موسوعة الفقه الإسلامي

نفقة الآبق والرجوع بها

الحنفية:
يرى الحنفية أن آخذ الآبق إذا انفق عليه بدون إذن الحاكم يكون متبرعا، فلا يرجع بما أنفق على سيده، أما إذا أذنه الحاكم فإنه يرجع على سيده بما أنفق بشرط أن يقول فى إذنه له: " على أن ترجع بما أنفقت " فإذا لم يقل ذلك لا يكون له الرجوع فى الأصح، وذلك لأنه لو أذنه بشرط الرجوع يكون دينا على سيده، لأن للقاضى. ولاية فى مال الغائب، وهو هنا السيد وولايته على الآبق نظرا لهما وقد يكون النظر بالإنفاق. أما إذا لم يشترط فى إذنه الرجوع فإنه لا يكون دينا فى الأصح ولآخذ الآبق أن يحبسه عن السيد حتى يأخذ ما أنفق ، كما يصح للبائع أن يحبس المبيع حتى يأخذ الثمن(1).
وإذا كان المنفق عليه السلطان فى حالة ما إذا عجز الآخذ عن حفظه وأتى به إلى السلطان فإن السلطان ينفق عليه من بيت المال مدة حبسه، ثم يأخذ ما أنفقه من صاحبه عندما يجىء لطلبه ويرده إلى بيت المال. فإذا لم يجىء للعبد طالب وطالت مدته: بأن بلغت ثلاثة أيام كما جاء فى فتح القدير، وستة أشهر كما جاء فى ابن عابدين نقلا عن التترخانية - باعه القاضى وامسك ثمنه بعد أخذ ما أنفق لبيت المال منه. فإذا جاء مالكه وأقام البينة على أنه مالكه وحلف أنه لا يزال على ملكه- وهو قائم فى يد المشترى- لا يأخذه ولا ينتقص بيع القاضى، لأنه كحكمه، ولا يؤجره السلطان أو آخذه وينفق عليه من أجرته، لأنه يخشى إباقه ، ولا يقاس فى ذلك على الضال، لأن الضال لا يخشى إباقه، كما أنه لا يقاس عليه فى عدم بيعه وإن طالت مدته، لأن الضال ينفق عليه من أجرته فلا يخشى أن تستأصل النفقة ثمنه 0 أما الآبق فإن دارة النفقة تستأصل ثمنه. ضرورة أن نفقته من ثمنه لا من أجرته (2).
المالكية:
يرى المالكية أن نفقة العبد الآبق فى رقبة لا فى ذمة سيده ، قال الدردير فى الشرح الكبير فى حالة ما إذا أبق العابد الآبق من الملتقط: " لا يبين على الملتقط (أى يصدق فى دعواه أنه أبق عنده من غير يمين) لأن نفقته على الآبق فى رقبته فلا يتهم بالتفريط لضياع نفقته عليه (3) ".
ومعنى كونها فى رقبته أنه إذا جاء سيده لأخذه دفعها ، لأن الرقبة للسيد: فقد جاء فى حاشية الدسوقى: " إن نفقة الطعام والشراب والكسوة على ربه، ولو وجب للعامل جعل المثل أو المسمى فإذا قام بها العامل رجع بها عليه (4) ".
وقد تقدم فى عنصر (حكم أخذ الآبق) أن الظاهر أنه يرجع على السيد أيضا بما أنفقه على المحافظة على الآبق كأجرة الحارس إذا كان يخشى منه إيذاء لأنها من متعلقات حفظه.
هذا إذا كان من رده غير معتاد لرد الإباق والضلال أما إذا كان معتادا ذلك وقد وجب له الجعل، أو وجب له جعل المثل، فإن نفقة الآبق عليه ولو استغرقت الجعل (5).
أما إذا كان الآخذ قد رفعه إلى الأمام فإن الأمام ينفق عليه من بيت المال مدة وقفه (أى حفظه) ، وهى سنة. فإذا جاء ربه أخذ منه النفقة وردها إلى بيت المال. أما إذا لم يجىء إلى نهاية السنة فإنه يبيعه، كما أن له أن يبيعه قبل مضيها إن خشى عليه ويأخذ ما أنفق من ثمنه ويرده إلى بيت المال (6).
الشافعية:
يرى الشافعية أن الإنفاق على الآبق ممن أخذه ليرده يكون تبرعا إلا إذا كان قد انفق عليه مدة الرجوع بإذن الحاكم، أو يشهد أن لم يجد الحاكم أنه أنفق ليرجع، فقد جاء فى المغنى للخطيب الشربينى: " وإن أنفق عليه مدة الرجوع فمتبرع إلا أن يأذن الحاكم، أو يشهد عند فقده (أى فقد الحاكم وعدم وجوده عنده) ليرجع (7) ".
وليس له حبسه حتى يأخذ النفقة إذا كانت بإذن المالك، كما أنه لا يحبسه حتى يأخذ الجعل، فقد جاء فى المغنى شرح المنهاج: " وإذا رده: أى الآبق على سيده فليس له حبسه لقبض الجعل، لأن الاستحقاق بالتسليم. ولا حبس قبل التسليم. وكذا لا يحبسه لاستيفاء ما أنفقه عليه بإذن المالك (8) ".
الحنابلة:
يرى الحنابلة أنه إذا أنفق عليه آخذه ليرده إلى سيده تكون النفقة على سيده، يأخذها منه عند رده، فقد جاء فى مختصر الخرقى وشرحه المغنى: " وإذا أبق العبد فلمن جاء به إلى سيده ما أنفق عليه. وإنما كان كذلك لأن نفقة العبد على سيده، وقد قام الذى جاء به مقام سيده فى الواجب عليه، فرجع به عليه كما لو أذن له، وأنه أدى عنه ما وجب عليه عند تعذر أدائه منه، فرجع به عليه، كما أدى الحاكم عن الممتنع من الإنفاق على إمرأته ما يجب عليه من النفقة (9) ".
الزيدية:
يرون أن آخذه ينفق عليه من كسبه إن كان له كسب، وإلا فكاللقطة، فقد جاء فى البحر الزخار: " وينفق عليه من كسبه إن كان ، وإلا فهو كاللقطة (10) ".
وقد ذكر حكم الإنفاق على اللقطة بقوله:
" يرى القاسمية أن عليه أن ينفق عليها ولو بنية الرجوع. ويرجع بما أنفق عليها، أو لنقلها، ولو بغير إذن الحاكم. ويرى زيد بن على والناصر والمؤيد بالله أنه لا ينفق عليها إلا بإذنه. قلنا: له الولاية على حفظها بدليل مطالبة غاصبها بعينها أو قيمتها، فكذا إنفاقها، وله حبسها حتى يستوفى بما أنفق (11) ".
الظاهرية:
يرى ابن حزم الظاهرى أن من وجد الضالة فأنفق عليها كان متبرعا، لأن صاحبه لم يأذنه بذلك، فقد قال فى المحلى: " ولا يلزم من وجد متاعه إذا أخذه أن يؤدى إلى الذى وجده عنده ما أنفق عليه ، لأنه لم يأمره بذلك، فهو متطوع بما أنفق... ثم روى عن الشعبى: إن رجلا أضل بعيرا له نضوا أى مهزولا فأخذه رجل فأنفق عليه حتى صلح وسمن، فوجده صاحبه عنده فخاصمه إلى عمر بن عبد العزيز فقضى له بالنفقة ورد الدابة إلى صاحبها. قال الشعبى: أما أنا فأقول: يأخذ ماله حيث وجده: سمينا أو مهزولا. ولا شىء عليه (12) ".
فهو 0 كما ترى يأخذ برأى الشعبى فى الضالة، والآبق عنده فى حكم الضالة كما ذكرنا.
الشيعة الإمامية:
يرون أن نفقة الآبق تكون على مالكه، إن لم يكن قد وضع عليه يد ضامنة كيد الغاصب، وقد تقدم أن ذكرنا ذلك حين الكلام على من يكون عليه الجعل، وقد قال صاحب شرائع الإسلام: " ولو التقط مملوكا ذكرا أو أنثى لزمه حفظه وإيصاله إلى صاحبه... ثم قال: ولو أنفق عليه باعه فى النفقة إن تعسر عليه استيفاؤها (13) ".
دية الآبق، ولمن تكون وعلى من يكون ضمان ما يتلفه هو؟

 
الحنفية:
يذهب الحنفية إلى أن حكم الآبق فى الجناية منه أو عليه كالحكم فيها فى المصر، فقد جاء فى المبسوط للسرخسى: " والحكم فى جناية الآبق والجناية عليه وفى حدوده كالحكم فيها فى المصر لأن الرق فيه باق بعد الإباق. وملك المولى قائم فيه. وباعتباره يخاطب بالدفع و الفداء عند قدرته عليه (14) " فتكون ديته إذا قتل على وجه يستوجب الدية، أو قطع من أطرافه ما يستوجب الأرش- لسيده. ودية العبد بقدر قيمته، ونصفها بقدر نصفها ومادون ذلك فبالنسبة إليها.
أما متى تجب الدية كاملة أو نصفها أو دون ذلك فينظر فيه مصطلح(دية).
ضمان ما يتلفه الآبق
حكم الآبق فى جنايته على شىء كالحكم فيها فى المصر كما قدمنا. والعبد فى المصر قد تكون جنايته إتلافا للنفس أو لجزء من آدمى، وقد تكون إتلافا لمال، فقد جاء فى الفتاوى الأنقروية بشأنهما " ففى الأول خير المولى بين الدفع والفداء. وفى الثانى خير بين الدفع والبيع (15) ".
أما فى حالة القصاص فإنه لا بد أن يدفعه إلى الحاكم أو ولى الدم ليستوفى منه القصاص إلا إذا رضى ولى الدم بالعفو عنه وتصالح على أخذ الدية. ومتى اختار المولى أحد الأمرين الدفع أو الفداء فى الحالة الأولى وفعله فلا شىء لولى الجناية سواه.
أما الدفع فلأن حق ولى الجناية متعلق به فإذا خلى بينه وبين الرقبة سقط حق المطالبة عن المولى. وما الفداء فلأنه لا حق له إلا الأرش. فإذا أوفاه حقه سلم العبد له. وكذا إذا اختار أحدهما قولا ولم يفعل، أو فعل ولم يختره قولا يسقط حق ولى الجناية فى الأخر لأن المقصود تعيين المحل حتى يتمكن من الاستيفاء. والتعيين يحصل بالقول كما يحصل بالفعل ولا فرق فيما ذكر بين أن يكون المولى قادرا على الأرش أو غير قادر عند أبى حنيفة رحمه الله لأنه اختار أصل حقهم إذ أصل حقهم الأرش، وإنما جاز دفع العبد تخفيفا عنه، ومتى اختار أصل حقهم بطل حقهم فى العبد لأن ولاية التعيين للمولى لا لأولياء الدم.
وقال الصاحبان: لا يصح اختياره الفداء إذا كان مفلسا إلا برضاء الأولياء، لأن العبد صار حقهم بإفلاسه لأن الأصل عندهم دفع العبد، حتى إن المولى يضمنه بالإتلاف، فلا يملك إبطال حقهم إلا برضاهم أو بوصول البدل إليهم، وهو الدية. ومتى اختار أحدهما وجب عليه حالا (16).
أما إن كان ما أتلفه مالا فقد بينا لك أنه مخير بين الدفع والبيع ليدفع قيمة ما أتلفه فيما نقلناه عن الفتاوى الأنقروية، وإذا كان مرهونا فإن ما يتلفه يكون على المرتهن إذا كانت قيمة العبد تساوى الدين أو أقل. أما إذا كانت أكثر فإن قيمة ما يتلفه تقسم بين المرتهن والراهن بنسبة الدين والزيادة فى القيمة (17).
المالكية:
أما المالكية فعندهم دية العبد هى قيمته بالغة ما بلغت، فقد قال ابن رشد الحفيد: " وأما إذا قتل العبد خطأ أو عمدا على من لا يرى القصاص فيه، فقال قوم على القاتل قيمته بالغة ما بلغت وإن زادت على دية الحر وبه قال مالك والشافعى وأبو يوسف " ... ثم قال: وعمدة مالك أنه مال قد أتلف فوجب فيه القيمة أصله سائر الأموال (18). وواضح ان الأبق لا يزال عبدا مملوكا لسيده فديته تكون لسيده.
أما ما يتلفه العبد فأما أن يكون بجناية على الآدمى، وأما أن يكون بجناية على المال. فإن كان بجناية على آدمى. فقد جاء فى الشرح الكبير وحاشية الدسوقى عليه: "وإن قتل عبد عبدا مثله أو حرا عمدا وثبت القتل ببينة أو، قسامة فى الحر- خير ولى المقتول ابتداء فى قتل العبد واستحيائه (أى طلب بقائه حيا على أن يأخذه أو يأخذ الدية) فإن اختار القتل فواضح، وإن استحياه فلسيده الخيار ثانيا فى أحد أمرين تسليمه، أو فداؤه (19).
ومادام سيده له فداؤه فهو الذى سيكون ملزما بهذا الفداء نظير جناية العبد الآبق وواضح أن هذا الخيار لا يتحقق إلا إذا كان الآبق قد رد فلا تلزمه هذه الدية إلا بعد رد الآبق.
 
الشافعية:
يرى الشافعية أن دية الرقيق لسيده والآبق رقيق، فقد جاء فى الإشباه والنظائر للسيوطى: من أستحق القصاص فعفى عنه على مال فهو له (20) - أنظر جناية الرقيق وديته.
وقال فى الإشباه أيضا: " إذا جنى على عبد فى حال رقه فقطع يده مثلا ثم عتق ومات بالسراية فوجب فيه دية حر فإن للسيد فيها على أصح القولين- أقل الأمرين: من كل الدية ونصف القيمة (21). ومعروف أن الآبق لا يزال عبدا. فيكون حكمه ما ذكر.
أما ما يتلفه الآبق فإما بجناية على الآدمى، أو على المال. فإن كان جناية على الآدمى وكانت موجبة للمال فقد قال صاحب المنهاج وشارحه صاحب المغنى: " جناية العبد الموجبة للمال وهى ما كانت غير عمد أو عمدا وعفا ولى الجناية على مال فالمال يتعلق برقبته بالإجماع كما حكاه البيهقى إذ لا يمكن الزامه لسيده لأنه إضرار به مع براءته ولا أن يكون فى ذمة العبد إلى عتقه للإضرار بالمستحقين " ثم بين صاحب المغنى معنى التعلق بالرقبة بأنه يباع ويصرف ثمنه إلى الجناية، ولا يملكه المجنى عليه بنفس الجناية وإن كانت قيمته أقل من أرشها لما فيه من إبطال حق السيد من التمكن من الفداء.. ثم بين هذا الفداء فقال وله أيضا فداؤه فيتخير بين الأمرين فإن اختار الفداء فيفديه فى الجديد بالأقل من قيمته ومن الأرش لأن الأقل إن كان القيمة فليس عليه غير تسليم الرقبة وهى بدلها أو الأرش فهو الواجب ثم قال: وفى القديم يفديه بأرشها بالغا ما بلغ لأنه لو سلمه ربما بيع بأكثر من قيمته (22).
وواضح أن ثبوت حق الولى فى الاختيار إنما يكون بعد رد الآبق أما قبله فلا يمكن الاختيار فينتظر إلى أن يرد فإذا لم يرد فلا شىء عليه، ويدل على هذا، أو يوحى به ما جاء فى المنهاج والمغنى: " ولو هرب العبد الجانى أو مات قبل اختيار السيد الفداء برىء سيده من عهدته لأن الحق متعلق برقبته وقد فاتت إلا إذا طلب تسليمه منه ليباع فى الجناية فمنعه "..
ثم قال صاحب المغنى لو علم السيد موضع العبد الهارب وأمكنه رده- قال الزركشى: يتجه أن الرد يجب لأن التسليم واجب عليه (23).
وقد استثنوا من الخيار بين التسليم لتباع وبين الفداء ما إذا كان الجانى أم ولد فقد جاء فى المنهاج والمغنى: " ويفدى السيد جوبا أم ولده الجانية حتما بالأقل من قيمتها والأرش قطعا لأنه بالاستيلاء منع بيعها مع بقاء الرق فيها فأشبه ما إذا جنى العبد فلم يسلمه للبيع... ثم قال: وقيل فى جناية أم ولده: القولان السابقان فى جناية القن. ولعل مأخذه جواز بيع أم الولد (24) ".
وعلى القول بوجوب الفداء، فى أم الولد يكون حق المجنى عليه قد تعلق بالسيد، فقد قال السيوطى فى الأشباه والنظائر فى الأمور المتعلقة بالعبد: " الرابع ما يتعلق بالسيد، وذلك جناية المستولدة والعبد الأعجمى (أى الذى أمره آمر بالجناية فإنها تكون على الآمر لأنه يعتقد طاعة آمره) (25) أما ما يتلفه من المال فإنه يباع فيه لأنه يتعلق برقبته فقد قال السيوطى فى الأشباه فى الأمور المتعلقة بالعبد: الأول "ما يتعلق برقبته فيباع فيه وذلك أرش الجناية، وبدل المتلفات سواء كان بإذن السيد أم لا، لوجوبه بغير رضا المستحق (26) ".
وظاهر أن بيع الآبق إنما يكون بعد أن يرد.
 
الحنابلة:
يرى الحنابلة أن دية العبد تكون لسيده ولم يفرقوا بين كونه آبقا أو غير آبق فقد جاء فى المحرر عند الكلام على ما يشترط لوجوب القود: " ولو قال العبد اقتلنى أو إجرحنى ففعل المقول له ضمن الفاعل لسيده المال (27) ".
وقال فى المغنى " وإن قطع يد عبد فأعتق ثم عاد فقطع رجله وأندمل القطعان فلا قصاص فى اليد لأنها قطعت حال رقه.
ويجب فيها نصف قيمته أو ما نقصه القطع لسيده (28) ".
أما ما يتلفه فإنه يتعلق برقبته سواء أكانت جناية على آدمى أو مال، فقد جاء فى المحرر: وإذا جنى العبد خطأ أو عمدا لا قود فيه ، أو فيه قود واختير فيه المال أو أتلف مالا فسيده بالخيار بين شيئين فقط فداؤه أو بيعه فى الجناية وعن أحمد رواية أخرى يخير بين الفداء أو دفعه بالجناية فقط. وعنه يخير بين الثلاثة وهنالك تفصيلات أخرى انظر مصطلح (دية).
 
الزيدية:
يرون أن دية العبد بقدر قيمته إلا بعض علماء الزيدية فإنهم يشترطون ألا تزيد القيمة على دية الحر فغن زادت لم يضمن الزائد، ومن حيث أن الآبق لا يزال مملوكا لسيده فهو داخل فى ذلك الحكم، وقد جاء فى البحر الزخار
عن دية العبد: " والعبد والمدبر وأم الولد مضمونون بالقيمة إذ هم مال كالثياب والأسلحة " ثم نسب إلى زيد بن على، ولكتاب المنتخب، وللمؤيد بالله، ويحى بن الحسين من علماء العترة وأبى العباس الهاشمى الحسنى. أنهم قالوا: " إذا تعدت القيمة دية الحر لم يضمن الزائد لقول على عليه السلام (لا يزاد) الخبر وهو توقيف وقد روى صاحب جواهر الأخبار كلام على - عليه السلام - فقال العبد مال يؤدى ثمنه ولا تكون دية العبد أبدا أكثر من دية الحر (29) ".
وتكون أطراف العبد وأروشه (بدل جراحاته) منسوبة إلى قيمته فقد جاء فى البحر الزخار منسوبا إلى العترة " وأطراف العبد وأروشه منسوبة إلى قيمته كنسبتها إلى الدية فى الحر إذ روى عن على - عليه السلام - وعمر بن الخطاب ولم يخالفا (30) ". وفى هذا تفصيل ينظر فى مصطلح " دية".
أما لمن تكون دية الآبق فالذى يدل عليه كلامهم أنها تكون للسيد لأنه لا يزال عبدا له ودية العبد لسيده فقد جاء فى البحر الزخار منسوبا إلى المؤيد بالله ويحيى بن الحسين أبو طالب من العترة " وإذا جنى على العبد فلمالكه إمساكه ويطالب بالأرش كغيره من السلع (31) ".
أما جناية الآبق فإنها كجناية كل عبد تتعلق برقبته، فقد جاء فى البحر الزخار:
" فإن هلك العبد وفى رقبته جناية لم ضمنه سيده. قلت: ولو بعد تمرده، لتعلقها برقبته، إلا أن يموت بعد اختياره للفداء (32) ".
ومقتضى هذا أن الآبق كغيره فى تعلق الجناية برقبته. فإذا جنى ففى ذلك تفصيل، لأنه إما أن يكون أبق من سيده، أو أبق ممن عليه ضمانه كالغاصب. فإن كان قد أبق من سيده- فإن كانت جنايته على النفس تستوجب قصاصا فإنه يجب على سيده تسليمه بعد الرد إلى ولى الجناية، فقد قال صاحب البحر الزخار: " وإذا قتل عبد حرا سلمه مالكه لولى الجناية. ويخير ولى الجناية بين قتله ، واسترقاقه، والتصرف فيه بأنواع التصرف إذ الاسترقاق والتصرف أخف حكما من القتل، وقد جاز القتل. وله أن يعفو أو يصالح (33) ".
أما إذا تنازل ولى الجناية عن القصاص على أن يعوض عن الجناية مالا فإن السيد عند رده- يكون مخيرا بين تسليمه أو فدائه، فقد جاء فى البحر الزخار- كما نقلنا سابقا- أن لولى الجناية أن يعفو أو يصالح والمصالح معه السيد، وما دام قد صالح فإنه يكون الحكم كما لو جنى على عضو، وقد جاء فى البحر عن الجناية على عضو: " وإذا جنى على طرف فللولى القصاص أو العفو بعوض أو لا، إذ الحق له.
وإذا اختار الأرش خير السيد بين تسليمه أو فدائه بالغا ما بلغ. وكذا لو جنى مالا قصاص فيه". هذا إذا كان قنا 0 أما إذا كان الجانى أم ولد (والفرض أنها آبقة) فإنها لا تسلم للاسترقاق بل للقصاص، وقد جاء فى البحر الزخار فى ذلك: " ولا تسلم أم الولد للاسترقاق، بل للقصاص، إلا عند من جوز البيع. وحيث يسقط القصاص يلزم السيد الأقل من قيمتها أو الأرش ... ثم قال: فإن أعسر السيد سعت فى قدر قيمتها فقط (34) ".
وأما إذا كان الجانى مكاتبا فإنه يسلم للقصاص وإن استحق فى الجناية أرش لمصالحة ولى الجناية فإنه يكون من كسبه، ولا شىء على السيد، فقد جاء فى البحر الزخار: " والمكاتب يقتص منه كالحر، لكن بشرط التكافؤ. ويتأرش من كسبه " ولكن الإمام يحيى بن حمزة الحسينى قال على ما رواه صاحب البحر الزخار: " إن أيسر السيد فعليه إلى قدر قوته كالمدبر، والجامع كونه عتق بإذن مولاه. وإن أعسر فوجهان: يسعى فيه وفى الكتابة ويقدم ما طلب. فإن نفقت فالجناية أقدم. إذ الدماء أعظم حرمة فإن عجز فكا لرق (35) " أما إذا كان الجانى مدبرا فإنه يقدم للقصاص، لا للاسترقاق ولو رضى ولى الدم بالعوض المالى فإن سيده يدفع الأرش، وقد قال صاحب البحر الزخار فى ذلك: " ويقتص من المدبر كغيره، ولا يسترق، وما لا قصاص فيه فعلى سيده الموسر اتفاقا، كأم الولد". ولكن القاسمية من الزيدية يرون أن هذا مقيد بيسار السيد، فقد قال صاحب البحر الزخار " نقلا عن القاسمية فإن أعسر فالقن: يسلمه أو يفديه (36) ".
هذا إذا كانت جنايته على آدمى. أما إذا كانت جنايته على مال فإنها بناء على أن الجناية تتعلق برقبته فيكون على المالك تسليمه لصاحب المال، أو الأرش كله متى رد إليه، فقد جاء فى البحر الزخار: " عن المؤيد بالله، وأبى طالب يحيى بن الحسين، وجناية العبد على المال تتعلق برقبته فيسلمها المالك، أو كل الأرش. وقيل: بل قدر قيمته. قلنا: إمساكه حول الجناية إلى ذمة السيد فضمنها ": أى أن السيد لما اختار إمساكه يكون قد حول الجناية إلى ذمته فيضمنها (37).
هذا فى القن أما المدبر وأم الولد فلا خيار للسيد بين التسليم ودفع الأرش بل يلزم بدفع الأرش لأن تسليمها إنما يكون ليسترقهما من أصابه التلف، وهما لا يسترقان وقد قال صاحب البحر الزخار فى هذا: " وأما أم الولد والمدبر فتسليمهما للرق متعذر، فتعين فى ماله قيمتهما حيث لا قصاص... ثم قال: بخلاف القن فاختيار إمساكه اختيار لتسليم كل الأرش لصحة استرقاقه. وما زاد على قيمتها من الأرش ففى رقبة المدبر، إذ يصح بيعه للضرورة وفى ذمة أم الولد إذ لا يصح بيعها. أما جناية المكاتب فمن كسبه (38) ".
 
هذا كله إذا رد الآبق إلى السيد. أما إذا لم يرد بحيث يهلك قبل أن يرد فلا شىء على السيد، كما لو هلك غير الآبق قبل أن يختار سيده التسليم فى الجناية أو الفداء وهذا ما أفصح عنه صاحب البحر الزخار بقوله " وإن هلك العبد وفى رقبته جناية لم يضمنه سيده. قلت: ولو بعد تمرده، لتعلقها برقبته إلا أن يموت بعد اختياره للفداء (39) ".
ويكون السيد مختارا للفداء إذا عبر بذلك صراحة أو فعل ما يتضمن أنه اختار الفداء بأن يعتقه أو يبيعه، أو يقتله بعد أن يكون قد علم جنايته، وهذا ما ذكره صاحب البحر بقوله: " فإن أعتقه أو قتله أو باعه عالما فهو اختيار للفداء فيلزمه، لا المشترى إذ لم تقع فى ملكه. وكذا لو رهنه بعد الجناية إذ أوجب فيه حقا للغير كالبيع (40) ". أما إذا كان قد أبق ممن يضمنه كأن يكون غاصب قد غصبه فإن ضمان جنايته على الغاصب وإن تعلقت برقبته. فقد قال صاحب البحر الزخار: "وجناية المغصوب على غاصبه إلى قيمته أى مضمومة إلى قيمته ثم فى رقبته. ثم قال: فإن قتل غاصبه اقتص منه الورثة، وعليهم قيمته من تركة الغاصب. وكذا لو قتل العبد سيده اقتص منه ورثته، وضمن الغاصب قيمته، إذ لا مسقط لضمانه (41) ".
 
الظاهرية:
الآبق لا يزال رقيقا، وملكه لا يزال لسيده، فالجناية عليه جناية على عبد مملوك فإذا جنى عليه بما يستوجب الدية أو أرش الجناية فقد بينه ابن حزم الظاهرى بقوله:
" وكل ما جنى على عبد أو أمة فإن فى الخطأ فى العبد وفى الأمة خطأ أو عمدا ما نقص من قيمته بالغا ما بلغ. وأما العبد والأمة ففيما جنى عليهما عمدا القود وما نقص من قيمتهما. أما القود فللمجنى عليه، وأما ما نقص من القيمة فللسيد فيما اعتدى عليه من ماله (42) ".
ثم قال: " والعبد والأمة مال فعلى متلفهما مثل ما تعدى فيه بالغا ما بلغ (43) ".
ومقتضى هذا أنه لا يحدد للرقيق دية: بأن تكون على النصف من دية الحر، أو أنها قيمته ما لم تبلغ عشرة آلاف درهم فإن بلغت لا يعطى سيده إلا عشرة آلاف درهم ينقص منها عشرة إن كان عبدا أو خمسة آلاف درهم ينقص منها خمسة إن كان أمة، إلى غير ذلك مما لا يجعل الدبة قيمته بالغة ما بلغت ولو وصلت إلى عشرين ألف درهم أو يزيد، وقد علل ابن حزم رأيه بأن العبد والأمة مال فعلى متلفهما لسيدهما مثل ما تعدى فيه بالغا ما بلغ كما تقدم أما من حيث القصاص إن كان القاتل عبدا أو حرا فينظر فيه مصطلح(قصاص).
وأما ما يتلفه العبد آبقا أو غيره فقد بينه ابن حزم بقوله: " وأما جناية العبد على مال غيره ففى مال العبد إن كان له مال.فإن لم يكن له مال ففى ذمته يتبع بها حتى يكون له مال فى رقه أو بعد عتقه، وليس على سيده فداؤه، لا بما قل، ولا بما كثر، ولا إسلامه فى جنايته ولا بيعه فيها وكذلك جناية المدبر والمكاتب وأم الولد والمأذون وغير المأذون سواء. الدين والجناية فى كل ذلك سواء (44) "
أما جناية العبد على النفس فإن كان القتل عمدا ففيه القصاص، وإن كان خطأ ففيه الدبة المقررة. وينظر فى ذلك مصطلح (قصاص) ومصطلح (دية). ولكن الدية تكون على العبد آبقا أو غيره فى ماله إن كان له مال وألا تكون فى ذمته يتبع بها إلى أن يكون له مال فى رقه أو بعد عتقه. ويرى ابن حزم أن العبد يملك (45).
الشيعة الإمامية:
يرون أن دية العبد (آبقا أو غيره) إنما هى قيمته، وإنها تكون لسيده، فقد جاء فى شرائع الإسلام: "ودية العبد قيمته ولو جاوزت دية الحر ردت إليها... ثم قال: ودية أعضائه وجراحاته، مقيسة على دية الحر، فما فيه دية ففى العبد قيمته كاللسان لكن لو كان قد جنى عليه جان بما فيه قيمته لم يكن لمولاه المطالبة إلا مع دفعه. وكل ما فيه مقدر فى الحر من ديته فهو فى العبد كذلك من قيمته: ولو جنى عليه جان بما لا يستوعب قيمته كان لمولاه المطالبة بدية الجناية مع إمساك العبد وليس له دفع العبد والمطالبة بقيمته (46) ".
أما تفصيل الديات من حيث وجوب كلها أو نصفها أو غير ذلك- فلينظر فيه مصطلح (دية).
وأما ما يجنيه العبد (آبقا أو غيره) فإما أن يكون جناية على النفس، وإما أن يكون جناية على المال.
فإن كان جناية على النفس ووجب فيه الماء فصاحبه مخير بين فدائه ودفعه بالجناية فقد جاء فى شرائع الإسلام " ولو جنى العبد على الحر خطأ لم يضمنه المولى، ودفعه إن شاء أو فداه بأرش الجناية، والخيار فى ذلك إليه. ولا يتخير المجنى عليه. وكذا لو كانت جنايته لا تستوعب ديته تخير مولاه فى دفع أرش الجناية أو تسليم العبد ليسترق منه بقدر تلك الجناية. ويستوى فى ذلك كله القن والمدبر: ذكرا كان أو أنثى. وفى أم الولد تردد على ما مضى- والأقرب أنها كالقن فإذا دفعها المالك فى جنايتها استرقها المجنى عليه أو ورثته ، وفى رواية جنايتها على مولاها (47) ".
ومقتضى ما تقدم أن ما يتلفه العبد (آبقا أو غيره) بالجناية على النفس أو الأطراف يتعلق برقبته، وقد صرح بهذا صاحب شرائع الإسلام حيث قال: " ولو قتل العبد عبدا عمدا فالقود لمولاه، فإن قتل جاز، وإن طلب الدية تعلقت برقبة الجانى ، وإن تساوت القيمتان كان لمولى المقتول استرقاقه، ولا يضمنه مولاه، لكن لو تبرع فكه بقيمة الجناية (48) ".
وكذلك ما يتلفه من المال يتعلق برقبته، وقد بين هذا صاحب شرائع الإسلام حيث يقول: " ولو اركب مملوكه دابة ضمن المولى جناية الراكب،- ومن الأصحاب من شرط صغر المملوك وهو حسن. ولو كان بالغا كانت الجناية فى رقبته إن كانت على نفس آدمى. ولو كانت على مال لم يضمن المولى. وهل يسعى فيه العبد؟ الأقرب أنه يتبع به إذا عتق (49) ".
وقال فى موضع آخر: " إذا التقط العبد ولم يعلم المولى فعرف حولا ثم أتلف العبد اللقطة تعلق الضمان برقبته يتبع بذلك إذا أعتق كالغرض الفاسد (50) ".
الإباضية:
الآبق لا يزال على ملك سيده فحكمه فى الدية حكم كل العبيد. ودية الرقيق قدر قيمته فقد جاء فى كتاب النيل: " ودية الرقيق قدر قيمته، ولا يجاوز بها دية حر (51) ".
هذا إذا كان قد قتل إما إذا كان قد جرح جراحة فيها دية فعلى نحو ما فى الحر بالنسبة لقيمته فقد جاء فى كتاب النيل: " وما فى حر كنصف ديته أو ثلثها ففى الرقيق كذلك، والتام كالتام... الخ (52) ".
 
