة. رجوع المبرأ عن إبرائه... هذا وقد اختلفت الحنفية فى جواز رد الإبراء من الوارث إذا ما أبرأ الميت دائنه..
وقد علمت الشافعية والحنابلة يرون أن الإبراء لا يرتد بالرد وفى ارتداده بالرد عند الزيديه خلاف، وهو مذهب المالكية وإن كان الأرجح عندهم أنه يرتد بالرد (14) .
أحوال صيغة الابراء:
الأصل فى الإبراء أن يكون منجزا" مثل أن يقول الدائن لمدينه ابرأتك من دينى، واذا علق على شرط لم يصح ولم يترتب عليه أثر... ذهب إلى ذلك الحنفية والشافعية والحنابلة، وذلك لما فيه من معنى التمليك . فكان معتبرا بالتمليكات وإن كان فيه معنى الإسقاط وهذا إذا علق على غير الموت، فان علق على الموت صح، وكذلك إذا أضيف إلى ما بعده لأنه يكون حينئذ وصية والوصية بالبرأءة من الدين جائزة... ذهب إلى ذلك الحنابلة والحنفية.
وجاء فى البحر أن تعليق الإبراء على الشرط مفسد له إذا كان الشرط غير متعارف، أما إذا كان الشرط متعارفا فانه يصح تعليقه عليه. وقال أنه يجب تقييد كلام من قال الفقهاء كصاحب الكنز أن الإبراء يبطل بتعليقه على الشرط. ويؤيد ذلك ما جاء فى القنية وهو أن تعليق الإبراء على الشرط المتعارف جائز.
وفساد الإبراء بالتعليق إنما يكون فى الإبراء الذى يعد تمليكا كالإبراء من الدين أما الذى يعد من قبيل الإسقاط كالإبراء من الكفالة أو الحوالة فيصح تعليقه بالشرط الملائم. فإذا قال الدائن المكفيل: إن وافيتنى بالمدين غدا فأنت برىء من الكفالة. فوافاه به فى الغد برأ منها... ذهب إلى ذلك بعض الحنفية واختاره صاحب التكملة وقال إنه الأوجه لأن الإبراء فى هذه الحال إسقاط محض.
وجاء فى البحر على الكنز إن الإبراء يجوز تقييده بالشرط الصحيح ويبطل إذا اقترن بالمشرط الفاسد وأن أضافة الإبراء تبطله وإذا اقترن بخيار الشرط صح الإبراء وبطل الشرط (15)
وذهب الزيدية الى صحة الإبراء مع اقترانه بالشرط ولا يضيره أن يكون شرطا مجهولا وقت حدوثه أو شرطا لا تتعلق به أغراض الناس كتقييده بنزول المطر أو بنعيب الغراب مثل أن يقول الدائن لمدينه: أبرأتك بشرط نزول المطر فى وقت كذا أو عند نزول المطر. وإذا قيد بشرط لم يصح الرجوع فيه قبل تحقق الشرط أى إذا علق على شرط لم يصح أن يرجع فيه قبل تحقق الشرط.
وهذا دليل صحة تعليقه على المشرط عند الزيديه ، وأجازوا أن يكون فى نظير عوض مالى أو غير مالى كأبرأتك على أن تهب لى كذا أو على أن تطلق زوجتك فلانة فإذا تحقق ذلك صح وإلا لم يصح وتصح اضافته إلى الموت عندهم وعندئذ يكون وصية (16)
أنواع الابراء:
يتنوع الإبراء بالنظر إلى صيغته نوعين عند الحنفية: إبراء إسقاط ، وإبراء استفاء فإذا دلت صيغته وضعا على الإسقاط كأبراتك من الدين أو أسقطت عنك الدين أو أحللتك منه أو تصدقت به عليك، أو نحو ذلك.. كان إبراء إسقاط لأن الدائن قد عبر بما يدل على أنه قد ترك دينه وأسقطه عن مدينه، وسواء فى ذلك أن يكون ذلك بالنسبة إلى الدين كله أم بالنسبة إلى بعضه.
وإذا دلت صيغته على أن زوال الدين بسبب وفائه كان إبراء استيفاء، ويكون ذلك بإقرار الدائن باستيفاء دينه من مدينه كقوله: استوفيت دينى قبل فلان، ونحو ذلك.
مما يدل على هذا المعنى من العبارات وإنما سمى هذا النوع إبراء نظرا إلى نتيجته وهى عدم جواز المطالبة به بعد ذلك .
وسواء فى ذلك أن يكون المدين قد قام بالوفاء فعلا أم لا ، إذ الأثر فى الحالين واحد ، وهن عين الأثر فى النوع الأول وذلك الأثر هو سقوط الدين .
ولاختلاف هذين النوعين فى العبارة الدالة- على زوال الدين ودلالتها قالوا إن إبراء الإسقاط يختص بالديون إذ أن العبارة فيه صريحه فى اسقاطها ، ولا يصغ فى الأعيان، وذلك لعدم صحه إسقاط الأعيان.
أما إبراء الاستيفاء فإنه يكون فى الدين والعين جميعا من إذ الإقرار بالوفاء كما يتحقق فى الدين يتحقق فى العين، وذلك بدفعها إلى مالكها (17) .
وإبراء الاستيفاء إذا كان إقرارا بالوفاء كما بينا لا يحمال معنى الاسقاط، و يتمحض تمليكا بخلاف إبراء الاسقاط ، فإنه كما تقدم، كما يمكن أن يعد تمليكا للدين للمدين، يمكن أن يعد اسقاطا له. ذلك لأن وفاء الدين لا يكون إلا بتمليك مثله للدائن.
ومن هذا قال فقهاء الحنفية أن الديون تقضى بأمثالها، فإذا أعطى المدين الدائن مثل دينه فيه فقد ملكه مثله واستوجب عليه بهذا التمليك مطالبته به لولا ما عليه من دين مماثل يستوجب عليه مطالبته به من قبل الدائن فسقطت مطالبته بما أوفى نظير سقوط مطالبة الدائن إياه بما له من دين فى ذمته.
وهذا معنى قولهم ان الدينين يلتقيان قصاصا. ونتيجة لذلك يرى أن ذمة كل من
المدين والدائن بعد الوفاء بالدين مشغولة فذمة المدين لاتزال مشغولة بالدين ولكن لا يطالب به، وذمة الدائن أصبحت بالوفاء مشغولة بما أعطى فى دينه فإذا ما أبرأ الدائن مدينه فى هذه الحال أى يعد وفاء الدين إبراء اسقاط صادف ذلك الإبراء محلا وهو دينه الذى لا يزال شاغلا ذمة المدين فسقط بذلك الإبراء وخلصت ذمته منه وأصبحت ذمة الدائن وحدها مشغولة بما كان قد أعطى فى دينه من المال لا فى نظير شىء، فكان للمدين بسبب ذلك أن يسترد من الدائن مما سبق إن كان وفاه به، وهذا هو حكم الإبراء من الدين بعد الوفاء به.
أما إبراء الاستيفاء فإذا كان إقرارا بالوفاء لم يكن إلا إخبارا بما حدث من تمليك للدائن فى نظير دينه ، فلم يترتب عليه سقوط أحد العوضين، ولم يكن للدائن ولا للمدين مطالبة الأخر (18) بشىء ، وهذا هو اختيار السرخسى، والصدر الشهيد، وذكر خواهر زاده: أنه لا رجوع فى الحالين، واختاره بعض المشايخ.
ويتنوع إبراء الاسقاط بالنظر إلى موضوعه نوعين:
إبراء خاص وإبراء عام، فيكون خاصا إذا ما كان موضوعه حقا معينا أو حقوقا معينة مثل أن يقول شخص لآخر: أبرأتك من دينى أو من ديونى التى ثبتت لى فى ذمتك فى سنة كذا أو من دعواى هذه الأرض أو من جميع الدعاوى التى رفعتها عليك أو القائمة بينى وبينك الآن .
ويكون عاما إذا كان موضوعه عاما يتناول كل حق للمبرأ قبل شخص معين أبرأه. على أن عموم الإبراء وخصوصه مسألة نسبية، فإن قول شخص لآخر: أبراتك من كل دعوى تتعلق بأى عقار تحت يدك فى بلد كذا ، يعد عاما بالنسبة لما تحت يد المبرأ من عقار فى هذا البلد، ويعد خاصا بالنظر إلى حقوقه كلها، سواء تعلقت بهذا العقار أو بغيره والإبراء سواء أكان خاصا أو عاما لا يتناول إلا ما تدل عليه العبارة من حق قائم عند الإبراء ، ولا يتناول ما يجد ممن حقوق بعده، وإن شملته العبارة كما تقدم ذلك.
وبناء على ذلك إذا قال شخص لآخر:
لاحق لى قبلك، يشمل جميع الدعاوى المتعلقة بالأعيان أمانة كانت أم مضمونة، وجميع الديون وجميع الحقوق من كان حق هو مال ومن كل حق ليس بمال كالكفالة والقصاص وحق القذف وما إلى ذلك فلا تسمع منه دعوى بحق ثابت على هذا الإبراء وكذلك إذا قال أبرأت فلانا من كل دعوى لى قبله لا يحق له أن يدعى عليه بشئ سابق على هذا الإبراء سواء أكان الادعاء متعلقا بدين أو بعين وإذا قال أبرأته من كل دين لى قبله سقطت جميع ديونه التى له قبل هذا الإقرار ، فلا يملك مخاصمته فى دين سابق عليه.
وجاء فى تكملة ابن عابدين: لا تسمع دعوى بعد الإبراء العام إلا ضمان الدرك. والضمان الدرك هو ضمان ما يدرك المبيع أو اليمن من استحقاق الغير له كله، أو بعضه بعد العقد ".
ذلك لأن ضمان الدرك الحق فيه لم يثبت إلا بعد الإبراء وإن كان سببه سابقا على صدوره فعند صدوره لم تكن الذمة مشغولة بشىء معين، ولم يحكم بالإستحقاق إلا بعد الإبراء ولو قال أبرأت فلانا من كل حق لى عنده تناول الأمانات فيسقط الإدعاء بها دون الديون (19) .
وفيه حكم الرجوع عنه وبطلانه ببطلان ما تضمنه.
حكم الإبراء:
إذا صدر الإبراء مستوفيا شروطه ترتب عليه أثره، وهو سقوط الحق المبرأ منه كان الإبراء خاصا، وإذا سقط لم تجز المطالبة به بعد ذلك، وإذا كان عاما شمل جميع الحقوق الموجودة عند صدوره التى تتناولها عبارته فلا تجوز المطالبة بحق منها ولا يتناول ما يحدث بعده من الحقوق ولزم ذلك المبرىء فلا يقبل منه رجوع ولا عدول فيه، لأن الحق إذا سقط لم يعد مرة أخرى، وهو مذهب الحنفية والحنابلة (20) .
وقد جاء فى تكملة ابن عابدين أن الدائن لإيملك أن يرجع فى هبته الدين لمدينه بعد قبوله ويرجع فيها قبل قبوله، لأنها اسقاط أى والساقط لا يعود.
وذهب الشافعية إلا أن الإبراء إذا كان من أب لولده لم يصح الرجوع فيه على قول مراعاة لمعنى الإسقاط فيه ويصح الرجوع فيه على قول آخر مراعاة لمعنى التمليك ألا يرى أن الأب له الرجوع فى هبته لابنه، ذكر ذلك الرافعى.
وقال النووى: ينبغى ألا يكون للمبرئ حق الرجوع عن ابرائه فى جميع الأحوال.
وجملة القول أن الابراء إنما يتناول ما تدل عليه عبارة المبرىء من حق قائم عند صدورها، أما يحدث من الحقوق بعد ذلك فلا يتناوله الإبراء.
ومن المسائل التى فرعت على ذلك ما إذا أدعى المبرئ حقا وكانت دعواه بعد الإبراء دون أن يؤرخ ثبوت هذا الحق له، ففى الاستحسان أنها لا تسمع حملا للحى على انه سابق على الإبراء "حامديه" وقد ذكروا أن الدعوة بعد الإبراء العام تسمع فى أربع مسائل:
ا- إذا أبرأ إبراء عاما ثم ادعى عليه ضمان الدرك فى بيع سابق على الإبراء ، إذ الحق وهو الضمان لم يحدث إلا بعد الإبراء فتسمع استحسانا.