بيع الآبق ومتى يجوز؟

الحنفية:
بيع الآبق قد يكون من المالك وقد يكون من القاضى وقد يكون من الآخذ فالمالك يصح له أن يبيعه إن كان قادرا على تسليمه للمشترى، وذلك بأن يحضر به الآخذ إلى سيده ليرده فباعه إليه السيد قبل تسليمه فعلا لأنه بالتخلية بين الأبق والراد يعتبر مسلما فقد جاء فى المبسوط: " وإذا انتهى الرجل بالعبد الآبق إلى مولاه فلما نظر إليه أعتقه فالجعل واجب... إلى أن قال: وكذلك إن باعه مولاه من الذى أتاه به لأنه صار قابضا له لما نفذ تصرفه فيه بالتمليك من غيره ". " أى الراد " (1).
بخلاف ما إذا باعه لغير واجده فإنه لا يجوز للعجز عن التسليم.
قال صاحب المبسوط: " ويجوز بيع الآبق ممن أخذه " أى لمن أخذه لأن امتناع جواز بيعه من غيره لعجزه عن التسليم إليه ولا يوجد ذلك هنا لأنه بنفس العقد يصير مسلما إلى المشترى لقيام يده فيه فلهذا جاز بيعه منه (2).
أما بيع القاضى له فإنه يكون له بيعه إذا حبسه وطالت مدة حبسه ولم يحضر صاحبه ليأخذه، وقد جاء فى فتح القدير أن طول هذه المدة يقدر بثلاثة أيام (3).
وعلل ذلك بأن دارة النفقة أى استمرارها مستأصلة ولا نظر فى ذلك للمالك بحسب الظاهر، واعتبره فى هذا بالضالة الملتقطة.
ولكن صاحب الفتاوى الأنقروية قد ذكر نقلا عن التترخانية أن مدة هذا الحبس تقدر بستة أشهر ثم يبيعه بعدها (4).
أما آخذه، فإنه لا يصح له بيعه إلا إذا كان ذلك بأمر القاضى فقد جاء فى المبسوط: "دخل أخذ عبدا آبقا فباعه بغير إذن القاضى ثم أقام المولى بينة أنه عبده فإنه يسترده من المشترى والبيع باطل لأن الآخذ باعه بغير ولاية له فإن ولاية تنفيذ البيع له فى ملك الغير إنما تثبت بإذن المولى أو إذن القاضى بعد ما تثبت الولاية له فإذا باعه بدون إذن القاضى كان البيع باطلا (5) ".
المالكية:
يرى المالكية أن بيع المالك للآبق حال إباقه لا يصح إلا إذا علم المبتاع مكانه وإنه عند من يسهل أخذه منه وعلم صفته، فقد قال الدسوقى فى حاشيته على الشرح الكبير نقلا على المتيطى: " ويجوز بيع العبد الآبق إذا علم المبتاع موضعه وصفته وكان عند من يسهل خلاصه منه فإن وجد هذا الآبق على الصفة التى علمها المبتاع قبضه وصح البيع وإن وجده قد تغير أو تلف كان ضمانه من البائع ويسترجع المبتاع الثمن (6) ".
أما القاضى فله بيعه بعد مضى سنة والقاضى. هنا هو الإمام أو القاضى الذى أنابه عنه فقد جاء فى الشرح الكبير وحاشية الدسوقى عليه: " فإن أخذه (أى الملتقط) رفعه إلى الأمام رجاء من يطلبه منه ووقف عند الإمام سنة: أى وينفق عليه فيها فإن أرسله فيها ضمن ثم إذا مضت السنة ولم يجئ ربه بأن الإمام: أى إذا لم يخش عليه قبلها وإلا بيع قبلها ولا يهمل أمره بل يكتب اسمه وحليته "أى أوصافه " مع بيان التاريخ والبلد وغير ذلك مما يحتاج إلى تسجيله ويشهد على ذلك ويجعل ثمنه فى بيت المال حتى يعلم ربه ويأخذ النفقة التى أنفقها عليه فى السنة من ثمنه ولا يلزمه الصبر إلى أن يحضر ربه وكذا أجرة الدلال ومضى بيعه وإذا قال ربه عند حضوره: كنت أعتقته سابقا قبل الإباق أو بعده لا يلتفت إلى قوله لاتهامه على نقض بيع القاضى ولكن إذا أقام بينة عمل بها ونقض البيع (7) ".
وأما الآخذ فلا يصح له بيعه فقد جاء فى حاشية الدسوقى والشرح الكبير: "ولا يلزمه (أى القاضى) الصبر (أى بنفقته وعدم بيعه) إلى أن يحضر ربه: أى بخلاف من أخذه لكونه يعرف ربه فإنه يلزمه الصبر بنفقته حتى يحضر دبه ولا يجوز له بيعه وأخذ نفقته من الثمن قبل أن يجئ ربه (8) ".
الشافعية:
يرى الشافعية أنه لا يصح للمالك بيع الآبق ولا الضال ولا الرقيق المنقطع خبره ولا المغصوب لأنه غير مقدور على تسليمه ولكنهم استثنوا بعض حالات يصبح فيها هذا البيع فقد جاء فى المنهاج وشرحه المغنى: " الثالث
(أى من شروط البيع) إمكان تسليمه فلا يصح بيع الضال والرقيق المنقطع خبره والمغصوب من غير غاصبه للعجز عن تسليم ذلك حالا... ثم قال: فإن باعه: أى المغصوب لقادر على انتزاعه دونه أو الآبق لقادر على رده دونه صح على الصحيح نظرا لوصوله إليهما إلا أن احتاجت قدرته إلى مؤنة فالظاهر البطلان. والثانى (أى المقابل للصحيح) لا يصح لأن التسليم واجب على البائع وهو عاجز عنه أما إذا كان البائع قادرا على انتزاعه أو رده فإنه يصح بلا خلاف إلا إذا كان فيه تعب شديد والأصح عدم الصحة " (9).
أما الوالى ومن ينوب عنه كالقاضى فإنه يجوز له بيعه إذا كان قد وصل إليه فقد جاء فى الأم للشافعى: " وإذا كانت الضالة فى يدى الوالى فباعها فالبيع جائز ولسيد الضالة ثمنها فإن كانت عبدا فزعم سيد العبد أنه اعتقه قبل البيع قبلت قوله مع يمينه إن شاء المشترى يمينه وفسخت البيع وجعلته حرا ورددت المشترى بالثمن الذى أخذ منه.
قال الربيع: وفيه قول آخر أنه لا يفسخ البيع إلا ببينة تقوم لأن بيع الوالى كبيع صاحبة فلا يفسخ بيعه إلا ببينة أنه أعتقه قبل بيعه " (10).
والشافعى قد جعل الآبق والضال متماثلان فى هذا الحكم لأنهما فى حكم اللقطة فقد جاء عنه فى الأم: " وإذا كان فى يدى رجل العبد الآبق أو الضال من الضوال فجاء سيده فمثل اللقطة ".
الحنابلة:
يرى الحنابلة أنه يجوز للمالك بيع عبده الآبق فى بعض الحالات فقد جاء فى الشرح الكبير لابن قدامة المقدسى " ولا يجوز بيع المغصوب لعدم إمكان تسليمه فإن باعه لغاصبه أو القادر على أخذه منه جاز لعدم الغرر فيه ولا مكان قبضه، وكذلك إن باع الآبق لقادر عليه صح كذلك وإن ظن أنه قادر على استنقاذه ممن هو فى يده صح البيع فإن عجز عن استنقاذه منه فله الخيار بين الفسخ والإمضاء لأن العقد صح لكونه مظنون القدرة على قبضه وثبت له الفسخ للعجز عن القبض " (11).
أما الإمام أو نائبه كالقاضى فإنه يبيعه إذا رأى المصلحة فى ذلك فقد جاء فى المغنى لابن قدامة:
" وإن لم يجد (أى الآخذ) سيده دفعه إلى الإمام أو نائبه فيحفظه لصاحبه أو يبيعه إن رأى المصلحة فى بيعه " (12).
وأما الآخذ فإنه لا يجوز له بيعه فقد جاء فى المغنى لابن قدامة: " وليس لملتقطه بيعه ولا تملكه بعد تعريفه لأن العبد يتحفظ بنفسه فهو كضوال الإبل فإن باعه فالبيع فاسد" (13).
الزيدية:
يرى بعض الزيدية أن بيع العبد الآبق لا يجوز ويرى بعض آخر أنه موقوف ويرى بعض ثالث أنه يجوز لمن يكون فى يده وهذا يظهر من عبارة صاحب البحر الزخار:عن الهادى والمؤيد بالله: ولا " معطوف على عدم جواز البيع فيما سبق " العبد الآبق والمسروق والفرس الشارد ونحوه، لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر... ثم نسب " إلى تخريج أبى العباس أحمد بن إبراهيم الهاشمى الحسنى الذى كان إماميا ثم تزيد وإلى المؤيد بالله أحمد بن الحسيين الحسنى الآملى وإلى أبى طالب يحى بن الحسين ": يصح موقوفا على التسليم لعموم: " وأحل الله البيع وحر م الربا " (14) مع خيار التعذر وقد رده صاحب البحر بقوله: " قلنا يلزم فى الطير " أى مع أن هؤلاء لم يقولوا به ونسب إلى العترة: " فأما إلى من أبق إليه فيجوز إذ لا غرر (15) " وخيار التعذر الذى ذكره هو الذى يكون للبائع والمشترى مدة ثلاثة أيام عند بيع ما يتعذر تسليمه فى الحال وقيل للمشترى فقط إن جهل لا إن علم (16).
الظاهرية:
يرى ابن حزم الظاهرى أن بيع الآبق جائز: عرف مكانه أو لم يعرف دون تفصيل فى المشترى من حيث قدرته على أخذه أو معرفته لمكانه أو غير ذلك فقد جاء فى المحلى له: " وبيع العبد الآبق: عرف مكانه أو لم يعرف جائز وكذلك بيع الجمل الشارد: عرف مكانه أو لم يعرف وكذلك الشارد من سائر الحيوان ومن الطير المتفلت وغيره إذا صح الملك عليه قبل ذلك وإلا فلا يحل بيعه ثم قال: وكل ما ملكه المرء فحكمه فيه نافذ بالنص إن شاء وهبه وإن شاء باعه وإن شاء أمسكه وإن مات فهو موروث عنه (17).
وقد بنى هذا على الملك كما تقدم وعلى أن التسليم ليس بلازم ولم يوجبه القرآن ولا السنة ولا دليل أصلا وإنما اللازم ألا يحول البائع بين المشترى وبين ما بيع له فقط ثم قال: " ويملكه المشترى ملكا صحيحا فإن وجده فذلك وإن لم يجده فقد استعاض الأجر الذى هو خير من الدنيا وما فيها وربحت صفقته (18).
الشيعة الإمامية:
لا يصح عندهم بيع الآبق إلا إذا انضم إليه فى الصفقة شىء آخر مقدور التسليم وقد بين هذا صاحب شرائع الإسلام فقال: " الثالث(أى من شروط المبيع) أن يكون مقدورا على تسليمه فلا يصح بيع الآبق منفردا ويصح منضما إلى ما يصح بيعه ولو لم يظفر به لم يكن له رجوع على البائع وكان الثمن مقابلا للضميمة " (19).
الإباضية:
لا يجوز عندهم بيع العبد الآبق حال إباقه فقد جاء فى كتاب النيل: " والأكثر على منع بيع سمك فى بركة.. ثم قال: وذلك للجهل به وهو فى الماء، إذ لا يتبين فيه، ولأنه قد لا يملك قبضه، لامتناعه بالماء وأبق: بهمزة مفتوحة تليها باء مكسورة وهو الإنسان المملوك الهارب فى إباقته: بكسر الهمزة. ومثله بيع حيوان فى نفاره وهروبه) " (20).
هل الإباق عيب فى العبد
الحنفية:
الإباق عيب فى العبد عندهم، بخلاف الهرب، اذ الإباق الهرب من غير ظلم السيد له أما الهرب فيكون إذا كان السيد قد ظلمه. قال صاحب الجوهرة نقلا عن الثعالبى: الآبق الهارب من غير ظلم السيد له، فإن هرب من الظلم لا يسمى آبقا، بل يسمى هاربا فعلى هذا الإباق عيب والهرب ليس بعيب (21). وعلى ذلك يكون للمشترى رده بالعيب.
المالكية:
الإباق عند المالكية عيب فى العبد كالحنفية، فقد قال ابن رشد الجد فى المقدمات الممهدات حين الكلام على العيوب التى يرد بها. "وهذا فى العيوب التي تكون ظاهرة فى البدن، وأما ما لا يظهر: من الإباق والسرقة وما أشبه ذلك فادعى المبتاع أنه كان بالعبد قديما فقال ابن القاسم يحلف البائع واحتج بروايته عن مالك، وقال أشهب لا يمين عليه " وقد بين حكم البيع بوجود العيوب قديمة فقال: " فأما العيب القديم فيرد به فى القيام والرجوع بقيمته فى الفوات (22) ".
الشافعية:
كذلك يرى الشافعية إن الإباق عيب، ولكن لهم فيه تفصيل بينه صاحب المغنى فى شرحه للمنهاج وقال عند قول صاحب المنهاج (للمشترى الخيار لظهور عيب قديم كخصاء رقيق وزناه وسرقته وإباقه): "أى كل منها، وإن لم يتكرر ولو تاب منها.. ثم قال: وما تقرر من أن السرقة والإباق مع التوبة عيب هو المعتمد.. خلافا لبعض المتأخرين.. ثم قال: واستثنى من إباق العبد ما لو خرج عبد من بلاد الهدنة بعد أن اسلم وجاء إلينا فللإمام بيعه، ولا يجعل بذلك إباقا من سيده موجبا للرد، لأن هذا الإباق مطلوب (23) ".
الحنابلة:
الإباق عيب فى العبد عندهم، وذلك إذا كان قد جاوز العاشرة، لأن الصبى العاقل يتحرز من مثل هذا عادة كتحرز الكبير، فوجوده منه فى تلك الحال يدل على أن الإباق لخبث فى طبعه وحد ذلك بالعشر، لأن النبى - صلى الله عليه وسلم- أمر بتأديب الصبى على ترك الصلاة عندها، والتفريق بينهم فى المضاجع لبلوغها. أما من دون ذلك فيكون هذا منه لضعف عقله وعدم تثبته (24).
الزيدية:
يرى الزيدية إن الإباق عيب فى العبد يكون للمشترى الخيار معه، لأنه وصف مذموم تنقص به قيمة ما اتصف به عن قيمة جنسه السليم، فقد قال صاحب البحر " فى التمثيل للعيوب التى تنقص بها القيمة: نقصان عين كالعور، أو زيادة. كالإصبع الزائد... أو حال كالبخر والإباق (25).
ولكنه لا يكون عيبا إلا فى الكبير إذا عاد الإباق عند المشترى. قال فى البحر بصدد تعداد العيوب: " والإباق والصرع ونحوه، ولا يرد به حتى يعود مع المشترى لتجويز زواله 0 ولو أبق صغيرا ثم أبق عند المشترى كبيرا لم يرد لما ".. ثم قال منسوبا إلى الإمام: " وحد الكبر البلوغ، وقيل المراهقة. قلنا: البلوغ أضبط وأقيس (26) ".
الظاهرية:
يرى ابن حزم الظاهرى- كغيره من الفقهاء السابقين- أن الإباق عيب يرد به المبيع إن لم يبين له، فقد قال فى المحلى: " ومن اشترى عبدا أو أمة فبين له بعيب الإباق أو الصرع فرضيه فقد لزمه، ولا رجوع له بشيء: عرف مدة الإباق وصفة الصرع أو لم يبين له ذلك، لأن جميع أنواع الإباق إباق، وجميع أنواع الصرع صرع، وقد رضى بجملة إطلاق ذلك. فلو قلل له الأمر فوجد خلاف ما بين له بطلت الصفقة، لأنه غير ما اشترى. ولو وجد زيادة على ما بين لة فله الخيار فى رد أو إمساك، لأنه عيب لم يبين له (27) ".
الشيعة الإمامية:
يرون أن الإباق عيب فى العبد يرد به فى البيع إذا ثبت انه آبق عند بائعه، قال الطوسى فى تهذيب الأحكام رواية عن الرضى يقول: " يرد المملوك من أحداث السنة: من الجنون والجزام والبرص. فإذا اشتريت مملوكا فوجدت فيه شيئا من هذه الخصال ما بينك وبين ذى الحجة فرده على صاحبه. فقال له محمد بن على فأبق، قال: لا يرد إلا أن يقيم البينة أنه أبق عنده (28) .
الإباضية:
الإباق عندهم عيب فى العبد يرد به عند البيع، فقد جاء فى كتاب النيل- فى أثناء ذكر عيوب المبيع: " وإباقه، وغصب، وشرك (29).
طريق ثبوت ملكية الآبق لمدعيها
وما يلزم فى ذلك
الحنفية:
إذا حبس الإمام الآبق فجاء رجل وادعاه يلزم أن يقيم بينة أنه عبده، فإذا أقامها يستحلفه بالله أنه باق غلى الآن على ملكه لم يخرج ببيع ولا هبة، فإذا حلف دفعه إليه.
وهذا الاستحلاف لاحتمال أنه عرض بعد علم الشهود بثبوت ملكه على وجه زواله بسبب لا يعلمونه. وإنما يستحلفه مع عدم وجود خصم يدعى لصيانة قضائه من الخطأ، ونظرا لمن هو عاجز عن النظر لنفسه من مشتر أو موهوب له. ثم إذا دفعة لة عن بينة ففى أولوية أخذ الكفيل وتركه روايتان وكذلك يثبت الملك بإقرار العبد أنه لة، فيدفعه له إذا أقر العبد بذلك. ولكن هنا يجب أن يأخذ من المدفوع إليه كفيلا رواية واحدة (30) 0
هذا إذا كان فى يد السلطان وهو الذى يدفعه إليه. أما إذا كان فى يد الآخذ له فإن الأوثق ألا يدفعه إليه إلا بأمر القاضى. فإذا دفعه بغير أمر القاضى فهلك فى يد المدفوع إليه ثم جاء رجل فاستحقه فله أن يضمن الدافع إن شاء. وإن شاء يضمن المدفوع إليه، فإن ضمن الدافع ينظر فإن كان الدافع حين دفعه إليه صدقه أنه له لا يرجع عليه بما ضمن. وإن كان حين دفعه كذبه، أو لم يكذبه ولما يصدقه، أو صدقه وضمن. فله أن يرجع عليه فى الآبق (31).
وإذا دفعه بأمر القاضى لا يكون له أن يأخذ عليه كفيلا بعد ثبوت أنه له، وإذا دفعه يغير أمر بمجرد العلامة أو تصديق العبد الآبق أنه سيده كان له أن يأخذ كفيلا (32).
 
المالكية:
يستحق - عندهم- سيد الآبق آبقه إن كان تحت يد ملتقطه بشاهد ويمين. وقد جاء فى الشرح الكبير وحاشية الدسوقى عليه: " واستحقه سيده من يد الملتقط إذا كان لا يعرف سيده فحضر إنسان وادعى إنه سيده فإنه يستحقه بشاهد ويمين (أى يمين المدعى أنه عبده) وأولى من الشاهد واليمين فى استحقاقه بهما الشاهدان، يستحقه بشهادتهما من غير يمين، ويأخذه مدعيه حوزا لا ملكا إن لم يكن إلا دعواه أنه عبدى إن صدقة العبد على دعواه. وذلك بعد الرفع للحاكم والإمهال فى الدفع له وهذا الإمهال يكون باجتهاد الحاكم. وكون مدعيه يأخذه حوزا لا ملكا فى حالة تصديق العبد له، إن لم يكن للمدعى إلا دعواه يقتضى أنه لا يجوز له بيعه ولا وطؤها إن كانت أمة وإن جاز له ذلك فيما بينه وبين الله إن كان صادقا (33).
وكذلك له أخذه إن كذبه العبد على التفصيل الذى ذكره الدردير فى الشرح الكبير بقوله: " ومفهوم صدقه أنة إن كذبة أخذه أيضا إن وصفه ولم يقر العبد إنه لفلان، أو أقر وكذبه المقر له (34) ".
الشافعية:
إذا كان الآبق فى يد آخذه وجاء ربه يريد أخذه فالحكم فى ذلك كما قال الإمام الشافعى فى الأم: " وإذا كان فى يدى دجل العبد الآبق أو الضالة من الضوال فجاء سيده فمثل اللقطة ليس عليه أن يدفعه إلا ببينة يقيمها. فإذا دفعها ببينة يقيمها عنده كان الاحتياط له ألا يدفعه إلا بأمر الحاكم، لئلا يقيم عليه غيره بينة فيضمن، لأنه إذا دفعه ببينة تقوم عنده فقد يمكن أن تكون البينة غير عادلة ويقيم الآخر بينة عادلة فيكون أولى. ثم قال: وإذا أقام رجل شاهدا على اللقطة أو ضالة حلف مع شاهده وأخذ ما أقام عليه بينة لأن هذا مال (35) ".
أما إذا كان فى يد القاضى فقد جاء فى كتاب الأم للشافعى ما يؤخذ منه حكم ثبوت الملكية لمدعيه فقد قال: " وإذا أقام الرجل بمكة بينة على عبد ووصفت البينة العبد، وشهدوا أن هذه صفة عبده، وأنه لم يبع ولم يوهب، أو لم نعلمه باع ولا وهب وحلف رب العبد- كتب الحاكم بينته إلى قاض بلد غير مكة فوافقت الصفة صفة العبد الذى فى يديه لم يكن للقاضى أن يدفعه إليه بالصفة ولا يقبل إلا أن يكون شهود يقدمون عليه فيشهدون عليه بعينه (36) "
فهذا يدل على أن القاضى الأول لا يدفعه إلى صاحبه إن كان عنده بمجرد الصفة بل لابد من بينة تقوم على النحو الذى ذكره: من وصف للعبد وإنه لم يبع ولم يوهب ويحلف رب العبد، أو يقيم شاهدا ويحلف ليكون له أخذه.
الحنابلة:
يرى الحنابلة أن العبد الآبق إذا جاء سيده يطلبه من آخذه رده إليه بعد أن يقيم بينة، أو يعترف العبد بأنه سيده. فقد جاء فى المغنى لابن قدامة: " فإذا أخذ الآبق فهو أمانة فى يده. إن تلف بغير تفريط فلا ضمان عليه. وإن وجد صاحبه دفعه إلية إذا أقام به البينة أو اعترف العبد أنه سيده (37) ".
وإذا كان الآبق عند القاضى فإنه لا يدفعه لمدعيه إلا إذا أقام البينة على أنه له. فقد جاء فى المغنى ما يدل على هذا وهو: " فإذا أبق العبد فحصل فى يد حاكم فأقام سيده بينة عند حاكم بلد آخر أن فلانا الذى صفته كذا وكذا واستقصى صفاته- عبد فلان ابن فلان أبق منه فقبل الحاكم بينته، وكتب إلى الحاكم الذى عنده العبد: ثبت عندى إباق عبد فلان الذى صفته كذا وكذا قبل كتابه وسلم العبد (38) ".
وهذا يؤخذ منه أنه لا يثبت عند الحاكم الذى كتب إلا إذا أقيمت البينة وشهدت بأوصافه وأنه عبد فلان هذا، وأن الذى عنده العبد يكتفى بهذا الإثبات.
الزيدية:
لم نجد للزيدية كلاما خاصا بالآبق فى هذا الموضوع، ولكنهم يجعلون أخذه مستحبا كأخذ الضالة- كما قدمنا- وقد ذكرنا سابقا أن آخذ الضالة يعرف بها وأنه يجوز له أن يستبقيها عنده، وعلى هذا فماذا يجب عليه إذا جاء رب الضالة يطلبها؟
قد بين ذلك صاحب مفتاح الأزهار فقال:
" ولا يجوز للملتقط أن يرد الضالة إلى من ادعاها إلا أن يحكم له الحاكم أنه يستحقها ويجوز الحبس عمن لم يحكم له ببينة" ثم قال: " وحاصل الكلام فى المسألة أن مدعى اللقطة لا يخلو إما أن يكون له بينة أو لا إن كان له بينة وحكم بها حاكم لزم الملتقط ردها. فإن أقام غيره البينة بأنها له لم يلزم الملتقط له بشئ لانضمام الحكم إلى بينة خصمه. وإن لم يحكم له ببينة قال الفقيه أبو العباس: جاز الرد ولا يجب، وهو ظاهر كلام أبى طالب.. وأما إذا لم تكن له بينة، بل أتى بأمارتها وأوصافها ففى ذلك ثلاثة أقوال:
الأول: المذهب أنه لا يجوز الرد، قال - عليه السلام-: وظاهر كلام أصحابنا ولو غلب فى ظنه صدقه، لأن العمل بالظن فى حق الغير لا يجوز.
الثانى: ذكره فى شرح الإبانة قال فيه: يجوز الرد بالعلامة ولا يجب فى قول عامة أهل البيت.
الثالث: أنه يجب، وقد ذكر هذا منسوبا للهادى والمؤيد بالله: أنه يجب فيما بينه وبين الله تعالى، لأن العمل بالظن واجب (39) ".
أما إذا كانت فى يد الحاكم فلم نجد نصا صريحا فيه، ولكن جاء فى البحر الزخار أن القاضى لا يحكم باستحقاقه لة إلا إذا أقام البينة بأنه ملكه. فقد جاء فى البحر الزخار: " ويحكم بالبينة العادلة الكاملة ما لم تعارض إجماعا، وفى تأكيدها باليمين خلاف (40) ".
الظاهرية:
يبين ابن حزم الظاهرى طريق ثبوت ملكية من يدعى العبد الآبق بقولة فى المحلى عند كلامه فى الآبق واللقطة والضالة: وأن اللقطة ما وجد من مال سقط أى مال كان بقوله: " فإن جاء من يقيم بينة، أو من يصف عفاصه
(أى الوعاء الذى يكون فيه الملتقط من جلد أو خرقه أو نحوها إن كان فى وعاء) ويصدق فى صفته، ويصفه وعاءه، ويصدق فيه ويصف رباطه ويصدق فيه ويعرف عدده ويصدق فيه، أو يعرف ما كان له من هذا: أما العدد والوعاء إن كان لا عفاصه له ولا وكاء (الرباط) أو العدد إن كان منثورا فى غير وعاء دفعه إليه كانت له بينة أو لم تكن (41) ".
ولا شك أن التعريف للعبد بأوصافه يكون كالتعريف بالعفاص والوكاء ونحوها. وإذن يكون إثبات الملكية عنده بالبينة أو الوصف. كما يشعر به ما سبق أن ذكرناه فى حكم أخذ الآبق. من أنه يبقى عند واجدة أو الحاكم حتى يجئ صاحبه ويعرفه فهو يرى أنه لا ضرورة لإقامة البينة لثبوت ملكيته للآبق بل يكفى وصفه.
الشيعة الإمامية:
عندهم أن الآبق والضال لا يصح أخذه، ولو أخذه يرده لصاحبه، وإلا دفعة إلى الحاكم، فإذا جاء صاحب العبد لزم أن يقيم بينة. وقد قال صاحب شرائع الإسلام: " ومن وجد عبده فى غير مصره فأحضر من شهد على شهوده بصفته لم يدفع إليه لاحتمال التساوى فى الأوصاف، ويكلف إحضار الشهود ليشهدوا بالعين. ولو تعذر إحضارهم لم يجب حمل العبد إلى بلدهم ولو رأى الحاكم ذلك صلاحا جاز (42) ".
حكم الإباق من يد كل من المستأجر والمرتهن
والغاصب والوصى
الكلام هنا يتعلق بالجعل والضمان: أما الجعل فقد سبق الكلام عليه وأما الضمان فتفصيله كما يلى:
الحنفية:
أما المستأجر فإن الحنفية يرون أنه لا ضمان عليه ما دامت يده يد أمانة فلا يكون ضامنا له بإباقه إلا إذا كان ذلك ناشئا عن تعد منه، فقد جاء فى جامع الفصولين: "لو قال إذا جاء غد فقد أجرتك هذه الدابة فحمل المستأجر على الدابة فى الليل، فلما طلعت الشمس تلفت لم يضمن، إذ صار غاصبا بحمله، إلا أنه عند طلوع الفجر انعقدت الإجارة فصارت اليد يد أمانة (43) ". وأما المرتهن فإنه يكون مضمونا عليه إذا أبق منه بالأقل من قيمته ومن الدين فقد جاء فى جامع الفصولين: " ولو رهن قنا فابق سقط الرهن. فلو وجده عاد رهنا ويسقط من الدين بحسابه لو كان أول إباق له ولو أبق قبل ذلك لا يسقط من الدين شىء (44) ".
والمراد من أنه يسقط من الدين بحسابه هو أنة يسقط من الدين بقدر نقصانه الذى هو عيب الإباق وقد بين هذا صاحب التنوير وشارحه صاحب الدر المختار وابن عابدين بقولهم: " ولو أبق عبد الرهن وجعله الراهن أو القاضى بالدين ثم عاد يعود الدين إلا بقدر نقصان عيب الإباق (45) ".
وأما الغاصب فإنه يكون ضاما له فيلزم بقيمته فقد قال صاحب جامع الفصولين: " ولو رهن قنا فأبق فجعله القاضى بما فيه ثم ظهر القن قال أبو يوسف رحمه الله هو رهن كما كان وقال زفر هو للمرتهن كغاصب ضمن القيمة (46) ".
وأما الوصى فإنه إذا أبق منه العبد فإنه لا ضمان عليه لأن يده على مال الموصى عليه يد أمانة فلا يضمن إلا بالتعدى (47) ".
المالكية:
يرون أن يد المستأجر يد أمانة فلاضمان عليه إلا بالتقصير أو التعدى. وعليه فإباق العبد من يد المستأجر إن لم يكن بتفريط فى حفظه أو بسبب اعتداء عليه منه لا يجعله ضامنا. وقد بين ذلك الدردير فى الشرح الكبير والدسوقى فى حاشيته عليه، إذ جاء فيهما: " وهو: أى من تولى المعقود عليه أو من تولى العين المؤجرة: من مؤجر بالفتح كراع، ومستأجر كمكترى الدابة ونحوها- أمين فلا ضمان عليه إن ادعى الضياع أو التلف: كان مما يغاب عليه (أى يمكن إخفاؤه وكتمه) أولا. ويحلف إن كان منهما لقد ضاع وما فرطت. ولا يحلف غيره(أى غير المتهم) وقيل يحلف ما فرطت: أى يحلف على التفريط فقط 0 ولا يحلف على الضياع، بل يصدق فيه من غير حلف عليه، لأن الضياع ناشىء عن تفريطه غالبا. فيكفى حلفه ما فرطت. وفى المسألة قول ثالث وهو أنه يحلف على الضياع والتفريط (48) ".
وأما المرهون فلا يكون مضمونا على المرتهن إلا إذا كذبه شهود فى دعواه أنه أبق. فقد جاء فى الشرح الكبير وحاشية الدسوقى عليه: " لو كان الرهن بيد المرتهن وهو مما لا يغاب عليه (أى لا يمكن إخفاؤه وكتمه) كدور وعبيد والحال أنه لم يحصل من المرتهن تعد فلا ضمان على المرتهن ولو اشترط الراهن عفى المرتهن ثبوت الضمان عليه، خلافا لا شهب الذى قال: أنه يعمل بالشرط، إلا أن يكذبه عدول. وحلف المرتهن فيما يغاب عليه وأولى فيما لا يغاب عليه- لأنه إذا حلف فيما يضمنه فأولى فيما لا يضمنه (49) "0
وأما المغصوب فان غاصبة يتعلق به الضمان من يوم استيلائه عليه والحيلولة بينه وبين مالكه. أما الضمان بالفعل فإنما يكون إذا حصل مفوت ولو بسماوى أو جناية غير الغاصب عليه، فقد جاء فى الشرح الكبير وحاشية الدسوقى عليه: " وضمن الغاصب المميز بالاستيلاء على المغصوب: عقارا أو غيره: أى تعلق الضمان بالغاصب بهذا الاستيلاء: أى الحيلولة بينه وبين مالكه، ولا يحصل ا لضمان بالفعل إلا إذا حصل مفوت ولو بسماوى أو جناية غيره (50) "وإباق العبد مفوت له (51).
وأما الوصى فإنه أمين فى مال موليه فلا يضمن إلا بالتقصير أو التعدى (52).
الشافعية:
يرى الشافعية أن يد المستأجر على العين المستأجرة يد أمانة فلا يضمن إلا بالتقصير أو التعدى فقد جاء فى المنهاج وشرحه المغنى: " ويد المكترى على المستأجر من الدابة والثوب وغيرهما يد أمانة مدة الأجارة جزما، فلا يضمن ما تلف فيهما بلا تقصير، إذ لا يمكن استيفاء حقه إلا بوضع اليد عليها (53) ".
وهذا يقتضى أن العبد إذا أبق لا يكون مضمونا على المستأجر إلا إذا كان إباقه بتقصير من المستأجر أ و بتعد عليه سبب هذا الإباق.
وكذلك المرتهن فإنه لا يضمن إذا تلف إلا بتقصير أو تعد كما فى المستأجر ولا يسقط من ديته شىء به فقد جاء فى المنهاج وشرحه المغنى: " وهو(أى المرهون) أمانة فى يد المرتهن، لخبر (الرهن من راهنه): أى من ضمان راهنه له غنمه وعليه غرمه. ثم قال: فلو شرط كونه مضمونا لم يصح الرهن، ولا يسقط بتلفه شىء من ديته (54) " وأما المغصوب إن أبق فإنه يكون مضمونا على الغاصب فقد جاء فى المنهاج وشرحه المغنى وعلى الغاصب الرد للمغصوب على الفور عند التمكن وإن عظمت المؤنة فى رده.. ثم استدل على هذا بحديث: على اليد ما أخذت حتى تؤديه (55) " وأما الوصى إذا أبق منه عبد موليه فلا يضمن لأن يده يد أمانة إلا بالتقصير أو التعدى (56).
الحنابلة:
يرى الحنابلة أن العين المستأجرة أمانة فى يد المستأجر، فإذا أبق منه العبد المستأجر دون تقصير فإنه لا يكون مضمونا عليه إلا بالتقصير أو التعدى فقد جاء فى المغنى لابن قدامة: " والعين المستأجرة أمانة فى يد المستأجر. إن تلفت بغير تفريغ لا يضمنها. ثم قال: ووجهه أنه عقد لا يقتضى الضمان فلا يقتضى رده ومؤنته كالوديعة " (57).
أما المرتهن فإنه كالمستأجر لا ضمان عليه إلا بالتقصير أو التعدى ، فقد جاء فى الشرح الكبير لابن قدامة المقدسى: " أن الرهن إذا تلف فى يد المرتهن فإن كان تلفة بتعد أو تفريط فى حفظه ضمنه، لا نعلم فى ذلك خلافا، لأنه أمانة فى يده، فلزمه ضمانه إذا تلف بتعديه، أو تفريطه كالوديع. فأما إن تلف بغير تعد منه ولا تفريط فلا ضمان عليه وهو من مال الراهن " (58).
وإباق العبد إن لم يكن تلفا فهو دونه فلا يضمن من باب أولى إلا إذا قصر فى المحافظة عليه.
وأما الغاصب فان الآبق يكون مضمونا عليه فقد جاء فى المغنى: " أن من غصب شيئا يعجز عن رده كعبد أبق أو دابة شردت فللمغصوب منه المطالبة ببدله فإذا أخذه ملكه ولا يملك الغاصب العين المغصوبة بل متى قدر عليها لزمه ردها ويسترد قيمتها التى أداها " (59).
وأما الوصى فإن يده على مال موليه يد أمانة، فلا يضمن إلا بالتقصير أو التعدى (60).
الزيدية:
يرون أن المستأجر العين غير ضامن لها ما لم يشترط الضمان عند العقد (61).
كما أنه يضمن إذا كان إباقه بعد انتهاء مدة الإجارة المتفق عليها وقبل رده إلا لعذر فقد جاء فى البحر الزخار: " وعلى المستأجر الرد إذ لا وجه لإمساكها بعد استيفاء الحق ثم قال: فإن لم يرد (أى العين المستأجرة) ضمنها وأجرتها وإن لم ينتفع كالمغصوب إلا لعذر " (62).
وأما المرتهن فإنه يكون ضامنا لما ارتهنه ولو تلفه بآفة سماوية ومن باب أولى بالتعدى فقد قال صاحب البحر الزخار: " ومتى جنى عليه المرتهن ضمنه إجماعا لقوله - صلى الله علية وسلم -: " على اليد ما أخذت حتى ترد" ثم قال زيد بن على: والقاسمية وكذا إن تلف بآفة سماوية لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمرتهن الفرس فنفق ذهب حقك " (63).
وأما الغاصب فإنه يضمنه إذا أبق ويكون ضمانه بقيمته فقد جاء فى البحر الزخار: " وإذا أبق المغصوب فهو فى ضمان الغاصب حتى يقبضه المالك وإن جهله، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (على اليد ما أخذت حتى ترد) (64).
ويعتبر فى قيمته أوفر القيم من يوم الغصب إلى يوم التلف، فقد جاء فى البحر الزخار: " وفى تالف القيمى أوفر القيم من الغصب إلى التلف، إذ هو مطالب فى كل وقت (65) "0
 