2- اذا بلغ القاصر فأبرأ وصية من كل حق ثم ظهر له شئ لم يكن يعلمه سمعت دعواه إذ التناقض مغتفر فيما فيه خفاء.
3- إذا أقر الوصى أنه استوفى جميع ما كان للميت على الناس جميعا ثم ادعى على رجل دينا للميت سمعت دعواه لارتفاع التناقض بسبب وجود الخفاء، وأيضا: يلاحظ فيه المبرأ مجهول وتقدم عدم صحة إبراء المجهول.
4- إذا أقر الوارث أنه استوفى جميع، ما كان للمورث على الناس جميعا ثم أدعى لمورثه دينا على آخر سمعت دعواه للسبب السابق فى المسألة فى قبلها.
هذا ويبطل الإبراء اذا بطل ما تضمنه إذا كان الإبراء قائما على حقوق تترتب على ما تضمنه وبناء على ذلك إذا باع شخص عينا وقبض ثمنها، وتضمن عقد البيع براءة البائع من كل دعوى تتعلق بالعين أو براءة المشترى من كل دعوى تتعلق بالثمن، ثم بطل البيع لاستحقاق العين المبيعة فإنه لا يكون لهذا الإبراء الذى تضمنه عقد البيع أثر فى استحقاق المشترى مطالبة البائع برد الثمن كما لا يكون ، له أثر فى مطالبة المشترى برد المبيع إذا ما كان الثمن عينا ظهر استحقاقها فبطل البيع بناء على ذلك.
وكذلك إذا تضمن الصلح إبراء من أحد طرفيه للآخر ثم بطل الصلح بسبب من الأسباب بطل تبعا لذلك ما تضمنه من الإبراء ،لأن الإبراء كان من عناصر الصلح فإذا بطل الصلح بطلت أيضا عناصره (21)
إبراء المريض:
يراد بالمريض من به مرض الموت وهو ما يغلب فيه الموت عادة ويتصل به، والإبراء
عند الحنفية كما قدمنا. إما إبراء اسقاط وإما إبراء استيفاء ، فإن كان إبراء اسقاط فهو فى مرض الموت من قبيل التبرع المنجز وحكمه حكم الوصية، وإن لم يكن وصية فإن كان لوارث توقف على إجازه سائر الورثة، وأن كان لأجنبى نفذ فى حدود ثلث التركة بعد سداد الديون، ولا تنفذ فيما زاد على ذلك لا بإجازة الورثة بعد وفاة المبرئ وهم من أمل التبرع عالمين بما أجازوا.
وفى حكم إبراء الوارث إبراء المريض أجنبيا من دين كفله أخد ورثته لأن أبراء الأصيل يستلزم براءة الكفيل فكان إبراؤه المدين الأجنبى إبراء لوارثه.
وإن كان الإبراء الصادر من المريض إبراء استيفاء وقد علمت أنه عبارة عن إقراره باستيفاء حقه ، أختلف الحكم فيه بإختلاف أحواله بحسب صدوره لوارث أو لأجنبى فى حدود الثلث أو فيما تجاوزه، وفيه أختلاف الفقهاء( أنظر مصطلح إقرار) وإلى مذهب الحنفية ذهب الزيدية.
وأعلم أن الإبراء إذا صدر فى صورة إقرار كأن يقول المريض لا حق لى قبل فلان ونحوه، فإن كان ذلك لوارث توقف نفاذه على تصديق سائر الورثة عند الحنفية سواء إعتبرته إقرار أم إبراء.
وإن كان لأجنبى فهو نافذ أن عد اخبارا وله حكم الوصية أن عد إبراء من دين معلوم (22) .
ذلك رأى الحنفية. أمال لشافعية فلهم رأيان فى إبراء المريض لوارثه وفى إبرائه
لأجنبى عنه، أحدهما يقضى بصحته فى الحالين.
والآخر يقضى بإعطائه حكم الوصية كما ذهب إليه الحنفية (23) .
ولم نعثر على رأى للحنابلة فى إبراء المريض غير أن رأيهم فى إقرار المريض كرأى الحنفية فيه فهل الأمر كذلك فى الإبراء ؟
وذهب ابن حزم إلى أنه لا فرق بين إبراء المريض. وإبرأء الصحيح، ذلك لأنه لا يرى تفرقة بين تصرف الصحيح وتصرف المريض فى الحكم، والحكم فيهما الصحة والنفاذ فى جميع الأحوال (24)

__________

(1) راجع تكملة ابن عابدين ج2 ص347 طبعة بولاق ،والاشباه للسيوطى ص187 والدسوقى على الشرح الكبير للدردير ج4 ص99 طبعة الحلبى، و شرح الأزهار المتفرع من الغيث المدرار ج4 ص258، وكشاف القناع ج2 ص477 .
(2) آية 92 سورة النساء .
(3) المحلى ج9 ص117 .
(4) المهذب للشيرازى من كتاب الهبة ج1 ص454 والأشباه للسيوطى ص188 وكشاف القناع ج2 ص478 .
(5) الدسوقى على الشرح الكبير ج4 ص99 وشرح الأزهار ج4 ص258 والفروق للقرافى ج2 ص101 ، 111 .
(6) نهاية المحتاج ج5 ص 410 .
(7) كشاف القناع ج2 ص478 .
(8) شرح الأزهار ج4 ص298 وما بعدها .
الشرح الكبير للدردير ج4 ص99 .
الأشباه والنظائر لابن نجيم طبعة إسلامبول تكملة ابن عابدين ج2 ص347 طبعة بولاق ، كشاف القناع ج2 ص347 طبعة بولاق .
كشاف القناع ج2 ص478 طبعة المطبعة الشرفية سنة 1319 .
الأشباه للسيوطى ص188 وما بعدها .
المهذب ج2 ص454 طبعة دار الكتب العربية لمصطفى الحلبى .
مطالب أولى النهى شرح غاية المنتهى ج4 ص392 وما بعدها طبعة سنة 1961 .
( انظر مصطلح حجر ومصطلح تبرع)
(9) كشاف القناع ج2 ص 478طبعة المطبعة الشرقية ، الأشباه للسيوطى ص187 .
جامع الفصولين المطبعة الأزهرية سنة 1300 ههجرية ج1 ص125 وما بعدها .
(10) الأشباه للسيوطى ص571
(11) كشاف القناع ج2 ص478 .
(12) شرح الأزهار ج4 ص298، 299 .
(13) حاشية الدسوقى على الشرح الكبيرج4 ص99 .
الأزهار ج4 ص298 .
كشاف القناع ج2 ص478 .
الأشباه للسيوطى ص188 .
الدر وابن عابدين ج2 ص614 وما بعدها طبعة الحلبى .
الأشياه للسيوطى ص187 .
(14) المهذب للشيرازى ج1 ص454
جامع الفصولين ج2 ص2 ،4،182
التكملة على الهداية ج7 ص44 .
البحرج7 ص310 ،322 .
الهندية ج4 ص385 .
مطالب اولى النهى ج4 ص392 ،393 .
(15) شرح الأزهار ج4 ص258 .
(16) تكملة ابن عابدين ج1 ص359.
(17) الفتاوى الهند ج4 ص204 .
(18) تكملة ابن عابدين ج2 ص347 طبعة بولاق .
(19) كشاف القناع ج2 ص478 المطبعة الشرقية سنة 1319 .
(20) الاشباه للسيوطى ص 188 .
(21) تكملة ابن عابدين ج1 ص359
الفتاوى الهند ج4 ص204 .
(22) تكملة ابن عابدين ج2 ص347 طبعة بولاق .
كشاف القناع ج2 ص478 المطبعة الشرقية سنة 1319 .
(23) شرح الجوهرة على القدورى من كتاب الاقرار والاشباه والنظائر من كتاب القضاء والشهادة والدعوى ص 357 طبعة اسلامبول .
(24) الهندية ج4 ص179 ، 181 .
تكملة أبن عابدين ج2 ص347 .
 
إبط

الأبط: ما تحت الجناح (1) والكلام عنه فى موضعين:
الأول: حكم نتفه، أى إزالة السعر الموجود فيه.
الثانى: حكم جعل الرداء تحت الإبط الأيمن وإلقائه على الكتف الأيسر فى الحج وهو المسمى بالاضطباع. أما نتقه فمسنون عند جميع المذاهب (2) .
يقول صلى الله عليه وسلم، فى روايات متعددة ومختلفه فى بعض ألفاظها: عشر من الفطرة: قص الشارب، و اعفاء اللحية، والسواك، و استنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم ، ونتف الأبط ، وحلق العانة، و إنتفاض الماء، أى الاستنجاء، قال مصعب بن شيبة: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضمة.
وأما الاضطباع ، ويقال له التوشح والتأبط فسنة أيضا، فقد روى أن الرسول صلي الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة فرملوا بالبيت، وجعلوا أرديتهم تحت آباظهم، ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى، وهذا عند الحنفية والشافعية والحنابلة والزيديه والأباضية(3) .
وقال مالك ليس الاضطباع سنة لأنه لم يسمع أحدا من أهل العلم ببلدة يذكر ذلك ولم نعثر على حكمه عند الإمامية والظاهرية

__________

(1) المصباح المنير.
(2) فتح القدير ج1ص 38 طبعة الأميرية.
- رسالة ابن أبى زيد القيروانى بشرح الآبى ص553 طبعة دار الكتب العربية.
- والمجموع شرح المهذب ج1 ص283.
- المغنى ج1 ص87 طبعة المنار.
- المحلى لابن حزم ج2 ص218.
- البحر الزخار ج2 298.
- المختصر النافع ص82.
- النيل ج1 ص516.

 
إبطال

معناه لغة:
الإبطال فى اللغة النقض والإلغاء والإفساد والإزالة. يقال أبطل الشئ ، جعله باطلا، ويقال أبطل إذا جاء بالباطل وهو ضد الحق أو الهزل، وأثر الإبطال البطلان وهو الضياع والفساد ، يقال بطل بطولا إذا ذهب ضياعا وخسرا
الضياع والفساد، يقال بطل بطولا إذا ذهب ضياعا وخسرا (1)
معناه اصطلاحا:
يستعمله الفقهاء بمعنى الإلغاء و الإفساد والنقض، ومحله عندهم الأفعال الشرعية كالصلاة والصوم والحج والأقوال، وتتناول التصرفات الشرعية والأحكام والأدلة، يقولون: أبطل عقده أو قوله إذا نقضه وأفسده أو عدل عن المضى فيه، وأبطل صلاته أو صيامه أو حجه إذا أفسده بما يجعله فى نظر الشارع فاسدا غير مجزى فإن ما صدر عنه من ذلك مسلوب الأثر الشرعى الذى رتبه الشارع على وجوده صحيحا على وفؤ ما طلب، وأبطل دليله إذا نقضه فجعله غير منتج للنتيجة التى أريدت منه، وهذا هو معنى البطلان فى الأدلة أما معناه فى الأفعال والتصرفات الشرعية فهو صيرورتها على خلاف ما طلب الشارع فيها سواء كان ذلك الطلب متعلقا بأركانها وعناصرها الأساسية التى يتوقف وجوده حقيقتها الشرعية على تحققها أم متعلقا بأوصافها العارضة لها التى رأى الشارع وجوب وجوده عليها. ومن ثم وصف بالبطلان كل فعل أو قول أو عقد وجد على خلاف ما طلب الشارع.