وأما الوصى فهو أمين على ما فى يده من مال المولى عليه، فلا يضمن إلا بالتعدى أو التقصير فى الحفظ، وقد جاء فى ذلك قول صاحب البحر الزخار: " ويعمل باجتهاده، إذ هى ولاية ، إلا فيما عين له ". ثم قال: " ويضمن بمخالفة الموصى وبالجناية والتفريط فى الحفظ (66) ".
الظاهرية:
يرون أن يد المستأجر يد أمانة فلا يضمن (67).
أما إذا أبق العبد من يد المرتهن فلا ضمان، بل يبقى دينه على الراهن، ويتبعه المرتهن به، فقد قال ابن حزم الظاهرى فى المحلى: " فإن مات الرهن أو تلف أو أبق العبد أو فسد أو كانت أمة فحملت من سيدها أو أعتقها أو باع الرهن أو وهبه أو تصدق به أو أصدقه فكل ذلك نافذ، وقد بطل الرهن، وبقى الدين كله بحسبه (68) ".
وأما الغاصب فإن الآبق مضمون عليه إن لم يرد. وقد بين هذا ابن حزم الظاهرى بقوله: " لا يحل لأحد مال مسلم ولا مال ذمى إلا بما أباح الله - عز وجل - على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى القرآن أو السنة نقل ماله عنه إلى غيره، أو بالوجه الذى أوجب الله به تعالى أيضا كذلك نقله عنه إلى غيره، كالهبات الجائزة والتجارة الجائزة أو القضاء الواجب بالديات والتقاص ، وغير ذلك مما هو منصوص، فمن أخذ شيئا من مال غيره أو صار إليه بغير ما ذكرنا: فإن كان عامدا عالما بالغا مميزا فهو عاص لله - عز وجل - ، وإن كان غير عالم أو غير عامد أو غير مخاطب فلا إثم عليه، إلا أنهما سواء فى الحكم فى وجوب رد ذلك إلى صاحبه، أو فى وجوب ضمان مثله إن كان ما صار إليه قد تلفت عينه، أو لم يقدر عليه (69) ".
الشيعة الإمامية:
العين المستأجرة عندهم يد المستأجر لها يد أمانة لا يضمن إلا بالتعدى قال صاحب شرائع الإسلام: " إذا تعدى فى العين المستأجرة ضمن قيمتها وقت العدوان (70) " 0 فالأساس فى الضمان عندهم التلف بالعدوان، وهذا يقتضى أن العبد إذا أبق بسبب تعديه يكون ضامنا، لأن الإباق تلف، فقد جاء فى شرائع الإسلام: " لو فك القيد عن الدابة فشردت، أو عن العبد المجنون فأبق ضمن، لأنه فعل يقصد به الإتلاف (71) ".
وأما المرتهن فقد ذكرنا نص كلام الطوسى فى أنه لا ضمان عليه إذا أبق بدون تسبب منه، أما إذا تسبب فى إباقه فإنه يكون ضامنا. ويكون ضمانه بقيمته يوم قبضه، فقد جاء فى شرائع الإسلام: " إذا فرط فى الرهن وتلف لزمه قيمته يوم قبضه، وقيل يوم هلاكه، وقيل أغلى القيم، فلو اختلفا فى القيمة كان القول قول الراهن، وقيل القول قول المرتهن وهو الأشبه أى الذى تدل عليه أصول المذهب (72).
وأما الغاصب فإن يده على الغصوب يد ضمان ويجب عليه رده ولو تعسر، والآبق متعسر الرد، وواجب عليه رده، فكل ما أنفقه على رده يكون ملزما به. كما أنه يكون ضامنا له إذا أبق، لأن الإباق تلف، فقد جاء فى شرائع الإسلام: " فإن تلف المغصوب (ولا شك أن الإباق تلف) ضمنه الغاصب بمثله إن كان مثليا، فإن تعذر المثل ضمن قيمته يوم الإقباض لا يوم الإعواز أى المرافعة إلى الحاكم ". ولو أعوز فحكم الحاكم فزادت أو نقصت لم يلزم ما حكم به الحاكم، وحكم بالقيمة يوم تسليمها، لأن الثابت فى الذمة ليس إلا المثل، فإن لم يكن مثليا ضمن قيمته يوم الغصب، وهو اختيار الأكثر. وقال بعضهم يضمن أعلى القيم من حين الغصب إلى حين اختلف، وهو حسن (73) ".
وأما الوصى فإنه لا ضمان عليه إلا إذا قصر فى المحافظة عليه، أو تعدى، لأنه أمين وقد قال فى ذلك صاحب شرائع الإسلام: " والوصى أمين لا يضمن ما يتلف إلا عن مخالفته لشرط الوصية أو تفريط (74) " 0
الإباضية:
يرون أن العبد إذا أبق من مستأجره لا يكون ضامنا، لأن يده يد أمانة، فلا ضمان عليه ما لم يكن إباق بتقصير منه أو تعد. ولكن جاء فى شرح النيل ما يدل على ضمان المستأجر فى رأى، فقد جاء فيه: " وضمن الأجير: أراد به ما يشمل المكترى.. ثم علل ذلك بقوله: إن الأجير والمكترى كليهما بمعنى واحد. وهو الذى فى يده مال غيره على أجر معلوم للعمل (75) ".
وأما إذا أبق من يد مرتهن فقد جاء ما يتعلق بذلك فى النيل وشرحه: " إن ضاع رهن بيد مرتهن بلا تعد منه ولا تضييع فقيل: لا يرجع أحدهما على الآخر بشىء مطلقا: زاد الدين على قيمة الزمن أو نقص... ثم قال: وقيل: يترادان الفضل وقيل يرجع المرتهن على الراهن بما زاد الدين على الرهن إن زاد لا عكسه إن زاد الرهن على الدين، لأن المرتهن أمين فيه. ثم قال: وإن شرط الراهن أن تكون المصيبة على المرتهن فى الكل أو فى مقدار الرهن فهما على شرطهما (76) ".
وأما إذا أبق من يد وصى فإنه لا ضمان عليه، لأن يده يد أمانة، إلا إذا قصر فى حفظه أو تعدى عليه بما قد أدى إلى إباقه، فقد جاء فى النيل وشرحه: " فإن قبلها، أى قبل الوصية، لزمته حالة كونها أمانة فى عنقه، وليجتهد فى إنفاذها، لوجوب أداء الأمانة إلى أهلها (77) ".
عتقه قبل الرد
الحنفية:
لو أعتق المولى عبده الآبق قبل استلامه من الراد صح عقه، وصار بهذا العتق قابضا لة، ولذا يجب الجعل للراد، لأن الإعتاق إتلاف للمالية فيصير كما لو قبضه ثم اعتقه، وذلك كما فى العبد المشترى فإنه يصح أن يعتقه قبل أن يقبضه ويصير بإعتاقه قابضا، ولذا يجب عليه الثمن (78).
المالكية:
كذلك يرى المالكية أن عتق العبد حال إباقه وقيل الرد جائز، فقد قال الدردير فى الشرح الكبير: " وله، أى لرب الآبق عتقه حال إباقه والتصدق به والإيصاء به للغير وهبته لغير ثواب، أى لغير عوض (79) ".
الشافعية:
كذلك يرى الشافعية جواز عتق الآبق، فقد جاء فى المغنى شرح المنهاج " ولو اعتق المالك رقيقه قبل رده، قال ابن الرفعة: يظهر أن يقال: لا أجرة للعامل إذا رده بعد العتق وإن لم يعلم، لحصول الرجوع ضمنا: أى فلا أجرة لعمله بعد العتق تنزيلا لإعتاقه منزلة فسخ (80) ".
وهذا يدل على أن عتق الآبق جائز، ولا جعل لمن رده بعد العتق.
الحنابلة:
عتق العبد عندهم جائز ولازم بمجرد العقد، فإذا عتق السيد عبده الآبق قبل الرد جاز، فقد جاء فى المغنى لابن قدامة: " وإن باعه الإمام، أى الآبق، لمصلحه رآها فى بيعه فجاء سيده واعترف أنه كان أعتقه قبل منه ". فقوله هنا: " كان أعتقه " صادق بأنه أعتقه حين الإباق أو قبله (81).
الزيدية:
يرى الزيدية أن عتق الآبق حال إباقه جائز، إذ أنهم إنما يعتمدون على ملك المعتق (82).
الظاهرية:
يرى ابن حزم الظاهرى أن العتق يعتمد على ملك المعتق للمعتق له (83).
الشيعة الإمامية:
يرون أن عتق السيد لآبقه جائز متى كان ممن يملك العتق، فقد جاء فى شرائع الإسلام: " ويعتبر فى المعتق الإسلام والملك ".
ثم قال: " ولو أعتق غير المالك لم ينفذ عتقه (84) ".
آباق العبد من أخذه قبل الرد
الحنفية:
إذا أبق العبد من آخذه فإن كان قد أخذه ليرده فلا ضمان عليه إذا كان قد أشهد أنه أخذه ليرده، لأن يده حينئذ يد أمانة. أما إذا لم يشهد فإنه يضمن، لأنه حينئذ فى حكم الغاصب (85).
وكذلك يكون ضامنا له إذا أبق منه فى الطريق وكان قد استعمله فى حاجة نفسه (86).
المالكية:
يرى المالكية أن الآبق إذا أبق من ملتقطه لا ضمان عليه إلا إذا كان متعديا فقد جاء فى حاشية الدسوقى على الشرح الكبير: " إن من التقط آبقا ثم بعد أخذه أبق من عنده أو أنه مات عنده أو تلف فلا ضمان عليه لربه إذا حضر حيث لم يفرط، لأنه أمين ولا يمين عليه.
أما إذا فرط كما لو أرسله فى حاجة يأبق فى مثلها فأبق فإنه يضمن (87).
الشافعية:
يد الراد على الآبق يد أمانة فلا يضمن إلا بالتفريط، فقد جاء فى المغنى على المنهاج: " يد العامل على ما يقع فى يده إلى أن يرده يد أمانة. فإن خلا الآبق بتفريط ضمن لتقصيره (88) ".
الحنابلة:
لا ضمان على الراد إن أبق منه دون تلف ودون تفريط فى حفظه، فقد جاء فى المغنى لابن قدامة: " فإذا أخذه فهو أمانة فى يده إن تلف بغير تفريط فلا ضمان عليه (89) ".
الزيدية:
لا ضمان على آخذه إذا أبق منه قبل رده (90).
الشيعة الإمامية:
يرون أن العبد إذا أبق من ملتقطه لا ضمان عليه، فقد جاء فى شرائع الإسلام: " ولو التقط مملوكا، ذكرا أو أنثى لزمه حفظه وإيصاله إلى صاحبه، ولو أبق منه أوضاع من غير تفريط لم يضمن، ولو كان بتفريط ضمن ، ولو اختلف فى التفريط ولا بينة فالقول قول الملتقط بيمينه (91) ".

__________

(1) ج 11 ص 20 طبعة الساسى.
(2) ج 11 ص 28 الطبعة السابقة.
(3) ج 4 ص 43 الطبعة الأميرية.
(4) الفتاوى الأنقروية ج 1 ص 198 الطبعة الأميرية.
(5) المبسوط ج 11 ص 26 طبعة الساسى
(6) حاشية الدسوقى على الشرح الكبير ج 2 ص 11 طبعة دار إحياء الكتب العربية.
(7) المرجع السابق ج 4 ص 127 الطبعة السابقة.
(8) المرجع السابق ج 4 ص 127 الطبعة السابقة.
(9) ج 2 ص 13 طبعة مصطفى الحلبى وأولاده بمصر
(10) ج 4 ص 68 نشر مكتبة الكليات الأزهرية.
(11) ج 4 ص 28 طبعة المنار سنة 1347هجرية.
(12) ج 1 ص 357 الطبعة السابقة.
(13) ج 4 ص 257 الطبعة السابقة.
(14) سورة البقرة: 275.
(15) ج 3 ص 313 الطبعة الأولى سنة 949.
(16) ج 3 ص 354 الطبعة السابقة.
(17) ج ص 288 طبعة إدارة الطباعة المنيرية.
(18) ج 389 الطبعة السابقة.
(19) ج 166 نشر مكتبة الحياة ببيروت.
(20) ج 4ص 73.
(21) الجوهرة على القدورى ج 1 ص 466 طبعة الأستانة.
(22) ج ص 254 ’ 255طبعة الساسى.
(23) ج 2 ص 50 طبعة مصطفى الحلبى.
(24) المغنى لابن قدامه ج 4 ص 276 ، 277 الطبعة الأولى لمطبعة المنار سنة 1347 هجرية.
(25) ج 2 ص 355.
(26) ج 3 ص 357.
(27) ج 9 ص 73 طبعة إدارة الطباعة المنيرية.
(28) ج 7 ص 63 طبعة مطبعة النعمان بالنجف.
(29) ج 4 ص 240.
(30) فتح القدير ج 4 ص 434 ، 435 الطبعة الأميرية.
(31) الفتاوى الأنقروية نقلا عن النتف ج 1 ص 198 طبعة دار الطباعة المصرية ببولاق سنة 1281هجرية.
(32) الفتاوى الأنقروية الجزء والصفحة السابق ذكرهما نقلا عن فتاوى ابن نجيم.
(33) الشرح الكبير وحاشية الدسوقى عليه ج 4 ص 128.
(34) الجزء والصفحة السابقة.
(35) ج 4 ص 67 نشر مكتبة الكليات الأزهرية.
(36) ج 4 الصفحة والطبعة السابقة.
(37) ج 6 ص 357 طبعة المنار سنة 1347 هجرية.
(38) ج 6 ص 257 الطبعة السابقة.
(39) ج 4 ص 62 ،63 الطبعة الثانية سنة 1358 هجرية.
(40) ج 4 ص 396 الطبعة السابقة.
(41) ج 8 ص 257 طبعة إدارة الطباعة المنيرية.
(42) ج 2 ص 177 نشر مكتبة الحياة ببيروت.
(43) ج 2 ص 156 الطبعة الأولى بالمطبعة الأزهرية.
(44) ج 2ص 162 الطبعة السابقة.
(45) ج 5 ص 330 طبعة دار إحياء الكتب العربية.
(46) ج 2 ص 162 الطبعة الأولى بالمطبعة الأزهرية.
(47) الزيلعى على الكنز ج 3 ص 310 الطبعة الأميرية.
(48) ج 4 ص24 طبعة دار إحياء الكتب العربية.
(49) ج 3 ص 255 الطبعة السابقة.
(50) ج 3 ص 443 الطبعة السابقة.
(51) ج 3 ص 447 الطبعة السابقة والمربع السابق.
(52) المرجع السابق ج 4 ص 454 الطبعة السابقة.
(53) ج 2 ص 351 طبعة مصطفى البابى الحلبى وأولاده.
(54) ج ص 136 ’ 137 الطبعة السابقة.
(55) ج 2 ص 276 ، 277 الطبعة السابقة.
(56) ج 3 ص 78 الطبعة السابقة.
(57) ج 6 ص 117 طبعة المنار سنة 1347 هجرية.
(58) ج 4 ص 467 وقد وضع بذيل المغنى.
(59) ج 5 ص 417 الطبعة السابقة.
(60) ج ص 372 الطبعة السابقة.
(61) البحر الزخار ج 4 ص 63 طبعة سنة 1949.
(62) ج 4 ص 33 الطبعة السابقة.
(63) ج 4 ص 113 الطبعة السابقة.
(64) ج 4 ص 187 الطبعة السابقة.
(65) ج 4 ص 175 الطبعة السابقة.
(66) ج 4 ص 332 ، 333 الطبعة السابقة.
(67) المحلى ج 8 ص 183.
(68) ج 8 ص 93 الطبعة السابقة
(69) المحلى ج 8 ص 134 ، 135 الطبعة السابقة.
(70) ج 1 ص 237 نشر مكتبة الحياة ببيروت.
(71) ج 2 ص 151 الطبعة السابقة.
(72) ج 1 ص 198 نشر مكتبة الحياة ببيروت.
(73) ج 2 ص 152 الطبعة السابقة.
(74) ج 1 ص 264 الطبعة السابقة.
(75) ج 5 ص 162.
(76) ج 5 ص 544.
(77) ج 6 ص 493.
(78) الهداية وفتح القدير والعناية ج 4 ص 438 الطبعة الأميرية.
(79) ج 4 ص 127 طبعة دار إحياء الكتب العربية.
(80) ج 4 ص 434 طبعة مصطفى ألباب الحلبى وأولاده.
(81) ج 4 ص 357 طبعة المنار سنة 1347 هجرية.
(82) البحر الزخار ج 4 ص 192 الطبعة الأولى سنة 1949.
(83) المحلى ج 8 ص 185.
(84) ج 2 ص 93.
(85) الكنز وشرح الزيلعى عليه " تبيين الحقائق " ج 3 ص 309
(86) الفتاوى الأنقروية نقلا عن شرح المجمع لابن ملك ج 1 ص 198.
(87) ج 4 ص 128 طبعة دار إحياء الكتب العربية.
(88) ج 2 ص 434 طبعة مصطفى البابى الحلبى.
(89) ج 6 ص 357 طبعة المنار سنة 1347.
(90) البحر الزخار ج 4 ص 63 طبعة سنة 1949.
(91) ج 2 ص 173 نشر مكتبة الحياة ببيروت.
 
آسن

المعنى اللغوى: ذكر القاموس ولسان العرب أن الآسن من الماء مثل الآجن وأن المعنى فى كليهما: الماء المتغير بطول مكثه سواء أكان التغير فى طعمه أو لونه.
ونقل اللسان عن ثعلبة أن التغير قد يكون فى ريحه، وجملة هذا أن الماء الذى تغير أحد أوصافه الثلاثة أو كلها بالمكث دون شىء القى فيه هو الذى يسمى آسنا أو آجنا ، وفعله من باب ضرب ودخل فمصدره يكون أسنا أو أسونا.
مواضع استعمال لفظ آسن
ولفظ آسن يذكر فى باب الطهارة عند الكلام على أنواع المياه كما ذكره المالكية فى الجزء الأول من الشرح الصغير، ذكره الشافعية فى كتاب الطهارة من شرح الجلال المحلى، وكما ذكره الحنابلة والأحناف فى باب الطهارة أيضا.
المعنى الفقهى:
والمعنى الفقهى للفظ آسن هو نفس المعنى اللغوى ، الماء المتغير بطول مكثه فى مكانه.
حكم استعماله:
نص الحنابلة فى كتاب كشاف القناع على جواز استعمال الآسن فى التطهر به من
غير كراهة ، لأن تغيره بطول مكثه مع مشقة الاحتراز عنه سواء أكان مكثه فى أرض أو إناء من جلد أو نحاس أو سوى ذلك.
واستشهد الحنابلة على ذلك بما ثبت أن النبى - صلى الله عليه وسلم - توضأ من بئر كان ماؤه نقاعة الحناء ، وعللوا ذلك بمشقة الاحتراز عنه(1).
ويتفق أصحاب المذاهب الثلاثة المالكية والشافعية والأحناف (2) مع هذا الذى ذكره الحنابلة فى جواز استعمال الماء الآسن فى الطهارة، ومن باب أولى فى غير الطهارة كالشرب لمن أراده.
المذهب الزيدى:
الماء الآسن، أى المتغير لمكث طاهر مطهر عند الزيدية (3).
جاء فى شرح الأزهار ما نصه: والأصل فى ماء التبس مغيره الطهارة، يعنى إذا وجد ماء متغير ولم يعلم بماذا تغير أبنجس أم بطاهر أم بمكث فإنه يحكم بالأصل، وأصل الماء الطهارة.
وقد جاء ما نصه (4): أن الماء الذى ظهرت له رائحة مستخبثة ولم تكن ثائرة عن نجس أنه يجوز التطهر به لدخوله فى الماء المطلق.
الإمامية:
الماء الآسن عندهم طاهر مطهر مكروه استعماله مع وجود غيره (5). ولو مازجه، أى الجارى ، وما فى حكمه طاهر فغيره لونا أو طعما أو رائحة أو تغير من قبل نفسه من غير ممازجة لشىء لم يخرج عن كونه طاهرا مطهرا ما دام إطلاق الاسم باقيا، وبما يرشد إليه أيضا كراهية الطهارة بالماء الآسن إذا وجد غيره.
وما نقل عن المنتهى (6) لو كان تغير الماء لطول بقائه فإن سلبه الاسم لم يجز الطهور به ولا يخرج عن كونه طاهرا، وإلا فلا بأس ولكنه مكروه، ولا خلاف بين عامة أهل العلم فى جواز الطهارة به إلا ابن سيرين.
المذهب الإباضى:
يقولون أن المانع من استعمال الماء ينقسم قسمين:- إما نجاسة تمنع التطهر به، وإما تغيير يمنع حكم التطهر به (7).
المذهب الظاهرى:
الماء الراكد عندهم طاهر مطهر يجوز الوضوء منه وفيه ويجوز الاغتسال منه لكن لا يجوز الاغتسال المفروض فيه فإن اغتسل فيه لم يكن مغتسلا وله أن يعيد الغسل منه (8).