وإلى هذا المعنى ذهب الشافعية والحنابلة و المالكية و الزيديه.وذهب الحنفية إلى أن البطلان مخالفة القول أو التصرف لما بينه الشارع فى حقيقته وأركانه، فإذا وجد مخالفا لهذا البيان كان باطلا وغير مشروع بأصله، أما مخالفته لما طلبه فيه من أوصاف عارضة يجب أن يوجد عليها، فالا تسمى عندهم بطلانا، وإنما تسمى عندهم فساداً ووجوده على هذه الأوصاف التى كره الشارع وجوده عليها تجعله فاسدا لا باطلا، ويكون يخر مشروع بوصفه وجملة القول فى ذلك أن الشارع إذا نهى عن تصرف من التصرفات فقد يكون مرجع هذا النهى إلى خلل فى أركانه أو فى محله"أو لعدم تحقق معناه، وقد يكون مرجعه إلى وصف ملازم للتصرف عارض له، وقد يكون مرجعه إلى أمر مجاور له غير ملازم وليس شرطا فيه وإنما عرض له بسبب المجاورة فهذه أحوال ثلاثة. ففى الحال الأولى يكون أثر المخالفة فيها البطلان إتفاقى كما فى بيع الميتة وعقد المجنون.وفى الحال الثانية يكون الأثر- فيها الفساد عند الحنفية والبطلان أيضا عند غيرهم، كما فى بيع أجل الثمن فيه الى الميسرة، أو يسر دابه من قطيع، ومن هذأ يتبين أن الحنفيةقد فرقوا بين البطلان والفساد، وخالفهم فى ذلك المالكية والشافعية والحنابلة، فلم يفرقوا بين هذين الحالين فى التسمية وفى الأثر به وكانت المخالفة فيهما عندهم بطلان أو فسادا وكان اللفظان عندهم مترادفين. وهذا ما جرى عليه استعمالهم فى أكثر أبواب الفقه بصفة عامة، وقد يرى فى بعض الأبواب أنهم يفرقون بين معنى البطلان والفساد بناء على اختلاف فى الأحكام،وذلك ما يفصل فى مصطلح بطلان وفسادا فإرجع إليه.
أما مخالفة الحال الثالثة فلا توجب بطلانا ولا فسادا، ولا تسمى بذلك عند الحنفية والمالكية والشافعية، وإنما توجب الكراهة فقط، وهذه رواية عن أحمد.وفى رواية أخرى عنه أنها توجب الفساد والبخلان ، ذلك فيما يتعلق بالتصرفات الشرعية على العموم سواء أكانى عقودا أم الزأما بإرادة منفردة ما عدا النكاح إذ يرق فيه يرى فيه جمهور الفقهاء أن لا فرق بين باطله وفاسدة فى الحكم، ومن ثم أطلقوا على ما يوجد منها مخالفا لطلب الشارع أسم الباطل تارة، وأسم الفاسد تارة أخرى من غير تفرقة بين الحالين فى العنى سواء أكان مرد ذلك إلى مخالفة فى أصل العقد أو مخالفه فى وصفه كما فى النكاح المؤقت.
أما فى الأفعال الشرعية كالصلاة والصوم عدا الحج فإن الإتيان بفعل منها على وضع مخالف لما أمر الشارع يجعلها غير مجزئة فلا تبرأ بها الذمة ولا يتحقق بها الإمتثال المطلوب أو الطاعة الواجبة سواء أكان مرجع النهى فيما نهى عنه مها هو فقدان ركن من أركانها أو شرط من شروطها أو وجودها على صفه كرهها الشارع فيها ومن ثم يصفها الفقهاء فى هذه الحال تارة بالبطلان وتارة بالفساد من غير تفرقة بين حال وحال فيقولون الصلاة بغير ركوع باطلة أو فاسدة والصلاة بغير طهارة باطلة أو فاسدة والصلاة مع كشف العورة فاسدة أو باطلة.لا يفرقون فى الوصف ولا فى الأثر بين حال وحال (2)
(أنظر مصطلح: بطلان وفساده) أما الحج فقد فرقوا بين فاسده وباطله"
إذ أوجبوا المضى فى فاسده و أوجبوا على الحاج مع ذلك الذبح والإعادة مرة أخرى وإنما وجبت الإعادة لتمكن الخلل فى الحج الذى أتى به لا لعدمة (3) .
ويلاحظ أن المخالفة إذا كانت راجعة إلى فقدان ركن من الأركان أو فقدان معنى التصرف فإن أ ثرها حينئذ هو انعدام السهل المطلوب أو العقد المراد انشاؤه ، وعند ذلك لا يتحقق لهما وجود شرعى وأن ثبت لهذا وجود حمى فى الواقع، فالصلاة إذا فقدت أركانها لا تعد صلاة ولا يتحقق لها وجود عند ذلك شرعا، وكذلك العقد إذا فقد أحد أركانه لم يكن له وجود فى نظرالشارع. وفى هذه الحال يوصف كل منهما بالبطلان، فيقال فى الصلاة حينئذ أنها باطلة وفى العقد أنه باطل، ومعنى، ذلك فى واقع الأمر إنعدام كل منهما شرعا وفى مثل هذه الحال لا يكون كل منهما محلا للابطال،
إذ معناه جعل الفعل أو التصرف باطلا بعد أن بدأ صحيحا، فإذا بدأ باطلا لم يقبل إبطالا، لأن الباطل لا يبطل. ومن ثم كان البطلان الذى يحدث أثرا للإبطال حكما طارئا يطرا على الفعل
الشرعى أو التصرف، وعلى هذا لا يقال لمن صلى بلا ركوع وسجود أبطل صلاته إلا على معنى جاء بصلاة باطلة نجر موجودة ولا لمن باع- سلعة بغير قبول أبطل بيعه إلا على، معنى جاء بعقد باطل وفد يكون المراد بالإبطال إظهار بطلان الفعل الباطل أو العقد الباطل، وذلك يحدث فى القضاء بإبطال تصرف من التصرفات إذ لا يراد بقول القاضى أبطلت هذا العقد أو هذا الحق إلا أظهرت بطلانه، ذلك لأن القضاء مظهر ولا ينشئ إلا نادرا فى أحوال خاصة
ومما تقدم يتبين ما يأتى:
أولا: أن الإبطال جعل الفعل أو القول باطلا بر وذلك بإعدامه فى نظر الشارع وتجريده من وصف الوجود شرعا وهو الوجود الذى ناط به للتنازع ترتب الآثار الشرعية عليه، ومن ثم عد الباطل معدوها فى نظر الشارع واعتباره وكان العقد الباطل معدوما لا يترتب عليه أثر، والصوم الباطل معدوما لا يجزئ عن الواجب الشاغل للذمة وهو بهذا المعنى يتناول معنى الفسخ كما سيتضح ذلك فيما يأتى.
ثانيا: ان الإبطال عند الحنفية يكون بإدخال سبب كب حلل على الفعل أو التصرف، بعد بداية بداية صحيحه، وذلك بإعدام ركن من أركان، كمن بدأ صلاته بداية صحيحة، ثم ترك فيها ركوعا أو سجودا أو بدأ صيامه، ثم أكل عامدا فى أثناء النهارا
بدأ حجه ثم أرتد أو باع ثم أبطل بيعه بخيار مجلس عند القائل به أو بخيار شرط إذا ما شرطه لنفسه فى العقد أو أذن الموهوب له فى قبض العين الموهوبة ثم عدل عن إذنه أو أوجب فى عقد من العقود ثم عدل عن إيجابه فى مجلس العقد أو تزوج ثم أبطل زواجه بردته أو بخيار بلوغ، فكل ذلك أبطل لما بدأ صحيحا، وهذا بخلاف الإفساد فإن معناه عندهم إلحاق مفسد بما شرع فيه من عمل أو تصرف، كمن شرع فى صلاته ثم تكلم فيها بما يتكلم به الناس أو انحرف فيها عن القبلة انحرافا جعلها إلى ظهره، أو صام فجامع فى صيامه، أو حج فجامع قبل وقوفه بعرفة، أو باع بثمن فأجله إلى وقت الميسرة أو اشترط فيه شرط خيار لمدة سنة أو بغير مدة، أو قارض فاشترط لنفسه ربحا معين المقدار، أو رهن فاشترط بقاء الرهن تحت يده 000 فذلك كله عند الحنفية إفساد لا إبطال، إذ أنه لا يرجع إلى خلل فى أصل الفعل أو التصرف، وإنما يرجع إلى وصف من أوصافه، ولا يفرق غيرهم بين الحالين فهى عندهم إبطال أو إفساد.)
(راجع مصطلح: بطلان وفساد)
الفرق بين الإبطال والفسخ:
بينا فيما سبق معنى الإبطال ومحله، ونقرر هنا أن الإبطال كما يحدث أثناء القيام بالعمل الشرعى ، كما فى المصلى يتحدث فى صلاته بنا يشبه كلام الناس، وكما فى البيع إذا فصل بين إيجاب البائع وقبول المشترى ما يحول دون اتصال
القبول بالإيجاب من قيام أو كلام أو اشتغال بأى عمل يترتب عليه ذلك عرفا، وكما فى الزواج إذا أقترن بقبول الزوج ما يوجب بطلان العقد من ردة أو فعل يوجب حرمة المصاهرة، كذلك يحدث الإبطال بعد التمام. غير أن ذلك لا يتصوره الأفعال الشرعية كالصلاة والصيام والحج إذ بعد تمامها لا يمكن أن يلحق بها ما يبطلها، لأنها وقعت على وفق طلب الشارع مجزئة وبرأت منها الذمة، فلا تشغل بها مرة أخرى.
ولكنه يحدث فى التصرفات... فقد ذكروا أن الوقف يبطل بردة الواقف بعد تمامه، وأن الوصية تبطل برجوع الموصى عنها، وأن التوكيل يبطل بعدول الموكل عنه بشرط وصول الخبر إلى الوكيل وأن العارية تبطل برجوع المعير عنها، وأن البيع يبطل بخيار العيب وبخيار الرؤية عند إرادة الرد بهما، وأن الهبة تبطل برجوع الواهب فيها بشرط رضا الموهوب له أو قضاء القاضى، والمسائل من هذا النوع كثير عديدة يخطئها الحصر.
ولكن الملاحظ أن التعبير عن الإبطال بعد التمام أكثر الحالات والمواضع يكون بالفسخ، وقد يستعمل لفظ الإبطال، ولكن التعبير الأول أكثر استعمالا، ويندر أن يعبر عن الإبطال الحادث فى أثناء العمل بالفسخ وإذا عبر عنه بذلك كان من قبيل التجوز فى التعبير.
ففى الإقالة قالوا إنها فسخ فى حق المتعاقدين عقد جديد فى حق غيرهما، وفى العقد غير اللازم قالوا أنه ما يستبد أحد
العاقجين بفسخه وفى الرجوع فى الهبة من الواهب قالوا إذا رجع الواهب فى هبته بقضاء أو رضا كان فسخا لعقد الهبة وإعادة لملكه لا هبة جديدة، و فى خيال العيب قالوا إن الرد بخيار العيب قبل القبض يعد فسخ كالرد بخيار الرؤية أو بخيار الشرط (4) وهكذا، كما عبروا فى مثل هذه المواضع بالإبطال (5) .
وأذن فالفرق بين الإبطال والفسخ أن الإبطال أعم من الفسخ، فالإبطال كما يكون فى أثناء المباشرة يكون بعد التمام والفسخ لا يكون ألا بعد التمام، فكل فسخ أبطال، وليس كل إبطال فسخا، وذلك ما يشعر به ويدل عليه لفظ الفسخ لغة (6) ، فهو فيها النقض والتفريق، فقول العرب فسخت الشئ فرقته، وفسخت المفصل عن موضعه أزلته، وتفسخ الشعر عن الجلد، وليس يكون ذلك إلا عند إتصال شيئين فتفرق بينهما
( أنظر مصطلح فسخ) .
أسباب الإبطال:
تبين مما سمها أن الإبطال هو جعل العمل أو التحرف باطلا ، وإنما يكون ذلك ممن يباشر العمل بالنسبة للأفعال الشرعية أو ممن له شأن فى التصرف بالنسبة للتصرفات بناء على ثبوت الحق له فى ذلك شرعا تطبيقا لحكم شرعى ، وعلى ذلك لا يكون الإبطال
إلا بسبب مبطل شرعا، أى بسبب رتب الشارع عليه حكم الإبطال عند تحققه، فما لا يبطل به العمل أو التصرف شرعا لا يصلح سببا للإبطال، وإذا جعل سببا للإبطال لم يترتب عليه، وبناء على ذلك لا يملك المصلى أو الصائم أو الحاج أن يبطل صلاته أو صيامه أو حجه إلا بما جعله الشارع مبطلا لها فلا يملك المصلى أن يبطل صلاته بنظره إلى السماء عند صلاته أو بقيامه على رجل واحدة، ولا يستطيع الصائم أن يبطل صيامه بأكله ناسيا، ولا يستطيع الحاج أن يبطل حجه بلبس مخيط فى إحرامه. إذ أن الشارع لم يرتب على شىء من ذلك بطلان العمل، وليس لإرادة المصلى أو الصائم والحاج سلطان فى ذلك، بل الحكم فى الشارع.