__________

(1) كشاف القناع ج 1 ص 5 ومنتهى الإرادات ج 1 ص 11 طبعة سنة 1319هجرية.
(2) للمالكية: الشرح الصغير ج 1 ص 13 المطبعة التجارية.
وللشافعية: المهذب ج 1 ص 8 طبعة الحلبى.
وللأحناف: الطهطاوى على مراقى الفلاح ص 7.
(3) شرح الأزهار ج 1 ص 60.
(4) الروض النضير شرح مجموع الفقه الكبير ج 1 ص 179.
(5) جواهر الكلام شرح شرائع الإسلام ج 1 ص 104.
(6) المرجع السابق.
(7) كتاب الوضع ص 41 الطبعة الأولى.
(8) المحلى ج 1 ص 210

 
آفة

التعريف بها: يقال فى اللغة آفة أوفا: أضره وأفسده، وآفت البلاد أوفا وآفة وأووفا صارت فيها آفة- والآفة العاهة وما يفسد- وهو عرض مفسد لما أصاب من شىء(1) ولم يخرج بها الفقهاء والأصوليون فى استعمالاتهم عن هذه المعانى اللغوية.
الآفة عند الأصوليين: هى عند الأصوليين سماوية ومكتسبة، يذكرونها عند الكلام على عوارض الأهلية.
أما السماوية فهى ما ثبتت من قبل صاحب الشرع بلا اختيار للعبد فيها مثل الجنون (انظر جنون) ، ومثل العته (انظر عته) ، ومثل اعتقال اللسان (انظر اعتقال اللسان) وغير ذلك.
والمكتسبة ما يكون لاختيار العبد فى حصولها مدخل مثل الجهل (انظر جهل) ، ومثل السفه (انظر سفه) (2). ويترتب على الآفة بقسميها تغيير فى بعض الأحكام مثل إسقاط كل العبادات المحتملة للسقوط كالصلاة والصوم عن المجنون(انظر جنون).
ومثل الجهل فى موضع الاجتهاد الصحيح أو فى موضع الشبهة إذ يصلح عذرا وشبهة دارئة للحد والكفارة كما إذا أفطر المحتجم فى رمضان ظانا أن الحجامة مفطرة وأن الأكل بعدها مباح جهلا منه، فإن جهله عذر (انظر جهل) ، ومثل منع مال السفيه عنه (انظر سفه) (3).
الآفة عند الفقهاء: ويستعملها الفقهاء مفرديها بالحكم حينا كما يستعملونها ضمن استعمالهم لمصطلح تلف، وقد تحدث الفقهاء عن الآفة السماوية التى تصيب الثمار والزروع وما يترتب عليها من أحكام فى بعض الأبواب الفقهية وعرفوها بأنها ما لا صنع لآدمى فيها، كالثلوج والغبار والريح الحار والجراد والنار ونحو ذلك (4).
أثرها فى الزكاة: ذهب الحنفية فى الزروع التى تصيبها آفة سماوية، وهى ما لا صنع لآدمى فيه... إلى أنها تسقط عنها الزكاة إذا أهلكت المال الذى تجب فيه. وذلك لأن الواجب عندهم جزء من النصاب تحقيقا للتيسير فيسقط (5). وإن هلك البعض يسقط الواجب بقدره وتؤدى زكاة الباقى قل أو كثر فى قول أبى حنيفة، وعند أبى يوسف ومحمد من الحنفية يعتبر قدر الهالك مع الباقى فى تكميل النصاب إن بلغ نصابا يؤدى، وإلا فلا.
وفى رواية عن أبى يوسف يعتبر كمال النصاب فى الباقى بنفسه من غير ضم قدر الهالك إليه (6).
أما الحنابلة: فيقولون لو تلف المال بعد الحول قبل التمكين من إخراج الزكاة ضمنها، ولا تسقط الزكاة بتلف المال، أما بالنسبة للحبوب والثمار فإن وجوب الزكاة لا يستقر فيها إلا بجعلها فى جرين (7) ومسطاح ونحوه، فإن تلفت قبل الوضع بها بغير قصد من صاحبها سقطت الزكاة خرصت الثمرة أو لم تخرص، وإن تلف البعض من الزرع أو الثمر قبل الاستقرار زكى المالك الباقى إن كان نصابا، وإن لم يكن نصابا فلا زكاة فيه، وإن تلف بعد الاستقرار فى الجرين والمسطاح ونحوها لم تسقط زكاتها كتلف النصاب بعد الحول (8).
ويرى المالكية: أن إصابة الثمر بعد التخريص بجائحة (أى إصابته بآفة سماوية) فإنها تعتبر فى سقوط الزكاة فيزكى ما بقى إن وجبت فيه زكاة وإلا فلا (9) زكاة فيه.
ويرى الشافعية: عدم وجوب الزكاة فيما يتلف من الزرع بآفة سماوية لفوات الإمكان فإن بقى فيه بعد طروء الآفة عليه نصاب زكاة أو دونه أخرج حصته بناء على أن التمكن شرط للضمان لا للوجوب (10).
ويرى ابن حزم الظاهرى: أن كل ما وجبت فيه زكاة من الأموال والزروع والثمار وإن تلف كله أو بعضه أكثره أو أقله، أثر إمكان إخراج الزكاة منه، أثر وجوب الزكاة بما قل من الزمن أو كثر بتفريط تلف أو بغير تفريط، فالزكاة كلها واجبة فى ذمة صاحبه، كما كانت لو لم يتلف، لأن الزكاة واجبة فى الذمة لا فى العين، وكذلك لو أخرج وعزلها ليدفعها إلى أهل الصدقات فضاعت الزكاة كلها أو بعضها فعليه إعادتها كلها ولابد لأنه فى ذمته حتى يوصلها إلى من أمره الله تعالى بتوصيلها إليه (11).
ويرى الزيدية: أن الزكاة قبل إمكان الأداء كالوديعة قبل أن يطالب بها، إذا تلفت فإنها لا تضمن إلا أن تتلف بتفريط الوديع أو بجنايته وإن تلفت من دون تفريط ولا جناية فلا ضمان وكذلك المال وما أخرجت الأرض إذا تلف قبل إمكان أداء الزكاة إن تلفت بتفريط ضمن الزكاة وإلا فلا، فلو تلف بعض المال من دون تفريط وبقى البعض وجب إخراج زكاة الباقى ولو قل، ولا يضمن زكاة التالف (12).
أما بعد إمكان الأداء فتجب وجوبا مضيقا فيضمن إذا لم يخرج بعد الأداء حتى تلف المال ولو بغير تفريط (13).
أما الشيعة الجعفرية: فلا يجوزون تأخير دفع الزكاة عن وقت وجوبها مع الإمكان ويضمنون بالتأخير لا لعذر ولو كان تلف المال من غير تفريط كما لا يجوزون نقل الزكاة من بلد إلى بلد إلا عند عدم وجود المستحق، فإن نقلت مع وجوده ثم هلكت ضمن وإلا فإن تلفت مع النقل لعدم وجود المستحق فإنه لا يضمن (14).
وعند الإباضية: تسقط الزكاة عن الغلة بعد وجوب الحق فيها وقبل إمكان إخراجه إذا تلفت بريح أو نار أو سيل لا بتفريط فإن بقى بعضها زكى عليه وحده إن وجبت فيه وقيل مطلقا وجبت أو لم تجب عن الباقى وعن التالف أما إن اجتيحت بعد تمكن من إخراج بلا تفريط فالأكثر على التضمين فى زكاة ما تلف وزكاة الباقى وإن قل والأقوى سقوط التضمين عما تلف. ولا يزكى الباقى إلا إذا بلغ نصابا فإن اجتيحت بتفريط ضمنت اتفاقا (15).
أثر الآفة فى البيع:
يذهب الأحناف: إلى أن هلاك المبيع كله قبل القبض بآفة سماوية يفسخ البيع، وإذا انفسخ البيع سقط الثمن عن المشترى. وكذا إذا ملك بفعل المبيع بأن كان حيوانا فقتل نفسه لأن فعله على نفسه هدر فكأنه هلك بآفة سماوية (16). فإذا هلك كله بعد القبض بآفة سماوية لا ينفسخ البيع والهلاك على المشترى وعليه الثمن لأن البيع تقرر بقبض المبيع فتقرر الثمن وإذا هلك بعض المبيع فإن كان قبل القبض وهلك بآفة ساويه ينظر إن كان النقصان نقصان قدر بأن كان مكيلا أو موزونا أو معدودا ينفسخ العقد بقدر الهالك وتسقط حصته من الثمن لأن كل قدر من المقدرات معقود عليه فيقابله شىء من الثمن (17) وهلاك كل المعقود عليه يوجب انفساخ البيع وسقوط الثمن بقدره والمشترى بالخيار فى الباقى إن شاء أخذ بحصته من الثمن وإن شاء ترك لأن الصفقة قد تفرقت عليه، وإن كان النقصان نقصان وصف - وهو كل ما يدخل فى البيع من غير تسمية كالشجر والبناء فى الأرض وأطراف الحيوان والجودة فى المكيل والموزون- لا ينفسخ البيع أصلا ولا يسقط عن المشترى شىء من الثمن لأن الأوصاف لا حصة لها من الثمن إلا إذا ورد عليها القبض أو الجناية لأنها تصير مقصودة بالقبض والجناية فالمشترى بالخيار إن شاء أخذه بجميع الثمن وإن شاء ترك لتعيب المبيع قبل القبض وإن هلك بفعل المبيع بأن جرح نفسه لا ينفسخ البيع ولا يسقط عن المشترى شىء من الثمن لأن جنايته على نفسه هدر فصار كما لو هلك بعضه بآفة سماوية وهلاك بعضه نقصان الوصف والأوصاف لا تقابل بالثمن ولا يسقط شىء من الثمن ولكن المشترى بالخيار إن شاء أخذه بجميع الثمن وإن شاء ترك لتغير المبيع، وإذا هلك بعضه بعد القبض بآفة سماوية فالهلاك على المشترى لأن المبيع خرج عن ضمان البائع بقبض المشترى فتقرر عليه الثمن (18).
أما الحنابلة: ففى كشاف القناع: وأن تلف المكيل والموزون والمعدود والمزروع أو تلف بعضه بآفة (أى عاهة) سماوية، لا صنع لآدمى فيها قبل قبضه فهو من البائع لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ربح ما لم يضمن، والمراد به ربح ما بيع قبل القبض وينفسخ العقد فيما تلف بآفة قبل القبض سواء كان التالف الكل أو البعض لأنه من ضمان بائعه، ويخير المشترى فى الباقى بين أخذه بقسطه من الثمن وبين رده (19).
وفيه أيضا: " وإن تلفت الثمرة المبيعة دون أصولها قبل بدو صلاحها بشرط القطع بجائحة قبل التمكن من أخذ الثمر ضمنه البائع ".
وفى الروض المربع: " وإن تلفت ثمرة بيعت بعد بدو صلاحها دون أصلها قبل أوان جذاذها بآفة سماوية(وهى ما لا صنع لأدمى فيها كالريح والحر والعطش) رجع ولو بعد القبض على البائع لحديث جابر رضى الله عنه أن النبى - صلى الله عليه وسلم- أمر بوضع الجوائح (20).
ويرى المالكية: أن تلف المبيع وقت ضمان البائع بسماوى مبطل لعقد البيع فلا يلزم البائع الإتيان بمثله، إلا إذا كان موصوفا متعلقا بالذمة كالسلم، فان المسلم إليه إذا احضر المسلم فيه فتلف قبل قبضه لزمه الإتيان بمثله، وإذا تلف بعضه ينظر فى الباقى بعد التلف إن كان الباقى نصفا فكثر لزم الباقى بحصته من الثمن إن تعدد وكان قائما، فإن اتحد أو فات خير المشترى وإن كان الباقى أقل تعين الفسخ إلا إذا كان مثليا فيخير المشترى مطلقا (21).
والشافعية يذهبون: فى تلف المبيع قبل القبض بآّفة سماوية إلى ما ذهب إليه الأحناف إلا إذا رضيه المشترى وأجاز البيع فانه يأخذ المبيع بكل الثمن (22).
وفى المحلى لابن حزم الظاهرى: كل بيع صح وتم فهلك المبيع أو كان ثمرا قد حل بيعه فأجيح كله أو أكثره أو أقله فكل ذلك من المبتاع ولا رجوع له على البائع بشىء (23).
ويذهب العترة من الزيدية: كما جاء فى كتاب البحر الزخار إلى أنه إذا تلف المبيع بآّفة سماوية أنفسخ العقد لقول النبى - صلى الله عليه وسلم-: " إذا بعت من أخيك تمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا" (24).
ورأى المذهب أنه إذا تلف بعضه قبل القبض لم ينفسخ فى الباقى بل فى التالف فقط (25).
ويرى الشيعة الإمامية: أن المبيع لو تلف قبل القبض ضمن البائع إذا كان تلفه من الله تعالى فإذا تلف بعضه أو تعيب من قبل الله تعالى تخير المشترى فى الإمساك مع الأرش وفى الفسخ (26).
الإباضية: جاء فى كتاب النيل: "ويوضع بقدر المصاب من المجاح ولو قل وقيل لا يوضع ما دون ثلث الثمار، لقول النبى - صلى الله عليه وسلم-: إذا أصيب ثلث الثمرة فصاعدا فقد وجب على البائع الوضيعة، ولا يعتبر الثلث فى القيمة بل فى الثمار ولا وضع إذا بيعت مع الأصل أو بيع الأصل ثم بيعت.
وإن بيعت أولا فالوضع واجب والثمر والتمر فى ذلك كله سواء. وتوضع جائحة البقول وإن قلت، وقيل الثلث فصاعدا مثل أن تنقطع عنه عين سقيه أو المطر ولا جائحة فى الزرع وما يبس من الثمار، والجائحة ما لا يستطاع دفعه كالثلج والجليد والريح والبرد والجيش والجراد. وليس منها السارق عند الأكثر، لأنه يطاق دفعه لو علم به، وقيل لا يجوز بيع الثمار قبل بدو الصلاح، ولو قطع لعموم ظاهر النهى (27).
وإن تلف المبيع فى يد المشترى ثم خرج " ظهر " عيب كان قبل البيع فمن ماله ويدرك " أى يرجع به " على البائع أرش العيب فيما بينه وبين الله إلا أن تلف بذلك العيب فإنه يدرك عليه الثمن كله وكذا إن كان فى يد البائع بالتعدى وهلك بالعيب أو هلك فى يد المشترى بفعل البائع، وإن هلك فى يد البائع وكان بيده أمانة أو عارية أو وديعة أو بإجارة ونحو ذلك مما ليس تعديا أو خيانة فمن مال المشترى (28).
وإن تلف المبيع بعد القبض فضمانه من المشترى وإن هلك قبل القبض وبعد العقد ففيه خلاف، قيل من مال المشترى وقيل من مال البائع وذلك إذا كان الهلاك فجأة على أثر العقد قبل إمكان القبض أو بلا فجأة لكن قبل إمكانه، وإذا لم يمنع المشترى من القبض فالحق أنه من مال المشترى ومجرد تخليتة قبض وقيل من مال البائع ما لم يقبضه المشترى بيده وعلى هذا فإذا قال له البائع اقبضه أو خذه أو نحو ذلك كان من مال المشترى، وأصحابنا يشترطون القبض، لكن التخلية قبض عندهم، واستدل مشترط القبض (29) بنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع ما لم تقبض، وربح ما لم تضمن.
أثر الآفة فى عقد المساقاة:
يذهب الحنفية: إلى أن عقد المساقاة الصحيح لا ينفسخ إذا لم تخرج الأرض ثمرا لآفة وبقى العقد صحيحا ولا شىء لكل من صاحب الأرض ولا زارعها عند صاحبه (30).
أما الحنابلة: فإنهم يقولون إن ساقاه إلى مدة تكمل فيها الثمرة غالبا، فلم تحمل الثمرة تلك السنة فلا شىء للعامل لأنه دخل على ذلك (31).
ويرى المالكية: أن العامل فى المساقاة ليس له شىء إذا ما أجيحت الثمرة لكن له الخيار بين التمادى فى لزوم العقد أو الخروج منه (32).
ويتفق الشافعية: مع الأحناف فى لزوم عقد المساقاة ولو تلفت الثمرة كلها بآفة (33).
ويرى ابن حزم الظاهرى: فى المحلى الجزء الثامن المسألة 1330 ، والمسألة 1346 بأن الأرض إذا لم تخرج فلا شىء للعامل ولا شىء عليه (34).
ويذهب الشيعة الجعفرية: إلى أن تلف الزرع جميعه لا يضمن لصاحب الأرض عند الزراع ، ولو تلف البعض سقط منه بالنسبة (35)

__________

(1) لسان العرب مادة " أوف ".
(2) شرح المنار ص 947 وما بعدها.
(3) المرجع السابق.
(4) الروض المربع ج 1 ص 186. شرح النيل ج 2 ص 23. كشاف القناع ج 1 ص 452.
(5) فتح القدير ج 1 ص 514 ، 515 الطبعة الأميرية سنة 1315هجرية.
(6) بدائع الصنائع للكاسانى الطبعة الأولى ج 2 ص 65
(7) الجرين جمع جرن. وهو موضع تجفيف الثمر ونموه. المسطاح: الحصير من الخوص.
(8) كشاف القناع ج 1 ص 434 ، 451 طبعة المطبعة العامرية الشرفية سنة 1319 الطبعة الأولى.
(9) دردير ج 1 ص 203 المطبعة التجارية الكبرى.
(10) نهاية المحتاج ج 3 ص 81 ، 82 طبعة مصطفى الحلبى سنة 1357 هجرية.
(11) محلى ج 5 ص 263 طبع منير.
(12) شرح الأزهار ج 1 ص 457 الطبعة الثانية مطبعة حجازى بالقاهرة.
(13) شرح الأزهار ج 1 ص 457.
(14) الروضة البهية فى شرح اللمعة الدمشقية ج1 ص 127 طبع دار الكتاب العربى والمختصر النافع فى فقه الإمامية الطبعة الثانية ص 82 طبع وزارة الأوقاف.
(15) شرح النيل ج 2 ص 23.
(16) بدائع الصنائع للكاساتى الطبعة الأولى ج 5 ص 239.
(17) المرجع السابق ص 240.
(18) بدائع الصنائع للكاساتى الطبعة الأولى ج 5 ص 241.
(19) كشاف القناع ج 2 ص 80 طبعة المطبعة العامرية الشرقية سنة 1319 هجرية الطبعة الأولى.
(20) الروض المربع ج 1 ص 185.
(21) بلغة السالك ج 2 ص 67.
(22) نهاية المحتاج ج 4 ص 79 ،80 ،82.
(23) المحلى لابن حزم الظاهرى ج 8 ص 389 طبع منير.
(24) البحر الزخار ج 3 ص 368 الطبعة الأولى سنة 1366هجرية مطبعة السعادة بمصر.
(25) المرجع السابق ج 3 ص 369.
(26) الروضة البهية شرح اللمعة الدمشقية ج 1 ص 336 للشهيد الجيعى العاملى طبع دار الكتاب العربى.
(27) شرح كتاب النيل وشفاء العليل ج 4 ص 64.
(28) شرح كتاب النيل وشفاء العليل ج 4 ص 262.
(29) شرح كتاب النيل وشفاء العليل ج 4 ص 287،288.
(30) فتح القدير ج 8 ص 47 الطبعة الأولى سنة 1318.
(31) كشاف القناع ج 2 ص 278 ، 279 طبعة المطبعة العامرية الشرقية سنة 1319 الطبعة الأولى.
(32) بلغة السالك لأقرب المسالك ج 2 ص 238.
(33) نهاية المحتاج ج 5 ص 255.
(34) المحلى لابن حزم الظاهرى ج 8 ص 211.
(35) الروضة البهية شرح اللمعة الدمشقية للشهيد الجيعى العاملى ج 1 ص 359 طبع دار الكتاب العربى

 
آل

كلمة آل: اسم ثلاثى، عينه ألف ممدودة، ومن اللغويين من ذهب إلى أن أصلها الواو كما هو الحال فى مثل قال وصال. ومنهم من قال: إن أصلها الهاء وسهلت.
ولكلمة آل معان كثيرة أوردتها كتب اللغة ، فالآل هو الشخص. وهو ما تراه أول النهار وآخره مما يشبه السراب وليس هو السراب. والآل ما أشرف من البعير. والخشب. وعمد الخيمة. واسم جبل وأطراف الجل ونواحيه... وليس فى هذه المعانى ما يناسب المعنى الذى تكلم فيه الفقهاء.
وآل الرجل أهله وعياله ، وآله أيضا أتباعه وأولياؤه. وهذه هى المعانى المناسبة لما تكلم فيه الفقهاء. والفقهاء تكلموا فى آل الرجل، أى رجل كان، فى الوقف وفى الوصية.
وتكلموا فى آل محمد- صلى الله عليه وسلم - فى تحريم الصدقة عليهم، وفى استحقاقهم للخمس، وفى الصلاة عليهم فى التشهد، وفى غيره، وفى حجية إجماعهم ، وفى الكفاءة والسيادة والشرف، وفى غير ذلك.
الآل والوقف عليهم والوصية لهم:
قال فقهاء مذهب أبى حنيفة (1): أنه لو وقف على أهل بيته، أو وقف على آله، كان الحكم واحدا فى الحالين، وهو أن يدخل فى وقفه كل من يناسبه بآبائه إلى أقصى أب له فى الإسلام، وهو أبوه الذى أدرك الإسلام وإن لم يسلم، ويدخل فيه أبو الواقف وولده، فى كل من آله وأهل بيته، ويدخل فيه الذكور والإناث من ولده لصلبه ومن ولد الذكور من أولاده، أما أولاد الإناث فلا يدخلون إذا كان آباؤهم من قوم آخرين، لأنهم ليسوا من آله ولا من أهل بيته وإن كانوا من ذريته ومن قرابته.وقالوا أيضا: إن الوصية للآل أو لأهل البيت يدخل فيها كل من اجتمع مع من أضيف له الآل أو البيت بآبائه إلى أقصى أب له فى الإسلام، فلو أوصى لأله أو لأهل بيته وكان علويا دخل فى وصيته كل من ينتسب بآبائه إلى على، وأن كان عباسيا دخل فيها كل من ينتسب إلى العباس، ذكرا كان أو أنثى، إذا كان ينتسب بنفسه أو بواسطة الأباء، إلا أولاد النساء فإنهم لا يدخلون إذا كان آباؤهم من قوم آخرين. ومن أوصى لآله أو أهل بيته دخل فى وصيته أبوه وجده الصحيح إذا كانا غير وارثين.
ولو أوصى إلى أهل فلان كانت الوصية لزوج فلان خاصة فى قول أبى حنيفة، وعند صاحبيه تكون الوصية لكل من يعولهم فلان ممن تضمهم نفقته من الأحرار، فتدخل فيها زوجه واليتيم الذى فى حجره، والولد إذا كان يعوله، أما إذا كان كبيرا قد اعتزل عنه، أو كان بنتا قد تزوجت، فليس من أهله، فلا يدخل فى الوصية للأهل المماليك، ولا وارث الموصى إذا كانت وصيته أهله، ولا يدخل فى الوصية لأهل فلان فلان نفسه، هذا هو فرق ما بين الوصية لأهل فلان وبين الوصية لآله أو لأهل بيته.
وقال فقهاء مذهب مالك (2): أنه لو وقف على آله أو وقف على أهله، كان وقفه هذا على عصبته وعلى كل امرأة لو رجلت- أى فرضت رجلا- كانت عصبة، فلا يدخل أولاد النساء من قرابة الأب، كما لا يدخل فيه أحد من قرابة الأم. والراجح عندهم أن الوقف على الأقارب يشمل الأقارب من جهة الأب ومن جهة الأم، وقيل إنه لا يشمل الأقارب من النساء من الجهتين، غير أنهم لم يفرقوا بين العصبة وغير العصبة منهم. فالآل والأهل معناهما وأحد عندهم فى الوقف.. كما أنه يختلف عن معني القرابة. وقالوا: أنه لو أوصى لأقاربه، أو لأهله، أو لذى رحمه، ولم يكن له أقارب من جهة أبيه أو كان له أقارب من جهته يرثونه لم يدخلوا فى وصيته واختص بها قرابته من جهة الأم. وإن كان له أقارب من جهة الأب وكانوا لا يرثونه اختصوا بالوصية ولا يشاركهم فيها قرابته من جهة الأم. ولو أوصى للأقارب فلان، أو لأهل فلان، أو لذي رحم فلان وكان له أقارب من الجهتين اختص بالوصية أقارب فلان من جهة الأب وارثين كانوا أو غير وارثين لفلان، وأن لم يكن لفلان أقارب من جهة أبيه استحق الوصية أقاربه من جهة أمه وقد صرحوا بأن كلا من الألفاظ الثلاثة يشمل القرابتين معا فى الوصية، وأن قرابة الأب تحجب قرابة الأم إذا اجتمعت القرابتان وكانت قرابة الأب تستحق الوصية ، ولا تحجبها إذ كانت غير مستحقة للوصية. والموازنة بين ما قيل فى الوقف وفى الوصية تظهر مدى اختلاف المعاني فى البابين.
وقال فقهاء مذهب أحمد (3) أنه لو وقف على آله، أو على أهل بيته، أو على أهله ، أو على قرابته من أو على قومه، أو على نسبائه، أو وقف على آل فلان، أو على أهل بيت فلان، أو على أهل فلان، أو.. أو.. إلخ، كان الوقف على الذكر والأنثى من أولاد الواقف أو من أولاد فلان، ومن أولاد أبيه، ومن أولاد جده، ومن أولاد جد أبيه، أربعة آباء. ويستوى فى ذلك الذكر والأنثى والصغير والكبير والغنى والفقير، من قبل أبيه. ولا يدخل فى هذا الوقف من يخالفه فى الدين، ولا أمه، ولا من تكون قرابته له من قبل أمه إلا أن يكون فى كلامه ما يدل على أنه أراد ذلك. وقيل إن وقفه على آله و على آل فلان ، أو على أهله أو أهل فلان أو.. أو.. إلخ يكون كما لو وقف على ذوى رحمه وهم ولده وقرابته من الجهتين. ونقل صالح عن أحمد أنه لو وقف على آله ، أو 0.. أو إلخ ، اختص بهذا الوقف من بصلة الواقف من قرابة أبيه وقرابة أمه وإن جاوز أربعة آباء. واختار ابن الجوزى الفرق بين الوقف على أهل البيت أو على القوم وبين الوقف على القرابة وقال: إن هذا الأخير يختص به قرابة الأب أما الآخر فيكون لقرابة الأبوين. وقال ابن تيمية: أنه لو وقف على أهله أو على أهل بيته دخل فى هذا الوقف أزواجه، وأنه لو وقف على آله ففى دخول أزواجه فى هذا الوقف روايتان، وأختار هو الرواية التي تقول بدخولهن فى هذا الوقف. وقالوا: إنه لو وقف على آله أو على أهل بيته دخل هو فى هذا الوقف أما لو وقف على أهله فإنه لا يدخل فيه.
وقالوا: أنه لو أوصى لآله كان كمن أوصى لقرابته فتكون الوصية لقرابته من قبل أبيه، وذلك لأنه جاء فى بعض الروايات لحديث زيد بن أرقم أنه قبل أبيه: من آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال: "أهله وعشيرتها الذين حرمت عليهم الصدقة: آل على وآل العباس وآل جعفر وآل عقيل.
وفى الوصية لأهل بيته والوصف لقرابته روايات كالتي ذكرت فى الوقف، غير أنى لم أقف على أنها ذكرت فى الوصية للآل.
آل محمد صلى الله عليه وسلم تحريم الصدقة عليهم:
رويت أحاديث كثيرة- قالوا: إنها متواترة المعنى- فى تحريم الصدقة على آل محمد ومما جاء فيها قوله - صلى الله عليه وسلم -:" إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة ". " إن الصدقة حرام على محمد وعلى آل محمد، وإن مولى القوم من أنفسهم ". " إن الصدقة لا تنبغى لآل محمد إنما هى أوساخ الناس.
وقد اتفق الفقهاء على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد حرمت عليه الصدقة المفروضة وصدقة التطوع، ولكنهم اختلفوا فيمن هم آله الذين حرمت عليهم الصدقة وفى الصدقة التى حرمت عليهم.
ذهب الحنفية إلى أن آل محمد الذين حر مت عليهم الصدقة هم بنو هاشم بن عبد مناف إلا من ورد النص بنفي قرابتهم. وهاشم لا ولد له إلا من أبنه عبد المطلب. فمن يعتبرون آل محمد وقرابته فى هذا الباب هم آل على وآل العباس وآل عقيل، وآل جعفر، وآل الحارث، من أولاد عبد المطلب، أما آل أبى لهب بن عبد المطلب فليسوا من آل محمد هنا، ولا تحرم عليهم الصدقة وإن كانوا مسلمين، وذلك لأن تحريم الصدقة على بني هاشم إنما كان تكريما من الله تعالى لهم ولذريتهم لقاء نصرتهم له عليه الصلاة والسلام فى الجاهلية وفى الإسلام، أما أبو لهب فكان أحرص الناس على آذاه عليه الصلاة والسلام، حتي أنه عليه الصلاة والسلام قد برئ من قرابته، فقال: " لا قرابة بينى وبين أبى لهب ، لقد آثر علينا الأفخر ين، فلم يستحق لا هو ولا ذريته هذه الكرامة ". وآل محمد فى هذا الباب لا يتناول آل المطلب وآل عبد شمس وآل نوفل أبناء عبد مناف وليسوا ممن حرمت عليهم الصدقة.
وما ذهب إليه الحنفية فى هذا هو المشهور من مذهب مالك، وإحدى الروايتين عن أحمد، وهو مذهب الزيدية ومذهب الإمامية.
وقال الشافعى وابن حزم: إن آل محمد هنا هم بنو هاشم وبنو المطلب فقط، وهو مقابل المشهور من مذهب مالك وإحدى الروايتين عن أحمد.
والحجة فى ذلك ما ورد فى الصحاح عن جبير بن مطعم (من ولد نوفل) أنه جاء هو وعثمان بن عفان من ولد عبد شمس يكلمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما قسم من الخمس بين بتي هاشم وبنى المطلب فقال جبير: يارسول الله قسمت لإخواننا بنى المطلب ولم تعطنا شيئا وقرابتنا وقرابتهم واحدة.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(إنما بنو هاشم وبنو المطلب شىء واحد). فقالوا: إذن لا يفرق بين حكمهم فى شىء أصلا لأنهم شىء واحد بنص كلامه عليه الصلاة والسلام، فصح أنهم آل محمد، وإذ هم آل محمد فالصدقة عليهم حرام، وخرج بنو نوفل وبنو عبد شمس وسائر قريش عدا هذين البطنين. وقال أصبغ بن الفرج المالكى: إن آل محمد الذين تحرم عليهم الصدقة هم جميع قريش وهم بنو قصى. وعن غيره من المالكية أنهم بنو غالب. وقال فقهاء الحنفية: إن آل محمد الذين تحرم عليهم الصدقة هم الذين ينتسبون إلى هاشم بأنفسهم أو بواسطة آبائهم دون من ينتسبون إليه بواسطة النساء. فأولاد البنات من آل محمد ليسوا من آل محمد ولا تحرم عليهم الصدقة، وبهذا قال جمهور الفقهاء ولا يعرف من خالف فى هذا إلا السيد المرتضى من فقهاء أهل البيت فقد قال: إن أولاد البنات من آل محمد - وإن كان آباؤهم من قوم آخرين - تحرم عليهم الصدقة ويكونون ممن يستحقون فى الخمس. وقد وافقه على ذلك جماعة من فقهاء الشيعة الإمامية ذكرهم صاحب جواهر الكلام وقال: إن بعض فضلاء الأعاجم قد ألف رسالة فى الانتصار لهذا المذهب. ولكن عدم دخولهم هو الأشهر الذى عليه عامة الإمامية.
وقال فقهاء الحنفية إن موالى آل محمد منهم وتحرم عليهم الصدقة، وهذا هو مذهب ابن حزم، وذلك لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل رجلا من بنى مخزوم على الصدقة فأراد أن يصحبه أبو رافع مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأبى إلا أن يستأذن رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال له: " إن الصدقة لا تحل لآل محمد وإن مولى القوم من أنفسهم ". أما مذهب أحمد ومذهب الشيعة الإمامية أن موالى آل محمد ليسوا من قرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يكونون من آل محمد فتحل لهم الصدقة. وقال ابن قدامة فى المغنى: إن هذا قول أكثر العلماء.
ولا إختلاف بين الفقهاء فى أن أزواج بنى هاشم لسن من آل محمد فى هذا الباب فتحل لهن الصدقة. غير أن ابن قدامة قال إن الخلال روى بإسناده عن ابن أبى مليكة أن خالد بن سعيد بن العاص بعث إلى عائشة شعيرة من الصدقة فردتها وقالت: إنا آل محمد - صلى الله عليه وسلم -لا تحل لنا الصدقة. وهذا يدل على تحريمها على أزواج النبى- صلى الله عليه وسلم- وقد اتفق الفقهاء على أن الزكاة المفروضة صدقة محرمة على آل محمد فلا يحلى لأحد منهم أن يتناول منها إذا كان من الأصناف التى تستحق الزكاة لو لم يكونوا من بنى هاشم سوى صنف العاملين عليها ففيه اختلافهم كما سيجئ.
وقال الإمامية: إنها محرمة عليهم لا فرق فى ذلك بين أهل العصمة وغيرهم، وقد ورد فى الخبر الذى رواه أبو خديجة عن أبى عبد الله قوله: أعطوا الزكاة من أراد من بنى هاشم وإنما تحرم على النبى وعلى الإمام بعده وعلى الأئمة. فقالوا: إن فى سند هذا الخبر مقال، وبغض النظر عن ذلك فانه يجب طرحه، او حمله على. حال الضرورة، وهى حال لا تقوها بالنبي ولا بالأئمة، أو حمله على صدقة التطوع التى اختص منصب النبوة ومنصب الإمامة بالترفع عنها.
وجمهور الحنفية على أنه لا يحل لأحد من الآل أن يكون عاملا على الصدقة يتناول أجر عمله منها، وهذا هو مذهب الشافعى وأظهر الروايتين عن أحمد، ومذهب ابن حزم، ومذهب الإمامية، وإحتجوا فى هذا بقوله عليه الصلاة والسلام للفضل بن العباس وعبد المطلب بن ربيعة حينما سألاه أن يؤمرهما على بعض الصدقة ليصيبا كما يصيب غيرهما: أن الصدقة لا تنبغى لأل محمد إنما هى أوساخ الناس، وبحديث أبى رافع الذى سبق ذكره، وقالوا: إن الصدقة تخرج من مال المتصدق إلى الأصناف التي سماها الله تعالى فيملك العامل على الصدقة بعضها على أنه مصرف لها وعلى أنها صدقة وذلك لا يحل لأحد من آل محمد.
وقال الطحاوى: إن أبا يوسف كان يكره لبنى هاشم أن يعملوا عنى الصدقة إذا كانت جعالتهم منها وخالفه فى ذلك آخرون، فقالوا: لا بأس أن يعمل الهاشمي على الصدقة ويأخذ أجره منها لأنه إنما يملك أجره بعمله لا على أنه صدقة عليه، فالأجر لا يصل إليه باسم الصدقة، فهو كالصدقة إذا بلغت محلها ثم أهدى منها من أخذها - إلى من لا تحل له الصدقة فإنه يحل له تناول هذا وإن كان أصله الصدقة وساق فى بيان هذا حديث بريرة وغيره.
وقال فى حديث الفضل وصاحبه: قد يجوز أنه ما منعهما العمل على الصدقة إلا ليجنبهما العمل على أوساخ الناس لا لأن أخذهما أجرهما منها محرم عليهما،وقال أنه وجد ما يدل على ذلك وهو أن العباس سأله عليه الصلاة والسلام أن يستعمله على الصدقة فقال له: " ما كنت لأستعملك على غسالة ذنوب الناس " ثم قال إن هذا هو النظر وهو أصح مما قال أبو يوسف فى ذلك. وما ذهب إليه الطحاوى رواية عن أحمد، وقد وجهوها بأن أجر العامل عليها كأجر بيته لو استؤجر لتوضع فيه الصدقة.
وذهب فقهاء الحنفية إلى تحريم ما أوجبه اللّه سبحانه من الصدقة سوى الزكاة على آل محمد، فلا يجوز أن يصرف إليهم شئ من كفارة اليمين والظهار والقتل وجزاء الصيد وعشر الأرض، أخذا بعموم السنن التى وردت فى تحريم الصدقة على آل محمد، وهذا هو مذهب المالكية والشافعية وابن حزم وأحد وجهين فى مذهب أحمد وبه قال جماعة من الإمامية، وقال آخرون منهم: إن الحرمة قاصرة على الزكاة، وهذا هو الاحتمال لآخر فى مذهب أحمد.
وفى مؤلفات متأخري الحنفية عد النذر من الصدقة المحرمة على آل محمد من غير إشارة إلى خلاف فى ذلك. وهذا متفق مع أوجه الاحتمالين فى مذهب الشافعى، وصرح بعض الإمامية بأن من الصدقة المحرمة الصدقة الواجبة بالنذر، والصدقة الموصى بها، والهدى الواجب.
وواضح أن من يقولون بحرمة صدقة التطوع عليهم يقولون بحرمة هذا النوع من الصدقة عليهم. والاحتمال غير الوجيه فى مذهب الشافعية أن النذور تحل لهم. ومذهب أحمد أنه يجوز لهم الأخذ من الوصايا للفقراء ومن النذور لأنها من صدقة التطوع، فهم لا ينظرون إلا إلى إيجاب الشارع، أما إيجاب العبد على نفسه فإنه لا يخرج الصدقة عن أن تكون صدقة تطوع.
أما صدقة النفل أو التطوع فقد اختلفت بشأنها عبارات مؤلفى الحنفية. فالطحاوى بعد أن روى السنن الواردة فى التحريم قال: فدل ذلك على أن كل الصدقات من التطوع وغيره قد كان محرما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى سائر بني هاشم، والنظر يدل على استواء حكم الفرائض واقع فى ذلك.
وذلك أنا رأينا غير بنى هاشم من الأغنياء والفقراء فى الصدقات المفروضات والتطوع سواء من حرم عليه أخذ صدقة مفروضة حرم عليه اخذ صدقة غير مفروضة فلما حرم على بنى هاشم أخذ الصدقات المفروضات حر م عليهم اخذ الصدقات غير المفروضات. فهذا هو النظر فى هذا الباب، وهو قول أبى حنيفة وأبى يوسف ومحمد رحمهم الله.
وقد اختلف النقل عن أبى حنيفة فى ذلك، فروى عنه أنه قال: لا بأس بالصدقات كلها على بنى هاشم.
وذهب فى ذلك عندنا إلى أن الصدقات إنما كانت حرمت عليهم من أجل ما جعل لهم فى الخمس من سهم ذوى القربى فما انقطع ذلك عنهم ورجع الى غيرهم بموت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حل لهم بذلك أخذ ما كان محرما عليهم من أجل ما كان قد أحل لهم.
وقد حدثنى سليمان بن شعيب عن أبيه عن محمد عن أبى يوسف عن أبى حنيفة فى ذلك مثل قول أبى يوسف، فبهذا نأخذ... هذا كلام الطحاوى وهو قاطع فى أن عن أبى حنيفة روايتين: رواية حرمة المفروضة والتطوع وإن انقطع حقهم فى الخمس. ورواية حلهما بعد موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانقطاع حقهم فى الخمس.
وهذا ما يقرره البابرتى فى " العناية "، فقد قال: وذكر فى " شرح الآثار " أن النافلة والمفروضة محرمتان عليهم عندهما وعن أبى حنيفة فيهما روايتان غير أنه نقل فى " فتح القدير " عن النهاية أن صدقه النفل تجوز لهم بالإجماع.
وجاء فيه أيضا أن جواز صدقة التطوع قد ورد فى " الكافى " من غير إشارة إلى خلاف.
وهذا هو ما صنعه صاحب الهداية أيضا، وقال الكمال: إنه قد ورد فى شرح الكنز " أنه لا فرق بين الصدقة الواجبة وصدقة التطوع. ثم قال: وقال بعضهم يحل لهم التطوع وقال الكمال أنه قد اثبت الخلاف على وجه يشعر بترجيح حرمة النافلة وهو الموافق للعمومات فوجب اعتباره. وفى العناية أن صاحب الفتاوى الكبرى أختار حرمة التطوع.
وقد حقق الكمال أن الوقف من صدقة التطوع بعد أن نقل أن فيه عند الحنفية أقوالاً ثلاثة: الجواز مطلقا،والمنع مطلقا، والجواز إذا سماهم حتي يكون كالوقف على الأغنياء. والقول بحرمة صدقة التطوع عليهم مذهب الشافعى ومذهب أبن حزم، وقول فى مذهب مالك وإحدى الروايتين عن أحمد. وحل هذه الصدقة لأل محمد هو المعتمد فى مذهب مالك مع الكراهة وهو أظهر الروايتين عن أحمد.
وقال الإمامية: أن صدقة التطوع محرمة على النبى وعلى الأئمة جائزة لغيرهم من آل محمد.
وقد وقفنا على ما جاء بإحدى الروايتين عن أبى حنيفة من حل المفترضة والتطوع لهم وما رأى الطحاوى أنه وجه ذلك عنده ". وهو انقطاع حقهم فى الخمس.
وأن الرواية الأخرى هى الحرمة فيهما وإن انقطع ذلك، وأن هذا هو قول أبى يوسف ومحمد والحرمة مع ذلك هى أيضا المذهب عند الشافعية.
أما رواية الحل فى الصدقتين فهى أيضا مذهب المالكية إذا أصابهم ضر ومذهب الإمامية، وقول فى مذهب الشافعية.
ومذهب الحنفية أن الصدقة لا تحل لهم وأن كانت من بعضهم لبعض وهذا مذهب المالكية أيضا.
وفى رواية عن أبى يوسف وأخرى عن أبى حنيفة حل الصدقة من آل محمد بعضهم لبعض، وذلك مذهب الإمامية.
وقال الشوكانى: أنه قد نقل فى البحر عن زيد بن على وعن المرتضى وأبى العباس والإمامية وأنه نقل فى الشفاء عن أبنى الهادي والقاسم، وقال إنه قول جماعة وافرة من أئمة العترة وأتباعهم وأولادهم، وأن البعض قد أدعى إجماع فقهاء الشيعة على ذلك، ولكنه أنكر هذه الدعوى وأفاض فى ردها واستنكار ما كان يجرى باليمن فى عهده (4)
مستحقو الخمس والفئ
أثبت الكتاب الكريم لذى القربى قربى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- حقا فى خمس الغنائم بقوله تعالى: "واعلموا أنما غنمتم من شىء فإن لله خمسه وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل،إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شىء قدير" (5).
وحقا فى الفئ بقوله تعالى: ( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كى لا يكون دولة بين الأغنياء منكم، وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا، واتقوا الله، إن الله شديد العقاب ( (6).
وقد اختلف الفقهاء فى مقدار استحقاق ذى القربى، وفى مصير هذا الاستحقاق بعد موته عليه الصلاة والسلام وفى كثير من الأحكام المتصلة بهذا، فيرجع إلى معرفة ذلك كله فى مواد: " خمس. غنيمة. فئ".
وذوو القربى هم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم آل محمد الوارد ذكرهم فى تحريم الصدقة، فمن ذهب فيهم إلى رأى هناك قال به هنا ما عدا الحنفية الذين أخذوا هنا بحديث جبير بن مطعم الذى سبق إيراده هناك.
فهم هنا بنو هاشم وبنو المطلب عند الحنفية والشافعية وابن حزم، وفى قول عند المالكية ورواية فى مذهب أحمد.
وهم بنو هاشم (7) وحدهم إلا آل أبى لهب فى القول المشهور عند المالكية والرواية الأخرى فى مذهب أحمد، ونقل هذا عن عمر بن عبد العزيز وبه قال زيد بن أرقم وطائفة من الكوفيين، وإليه ذهب جميع أهل البيت ومن قال هناك بدخول أولاد البنات قال به هنا، ومن أخرجهم هناك أخرجهم هنا، ولم أر من عرض لذكر الموالى والأزواج هنا سوى قول ابن حزم ولا حق فيه لمواليهم ولا لخلفائهم ولا لبنى بناتهم من غيرهم.
الصلاة على آل محمد:
جمهور العلماء على أن الصلاة على آل محمد فى التشهد الأخير مندوبة والراجح من مذهب الشافعى إنها سنة، وقال الشيعة إنها واجبة فى التشهدين. ويرجع فى تفصيل ذلك إلى مادة " صلاة. تشهد ".
وقال الجمهور: أنه لا ينبغى لأحد أن يصلى على آل محمد استقلالا، وإنما الصلاة عليهم تكون تبعا للصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -... فالآل فى ذلك كغيرهم من الناس.
واختلف العلماء فى معنى الآل فى هذا المقام ونظائره على أقوال كثيرة، فقيل هم الأزواج والذرية. وقيل هم الذين حرمت عليهم الصدقة وهم بنو هاشم وحدهم أو بنو هاشم وبنو المطلب. وقيل على فاطمة والحسنان وأولادهم. وقيل هم القرابة بغير تقييد وقيل هم الأمة جميعا. وقال النووى إن هذا أظهر الأقوال (8).
وفيما يتعلق بإجماع آل محمد وشرفهم وكفاءتهم ونسبهم يرجع إلى مواد "إجماع. كفاءة. نسب ".