ومما يجب ملاحظته أن أقدام المكلف على أبطال عمله. المتطوع به فى غير حج وعمرة بغير عذر مكروه، فإذا أبطله لزمه أعادته عند أبى حنيفة ومالك لقوله تعالى: " ولا تبطلوا أعمالكم (7) " فقد أمر بعدم أبطالها، فوجبت بالشروع فيها، وذلك ما فوجبت بالشروع فيها وحرمة إبطالها بغير عذر ووجوب قضائها إذا أبطلها مطلقا. وذهب الشافعى وأحمد(8) إلى استحباب اتمامه، وإذا أبطله لم يلزمه قضاؤه هو المراد فى الأية بإبطالها أبطال ثوابها بالمن أوالرياء والشروع فى التطوع لا يغير حقيقته وحكمه .
أما الحج والعمرة فيجب المضى فيهما وإعادتهما عند إبطالهما.
وذهب الشيعة الإمامية إلى عدم جواز إبطال الصلاة اختيارا من غير عذر، وإلى أنها تصير واجبة بالشروع فيها (9) .
وكذلك بالنظر إلى التصرفات الشرعية لا يستطيع ذو الشأن أن يبطلها إلا بما جعله الشارع مبطلا لها فالتصرف إذا كان غيرلازم بالنسبة- إلى طرفيه كالعارية والوكالة والشركة والوديعة يكون لكل عاقد حق أبطاله أو فسخه بإرادته المنفردة دون أن يتوقف ذلك على رضا الطرف الآخر، و إذا كان لازما بالنسبة إلى أحد طرفية غير لازم بالنسبة إلى الطرف الأخر كالرهن والكفالة كان لمن لا يلزم العقد بالنسبة له فقط أن يبطله بإرادته المنفردة، فكان للمرتهن هذا الحق دون الراهن، وكان للمكفول له هذا الحق دون الكفيل. أما الراهن أو الكفيل فليس له الإبطال إلا برضا المرتهن أو المكفول له، وإذا كان التصرف لازما بالنسبة إلى طرفيه كالبيع والإجازة ونحوهما لم يملك أحدهما إبطاله برضا الطرف الأخر، وهذا ما يسمى بالإقالة، وإذا فقد لزومه بسبب خيار كخيار رؤية أو شرط أو عيب كان له إبطاله إلا بناء على خياره وإذا كان التصرف بإرادة المتصرف المنفردة كالوقف والوصية والهبة والجعالة كان له إبطاله إذا جعله الشارع غير لازم كالوصية والجعالة والهبة فى بعض أحوالها، ولم يكن له ذلك بإرادته فيما جعله الشارع لازما كالوقف وعقد الصبى الممير موقوف فلوليه إبطاله عند الأحناف والمالكية، وكذلك عقد
الفضولى لصاحب الشأن فيه أبطاله عند القائلين بوقفه 0
وعلى الجملة فليرجع إلى مبطلات الصلاة فى مصطلح صلاة، وإلى مبطلات الصوم فى مصطلح صوم وإلى مبطلات الحج فى مصطلح حج وإلى بما!ت البيع والإجارة والرهن والصح والوقف فى مصطلحاتها وهكذا، وإلى مبطالات الحج حكام فى مصطلح قضاء.
أثر الإبطال وحكمه:
إذا حدث الإبطال قبل إتمام العمل الشرعى أو الإلتزام الشرعى كان أثره البطلان وبذلك صار معدوما فى نظر الشارع، وترتب على ذلك صيرورة العمل غير مجزئ وصيرورة الالتزام لاغيا لا يترتب عليه أثر، وهذا محل إتفاق بين المذاهب، إلا أن ترتب الآثار على أسبابها إنما هو نتيجة لإعتبار الشارع لها وترتيبها عليها، وإنما يكون ذلك عند وجوده فى اعتباره ونظره. أما اذا حدث الإبطال بعد التمام، وذلك لا يتصور كما قلنا إلا فى التصرفات الشرعية ، فإن أثره حينئذ هو إنهاء التصرف، ولا يكون لهذا الإنهاء عندئذ أثر رجعى فلا يترتب على إبطال الزواج حرمة ما حدث فيه من مباشرة سابقة ولا إنتفاء ما ثبت به من أنساب ولا سقوط ما وجب فيه من نفقات على الزوج، وكذلك الحال فى الهبة يرجع فيها الواهب بعد تمامها بالقبض، فإن جميع منافع العين و زوائدها قبل إبطالها وفسخها تكون للموهوب له متى كانت منفصلة لأنه المالك
للعين الموهوبة قبل الرجوع، وزيادة الملك ونماؤه لمالكه ولا تكون للواهب، غير أن الزيادة المتصلة كالسمن مثلا تمنع الرجوع عند الحنفية وتمنع الإعتصار عند مالك، وهو رجوع الأب فيما وهبه لولده وتمنع الرجوع كذلك عند أحمد على رواية جواز رجوع الأصل فيما وهبه لفرعه ولا تمنع رجوع الأصل فيما وهبه لفرعه عند الشافعى، بل تتبع أصلها فتكون للواهب، و هو مذهب الأباضية.
أما المنفصلة ظل ملكا للموهوب له وإلى هذا ذهب الشيعة الجعفرية.
ولا يرى أهل الظاهر جواز الرجوع فى الهبة (10) .