__________

(1) أحكام الوقوف والصدقات للخصاف ص 36 ، 41 بدائع الصنائع للكسانى ج7 ص 351 وما بعدها
(2) مختصر خليل والشرح الكبير للدردير ج4 ص 94 - 432
(3) المغنى لابن قدامة ج6 ص 549،553،554،
الفروع لابن مفلح ج 6 ص886،888
كشاف القناع ج2 ص 467
(4) انظر: شرح معانى الآثار للطحاوى ج1ص297 وما بعدها.
بدائع الصنائع للكسانى ج2 ص44،49 الهدية وفتح القدير والعناية ج2 ص24،25 رد المختار لابن عابدين ج2 ص68،69.الطحطاوى على مراقى الفلاح ص700،701 من كتب الحنفية
وانظر: مختصر خليل والشرح الكبير للدردير ج1 ص493 وما بعدها،من كتب المالكية.
وانظر: المغنى لابن قدامة ج2ص519 وما بعدها ،من كتب الحنفية.
وانظر: المحلى لابن حزم ج6ص146 ،من كتب الظاهرية.
وانظر: نيل الأ وطار للشوكانى ج4ص146، شرائع الإسلام وشرحه جواهر الكلام ج3ص99 وما بعدها ،157 وما بعدها، من كتب الشيعة.
(5) سورة الأنفال:40
(6) سورة الحشر:6
(7) وانظر: مبسوط السرخسى ج10 ص 9. مختصر خليل والشرح الكبير ج2 ص 190. الوجيز للغزالى ج1 ص 173. التحفة لابن حجر ج 3 ص 80. المحلى لابن حزم ج7 ص 327. نيل الأوطار للشوكانى ج 8 ص 58. جواهر لكلام ج3 ص 157 وما بعدها.
(8) وانظر: الوجيز للغزالى ج1 ص 53. شرح الحلبى لمنية المصلى ص 3. جواهر الكلام ج2 ص 341 وما بعدها. نيل الأوطار ج2 ص 244.

 
آلة

التعريف بكلمة آلة:
جاء فى القاموس واللسان فى بعض معانى الآلة أنها ما اعتملت به من الأداة، يكون واحدا وجمعاً، والمراد " باعتملت " استعنت، ويفسرون الأداة بالآلة، ويقول ابن منظور (1) (إن أداة الحرب سلاحها..)
والآلة لا تخرج فى اصطلاح الفقهاء وتعبيراتهم عن هذا المعنى اللغوى، وإنما يذكرونها فى أبواب من الفقه لمناسبات يتعلق بالآلة فيها حكم شرعى، والذى يعنينا بيانه مما ورد مبعثرا فى كتب الفقه فى استعمال الفقهاء لكلمة آلة وما يتعلق بها من أحكام هو الآتى:
1- آلة الرى، وآلة الصناعة، فى كتاب الزكاة.
2- آلة الصيد، وآلة الذبح، فى باب الصيد والذبائح.
3- آلة القتل، وآلة الحد، فى الجنايات والقصاص والحدود.
4 - آلة القتال، فى الجهاد.
5- آلة اللهو، فى البيوع و الإجارة وما يتعلق بضمان المتلفات، والقطع فى سرقتها.
آلة الرى:
اتفق الفقهاء(2) فى زكاة الزروع والثمار على أن ما سقى بالأمطار وماء الأنهار بلا آلة وحب فيه العشر، وأما المسقى بآلة كالدلو والدولاب والساقية والناقة ونحو ذلك، فيجب فيه نصف العشر، لأن المؤنة تكثر فيه وتقل فيما يسقى بالسماء أو السيح.
وقد نقل أبو شجاع من الشافعية عن البيهقى الاجماع على ذلك، كما حكاه صاحب البحر الزخار من الزيديه وقال ابن قدامة الحنبلى لا نعلم فيه خلافا.
وفى مسلم: (وفيما يسقى بالسانية نصف العشر). والسوانى هى النواضح التى هى الإبل يستقى بها لشرب الأرض. وعن معاذ بن جبل رضى الله عنه قال: بعثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم الى اليمن، فأمرنى أن آخذ مما سقت السماء أو سقى بعلا العشر، ومما سقى بدالية نصفه العشر، إلا أن بعض المالكية لا يعتبرون النقالات من البحر وهى النطالة والشادوف على حد تعبيرهم من الآلات ويقول بعضهم أنها منها..
آلة الصناعة:
قال الأحناف (3):لا زكاة فى آلات المحترفين سواء كانت مما لا تستهلك عينه فى الانتفاع كالقدوم والمبرد، أو تستهلك ولا يبقى أثر عينه كالصابون للغسال ، أما ما يستهلك ويبقى أثر عينه كالعصفر والزعفران للصباغ والدهن والعفص للدباغ ففيه الزكاة إذا حال عليه الحول، ونصوا على أن مثل قوارير العطار ولجم الخيل و الحمير إن كان من غرض المشترى بيعها ففيها الزكاة وإلا فلا، وقريب من هذا يقول الشافعية (4) والحنابلة(5) و الإباضية(6) من آلات الصناعة لا زكاة فيها إلا إذا كانت للتجارة وأما مسلك المالكية. فإنهم يقولون فى العروض. بوجه عام- ويدخل فيها آلات الصناعة - أنه لا زكاة فيها مطلقا إلا فى عرض تلك بمعاوضة مالية وتملكه بنية التجارة ولو صاحبها نية الإقتناء بشرط إلا تكون فى عينه زكاة أخرى، وقالوا(7): لا زكاة فى المباخر والمراود والمكاحل ونحوها إذا اتخذت كراء إلا إذا كان كراء محرما.
وأما ابن حزم فيصور مذهب الظاهرية (8) بقوله: إن السلف اتفقوا على أنه لا زكاة فى كل ما اكتسب للقنية. مثل آلات الصناعة، لا للتجارة من آنية وسلاح وغير ذلك كله لا تحاشى منه شيئا.
ولم نقف للشيعة الإمامية على ذكر لآلات الصناعة بين ما تجب فيه الزكاة أو تستحب إلا فى شمول قول صاحب الروضة البهية (9) " وتستحب الزكاة فى مال التجارة، وقيل تجب " فمفهومه أن الآلات إذا كانت لغير التجارة لا زكاة فيها.
ويقول الزيدية (10): لا تجب الزكاة فى غير أجناس عشرة عدها صاحب البحر،وليس منها آلات الصناعة إلا لتجارة أو استغلال، وهذا يفيد أنها لا تجب فيها الزكاة إلا إذا اتخذت للتجارة أو الاستغلال.
آلة الصيد:
قد تكون آلة الصيد حيوانا معلما يصاد به كالكلب، وقد تكون جمادا كالسهام والنبال ونحوها، ولكل من النوعين شروط و اعتبارات قد تختلف باختلاف المذاهب.
الاصطياد بالحيوان المعلم:
الأصل فيه قول الله تعالى: " قل أحل لكم الطيبات، وما علمتم من الجوارح مكلبين، تعلمونهن مما علمكم الله، فكلوا مما أمسكن عليكم وأذكروا اسم اللّه عليه (11) ".
وقد اتفق الفقهاء على أنه يجوز الاصطياد بالكلب المعلم ويحل صيده بشروط مبينة
فى موضعها من كتب الفقه، انظر " صيد " واختلفوا فى جواز الاصطياد ببعض الحيوانات الأخرى.. أنظر جارح.
وإليك بيان الحكم فى المسألتين فى المذاهب.
أجمع فقهاء المذاهب على خل الصيد بكل ذى ناب من السباع ومخلب من الطير بشرط كونه معلما، ما عدا الزيدية. فإنهم يجيزون الاصطياد بالكلب والفهد لا غير، ويضاف إليهما الأسد والنمر إن قدرنا على قبولهما التعليم قياسا على الكلب، وعدا الأباضية كذلك فإنهم يجيزون الإصطياد بغير السبع كالهر.
كما أجمعوا على وجوب التسمية الا أن للفقهاء اعتبارات واشتراطات فى التعليم، وفى بعض شروط أخرى... انظر " تذكية ".
آلات الصيد غير الحيوان المعلم:
لاخلاف بين الفقهاء(12) فى جواز الاصطياد بالشبكة والشرك، وإلجاء الصيد إلى مضيق لا يفر منه، وبالسهام والنبال والرماح، وبكل محدد وإن كان له ثقل كالمعراض والحجر بشرط أن يقتل بحده ولم يجيزوا الصيد بالبندقة الثقيلة ولو كانت محددة- والمراد بالبندقة الكرة من الطين المجمد-، لأنها تقتل بثقلها، ويقولون: إن مثقل الحديد وغير الحديد سواء إن خرق حل وإلا فلا.
وخالف الظاهريه إذ أجازوا الاصطياد بالبندقة والحجر ونحوهما مما لا يقتل بحده إذ يقول أبن حزم (13) فى تصوير المذهب: إن كل ما شرد فلم يقدر عليه من حيوان البر كله وحشيه وانسيه لا تحاشى شيئا لا طائرا ولا ذا أربع مما يحل كله، فان ذكاته أن يرمى بما يعمل عمل الرمح أو عمل السهم أو عمل السيف أوعمل السكين فإن أصاب بذلك فمات قبل أن تدرك ذكاته فأكله حلال.
ثم ذكر حديث عدى بن حاتم وقد سأل النبى صلى الله عليه وسلم عن المعراض فقال: " أذا أصاب بحده فكل، وإذا أصاب بعرضه فقتل فانه وقيذه فلا تكل ".
ثم قال: وقد اختلف الناس فى هذا، فقال عمار بن ياسر إذا رميت بالحجر أو البندقة ثم ذكرت اسم الله فكل، ونقل مثله عن سعيد ابن المسيب ، ونقل عن عمر بن الخطاب خلاف هذا... ثم قال إن من ذهب إلى قول عمار وسعيد يحتج بقول الله تعالى: " ليبلونكم الله بشئ من الصيد تناله أيديكم ورماحكم (14) ".
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم لأبى ثعلبة الخشنى: " ما أصبت بقوسك فاذكر أسم الله عليه وكل ".
ثم قال: إنه لا حجة فى حديث عدى بن حاتم لأنه لا يحل ترك نص لنص، ورجح مذهب القائلين بإباحة الصيد بالبندقة ونحوها بإطلاق ..
ثم قال: ومن نصب فخا أوحبالة أوحفر زبية للصيد فكل ما وقع من شىء من ذلك فهو له.
ويقول الدسوقى المالكى: فيما يتعلق بصيد بندق الرصاص " أن الصيد ببندق الرصاص لم يوجد فيه نص للمتقدمين لحدوث الرمى به بحدوث البارود فى وسط
المائة الثامنة، وأختلف فيه المتأخرون ، فمنهم من قال بالمنع قياسا على بندق الطين، ومنهم من قال: بالجواز لما فيه من الإنهيار والإجهاز بسرعة ".
وقد نص الحابلة على أنه لا يجوز صيد السمك بالنجس كالعذرة ، وعلى كراهة الصيد بالخراطيم وكل ما فية الروح، وعلى جواز أن يطعم الصيد ما يسكره.
آلة الذبح:
نص الأحناف (15) على حل الذبح بكل ما أفرى الأوداج- أى قطعها- وأنهر الدم - أى أساله- ولو بقشرة قصب إلا السن والظفر إذا كانا قائمين، ولو كانا منزوعين حل مع الكراهه ، ويندب إحداد الشفرة. ولم يخالف الزيدية (16) والأباضية (17) والحنابلة 4 فى هذا، إلا أنهم أطلقوا القول بمنع الذبح بالسن والظفر حيث نصوا على أن تكون الآلة محددة، وألا تكون سنا ولا ظفرا، كما نص الإباضية على أن الذبح بالسكين الكالة منهى عنه.
ووافقهم الشافعية على ذلك وزادوا عدها جواز الزبح بالعظام.
يقول صاحب الاقناع (18): تجوز الذكاة بكل ما يجرح كمحدد حديد وقصب وحجر ورصاص وذهب وفضة، إلا بالسن والظفر وباقى العظام متصلا كان أو منفصلا من آدمى أو غيره.
ونصوا على حل الذبح بالسكين الكالة بشرط ألا يحتاج القاطع إلى قوة الذبح (19).
أما المالكية (20): فيوافقون على جواز الذبح بالحديد المحدد.، وبكل محدد غيره اذا لم يوجد الحديد، وعلى ندب الاحداد قبل الذبح، ألا أنهم يجيزون الذبح بالعظم والسن متصنلين أو منفصلين، ويقول بعضهم أن محل الجواز أن أنفصلا ومنعها بعضهم مطلقا كالحنابلة والشافعية، إلا أن المالكية يقولون: أن محل الخلاف عندهم إن وجدت آلة للذبح غير الحديد، فإن وجد الحديد تعين، وإن لم يوجد غيرهما جاز جزما.
ويوافق الجعفرية المالكية فى ذلك حيث قالوا (21): يجب التذكية الاختياريه أن تكون الآلة حديدا يفرى الأعضاء ويخرج الدم، فان تعذر الحديد جاز بما يفرى الأعضاء كالليطة. وهى القشر الأعلى للقصب، المتصل به، و المروة الحادة- وهى حجر يقدح النار- والزجاج ، وكذا ما أشبهها من الآلات الحادة غير الحديد لما نقل عن الصادق قال: إذبح بالحجر والعظم والقصبة (22) والعود إذا لم تصب الحديد إذا قطع الحلقوم وخرج الدم، ومثله عن الكاظم وفى السن والظفر متصلين أو منفصلين للضرورة قول بالجواز.
أما مسلك الظاهرية فيصوره ابن حزم إذ يقول (23): التذكية جائزة بكل شىء إذا قطع قطعة السكين، أو نفذ نفاذ الرمح سواء فى ذلك العود المحدد والحجر الحاد والقصب الحاد وكل شئ حاشا آلة أخذت بغير حق، وحاشا السن والظفر وما عمل منهما منزوعين أو غير منزوعين، وإلا عظم الخنزير
والحمار الأهلى ، أو عظم سبع من ذوات الأربع أو الطير حاشا الضباع، أو عظم "انسان فلا يكون حلالا ما ذبح أو نحر بشىء مما ذكرنا.
والتذكية جائزة بعظم الميتة، وبكل عظم جاشا ما ذكرنا، وهى جائزة بمدى الحبشة، فلو عمل من ضرس الفيل سهم أو رمح أو سكين لم يحل أكل ما ذبح أو نحر لأنه سن، فلو عملت من سائر عظامه حل الذبح والنحر بها.
آلة القتل فى الجنيات:
آلة القتل العمد عند أبى حنيفة السلاح وما أجرى مجرى السلاح، كالمحدد من الخشب و ليطة القصب و المروة المحددة والنار، ويستدل على أن ذلك هو العمد، بأن العمد هو القصد، ولا يوقف على القصد إلا بدليله، وهو استعمال الآلة القاتلة، فإذا كانت الآلة غير السلاح ولا ما أجرى مجرى السلاح فهى آلة شبه العمد.
وقال أبو يوسف ومحمد: أن من آلة العمد أن يضربه بحجر عظيم أو بخشبة عظيمة أو ما إلى ذلك مما يقتل غالبا، وأما آلة شبه العمد، فهى ما لا يقتل غالبا، لأنه يتقاصر معنى العمدية باستعمال آلة صغيرة لا يقتل بها غالبا لأنه يقصد بها غيره، كالتأديب ونحوه، فكان شبه عمد (24).
وفى التنوير وشرحه الدر وحاشية أبن عابدين عليه (25): ومما يعتبر آلة للعمد عند أبى حنيفة الحديد والسيف والسكين والرمح والخنجر والنشابة والإبرة فى مقتل ،
وجميع ما كان من الحديد سواء كان يقطع أو يبضع كمطرقة الحداد والزبرة ، سواء كان الغالب منه الهلاك أم لا، ولا يشترط الجرح فى الحديد فى ظاهر الرواية لأنه وضع للقتل، وروى الطحاوى عن الإمام اعتبار الجرح فى الحديد، قال صدر الشهيد وهو الأصح ورجحه فى الهداية وغيرها قال ابن عابدين: وعلى كل فالقتل بالبندقة الرصاص عمد لأنها من جنس الحديد وتجرح، ونقل الحصكفى عن شرح الوهبانية ان كل ما به الذكاة فيه القود و إلا فلا ، ونقل عن البرهان: أن الحديد غير المحدد كالسنجة فيه روايتان أظهرهما أنها عمد.
ومن آلات القتل العمد عند الامام أيضا الابرة فى المقتل قال فى الاختيار (26): روى أبو يوسف عن أبى حنيفة فيمن ضرب رجلا بإبرة وما يشبهها عمدا فمات لا قود فيه، وفى المسلة ونحوها القود لأن الإبرة لا يقصد بها القتل عادة بخلاف المسلة.
وفى روايه أخرى أن غرز بالإبرة فى المقتل قتل و إلا فلا، وفى البزازية غرزة بابرة حتى مات يقتض به لأن العبرة للحديد، وقال فى موضع آخر: لا قصاص إلا إذا غرزه فى المقتل وكذا لو عضه 0
والشافعية كالصاحبين يقولون: أن آلة القتل العمد ما يقتل غالبا جارحا كان أو مثقلا، وينصون على أنه يدخل فى المثقل التجويع والسحر والخصاء فيكون هذا.
من قبيل القتل العمد، أما آلة القتل شبه العمد فهى ما لا يقتل غالبا، ومثلوا له بالضرب بالسوط وبالعصا الخفيفة فى غير مقتل وبالابرة كذلك.
والحنابلة لا بختلفون عن ذلك (27) ، قال أبن قدامة: " إن القتل العمد يكون بمحدد يقطع. ويدخل فى البدن كالسيف والسكين والسنان وما فى معناه مما يحدد فيجرح من الحديد والنحاس والرصاص والذهب والفضة والزجاج والقصب والخشب، فهذا كله إذا جرح به جرحا كبيرا فمات فهو- قتل عمد، وكذلك غير المحدد مما يغلب على الظن حدوث الزهوق به عند استعماله " ثم يقول: إن غير المحدد يتنوع أنواعا منها المثقل الكبير الذى يقتل مثله غالبا سواء أكان من حديد كالسندان والمطرقة أو حجر ثقيل أو خشبة كبيرة، ومن هذا النوع الحائط والصخرة، ومنها المثقل الصغير كالعصا والشوط والحجر الصغير إذا كان فى مقتل أو فى حال ضعف من المضروب أو فى زمن مفرط الحر أو البرد، أو كرر الضرب حتى قتله، ومنها أن يمنع نفسه كأن يجعل فى عنقه حبلا ثم يعلقه فى خشبة أو شئ بحيث يرتفع عن الأرض فيختنق ويموت سواء مات فى الحال أو بقى زمنا لأن هذا أسرع أنواع القتل، وهو الذى جرت العادة بفعله من الولاة مع بعض المفسدين، ومنها أن يخنقه وهو على الأرض بيديه أو منديل أو حبل أو بوسادة أو شىء يضعه على فمه أو أنفه أو يضع يده عليهما فيموت، ومنها أن يلقيه فى مهلكة ويدخل فيه ما اذا ألقاه من شاهق كرأس جبل أو حائط عال يهلك به غالبا فيموت، ويدخل فيه أن يلقيه. فى نار أو ماء يغرق ولا يمكنه التخلص منه أما لكثرة الماء أو النار واما لعجزه عن التخلص لمرض أو صغر أو كونه مربوطا أو منعه الخروج، أو كونه فى حفيرة لا يقدر على الصعود منها، ويدخل فيه ان يجمع بينه وبين أسد أو نمر فى مكان ضيق فيقتله، وكذلك إذا حبسه فى مكان ومنعه من الطعام والشراب مدة لا يبقى فيها حتى يموت، وكذالك اذا سقاه سما فمات، وكذلك إذا قتله بسحر يقتل غالبا، كما يدخل فيه أن يتسبب فى قتله بما يقتل غالبا أن يكره رجلا على اقتل آخر فيقتله، أو يشهد رجلان على رجل، - أى شهادة زور- بما يوجب قتله فقتل
- وأما آلة شبه العمد فهى ما لا يقتل غالبا كالضرب بالسوط والعصا والحجر الصغير والوكز باليد وسائر ما لا يضل غالبا اذا كان بقصد الضرب لا القتل.
اما المالكية (28): فمسلكهم أن آلة القتل الموجب للقصاص هى المحدد والمثقل والقضيب والسوط إن فعله لعداوة أو غضب ومات من ذلك، وكذلك الخنق ومنع الطعام والشراب بقصد الإمانة ، وكذلك طرح غير محسن للعوم فى نهر عداوة، وكذلك البئر يحفرها الرحل وكذلك المزلق كقشرة البطيخ إذا قصد الضرر مع هلاك المقصود، وكذلك الكلب العقور والاكراه فإن الشخص المكره على القتل يعتبر آلة إذا كان لا يمكنه المخالفة، وكذلك الطعام المسموم يقدمه الشخص العالم به لغير العالم به فيتناوله فيموت، وكذلك الحية يرميها على شخص فيموت. وقال الدسوفى (29): انه إذا أشار بآلة القتل إلى شخص فهرب فطلبه فمات فإما أن يموت بدون سقوط أو يسقط، وفى كل ذلك إما أن يكون بينهما عداوة أو لا،فإن لم يكن عداوة فليست بآلة تحل موجبة للقصاص، وإن كان بينهما عداوة فهى آلة قتل موجب للقصاص.
والعبرة عند الظاهريه (30) فى العمد أن تكون آلة مما قد يمات بمثله وقد لا يمات بمثله، مع التعمد، فإذا تعمد بما لا يموت به أحد أصلا لم يكن عمدا ولا خطأ.
ولا يبعد الشيعة الجعفريه عن مسلك الظاهرية فهم يقولون (31): إن آلة القتل العمد ما يقتل به غالبا أو نادرا إذا اتفق به القتل، نظرا لأن العمد يتحقق بقصد القتل من غير نظر إلى الآلة فانه إذا لم يقصد به القتل وإن اتفق الموت كالضرب بالعود الخفيف والعصا الخفيفة فى غير مقتل اعتبر القتل شبه خطأ...
ويقولون أيضا أنه لو كرر ضربه بما لا يحتمل مثله بالنسبة إلى بدنه وزمانه فهو عمد، وكذا لو ضربه دون ذلك فاعقبه مرض فمات أو رماه بسهم أو بحجر غامز
أى كابس على البدن بثقله، أو خنقه بحبل ولم يرخ عنه حتى مات، أو بقى المخنوق ضمينا- أى مزمنا- ومات بذلك، أو طرحه فى النار فمات، أو فى اللجة فمات منها ولم يقدر على الخروج.
أو جرحه عمدا فسرى الجرح عليه ومات، أو ألقاه من مكان شاهق أو قدم له طعاما مسموما يقتل مثله ولم يعلمه، أو جعله فى منزله ولم يعلمه به، أو حفر بئراً بعيدة القعر فى الطريق، أو فى بيته ودعا غيره إلى المرور عليها مع جهالته بها فوقع فمات، أو أغرى به كلبا عقورا فقتله ولا يمكنه التخلص... إلى غير ذلك مما لا يخرج عن ما ورد فى كتب المالكية والحنابلة.
ومسلك الزيدية: أن آلة القتل الخطأ ما مثله لا يقتل فى العادة، والعمد ما مثله يقتل فى العادة، ويقولون (32) أن كل ما يحصل عقبه الموت فهو إما شرط أو علة أو سبب. فالشرط كمن حفر بئرا أو أعطى سكينا أو نصب سلما فتوصل به القاتل إلى القتل فلا شىء على فاعل الشرط إلا التوبة ، و أن حصل الموت عقب علة من غير واسطة كالإغراق وإصابة المقتل، أو بواسطة كجرح قاتل بالسراية إلى المقتل فهو موجب للقود ، وأما السبب فمنه ما يشبه المباشرة كالإكراه وشهادة الزور وتقديم الطعام المسموم،(33) وهذا موجب للقصاص، وما لا يشبهه كحفر بئر فى الطريق فيوجب الديه. ولا يختلف مذهب الإباضية فى جملته عن الشافعية والحنابلة إلا أن الإباضية يذكرون. قولا بأن آلة شبه العمد ما ليس من شأنه القتل كالسوط والعصا واللطمة والوكز، أو ما من شأنه القتل لكن ليس بقصد القتل كفعل الذابح لولده، أو يكون على صفة القتل وتتقدمه القرائن على عدم القتل كالمصارعة.
 