وذهب الزيدية الى أن الزيادة المتصلة تصنع الرجوع لا المنفصلة إذا تكون للموهوب له (11) ونتيجة ذلك اقتضاء الرجوع فى الهبة وعدم استناده إلى وقتها، وكذلك الحكم فى الوكالة إذا أبطلها أحد عاقديها، والشركة والقراض و العاريه والمساقاة والمزارعة والإجارة إذا فسخت بسبب عذر أو بإقالة، فالفسخ فى جميع هذه الأحوال لا يستند إلى وقت حدوث العقد، وإنما يقتصر الإبطال على وقته فلا يترتب عليه أثره إلا من ذلك الوقت، إذ أن الإبطال لا يرفع عقدا ولا يبطله فقد حدث بعد تمامه وترتب آثاره عليه، أيضا ينهيه من وقت فسخه فيرفعه بذلك الفسخ والإبطال.
وبناء على ذلك اذا حدث الفسخ أو الإبطال قبل تمام العقد وترتب آثاره عليه فإن الحكم يختلف تبعا لما تم من آثاره وما لم يتم ومما فرع على ذلك عقد البيع إذا كان فيه خيار شرط أو خيار رؤية أو خيار عيب ذلك أن خيار الشرط يقف ترتب آثار العقدعليه عند الحنفية. فإذا حدث الفسخ الإبطال بناء عليه لم يترتب على العقد شئ جديد، وأرتفع بالفسخ (12) .
ويرى مالك فى أصح أقواله أن خيار الشرط يحول كذلك دون ترتب آثاره عليه أيضا، وعلى ذلك فالبيع فى زمن الخيار لا يزاد مملوكا للبائع، والثمن لا يزال مملوكا للمشترى سواء أكان الخيار لأحدهما أم لهما وعلى ذلك فيكون الحكم هو ما ذكرنا عند الحنفية وهو أن العقد لم يترتب عليه أثر جديد وأنه بالفسخ يرتفع وعلى ذلك يكون نماء المبيع و زوائده للبائع متى كانت حادثة زمن الخيار سواء أجيز العقد أم فسخ عن وهناك آراء أخرى للمالكية فى ذلك (13) .
ويرى الشافعى أن ملك المبيع فى مدة الخيار لمن له الخيار، فإن كان الخيار للبائع وحده فهو المالك للمبيع وحده، وإن كان الخيار للمشترى وحده كان ملك المبيع له كما يكون ملك الثمن للبائع، وإذا كان الخيار لهما فالأمر موقوف إلى أن يظهر مآل العقد، فإذا فسخ البيع ظهر أن المبيع لم يخرج من ملك البائع وأن الثمن لم يزل فى ملك المشترى، وعلى هذا الأساس يكون
لحكم على الزوائد والنماء فى مدة الخيار فهى لمن له الملك فى تلك المدة قبل أن يئول العقد إلى فسخه (14)
و يرى أحمد أن اشتراط الخيار لا يحول دون ترتب آثاره عليه، وهذا ظاهر المذهب، وعلى هذا الأساس يكون الحكم على الزيادة والنماء فيهما للمشترى لحدوثهما على ملكه وفسخ العقد إنما يكون من وقت الفسخ لاين وقت إنشائه.
غير أن الزيادة كانت متصلة كالسمن فإنها تتبع أصلها عند الفسخ (15) فتكون لمن كان له ملك أصلها. وعلى هذا يرى أيضا أن الفسخ أو الإبطال يقتصر على وقت حدوثه فلا يثبت بأثر رجع إلى وقت نشأة العقد. ويلاحظ أنه بالنسبة إلى العقد الموقوف عند فسخه، فإن فسخه يثبت بأثر رجعى إلى وقت إنشائه ، ذلك لأن العقد الموقوف لا يترتب عليه آثر وإنما ينفذ بإجازة) (راجع خيارات) .
فى الجملة ففسخ العقد يقتصر على وقت إنشائه عند الفقهاء اذ لا يعدم التزام وجد صحيحا فى زمن صحته، وإنما ينهيه من وقت حدوثه، وذلك ما يرى أنه ليس محالا للخلاف. ويلاحظ كذلك أن العقد إذا حدث فاسدا كان له وجود فى نظر الحنفية ووجب على كل من طرفيه فسخه وإذا وصل علم القاضى إليه فسخه القاضى إن لم يفسخه أحد طرفيه ، أما عند غيرهم فليس له وجود حتى يقتضى، ذلك فسخه وإبطاله(16) .

__________

(1) المعجم الوسيط- مفردات الراغب - القاموس في مادة بطل.
(2) راجع الشرح الكبير للدردير فى كتاب البيع من الجزء الثالث، وفى كتاب النكاح من الجزء الثانى طبعة الحلبى وشرح مسلم الثبوت ج1 ص122 والإحكام للآمدى ج 1ص 187 وروضة الناظر فى أصول فقه ج1 ص 164 وما بعدها المطبعة السلفية سنة 1342، وارشاد الفحول للشوكانى ص104 مطبعة السعادة سنة 1327.
(3) أبن عابدين ج2 ص 228، 229 .
(4) الدر المختار ج 4 ص 96.
(5) أرجح الى ابن عابدين ج4 ص80 من باب خيار العيب.
(6) المصباح المنير والقاموس و الاساس فى مادة فخ.
(7) سورة محمد: 33.
(8) كشاف القناع ج1 ص 528.
أحكام القرآن لابن العربى .
أحكام القرآن للجصاص ج3 ص219 .
وأحكام القرآن للقرطبى ج16 ص255 .
(9) مصابيح الفقه وكتاب الصلاة ص 427، 428.
(10) تكملة ابن عابدين فى الهبة ج 2 فى آخره.
كشاف القناع ج2 ص 185.
الخرشى ج 7 ص 134.
البجرمى على المنهج ج 3 ص244.
المحلى وتحرير الاحكام ج1 ص441 .
(11) شرح الأزهار ج 3 ص441 .
(12) راجع البدائع ج 5 ص346.
(13) الشرح الكبير للدردير ج 3 ص 104 .
الخرتشى ج 5 ص137.
شرح النيل ج6 ص10
شرح الأزهار ج 35 ص441.
(14) نهايه المحتاج ج4 ص19 .
روض الطالب ج 2 ص 53.
(15) المغنى ج4 ص26 .
كشاف القناع ج 2 ص 50
(16) الدر المختار أحكام البيع الفاسد .


 
الوسوم
الإسلامي الفقه موسوعة
عودة
أعلى