آلة القصاص:
ونص الأحناف (34): على أن القصاص يكون بالسيف إن كان القتل بغيره، ونقل فى الدر عن الكافى أن المراد بالسيف السلاح وذكر أيضا أن ذلك هو ما صرح به فى كتاب " المضمرات " في باب الحج حيث قال: اننا ألحقنا الرمح والخنجر بالسيف فى قوله عليه الصلاة والسلام: " لا قود إلا بالسيف ". كما نصوا (35): " على أن آلة القصاص فى العين بعد ذهاب ضوئها المرآة المحماة مع وضع قطن رطب على عين الجانى الذى يراد القصاص منها، وان ذلك مأثور عن جماعة من الصحابة.
ونصوا أيضا على أن القصاص فى السن يكون بالمبرد بأن تبرد به سن الجانى بقدر ما كسر من المجنى عليه ".
ووافق الإباضية الأحناف فى هذا المسلك فقالوا (36) " ويقتص بمثل السيف كالخنجر والموسى والشفرة الحادة، و لايستعمل الكليل فى القصاص ولو كانت الجنايه بآلة كالة إلا إذا وجدت بعينها عند القصاص، ويضيفون إلى ذلك أن الجانى اذا فر أو امتنع جاز أن يسلط عليه سبع أو كلب ". كما نصوا (37): على أن من فقئت عينه أو تلفت نتيجة عدوان فإن المقتص يجعل على وجه المقتص منه مانعا من حرارة النار لم يحمى مرآة هندية فيمسكها مقابلها حتى تسيل، ويصح باليد إذا لم يتجاوز ما فعل به، ويقولون فى السن عند القصاص أنها تنشر بمبرد حتى تساويها أو تساوى اللثة.
وعلق على ذلك شارح كتاب " النيل " بقوله: لايحسن شىء من هذا، والواجب الدية.
أما الحنابلة (38) ففى روايه عن أحمد أن القصاص لا يستوفى"إلا بالسيف فى العنق وهو مذهب الشيعة الجعفرية (39) و الزيدية (40) يستدلون بحديث " لا قود الا بالسيف،" رواه ابن ماجة، و الرواية الأخرى عن أحمد: أن القصاص يعتمد المماثلة (41) لأن الجانى أهل لأن يفعل به كما فعل قوله تعالى: " وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به"(42). وقوله: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم (43) ".
ولأن النبى صلى الله عليه وسلم رض رأس يهودى- أى هشمها- لرضه رأس جارية من الأنصار، ولما روى أنه قال: " من حر ق حرقناه (44).. " إلخ. وهو مذهب الشافعية والمالكية والظاهريه (45) ، ورأى أورده الشيعة الجعفريه عن أبن الجنيد ، وان كان بعضهم يختلف فى بعض استثناءات وتصويرات تصورها كتبهم.
يقول الشافعية (46): "إن من قتل بمحدد كسيف أو غيره كحجر أو خنق أو تجويع ونحوه كتغريق بماء ملح أو عذب اقتص بمثله أن شاء وله العدول إلى السيف وإن لم يرض الجانى لأنه أسرع، ولو تعذر معرفة آلة القتل فهل يؤخذ باليقين أو يعدل إلى السيف الأصح الأول. وأن كان القتل بسحر تعين فى آلة القصاص سيف غير مسموم، وان قتله بانهاش أفعى قتل بالنهش فى أرجح القولين وعليه تتعين تلك الأفعى، فإن فقدت فمثلها، والخمر واللواط يتعين فى كل منهما السيف فى الأصح. والظاهر أنه لو قتله- بالغمس فى الخمر لم يفعل به مثله لأن التضمخ(أى التلطخ) بالنجاسة حرام.
وقيل: لو قتل بشرب الخمر يوجر فى القاتل مائع كخل أو ماء حتى يموت، ويقولون أنه يتعين بالسيف جزما فيما لا مثل له. كما لو جامع صغيرة فى قبلها فقتلها، و لوذبحه كالبهيمة جاز قتله بمثله فيما يظهر خلافا لابن الرفعة من تعين الصف.
ويقولون (47): لا قصاص يكسر السن كما لا قصاص فى كسر العظام إلا إذا كان لأهل الصنعة آلات قطاعة.
وقالوا (48): لو أوضحه فذهب ضوء عينه أوضحه، فإن ذهب الضوء فيها وإلا أذهب بأخف ممكن كتقريب حديدة محماة من حدقة عينه ، أو وضع كافور فيها.
ويقول المالكية (49): ان آلة القصاص تكون بمثل ما قتل به ولو نارا، إلا إذا ثبت القتل بقسامة فيقتل بالسيف، وكذلك القتل بخمر أو لواطة أو سحر، أو ما يطول كمنعه طعاما أو ماء حتى مات، فإنه يقتص بالسيف، والقصاص من القاتل بالسم فيه
وجهان:- قيل يقتل بالسيف وقيل يقتل به ويجتهد فى قدره. ويقولون كالشافعية: إن مستحق الدم إذا طلب أن يقتص من الجانى بالسيف فانه يجاب الى ذلك سواء الجانى قتل بالسيف أو غيره، حتى لو قتل بأخف من السيف خلافا لابن عبد السلام. ويقولون (50): فيمن أذهب بحر غيره والعين قائمة إن آلة القصاص ما يستطاع به إذهاب البصر بحيلة من الحيل.
آلة الرجم:
أتفق الفقهاء ماعدا الإباضية على مشروعية رجم الزانى المحصن بالحجارة المتوسطة التى هى دون الكبيرة وفوق الصغيرة.
إلا أن لهم مسالك فى التصوير وفى التوسعة أو التضييق نوردها فيما ننقله من كتبهم، فيقول الأحناف (51): أن آلة حد الزنا للمحصن الرجم بالحجارة حتى يموت.
وينص المالكية (52) على كون هذه الحجاره متوسطة بين الصغير والكبير دون الصغار خشية التعذيب والعظام خشية التشويه ، ويقول الحنابلة (53): أن آلة الرجم تكون بالحجارة وغيرها.
ونص الشافعية (54): على أنها تكون بالمذر (أى الطين المتحجر) وبنحو خشب وعقم، والأولى كونه بنحو حجارة معتدلة بأن يكون كل منها يملأ الكف، ويحرم حجر كبير مذفف لتفويته المقصود من التنكيل، ويحرم صغير ليس له كبير تأثيرا ولطول تعذيبه.
ويقول الشيعة الجعفريه (55): ان آلة حد الزنا القتل بالسيف ونحوه للزانى بالمحترم النسبى كالأم والأخت وللذمى إذا زنا بالمسلمة مطاوعة أو مكرهة، والزانى مكرما للمرأة، ولا يعتبر الاحصان فى هذه المسائل الثلاث كما تكون عقوبه حد الزنا الرجم بالحجارة المتوسطة وهذا بالنسبة للمحصن إذا زنا ببالغة عاقلة.
ونصوا(56): على أنه لا يجوز الرجم بغير الحجا رة.
والزيديه ينصون (57) على أن الرجم بالنسبة للزانى المحصن يكون بالحجارة المتوسطة ويجزئ ضرب الرقبة بالسيفه إذ القصد القتل.
أما الإباضية فليس لهم كلام فى الرجم لأنهم لا يقولون به.
وأما الظاهريه فلم نقف على أكثر من قولهم بالرجم للزانى المحصن دون تعرض لما يكون به الرجم.
آلة الجلد:
نص الأحناف (58) على أن آلة الجلد سوط لا ثمرة له، أى لا عقده ويكون فى جريمة الزنا لغير المحصن والقذف والنشرب.
كما نصوا (59) على أن من كان حده الجلد وهو مريض أنتظر حتى يبرأ لأنه إذا كان مريضا لحقه الضرر أكثر من المستحق عليه، وكذا إذا كان الحر شديدا والبرد شديدا.
والشافعية (60) يوافقون الأحناف على أن الجلد بالسوط لغير المريض إلا إذا كان لا يرجى برؤه، فإنه يجلد عندهم بعثكال(أى عرجون) عليه مائة غصن، فإن كان عليه خمسون ضرب به مرتين بحيث تمس الأعضاء جميعها ، فان برئ أجزاءه.
كما نصوا (61) على أنه يجوز جلد القوى السليم بسوط أو أيد أو نعال أو أطراف الثياب إذا كانت الأطراف مشدودة مفتولة، وقيل يتعين السوط لأن الزجر لا يحصل إلا به، ولا يجوز السوط فى المريض.
ثم نصو على أن سوط الحدود و التعازير يكون بين قضيب(أى غصن رقيق) وعصا غير معتدلة، وبين رطب ويابس، ليحصل به الزجر مع أمن الهلاك، ويمتنع بخلاف ذلك لما يخشى من شدة ضرره او عدم ايلامه.
وينص الحنابلة (62) على أن آلة الجلد السوط الوسط الذى ليس بخلق ولا جديد وإن خيف من الوسط لم يتعين فيقام بطرف ثوب وعثكول نخل.
وينص أبن قدامة على التفرقة بين حد الخمر وغيره فيقول (63): أن آلة الجلد السوط ولا نعلم فى هذا خلافا بين أهل العلم غير حد الخمر ، فأما الخمر فقال بعضهم يقاما الحد فيه بالأيدى والنعال وأطراف الثياب.
قال: وذكر بعض أصحابنا أن للامام فعل ذلك إن رآه.
ثم قال: ولنا أن النبى صلى الله عليه وسلم قال:إذا شرب الخمر فاجلدوه. والجلد إنما يفهم من اطلاق الضرب بالسوط، ولأنه أمر بجلده، كما أمربجلد الزانى فكان بالسوط مثله.
والخلفاء الراشدون ضربوا بالسياط وكذلك غيرهم فكان اجماعا.
أما المالكية (64) فقالوا: إن آلة الجلد فى الحدود مطلقا سوط له رأس لين لا رأسان، ولا يجزئ فيها القضيب ولا الشراك، أى النعل، ولا الدرة،وإنما كانت درة عمر للتأديب.
والشيعة الجعفريه (65) سلكوا مسلكا قريبا من الحنابلة إذا قالوا: إن آلة الجلد للصحيح السوط وللمريض الضغث ، وهى جملة من العيدان ونحوها المشتمل على العدد المعتبر فى الحد وضربه به دفعة واحدة مؤلمة بحيث يمسه الجميع أو تكبس بعضها على بعض فيناله ألمها، ولو لم تسع اليد العدد أجمع ضربه به مرتين فصاعدا إلى أن يكمل ولا يشترط وصول كل احد من العيدان إلى بدنه، ولو احتمل سياطا خفافا فهى أولى من ا لضغث ، و الظاهر الاجتزاء فى الضغث بمس المضروب به مع حصول الألم به فى الجملة. و إن لم يحصل بآحاده.
ويرى الظاهرية (66): أن آلة الجلد فى الزنا والقذف سوط أو حبل من شعر أو كتان أو قنب أو صوف أو قضيب من خيزران أو غيره، أما آلة حد الخمر فتى كما ورد فى الحديث أن النبى صلى الله عليه وسلم جلد فيها بالجريد والنعاد ، وفى حديث آخر أنه قال فى الشارب: أضربوه. فمنا الضارب بيده والضارب بنعله والضارب بثوبه.
فالجلد فى الخمر خاصة يكون بذلك، فأى شئ رآه الحاكم من ذلك فحسن، ولا يمتنع أن يجلد فى الخمر بسوط لا يكسر ولا يجرح ولا يعفن لحما.
ونصوا (67) على أن من كان مريضا أو ضعيفا جدا جلد بشمروخ فيه مائة عثكول جلدة واحدة، أو فيه ثمانون عثكولا كذلك، ويجلد فى الخمر أن اشتد ضعفه بطرف ثوب على حسب طاقة كل أحد ولا مزيد، ثم قال: وبهذا انقطع بأنه الحق..
والزيدية (68) ينصون على أنه لا يكون الجلد بخشبة لئلا يكسر عظما بسوط أو عود بين الرقيق والغليظ والجديد والعتيق، خلى من العقد فإن أيس ضربه بعثكول
أن احتمله لأمر الرسول أن يأخذوا مائة شمراخ فيضربوه بها ضربة واحدة، ولابد أن
يباشره كل ذيوله ليقع المقصود، وقيل يجزئ وإن تداخلت ولا يجزئ بالنعال وأطراف الثياب.
والإباضية فى آلة حد الشرب يأخذون بما رو ى عن أنس أن النبى صلى الله عليه وسلم أوتى برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين. قال وفعله أبو بكر، فلما كان عمر استشار الناس فقال عبد الرحمن بن عوف أخف الحدود ثمانون، فأمر به عمر رضى الله عنه.
وعن على فى قصة الوليد بن عقبة جلد النبى صلى الله عليه وسلم أربعين وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين، وكل سنة،وهذا أحب إلى (69).
آلة القطع فى حد السرقة:
لم نقف لفقهاء المذاهب عن بيان لآلة القطع إلا ما جاء فى كتب الزيدية (70): عن آلة القطع فى حد السرقة إذ قالوا يشد فى الكف حبل وفى الساعد الآخر، ويجذب كل إلى ناحية حتى يبين المفصل ويظهر مفصل الكف، ثم يقطع بحاد قطعة واحدة إذ القصد الحد لاالتعذيب وقالوا: إنه يندب حسم موضع القطع بزيت أو سمن أو قطران مغلاة بالنار ويكون بإذن السارق، فإن كره لم يحسم.
وقد جاء فى كتب الأحناف (71) والمالكية (72) والشافعية (73) وصف الحسم الذى يحدث بعد القطع، غير أن كتب الشافعية التى بأيدينا تنقل عن الماوردى الشافعى: أنه خص الغمس فى زيت أو دهن بأهل الحضر، أما البدو فيحسم بالنار لأنه عادتهم.
آلة التعزير:
الفقهاء(74) متفقون على أن التعزير يكون بالسوط وغيره مما يراه ولى الأمر أو من يقوم مقامه كالضرب بالدرة والصفع بالكف مبسوطة أو بجمع الكف أو بالحبس وبغير ذلك.
آلة القتل:
يقول الله تعالى: " وأعدوا لهم ما أستطعتم من قوة ومن رباط الخيل (75) " قال المفسرون: أن المراد بالقوة ما يتقوى به فى الحرب.
وعن ابن عباس أن القوة أنواع الأسلحة.
وقال عكرمة: هى الحصون والمعاقل، وفى الحديث: " ألا إن القوة الرمى ".
وهى تشمل كل ما يرمى به العدو من سهم أو قذيفة وغير ذلك (76).
ومن الآلات الواردة فى كتب الأحناف: المجانيق تنصب على الأعداء والنبال يرمون بها ونحو ذلك.
قال ابن عابدين (77): إنها تركت اليوم للاستغناء عنها بالمدافع الحادثة والرصاص فى زماننا.
ومما نص عليه الشافعية (78): أن العدو يرمى أيضا بالنار، وأن من آلات الحرب
الدروع.
وزاد أبن قدامة(79) أن من آلات الخرب الخيل و الابل والفيلة ونحوها، كما أن منها الأظافر لقول عمر رضى الله عنه: " وفروا الأظافر فى أرض العدو فانه سلاح ".
وقال الحكم بن عمرو: أمرنا رسول الله ألا نحفى الأظافر فى الجهاد.
ونص المالكية: (80) أن من آلات القتال السيف والرمح وقطع الماء عليهم حتى يغرقوا وبالنار أن لم يمكن بغيرها وقد خيف منهم ولم يكن فيهم مسلم.
ونصوا على تحريم القتال بالنبال المسمم والرمح المسمم وغيرهما وجاء فى بلغة السالك (81): المرد بآلة القتال جميع أنواع الأسلحة وما ألحق بها كالقلاع.
ونصوا أيضا على منع بيع آلة الحرب للحربيين من سلاح وكراع وسرج وكل ما يتقوى به فى الحرب من نحاس وغيره.
ونص الشيعة الجعفرية: (82) على هدم الحصون و كراهة إرسال الماء على العدو ومنعه عنهم، و إرسال النار، أما إلقاء السم فيحرم إن أمكن بدونه، ويجوز أن توقف عليه الفتح.
أما الزيدية (83): فأجازوا أيضا الاحراق و الاغراق إن تعذر السيف، كما أجازوا الرمى بالحيات والعقارب والمبارزة.
وجاء فى النيل وشرحه فى فقه الإباضية(84): والدفاع يكون بما قدرت عليه وإن بلا سلاح إن لم يجد أو عوجل عليه أو كان الدفع بغيره أولى له.
ثم قال (85): وأفضل السلاح السكين ثم السيف ثم الرمح. والأفضل فى كل نوع أشده قطعا... وإن لم يمسك الأفضل فلا إثم.
وليس من السلاح عصا لم يكن فى رأسها التى يضرب بها حديد، وأن كان فى رأسا حديد فهى سلاح ولو لم يكن قاطعا، ولا درع ولا درقة و مغفر ونحوهن وما يتصحب فى القتال.
آلة اللهو:
وقال قبل ذلك (86): ويرفع العدو عن نفسه أو ماله أو عنهما بما قدر عليه مما يرجون الدفع ومثل لذلك.
نقل الأحناف (87) عن الإمام تضمين من يكسر معزفا وهو آلة لهو كبربيط ومزمار ودف وطبل وطنبور وأنه يصح بيعها كلها. لأنها أموال متقومة لصلاحيتها للانتفاع بها فى غير اللهو فلم تناف الضمان وعن الصاحبين أنه لا ضمان بالمتلف ولا يصح بيعها وعليه الفتوى.
ونصوا على أن طبل الغزاة والصيادين والدف الذى يباح فى العرس مضمون اتفاقا.
ونص الكاسانى (88): على جواز بيع آلات الملاهى عند أبى حنيفة، لكنه يكره، وعند الصاحبين لا ينعقد بيعها لأنها معدة للتلهى بها.
ثم قال: وعلى هذا الخلاف بيع النرد والشطر نج.
قال الكاسانى: والصحيح قول أبى حنيفة لأن كل واحد منهم منتفع به شرعا ، بأن يجعل صنجات للميزان.
وفى ابن عابدين (89) لا تصح الاجارة لأجل المعاصى مثل الغناء والنوح و الملاهى كالمزامير والطبل وإذا كان الدل لغير اللهو فلا بأس به كطبل الغزاة والعرس والقافلة.
وفيه عن البزازيه (90): استماع صوت الملاهى كضرب قضيب ونحوه حرام لقوله صلى الله عليه وسلم: " استماع الملاهى معصية".
وفى التنوير وشرحه (91): لا قطع فى سرقة آلة اللهو ولو كان طبل الغزاة لأن صلاحيته للهو صار شبهة تمنع القطع.
وعلق ابن عابدين بأنه لا خلاف فى ذلك لعدم تقومها عندهما حتى لا يضمن متلفها، وعنده وإن ضمنها لصلاحيتها لغير اللهو إلا أن يتأول اخذها للنهى عن المنكر.
والشافعية كالصاحبين من الأحناف فى عدم القطع فى سرقة آلات اللهو معللين ذلك بأنه توصل إلى إزالة المعصية.
وقالوا (92): اذا بلغ " مكسره " نصابا فيقطع لأنه سرق نصابا، ولو كسر إناء الطنبور ثم أخرجه قطع أن بلغ نصابا، وكذلك لا يصح بيع آلات اللهو المحرمة عندهم ولا يباح استعمالها إلا للضرورة فيما اذا أخبره الطبيب العدل بأن هذا المرض يزول بسماعها "(93).
وفى نهاية المحتاج (94): يصح بيع نرد صاح- لبيادق شطرنج من غير كبير كلفة فيما يظهر بر وبيع جاريه غناء محرم، وقيل يصح بيع هذه الألات ان اعتبر مكسبرها مالا لأن فيها نفعا متوقعا
أما المالكية (95): فيقولون فى القطع تعتبر القيمة بالبلد التى بها السرقة، والمجرة بالتقويم شرعا بأن تكون المنفعة التى لأجلها التقويم شرعية ويرتبون على هذا أن آلات اللهو لو كانت لا تساوى الثلاثة دراهم، التى هى نصاب القطع عندهم، دون اللهو وكانت معها تساويها فلا قطع على سارقها. ونصوا (96) على كراهة اكراء دف ومعزف ويشمل المزمار والإعداد لعرس، وقيل يجوز فى النكاح، ولا يلزم من جوازها جواز كرائها.
والراجح أن الدف والكيرة جائزان لعرس مع كراهة الكراء ، وأن المعازف حرام كالجميع فى غير النكاح فيحرم كراؤها. ونصوا (97) فى البيع على أن من شروط صحه البيع فى المعقود عليه الطهارة و الإتنفاع به والإباحة وعدم النهى. والحنابلة(98) كالشافعية والصاحبين، فهم يقولون: من كسر مزمارا أو عودا أو طبلا أو دفا بصنوج أو نردا فلا ضمان لأنه لا يحل. بيعه، ومثل ذلك آلة السحر أو التعزيم أو التنجيم عندهم.
ويقولون (99) بعدم القطع فى آلة اللهووان بلغت قيمته نصابا مفصلا.
ونصوا (100) على حرمه بيع الأمة للغناء أو اجادتها ، وأشباه ذلك، على ان العقد يعتبر باطلا.
ونصوا (101) على أنه لا تجوز اجارة ما منفعته محرمة كالمزمور والنوح والغناء. قال ابن قدامة به وبه قال مالك والشافعى وأبو حنيفة وصاحباه وأبو ثور.
أما مذهب الطاهرية فيصوره أبن حزم بقوله (102): بيع الشطرنج والمزامير والمعازف والطنابير والعيدان حلال، ومن كسر شيئا- من ذلك ضمنه الا أن يكون صورة مصورة فلا ضمان على كاسرها. وكذلك بيع الجوارى المغنيات وأبتياعهن لأن الله تعالى قال" وقد فصل لكل ما حرم عليكم "(103). ولم يأت نص بتحريم بيع شىء من ذلك، ويقول أبن ص ما (104): لا يحل ببع النرده.. والصور ألا للعب الصبايا فقط.
والجعفرية (105): يحرمون بيع آلات اللهو من الدف والمزمار والقصب وغيرها ، وآلات القمار كالنرد والشطرنج وبيع الخشب لتصنع منه آلات محرمة.
والزيدية: ينصون(106). على كراهة بيع الخشب للمزامير ونحوها، كما نصوا (107) على أنه يضمن ما يصح تحوله لاما لا قيمة له ولا آلات الملاهى للمسلم، ويجب تكسير الآلات وان لم يظهرها لتحريمها عليه، ولا يجوز أحراقها أذ فيه اتلاف مال ولا يكفى تقطيع الأوتار بل ترض بالحجارة وقيل يكفى ازالة تأليفها بحيث يجتاج الى اعادة صنعتها، فان أزال تأ ليفها وبقيت أكسارها تنفع فى مباح ضمنها الكاسر لها
ثانيا.
ونصوا (108) على أنه لا قطع فى طبل الملاهى لا طبل الحرب لصحه تملكها ولا قطع فى النرد والشطرنج.
والأباضيه كما فى النيل وشرحه يقولون (109):
يجعل الحاكم أو نحوه على كل سوق قائما بمصالحه يعبر عليهم موازينهم و مكاييلهم ، كما يكسر المزمار والطبل ونحوه... لأن ابقاءه ضرر.
 
آمة

الآمة فى اللغة (1) هى الشجة التى تفضى إلى أم الدماغ وأم الدماغ جلدة رقيقة مفروشة عليه متي انكشفت عنه مات من أصابه ذلك غالبا.
ولا يختلف معنى الآمة فى الفقه عن معناها اللغوى، ومن ذلك قول الحنابلة: الآمة والمأمومة شىء واحد.
قال ابن عبد البر: أهل العراق يقولون لها الآمة، وأهل الحجاز: المأمومة، وهى الجراحة الواصلة إلى أم الدماغ.
سميت أم الدماغ لأنها تحوطه وتجمعه. فإذا وصلت إليها سميت آمة ومأمومة ويوافقهم فى هذا الاستعمال الحنفية والشافعية والمالكية والظاهرية والشيعة والجعفرية والزيدية. (2) ويزيد الإباضية فيطلقون على الأمة أيضا. " الناقبة " و " اللآمة " لما فيها من معنى اللفظين(3).
أحكام الآمة
حكم القصاص فى عمدها
قال الإمام مالك فى " الموطأ ": الأمر المجتمع عليه عندنا أن المأمومة والجائفة ليس فيها قود
(أى قصاص) وعلق عليه شارحه أبو الوليد. الباجى فقال: " وبهذا قال أكثر الفقهاء، وهو المروى عن أبى بكر الصديق رضى الله عنه، قال ابن المواز: أجمع جميع الفقهاء على ذلك إلاَ ربيعة. والدليل على ما نقوله أن معني القصاص أن يحدث عليه مثل ما جني، ولما كان الغالب من هذه الجناية أنها لا تقف على ما انتهت اليه فى المجني عليه بل تؤدى إلى النفس (أى إلى إزهاقها) لم يجز القصاص فيها لأن قصد القصاص يكون قصدا إلى أتلاف النفس ". وإلى هذا ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة والزيدية وهو الراجح فى مذهب الإمامية (4).
وقد خالفه فى ذلك أبو محمد على بن حزم الظاهرى (5) إذ يرى أنه يقتص فى عمد الآمة كما يقتص من سائر جراح العمد إلا أن يعفو صاحب الحق ويتصالح لأن النص عام فى قوله تعالى: ( والجروح قصاص ((6) بضم الحاء، وفى قوله تعالى: ( والحرمات قصاص، فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ((7) ( وماكان ربك نسيا ((8).
فلو علم الله تعالى أن شيئا من ذلك لا يمكن فيه مماثلة لما أجمل لنا أمره بالقصاص فى الجروح جملة ولم يخص شيئا منها.
الحكم فى الآمة:
الحنفية والمالكية والحنابلة والزيدية يقولون: يجب فى الآمة ثلث الدية لا فرق بين عمدها وخطئها ويستدلون بما ورد فى كتاب النبى - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل اليمن وهو الذى رواه عمرو بن حزم عن أبيه من قوله " وفى المأمومة ثلث الدية " وبأدلة أخرى (9) يقررها ابن قدامة.
والراجح فى مذهب الشافعية (10) أنه لا يجب فيها إلا ثلث الدية خلافا لمن يرى أن فيها مع الثلث حكومة(ما يقدره خبير وهو الأرش المقدر) لخرق غشاوة الدماغ كما أن فى الجائفة الثلث والحكومة.
والإباضية يقولون (11): فى المأمومة ثلث الدية ويفرقون بين الخطأ والعمد فيقولون " ولا تأديب فى الخطأ ولا قصاص، وأما العمد ففيه التأديب ولو بتعزير أو نكال مع الأرش أو العفو "
وأما ابن حزم الظاهرى (12): فيرى أنه لا تجب دية فى شىء مما دون النفس خطأ ويقول بعد تقريره أن القصاص واجب فى كل ما كان بعمد من جرح أو كسر.
وبقى الكلام: هل فى ذلك العمد دية يتخير المجنى عليه فيها أو فى القصاص أم لا وهل فى الخطأ فى ذلك- دية مؤقتة(أى معينة من الشارع مبينة) أما لا؟ قال على(يعني نفسه): فنظرنا فى هذا فوجدنا الله تعالى يقول: " وليس عليكم جناح فيما خطأتم به، ولكن ما تعمدت. قلوبكم (13) "
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ان الله تجاوز لى عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه). وقال اللّه تعالى: ( لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ألا أن تكون تجارة عن تراض منكم (14) (.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام) فصح بكل ما ذكرنا أن الخطأ كله معفو عنه لا جناح على الإنسان فيه، وإنما الأموال محرمة، فصح من هذا ألا يوجب على أحد حكم فى جنايه خطأ، ألا أن يوجب ذلك نص صحيح أو إجماع متيقن وإلا فالأموال محرمة والغرامة ساقطة لما ذكرنا.
الحكم فى الآمة تقع على العبد:
الحنفية (15): إذا جنى أحد على العبد آمة ففى المذهب قولان: أحدهما وهو الصحيح وظاهر الرواية أن أرشها ثلث قيمة العبد بالغة ما بلغت.
الثانى: وهو الذى فى عامة الكتب وجزم به فى الملتقى أن الأرش هو ثلث القيمة غير أنه لا يزاد على ما يجب للحر من الدية بل يجب أن ينقص ثلثه عن ثلث دية الحر بثلاثة دراهم وثلث درهم، وذلك أخذا بأثر ابن مسعود الذى يقرر أنه " لا يبلغ بقيمة العبد دية الحر وينقص منه عشرة دراهم " وهذا كالمروى عن النبى - صلى الله عليه وسلم- لأن المقادير لا تعرف بالقياس، و إنما طريق معرفتها السماع من صاحب الوحى.
ولما كان المقدر نقصه فيما يقابل بالدية الكاملة من قيمة العبد هو عشرة دراهم كان الذى ينقص من الثلث إذا بلغ ثلث الدية هو ثلاثة دراهم وثلث درهم.
وفى مذهب الحنابلة (16): إذا كان الفائت بالجناية على العبد مؤقتا فى الحر ففيه عن أحمد روايتان إحداهما أن فيه ما نقصه بالغا ما بلغ، وذكر أبو الخطاب أن هذا هو اختيار الخلال.
والأخرى: وهى ظاهر المذهب أن فيه من القيمة بمقدار ما للحر من الدية، وعلى هذا يكون فى الآمة تقع على العبد ثلث قيمته...
وفى مذهب الشافعية(17): قولان كما فى مذهب الحنابلة، أرجحهما أن فى الجناية على العبد من القيمة ما للحر من الدية، وعلى هذا يكون فى الآمة ثلث القيمة. والقول الثانى: وهو القديم، ان فيها ما نقص من القيمة نظرا إلى انه مال.
اما المالكية والزيدية والإمامية والإباضية فيرون أن ما وجب فيه للحر ثلث الدية كالأمة فيه ثلث القيمة من العبد(18).
ويرى ابن حزم الظاهرى (19): أنه إذا جنى أحد على عبد أو أمة خطأ ففى ذلك ما نقص من قيمته بأن يقوم صحيحا مما جنى عليه ثم يقوم كما هو الساعة ويكلف الجانى أن يعطى مالكه ما بين القيمتين وإذا جنى أحد عليهما عمدا. ففى ذلك القود وما نقص من قيمتهما، أما القود فللمجنى عليه وأما ما نقص من القيمة فللسيد فيما اعتدى عليه من ماله.
الواجب فى الآمة يحدثها العبد:
يقول الحنفية (20): إذا جنى عبد جناية دون النفس) كالآمة مثلا (عمداً أو خطأ فمولاه بالخيار بين أن يدفعه إلى ولى الجناية فيملكه بجنايته وبين أن يفديه بأرشها، وذلك لما روى عن ابن عباس أنه قال: " إذا جنى العبد فمولاه بالخيار ان شاء دفعه وإن شاء فداه "..
واختلفوا هل الواجب الأصلى هو دفع العبد او هو فداؤه على قولين أولهما هو الصحيح كما فى الهداية والزيلعى، ويترتب على القول الأول أن يسقط الواجب بموت العبد، وعلى القول الثانى " أن السيد لو اختار الفداء ولم يقدر عليه أداه متى وجد ولا يبرأ بهلاك العبد.
وإذا فدى السيد عبده ثم جنى العبد بعد ذلك جناية أخرى فحكمها كالأولى بالتفصيل الذى ذكرناه لأنه لما فداه عن الأولى صارت كان لم تكن، وكانت الجناية الثانية كالمبتدأة ، فإن جنى جنايتين دفعه بهما الى وليهما أو فداه بأرشهما "
والمالكية يقولون: إذا جنى الآمة عبد على حر فثلث الدية فى رقبة العبد أى أن العبد تتعلق جنايته بنفسه لا بذمته ولا بذمة سيده، فهو فيما جنى، فإن شاء سيده أسلمه فيها وأن شاء فداه بأرشها ولا يطالب السيد ولا العبد بشئ إذا زاد ثلث الدية عن قيمته.
وإذا كانت جناية العبد على عبد فكذلك غير أن الثلث. الواجب هنا هو ثلث قيمة العبد المجنى عليه فيخير سيد العبد الجانى بين ان يسلم عبده لولى الجناية أو يفديه (21). والشافعية يقولون (22): إذا جنى العبد جناية موجبة للمال ومنها الآمة تعلق المال برقبته لا بذمته والسيد بالخيار بين بيعه بنفسه أو تسليمه للبيع وبين أن يفديه بأقل الأمرين من قيمته وأرش الجناية فان لم يفعل باعه القاضى وصرف الثمن الى المجنى عليه وإذا سلمه للبيع وكان الأرش يستغرق قيمته بيع كله وإلا فبقدر الحاجة إلا أن يأذن التقيد أو لم يوجد من يشترى بعضه.
والحنابلة يقولون (23) ": إذا جنى العبد آمة أو غيرها فعلى سيده أن يفديه أو يسلمه فإن كانت الجناية أكثر من قيمته لم يكن على سيده كثر من قيمته. وقال ابن قدامة تعليقا عليه وتعليلا للحكم فى الموضع نفسه: هذا فى الجناية التى تودى بالمال أما لكونها لا توجب إلا المال وأما لكونها موجبة للقصاص فعفا عنها إلى المال، فان جناية العبد تتعلق برقبته، إذ لا بخلو من أن تتعلق برقبته او ذمته أو ذمة سيده أو لا يجب شىء، ولا يمكن إلغاؤها لأنها جناية آدمى فيجب اعتبارها كجناية الحر، ولأن جناية الصغير والمجنون غير ملغاة مع عذره وعدم تكليفه، فجناية العبد أولي، ولا يمكن تعلقها بذمته لأنه أفضى إلى إلغائها أو تأخير حق المجني عليه إلى غير غايته، ولا بذمة السيد لأنه لم يجن فتعين تعلقها برقبة العبد. ولأن الضمان موجب جنايته فتعلق برقبته كالقصاص ثم لا يخلو أرش الجناية من أن يكون بقدر قيمته فما دون أو كثرا، فإن كان بقدرها فما دون فالسيد مخير بين أن يفدية بأرش جنايته أو يسلمه الى ولى الجناية فيملكه، لأنه إن دفع أرش الجناية فهو الذى وجب للمجنى عليه فلم يملك المطالبة بأكثر منه، وإن سلم العبد فقد أدى المحل الذى تعلق الحق به " ولأن حق المجني عليه لا يتعلق بأكثر من الرقبة وقد أداها، وإن طالب المجنى عليه بتسليمه إليه وأبى ذلك سيده لم يجبر عليه لما ذكرنا. وأن دفع السيد عبده فأبى الجانى قبوله، وقال بعه وأدفع إلى ثمنه فهل يلزم ذلك ؟ على روايتين، و أما إن كانت الجناية كثر من قيمته ففيه روايتان: إحداهما: أن سيده يخير بين أن يفديه بقيمته أو أرش جنايته وبين أن يسلمه. والرواية الثانية: يلزمه تسليمه إلا أن يفديه بأرش جنايته بالغة ما بلغت.
والزيديه (24):- عندهم روايتان عن على إحداهما إذا جنى العبد جناية لا قصاص فيها ومنها الآمة لا يلزم سيده أكثر من ثمنه فإذا اختار ولى الدم الأرش فليس على سيده الا تسليم قيمته فقط ما لم تعد دية الحر.
وهذا مذهب الهادى والمؤيد وحجته ما رواه زيد بن على عن أبيه عن جده عن على قال فى جناية العبد لا يلزم سيده أكثر من ثمنه ولا يبلغ بدية عبد دية حر والأخرى أن السيد بخير بين تسليم العبد للمجنى عليه فيسترقه وبين أن يسلم له كل الأرش بالغا ما بلغ.
وقد روى هذه الرواية الأخيرة محمد ابن منصور بأسانيده عن الحارث عن على ولا شىء على السيد إن امتنع المجنى عليه من قبول العبد، فلو باعه أو اعتقه بعد ذلك لم يلزمه إلا قدر قيمته والزائد على العبد يطالب به إذا اعتق بخلاف ما إذا باعه او أعتقه قبل ذلك فانه يكون اختيار منه لالتزام الأرش فيلزمه جميعه، وكذا لو أخرجه عن ملكه بأى وجه من وجوه التصرف بعد علمه بالجناية فهو مختار وعليه الأرش وتصرفه صحيح وأن كان لا يعلم فعليه الأقل من- قيمته ومن أرش الجناية وأن مات العبد قبل ان يختار سيده لم يلزم المولى شىء من أرش الجناية. ويقول الإمامية (25): جناية العبد تتعلق برقبته ولا يضمنها المولى، وللمولى فكه بأرش الجناية ولا تأخير لمولى المجنى عليه ولو كانت الجناية لا تستوعب قيمته تأخير المولى فى دفع الأرش أو تسليمه ليستوفى المجنى عليه قدر الجناية استرقاقا أو بيعا. والإباضية يقولون (26): إذا أحدث العبد جرحا (كآمة) مثلا فان كان الأرش الواجب فيها مساويا لقيمة العبد أو أكثر كانت لرب العبد الخيار فى أن يعطيه العبد الجانى أو يعطيه قيمته وإن كان للأرش الواجب أقل من نفس العبد كان للمجنى عليه أرشه الواجب له فقط، وهو هنا الثلث ثلث الدية إن كانت الجناية على حر وثلث- القيمة إن كانت الجناية على عبد.
ويرى ابن حزم الظاهرى (27): أن جناية العبد التى يترتب عليها مال هى فى مال العبد أن كان له مال، فإن لم يكن له مال ففى ذمته يتبع به حتى يكون له، مال فى رقَه أو بعد عتقه وليس على سيده فداؤه لا بما قل ولا بما كثر ولا إسلامه فى جنايته ولا بيعه فيها.

__________

(1) لسان العرب مادة (أمم).
(2) المغنى فى فقه الحنابلة ج9 ص 446 طبعة المنار بمصر سنه 1348 ، الاختيار شرح المختار لابن مودود الموصلى الحنفى طبعة الحلبى سنة 1355 بمصر ج2 ص 372 ، الأنوار فى فقه الشافعى للإردبيلى المطبعة اليمنية بمصر سنة 1326 ج2 ص 253 ، وشرح اللمعة الدمشقية فى فقه الإمامية للعاملى مطبوع بمصر سنة 1378 ج2 ص 442 ، الروض النضير فى فقه الزيدية للصنعانى مطبعة السعادة بمصر سنة 1349 ج4 ص 257، والمحلى لابن حزم الظاهرى مطبعة منير بمصر سنة 135 2 ج10 ص 461.
(3) كتاب النيل فى فقه الإباضية ج8 ص10
(4) انظر شرح الباجى على الموطأ مطبعة السعادة بمصر سنة 1332 ج7 ص88 وبهامشه الموطأ ، الدور المختار طبع استانبول ج5 ص512 فى عدم القصاص وص 510 فى ترتيب الشجاع والأنوار ج2 ص253 والمغنى ج9 ص446،والمختصر النافع للجعفرية طبع مصر سنة 1378 ص315،والروضة البهية شرح اللمعة الدمشقية ج2ص442،وشرح الروض النضير ج4 ص258 وشرح كتاب النيل ج2ص208
(5) المحلى ج10ص461
(6) سورة المائدة:45.
(7) سورة البقرة:194
(8) سورة مريم:64
(9) المغنى ج9 ص646 ،الاختيار شرح المختارج22 ص، 174وأقرب المسالك ج2ص372 والروض التفسير ج4 ص257،258.
(10) شرح المنهاج طبعة الحلبى ج4 ص133.
(11) كتاب النيل ج 8 ص13
(12) المحلى ج10 ص403 وما بعدها.
(13) سورة الأحزاب:5
(14) سورة النساء:29
(15) الدر المختار ج5 ص547 وحاشية ابن عابدين عليه
(16) المغني ج9ص667
(17) شرح المنهاج ج4 ص144
(18) المالكية أقرب المسالك ج2 ص383.الزيدية الروض النضير ج4 ص270. الإمامية المختصر النافع ص317. الإباضية كتاب النيل ج8ص58
(19) المحلى ج 8 ص 142، 149.
(20) الدر المختار ج5 ، ص 539 ، وحاشية ابن عابدين علية
(21) شرح أقرب المسالك للدر دير ج2 ص 370 ، والباجى على الموطأ ج7 ص 21 وشرح أبى الحسن على رسالة أبى زيد القيروانى وحاشية العدوى علية ج2 ص 337.
(22) الأنوار للإردبيلى ص 279
(23) مختصر الإمام أبى القاسم الخرقى - متن المغنى ج9 ص 511، 512 من الطبعة السالفة الذكر
(24) الروض النضير ج4 ص 283 ، 284
(25) المختصر الناقع ص 317
(26) النيل ج8 ص189.
(27) المحلى ج8 ص155،159.
 
آنية

مدلول الكلمة:
جاء فى المصباح: الإناء والآنية الوعاء والأوعية وزنا ومعني، والأوانى جمع الجمع هذا المعنى يستعمله الفقهاء فى كتب المذاهب.
حكم استعمال الآنية:
جمهور الفقهاء على حظر استعمال آنية الذهب والفضة فى الوضوء وغيره، وفى استعمال غيرها تفصيل تختلف المذاهب فى
بعضه باختلاف أنواع الآنية وجواهرها، وسنورد ما يصور ذلك فى المذاهب.
قال الأحناف (1): لا يجوز. الأكل والشرب والإدهان والتطيب فى آنية الذهب والفضة للرجال والنساء، وكذا لا يجوز الأكل بملعقة الذهب والفضة، وكذلك المكحلة والمحبرة وغير ذلك.
وأما الآنية من غير الذهب والفضة فلا بأس بالأكل والشرب فيها والإدهان والتطيب منها والانتفاع بها للرجال والنساء كالحديد والصفر والنحاس والرصاص والخشب والطين ولا بأس باستعمال آنية الزجاج والرصاص والبللور والعقيق وكذا الياقوت ويجوز الشرب فى الإناء المفضض عند أبى حنيفة إذا كان يتقى موضع الفضة بحيث لا يلاصقه الفم ولا اليد وقال أبو يوسف يكره ذلك وعن محمد روايتان إحداهما مع الإمام والأخرى مع أبى يوسف وعلى هذا الخلاف فى الإناء المضبب بالذهب والفضة. وأما التمويه فلا بأس به إجماعا فى المذهب وفى متن التنوير وشرحه وحاشيته (2): التصريح بكراهة الأكل والشرب والدهان والتطيب ونحو ذلك من آنية الذهب والفضة وأن محل الكراهة إذا استعملت ابتداء فيما صنعت له بحسب متعارف الناس وإلا فلا كراهة حتي لو نقل الطعام من إناء الذهب الى موضع آخر أو صب الماء أو الدهن فى كفه لا على رأسه ابتداء ثم استعمله فلا بأس به.
وقال صاحب الدر (3): ان محل الكراهة فيما يرجع للبدن وأما لغيره تجملا بأوان متخذة من ذهب او فضة فلا بأس به بل فعله السلف.
ونقل ابن عابدين عن جماعة من فقهاء الأحناف القول بأن نقل الطعام منها إلى موضع آخر استعمال لها ابتداء وأخذ الدهن باليد ثم صبه على الرأس استعمال متعارف.
وقد نص (4) صاحب التنوير على كراهة إلباس الصبي ذهبا أو حريرا، وعلله الشارح بأن ما حرم لبسه وشربه حرم إلباسه وأشرابه ومقتضاه كراهة استعمال آنية الذهب والفضة للصبية بواسطة غيرهم.
أما المالكية (5): فيصرحون بتحريم استعمال إناء الذهب والفضة فى كل من الأكل والشرب والطبخ، والطهارة مع صحة الصلاة بها، كما يصرحون بحرمة الاقتناء - أى اقتناء إناء الذهب والفضة- ولو لعاقبة دهر وبحرمة التجمل على المعتمد خلافا للأحناف ويقولون: إن المغشى ظاهره بنحاس أو رصاص والمموه أى المطلى ظاهره بذهب أو فضة فيه قولان مستويان عندهم.
وفى حرمة استعمال واقتناء الإناء المضبب أى المشعب بخيوط من الذهب أو الفضة وذى الحلقة من ذهب أو فضة قولان أيضا: وفى حرمة استعمال واقتناء إناء الجوهر النفيس كزبرجد وياقوت وبلور قولان، والجواز هو الراجح وهو ما قال به الأحناف.
والشافعية يوافقون الأحناف فى التصريح بعدم جواز استعمال شئ من أوانى الذهب والفضة للرجل والمرأة، ويستدلون بقوله عليه الصلاة والسلام: " لا تشربوا فى آنية الذهب والفضة ولا تنالوا فى صحافها ".
وقياس غير الأكل والمشرب عليهما.
ويقول البجرمى: أن سائر وجوه الاستعمال مقيسة على الأكل والشرب فى عدم الجواز ولو كان الاستعمال على وجه غير مألوف كأن كب الإناء على رأسه واستعمل أسفله فيما يصلح له ثم قال وفهم من عدم الجواز الاستئجار على الفعل وأخذ الأجرة على الصنعة وعدم الغرم على الكاسر كآلة اللهو لأنه أزال المنكر.
وقال صاحب الإقناع: ويحرم على الولى أن يسقى الصغير بمشفط من إنائهما ثم قال ولا فرق بين الإناء الصغير والكبير (6).
ويوافق الشافعية المالكية فى حرمة اقتناء آنية الذهب والفضة فيصرح الخطيب بقوله: وكما يحرم استعمالهما يحرم اتخاذهما من غير استعمال لأن ما لا يجوز استعماله يحرم اتخاذه، ويرون حل استعمال كل أناء طاهر ليس من الذهب والفضة سواء كان من نحاس أو غيره، فإن موه إناء من نحاس أو نحوه بالنقد ولم يحصل منه شئ، أى لم يزد على أن، يكون لونا أو موه النقد بغيره أو صدئ مع حصول شىء من المموه به أو الصدى حل استعماله لقلة المموه فى الأولى فكأنه معدوم، ولعدم الخيلاء فى الثانية.
ثم أكد التعميم (7) فى إباحة آنية غير الذهب والفضة بقوله: ويحل استعمال واتخاذ النفيس كياقوت وزبرجد وبللور، وصرح بأن ما ضبب من أناء بفضة ضبة كبيرة حرم استعماله وأتخاذه أو صغيرة بقدر الحاجة فلا تحرم.
ويقول البجرمى: إن من الاستعمال المحرم أخذ ماء الورد منها لاستعماله ولو بصب غيره أو كان الذهب على البزبوز فقط. ثم قال: نعم، أن أخذ منه بشماله ثم وضع الماء فى يمينه واستعمله جاز مع حرمة الأخذ منه لأنه استعمال حينئذ، وذهب بعضهم الى عدم الحرمة.
والحنابلة ينصون على حرمة استعمال آنية الذهب والفضة دون خلاف عندهم، وعلل لذلك ابن قدامه (8) بأنه يتضمن الفخر والخيلاء وكسر قلوب الفقراء وعندهم خلاف فى صحة الوضوء والاغتسال من آنية الذهب والفضة، فيقول بعضهم تصح طهارته لأن فعل الطهارة وماءها لا يتعلق بشيء من ذلك ويقول بعضهم: لا تصح لأنه استعمل المحرم فى العبادة كالصلاة فى الأرض المغصوبة، وقالوا لو جعل آنية الذهب والفضة مصبا للوضوء ينفصل الماء عن أعضائه إليه صح الوضوء0
قال ابن قدامة: ويحتمل أن تكون ممنوعة لتحقق الفخر والخيلاء وكسر قلوب الفقراء..
وهم كالشافعية والمالكية يحرمون إتخاذ آنية الذهب والفضة لعلة أن ما حرم استعماله حرم اتخاذه. ويقولون فى المضبب بالذهب والفضة أن كان كثيرا فهو محرم بكل حال.
وأما اليسير من الذهب والفضة فأكثر الحنابلة (9) على أنه لا يباح اليسير من الذهب إلا إذا دعت اليه ضرورة، وأما الفضة فيباح منها اليسير لما روى عن أنس أن قدح النبى - صلى الله عليه وسلم- إنكسر فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة. رواه البخارى. ولأن الحاجة تدعو إليه وليس فيه سرف ولا خيلاء قال القاضى " أبو يعلى " يباح ذلك مع الحاجة وعدمها إلا أن ما يستعمل من ذلك بذاته لا يباح كالحلقة وما لا يستعمل كالضبة يباح.
وقال أبو الخطاب لا يباح اليسير إلا لحاجة لأن الخبر ورد فى شعب القدح فى موضع الكسر، وهو لحاجة، ويفسرون الحاجة بأن تدعو حاجة الى ما فعله به وان كان غيره يقوم مقامه.
ثم صرح بأن سائر الآنية بعد ذلك مباح اتخاذا واستعمالا ولو كانت ثمينة كالياقوت والبلور، ولا يكره "استعمال شىء منها فى قول العامة.
قال صاحب المغنى: إلا أنه روى عن ابن عمر أنه كره الوضوء من الصفر والنحاس والرصاص وما أشبه ذلك، وأختاره المقدسى لأن الماء يتغير فيها.
ويقول ابن حزم الظاهرى (10): لا يحل الوضوء ولا الغسل ولا الشرب ولا الأكل لرجل ولا لامرأة فى إناء عمل من عظم ابن آدمي ولا فى إناء عمل من عظم خنزير ولا فى إناء من جلد ميتة قبل الدبغ ولا فى أناء فضة أو ذهب، وكل أناء بعد هذا من صفر أو نحاس أو رصاص أو قصدير أو بلور أو ياقوت أو غير ذلك فمباح أكلا وشربا ووضوءا وغسلا للرجال والنساء. ثم قال والمذهب والمضبب بالذهب حلال مساء دون الرجال لأنه ليس أناء ذهب أو فضة، وكذلك المفضض والمضبب .
والزيدية (11): يصرحون كالمالكية والحنابلة بتحريم استعمال آنية الذهب والفضة فى الوضوء وغيره، ويصح التوضؤ منه وإن عصى(أى مستعملها) لانفصال الطاعة بالوضوء منفصلة عن المعصية بالاستعمال.
وفى اقتنائها وجهان، وقال يحيى أصحهما المنع للخيلاء. وفى الياقوتة ونحوها وجهان أصحهما كالذهب لنفاسته. قال يحيى: وكذلك الزجاج والخشب والنحاس إذا عظم بالصنعة والزخرفة قدرها للخيلاء. وقالوا لا يحرم الإناء من المدر(طين متماسك لا يخالطه رمل) ومالم يعظم بالصنعة قدره ويكره الرصاص والنحاس المطعم بالذهب والفضة والمفضض والمموه والمضبب والجعفرية قالوا(12): بحرمة استعمال أوانى الذهب والفضة فى الأكل والشرب والوضوء والغسل وتطهير النجاسات وغيرها من سائر الاستعمالات حتي وضعها على الرفوف للتزين بل يحرم اقتناؤها من غير استعمال ويحرم بيعها وشراؤها وصياغتها وأخذ الأجرة عليها، بل نفس الأجرة حرام ، لأنها عوض محرم، وإذا حرم الله شيئا حرم ثمنه وقالوا ان الصفر أو غيره الملبس بأحدهما يحرم استعماله إذا كان على وجه لو انفصل كان إناء مستقلا، وأما إذا لم يكن كذلك فلا يجرم كما إذا كان الذهب والفضة قطعا منفصلات لبس بهما الإناء من الصور داخلا أو خارجا. ولا بأس بالمفضض أو المطلى أو المموه بأحدهما نعم يكره استعمال المفضض بل يحرم الشرب منه إذا وضع فمه على موضع الفضة.
ولا يحرم استعمال الممتزج من أحدهما مع غيرهما إذا لم يصدق عليه اسم أحدهما. ويحرم ما كان ممتزجا منهما وأن لم يصدق عليه اسم أحدهما، وكذا ما كان مركب منهما بأن كان قطعة منه ذهبا وقطعة فضة وقالوا إن المراد بالأواني ما يكون من قبيل الكأس والكوز والصينى والقدر والفنجان وما يطبخ فيه القهوة وكوز الغليان والمصفاة ونحو ذلك.
وقالوا إن الأحوط فيما يشبه ذلك الاجتناب وذلك كقراب السيف والخنجر والسكين وقاب الساعة وظرف الغالية(أى المسك) وظرف الكحل ، ويقولون إنه لا فرق فى حرمة الأكل والشرب. من آنية الذهب والفضة بين مباشرتهما لفمه أو أخذ اللقمة منها ووضعها فى الفم، وكذا إذا وضع ظرف الطعام فى الصينى من أحدهما وكذا لو فرغ ما فى الإناء من أحدهما فى ظرف آخر لأجل الأكل والشرب لا لأجل التفريغ فإن الظاهر حرمة الأكل والشرب لأن هذا يعد استعمالا لهما فيهما.
ونقل الطباطبائى عن بعض العلماء أنه إذا أمر شخص خادمه فصب الشاى من القدر المصنوع من الذهب أو الفضة فى الفنجان وأعطاه شخصا آخر فشرب فإن الخادم والآمر عاصيان، والشارب لا يبعد أن يكون عاصيا، ويعد هذا منه استعمالا، وقالوا إذا كان المأكول أو المشروب فى آنية من أحدهما ففرغه فى ظرف آخر بقصد التخلص من الحرام لا بأس به ولا يحرم الشرب والأكل بعد هذا.
وقالوا إذا انحسر ماء الوضوء أو الغسل فى إحدى الآنيتين وأمكن تفريغه فى ظرف آخر وجب وإلا سقط وجوب الوضوء والغسل ووجب التيمم وإن توضأ أو اغتسل منهما بطل سواء أخذ الماء منهما بيده أوصبه على محل الوضوء بهما أو انغمس فيهما وأن كان له ماء آخر أو أمكن التفريغ فى ظرف، ومع ذلك توضأ أو اغتسل منهما فالأقوى البطلان لأنه وإن لم يكن مأمورا بالتيمم إلا أن الوضوء أو الغسل حينئذ يعد استعمالا لهما عرفا فيكون منهيا عنه بل الأمر كذلك لو جعلهما محلا لغسالة الوضوء لأن ذلك يعد فى العرف استعمالا.
وقالوا إنه لا فرق فى الذهب والفضة بين الجيد والردىء والمعدنى والمصنوع والمغشوش والخالص إذا لم يكن الغش إلى أحد يخرجها عن صدق الاسم وإن لم يصدق الخلوص أما إذا توضأ أو اغتسل من أناء الذهب أو الفضة مع الجهل بالحكم أو الموضوع صح، أما الأوانى من غير الجنسين فلا مانع منها وإن كانت أعلى وأغلى كالياقوت والفيروز، وكذلك الذهب الفرنكى لأنه ليس ذهبا.
وقالوا إنه إذا اضطر إلى استعمال آنية الذهب والفضة جاز إلا فى الوضوء والاغتسال فإنه ينتقل الى التيمم، وإذا دار الأمر فى حالة الضرورة بين استعمالها واستعمال المغصوب قدمهما.
وقالوا لا يجوزاستعمال الظروف المعمولة من جلد نجس العين أو الميتة فيما يشترط فيه الطهارة من الأكل والشرب والوضوء والغسل، بل الأحوط عدم استعمالها فى غير ما يشترط فيه الطهارة أيضا بل وكذا سائر الانتفاعات غير الاستعمال، فإن الأحوط ترك جميع الانتفاعات منها، وأما ميتة ما لا نفس له كالسمك ونحوه فحرمة استعمال جلده غير معلوم وإن كان أحوط وكذا لا يجوز استعمال المغصوبة مطلقا والوضوء والغسل منها مع العلم باطل، نعم لوصب الماء منها فى ظرف مباح فتوضأ أو أغتسل صح وأن كان عاصيا من جهة تصرفه فى المغصوب، وأما أواني المشركين وسائر الكفار فإنها طاهرة ما لم يعلم ملاقاتهم لها مع الرطوبة التى تسرى إليها بشرط ألا تكون من الجلود، ولا يكفى الظن فى ذلك، وإلا فمحكومة بالنجاسة إلا إذا علم تذكية حيوانها أو علم سبق يد مسلم عليها، وكذا غير الجلود.
أما ما لا يحتاج إلى التذكية فطاهر إلا مع العلم بالنجاسة، ويجوز عندهم استعمال أوانى الخمر بعد غسلها وإن كانت من الخشب أو القرع أو الخزف غير المطلى بالقير و نحوه فلا يضر نجسة باطنها بعد تطهير ظاهرها داخلا وخارجا، ويكفى تطهير الداخل. نعم يكره استعمال ما نفذ الخمر إلى باطنه إلا إذا غسل على وجه يطهر باطنه.
وجاء فى الفقه الإباضى (13): "وكره الوضوء من المشمس " الذى سخن ماؤه فى الشمس.
" أو من إناء ذهب، أو فضة، أو صفر " بضم فسكون نحاس، ولو أبيض، وذلك كله للإسراف " وقيل " التوضؤ " من الأولين " الذهب والفضة " حرام "، فيعاد. والقولان فى الرجل والمرآة جميعا لأن المحلل للنساء ليس الذهب لا الشرب فيه ونحو الشرب بدليل كراهة الفضة أو تحريمها أيضا عليها وعليه فى الوضوء. والذى أقول أن ما فيه فخر يكره أيضا مثل أناء القزدير فيكره مطلقا ولو لم يفخر به سدا للذريعة
اختلاط الأوا نى:
قال الأحناف (14): إذا تجاوزت أوان بكل منها ماء واشتبه الشخص فيها- لأن بعضها طاهر وبعضها نجس- فإن كان أكثرها طاهراً وأقلها نجس فإنه يتحرى لكل من الوضوء والاغتسال، وإن تساوت الأوانى 0 فكان عدد الطاهر مثل عدد النجس- فانه يعدل عنها ويتيمم لفقد المطهر قطعا، وإن وجد ثلاثة رجال ثلاثة أوان أحدهما نجس، وتحرى كل " أناء"، جازت صلاتهم وحدانا، وكذا يتحرى مع كثرة الطاهر لأوانى الشرب لأن المغلوب كالمعدوم وإن اختلط إناءان ولم يتحر وتوضأ بكل وصلى صحت إن مسح فى موضعين من رأسه لا فى موضع لأن تقديم الطاهر مزيل للحدث. وأما إن كان أكثر الأوانى نجسا فإنه لا يتحرى إلا للشرب لنجاسة كلهما حكما للغالب فيريقها عند عامة المشايخ ويمزجها لسقى الدواب عند الطحاوى ثم يتيمم.
وأما مسلك المالكية (15) فإنهم قالوا إذا اشتبه طهور بمتنجس كما لو كان عنده جملة من الأواني تغير بعضها بتراب طاهر وتغير بعضها بتراب نجس واشتبهت هذه بهذه فان مريد التطهير يصلى صلوات بعدد أوانى النجس كل صلاة بوضوء وزيادة إناء ويبني على الأكثر أى يجعل الأكثرهو النجس فإن كان عنده ستة أوان علم أن أربعة منها من نوع واثنتين من نوع وشك هل الأربعة من نوع النجس أو من نوع الطهور فانه يجعلها من النجس ويصلى خمس صلوات بخمس وضوءات هذا إذا اتسع الوقت وإلا تركه ويتيمم.

 
ولو اشتبه طهور بطاهر، أى غير مطهر كالماء المستعمل. فانه يتوضأ بعدد الطاهر وزيادة إناء ويصلى صلاة واحدة ويبني على الأكثر أن شك.
وأما الشافعية(16): فإنهم يقولون إن الاشتباه فى الأوانى يقتضى الاجتهاد مطلقا ولو قل عدد الطاهر كإناء من مائة وجوبا إن لم يقدر على طهور بيقين، وجوازا إن قدر على طهور بيقين، إذ العدول إلى المظنون مع جواز المتيقن جائز.
وللحنابلة فى هذا المقام تفصيل (17) خلاصته، أن الأواني المشتبهة لا تخلو من حالين:
أحدهما: ألا يزيد عدد الطاهر على النجس فلا خلاف فى المذهب أنه لا يجوز التحرى فيها بل يريقها ويتيمم ، فهم كالأحناف فى هذا.
الثانى: أن يكثر عدد الطاهر فذهب بعضهم إلى جواز التحرى لأن الظاهر إصابة الطاهر لأن جهة الإباحة قد ترجحت فجاز التحرى ، وظاهر كلام أحمد أنه لا يجوز التحرى فيها بحال، وهو قول أكثر أصحابه.
ثم قال ابن قدامة(18): إذا أشتبه طهور بماء قد بطلت طهوريته توضأ من كل واحد وضوءا كاملا وصلى بالوضوءين صلاة واحدة، وقال أنه لا يعلم فى ذلك خلافا لأنه أمكنه أداء فرضه بيقين فلزمه كما لو كانا طهورين ولم يكف أحدهما وهذا غير ما لو كان أحدهما نجسا لأنه ينجس أعضاءه بيقين فلا يأمن أن يكون النجس هو الثانى فإن احتاج إلى أحد الإناءين فى الشرب تحرى وتوضأ بالطهور عنده ويتيمم معه ليحصل له اليقين.
ويقول ابن حزم (19): إن كان بين يدى المتوضىء إناءان فصاعدا ، فى أحدهما ماء طاهر بيقين وسائرها نجس أو فيها واحد نجس وسائرها طاهر ولا يميز من ذلك شيئا فله أن يتوضأ بأيها شاء ما لم يكن على يقين من أنه قد تجاوز عدد الطاهرات وتوضأ بما لا يحل الوضوء به لأن كل ماء منها فعلى أصل طهارته على انفراده. فإذا حصل على يقين التطهر فيما لا يحل التطهر به فقد حصل على يقين الحرام فعليه أن يطهر أعضاءه إن كان ذلك الماء حراما استعماله جملة،. فإن كان فيها واحد " معتصر " لا يدريه لم يحل له الوضوء بشىء منها لأنه ليس على يقين من أنه توضأ بماء واليقين لا يرتفع بالظن.
وأما الزيدية(20) فيقولون كالشافعية: إن التحرى مشروع عند لبس الطاهر بالنجس مطلقا لوجوب العمل بالظن.
ونقل صاحب البحر عن الأكثر- العترة والأئمة الأربعة- أنه لابد فى التحرى من اجتهاد بأمارة من ترشيش أو غيره فإن أريقت الأنية كلها إلا واحدا فوجوه، أصحها تبين طهارة الباقى رجوعا إلى الأصل وقيل يتيمم إذ لا تحرى إلا بين اثنين وقيل يتحرى فى الباقى لإمكانه.
وإذا ظن قبل الصلاة أن الذى توضأ به هو النجس يتيمم لبطلان الأول فإن وجد أناء تيقن طهارة مائه ترك الملتبس حتما إذ لا يكفى الظن مع إمكان اليقين، ونقل عن الأكثر أن له التحرى.
ونقل عن المنصور بالله وبعض البغداديين أنه إذا التبس قراح(أى طهور) بطاهر غير مطهر استعملها لتيقن الامتثال.
وهذا النقل كالذى سبق عن المالكية ونقل عن الخرسانيين أنه يتحرى فى هذا أيضا.
ولم نقف للجعفرية على كلام فى مسألة اختلاط الأوانى.
الإباضية:
وإن اختلط إناء نجس أو اثنان أو أكثر بإناء طاهر أو إناءين أو أكثر، تطهر بأحدهما وأمسك عن ثوبه حتى يجف بدنه ثم يصلى ثم بأخر كذلك إلى آخرها ويصادف الطاهر ولابد أن يتطهر بعد لا مكان أن يكون ختم بالنجس، وذلك خطأ، لأنه يتنجس بأحدها ويتوضأ بلا غسل النجس إن كان يتوضأ وكذا الاغتسال إلا أن ينوى بالمرتين غسل النجس إن كان ما قبله نجسا عند اللّه وبالمرة بعد دفع الحدث أو ينوى الأولى مثلا أن كان ظهر عند الله ما قبلها.
وقيل يتحرى أحدها فيستعمله وهو خطأ إذ لا يعمل على شك .
والصواب أن يتيمم. وزعم بعض أنه جلطها كلها فلا يبقى معه طاهر فيكون غير واجد وهو ضعيف .
وقيل إن كانت طاهرة إلا واحدا تطهر بواحد ولزمه شراء الماء أو الآلة بالثمن فى محله أو أقل لا بأكثر(21).
تطهير الأوانى:
قال الحنفية (22): تطهر الآنية المصقولة التى لا مسام لها من النجاسة بمسح يزول به أثرها مطلقا سواء كانت النجاسة لها جرم أو لا رطبة و يابسة، مع أن الأصل فى التطهير عندهم هو الماء.
ولم تذكر المذاهب الأخرى تطهيرا للآنية بغير الماء إلا ما ذكر من خلاف فى أهاب الحيوان .
ونقل ابن عابدين عن الخانية أن الظاهر أن اليابسة ذات الجرم تطهر بالحت والمسح. بما فيه بلل ظاهر حتى يذهب أثرها.
وقالوا (23) فى سؤر الكلب أنه نجس ويغسل الإناء من ولوغه فيه ثلاثا (انظر سؤر طهارة).
ويقول المالكية (24): بكراهة استعمال إناء ولغ فيه الكلب وماؤه قليل ولو تحققت سلامة فمه من النجاسة، وعندهم (25) قول فى المذهب بأن مسح الصقيل وتدخل فيه بعض الآنية مطهر له (انظر سؤر).
ويقول الشافعية (26): ما تنجس- بملاقاة شىء من الكلب سواء كان بجزء منه أو من فضلاته غسل سبعا إحداهن بالتراب. وقالوا إن الخنزير كالكلب فى الأظهر لأنه أسوأ حالا منه.
وقال الحنابلة (27): كل إناء حل فيه نجاسة من ولوغ كلب أو بول أو غيره فإنه يغسل سبع مرات إحداهن بالتراب.
وعن أحمد أنه يجب غسلها ثمانية إحداهن بالتراب، فإن جعل مكان التراب غيره من الأشنان والصابون والنجاسة ففيه وجهان (انظر سؤر).
المذهب الظاهرى (28): يقول ابن حزم أن تطهير الإناء إذا كان لكتابى مما يجب التطهير منه يكون بالماء، إذا لم يجد غير ذلك الإناء سواء علم فيه نجاسة أو لم يعلم فإن كان إناء مسلم فهو طاهر فان تيقن فيه ما يلزمه اجتنابه فبأى شىء أزاله كائنا ما كمان من الطاهرات إلا أن يكون لحم حمار أهلي أو ودكه أو شحمه أو شينا منه فلا يجوز أن يطهر إلا بالماء، فإن ولغ فى الإناء كلب مطلقا صغيرا أو كبيرا كلب صيد او غيره غسل بالماء سبع مرات ولابد أولاهن بالتراب مع الماء فإن كل الكلب فى الإناء أو أدخل رجله أو ذنبه أو وقع بكله فيه لم يلزم غسل الإناء ولا إراقة ما فيه(انظر سؤر).
الجعفرية (29): يطهر الإناء المتنجس بصب الماء عليه مرتين. ويكفى صب الماء فيه بحيث يصيب النجس وإفراغه منه ولو بآلة لا تعود اليه ثانيا إلا طاهرا، وإن ولغ فى الإناء كلب قدم علق الغسلتين بالماء مسحه بالتراب الطاهر دون غيره مما أشبهه وألحق بولوغ الكلب لطمه الإناء دون مباشرته له بسائر أعضائه، وقالوا لو تكرر الولوغ تداخل كغيره من النجاسات ويستحب غسله سبع مرات خروجا من خلاف من أوجبها كما تستحب السبع عندهم فى الفأرة والخنزير.
الزيديه (30): نقل صاحب البحر عن العترة والشافعى وأصحابه أن طهارة الصقيل كالخشن بالغسل خلافا للأحناف الذين قالوا تطهر بالمسح.
ونقل (31) عند كلامه عن سؤر الكلب أنه يكفى عند العترة التثليث بالغسل من ولوغ الكلب.
الإباضية: وكل إناء تنجس وإن بكونه من ذمى احتج إليه واستحسن التعجل بإزالة النجس وأن يمسح عند تعذر الماء. والنطفة والغائط والقىء إذا خالطا أناء فيصح غسلها منه ولو رطوبات غير مقشرات ولا مخلوطات بتراب؟
ويصعب فى مصنوع كقصعة وفخار أن سبق النجس إليه قبل كل مائع هل يطهر بالماء ثلاثا بإبقائه فيه كل مرة يوما وليلة ثم يراق أو ليلا فقط فيراق نهارا ويصل فى الشمس فارغا إلى الليل أو بماء واحد يوما وليلة أو لا حد فى ذلك إلا غلبة الظن بالطهارة وبلوغها حيث بلغ النجس أقوال (32). ويقولون: يسن غسل أناء ولغ فيه الكلب غير المعلم على الصحيح سبعا أولاهن وأخراهن بتراب، وصحح الجواز بثلاث كغيره.
الضمان:
نقصر الكلام فيما يتعلق بالضمان فى الآنية على ما له أحكام خاصة فى المذاهب التى أفردت أحكامها لبعضها كآنية الذهب والفضة وآنية الخمر وهو ما قاله ابن حزم الظاهرى (33) وهو مذهب الشافعية (34)
مذهب الحنابلة (35): من كسر آنية من ذهب أو فضة لم يضمنها لأن اتخاذها محرم وحكى أبو الخطاب رواية أخرى عن أحمد أنه يضمن فإن بعضهم نقل عنة فيمن هشم على غيره إبريقا فضة علية قيمته بصوغه وكان قيل له أليس قد نهى النبى عن اتخاذها فسكت ، والصحيح أنه لا ضمان علية ، نص علية أحمد فى رواية المرزوى فيمن كسر إبريق فضة أنه لا ضمان علية لأنه اتلف ما ليس بمباح فلم يضمن كالميتة ، ورواية البعض السابقة تدل على أنة رجع عن قولة بعدم الضمان لكونه سكت حين ذكر لسائل تحريمه ، وإن كسر آنية الخمر ففيها روايتان:
أحدهما: يضمنها لأنة مال يمكن الانتفاع به ويحل بيعة كما لو لم يكن فيها خمر ، ولأن كون جعل الخمر فيها لا يقتضى سقوط ضمانها كالبيت الذى جعله مخزنا للخمر.
والثانية: لا يضمن لما روى احمد فى سنده بسنده لعبد الله بن عمر قال: أمرنى رسول الله أن آتيه بمدية فأتيته بها فأرسل بها فأرهفت ثم أعطانيها وقال اغد بها على ففعلت ، فخرج بأصحابه الى أسواق المدينة وفيها زقاق الخمر قد جلبت من الشام فأخذ المدية منى فشق ما كان تلك الزقاق بحضرته كلها ، وأمر أصحابه الذين كانوا معه أن يمضوا معى ويعاونونى ، وأمرني أن آتى الأسواق كلها فلا أجد فيها زق خمر إلا شققته ففعلت.
يقول الشافعى (36) : فى إناء الخمر إن بلغ نصابا ولم يقصد - آخذه - بإخراجه إراقتها ، وقد دخل بقصد السرقة قطع به على الصحيح أما لو قصد بإخراج الإناء تيسر إفساد الخمر وإن أخرجه بقصد السرقة فلا قطع.
يقول الأحناف (37): أنه لا قطع إناء الخمر ولو كان ذهبا لأن الإناء تابع ولم يقطع فى المتبوع. فكذا فى التبع. وفى رواية عن أبى يوسف انه يقطع ورجحة فى الفتح فيما تعاين ذهبيتة بأن الظاهر إن كلا مقصود بالأخذ بل أخذ الإناء أظهر (38)
ويقول الشيعة الجعفرية (39): يجب على صاحب آنية الذهب والفضة كسرها ، وأما غيره إن علم إن صاحبها يقلد من يحرم اقتناءها أيضا وإنهما من الأفراد المعلومة فى الحرمة يجب علية نهيه. وإن توقف على الكسر يجوز له كسرها ولا يضمن قيمة صياغتها نعم لو اتلف الأصل ضمن وإن احتمل أن يكون صاحبها ممن يقلد من يرى جواز الإقتناء أو كائنا مما محل خلاف فى كونه آنية أم لا. لا يجوز له التعرض له.

__________

(1) حاشية ابن عابدين ج5 ص 238
(2) حاشية ابن عابدين على شرح الرد لمتن التنوير ج5 ص 252
(3) حاشية ابن عابدين ج5 ص 238
(4) حاشية ابن عابدين على شرح الرد لمتن التنوير ج5 ص 252
(5) شرح الدردير مع حاشية الدسوقى ج1 ص 64 المطبعة الأزهرية بمصر.
(6) الجوهرة النيرة على مختصر القدوري ج 2ص383 طبع إستامبول سنة 1301هجرية
(7) حاشية ابن عابدين ج5 ص236 المطبعة الميمنية سنة 1307هجرية
(8) الاقناع وحاشية البجرمى ج1 ص 101 ، 102 طبعة القاهرة.
(9) الاقناع وحاشية البجرمى ج1 ص 104
(10) المغنى ج1 ص 75، 77
(11) المغنى ج1 ص 78 طبعة دار المنار سنة 1376هجرية
(12) المحلى ج1 ص 391 مطبعة الإمام بالقاهرة.
(13) البحر الزخار ج 1 ص41 مطبعة السعادة بالقاهرة سنة 1366هجرية.
(14) مستمسك العروة الوثقى الطبعة الثانية بالنجف سنة 1336 هجرية الآية الله العظمى الطباطبائى ج2 ص130 وما بعدها
(15) شرح النيل ج1ص53،54.
(16) حاشية الطحطاوى ج1 ص21.
(17) المغنى ج1ص60.
(18) المرجع السابق ص63.
(19) المحلى ج2 ص225
(20) البحر الزخار ج1 ص39
(21) شرح النيل ج2 ص 298
(22) الدر وحاشية ابن عابدين ج1 ص 226
(23) الهداية ج1 ص 12
(24) حاشية الدسوقى ج1 ص 43
(25) المرجع السابق ص 43
(26) نهاية المحتاج ج1 ص 234
(27) المغنى ج1 ص 52
(28) المحلى ج1 ص 92 فما بعدها
(29) الروضة البهية ج1 ص 20
(30) البحر الزخار ج1 ص 18
(31) المرجع السابق 20
(32) شرح النيل ج1ص243،285،286،287
(33) محلى ج7 ص 171.
(34) نهاية المحتاج ج5 ص 166
(35) المغنى ج5 ص 278
(36) نهاية المحتاج ج7 ص 421
(37) ابن عابدين ج3 ص 315
(38) الاختيار ج3 ص 63 طبعة الحلبى سنة 1355 هجرية
(39) مستمسك العروة الوثقى ج2 ص 155 ، 156 مطبعة النجف.
 
آية

معنى الآية فى اللغة:
قال فى القاموس: الآية العلامة، والشخص و الجمع آيات وآى ، والعبرة والإمارة، ومن القرآن: كلام متصل إلى انقطاعه (1).
الآية فى الاصطلاح:
قيل الآية طائفة من القرآن منقطعة عما قبلها وما بعدها ليس بينها شبه بما سواها. وقال ابن المنير فى البحر: ليس فى القرآن كلمة واحدة آية إلا " مدهامتان ". وقال بعضهم: الصحيح أنها إنما تعلم بتوقيف من الشارع لا مجال للقياس فيه كمعرفة السورة.فالآية ، طائفة حروف من القرآن علم بالتوقيف بانقطاعها معنى عن الكلام الذى قبلها وعن الكلام الذى بعدها (2).
هل البسملة آية من القرآن أو بعض: لاخلاف بين علماء المسلمين فى أن البسملة الواردة فى سورة النمل من قوله تعالى: " أنه من سليمان وانه بسم الله الرحمن الرحيم (3) " ليست آية كاملة بل هى بعض آيه.
وإنما الخلاف بينهم فى البسملة الواردة فى أوائل السور ما عدا براءة.
ففى المجموع للنووى قال: هناك رواية للإمام أحمد أنها ليست من الفاتحة (4).
وفى المجموع أيضا قال مذهبنا(أى الشافعية) أن بسم الله الرحمن الرحيم آية كاملة بلا خلاف، وليست فى أول براءة بإجماع المسلمين، وأما باقى السور غير الفاتحة وبراءة ففى البسملة فى أول كل سورة منها ثلاثة أقوال حكاها الخراسانيون وأشهرها، وهو الصواب أو الأصوب: أنها آيه كاملة والثانى أنها بعض آية. والثالث أنها ليست بقرآن فى أوائل السور غير الفاتحة.
والمذهب أنها قرآن فى أوائل السور غير براءة (5).
ثم قال فى المجموع: واحتج أصحابنا بأن الصحابة رضى الله عنهم أجمعوا على إثباتها فى المصحف جميعا فى أوائل السور سوى براءة بخط المصحف بخلاف الأعشار وغيرها فإنها تكتب بمداد أحمر، فلو لم تكن قرآنا لما استجازوا إثباتها بخط المصحف من غير تمييز ، لأن ذلك يحمل على اعتقاد إنها قرآن فيكونون مغررين بالمسلمين حاملين لهم على اعتقاد ما ليس بقرآن قرآنا ، فهذا مما لا يجوز اعتقاده فى الصحابة رضى الله عنهم(6).
وفى حاشية الصفتى للمالكية (7): قال وذهب الإمام مالك وجماعة إلى أن البسملة ليست فى أوائل السور من القرآن أصلا، وإنما هى للفصل بين السور. والدليل على ذلك أحاديث كثيرة منها ما رواه مالك والبخارى عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: صليت خلف النبى صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وعمر وعثمان وعلى فكانوا يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين، ولم يكونوا يفتتحون القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم.
والحديث القدسى الذى رواه مالك فى الموطأ ومسلم فى صحيحه- واللفظ له - عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهى خداج (8) ثلاثا غير تمام فقيل لأبى هريرة: إنا نكون وراء الإمام فقال: اقرأ بها فى نفسك، فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى: (قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين، ولعبدى ما سأل. فاذا قال العبد الحمد لله رب العالمين. قال الله تعالى: حمدنى عبدى وإذا قال: الرحمن الرحيم قال الله تعالى: اثنى على عبدى. وإذا قال: مالك يوم الدين. قال: مجدنى عبدى وقال مرة: فوض إلى عبدى. إذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين. قال: هذا بينى وبين عبدى ولعبدى ما سأل. فإذا قال: إهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. قال: هذا لعبدى. ولعبدى ما سأل) (9). قال النووى فى شرح مسلم: وهذا من أوضح أدلة المالكية.
وعند الحنابلة: قال فى كشاف القناع: وليست بسم الله الرحمن الرحيم آية من الفاتحة. جزم به أكثر الأصحاب وصححه ابن الجوزى وابن تميم. وصاحب الفروع وحكاه القاضى إجماعا لحديث " قسمت الصلاة ". ولو كانت آيه لعدها وبدأ بها ولما تحقق التنصيف وقال أيضا إنها ليست آية من غير الفاتحة (10).
وعند الإمامية: قال فى تذكرة الفقهاء: البسملة آية من الحمد ومن كل سورة عدا براءة وفى النمل آية (أى فى أولها) وبعض آية أى فى وسطها ، وذلك لأن النبى صلى الله عليه وسلم قرأ فى الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم وعدها آية " الحمد لله رب العالمين" آيتين.
وقال عليه الصلاة والسلام: إذا قرأتم الحمد فاقرأوا بسم الله الرحمن الرحيم فإنها من أم الكتاب، وإنها من السبع المثانى. وبسم الله الرحمن الرحيم آية منها ومن طريق الخاصة قول الصادق وقد سأله معاويه بن عمار: إذا قمت إلى الصلاة اقرأ بسم الله الرحمن الرحيم فى فاتحه الكتاب؟ قال نعم: قلت فإذا قرأت فاتحة الكتاب اقرأ بسم الله الرحمن الرحيم مع السورة قال: نعم.
وقد أثبتها الصحابة بخط المصحف مع تشددهم فى عدم كتابة ما ليس من القرآن فيه. ومنعهم من النقط والتعشير(11). وعند الزيدية قال فى البحر الزخار: والبسملة آية إذ هى فى المصاحف ولم يثبت فيها(أى المصاحف) غير القرآن. ثم قال: وهى آية من كل سورة لانفصالها معنى وخطا ولفظا... وهى سابعة الفاتحة قطعا لتواترها معها خطا ولفظا. ويؤيد ذلك ما روى عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: كم الحمد آية؟ قال: سبع آيات. قلت: فأين السابعة ؟ قال: بسم الله الرحمن الرحيم
وعن ابن عباس أيضا: " ولقد آتيناك سبعا من المثانى (12) " قال: فاتحة الكتاب.. ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم. وقال: هى السابعة.
وحكى فى الكشاف إنه قال: من تركها فقد ترك مائة وأربع عشرة آية (13).
وعند الظاهرية قال ابن حزم فى المحلى: ومن كان يقرأ برواية من عد من القراء بسم الله الرحمن الرحيم آيه من القرآن لم تجزه الصلاة إلا بالبسملة. وهم عاصم ابن أبى النجود وحمزة و الكسائى وعبد الله بن كثير وغيرهم من الصحابه والتابعين رضى الله عنهم.
ومن كان يقرأ برواية من لا يعدها آية من أم القرآن فهو مخير بين أن يبسمل وبين إلا يبسمل وهم ابن عامر وأبو عمرو ويعقوب. وفى بعض الروايات عن نافع(14). وعند الحنفية: قال الإمام أبو بكر الحصاص فى أحكام القرآن:
ولا خلاف بين علماء الأمة وقرائها إن البسملة ليست بآيه تامة فى سورة النمل وإنها هناك بعض آية، وإن ابتداء الآية من قوله سبحانه " أنه من سليمان "، ومع ذلك فكونها ليست بآية تامة فى سورة النمل لا يمنع أن تكون آية تامة فى غيرها، لأنا نجد مثل ذلك فى مواضع من القرآن ألا ترى أن قول الله تعالى " الرحمن الرحيم " فى ثنايا سورة الفاتحة آية تامة وليست بآيه تامة من قوله عز وجل " بسم الله الرحمن الرحيم " باتفاق الجميع.
وكذا قوله سبحانه " الحمد لله رب العالمين " آية تامة فى أول الفاتحة. وبعض آية فى قوله تعالى: " وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين (15) "، وإذا كان كذلك احتمل أن تكون بعض آية فى فصول السور، واحتمل أن تكون آية، فالأولى أن تكون آية تامة من القرآن من غير سورة النمل ، لأن التى فى سورة النمل ليست بآية تامة باتفاق الأمة والدليل على أنها آية تامة حديث ابن أبى مليكة عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأها فى الصلاة فعدها آية. وفى لفظ آخر أن النبى صلى الله عليه وسلم كان - يعد بسم الله الرحمن الرحيم آية فاصلة، كما رواه الهيثم بن خالد فثبت بهذا إنها آيه إذ لم تعارض هذه الأخبار أخبار غيرها فى كونها آية (16).
وعند الإباضية: فى كتاب النيل وشفاء العليل. والبسملة آية من كل سورة على المختار (17).
آية البسملة فى بدء القراءة:
قال الإمام أبو بكر الجصاص: وافتتاح القراءة بالبسملة أمر ورد مصرحا به فى أول وحى قرآنى أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قوله تعالى: " اقرأ باسم ربك الذى خلق " فقد أمر سبحانه فى افتتاح القراءة بالتسمية كما أمر بتقديم الاستعاذة أمام القراءة فى قوله تعالى: " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم(18) "، والبسملة وإن كانت خبرا فإنها تتضمن معنى الأمر. لأنه لما كان معلوما أنه خبر من الله عز وجل بأنه يبدأ باسم الله ففيه أمر لنا بالابتداء به والتبرك بافتتاحه لأنه سبحانه إنما أخبرنا به لنفعل مثله (19).

 
آى فاتحة الكتاب سبع:
وهل تقرأ البسملة معها فى الصلاة ؟
فى تفسير القرطبى: أجمعت الأمة على ان فاتحة الكتاب سبع آيات إلا ما روى عن حسين الجعفى انها ست وعن عمرو بن عبيد أنها ثمانى آيات، ويؤيد ما أتفقت عليه الأمة من أن الفاتحة سبع آيات، قوله تعالى: " ولقد آتيناك سبعا من المثانى والقرآن العظيم ".
وقوله صلى الله عليه وسلم: فيما يروية عن ربه عز وجل: "قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين... الحديث "، وبه يرد على هذه الأقوال.
وفى الإتقان للسيوطى: ويردها أيضا ما أخرج الدار قطنى بسند صحيح عن عبد خير قال: سئل على كرم الله وجهه عن السبع المثانى، فقال: الحمد لله رب العالمين.
فقيل له: إنما هى ست آيات
فقال: بسم الله الرحمن الرحيم آية. وأما قراءة البسملة مع الفاتحة فى الصلاة فاختلف الفقهاء فيها على النحو الآتى:
- فكان أبو حنيفة وأصحابه يقولون بقراءتها فى الصلاة سرا، لا يرون الجهر بها لامام ولا لمنفرد، بعد الاستفادة وقبل فاتحة الكتاب تبركا بها فى الركعة الأولى كالتعوذ، باتفاق الروايات عن أبى حنيفة، وذلك مسنون فى المشهور عند أهل المذهب.
وصحح الزاهدى وغيره وجوبها كما فى البحر الرائق، وقال ابن عابدين فى حاشيته على البحر ناقلا عن النهر، والحق أنهما قولان مرجحان فى المذهب، إلا أن المتون على الأول.
واختلف الحنفية فى الإتيان بها فى كل ركعة، ولأبى حنيفة رحمه الله روايتان:
الأولى: ما رواه محمد بن الحسن والحسن بن زياد أنه قال: إذا قرأها فى أول ركعة عند ابتداء القراءة لم يكن عليه أن يقرأها حتى يسلم، لأنها ليست من الفاتحة عندنا، وإنما تفتح القراءة بها تبركا، وذلك مختص بالركعة الأولى شأنها شأن الاستعاذة.
الثانية: ما رواه المعلى عن أبى يوسف عن أبى حنيفة أنه يأتى بها فى كل ركعة وهو قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى، وهو أقرب الى الاحتياط لاختلاف العلماء والأثار ، ولأن التسمية وأن لم تجعل من الفاتحة قطعا بخبر الواحد، لكن خبر الواحد يوجب العمل فصارت من الفاتحة عملا(20).
وقالت المالكية: تكره البسملة فى صلاة الفرض لكل مصل، إماما كان أو مأموما أو منفردا، سرا كانت الصلاة أو جهرا، فى الفاتحة وغيرها، قال ابن عبد البر:
هذا هو المشهور عن الإمام مالك رضى الله عنه وبه وردت السنة المطهرة، وعليه عمل الخلفاء الراشدين رضى الله عنهم. قال أنس رضى الله عنه: صليت خلف رسول الله صلى عليه وسلم وأبى بكر وعمر وعثمان وعلى، فكانوا يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين ولم اسمعهم يبسملون.
وقيل بإباحتها ، و قيل بندبها، وقيل بوجوبها. قال القرافى وغيره: الورع البسملة أول الفاتحة للخروج من الخلاف.
ثم قال: ومحل كراهة الإتيان بالبسملة إذا لم يقصد الخروج من خلاف المذاهب فإن قصده فلا كراهة (21).
وفى حاشية الصفتى. قال: وأما التسمية فى النافلة فجائزة مطلقا فى السر والجهر، فى الفاتحة والسورة (22).
وعند الشافعية: آيه البسملة تفرض قراتها مع الفاتحة ، لأنها آية مكملة لها فلا تكمل الفاتحة بدونها.
قال فى شرح الإقناع: " الرابع من أركان الصلاة قراءة الفاتحة فى كل ركعة، وبسم الله الرحمن الرحيم آية منها لما روى إنه صلى الله عليه وسلم عد الفاتحة"سبع آيات، وعد بسم الله الرحمن الرحيم آيه منها " رواه البخارى فى تاريخه.
وروى الدار قطنى عن أبى هريرة رضى الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: " إذا قرأتم الحمد لله فاقرأوا بسم الله الرحمن الرحيم، انها أم الكتاب وأم القرآن والسبع المثانى، وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها ".
وروى ابن خزيمة بإسناد صحيح عن أم سلمة أن النبى صلى الله عليه وسلم عد بسم الله الرحمن الرحيم آية ،. والحمد الله رب العالمين... إلى آخرها ست آيات (21).
مذهب الحنابلة: قال ابن قدامة فى المغنى: واختلفت الروايات فى البسملة عن الإمام أحمد،هل هى آية من الفاتحة تجب قراءتها فى الصلاة أو لا ؟ فعنه إنها من الفاتحة ، لحديث أم سلمة وحديث أبى هريرة " إذا قرأتم الحمد لله رب العالمين فاقرأوا بسم الله الرحمن الرحيم ".
ولأن الصحابه إثبتوها فى المصحف، ولم يثبتوا بين الدفتين سوى القرآن.
وروى عن الامام احمد إنها ليست من الفاتحة، ولا آية من غيرها ، ولا تجب قراءتها فى الصلاة. وهى الرواية المقصودة عند أصحابه، والدليل على أنها ليست آيه من الفاتحة حديث " قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين.. إلخ (22) ".
مذهب الإمامية: قالوا البسملة آية من الحمد ومن كل سورة، عدا براءة أى فتجب قراءتها فى الصلاة.
قال فى تذكرة الفقهاء: البسملة آية من الحمد، لأن النبى صلى الله عليه وسلم قرأ فى الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم، وعدها آيه... إلى آخر الحديث وقال عليه الصلاة والسلام: " إذا قرأتم الحمد فاقراوا بسم الله الرحمن الرحيم... إلخ "(23)
وفى مجمع البيان للطبرسى قال: اتفق أصحابنا على ان بسم الله الرحمن الرحيم آيه من سورة الحمد وان من تركها فى الصلاة بطلت صلاته سواء كانت الصلاة فرضا أو نفلا (24).وعند الزيدية: البسملة آية من الفاتحة أى"فتجب قراءتها مع الفاتحة وتبطل الصلاة بتركها.
قال فى البحر الزخار(وهى أى البسملة) سابعة الفاتحة قطعا لتواترها معها خطأ ولفظا ويؤيده الأخبار التي سبق الاستدلال بها على أنها آية من الفاتحة فى مذهبهم.
، فى فقه الإباضية من كتاب النيل: قال " ولزمت البسملة مع الفاتحة وهى أية من أول كل سورة على المختار سرا فى سر ، وجهرا فى جهر. وإن تعمد تركها أعاد صلاته. وأن تذكر البسملة فى ركوع مضى. وهل يرجع إليها إن ذكرها فى قراءة ما لم يتم الفاتحة أو السورة؟ قولان ... ويعيدها ما قرأ إن رجع "(25).
مذهب الظاهرية: سبق ذكر رأى صاحب المحلى فى هذا عند الكلام على كونها آيه من كل سورة.
الآيات التى يطلب قراءتها مع الفاتحة فى الصلاة وحكم البسملة معها:
قال فى البدائع: والواجب عند الحنفية آية طويلة أو ثلاث آيات قصار أو سورة تعدل ثلاث آيات من أى جهة من القرآن شاء لما روى " لا صلاة الا بفاتحة الكتاب وسورة معها " وفى رواية " و شىء معها ". ولمواظبته صلى الله عليه وسلم على ذلك، وأقل السور ثلاث آيات.
وفى فقه الإباضية: فرض الصلاة قراءة سورة مع الفاتحة بمحل الجهر على خلاف فى مقدار هذه السورة (26).
وعند المالكية: قال فى الشرح الصغير وسن قراءة آية(أى بعد الفاتحة) و اتمام السورة مندوب ويقوم مقام الآية بعض آيه طويلة له بال أى شأن نحو " الله لا إله إلا هو الحى القيوم (27) "، ولايكفى قراءة ذلك قبل الفاتحة. وإنما يسن ما زاد على أم القرآن فى الركعة الأولى والثانية إذا اتسع الوقت فإن ضاق بحيث يخشى خروجه بقراءتها لم تسن بل يجب تركها لإدراكه (28).
وعند الشافعية: يسن قراءة سورة ولو قصيرة فى الركعتين الأوليين من كل صلاة ولو نفلا بعد الفاتحة وذلك هيئة من هيئات الصلاة ولو تركها لا يسجد للسهو عنها.
ففى شرح الوجيز للرافعى قال: ويسن للإمام والمنفرد قراءة سورة بعد. الفاتحة فى ركعتى الصبح والأوليين من سائر الصلوات، وهذأ يتأدى بقراءة شىء من القرآن لكن السورة أحب حتى أن السورة القصيرة أولى من بعض سورة طويلة (29)
وعند الحنابلة: قال فى كشاف القناع:
" ثم يقرأ بعد الفاتحة سورة كاملة "، ولا خلاف بين أهل العلم فى استحباب قراءة سورة مع الفاتحة. فى الركعتين الأوليين من كل صلاة وتجزىء آية، إلا أن استحب أن تكون الأيه طويلة، كآية الدين وآيه الكرسى ، لتشبه بعض السور القصار (30).
وعند الإمامية ، قال فى المختصر النافع:
" وفى وجوب سور مع الحمد فى الفرائض للمختار مع سعة الوقت وإمكان التعلم قولان أظهرهما الوجوب " (31).
عند الزيدية: قال فى الروض النضير: ذهب القاسم والهادى والمريد بالله واختاره صاحب النجوم، ويحكى عن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وعثمان بن إبى العاص الى أنه لابد من شىء مع الفاتحة.
فقال الهادى: ثلاث آيات لتسمى قرآنا. وقال القاسم والمزيد بالله أو آية طويلة. واحتجوا بحديث أبى داود والنسائى. " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصاعدا " (32)
ومذهب الظاهرية: قال ابن حزم فى المحلى: " والجمع بين السور فى ركعة واحدة فى الفرض والتطوع أيضا حسن، وكذا قراءة بعض السور فى الركعة فى
الفرض والتطوع أيضا حسن الإمام والفذ " (33).
هل الآية الواحدة تكفى فى الصلاة بدل الفاتحة ؟
مذهب جميع الأئمة فرضية قراءة الفاتحة فى الصلاة ما عدا مذهب الحنفية غير أن أبا حنيفة رحمه الله قال فيمن لا يحسن إلا آية واحدة لا يلزمه تكرارها بل يكفيه قراءتها مرة واحدة. وقال صاحباه لابد من ثلاث آيات.
أما مذهب الحنفية فان الفرض الذى تصح به الصلاة هو مطلق القراءة وعند أبى حنيفة يكفى قراءة آية ولو قصيرة وعند الصاحبين لابد من قراءة ثلاث آيات قصار أو آية طويلة بمقدارها.
 
الوسوم
الإسلامي الفقه موسوعة
عودة
أعلى